المسألة الأولى : قالوا : نزلت في الخمر أربع آيات ، نزل بمكة قوله تعالى : {وَمِن ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [ النحل : 67 ] وكان المسلمون يشربونها وهي حلال لهم ، ثم إن عمر ومعاذاً ونفراً من الصحابة قالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر ، فإنها مذهبة للعقل ، مسلبة للمال ، فنزل فيها قوله تعالى : {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ} فشربها قوم وتركها آخرون ، ثم دعا عبد الرحمن بن عوف ناساً منهم ، فشربوا وسكروا ، فقام بعضهم يصلي فقرأ : قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ، فنزلت : {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} [ النساء : 43 ] فقل من شربها ، ثم اجتمع قوم من الأنصار وفيهم سعد بن أبي وقاص ، فلما سكروا افتخروا وتناشدوا الأشعار حتى أنشد سعد شعراً فيه هجاء للأنصار ، فضربه أنصاري بلحى بعير فشجه شجة موضحة ، فشكا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عمر : اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً فنزل : {إِنَّمَا الخمر والميسر} إلى قوله : {فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} [ المائدة : 91 ] فقال عمر : انتهينا يا رب ، قال القفال رحمه الله : والحكمة في وقوع التحريم على هذا الترتيب أن الله تعالى علم أن القوم قد كانوا ألفوا شرب الخمر ، وكان انتفاعهم بذلك كثيراً ، فعلم أنه لو منعهم دفعة واحدة لشق ذلك عليهم ، فلا جرم استعمل في التحريم هذا التدريج ، وهذا الرفق ، ومن الناس من قال بأن الله حرم الخمر والميسر بهذه الآية ، ثم نزل قوله تعالى : {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} فاقتضى ذلك تحريم شرب الخمر وقت الصلاة ، لأن شارب الخمر لا يمكنه أن يصلي إلا مع السكر ، فكان المنع من ذلك منعاً من الشرب ضمناً ، ثم نزلت آية المائدة فكانت في غاية القوة في التحريم ، وعن الربيع بن أنس أن هذه الآية نزلت بعد تحريم الخمر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6صـ 35}
سبب نزول الآية
قال البغوى :
نزلت في عمر بن الخطاب ومعاذ بن جبل رضي الله عنهما ونفر من الأنصار أتوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله أفتنا في الخمر والميسر فإنهما مذهبة للعقل مسلبة للمال ؟ فأنزل الله هذه الآية (1). أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 1 صـ 249}
_______________
(1) أسباب النزول ص (102-103) المستدرك للحاكم : 2 / 278}.(6/7)
فصل
قال الفخر :
اعلم أن عندنا أن هذه الآية دالة على تحريم الخمر فنفتقر إلى بيان أن الخمر ما هو ؟ ثم إلى بيان أن هذه الآية دالة على تحريم شرب الخمر.
أما المقام الأول : في بيان أن الخمر ما هو ؟ قال الشافعي رحمه الله : كل شراب مسكر فهو خمر ، وقال أبو حنيفة : الخمر عبارة عن عصير العنب الشديد الذي قذف بالزبد ، حجة الشافعي على قوله وجوه أحدها : ما روى أبو داود في "سننه" : عن الشعبي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، قال : نزل تحريم الخمر يوم نزل وهي من خمسة : من العنب ، والتمر ، والحنطة ، والشعير ، والذرة ، والخمر ما خامر العقل ، وجه الاستدلال به من ثلاثة أوجه أحدها : أن عمر رضي الله عنه أخبر أن الخمر حرمت يوم حرمت وهي تتخذ من الحنطة والشعير ، كما أنها كانت تتخذ من العنب والتمر ، وهذا يدل على أنهم كانوا يسمونها كلها خمراً وثانيها : أنه قال : حرمت الخمر يوم حرمت ، وهي تتخذ من هذه الأشياء الخمس ، وهذا كالتصريح بأن تحريم الخمر يتناول تحريم هذه الأنواع الخمسة وثالثها : أن عمر رضي الله عنه ألحق بها كل ما خامر العقل من شراب ، ولا شك أن عمر كان عالماً باللغة ، وروايته أن الخمر اسم لكل ما خامر العقل فغيره.(6/8)
الحجة الثانية : روى أبو داود عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن من العنب خمراً ، وإن من التمر خمراً ، وإن من العسل خمراً ، وإن من البر خمراً ، وإن من الشعير خمراً " والاستدلال به من وجهين أحدهما : أن هذا صريح في أن هذه الأشياء داخلة تحت اسم الخمر فتكون داخلة تحت الآية الدالة على تحريم الخمر والثاني : أنه ليس مقصود الشارع تعليم اللغات ، فوجب أن يكون مراده من ذلك بيان أن الحكم الثابت في الخمر ثابت فيها ، أو الحكم المشهور الذي اختص به الخمر هو حرمة الشرب ، فوجب أن يكون ثابتاً في هذه الأشربة ، قال الخطابي رحمه الله : وتخصيص الخمر بهذه الأشياء الخمسة ليس لأجل أن الخمر لا يكون إلا من هذه الخمسة بأعيانها ، وإنما جرى ذكرها خصوصاً لكونها معهودة في ذلك الزمان ، فكل ما كان في معناها من ذرة أو سلت أو عصارة شجرة ، فحكمها حكم هذه الخمسة ، كما أن تخصيص الأشياء الستة بالذكر في خبر الربا لا يمنع من ثبوت حكم الربا في غيرها.
الحجة الثالثة : روى أبو داود أيضاً عن نافع عن ابن عمر ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر خمر ، وكل مسكر حرام " قال الخطابي : قوله عليه السلام " كل مسكر خمر " دل على وجهين أحدهما : أن الخمر اسم لكل ما وجد منه السكر من الأشربة كلها ، والمقصود منه أن الآية لما دلت على تحريم الخمر ، وكان مسمى الخمر مجهولاً للقوم حسن من الشارع أن يقال : مراد الله تعالى من هذه اللفظة هذا إما على سبيل أن هذا هو مسماه في اللغة العربية ، أو على سبيل أن يضع اسماً شرعياً على سبيل الاحداث كما في الصلاة والصوم وغيرهما.
والوجه الآخر : أن يكون معناه أنه كالخمر في الحرمة ، وذلك لأن قوله هذا خمر فحقيقة هذا اللفظ يفيد كونه في نفسه خمراً فإن قام دليل على أن ذلك ممتنع وجب حمله مجازاً على المشابهة في الحكم ، الذي هو خاصية ذلك الشيء.
(6/9)
الحجة الرابعة : روى أبو داود عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البتع ، فقال : " كل شراب أسكر فهو حرام " قال الخطابي : البتع شراب يتخذ من العسل ، وفيه إبطال كل تأويل يذكره أصحاب تحليل الأنبذة ، وإفساد لقول من قال : إن القليل من المسكر مباح ، لأنه عليه السلام سئل عن نوع واحد من الأنبذة فأجاب عنه بتحريم الجنس ، فيدخل فيه القليل والكثير منها ، ولو كان هناك تفصيل في شيء من أنواعه ومقاديره لذكره ولم يهمله.
الحجة الخامسة : روى أبو داود عن جابر بن عبد الله ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما أسكر كثيره فقليله حرام "
الحجة السادسة : روي أيضاً عن القاسم عن عائشة ، قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " كل مسكر حرام وما أسكر منه الفرق فملء الكف منه حرام " قال الخطابي : "الفرق" مكيال يسع ستة عشر رطلاً ، وفيه أبين البيان أن الحرمة شاملة لجميع أجزاء الشراب.
الحجة السابعة : روى أبو داود عن شهر بن حوشب ، عن أم سلمة ، قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر ، قال الخطابي : المفتر كل شراب يورث الفتور والخدر في الأعضاء ، وهذا لا شك أنه متناول لجميع أنواع الأشربة ، فهذه الأحاديث كلها دالة على أن كل مسكر فهو خمر ، وهو حرام.
النوع الثاني : من الدلائل على أن كل مسكر خمر التمسك بالاشتقاقات ، قال أهل اللغة : أصل هذا الحرف التغطية ، سمي الخمار خماراً لأنه يغطي رأس المرأة ، والخمر ما واراك من شجر وغيره ، من وهدة وأكمة ، وخمرت رأس الإناء أي غطيته ، والخامر هو الذي يكتم شهادته ، قال ابن الأنباري : سميت خمراً لأنها تخامر العقل ، أي تخالطه ، يقال : خامره الداء إذا خالطه ، وأنشد لكثير :
(6/10)
هنيئاً مريئاً غير داء مخامر.. ويقال خامر السقام كبده ، وهذا الذي ذكره راجع إلى الأول ، لأن الشيء إذا خالط الشيء صار بمنزلة الساتر له ، فهذه الاشتقاقات دالة على أن الخمر ما يكون ساتراً للعقل ، كما سميت مسكراً لأنها تسكر العقل أي تحجزه ، وكأنها سميت بالمصدر من خمره خمراً إذا ستره للمبالغة ، ويرجع حاصله إلى أن الخمر هو السكر ، لأن السكر يغطي العقل ، ويمنع من وصول نوره إلى الأعضاء ، فهذه الاشتقاقات من أقوى الدلائل على أن مسمى الخمر هو المسكر ، فكيف إذا انضافت الأحاديث الكثيرة إليه لا يقال هذا إثبات للغة بالقياس ، وهو غير جائز ، لأنا نقول : ليس هذا إثباتاً للغة بالقياس ، بل هو تعيين المسمى بواسطة هذه الاشتقاقات ، كما أن أصحاب أبي حنيفة رحمهم الله يقولون إن مسمى النكاح هو الوطء ويثبتونه بالاشتقاقات ، ومسمى الصوم هو الإمساك ، ويثبتونه بالاشتقاقات.
النوع الثالث : من الدلائل الدالة على أن الخمر هو المسكر ، أن الأمة مجمعة على أن الآيات الواردة في الخمر ثلاثة واثنان منها وردا بلفظ الخمر أحدهما : هذه الآية والثانية : آية المائدة والثالثة : وردت في السكر وهو قوله : {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى} [ النساء : 43 ] وهذا يدل على أن المراد من الخمر هو المسكر.
النوع الرابع : من الحجة أن سبب تحريم الخمر هو أن عمر ومعاذاً قالا : يا رسول الله إن الخمر مسلبة للعقل ، مذهبة للمال ، فبين لنا فيه ، فهما إنما طلبا الفتوى من الله ورسوله بسبب كون الخمر مذهبة للعقل ، فوجب أن يكون كل ما كان مساوياً للخمر في هذا المعنى إما أن يكون خمراً وإما أن يكون مساوياً للخمر في هذا الحكم.
(6/11)
النوع الخامس : من الحجة أن الله علل تحريم الخمر بقوله تعالى : {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِى الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة} [ المائدة : 91 ] ولا شك أن هذه الأفعال معللة بالسكر ، وهذا التعليل يقيني ، فعلى هذا تكون هذه الآية نصاً في أن حرمة الخمر معللة بكونها مسكرة ، فإما أن يجب القطع بأن كل مسكر خمر ، وإن لم يكن كذلك فلا بد من ثبوت هذا الحكم في كل مسكر ، وكل من أنصف وترك العناد ، علم أن هذه الوجوه ظاهرة جلية في إثبات هذا المطلوب حجة أبي حنيفة رحمه الله من وجوه أحدها : قوله تعالى : {وَمِن ثمرات النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} [ النحل : 67 ] من الله تعالى علينا باتخاذ السكر والرزق الحسن ، وما نحن فيه سكر ورزق حسن ، فوجب أن يكون مباحاً لأن المنة لا تكون إلا بالمباح.
والحجة الثانية : ما روى ابن عباس أنه عليه الصلاة والسلام أتى السقاية عام حجة الوداع فاستند إليها ، وقال : اسقوني ، فقال العباس : ألا أسقيك مما ننبذه في بيوتنا ؟ فقال : ما تسقي الناس ، فجاءه بقدح من نبيذ فشمه ، فقطب وجهه ورده ، فقال العباس : يا رسول الله أفسدت على أهل مكة شرابهم ، فقال : ردوا علي القدح ، فردوه عليه ، فدعا بماء من زمزم وصب عليه وشرب ، وقال : إذا اغتلمت عليكم هذه الأشربة فاقطعوا متنها بالماء.
وجه الاستدلال به أن التقطيب لا يكون إلا من الشديد ، ولأن المزج بالماء كان لقطع الشدة بالنص ، ولأن اغتلام الشراب شدته ، كاغتلام البعير سكره.
الحجة الثالثة : التمسك بآثار الصحابة.
(6/12)
والجواب عن الأول : أن قوله تعالى : {تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا} نكرة في الإثبات ، فلم قلتم : إن ذلك السكر والرزق الحسن هو هذا النبيذ ؟ ثم أجمع المفسرون على أن تلك الآية كانت نازلة قبل هذه الآيات الثلاث الدالة على تحريم الخمر ، فكانت هذه الثلاثة إما ناسخة ، أو مخصصة لها.
وأما الحديث فلعل ذلك النبيذ كان ماءً نبذت تمرات فيه لتذهب الملوحة فتغير طعم الماء قليلاً إلى الحموضة ، وطبعه عليه السلام كان في غاية اللطافة ، فلم يحتمل طبعه الكريم ذلك الطعم ، فلذلك قطب وجهه ، وأيضاً كان المراد بصب الماء فيه إزالة ذلك القذر من الحموضة أو الرائحة ، وبالجملة فكل عاقل يعلم أن الإعراض عن تلك الدلائل التي ذكرناها بهذا القدر من الاستدلال الضعيف غير جائز.
وأما آثار الصحابة فهي متدافعة متعارضة ، فوجب تركها والرجوع إلى ظاهر كتاب الله وسنة الرسول عليه السلام ، فهذا هو الكلام في حقيقة الخمر.
المقام الثاني : في بيان أن هذه الآية دالة على تحريم الخمر وبيانه من وجوه الأول : أن الآية دالة على أن الخمر مشتملة على الإثم ، والإثم حرام لقوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغى} [ الأعراف : 33 ] فكان مجموع هاتين الآيتين دليلاً على تحريم الخمر الثاني : أن الإثم قد يراد به العقاب ، وقد يراد به ما يستحق به العقاب من الذنوب ، وأيهما كان فلا يصح أن يوصف به إلا المحرم الثالث : أنه تعالى قال : {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} صرح برجحان الإثم والعقاب ، وذلك يوجب التحريم.
فإن قيل : الآية لا تدل على أن شرب الخمر إثم ، بل تدل على أن فيه إثماً ، فهب أن ذلك الإثم حرام فلم قلتم : إن شرب الخمر لما حصل فيه ذلك الإثم وجب أن يكون حراماً ؟ .
(6/13)
قلنا : لأن السؤال كان واقعاً عن مطلق الخمر ، فلما بين تعالى أن فيه إثماً ، كان المراد أن ذلك الإثم لازم له على جميع التقديرات ، فكان شرب الخمر مستلزماً لهذه الملازمة المحرمة ، ومستلزم المحرم محرم ، فوجب أن يكون الشرب محرماً ، ومنهم من قال : هذه الآية لا تدل على حرمة الخمر ، واحتج عليه بوجوه أحدها : أنه تعالى أثبت فيها منافع للناس ، والمحرم لا يكون فيه منفعة والثاني : لو دلت هذه الآية على حرمتها فلم لم يقنعوا بها حتى نزلت آية المائدة وآية تحريم الصلاة ؟ الثالث : أنه تعالى أخبر أن فيهما إثماً كبيراً فمقتضاه أن ذلك الإثم الكبير يكون حاصلاً ما داما موجودين ، فلو كان ذلك الإثم الكبير سبباً لحرمتها لوجب القول بثبوت حرمتها في سائر الشرائع.
والجواب عن الأول : أن حصول النفع العاجل فيه في الدنيا لا يمنع كونه محرماً ، ومتى كان كذلك لم يكن حصول النفع فيهما مانعاً من حرمتهما لأن صدق الخاص يوجب صدق العام.
والجواب عن الثاني : أنا روينا عن ابن عباس أنها نزلت في تحريم الخمر ، والتوقف الذي ذكرته غير مروى عنهم ، وقد يجوز أن يطلب الكبار من الصحابة نزول ما هو آكد من هذه الآية في التحريم ، كما التمس إبراهيم صلوات الله عليه مشاهدة إحياء الموتى ليزداد سكوناً وطمأنينة.
والجواب عن الثالث : أن قوله : {فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ} إخبار عن الحال لا عن الماضي ، وعندنا أن الله تعالى علم أن شرب الخمر مفسدة لهم في ذلك الزمان ، وعلم أنه ما كان مفسدة للذين كانوا قبل هذه الأمة فهذا تمام الكلام في هذا الباب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 35 ـ 39}
قال ابن عاشور :
(6/14)
والخمر اسم مشتق من مصدر خَمَر الشيءَ يخمرُه من باب نصر إذا ستَره ، سمي به عصير العنب إذا غلَى واشتد وقذف بالزبد فصار مسكراً ؛ لأنه يَستر العقل عن تصرفه الخَلْقي تسمية مجازية وهي إما تسمية بالمصدر ، أو هو اسم جاء على زِنة المصدر وقيل : هو اسم لكل مشروب مسكر سواء كان عصير عنب أوْ عصير غيره أو ماء نبذ فيه زبيب أو تمر أو غيرهما من الأنبذة وتُرك حتى يختمر ويُزبد ، واستظهره صاحب "القاموس". والحق أن الخمر كل شراب مسكر إلا أنه غلب على عصير العنب المسكر ؛ لأنهم كانوا يتنافسون فيه ، وأن غيره يطلق عليه خَمر ونبيذ وفضيخ ، وقد وردت أخبار صحيحة تدل على أن معظم شراب العرب يوم تحريم الخمر من فضيخ التمر ، وأن أشربة أهل المدينة يومئذ خمسة غير عصير العنب ، وهي من التمر والزبيب والعسل والذرة والشعير وبعضها يسمى الفضيخ ، والنقيع ، والسُّكَرْكَةَ ، والبِتْع.
وما ورد في بعض الآثار عن ابن عمر : نزل تحريم الخمر وبالمدينة خمسة أشربة ما فيها شراب العنب ، معناه ليس معدوداً في الخمسة شرابُ العنب لقلة وجوده وليسر المراد أن شراب العنب لا يوجد بالمدينة. وقد كان شراب العنب يجلب إلى الحجاز ونجد من اليمن والطائف والشام قال عَمرو ابن كلثوم :
ولا تُبِقي خُمور الأَنْدَرِين
وأندرين بلد من بلاد الشام.
وقد انبنى على الخلاف في مسمى الخمر في كلام العرب خلاف في الأحكام ، فقد أجمع العلماء كلهم على أن خمر العنب حرام كثيرها إجماعاً وقليلها عند معظم العلماء ويحد شارب الكثير منها عند الجمهور وفي القليل خلاف كما سيأتي في سورة المائدة إن شاء الله تعالى ، ثم اختلفوا فيما عداها فقال الجمهور : كل شراب أسكر كثيره فقليله حرام وحكمه كحكم الخمر في كل شيء أخذاً بمسمى الخمر عندهم ، وبالقياس الجلي الواضح أن حكمة التحريم هي الإسكار وهو ثابت لجميعها وهذا هو الصواب.
(6/15)
وقال أبو حنيفة وأبو يوسف وسفيان الثوري : يختص شراب العنب بتلك الأحكام أما ما عداه فلا يحرم منه إلا القدر المسكر ، هكذا ينقل المخالفون عن أبي حنيفة ، وكان العلماء في القديم ينقلون ذلك مطلقاً حتى ربما أوهم نقلهم أنه لا يرى على من سكر بغير الخمر شيئاً ، ويزيد ذلك إيهاماً قاعدة أن المأذون فيه شرعاً لا يتقيد بالسلامة وربما عضدوا ذلك بمنقول قصص وحوادث كقول أبي نواس :
أباح العراقي النبيذ وشربه... وقال حَرامان المدامة والسَّكْرُ
ولكن الذي استقر عليه الحنفية هو أن الأشربة المسكرة قسمان ، أحدهما محرم شربه وهو أربعة : ( الخمر ) وهو النيء من عصير العنب إذا غلَى واشتد وقذَف بالزبد ، ( والطِلاء ) بكسر الطاء وبالمد وهو عصير العنب إذا طبخ حتى ذهب أقل من ثلثيه ثم ترك حتى صار مسكراً ، ( والسَّكَر ) بفتح السين والكاف وهو النيء من ماء الرطب أي من الماء الحار المصبوب على الرطب ثم يصير مسكراً ، ( والنقيع ) وهو النيء من نبيذ الزبيب ، وهذه الأربعة حرام قليلها وكثيرها ونجسة العين لكن الخمر يكفر مستحلها ويحد شارب القليل والكثير منها ، وأما الثلاثة الباقية فلا يكفر مستحلها ولا يحد شاربها إلا إذا سكر.
القسم الثاني الأشربة الحلال شربها وهي نبيذ التمر والزبيب إذا طبخ ولو أدنى طبخة ، ونبيذ الخليطين منهما إذا طبخ أدنى طبخة ، ونبيذ العسل والتين والبُرّ والشعير والذُّرة طُبخ أم لم يطبخ. والمثلث وهو ما طبخ من ماء العنب حتى ذهب ثلثاه وبقي ثلثه ، فهذه الأربعة يحل شربها ؛ إذا لم يقصد به اللهو والطرب بل التقوي على العبادة ( كذا ) أو إصلاح هضم الطعام أو التداوي وإلا حرمت ولا يحد شاربها إلا إذا سكر.
(6/16)
وهذا التفصيل دليله القياس ، لأن هذه الأشربة لم يبق فيها الإسكار المعتاد ، وأما الحد فلا وجه للتفصيل فيه لأنه إن كان على السكر فالجميع سواء في الإسكار ، على أنه يلزم ألاّ يكون الحد إلا عند حصول السكر وليس في الآثار ما يشهد لغير ذلك ، وإن كان الحد لسد الذريعة فلا أرى أن قاعدة سد الذريعة تبلغ إلى حد مرتكب الذريعة قبل حصول المتذرع إليه. وتَمسكُّ الحنفية لهذا التفصيل بأن الأنبذة شربها الصحابة هو تمسك أوهى مما قبله ، إذ الصحابة يحاشون عن شرب المسكرات وإنما شربوا الأنبذة قبل اختمارها ، واسم النبيذ يطلق على الحلو والمختمر فصار اللفظ غير منضبط ، وقد خالف محمد بن الحسن إمامه في ذلك فوافق الجمهور. وربما ذكر بعضهم في الاستدلال أن الخمر حقيقة في شراب العنب النيء مجاز في غيره من الأنبذة والشراب المطبوخ ، وقد جاء في الآية لفظ الخمر فيحمل على حقيقته وإلحاقُ غيره به إثبات اللغة بالقياس ، وهذا باطل ، لأن الخلاف في كون الخمر حقيقة في شراب العنب أو في الأعم خلاف في التسمية اللغوية والإطلاق ، فبقطع النظر عنه كيف يظن المجتهد بأن الله تعالى يحرم خصوص شراب العنب ويترك غيره مما يساويه في سائر الصفات المؤثرة في الأحكام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 341 ـ 343}
وقال الآلوسى :
وعندي أنّ الحق الذي لا ينبغي العدول عنه أنّ الشراب المتخذ مما عدا العنب كيف كان وبأي اسم سمي متى كان بحيث يسكر من لم يتعوّده حرام وقليله ككثيره ويحدّ شاربه ويقع طلاقه ونجاسته غليظة.(6/17)
وفي الصحيحين أنه صلى الله عليه وسلم سئل عن النقيع وهو نبيذ العسل فقال : " كل شراب أسكر فهو حرام " وروى أبو داود "نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل مسكر ومفتر" وصح " ما أسكر كثيره فقليله حرام " وفي حديث آخر : " ما أسكر الفرق منه فملء الكف منه حرام " والأحاديث متظافرة على ذلك ، ولعمري إنّ اجتماع الفساق في زماننا على شرب المسكرات مما عدا الخمر ورغبتهم فيها فوق اجتماعهم على شرب الخمر ورغبتهم فيه بكثير ، وقد وضعوا لها أسماء كالعنبرية والإكسير ونحوهما ظناً منهم أنّ هذه الأسماء تخرجها من الحرمة وتبيح شربها للأمّة وهيهات هيهات الأمر وراء ما يظنون ، فإنا لله وإنا إليه راجعون ، نعم حرمة هذه الأشربة دون حرمة الخمر حتى لا يكفر مستحلها كما قدّمنا لأنها اجتهادية ، ولو ذهب ذاهب إلى القول بالتكفير لم يبق في يده من الناس اليوم إلا قليل. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 113}
فائدة
قال البقاعى :
وقرنهما سبحانه وتعالى لتآخيهما في الضرر بالجهاد وغيره بإذهاب المال مجاناً عن غير طيب نفس ما بين سبحانه وتعالى من المؤاخاة بينهما هنا وفي المائدة وإن كان سبحانه وتعالى اقتصر هنا على ضرر الدين وهو الإثم لأنه أسّ يتبعه كل ضرر فقال في الجواب : {قل فيهما} أي في استعمالهما {إثم كبير} لما فيهما من المساوي المنابذة لمحاسن الشرع من الكذب والشتم وزوال العقل واستحلال مال الغير فهذا مثبت للتحريم بإثبات الإثم ولأنهما من الكبائر. قال الحرالي : في قراءتي الباء الموحدة والمثلثة إنباء عن مجموع الأمرين من كبر المقدار وكثرة العدد وواحد من هذين مما يصد ذا الطبع الكريم والعقل الرصين عن الإقدام عليه بل يتوقف عن الإثم الصغير القليل فكيف عن الكبير الكثير - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 408}
كلام غريب للشيخ ابن عاشور
قال رحمه الله : (6/18)
وشرب الخمر عمل متأصل في البشر قديماً لم تحرمه شريعة من الشرائع لا القدر المسكر بله ما دونه ، وأما ما يذكره علماء الإسلام أن الإسكار حرام في الشرائع كلها فكلام لا شاهد لهم عليه بل الشواهد على ضده متوافرة ، وإنما جرأهم على هذا القول ما قعدوه في أصول الفقه من أن الكليات التشريعية وهي حفظ الدين والنفس والعقل والنسب والمال والعرض هي مما اتفقت عليه الشرائع ، وهذا القول وإن كنا نساعد عليه فإن معناه عندي أن الشرائع كلها نظرت إلى حفظ هاته الأمور في تشريعاتها ، وأما أن تكون مراعاة باطراد في غير شريعة الإسلام فلا أحسب ذلك يتم ، على أن مراعاتها درجات ، ولا حاجة إلى البحث في هذا بيد أن كتب أهل الكتاب ليس فيها تحريم الخمر ولا التنزيه عن شربها ، وفي التوراة التي بيد اليهود أن نوحاً شرب الخمر حتى سكر ، وأن لوطاً شرب الخمر حتى سكر سكراً أفضى بزعمهم إلى أمر شنيع ، والأخير من الأكاذيب ؛ لأن النبوءة تستلزم العصمة ، والشرائع وإن اختلفت في إباحة أشياء فهنالك ما يستحيل على الأنبياء مما يؤدي إلى نقصهم في أنظار العقلاء ، والذي يجب اعتقاده : أن شرب الخمر لا يأتيه الأنبياء ؛ لا يشربها شاربوها إلا للطرب واللهو والسكر ، وكل ذلك مما يتنزه عنه الأنبياء ولأنهم يشربونها لقصد التقوى لقلة هذا القصد من شربها.
وفي سفر اللاويين من التوراة وكلم الله هارون قائلاً : خمراً ومسكراً لا تشرب أنت وبنوك معك عند دخولكم إلى خيمة الاجتماع لكي لا تموتوا. فرضاً دهرياً في أجيالكم وللتمييز بين المقدس والمحلَّل وبين النجس والطاهر.
وشيوع شرب الخمر في الجاهلية معلوم لمن علم أدبهم وتاريخهم فقد كانت الخمر قوام أود حياتهم ، وقصارى لذَّاتهم ومسرة زمانهم وملهى أوقاتهم ، قال طرفة :
ولولا ثلاثٌ هُنَّ من عِيشة الفتى... وجدك لم أحفل متى قام عُوَّدِي
فمنهن سبقي العاذلات بشَربة... كُمَيْتتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ
وعن أنس بن مالك : حرمت الخمر ولم يكن يومئذٍ للعرب عيش أعجب منها ، وما حرم عليهم شيء أشد عليهم من الخمر. فلا جرَم أن جاء الإسلام في تحريمها بطريقة التدريج فأقر حقبةً إباحة شربها وحسبكم في هذا الامتنانُ بذلك في قوله تعالى : {ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكراً ورزقاً حسناً} [ النحل : 67 ] على تفسير من فسر السَّكَر بالخمر. (1)
_________________
(1) هذه مسألة زل فيها قلم الشيخ العلامة الطاهر بن عاشور ـ رحمه الله ـ
وهذا الكلام فيه تجرؤ على العلماء الأعلام الذين تلقت الأمة علمهم بالقبول ، ولا يخفى ما فيه من بعد عن الحق ومجانبة للصواب
ثانيا : كيف يصح الاستدلال على عدم حرمة الخمر فى الأمم السابقة بما فى التوراة والإنجيل مع إجماع الأمة على عدم سلامتهما من التحريف والتبديل فى المعانى والمبانى ؟؟!!!
وكيف يصح الاستدلال بأشعار الجاهلية فى هذه المسألة ؟؟!!!(6/19)
ومعلوم أن شربهم للخمر وتغنيهم بها لا يدل على الادعاء فهو معارض بمثله فقد انتشر بينهم الربا وسائر الموبقات من الزنا والشرك بالله وسائر الموبقات مع علمهم بحرمة ذلك ، فعندما أرادوا بناء الكعبة اشترطوا طهارة المال الذى تبنى به الكعبة من الربا
كما أن ادعاء تخصيص التحريم بالشريعة الإسلامية لا ينهض له التأويل ولا يقوم عليه الدليل لا من المنقول ولا من المعقول ، فمعلوم أن الخمر أم الخبائث
وفى مسند أحمد عن بن عبد الله بن عمر عن أبيه أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : لعن الله الخمر ولعن شاربها وساقيها وعاصرها ومعتصرها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وآكل ثمنها. أ هـ {مسند أحمد / 5716}.
فكيف يتصور أن يحلها الله للأمم السابقة مع عظيم ضررها وكبير خطرها فضلا عن نجاسة عينها ؟؟!!!
فهى من أكبر الوسائل فى ارتكاب الجرائم الكبرى كالقتل والزنا والاعتداء حتى على المحارم ، فكيف يتصور أن الله تعالى ينهى ويحرم فى الشرائع السابقة القتل والزنا ويترك الأسباب الموصلة إليه
جلت عظمة الله وتعالت حكمته عن ذلك علوا كبيرا
إن الله تعالى عندما ينهى عن الكبائر فإنه ينهى عن مقدماتها ويحذر من الاقتراب منها ، والمتتبع لأسلوب القرآن يرى ذلك واضحا وجليا كقوله تعالى {ولا تقربوا الزنا} وقوله تعالى {قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم} وقوله تعالى {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن} وقوله تعالى فى قصة آدم وحواء ـ عليهما السلام ـ {ولا تقربا هذه الشجرة} وهذا منهج تربوى فعدم الاقتراب من الشجرة يقتضى بالضرورة عدم الأكل منها ، وغض النظر يقتضى بالضرورة الأمن من الوقوع فى الزنا
إن الله خص الشرائع السماوية بمعالجة الجرائم والرذائل قبل وقوعها بخلاف القوانين الوضعية التى تبحث عن الجريمة بعد وقوعها.
فهل يعقل أن يترك أعظم الأسباب للفساد والإفساد دون أن يحرمه ؟؟!!!
لا أريد الإطناب فى هذا المقام فالأمر فيه ظاهر وجلى ، إنما أردت التنبيه فقط لئلا يغتر بمثل هذا الكلام مع إجلالنا وتقديرنا للعلامة ابن عاشور ـ رحمه الله ـ لكنه بشر كسائر البشر يصيب ويخطىء ، وكل يؤخذ منه ويرد عليه إلا صاحب المقام المحمود ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ولكل جواد كبوة ولكل عالم هفوة.
وقد قال الربيع : قرأت الرسالة على الشافعى أكثر من ثمانين مرة فما من مرة إلا غير وبدل ثم قال أبى الله كتابا كاملا إلا القرآن. والله أعلم.(6/20)
وقيل السَّكَر : هو النبيذ غير المسكر ، والأظهر التفسير الأول. وآية سورة النحل نزلت بمكة ، واتفق أهل الأثر على أن تحريم الخمر وقع في المدينة بعد غزوة الأحزاب بأيام ، أي في آخر سنة أربع أو سنة خمس على الخلاف في عام غزوة الأحزاب.(6/21)
والصحيح الأول ، فقد امتن الله على الناس بأن اتخذوا سكراً من الثمرات التي خلقها لهم ، ثم إن الله لم يهمل رحمته بالناس حتى في حملهم على مصالحهم فجاءهم في ذلك بالتدريج ، فقيل : إن آية سورة البقرة هذه هي أول آية آذنت بما في الخمر من علة التحريم ، وأن سبب نزولها ما تقدم ، فيكون وصفها بما فيها من الإثم والمنفعة تنبيهاً لهم ، إذ كانوا لا يذكرون إلاّ محاسنها فيكون تهيئة لهم إلى ما سيرد من التحريم ، قال البغوي : إنه لما نزلت هذه الآية قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن الله تَقَدَّم في تحريم الخمر " أي ابتدأَ يُهيىء تحريمها يقال : تقدمت إليك في كذا أي عرضتُ عليك ، وفي "تفسير ابن كثير" : أنها ممهدة لتحريم الخمر على البتات ولم تكن مصرحة بل معرضة أي معرضة بالكف عن شربها تنزهاً. وجمهور المفسرين على أن هذه الآية نزلت قبل آية سورة النساء وقبل آية سورة المائدة ، وهذا رأي عمر بن الخطاب كما روى أبو داود ، وروَى أيضاَ عن ابن عباس أنّه رأى أن آية المائدة نسخت {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى} [ النساء : 43 ] ، ونسخت آية {يسألونك عن الخمر والميسر} ، ونُسب لابن عمر والشعبي ومجاهد وقتادة والربيع بن أنس وعبد الرحمن بن زين بن أسلم.
وذهب بعض المفسرين إلى أن آية البقرة هذه ثبت بها تحريم الخمر فتكون هذه الآية عندهم نازلة بعد آية سورة النساء {يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا الصلاة وأنتم سكارى وإذ كانت سورة البقرة قد نزلت قبل سورة النساء وسورة المائدة ، فيجيء على قول هؤلاء أن هذه الآية نزلت بعد نزول سورة البقرة وأنها وضعت هنا إلحاقاً بالقضايا التي حكى سؤالهم عنها.
(6/22)
وأن معنى فيهما إثم كبير} في تعاطيهما بشرب أحدهما واللعب بالآخر ذنب عظيم ، وهذا هو الأظهر من الآية ؛ إذ وُصف الإثم فيها بوصف كبير فلا تكون آية سورة العقود إلاّ مؤكدة للتحريم ونصاً عليه ؛ لأن ما في آيتنا هذه من ذكر المنافع ما قد يتأوّله المتأوّلون بالعذر في شربها ، وقد روي في بعض الآثار أنّ ناساً شربوا الخمر بعد نزول هذه الآية فصلّى رجلان فجعلا يهجران كلاماً لا يُدْرَى ما هو ، وشرِبها رجل من المسلمين فجعل ينوح على قتلى بدر من المشركين ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فجاءه فزعاً ورفع شيئاً كان بيده ليضربه فقال الرجل : أعوذ بالله من غضب الله ورسوله وآلى : لا أطعمها أبداً ، فأنزل الله تحريمها بآية سورة المائدة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 340 ـ 341}(6/23)
فائدة
قال السمرقندى :
{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر}.
قال بعض المفسرين : إن الله لم يدع شيئاً من الكرامة والبر ، إلا وقد أعطى هذه الأمة. ومن كرامته وإحسانه أنه لم يوجب لهم الشرائع دفعة واحدة ، ولكن أوجب عليهم مرة بعد مرة ؛ فكذلك في تحريم الخمر ، كانوا مولعين على شربها ، فنزلت هذه الآية {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} ، أي عن شرب الخمر والميسر هو القمار. {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ} في تجارتهم. {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا}. فلما نزلت هذه الآية تركها بعض الناس وقالوا : لا حاجة لنا فيما فيه إثم كبير ، ولم يتركها بعض الناس وقالوا : نأخذ منفعتها ونترك إثمها. ثم نزلت هذه الآية : {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِى سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ وَإِنْ كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لامستم النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً} [ النساء : 43 ] ، فتركها بعض الناس وقالوا : لا حاجة لنا فيما يمنعنا عن الصلاة ، وشربها بعض الناس في غير أوقات الصلاة ، حتى نزل قوله تعالى : {ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والانصاب والازلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [ المائدة : 90 ] الآية. فصارت حراماً عليهم حتى كان بعضهم يقول : ما حرم علينا شيء أشد من الخمر. وقيل : إثم كبير في أخذها ومنافع في تركها.(6/24)
وروي أن الأعشى توجه إلى المدينة ليسلم ، فلقيه بعض المشركين في الطريق فقالوا له : أين تذهب ؟ فأخبرهم أنه يريد محمداً صلى الله عليه وسلم. فقالوا : لا تصل إليه فإنه يأمرك بالصلاة. فقال : إن خدمة الرب واجبة. فقالوا له : إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء. فقال : إن اصطناع المعروف واجب. فقيل له إنه ينهى عن الزنى. فقال : إن الزنى فحش قبيح في العقل وقد صرت شيخاً ، فلا أحتاج إليه. فقيل له : إنه ينهى عن شرب الخمر. قال : أما هذا فإني لا أصبر عنه فرجع. وقال : أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه ، فلم يبلغ إلى منزله ، حتى سقط عن البعير فانكسر عنقه فمات. وقال بعضهم : في هذه الآية ما يدل على تحريمه ، لأنه سماها إثماً ، وقد حرم الإثم في آية أخرى وهي قوله تعالى : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغى بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سلطانا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} [ الأعراف : 33 ]. وقال بعضهم : أراد بالإثم ، الخمر بدليل قول الشاعر :
شَرِبْتُ الإِثْمَ حَتَّى ضَلَّ عَقْلِي... كَذَاكَ الإِثْمُ يَذْهَبُ بِالعُقُولِ
وروي عن جعفر الطيار أنه كان لا يشرب الخمر في الجاهلية ، وكان يقول : الناس يطلبون زيادة العقل ، فأنا لا أنقص عقلي. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 171}
فائدة
ولم يحفَظْ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم في حدِّ الخمر إِلا أنَّه جلد أربعين ، خرَّجه مسلم ، وأبو داود ، وروي عَنْه صلى الله عليه وسلم ؛ أَنَّهُ ضرب فيها ضَرْباً مُشَاعاً ، وحَزَرَهُ أبو بكر أربعين سوطاً ، وعمل بذلك هو ، ثُمَّ عمر ثم تهافَتَ النَّاس فيها ، فشدَّد عليهم الحَدَّ ، وجعله كَأخفِّ الحدود ثَمَانِينَ ؛ وبه قال مالك.(6/25)
ويجتنبُ من المضروبِ : الوجْهُ ، والفَرْجُ ، والقَلْب ، والدِّماغ ، والخَوَاصر ؛ بإِجماع. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 293}
فائدة
قال القرطبى :
رَوى النَّسائيّ عن عثمان رضي الله عنه قال : اجتنبوا الخمر فإنها أُمُّ الخبائث ، إنه كان رجل ممن كان قبلكم تَعبَّد فعِلقته امرأة غَويّة ، فأرسلت إليه جاريتها فقالت له : إنا ندعوك للشهادة ؛ فانطلق مع جاريتها فطفِقت كلّما دخل باباً أغلقته دونه ، حتى أفضى إلى امرأة وَضِيئة عندها غلام وبَاطِيَةُ خمر ؛ فقالت : إني والله ما دعوتك للشهادة ، ولكن دعوتك لتقع عليّ ، أو تشرب من هذه الخمر كأساً ، أو تقتل هذا الغلام.
قال : فاسقيني من هذه الخمر كأساً ؛ فسقته كأساً. قال : زيدوني ؛ فلم يَرِم حتى وقع عليها ، وقتل النفس ؛ فاجتنبوا الخمر ، فإنها والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر ؛ إلاَّ ليوشك أن يُخرج أحدُهما صاحبه ؛ وذكره أبو عمر في الاستيعاب. ورُوي أن الأعشى لما توجه إلى المدينة ليُسلم فلقيَه بعض المشركين في الطريق فقالوا له : أين تذهب ؟ فأخبرهم بأنه يريد محمداً صلى الله عليه وسلم ؛ فقالوا : لا تصل إليه ، فإنه يأمرك بالصَّلاة ؛ فقال : إنّ خدمة الربّ واجبة. فقالوا : إنه يأمرك بإعطاء المال إلى الفقراء. فقال : اصطناع المعروف واجب. فقيل له : إنه ينهى عن الزنى. فقال : هو فحش وقبيح في العقل ، وقد صرت شيخاً فلا أحتاج إليه. فقيل له : إنه ينهى عن شرب الخمر. فقال : أما هذا فإني لا أصبر عليه! فرجع ، وقال : أشرب الخمر سنة ثم أرجع إليه ؛ فلم يصل إلى منزله حتى سقط عن البعير فانكسرت عنقه فمات. وكان قيس بن عاصم المِنْقريّ شَرَّاباً لها في الجاهلية ثم حرّمها على نفسه ؛ وكان سبب ذلك أنه غمز عُكْنَة ابنته وهو سكران ، وسبّ أبويه ، ورأى القمر فتكلم بشيء ، وأعطى الخمّار كثيراً من ماله ؛ فلما أفاق أخبر بذلك فحرّمها على نفسه ؛ وفيها يقول : (6/26)
رأيتُ الخمرَ صالحةً وفيها... خصالٌ تُفِسد الرجلَ الحليما
فلا واللَّه أشربُها صحيحاً... ولا أشفَى بها أبداً سقيما
ولا أعطي بها ثمناً حياتي... ولا أدعو لها أبداً نديما
فإنّ الخمر تفضح شاربيها... وتجنيهم بها الأمر العظيما
قال أبو عمر : وروى ابن الأعرابيّ عن المفضَّل الضِّبيّ أن هذه الأبيات لأبي مِحْجن الثَّقفيّ قالها في تركه الخمر ، وهو القائل رضي الله عنه :
إذا مُتُّ فادفني إلى جَنْب كَرْمةٍ... تروّي عظامِي بعد موتي عُروقُها
ولا تَدْفِنَنِّي بالفَلاَة فإنّني... أخاف إذا ما مِتُّ أنْ لا أذُوقُها
وجلده عمر الحدّ عليها مراراً ، ونفاه إلى جزيرة في البحر ؛ فلحق بسعد فكتب إليه عمر أن يحبسه فحبسه ؛ وكان أحد الشجعان البُهَم ؛ فلما كان من أمره في حرب القادسية ما هو معروف حلّ قيوده وقال : لا نجلدك على الخمر أبداً. قال أبو مِحْجن : وأنا والله لا أشربها أبداً ؛ فلم يشربها بعد ذلك. وفي رواية : قد كنت أشربها إذ يقام عليّ الحدّ ( وأطهر منها ) ، وأما إذ بَهْرَجْتَنِي فوالله لا أشربها أبداً. وذكر الهيثم بن عدِيّ أنه أخبره من رأى قبر أبي مِحجن بأذرَبيجان ، أو قال : في نواحي جُرْجان ، وقد نبتت عليه ثلاث أُصول كَرْم وقد طالت وأثمرت ، وهي معروشة على قبره ؛ ومكتوب على القبر "هذا قبر أبي مِحجن" قال : فجعلت أتعجب وأذكر قوله :
إذا مُتُّ فادفني إلى جَنْب كَرْمةٍ...
أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 56 ـ 57}
فصل : في تحريم الخمر ووعيد من شربها(6/27)
أجمعت الأمة على تحريم الخمر ، وأنه يحد شاربها ويفسق بذلك مع اعتقاد تحريمها فإن استحل كفر بذلك ويجب قتله عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب الخمر في الدنيا ، ومات وهو يدمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة " لفظ مسلم عن جابر : " أن رجلاً قدم من جيشان وجيشان من اليمن فسأل النبي صلى الله عليه وسلم يشربونه بأرضهم من الذرة يقاله له : المزر. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أو مسكر هو ؟ قال : نعم. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل مسكر حرام وإن على الله عهداً لمن يشرب المسكر أن يسقيه من طينة الخبال. قالوا : وما طينة الخبال يا رسول الله. قال : عرق أهل النار أو عصارة أهل النار " وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " كل مسكر خمر وكل مسكر حرام ومن شرب مسكراً بخست صلاته أربعين صباحاً فإن تاب تاب الله عليه فإن عاد الرابعة كان حقاً على الله أن يسقيه من طينه الخبال. قيل : وما طينة الخبال يا رسول الله قال : صديد أهل النار " أخرجه أبو داود. عن عبدالله بن عمرو بن العاص أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من شرب الخمر فجعلها في بطنه لم تقبل منه صلاة سبعاً وإن مات فيها مات كافراً فإن أذهبت عقله عن شيء من الفرائض. وفي رواية عن القرآن لم تقبل صلاته أربعين يوماً وإن مات فيها مات كافراً " أخرجه النسائي.
عن عثمان بن عفان قال : اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث فإنه والله لا يجتمع الإيمان وإدمان الخمر إلاّ يوشك أن يخرج أحدهما صاحبه أخرجه النسائي موقوفاً عليه وفيه قصة عن أنس قال لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الخمر عشرة عاصرها ومعتصرها وشاربها وساقيها وحاملها والمحمولة إليه وبائعها ومبتاعها وواهبها وآكل ثمنها أخرجه الترمذي. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 144}(6/28)
فصل في تحريم بيعها والانتفاع بها. أجمعت الأمة على تحريم بيع الخمر والانتفاع بها وتحريم ثمنها ويدل على ذلك ما روي عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام فتح مكة : " إن الله تعالى حرم بيع الخمر والانتفاع بها والميتة والخنزير والأصنام " أخرجاه في الصحيحين مع زيادة اللفظ.
عن عائشة قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " حرمت التجارة في الخمر "
عن ابن عباس قال بلغ عمر بن الخطاب أن فلاناً باع خمراً فقال قاتل الله فلاناً ألم يعلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها " عن المغيرة بن شعبة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من باع الخمر فليشقص الخنازير " أخرجه أبو داود. وقوله فليشقص الخنازير أي فليقطعها قطعاً كما تقطع الشاة للبيع والمعنى من استحل بيع الخمر فلستحل بيع الخنازير فإنهما في التحريم سواء. عن أبي طلحة قال يا نبي الله إني اشتريت خمراً لأيتام في حجري. فقال : اهرق الخمر واكسر الدنان أخرجة الترمذي. وقال وقد روي عن أنس إن أبا طلحة كان عنده خمر لأيتام وهو أصح. فإن قلت فما وجه قوله تعالى : {ومنافع للناس} قلت : منافعها اللذة التي توجد عند شربها والفرح والطرب معها وما كانوا يصيبون من الربح في ثمنها ، وذلك قبل التحريم فلما حرمت حرم ذلك كله. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 144 ـ 145}
فائدة
قال القرطبى :
قال قوم من أهل النظر : حُرِّمت الخمر بهذه الآية ؛ لأن الله تعالى قد قال : {قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم} [ الأعراف : 33 ] فأخبر في هذه الآية أن فيها إثماً فهو حرام. قال ابن عطية : ليس هذا النظر بجيّد ، لأن الإثم الذي فيها هو الحرام ، لا هي بعينها على ما يقتضيه هذا النظر.(6/29)
قلت : وقال بعضهم : في هذه الآية ما دل على تحريم الخمر لأنه سمّاه إثماً ، وقد حرّم الإثم في آية أخرى ، وهو قوله عزّ وجل :
{قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم} [ الأعراف : 33 ] وقال بعضهم : الإثم أراد به الخمر ؛ بدليل قول الشاعر :
شَرِبتُ الإثم حتى ضَلَّ عَقْلِي... كذاكَ الإثمُ يَذْهبُ بالعقول
قلت : وهذا أيضاً ليس بجيّد ، لأن الله تعالى لم يُسمّ الخمر إثماً في هذه الآية ، وإنما قال : {قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ} ولم يقل : قل هما إثم كبير. وأما آية "الأعراف" وبيتُ الشعر فيأتي الكلام فيهما هناك مبيَّناً ، إن شاء الله تعالى. وقد قال قَتادة : إنما في هذه الآية ذَمُّ الخمر ، فأما التحريم فيُعلم بآية أخرى وهي آية "المائدة" وعلى هذا أكثر المفسرين. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 60}
لطيفة
قال عمرو ابن الأدهم من أكابر سادة بنى تميم ذاما للخمر لو كان العقل يشترى ما كان شىء أنفس منه فالعجب لمن يشترى الحمق بماله فيدخله فى رأسه فيقىء فى جيبه ويسلح فى ذيله
وعن على رضى الله عنه لو وقعت قطرة فى بئر فبنيت فى مكانها منارة لم اوذن عليها ولو وقعت فى بحر ثم جف فنبت فيه الكلأ لم أرعه
وعن ابن عمر رضى الله عنهما لو أدخلت أصبعى فيها لم تتبعنى وهذا هو الإيمان والتقى حقا فينبغى للمسلم أن لا يخطر بباله شرب الخمر فضلا عن شربها وينقطع شاربها فإنه إذا خالط شارب الخمر يخاف عليه أن يصيبه من عثاره. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 420}
بحوث قيمة
مشكلة الخمر في العالم
الخمر من أعقد المشكلات التي يجأر منها الغرب ويبحث عن حل لكن دون جدوى فهذا السيناتور الأمريكي وليم فولبرايت يقول عن مشكلة الخمر : " لقد وصلنا إلى القمر ولكن أقدامنا مازالت منغمسة في الوحل ، إنها مشكلة حقيقية عندما نعلم أن الولايات المتحدة فيها أكثر من 11 مليون مدمن خمر وأكثر من 44 مليون شارب خمر ".(6/30)
وقد نقلت مجلة لانست البريطانية مقالاً بعنوان " الشوق إلى الخمر " جاء فيه " إذا كنت مشتاقاً إلى الخمر فإنك حتماً ستموت بسببه ".
إن أكثر من 200 ألف شخص يموتون سنويا في بريطانيا بسبب الخمر.
وينقل البروفسور شاكيت أن 93% من سكان الولايات المتحدة يشربون الخمر وأن 40% من الرجال يعانون من أمراض عابرة بسببه و5% من النساء و10% من الرال يعانون من أمراض مزمنة معندة.
تأثيرات الخمر السمية :
ترى هل يدري شارب الخمر أنه يشرب سماً زعافاً ؟
وقبل الشرب ، يمكن لصانع الخمر أن يستنشق أبخرته مما يؤدي إلى إصابته بالتهاب القصبات والرئة وإلى إصابة بطانة الأنف مما يؤدي إلى ضعف حاسة الشم ، وهنا يتضح معنى قوله تعالى " فاجتنبوه " فهي تعني النهي عن الاقتراب منه مطلقاً وهي أعم من النهي عن شربه.
ويختلف تأثير الخمر السمي كلما تغير مستواه في الدم فعندما يبلغ مستواه من 20ـ 99ملغ % يسبب تغير المزاج وإلى عدم توازن العضلات واضطراب الحس ، وفي مستوى من 100ـ 299 ملغ % يظهر الغثيان وازدواج الرؤية واضطراب شديد في التوازن. وفي مستوى من 300 ـ 399 ملغ % تهبط حرارة البدن ويضطرب الكلام ويفقد الذاكرة. وفي مستوى 400 ـ 700 ملغ % يدخل الشاب في سبات عميق يصحبه قصور في التنفس وقد ينتهي بالموت. ورغم أن كل أعضاء الجسم تتأثر من الخمر فإن الجملة العصبية هي أكثرها تأثراً حيث يثبط المناطق الدماغية التي تقوم بالأعمال الأكثر تعقيداً ويفقد قشر الدماغ قدرته على تحليل الأمور ، كما يؤثر على مراكز التنفس الدماغية حيث أن الإكثار منه يمكن أن يثبط التنفس تماماً إلى الموت.
(6/31)
وهكذا يؤكد كتاب alcoholism أن الغول بعد أن يمتص من الأمعاء ليصل الدم يمكن أن يعبر الحاجز الدماغي ويدخل إلى الجنين عبر المشيمة ، وأن يصل إلى كافة الأنسجة. لكنه يتوضع بشكل خاص في الأنسجة الشحمية. وكلما كانت الأعضاء أكثر تعقيداً وتخصصاً في وظائفها كانت أكثر عرضة لتأثيرات الغول السمية. فلا عجب حين نرى أن الدماغ والكبد والغدد الصم من أوائل الأعضاء تأثراً بالخمر حيث يحدث الغول فيها اضطرابات خطيرة.
تأثيرات الخمر على جهاز الهضم
في الفم يؤدي مرور الخمر فيه إلى التهاب وتشقق اللسان كما يضطرب الذوق نتيجة ضمور الحليمات الذوقية ، ويجف اللسان وقد يظهر سيلان لعابي مقرف. ومع الإدمان تشكل طلاوة بيضاء على اللسان تعتبر مرحلة سابقة لتطور سرطان اللسان وتؤكد مجلة medicin أن الإدمان كثيراً ما يترافق مع التهاب الغدد النكفية.
والخمر يوسع الأوعية الدموية الوريدية للغشاء المخاطي للمري مما يؤهب لتقرحه ولحدوث نزوف خطيرة تؤدي لآن يقيء المدمن دماً غزيراً. كما تبين أن 90% من المصابين بسرطان المريء هم مدمنوا خمر.
وفي المعدة يحتقن الغشاء المخاطي فيها ويزيد افراز حمض كلور الماء والببسين مما يؤهب لإصابتها بتقرحات ثم النزوف وعند المدمن تصاب المعدة بالتهاب ضموري مزمن يؤهب لإصابة صاحبها بسرطان المعدة الذي يندر جداً أن يصيب شخصاً لا يشرب الخمر.
وتضطرب الحركة الحيوية للأمعاء عند شاربي الخمر المتعدين وتحدث التهابات معوية مزمنة واسهالات متكررة عند المدمنين ، وتتولد عندهم غازات كريهة ويحدث عسر في الامتصاص المعوي.
الكبد ضحية هامة للخمر :
للكبد وظائف هامة تقدمها للعضوية ، فهي المخزن التمويني لكافة المواد الغذائية وهب تعدل السموم وتنتج الصفراء.
(6/32)
والغول سم شديد للخلية الكبدية وتنشغل الكبد من أجل التخلص من الغول عن وظائفه الحيوية ويحصل فيها تطورات خطيرة نتيجة الإدمان. ففي فرنسا وحدها يموت سنوياً أكثر من 22 ألف شخص بسبب تشمع الكبد الغولي وفي ألمانيا يموت حوالي 16 ألف. كما أن الغول يحترق ضمن الكبد ليطلق كل 1غ منه 7 حريرات تؤدي بالمدمن إلى عزوفه عن الطعام دون أن تعطيه هي أي فائدة مما يعرضه لنقص الوارد الغذائي.
1ـ تشحم الكبد حيث يتشبع الكبد بالشحوم أثناء حرق الغول وتتضخم الكبد وتصبح مؤلمة
2ـ التهاب الكبد الغولي : آفة عارضة تتلو سهرة أكثر فيها الشارب من تناول الخمر وتتجلى بالآم بطنية وقيء وحمى وإعياء وضخامة في الكبد.
3ـ تشمع الكبد liver cirrhosis : حيث يحدث تخرب واسع في خلايا الكبد وتتليف أنسجته ويصغر حجمه ويقسو ويصبح عاجزاً عن القيام بوظائفه.
ويشكو المصاب من ألم في منطقة الكبد ونقص في الشهية وتراجع في الوزن مع غثيان وإقياء ثم يصاب بالجبن أو باليرقان ز وقد يختلط بالتهاب الدماغ الغولي ويصاب بالسبات أو النزف في المريء ، وكلاهما يمكن أن يكون مميتاً.
تأثيرات الخمر على القلب :
يصاب مدمن الخمر بعدد من الاضطابات الخطيرة والمميتة التي تصيب القلب منها :
1ـ اعتلال العضلة القلبية الغولي : حيث يسترخي القلب ويصاب الإنسان بضيق في النفس وإعياء عام ويضطرب نظم القلب وتضخم الكبد مع انتفاخ في القدمين ، والمريض ينتهي بالموت إذا لم يرتدع الشارب عن الخمر
2ـ قد يزيد الضغط الدموي نتيجة الإدمان.
3ـ داء الشرايين الإكليلية : الغول يؤدي إلى تصلب وتضيق في شرايين القلب تتظاهر بذبحة صدرية.
4ـ اضطراب نظم القلب
تأثيرات الخمر على الجهاز العصبي :(6/33)
تعتبر الخلايا العصبية أكثر عرضة لتأثيرات الغول السمية. وللغول تأثيرات فورية على الدماغ ن بعضها عابر ، وبعضها غير قابل للتراجع.حيث يؤكد د. براتر وزملاؤه أن تناول كأس واحد أو كأسين من الخمر قد تسبب تموتاً في بعض خلايا الدماغ.
وهنا نفهم الإعجاز النبوي في قوله صلى الله عليه وسلم " ما أسكر كثيره فقليه حرام ".
والسحايا قد تصاب عند المدمن عندها يشكو المصاب من الصداع والتهيج العصبي وقد تنتهي بالغيبوبة الكاملة. كما أن الأعصاب كلها معرضة للإصابة بما يسمى " باعتلال الأعصاب الغولي العديد أو المفرد".
أما الأذيات الدماغية فيمكن أن تتجلى بداء الصرع المتأخر الذي يتظاهر عند بعض المدمنين بنوبات من الإغماء والتشنج والتقلص الشديد.
تأثيرات الخمر على الوظيفة الجنسية :
تروي كتب الأدب قصة أعرابية أسكرها قوم في الجاهلية فملا أنكرت نفسها قالت : أيشرب هذا نساؤكم ، قالوا : نعم قالت : لئن صدقتم لا يدري أحدكم من أبوه. وقد الأطباء أن الخمر تزيد من شبق الأنثى فيضطرب سلوكها الجنسي حتى أنه لا يستغرب أن تمارس المرأة أول عمل جنسي لها تحت تأثير الخمر وقد أكد البروفسور فورل أن معظم حالات الحمل السفاحي حدثت أثناء الثمل. كما تضطرب الدورة الطمثية لدى المرأة المدمنة وتصل إلى سن اليأس قبل غيرها بعشرة سنوات وتتاذى الخلايا المنتشة مؤدية إلى ضرر في المبيضين.
أما الرجل ، فعلى الرغم من ازدياد الرغبة الجنسية في المراحل الأولى من الشرب لكن القدرة على الجماع تتناقص عند المدمن حتى العنانة الكاملة.
والغول يوذي الخلايا المنتشة ويتلفها مؤدياً إلى ضمور في الخصيتين ، وقبل هذا يمكن ظهور نطاف مشوهة يمكن أن تؤدي إلى أجنة مشوهة.
الخمر ينتهك الخط الدفاعي للبدن :
تضعف مقاومة البدن للأمراض الانتانية لدى المدمن وتنقص لديه لاسيما للإصابة بذات الرئة وغيرها.
(6/34)
وقد كان يفسر سابقاً بسوء التغذية لكن أبحاث كورنيل الأمريكية أثبتت أن ضعف المقاومة لدى المدمنين ناتج عن تدخل مباشر في عملية المناعة.
آثار الخمر الخطيرة على النسل :
يقول د. أحمد شوكت الشطي : إن زواج الغوليين قضية خطيرة لأن الزوج المولع بالشرب زوج غير صالح ، ويرث نسله منه بنية مرضية خاصة تعرف بالتراث الغولي ، ويقصد به ما يحله نسل المخمورين من ضعف جسدي ونفساني وقد ثبت أن الأم الحامل تنقل الغول عبر مشيمتها إلى الجنين فتبليه وأنه ينساب بالرضاعة إلى الوليد.
المراجع :
روائع الطب الإسلامي د. محمد نزار الدقر
نظرات في المسكرات د. أحمد شوكت شطي.
بحوث أخرى
أضرار المشروبات الكحولية
أ : أثر الكحول في العمر
ذكر أحد علماء الغرب المشهورين أنه لو كان عدد الوفيات بين الشباب المدمنين البالغة أعمارهم بين 21 إلى 23 سنة يصل إلى 51 شابّاً ، فإنّ عدد الوفيات من غير المدمنين في تلك الأعمار لا يبلغ 10 أشخاص.
وقال عالم مشهور آخر : الشباب في سنّ العشرين الذين يتوقّع أن تطول
أعمارهم إلى خمسين عاماً ، لا يعمّرون بسبب معاقرة الخمرة أكثر من خمسة وثلاثين عاماً.
التجارب التي أجرتها شركات التأمين على الحياة أثبتت أنّ أعمار المدمنين على الكحول أقلّ من أعمار غيرهم بنسبة 25 ـ 30 بالمائة.
وتذكر إحصائيات أُخرى أنّ معدّل أعمار المدمنين على الكحول يبلغ حوالي 35 ـ 50 سنة ، بينما معدّل العمر الإعتيادي مع رعاية القواعد الصحية يبلغ ستين عاماً فصاعداً.
ب : أثر الكحول على النسل
35 بالمائة من عوارض الإدمان الحادّة تنتقل إلى الوليد إذا كان أبوه ـ حين انعقاد النطفة ـ سكراناً ، وإن كان الوالدان سكرانين فترتفع نسبة هذه العوارض إلى مائة في المائة. وهذه إحصائيات تبيّن آثار الإدمان على الجنين :
الأطفال الذين ولدوا قبل موعد ولادتهم الطبيعي : من أبوين مدمنين 45 بالمائة. ومن أُمّ مدمنة 31 بالمائة. ومن أب مدمن 17 بالمائة.
(6/35)
الأطفال الذين ولدوا وهم لا يحملون مقوّمات استمرار الحياة : من أب مدمن 6 بالمائة ، ومن أمّ مدمنة 45 بالمائة.
الأطفال الذين لا يتمتّعون بطول طبيعي : من والدين مدمنين 75 بالمائة ، ومن أمّ مدمنة 45 بالمائة.
وأخيراً الأطفال الذين يفتقدون القوّة العقلية والروحية الكافية : من أُمّهات مدمنات 75 بالمائة ، ومن آباء مدنين 75 بالمائة أيضاً.
ج : أثر الكحول في الأخلاق
العاطفة العائلية في الشخص المدمن تضعف ، ويقلّ انشداده بزوجته وأبنائه ، حتّى يحدث أن يقدم المدمن على قتل أبنائه بيده.
د : أضرار الكحول الاجتماعية
حسب الإحصائيّة التي نشرها معهد الطب القانوني في مدينة (نيون) عام 1961 ، كانت الجرائم الاجتماعية للمدمنين على النحو التالي :
القتلة : 50 بالمائة ، المعتدون بالضرب والجرح بين المدمنين : 8,77 بالمائة ، السرقات بين المدمنين : 5,88 بالمائة ، الجرائم الجنسية المرتبطة بالمدمنين : 8,88 بالمائة. هذه الإحصائيات تشير إلى أنّ الأكثرية الساحقة من الجرائم ترتكب في حالة السكر.
هـ : الأضرار الاقتصادية للمشروبات الكحوليّة
(6/36)
أحد علماء النفس المشهورين يقول : من المؤسف أنّ الحكومات تحسب ما تدر عليها المشروبات الكحولية من ضرائب ، ولا تحسب الميزانية الضخمة التي تنفق لترميم مفاسد هذه المشروبات. فلو حسبت الحكومات الأضرار الناتجة من المشروبات الكحولية ، مثل زيادة الأمراض الروحية ، وإهدار الوقت والاصطدامات الناتجة عن السكر ، وفساد الجيل ، وانتشار روح التقاعس والتحلّل ، والتخلّف الثقافي ، والمشاكل التي تواجه رجال الشرطة ودور الحضانة المخصّصة لرعاية أبناء المخمورين ، وما تحتاجه جرائم المخمورين من مستشفيات وأجهزة قضائيّة وسجون ، وغيرها من الخسائر والأضرار الناتجة عن تعاطي الخمور ، وقارنت هذه الخسائر بما تحصل عليه من ضرائب على هذه المشروبات لوجدت أنّ الأرباح تكاد تكون تافهة أمام الخسائر ، هذا إضافة إلى أنّ الخسائر المؤسفة الناتجة عن المشروبات الكحولية لا يمكن حسابها بالدولار ، لأنّ موت الأعزّاء وتشتّت العوائل وتبدّد الآمال وفقدان الأدمغة المفكّرة لا يمكن حسابه بالمال.
أضرار المشروبات الكحولية فظيعة للغاية ، حتّى إنّ أحد العلماء قال : لو أنّ
الحكومة ضمنت لي غلق حانات الخمور لضمنت لها غلق نصف المستشفيات ودور المجانين.
ممّا تقدّم يتّضح بجلاء معنى الآية الكريمة بشأن الخمر ، فلو كان في الخمرة فائدة تجارية ، ولو كان السكران يحسب لحظات غفلته عن عمومه أثناء السكر فائدة له ، فإنّ الأضرار التي تترتب عليها أكثر بكثير وأوسع دائرة وأبعد مدىً من فوائدها ، حتّى لا يمكن المقارنة بين الاثنين. أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 118 ـ 120}
فصل
في حقيقة الميسر فنقول : الميسر القمار ، مصدر من يسر كالموعد والمرجع من فعلهما ، يقال يسرته إذا قمرته ، واختلفوا في اشتقاقه على وجوه
(6/37)
أحدها : قال مقاتل : اشتقاقه من اليسر لأنه أخذ لمال الرجل بيسر وسهولة من غير كد ولا تعب ، كانوا يقولون : يسروا لنا ثمن الجزور ، أو من اليسار لأنه سبب يساره ، وعن ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يخاطر على أهله وماله وثانيها : قال ابن قتيبة : الميسر من التجزئة والاقتسام ، يقال : يسروا الشيء ، أي اقتسموه ، فالجزور نفسه يسمى ميسراً لأنه يجزأ أجزاء ، فكأنه موضع التجزئة ، والياسر الجازر ، لأنه يجزىء لحم الجزور ، ثم يقال للضاربين بالقداح والمتقامرين على الجزور : إنهم ياسرون لأنهم بسبب ذلك الفعل يجزؤن لحم الجزور
وثالثها : قال الواحدي : إنه من قولهم : يسر لي هذا الشيء ييسر يسرا وميسراً إذا وجب ، والياسر الواجب بسبب القداح ، هذا هو الكلام في اشتقاق هذه اللفظة.
وأما صفة الميسر فقال صاحب "الكشاف" : كانت لهم عشرة قداح ، وهي الأزلام والأقلام الفذ ، والتوأم ، والرقيب ، والحلس ، بفتح الحاء وكسر اللام ، وقيل بكسر الحاء وسكون اللام ، والمسبل ، والمعلى ، والنافس ، والمنيح ، والسفيح ، والوغد ، لكل واحد منها نصيب معلوم من جزور ينحرونها ويجزؤونها عشرة أجزاء ، وقيل : ثمانية وعشرين جزءاً إلا ثلاثة ، وهي : المنيح والسفيح ، والوعد ، ولبعضهم في هذا المعنى شعر :
لي في الدنيا سهام.. ليس فيهن ربيح
وأساميهن وغد.. وسفيح ومنيح
فللفذ سهم ، وللتوأم سهمان ، وللرقيب ثلاثة ، وللحلس أربعة ، وللنافس خمسة ، وللمسبل ستة ، وللمعلى سبعة ، يجعلونها في الربابة ، وهي الخريطة ويضعونها على يد عدل ، ثم يجلجلها ويدخل يده فيخرج باسم رجل رجل قدحاً منها فمن خرج له قدح من ذوات الأنصباء أخذ النصب الموسوم به ذلك القدح ، ومن خرج له قدح لا نصيب له لم يأخذ شيئاً ، وغرم ثمن الجزور كله ، وكانوا يدفعون تلك الأنصباء إلى الفقراء ، ولا يأكلون منها ، ويفتخرون بذلك ويذمون من لم يدخل فيه ويسمونه البرم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 40}(6/38)
قال ابن عاشور :
والميسر : قمار كان للعرب في الجاهلية ، وهو من القمار القديم المتوغل في القدم كان لعادٍ من قبل ، وأول من ورد ذكر لعب الميسر عنه في كلام العرب هو لقمان بن عَاد ويقال لقمان العادي ، والظاهر أنه ولد عاد بن عوص بن إرم بن سام ، وهو غير لقمان الحكيم ، والعرب تزعم أن لقمان كان أكثر الناس لعباً بالميسر حتى قالوا في المثل "أيسرُ من لقمان" وزعموا أنه كان له ثمانية أيسار لا يفارقونه هم من سادة عاد وأشرافهم ، ولذلك يشبِّهون أهلَ الميسر إذا كانوا من أشراف القوم بأَيْسار لقمان قال طرفة بن العبد :
وهُمُ أَيْسَار لقُمْانَ إذا... أَغْلَتتِ الشَّتْوة أَبْدَاءَ الجُزُرْ
أراد التشبيه البليغ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 346 ـ 347}
فصل
اختلفوا في أن الميسر هل هو اسم لذلك القمار المعين ، أو هو اسم لجميع أنواع القمار ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : " إياكم وهاتين الكعبتين فإنهما من ميسر العجم "
وعن ابن سيرين ومجاهد وعطاء : كل شيء فيه خطر فهو من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز ، وأما الشطرنج فروي عن علي عليه السلام أنه قال : النرد والشطرنج من الميسر ، وقال الشافعي رضي الله عنه : إذا خلا الشطرنج عن الرهان ، واللسان عن الطغيان والصلاة عن النسيان ، لم يكن حراماً ، وهو خارج عن الميسر ، لأن الميسر ما يوجب دفع المال ، أو أخذ مال ، وهذا ليس كذلك ، فلا يكون قماراً ولا ميسراً ، والله أعلم ، أما السبق في الخف والحافر فبالاتفاق ليس من الميسر ، وشرحه مذكور في كتاب السبق والرمي من كتب الفقه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 40}
فصل فى المراد بالإثم الكبير
قال الفخر : (6/39)
الإثم الكبير ، فيه أمور أحدها : أن عقل الإنسان أشرف صفاته ، والخمر عدو العقل ، وكل ما كان عدو الأشرف فهو أخس ، فيلزم أن يكون شرب الخمر أخس الأمور ، وتقريره أن العقل إنما سمي عقلاً لأنه يجري مجرى عقال الناقة ، فإن الإنسان إذا دعاه طبعه إلى فعل قبيح ، كان عقله مانعاً له من الإقدام عليه ، فإذا شرب الخمر بقي الطبع الداعي إلى فعل القبائح خالياً عن العقل المانع منها ، والتقريب بعد ذلك معلوم ،
ذكر ابن أبي الدنيا أنه مر على سكران وهو يبول في يده ويمسح به وجهه كهيئة المتوضىء ، ويقول : الحمد لله الذي جعل الإسلام نوراً والماء طهوراً ، وعن العباس بن مرداس أنه قيل له في الجاهلية : لم لا تشرب الخمر فإنها تزيد في جراءتك ؟ فقال ما أنا بآخذ جهلي بيدي فأدخله جوفي ، ولا أرضى أن أصبح سيد قوم وأمسى سفيههم وثانيها : ما ذكره الله تعالى من إيقاع العداوة والبغضاء والصد عن ذكر الله وعن الصلاة وثالثها : أن هذه المعصية من خواصها أن الإنسان كلما كان اشتغاله بها أكثر ، ومواظبته عليها أتم كان الميل إليها أكثر وقوة النفس عليها أقوى.
بخلاف سائر المعاصي ، مثل الزاني إذا فعل مرة واحدة فترت رغبته في ذلك العمل ، وكلما كان فعله لذلك العمل أكثر كان فتوره أكثر ونفرته أتم ، بخلاف الشرب ، فإنه كلما كان إقدامه عليه أكثر ، كان نشاطه أكثر ، ورغبته فيه أتم.
(6/40)
فإذا واظب الإنسان عليه صار الإنسان غرقاً في اللذات البدنية ، معرضاً عن تذكر الآخرة والمعاد ، حتى يصير من الذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم ، وبالجملة فالخمر يزيل العقل ، وإذا زال العقل حصلت القبائح بأسرها ولذلك قال عليه الصلاة والسلام : " الخمر أم الخبائث " وأما الميسر فالإثم فيه أنه يفضي إلى العداوة ، وأيضاً لما يجري بينهم من الشتم والمنازعة وأنه أكل مال بالباطل وذلك أيضاً يورث العداوة ، لأن صاحبه إذا أخذ ماله مجاناً أبغضه جداً ، وهو أيضاً يشغل عن ذكر الله وعن الصلاة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 40}
وقال ابن عاشور :
وصف الله الخمر بأن فيها إثماً كبيراً ومنافع. والإثم : معصية الله بفعل ما فيه فساد ولا يرضى الله ، وأشار الراغب إلى أن في اشتقاق الإثم معنى الإبطاء عن الخير ، وقال ابن العربي في تفسير سورة الأعراف : الإثم عبارة عن الذم الوارد في الفعل ، فكأنه يشير إلى أن الإثم ضد الثواب ، وظاهر اصطلاح الشريعة أن الإثم هو الفعل المذموم في الشرع ، فهو ضد القربة فيكون معنى {فيهما إثم كبير} أنهما يتسبب منهما ما هو إثم في حال العربدة وحال الربح والخسارة من التشاجر.
وإطلاق الكبير على الإثم مجاز ، لأنه ليس من الأجسام ، فالمراد من الكبير : الشديد في نوعه كما تقدم آنفاً.
وجيء بفي الدالة على الظرفية لإفادة شدة تعلق الإثم والمنفعة بهما ؛ لأن الظرفية أشد أنواع التعلق ، وهي هنا ظرفية مجازية شائعة في كلام العرب ، وجعلت الظرفية متعلقة بذات الخمر والميسر للمبالغة ، والمراد في استعمالهما المعتاد.
واختير التعبير بالإثم للدلالة على أنه يعود على متعاطي شربها بالعقوبة في الدنيا والآخرة.
وقرأ الجمهور {إثم كبير} بموحَّدَة بعد الكاف وقرأه حمزة والكسائي ( كثير ) بالثاء المثلثة ، وهو مجازاً استعير وصف الكثير للشديد تشبيهاً لقوة الكيفية بوفرة العدد. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 343 ـ 345}
وقال ابن عطية(6/41)
وقوله تعالى : {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس} الآية ، قال ابن عباس والربيع : الإثم فيهما بعد التحريم ، والمنفعة فيهما قبله ، وقالت طائفة : الإثم في الخمر ذهاب العقل والسباب والافتراء والإذاية والتعدي الذي يكون من شاربها ، والمنفعة اللذة بها كما قال حسان بن ثابت :
وَنَشْرَبُهَا فَتَتْرُكَنَا ملوكاً... وَأسْداً ما يُنَهْنِهُنَا للقَاءُ
إلى غير ذلك من أفراحها ، وقال مجاهد : " المنفعةَ بها كسب أثمانها " ثم أعلم الله عز وجل أن الإثم أكبر من النفع وأعود بالضرر في الآخرة ، فهذا هو التقدمة للتحريم ، وقرأ حمزة والكسائي " كثير " بالثاء المثلثة ، وحجتها أن النبي صلى الله عليه وسلم لعن الخمر ولعن معها عشرة : بائعها ، ومبتاعها ، والمشتراة له ، وعاصرها ، والمعصورة له ، وساقيها ، وشاربها ، وحاملها ، والمحمولة إليه ، وآكل ثمنها ، فهذه آثام كثيرة ، وأيضاً فجمع المنافع يحسن معه جمع الآثام ، و" كثير " بالثاء المثلثة يعطي ذلك ، وقرأ باقي القراء وجمهور الناس " كبير " بالباء بواحدة ، وحجتها أن الذنب في القمار وشرب الخمر من الكبائر فوصفه بالكبير أليق ، وأيضاً فاتفاقهم على {أكبر} حجة لكبير بالباء بواحدة ، وأجمعوا على رفض أكثر بالثاء مثلثة ، إلا ما مصحف ابن مسعود فإن فيه " قل فيهما إثم كثير وإثمهما أكثر " بالثاء مثلثة في الحرفين. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 294}
قوله تعالى : {ومنافع لِلنَّاسِ}
قال ابن عاشور :
والمنافع : جمع منفعة ، وهي اسم على وزن مَفعلة وأصله يحتمل أن يكون مصدراً ميمياً قصد منه قوة النفع ، لأن المصدر الميمي أبلغ من جهة زيادة المبنى. ويحتمل أن يكون اسم مكان دالاً على كثرة ما فيه كقولهم مَسْبَعة ومَقْبَرة أي يكثر فيهما النفع من قبيل قولهم مَصْلَحة ومَفْسَدة ، فالمنفعة على كل حال أبلغ من النفع.(6/42)
والإثم الذي في الخمر نشأ عما يترتب على شربها تارة من الإفراط فيه والعربدة من تشاجر يجر إلى البغضاء والصد عن سبيل الله وعن الصلاة ، وفيها ذهاب العقل والتعرض للسخرية ، وفيها ذهاب المال في شربها ، وفي الإنفاق على الندامى حتى كانوا ربما رهنوا ثيابهم عند الخمارين قال عُمارة بن الوليد بن المغيرة المخزومي :
ولسنا بشَرْببٍ أمَّ عمرو إذَا انْتَشَوْا... ثِيابُ الندامَى عندهم كالمغانم
ولكننا يا أمَّ عمرو نديمنا... بمنزلة الريَّان ليس بعائم
وقال عنترة :
وإذا سَكِرْتُ فإنني مُستهلك... مالي وعِرضي وافِرٌ لم يُكْلَمِ
وكانوا يشترون الخمر بأثمان غالية ويعدون المماكسة في ثمنها عيباً ، قال لبيد : ... أُغْلِي السِّبَاءَ بكل أَدْكَنَ عَاتِقٍ
أَوْ جَوْنَةٍ قُدِحَتْ وفُضَّ خِتَامُها... ومن آثامها ما قرره الأطباء المتأخرون أنها تورث المدمنين عليها أضراراً في الكبد والرئتين والقلب وضعفاً في النَّسل ، وقد انفرد الإسلام عن جميع الشرائع بتحريمها ، لأجل ما فيها من المضار في المروءة حرمها بعض العرب على أنفسهم في الجاهلية ، فممن حرمها على نفسه في الجاهلية قَيْس بن عاصم المِنْقَري بسبب أنه شرب يوماً حتى سكر فجذب ابنته وتناول ثوبها ، ورأى القمر فتكلم معه كلاماً ، فلما أخبر بذلك حين صحا آلى لا يذوق خمراً ما عاش وقال :
رأيتُ الخمرَ صالحة وفيها... خصال تُفسد الرجلَ الحليما
فلا واللَّه أَشْرَبُها صَحِيحا... ولا أُشْفَى بها أَبدا سَقيما
ولا أعطي بها ثَمنا حياتي... ولا أَدعو لها أبداً نديماً
فإنَّ الخمر تفضح شاربيها... وتُجنيهم بها الأمر العظيما
(6/43)
وفي "أمالي القالي" نسبة البيتين الأولين لصفوان بن أمية ، ومنهم عامر بن الظَّرِب العَدْواني ، ومنهم عفيف بن معد يكرب الكندي عم الأشعث بن قيس ، وصفوان بن أمية الكناني ، وأسلوم البالي ، وسويد بن عدي الطائي ، ( وأدرك الإسلام ) وأسد بن كُرْز القَسْري البَجَلي الذي كان يلقب في الجاهلية برب بجيلة ، وعثمان بن عفان ، وأبو بكر الصديق ، وعباس بن مرداس ، وعثمان بن مظعون ، وأمية بن أبي الصلت ، وعبد الله بن جُدْعان. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 344 ـ 345}
قال الفخر :
وأما المنافع المذكورة في قوله تعالى : {ومنافع لِلنَّاسِ} فمنافع الخمر أنهم كانوا يتغالون بها إذا جلبوها من النواحي ، وكان المشتري إذا ترك المماكسة في الثمن كانوا يعدون ذلك فضيلة ومكرمة ، فكان تكثر أرباحهم بذلك السبب ، ومنها أنه يقوي الضعيف ويهضم الطعام ويعين على الباه ، ويسلي المحزون ، ويشجع الجبان ، ويسخي البخيل ويصفي اللون ، وينعش الحرارة الغريزية ويزيد في الهمة والاستعلاء ومن منافع الميسر : التوسعة على ذوي الحاجة لأن من قمر لم يأكل من الجزور ، وإنما كان يفرقه في المحتاجين وذكر الواقدي أن الواحد منهم كان ربما قمر في المجلس الواحد مائة بعير ، فيحصل له مال من غير كد وتعب ، ثم يصرفه إلى المحتاجين ، فيكتسب منه المدح والثناء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 41}
وقال ابن عاشور :
وأما المنافع فمنها منافع بدنية وهي ما تكسبه من قوة بدن الضعيف في بعض الأحوال وما فيها من منافع التجارة فقد كانت تجارة الطائف واليمن من الخمر ، وفيها منافع من اللذة والطرب ، قال طرفة :
ولولا ثلاث هُنَّ من عيشة الفتى... وجدك لم أَحفل متى قام عُوَّدِي
فمنهن سَبْقِي العاذِلات بشَرْبَة... كُمَيْتتٍ متى ما تُعْلَ بالمَاء تُزْبِد
وذهب بعض علمائنا إلى أن المنافع مالية فقط فراراً من الاعتراف بمنافع بدنية للخمر وهو جحود للموجود (1)
ومن العجيب أن بعضهم زعم أن في الخمر منافع بدنية ولكنها بالتحريم زالت. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 41}
____________
(1) هذه زلة أخرى لقلم العلامة ابن عاشور ـ غفر الله له ـ
وهذا القول من البعد بمكان ولا يستند إلى شبهة فضلا عن دليل بل الدليل على خلافه.
وسيأتى ما يدحض هذا الكلام من خلال كلام العلماء المحققين ـ رحمهم الله ـ والله أعلم وأحكم.(6/44)
كلام نفيس للعلامة ابن العربى
قال رحمه الله :
قَوْله تَعَالَى : {وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ} : فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ مَذَاهِبَ : الْأَوَّلُ : أَنَّهَا رِبْحُ التِّجَارَةِ.
وَالثَّانِي : السُّرُورُ وَاللَّذَّةُ.
وَالثَّالِثُ : قَالَ قَوْمٌ مِنْ الْمُبْتَدِعَةِ : مَا فِيهَا مِنْ مَنْفَعَةِ الْبَدَنِ ؛ لِحِفْظِ الصِّحَّةِ الْقَائِمَةِ أَوْ جَلْبِ الصِّحَّةِ الْفَانِيَةِ بِمَا تَفْعَلُهُ مِنْ تَقْوِيَةِ الْمَعِدَةِ وَسَرَيَانِهَا فِي الْأَعْصَابِ وَالْعُرُوقِ ، وَتَوَصُّلِهَا إلَى الْأَعْضَاءِ الْبَاطِنَةِ الرَّئِيسِيَّةِ ، وَتَجْفِيفِ الرُّطُوبَةِ ، وَهَضْمِ الْأَطْعِمَةِ الثِّقَالِ وَتَلْطِيفِهَا.
وَالصَّحِيحُ أَنَّ الْمَنْفَعَةَ هِيَ الرِّبْحُ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا يَجْلِبُونَهَا مِنْ الشَّامِ بِرُخْصٍ فَيَبِيعُونَهَا فِي الْحِجَازِ بِرِبْحٍ كَثِيرٍ.
وَأَمَّا اللَّذَّةُ : فَهِيَ مُضِرَّةٌ عِنْدَ الْعُقَلَاءِ ؛ لِأَنَّ مَا تَجْلِبُهُ مِنْ اللَّذَّةِ لَا يَفِي بِمَا تُذْهِبُهُ مِنْ التَّحْصِيلِ وَالْعَقْلِ ، حَتَّى إنَّ الْعَبِيدَ الْأَدْنِيَاءَ وَأَهْلَ النَّقْصِ كَانُوا يَتَنَزَّهُونَ عَنْ شُرْبِهَا لِمَا فِيهَا مِنْ إذْهَابِ شَرِيفِ الْعَقْلِ ، وَإِعْدَامُهَا فَائِدَةُ التَّحْصِيلِ وَالتَّمْيِيزِ.(6/45)
وَأَمَّا مَنْفَعَةُ إصْلَاحِ الْبَدَنِ : فَقَدْ بَالَغَ فِيهَا الْأَطِبَّاءُ حَتَّى إنِّي تَكَلَّمَتْ يَوْمًا مَعَ بَعْضِهِمْ فِي ذَلِكَ ، فَقَالَ لِي : لَوْ جُمِعَ سَبْعُونَ عَقَارًا مَا وَفَى بِالْخَمْرِ فِي مَنَافِعِهَا ، وَلَا قَامَ فِي إصْلَاحِ الْبَدَنِ مَقَامَهَا.
وَهَذَا مِمَّا لَا نَشْتَغِلُ بِهِ لِوَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : أَنَّ الَّذِينَ نَزَلَ تَحْرِيمُ الْخَمْرِ عَلَيْهِمْ لَمْ يَكُونُوا يَقْصِدُونَ بِهِ التَّدَاوِيَ حَتَّى نَعْتَذِرَ عَنْ ذَلِكَ لَهُمْ.
الثَّانِي : أَنَّ الْبِلَادَ الَّتِي نَزَلَ أَصْلُ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ
فِيهَا كَانَتْ بِلَادَ جُفُوفٍ وَحَرٍّ ؛ وَضَرَرُ الْخَمْرِ فِيهَا أَكْثَرُ مِنْ مَنْفَعَتِهَا ؛ وَإِنَّمَا يَصْلُحُ الْخَمْرُ عِنْدَ الْأَطِبَّاءِ لِلْأَرْيَافِ وَالْبِطَاحِ وَالْمَوَاضِعِ الرَّطْبَةِ ، وَإِنْ كَانَتْ فِيهَا مَنْفَعَةٌ مِنْ طَرِيقِ الْبَدَنِ فَفِيهَا مَضَرَّةٌ مِنْ طَرِيقِ الدِّينِ ، وَالْبَارِي تَعَالَى قَدْ حَرَّمَهَا مَعَ عِلْمِهِ بِهَا فَقَدِّرْهَا كَيْفَ شِئْت ، فَإِنَّ خَالِقَهَا وَمَصْرِفَهَا قَدْ حَرَّمَهَا.
وَقَدْ رَوَى مُسْلِمٌ عَنْ {طَارِقِ بْنِ سُوَيْد الْجُعْفِيِّ أَنَّهُ سَأَلَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ الْخَمْرِ فَنَهَاهُ وَكَرِهَ أَنْ يَصْنَعَهَا.
قَالَ : إنَّمَا أَصْنَعُهَا لِلدَّوَاءِ.
قَالَ : لَيْسَ بِدَوَاءٍ ، وَلَكِنَّهُ دَاءٌ}.
وَرُوِيَ أَيْضًا عَنْ أَنَسٍ {أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سَأَلَ عَنْ الْخَمْرِ : أَتُتَّخَذُ خَلًّا ؟ قَالَ : لَا} وَرُوِيَ ذَلِكَ عَنْ جَمَاعَةٍ.
فَإِنْ قِيلَ : وَكَيْف يَجُوزُ أَنْ يَرِدَ الشَّرْعُ بِتَحْرِيمِ مَا لَا غِنَى عَنْهُ وَلَا عِوَضَ مِنْهُ ؟ هَذَا مُنَاقِضٌ لِلْحِكْمَةِ.(6/46)
فَالْجَوَابُ عَنْهُ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّا لَا نَقُولُ إنَّهُ لَا غِنَى عَنْهَا وَلَا عِوَضَ مِنْهَا ؛ بَلْ لِلْمَرِيضِ عَنْهَا أَلْفُ غِنًى ، وَلِلصَّحِيحِ وَالْمَرِيضِ مِنْهَا عِوَضٌ مِنْ الْخَلِّ وَنَحْوِهِ.
الثَّانِي : أَنْ نَقُولَ : لَوْ كَانَتْ لَا غِنَى عَنْهَا وَلَا عِوَضَ مِنْهَا لَامْتَنَعَ تَحْرِيمُهَا ، وَلَا اسْتَحَالَ أَنْ يَمْنَعَ الْبَارِي تَعَالَى الْخَلْقَ مِنْهَا لِثَلَاثَةِ أَدِلَّةٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّ لِلْبَارِي تَعَالَى أَنْ يَمْنَعَ الْمَرَافِقَ كُلَّهَا أَوْ بَعْضَهَا ، وَأَنْ يُبِيحَهَا ، وَقَدْ آلَمَ الْحَيَوَانَ وَأَمْرَضَ الْإِنْسَانَ.
الثَّانِي : أَنَّ التَّطَبُّبَ غَيْرُ وَاجِبٍ بِإِجْمَاعٍ مِنْ الْأُمَّةِ ، ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ طُرُقٍ أَنَّهُ قَالَ : {يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مِنْ أُمَّتِي سَبْعُونَ أَلْفًا مِنْ غَيْرِ حِسَابٍ ، وَهُمْ الَّذِينَ لَا يَكْتَوُونَ وَلَا يَسْتَرْقُونَ وَلَا يَتَطَيَّرُونَ ، وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ}.
الثَّالِثُ : أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهَا صَلَاحُ بَدَنٍ لَكَانَتْ فِيهَا ضَرَاوَةٌ وَذَرِيعَةٌ إلَى فَسَادِ الْعَقْلِ ، فَتَقَابَلَ الْأَمْرَانِ ، فَغَلَبَ الْمَنْعُ لِمَا لَنَا فِي ذَلِكَ مِنْ الْمَصْلَحَةِ الْمُنَبَّهِ عَلَيْهَا فِي سُورَةِ الْمَائِدَةِ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 299}(6/47)
سؤال : فإن قلت : ما الوجه في ذكر منافع الخمر والميسر مع أن سياق التحريم والتمهيد إليه يقتضي تناسي المنافع ، قلت إن كانت الآية نازلة لتحريم الخمر والميسر فالفائدة في ذكر المنافع هي بيان حكمة التشريع ليعتاد المسلمون مراعاة علل الأشياء ، لأن الله جعل هذا الدين ديناً دائماً وأودعه أمة أراد أن يكون منها مشرِّعون لمختلف ومتجددِ الحوادث ، فلذلك أشار لعلل الأحكام في غير موضع كقوله تعالى : {أيحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا} [ الحجرات : 12 ] ونحو ذلك ، وتخصيص التنصيص على العلل ببعض الأحكام في بعض الآيات إنما هو في مواضع خفاء العلل ، فإن الخمر قد اشتهر بينهم نفعها ، والميسر قد اتخذوه ذريعة لنفع الفقراء فوجب بيان ما فيهما من المفاسد إنباء بحكمة التحريم ، وفائدة أخرى وهي تأنيس المكلفين فطامهم عن أكبر لذائذهم تذكيراً لهم بأن ربهم لا يريد إلاَّ صلاحَهم دون نكايتهم كقوله : {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} [ البقرة : 216 ] وقوله : {كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} [ البقرة : 183 ]. وهنالك أيضاً فائدة أخرى وهي عذرهم عما سلف منهم حتى لا يستكينوا لهذا التحريم والتنديد على المفاسد كقوله : {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم فتاب عليكم وعفا عنكم} [ البقرة : 187 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 345}
فصل(6/48)
قرأ حمزة والكسائي {كَثِيرٍ} بالثاء المنقوطة من فوق والباقون بالباء المنقوطة من تحت حجة حمزة والكسائي ، أن الله وصف أنواعاً كثيرة من الإثم في الخمر والميسر وهو قوله : {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضاء فِى الخمر والميسر} [ المائدة : 91 ] فذكر أعداداً من الذنوب فيهما ولأن النبي صلى الله عليه وسلم لعن عشرة بسبب الخمر ، وذلك يدل على كثرة الإثم فيهما ، ولأن الإثم في هذه الآية كالمضاد للمنافع لأنه قال : فيهما إثم ومنافع ، وكما أن المنافع أعداد كثيرة فكذا الإثم فصار التقدير كأنه قال : فيهما مضار كثيرة ومنافع كثيرة حجة الباقين أن المبالغة في تعظيم الذنب إنما تكون بالكبر لا بكونه كثيراً يدل عليه قوله تعالى : {كبائر الإثم} [ النجم : 32 ] ، {كَبَائِرَ مَا تُنهَوْنَ عَنْهُ} [ النساء : 31 ] ، {إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً} [ النساء : 2 ] وأيضاً القراء اتفقوا على قوله : {وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ} بالباء المنقوطة من تحت ، وذلك يرجح ما قلناه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 41}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قال رحمه الله :
قوله تعالى : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر...}.(6/49)
قال ابن عرفة : قال ابن عطية ، والشيخ الزمخشري : لما نزلت ( هاته الآية ) شربها قوم وتركها آخرون. قام بعض الشاربين فقرأ : قُلْ يا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ أسقط ( لا ) فنزلت : {لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى} قال ابن عرفة : هذا نصّ على أنّ لفظ التأثيم في قوله عز وجلّ : " قُل فِيهمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ " غير ملزوم للتحريم لأنّ الصحابة رضي الله عنهم لم ينتهوا عنها بهذه الآية فيستفاد منه الجواب عن السؤال المورود على قول الفقهاء : إنّ اتّخاذ السترة للمصلي سنة ، مع قولهم : إن تركها وصلى حيث لا يأمن المرور فمر عليه أحد أثِمَ. ( قال : وكنّا أجبنا عنه بأنه إنما أثم بالتعرّض للمرور والمرور معا ) لأنه لو لم يمر عليه أحد لما أثم.
قال ابن عرفة : ( وحكي ) ابن عطية في الإثم وجوها :
الأول : أن يراد في استعمالها بعد النهي إثم كبير.
( ابن عرفة ) ما قلناه إلا على هذا.
الثاني : أن يراد خلال السّوء الّتي فيها وهي السباب والافتراء وذهاب العقل. وعن سعيد بن جبير : لما نزلت كرهها قوم ( للإثم وشربها قوم ) للمنافع.
قال ابن عرفة : ويؤخذ ( من الآية أنها إذا تعارضت مصلحة ومفسدة واستويا لا ينبغي الفعل لأن الصحابة لما نزلت ) الآية لم ينتهوا كلهم عن شرب الخمر.
فقال : ( نعم ) ، بل هو من باب أحرى.
قال : وهذا هو الذي ذكر فيه الأصوليون عن علي بن أبي طالب أنه قال : من شرب الخمر هذى وإذا هذى افترى فأرى عليه حد المُفتري.
قلت : ذكره العلامة ابن التلمساني في المسألة الثانية من الباب التاسع. قال : وساعده عمر ( وغيره ).
قال ابن عرفة : وهذا هو اعتبار جنس العلة في عين الحكم لأن الهذيان مظنة الافتراء باعتبار جنس المظنة في عين حد الخمر فجعله ثمانين بعد ما كان أربعين قياسا على حد القذف.
(6/50)
قلت : وذكر ابن التلمساني هذا في المسألة ( الثانية ) من الباب التاسع ومثله باعتبار جنس المشقة في إسقاط قضاء الرّكعتين عن المسافر قياسا على إسقاط القضاء على الحائض.
قال ابن عرفة : وجعله الأصوليون من القياس في الأسباب وقياس الكفارات من القياس في المقادير الذي لهم فيه قولان.
قال : وهذا اجتهاد من الصحابة لفهمهم عن النبي صلى الله عليه وسلم ( أنّ حده لشاربه ) أربعين اجتهاد لا نصّ ، وكذا ما ورد أنه ضربه ( بالجريد ) فخافوا اختلاف المجتهدين وأجمعوا على هذا الحد فكان قطعا للنزاع.
ابن عطية : عن بعضهم حرمت الخمرة بهذه الآية لقوله : {إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق} واقتضت هذه الآية أنّ الخمرة فيها الإثم فيستنتج التحريم ، ثم أبطله هو بأنّ التّحريم حينئذ صار بمجموع الآيتين لا أنّه بهذه ( وحدها ) لأن هذه إنّما فيها الإثم فقط لا التحريم ، وكذا قال القرطبي. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 281}
بحوث مهمة
آثار القمار المشؤومة
أضرار القمار لا تخفى على أحد ، ولمزيد من التوضيح نذكر باختصار جانباً من المآسي المترتّبة على هذه الظاهرة الخطرة :
أ : القمار أكبر عوامل الهياج والانفعال
يجمع علماء النفس على أنّ الهياج النفسي هو العامل الأساسي في كثير من الأمراض ، مثل : نقص الفيتامينات ، وقرحة المعدة ، والجنون ، والأمراض العصبية والنفسية الخفيفة والحادّة. والقمار أكبر عامل على إثارة الهياج ، حتّى أنّ عالماً أمريكياً يقول : في أمريكا يموت ألفا شخص سنوياً نتيجة هياج القمار ، وقلب لاعب البوكر "نوع من القمار" تزيد عدد ضرباته على مائة ضربة في الدقيقة ، وقد يؤدّي القمار إلى سكتة قلبيّة ودماغيّة أيضاً ، ومن المؤكّد أنّه يدفع إلى شيخوخة مبكّرة.
(6/51)
إضافة إلى ما سبق فإنّ المقامر ـ كما يقول العلماء ـ يصاب بتوتّر روحي ، بل أنّ جميع أجهزة جسمه تصاب بحالة استثنائيّة ، كأن يزداد ضربان القلب وتزداد نسبة السكّر في الدم ، ويختلّ ترشّح الغدد الداخلية ، ويشحب لون الوجه ، وتقلّ الشهية ، ويمرّ المقامر بعد اللعب بفترة حرب أعصاب وحالة أزمة نفسية ، وقد يلجأ إلى الخمور والمخدّرات لتهدئة أعصابه ، فيزيد في الطين بلّة وتتضاعف بذلك أضرار القمار.
ويقول عالم آخر : المقامر إنسان مريض يحتاج إلى إشراف نفسي مستمر ، ويجب تفهيمه بأنّ الفراغ الروحي هو الذي يدفعه لهذا العمل الشنيع ، كي يتّجه لمعالجة نفسه.
ب : علاقة القمار بالجرائم
إحدى مؤسسات الإحصاء الكبرى ذكرت : أنّ 30 بالمائة من الجرائم ناتجة مباشرة عن القمار ، و70 بالمائة من الجرائم ناتجة بشكل غير مباشر عن القمار أيضاً.
ج : الأضرار الاقتصادية للقمار
الملايين بل المليارات من ثروات الأفراد تبدّد سنوياً على هذا الطريق ، إضافة إلى المقدار الهائل من الوقت ومن الطاقات الإنسانية.
وجاء في أحد التقارير : في مدينة "مونت كارلو" حيث توجد أكبر دور القمار في العالم ، خسر شخص خلال مدّة 19 ساعة من اللعب المستمر أربعة ملايين دولار ، وحين أُغلقت دار القمار اتّجه مباشرة إلى الغابة ، وانتحر بإطلاق رصاصة على رأسه ، ويضيف التقرير : أنّ غابات "مونت كارلو" تشهد باستمرار انتحار مثل هؤلاء الخاسرين.
د : الأضرار الاجتماعية للقمار
القمار يصدّ أصحابه عن التفكير بالعمل الجادّ الإنتاجي المثمر في الحقل الاقتصادي ، ويشدّهم دائماً إلى أمل الحصول على ثروة طائلة بدون عناء عن طريق القمار ، وهذا يؤدّي إلى إهدار الطاقات الإنتاجية لهؤلاء المقامرين وبالتالي إلى ضعف الإنتاج على قدر نسبتهم.
المقامرون وعوائلهم يعيشون عادة حياة طفيلية في الجانب الاقتصادي ولا ينتجون ، بل يجنون ثمار الآخرين ، وقد يضطرّون في حالات الإفلاس إلى السرقة.
(6/52)
أضرار القمار فادحة إلى درجة دفعت حتّى ببعض البلدان غير الإسلامية إلى إعلان منعه ، كما حدث في بريطانيا عام 1853 ، وأمريكا عام 1855 ، والإتحاد السوفيتي عام 1854 ، والمانيا عام 1873.
ولابأس أن نشير في الخاتمة إلى إحصائية أجراها بعض المحقّقين تذكر أنّ القمار وراء 90 بالمائة من السرقات ، و10 بالمائة من المفاسد الخلقية ، و40 بالمائة من الإعتداءات بالضرب والجرح ، و15 بالمائة من الجرائم الجنسية ، و30 بالمائة من الطلاق ، و5 بالمائة من عمليات الإنتحار.
لو أردنا أن نعرّف القمار تعريفاً شاملاً علينا أن نقول : إنّه إهدار للمال والشرف ، للحصول على أموال الآخرين بالخدعة والتزْوير ، وللترويج عن النفس أحياناً ، ثمّ عدم الحصول على كلا الهدفين. أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 120ـ 122}(6/53)
قوله تعالى : {وَيَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما ذكر ما يذهب ضياء الروح وقوام البدن وذم النفقة فيهما اقتضى الحال السؤال عما يمدح الإنفاق فيه فقال عاطفاً على السؤال عن المقتضي لتبذير المال {ويسئلونك ماذا ينفقون} وأشعر تكرير السؤال عنها بتكرير الواردات المقتضية لذلك ، فأنبأ ذلك بعظم شأنها لأنها أعظم دعائم الجهاد وساق ذلك سبحانه وتعالى على طريق العطف لأنه لما تقدم السؤال عنه والجواب في قوله : {قل ما أنفقتم من خير فللوالدين} [ البقرة : 215 ] ، منع من توقع سؤال آخر ، وأما اليتامى والمحيض فلم يتقدم ما يوجب توقع السؤال عن السؤال عنهما أصلاً ، وادعاء أن سبب العطف النزول جملة وسبب القطع النزول مفرقاً مع كونه غير شاف للغلة بعدم بيان الحكمة يرده ما ورد أن آخر آية نزلت {واتقوا يوماً ترجعون فيه إلى الله} [ البقرة : 281 ] وهي بالواو أخرجه البيهقي في الدلائل والواحدي من وجهين في مقدمة أسباب النزول وترجم لها البخاري في الصحيح ومن تتبع أسباب النزول وجد كثيراً من ذلك. وقال الحرالي : في العطف إنباء بتأكد التلدد مرتين كما في قصة بني إسرائيل ، لكن ربما تخوفت هذه الأمة من ثالثتها فوقع ضمهم عن السؤال في الثالثة لتقاصر ما يقع في هذه الأمة عما وقع في بني إسرائيل بوجه ما ، وقال سبحانه وتعالى في الجواب : {قل العفو} وهو ما سمحت به النفس من غير كلفة قال : فكأنه ألزم النفس نفقة العفو وحرضها على نفقة ما تنازع فيه ولم يلزمها ذلك لئلا يشق عليها لما يريده بهذه الأمة من اليسر ، فصار المنفق على ثلاث رتب : رتبة حق مفروض لا بد منه وهي الصدقة المفروضة التي إمساكها هلكة في الدنيا والآخرة ، وفي مقابلته عفو لا ينبغي الاستمساك به لسماح النفس بفساده فمن أمسكه تكلف إمساكه ، وفيما بينهما ما تنازع النفس إمساكه فيقع لها المجاهدة في إنفاقه وهو متجرها الذي تشتري به الآخرة من دنياها " قالت امرأة للنبي صلى الله عليه وسلم : ما يحل لنا من أموال أزواجنا - تسأل(6/54)
عن الإنفاق منها ، قال : الرُطْب - بضم الراء وسكون الطاء - تأكلينه وتهدينه " لأنه من العفو الذي يضر إمساكه بفساده ؛ لأن الرطب هو ما إذا أبقي ين يوم إلى يوم تغير كالعنب والبطيخ وفي معناه الطبائخ وسائر الأشياء التي تتغير بمبيتها - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 415 ـ 416}
قال الفخر :
اعلم أن هذا السؤال قد تقدم ذكره فأجيب عنه بذكر المصرف وأعيد ههنا فأجيب عنه بذكر الكمية ، قال القفال : قد يقول الرجل لآخر يسأله عن مذهب رجل وخلقه ما فلان هذا ؟ فيقول : هو رجل من مذهبه كذا ، ومن خلقه كذا إذا عرفت هذا فنقول : كان الناس لما رأوا الله ورسوله يحضان على الإنفاق ويدلان على عظيم ثوابه ، سألوا عن مقدار ما كلفوا به ، هل هو كل المال أو بعضه ، فأعلمهم الله أن العفو مقبول. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 42}
قال ابن عاشور :
{وَيَسْئلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} كان سؤالهم عن الخمر والميسر حاصلاً مع سؤالهم {ماذا ينفقون} ، فعطفت الآية التي فيها جَوابُ سؤالهم {ماذا ينفقون} على آية الجواب عن سؤال الخمر والميسر ، ولذلك خولف الأسلوب الذي سلف في الآيات المختلفة بجمل {يسألونك} بدون عطف فجيء بهذه معطوفة بالواو على التي قبلها.
ومناسبة التركيب أن النهي عن الخمر والميسر يتوقع منه تعطل إنفاق عظيم كان ينتفع به المحاويج ، فبينت لهم الآية وجه الإنفاق الحق.
فائدة
قال البقاعى : (6/55)
وفي تخصيص المنفق بالعفو منع لمتعاطي الخمر قبل حرمتها من التصرف ، إذ كان الأغلب أن تكون تصرفاته لا على هذا الوجه ، لأن حالة السكر غير معتد بها والتصرف فيها يعقب في الأغلب عند الإفاقة أسفاً وكذا الميسر بل هو أغلظ. ولعل تأخير بيان أن المحثوث عليه من النفقة إنما هو الفضل إلى هذا المحل ليحمل أهل الدين الرغبة فيه مع ما كانوا فيه من الضيق على الإيثار على النفس من غير أمر به رحمة لهم ، ومن أعظم الملوحات إلى ذلك أن في بعض الآيات الذاكرة له فيما سلف {وآتى المال على حبه} [ البقرة : 177 ]. قال الأصبهاني : قال أهل التفسير : كان الرجل بعد نزول هذه الآية إذا كان له ذهب أو فضة أو زرع أو ضرع ينظر ما يكفيه وعياله لنفقة سنة أمسكه وتصدق بسائره ، فإن كان ممن يعمل بيده أمسك ما يكفيه وعياله يومه ذلك وتصدق بالباقي حتى نزلت آية الزكاة فنسختها هذه الآية. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 416 ـ 417}
فصل
قال الواحدي رحمه الله : أصل العفو في اللغة الزيادة ، قال تعالى : {خُذِ العفو} [ الأعراف : 199 ] أي الزيادة ، وقال أيضاً : {حتى عَفَواْ} [ الأعراف : 95 ] أي زادوا على ما كانوا عليه من العدد قال القفال : العفو ما سهل وتيسر مما يكون فاضلاً عن الكفاية يقال : خذ ما عفا لك ، أي ما تيسر ويشبه أن يكون العفو عن الذنب راجعاً إلى التيسر والتسهيل ، قال عليه الصلاة والسلام : " عفوت لكم عن صدقة الخيل والرقيق فهاتوا ربع عشر أموالكم " معناه التخفيف بإسقاط زكاة الخيل والرقيق ، ويقال : أعفى فلان فلاناً بحقه إذا أوصله إليه من غير إلحاح في المطالبة ، وهو راجع إلى التخفيف ويقال : أعطاه كذا عفواً صفواً ، إذا لم يكدر عليه بالأذى ، ويقال : خذ من الناس ما عفا لك أي ما تيسر ، ومنه قوله تعالى : (6/56)
{خُذِ العفو} [ الأعراف : 199 ] أي ما سهل لك من الناس ، ويقال للأرض السهلة : العفو وإذا كان العفو هو التيسير فالغالب أن ذلك إنما يكون فيما يفضل عن حاجة الإنسان في نفسه وعياله ومن تلزمه مؤنتهم فقول من قال : العفو هو الزيادة راجع إلى التفسير الذي ذكرناه وجملة التأويل أن الله تعالى أدب الناس في الإنفاق فقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام : {وَءاتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذّرْ تَبْذِيرًا إِنَّ المبذرين كَانُواْ إخوان الشياطين} [ الإسراء : 26 ، 27 ] وقال : {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [ الإسراء : 29 ] وقال : {والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ} [ الفرقان : 67 ] وقال صلى الله عليه وسلم : " إذا كان عند أحدكم شيء فليبدأ بنفسه ، ثم بمن يعول وهكذا وهكذا " وقال عليه الصلاة والسلام : " خير الصدقة ما أبقت غنى ولا يلام على كفاف " وعن جابر بن عبد الله قال بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذ جاءه رجل بمثل البيضة من ذهب فقال : يا رسول الله خذها صدقة فوالله لا أملك غيرها ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أتاه من بين يديه ، فقال : هاتها مغضباً فأخذها منه ، ثم حذفه بها حيث لو أصابته لأوجعته ، ثم قال : " يأتيني أحدكم بماله لا يملك غيره ، ثم يجلس يتكفف الناس إنما الصدقة عن ظهر غنى خذها فلا حاجة لنا فيها " ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحبس لأهله قوت سنة ، وقال الحكماء : الفضيلة بين طرفي الإفراط والتفريط ، فالإنفاق الكثير هو التبذير ، والتقليل جداً هو التقتير ، والعدل هو الفضيلة وهو المراد من قوله : {قُلِ العفو} ومدار شرع محمد صلى الله عليه وسلم على رعاية هذه الدقيقة فشرع اليهود مبناه على الخشونة التامة ، وشرع النصارى على المسامحة التامة ، وشرع محمد(6/57)
صلى الله عليه وسلم متوسط في كل هذه الأمور ، فلذلك كان أكمل من الكل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 42}
قال ابن عاشور :
وأل في العفو للجنس المعروف للسامعين ، والعفو مقول عليه بالتشكيك ؛ لأنه يتبع تعيينَ ما يحتاجه المنفق والناسُ في ذلك متفاوتون ، وجعل الله العفو كلَّه منفقاً ترغيباً في الإنفاق وهذا دليل على أن المراد من الإنفاق هنا الإنفاق المتطوع به ، إذ قد تضافرت أدلة الشريعة وانعقد إجماع العلماء على أنه لا يجب على المسلم إنفاق إلا النفقات الواجبة وإلا الزكوات وهي قد تكون من بعض ما يفضل من أموال أهل الثروة إلا ما شذ به أبو ذَر ، إذ كان يرى كنز المال حراماً وينادي به في الشام فشكاه معاوية لعثمان فأمر عثمان بإرجاعه من الشام إلى المدينة ثم إسكانه بالربذة بطلب منه ، وقد اجتهد عثمان ليسد باب فتنة ، وعن قيس بن سعد أن هذه الآية في الزكاة المفروضة ، وعلى قوله يكون ( أل ) في العفو للعهد الخارجي وهو نماء المال المقدر بالنصاب. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 352}
قال الماوردى :
وفي قوله تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ} ستة تأويلات :
أحدها : بما فضل عن الأهل ، وهو قول أبن عباس.
والثاني : أنه الوسط في النفقة ما لم يكن إسرافاً أو إقتاراً ، وهو قول الحسن.
والرابع : إن العفو أن يؤخذ منهم ما أتوا به من قليل أو كثير ، وهو قول مروي عن ابن عباس أيضاً.
والخامس : أنه الصدقة عن ظهر غِنى ، وهو قول مجاهد.
والسادس : أنه الصدقة المفروضة وهو مروي عن مجاهد أيضاً. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 277 ـ 278}
قال العلامة ابن العربى :
وَأَسْعَدُ هَذِهِ الْأَقْوَالِ [ بِالتَّحْقِيقِ ] وَبِالصِّحَّةِ مَا عَضَّدَتْهُ اللُّغَةُ ، وَأَقْوَاهَا عِنْدِي الْفَضْلُ ، لِلْأَثَرِ الْمُتَقَدِّمِ.
[ وَلِلنَّظَرِ ] ، وَهُوَ أَنَّ الرَّجُلَ إذَا تَصَدَّقَ بِالْكَثِيرِ نَدِمَ وَاحْتَاجَ ، فَكِلَاهُمَا مَكْرُوهٌ شَرْعًا ، فَإِعْطَاءُ الْيَسِيرِ حَالَةً بَعْدَ حَالَةٍ أَوْقَعُ فِي الدِّينِ وَأَنْفَعُ فِي الْمَالِ ؛ وَقَدْ {جَاءَ أَبُو لُبَابَةَ إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِجَمِيعِ مَالِهِ ، وَكَذَلِكَ كَعْبٌ ، فَقَالَ لَهُمَا : الثُّلُثُ}.أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 303}(6/58)
قال فى البحر المديد
يقول الحقّ جلّ جلاله : {ويسألونك} ما القدر الذي ينفقونه ؟ {قل} لهم : هو {العفو} أي : السهل الذي لا مشقة في إعطائه ، ولا ضرر على المعطي في فقده ، رُوِي أن رجلاً أتى النبيّ صلى الله عليه وسلم بقدر بَيْضة من الذهب ، فقال : خُذها عني صَدقَة ، فأعرض عنه ، حتى كَرَّر مِرَاراً ، فقال : هاتها ، مُغْضَبَا ، فحذفها حذفاً لو أصابه لشجَّه ، فقال : " يأتي أحدكم بماله كله يتصدّق به ، ويجلس يتكفَّفُ الناس ، إنما الصدقةُ عن ظَهْرِ غِنَى " قاله البيضاوي مختصراً.
قلت : وهذا يختلف باختلاف اليقين ؛ فقد تصدّق الصدِّيقُ رضي الله عنه بماله كله ، وعمر رضي الله عنه بنصف ماله ، فأقرهما ورَدّ فعلَ غيرهما ، فدلَّ ذلك على أن العفو يختلف باختلاف الأشخاص ، على حسب اليقين. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 119}
فصل فى المراد بهذا الإنفاق
قال الفخر :
اختلفوا في أن المراد بهذا الإنفاق هو الإنفاق الواجب أو التطوع ، أما القائلون بأنه هو الإنفاق الواجب ، فلهم قولان الأول : قول أبي مسلم يجوز أن يكون العفو هو الزكاة فجاء ذكرها ههنا على سبيل الإجمال ، وأما تفاصيلها فمذكورة في السنة الثاني : أن هذا كان قبل نزول آية الصدقات فالناس كانوا مأمورين بأن يأخذوا من مكاسبهم ما يكفيهم في عامهم ، ثم ينفقوا الباقي ، ثم صار هذا منسوخاً بآية الزكاة فعلى هذا التقدير تكون الآية منسوخة.
القول الثاني : أن المراد من هذا الإنفاق هو الإنفاق على سبيل التطوع وهو الصدقة واحتج هذا القائل بأنه لو كان مفروضاً لبين الله تعالى مقداره فلما لم يبين بل فوضه إلى رأي المخاطب علمنا أنه ليس بفرض.
وأجيب عنه : بأنه لا يبعد أن يوجب الله شيئاً على سبيل الإجمال ، ثم يذكر تفصيله وبيانه بطريق آخر.(6/59)
أما قوله : {كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} فمعناه أني بينت لكم الأمر فيما سألتم عنه من وجوه الإنفاق ومصارفه فهكذا أبين لكم في مستأنف أيامكم جميع ما تحتاجون. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 43}
قوله تعالى : {كذلك يبين الله لكم الآيات}
سؤال : لم قرن اسم الإشارة بعلامة البعد ؟
الجواب : قرن اسم الإشارة بعلامة البعد تعظيماً لشأن المشار إليه لكماله في البيان ، إذ هو بيان للحكم مع بيان علته حتى تتلقاه الأمة بطيب نفس ، وحتى يلحقوا به نظائره ، وبيان لقاعدة الإنفاق بما لا يشذ عن أحد من المنفقين ، ولكون الكاف لم يقصد بها الخطاب بل مجرد البعد الاعتباري للتعظيم لم يؤت بها على مقتضى الظاهر من خطاب الجماعة فلم يقل كذلكم على نحو قوله : {يبين الله لكم}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 353}
قوله تعالى : {كذلك يبين الله لكم الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِى الدنيا والأخرة}
المناسبة
قال البقاعى : (6/60)
لما بيّن الأحكام الماضية في هذه السورة أحسن بيان وفصل ما قص من جميع ما أراد أبدع تفصيل لا سيما أمر النفقة فإنها بينها مع أول السورة إلى هنا في أنواع من البيان على غاية الحكمة والإتقان كان موضع سؤال : هي يبين لنا ربنا غير هذا من الآيات كهذا البيان ؟ فقال : {كذلك} أي مثل ما مضى من هذا البيان العلي الرتبة البعيد المنال عن منازل الأرذال {يبين الله} الذي له جميع صفات الكمال {لكم} جميع {الآيات} قال الحرالي : فجمعها لأنها آيات من جهات مختلفات لما يرجع لأمر القلب وللنفس وللجسم ولحال المرء مع غيره - انتهى. وأفرد الخطاب أولاً وجمع ثانياً إعلاماً بعظمة هذا القول للإقبال به على الرأس ، وإيماء إلى أنه صلى الله عليه وسلم قد امتلأ علماً من قبل هذا بحيث لا يحتاج إلى زيادة وأن هذا البيان إنما هو للأتباع يتفهمونه على مقادير أفهامهم وهممهم ، ويجوز أن يكون الكلام تم بكذلك أي البيان ثم استأنف ما بعده فيكون البيان مذكوراً مرتين : مرة في خطابه تلويحاً ، وأخرى في خطابهم تصريحاً ؛ أو يقال : أشار إلى علو الخطاب بالإفراد وإلى عمومه بالجمع انتهى {لعلكم تتفكرون } أي لتكونوا على حالة يرجى لكم معها التفكر ، وهو طلب الفكر وهو يد النفس التي تنال بها المعلومات كما تنال بيد الجسم المحسوسات - قاله الحرالي.
ولما كان البيان من أول السؤال إلى هنا قد شفي في أمور الدارين وكفى وأوضح ثمرات كل منهما وكان العرب ينكرون الآخرة ساق ذكرها مساق ما لا نزاع فيه لكثرة ما دل عليها فقال : {في الدنيا والآخرة} أي في أمورهما فتعلموا بما فتح الله لكم سبحانه وتعالى من الأبواب وما أصل لكم من الأصول ما هو صالح وما هو أصلح وما هو شر وما هو أشر لتفعلوا الخير وتتقوا الشر فيؤول بكم ذلك إلى فوز الدارين. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 417}
قال السمرقندى :
{كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} ، يعني أمره ونهيه كما يبين لكم أمر الصدقة. {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ}. {فِى الدنيا والاخرة} ، يعني في الدنيا أنها لا تبقى ولا تدوم ، ولا يدوم إلا العمل الصالح ؛ وفي الآخرة أنها تدوم وتبقى ولا تزول. وقال بعضهم : معناه كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا ، لعلكم تتفكرون في الآخرة. (1) أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 171}
_____________
(1) لا يخفى ما فى هذا الوجه من الضعف والوهن والبعد لاشتماله على تقطيع أوصال النظم الكريم ، ولو صح فلماذا عدل عنه القرآن ؟؟!!!
والله أعلم بمراد كلامه.(6/61)
قال ابن عاشور :
واللام في {لكم} للتعليل والأجل وهو امتنان وتشريف بهذه الفضيلة لإشعاره بأن البيان على هذا الأسلوب مما اختصت به هاته الأمة ليتلقوا التكاليف على بصيرة بمنزلة الموعظة التي تلقى إلى كامل العقل موضحة بالعواقب ، لأن الله أراد لهاته الأمة أن يكون علماؤها مشرعين. وبين فائدة هذا البيان على هذا الأسلوب بقوله : {لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة} أي ليحصل للأمة تفكر وعلم في أمور الدنيا وأمور الآخرة ، لأن التفكر مظروف في الدنيا والآخرة ، فتقدير المضاف لازم بقرينة قوله {والآخرة} إذ لا معنى لوقوع التفكر يوم القيامة فلو اقتصر على بيان الحظر والوجوب والثواب والعقاب لكان بيانا للتفكر في أمور الآخرة خاصة ولو اقتصر على بيان المنافع والمضار بأن قيل : قل فيهما نفع وضر لكان بياناً للتفكر في أمور الدنيا خاصة ، ولكن ذكر المصالح والمفاسد والثواب والعقاب تذكير بمصلحتي الدارين ، وفي هذا تنويه بشأن إصلاح أمور الأمة في الدنيا ، ووقع في كلام لعلي بن أبي طالب وقد ذم رجل الدنيا عنده فقال له : "الدنيا دار صدق لمن صدقها ودار نجاة لمن فهم عنها ودار غنى لمن تزود منها ومهبط وحي الله ومصلى ملائكته ومسجد أنبيائه فمن ذا الذي يذمها وقد آذنت ببينها الخ".(6/62)
ولا يخفى أن الذي يصلح للتفكر هو الحكم المنوط بالعلة وهو حكم الخمر والميسر ثم ما نشأ عنه قوله : {ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو}.
ويجوز أن تكون الإشارة بقوله {كذلك لكون الإنفاق من العفو وهو ضعيف ، لأن ذلك البيان لا يظهر فيه كمال الامتنان حتى يجعل نموذجاً لجليل البيانات الإلهية وحتى يكون محل كمال الامتنان وحتى تكون غايته التفكر في الدنيا والآخرة ، ولا يعجبكم كونه أقرب لاسم الإشارة ، لأن التعليق بمثل هاته الأمور اللفظية في نكت الإعجاز إضاعة للألباب وتعلق بالقشور. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 353 ـ 354}
وقال الفخر :
وقوله : {لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِى الدنيا والأخرة} فيه وجوه الأول : قال الحسن : فيه تقديم وتأخير ، والتقدير : كذلك يبين الله لكم الآيات في الدنيا والآخرة لعلكم تتفكرون والثاني : {كذلك يُبيّنُ الله لَكُمُ الآيات} فيعرفكم أن الخمر والميسر فيهما منافع في الدنيا ومضار في الآخرة فإذا تفكرتم في أحوال الدنيا والآخرة علمتم أنه لا بد من ترجيح الآخرة على الدنيا الثالث : يعرفكم أن إنفاق المال في وجوه الخير لأجل الآخرة وإمساكه لأجل الدنيا فتتفكرون في أمر الدنيا والآخرة وتعلمون أنه لا بد من ترجيح الآخرة على الدنيا.
واعلم أنه لما أمكن إجراء الكلام على ظاهره كما قررناه في هذين الوجهين ففرض التقديم والتأخير على ما قاله الحسن يكون عدولاً عن الظاهر لا لدليل وأنه لا يجوز. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 43}
قال الثعالبى :
وقوله تعالى : {كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ} : الإِشارة إِلى ما تقدَّم تبيينُهُ من الخَمْر والمَيْسِر ، والإِنفاق ، وأخبر تعالى ؛ أنه يبيِّن للمؤمنين الآياتِ التي تقودُهم إِلى الفِكْرة في الدنيا والآخرة ، وذلك طريقُ النجاة لمن نفعته فكْرته.(6/63)
قال الداووديّ : وعن ابن عبَّاس : لعلَّكم تتفكَّرون في الدنيا والآخرةِ ، يعني : في زوال الدنْيا وفنائِها ، وإِقبال الآخرة وبقائِها. انتهى.
قال الغَزَّالِيُّ - رحمه اللَّه - تَعَالَى : العَاقِل لا يغفُلُ عن ذكْر الآخرةِ في لَحْظة ؛ فإِنها مصيره ومستقرُّه ، فيكون لَهُ في كلِّ ما يراه من ماءٍ ، أو نارٍ ، أو غيرهما عبرةٌ ؛ فإن نظر إلى سوادٍ ، ذكر ظلمة اللَّحْد ، وإِن نَظَر إِلى صورة مروِّعة ، تذكَّر مُنْكَراً ونكيراً والزبانيةَ ، وإِن سمع صوتاً هائلاً ، تذكَّر نفخة الصُّور ، وإِنْ رأى شيئاً حسَناً ، تذكَّر نعيم الجنَّة ، وإِن سمع كلمةَ ردٍّ أو قَبُولٍ ، تذكَّر ما ينكشفُ لَهُ من آخر أمره بعد الحسَابِ ؛ من ردٍّ أو قبول ، ما أجدر أن يكون هذا هو الغالِبَ على قَلْبِ العاقِلِ ، لا يصرفُهُ عنه إِلاَّ مُهِمَّاتُ الدنيا ، فإِذا نسب مدةَ مُقَامه في الدُّنْيا إِلى مدة مُقَامه في الآخِرة ، استحقر الدنيا إِنْ لم يكُنْ أغفل قلبه ، وأعميتْ بصيرته. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 170}
موعظة
قال ابن عجيبة
{كذلك يبن الله لكم الآيات} أي : مثل هذا التبيين الذي ذكرنا ، {يُبين} لكم الآيات ، حتى لا يترك إشكالاً ولا وهماً ، {لعلكم تتفكرون} بعقولكم ، وتأخذون بما يعود نفعه عليهكم ، فتتفكرون {في الدنيا} وسرعة ذهابها وتقلبها بأهلها ، إذا أقبلت كانت فتنة ، وإذا أدبرت كانت حسرة ، لا يفي طالبُها بمقصوده منها ولو ملكها بحذافيرها ، ضيقة الزمان والمكان ، عمارتها إلى الخراب ، وشأنها إلى انقلاب ، سريعة الزوال ، وشيكة الانتقال ، فتزهدون فيها وترفعون همتكم عنها.(6/64)
وفي الحديث عنه صلى الله عليه وسلم : " مَالِي وللدنيا ، إنما مَثَلي ومثلُ الدنيا كرجلٍ سَافَرَ في يوم صَائِفٍ ، فاسْتَظَلَّ تحت شَجَرةٍ ، ثم رَاحَ وَتَرَكَها " وفي صحف إبراهيم عليه السلام : " عجبت لمن أيقن بالموت كيف يفرح ، عجبت لمن أيقن بالنار كيف يضحك ، عجبت لمن أيقن بالقدر كيف ينصب - أي : يتعب - عجبت لمن رأى الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ". وأنشدوا :
ألا إنَّما الدنيا كأحْلاَمِ نَائِم... وكُلُّ نعيمٍ ليسَ فيها بِدَائِم
تَذَكَّرْ إذا ما نِلْتَ بالأمس لَذَّةً... فأفْنَيْتَها هل أنتَ إلا كَحَالِمِ
وتتفكرون في {الآخرة} ودوام نعيمها ، وسعة فضائها ، وبهجة منظرها ؛ فترغبون في الوصول إليه ، وتتأهبون للقائها ، فتؤثرونها على هذه الدار الفانية. قال بعض الحكماء : لو كانت الدنيا من ذهب يفنى ، والآخرة من طين يبقى ، لكان ينبغي للعاقل أن يختار ما يبقى على ما يفنى ، لا سيما والأمر بالعكس ، الدنيا من طين يفنى ، والآخرة من ذهب يبقى ، فلا يختار هذه الدار إلاَّ أحمق خسيس الهمة ، وبالله التوفيق. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 119}
قوله تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى : (6/65)
ولما كان العفو غير مقصور على المال بل يعم القوى البدنية والعقلية وكان النفع لليتيم من أجل ما يرشد إليه التفكر في أمور الآخرة وكان الجهاد من أسباب القتل الموجب لليتم وكانوا يلون يتاماهم فنزل التحريج الشديد في أكل أموالهم فجانبوهم واشتد ذلك عليهم سألوا عنهم فأفتاهم سبحانه وتعالى فيهم وندبهم إلى مخالطتهم على وجه الإصلاح الذي لا يكون لمن يتعاطى الخمر والميسر فقال : {ويسئلونك عن اليتامى} أي في ولايتهم لهم وعملهم في أموالهم وأكلهم منها ونحو ذلك مما يعسر حصره ؛ وأمره بالجواب بقوله : {قل إصلاح لهم خير} أي من تركه ، ولا يخفى الإصلاح على ذي لب فجمع بهذا الكلام اليسير المضبوط بضابط العقل الذي أقامه تعالى حجة على خلقه ما لا يكاد يعد ، وفي قوله : {لهم} ما يشعر بالحث على تخصيصهم بالنظر في أحوالهم ولو أدى ذلك إلى مشقة على الولي. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 418}
قال الفخر : (6/66)
إن أهل الجاهلية كانوا قد اعتادوا الانتفاع بأموال اليتامى وربما تزوجوا باليتيمة طمعاً في مالها أو يزوجها من ابن له لئلا يخرج مالها من يده ، ثم إن الله تعالى أنزل قوله : {إِنَّ الذين يَأْكُلُون أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً} [ النساء : 10 ] وأنزل في الآيات : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مّنَ النساء} [ النساء : 3 ] وقوله : {ويستفتونك في النساء قل الله بفتيكم فيهن وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء اللآتي لا تؤتونهن ما كتب لهن وترغبون أن تنكحوهن ، والمستضعفين من الولدان ، وأن تقوموا لليتامى بالقسط ، وما تفعلوا من خير فإن الله كان به عليماً} [ النساء : 127 ] وقوله : {وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتى هِىَ أَحْسَنُ} [ الأنعام : 152 ] فعند ذلك ترك القوم مخالطة اليتامى ، والمقاربة من أموالهم ، والقيام بأمورهم ، فعند ذلك اختلت مصالح اليتامى وساءت معيشتهم ، فثقل ذلك على الناس ، وبقوا متحيرين إن خالطوهم وتولوا أمر أموالهم ، استعدوا للوعيد الشديد ، وإن تركوا وأعرضوا عنهم ، اختلت معيشة اليتامى ، فتحير القوم عند ذلك.
ثم ههنا يحتمل أنهم سألوا الرسول عن هذه الواقعة ، يحتمل أن السؤال كان في قلبهم ، وأنهم تمنوا أن يبين الله لهم كيفية الحال في هذا الباب ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، ويروى أنه لما نزلت تلك الآيات اعتزلوا أموال اليتامى ، واجتنبوا مخالطتهم في كل شيء ، حتى كان يوضع لليتيم طعام فيفضل منه شيء فيتركونه ولا يأكلونه حتى يفسد ، وكان صاحب اليتيم يفرد له منزلاً وطعاماً وشراباً فعظم ذلك على ضعفة المسلمين ، فقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله مالنا منازل تسكنها الأيتام ولا كلنا يجد طعاماً وشراباً يفردهما لليتيم ، فنزلت هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 44}
وقال ابن عاشور : (6/67)
روي أن السائل عن اليتامى عبد الله بن رواحة ، وأخرج أبو داود عن ابن عباس لما نزل قول الله عز وجل : {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} [ الإسراء : 34 ] {إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما}
(6/68)
[ النساء : 10 ] الآيات انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم فذكر ذلك لرسول الله فأنزل الله {ويسألونك عن اليتامى} الآية مع أن سورة النساء نزلت بعد سورة البقرة ، فلعل ذكر آية النساء وهم من الراوي وإنما أراد أنه لما نزلت الآيات المحذرة من مال اليتيم مثل آية سورة الإسراء ( 34 ) {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن ففي تفسير الطبري} بسنده إلى ابن عباس : لما نزلت : {ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن} عزلوا أموال اليتامى فذكروا ذلك لرسول الله فنزلت {وإن تخالطوهم} أو أن مراد الراوي لما سمع الناس آية سورة النساء تجنبوا النظر في اليتامى فذكروا بآية البقرة إن كان السائل عن آية البقرة غير المتجنب حين نزول آية النساء وأياً ما كان فقد ثبت أن النظر في مصالح الأيتام من أهم مقاصد الشريعة في حفظ النظام فقد كان العرب في الجاهلية كسائر الأمم في حال البساطة يكون المال بيد كبير العائلة فقلما تجد لصغير مالاً ، وكان جمهور أموالهم حاصلاً من اكتسابهم لقلة أهل الثروة فيهم ، فكان جمهور العرب إما زارعاً أو غارساً أو مغيراً أو صائداً ، وكل هذه الأعمال تنقطع بموت مباشريها ، فإذا مات كبير العائلة وترك أبناء صغاراً لم يستطيعوا أن يكتسبوا كما اكتسب آباؤهم إلا أبناء أهل الثروة ، والثروة عندهم هي الأنعام والحوائط إذ لم يكن العرب أهل ذهب وفضة وإن الأنعام لا تصلح إلا بمن يرعاها فإنها عروض زائلة وإن الغروس كذلك ولم يكن في ثروة العرب ملك الأرض إذ الأرض لم تكن مفيدة إلا للعامل فيها ، على أن من يتولى أمر اليتيم يستضعفه ويستحل ماله فينتفع به لنفسه ، وكرم العربي وسرفه وشربه وميسره لا تغادر له مالاً وإن كثر. وتغلُّب ذلك على مِلاك شهوات أصحابه فلا يستطيعون تركه يدفعهم إلى تطلب إرضاء نهمتهم بكل وسيلة فلا جرم أن يصبح(6/69)
اليتيم بينهم فقيراً مدحوراً ، وزد إلى ذلك أن أهل الجاهلية قد تأصل فيهم الكبر على الضعيف وتوقير القوى فلما عدم اليتيم ناصره ومن يذب عند كان بحيث يعرض للمهانة والإضاعة ويتخذ كالعبد لوليه ، من أجل ذلك كله صار وصف اليتيم عندهم ملازماً لمعنى الخصاصة والإهمال والذل ، وبه يظهر معنى امتنان الله تعالى على نبيه أن حفظه في حال اليتم مما ينال اليتامى في قوله : {ألم يجدك يتيماً فآوى} [ الضحى : 6 ]. فلما جاء الإسلام أمرَهم بإصلاح حال اليتامى في أموالهم وسائر أحوالهم حتى قيل إن أولياء اليتامى تركوا التصرف في أموالهم واعتزلوا اليتامى ومخالطتهم فنزلت هذه الآية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 354 ـ 355}
قوله تعالى : {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ}
قال الفخر :
قوله : {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} فيه وجوه أحدها : قال القاضي : هذا الكلام يجمع النظر في صلاح مصالح اليتيم بالتقويم والتأديب وغيرهما ، لكي ينشأ على علم وأدب وفضل لأن هذا الصنع أعظم تأثيراً فيه من إصلاح حاله بالتجارة ، ويدخل فيه أيضاً إصلاح ماله كي لا تأكله النفقة من جهة التجارة ، ويدخل فيه أيضاً معنى قوله تعالى : {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} [ النساء : 2 ] ومعنى قوله : {خَيْرٌ} يتناول حال المتكفل ، أي هذا العمل خير له من أن يكون مقصراً في حق اليتيم ، ويتناول حال اليتيم أيضاً ، أي هذا العمل خير لليتيم من حيث أنه يتضمن صلاح نفسه ، وصلاح ماله ، فهذه الكلمة جامعة لجميع مصالح اليتيم والولي.
فإن قيل : ظاهر قوله : {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} لا يتناول إلا تدبير أنفسهم دون مالهم.(6/70)
قلنا : ليس كذلك لأن ما يؤدي إلى إصلاح ماله بالتنمية والزيادة يكون إصلاحاً له ، فلا يمتنع دخوله تحت الظاهر ، وهذا القول أحسن الأقوال المذكورة في هذا الموضع وثانيها : قول من قال : الخبر عائد إلى الولي ، يعني إصلاح أموالهم من غير عوض ولا أجرة خير للولي وأعظم أجراً له ، والثالث : أن يكون الخبر عائداً إلى اليتيم ، والمعنى أن مخالطتهم بالإصلاح خير لهم من التفرد عنهم والإعراض عن مخالطتهم ، والقول الأول أولى ، لأن اللفظ مطلق فتخصيصه ببعض الجهات دون البعض ، ترجيح من غير مرجح وهو غير جائز ، فوجب حمله على الخيرات العائدة إلى الولي ، وإلى اليتيم في إصلاح النفس ، وإصلاح المال ، وبالجملة فالمراد من الآية أن جهات المصالح مختلفة غير مضبوطة ، فينبغي أن يكون عين المتكفل لمصالح اليتيم على تحصيل الخير في الدنيا والآخرة لنفسه ، واليتيم في ماله وفي نفسه ، فهذه كلمة جامعة لهذه الجهات بالكلية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 44}
سؤال : لم وصف الإصلاح بـ {لهم} دون الإضافة ، فلم يقل إصلاحهم ؟ (6/71)
الجواب : وصف الإصلاح بـ {لهم} دون الإضافة إذ لم يقل إصلاحهم لئلا يتوهم قصره على إصلاح ذواتهم لأن أصل إضافة المصدر أن تكون لذات الفاعل أو ذات المفعول فلا تكون على معنى الحرف ، ولأن الإضافة لما كانت من طرق التعريف كانت ظاهرة في عهد المضاف فعدل عنها لئلا يتوهم أن المراد إصلاح معين كما عدل عنها في قوله : {ايتوني بأخ لكم من أبيكم} [ يوسف : 59 ] ولم يقل بأخيكم ليوهمهم أنه لم يرد أخاً معهوداً عنده ، والمقصود هنا جميع الإصلاح لا خصوص إصلاح ذواتهم فيشمل إصلاح ذواتهم وهو في الدرجة الأولى ويتضمن ذلك إصلاح عقائدهم وأخلاقهم بالتعليم الصحيح والآداب الإسلامية ومعرفة أحوال العالم ، ويتضمن إصلاح أمزجتهم بالمحافظة عليهم من المهلكات والأخطار والأمراض وبمداواتهم ، ودفع الأضرار عنهم بكفاية مؤنهم من الطعام واللباس والمسكن بحسب معتاد أمثالهم دون تقتير ولا سرف ، ويشمل إصلاح أموالهم بتنميتها وتعهدها وحفظها. ولقد أبدع هذا التعبير ، فإنه لو قيل إصلاحهم لتوهم قصره على ذواتهم فيحتاج في دلالة الآية على إصلاح الأموال إلى القياس ولو قيل قل تدبيرهم خير لتبادر إلى تدبير المال فاحتيج في دلالتها على إصلاح ذواتهم إلى فحوى الخطاب. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 356}
فائدة
قال ابن عاشور :
و{خير في الآية يحتمل أن يكون أفعل تفضيل إن كان خطاباً للذين حملهم الخوف من أكل أموال اليتامى على اعتزال أمورهم وترك التصرف في أموالهم بعلة الخوف من سوء التصرف فيها كما يقال :
إن السلامة من سلمى وجارتها... أن لا تحل على حاللٍ بواديها(6/72)
فالمعنى إصلاح أمورهم خير من إهمالهم أي أفضل ثواباً وأبعد عن العقاب ، أي خير في حصول غرضكم المقصود من إهمالهم فإنه ينجر منه إثم الإضاعة ولا يحصل فيه ثواب السعي والنصيحة ، ويحتمل أن يكون صفة مقابل الشر إن كان خطاباً لتغيير الأحوال التي كانوا عليها قبل الإسلام ، فالمعنى إصلاحهم في أموالهم وأبدانهم وترك إضاعتهم في الأمرين كما تقدم خير ، وهو تعريض بأن ما كانوا عليه في معاملتهم ليس بخير بل هو شر ، فيكون مراداً من الآية على هذا : التشريع والتعريض إذ التعريض يجامع المعنى الأصلي ، لأنه من باب الكناية والكناية تقع مع إرادة المعنى الأصلي. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 356 ـ 357}
قوله تعالى : {وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان ذلك قد يكون مع مجانبتهم وكانوا قد يرغبون في نكاح يتيماتهم قال : {وإن تخالطوهم} أي بنكاح أو غيره ليصير النظر في الصلاح مشتركاً بينكم وبينهم ، لأن المصالح صارت كالواحدة. قال الحرالي : وهي رتبة دون الأولى ، والمخالطة مفاعلة من الخلطة وهي إرسال الأشياء التي شأنها الانكفاف بعضها في بعض كأنه رفع التحاجز بين ما شأنه ذلك {فإخوانكم} جمع أخ وهو الناشىء مع أخيه من منشأ واحد على السواء بوجه ما - انتهى. أي فعليكم من مناصحتهم ما يقودكم الطبع إليه من مناصحة الإخوان ويحل لكم من الأكل من أموالهم بالمعروف وما يحل من أموال إخوانكم ؛ قالت عائشة رضي الله عنها : إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي كالغدة حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي. قالوا : وإذا كان هذا في أموال اليتامى واسعاً كان في غيرهم أوسع ، وهو أصل شاهد لما يفعله الرفاق في الأسفار ، يخرجون النفقات بالسوية ويتباينون في قلة المطعم وكثرته - نقله الأصبهاني. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 418 ـ 419}
فائدة لغوية(6/73)
والمخالطة مفاعلة من الخلط وهو جمع الأشياء جمعاً يتعذر معه تمييز بعضها عن بعض فيما تراد له ، فمنه خلط الماء بالماء والقمح والشعير وخلط الناس ومنه اختلط الحابل بالنابل ، وهو هنا مجاز في شدة الملابسة والمصاحبة والمراد بذلك ما زاد على إصلاح المال والتربية عن بعد فيشمل المصاحبة والمشاركة والكفالة والمصاهرة إذ الكل من أنواع المخالطة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 357}
فصل في بيان وجوه المخالطة
قال الفخر :
في تفسير الآية وجوه أحدها : المراد : وإن تخالطوهم في الطعام والشراب والمسكن والخدم فإخوانكم ، والمعنى : أن القوم ميزوا طعامه عن طعام أنفسهم ، وشرابه عن شراب أنفسهم ومسكنه عن مسكن أنفسهم ، فالله تعالى أباح لهم خلط الطعامين والشرابين ، والاجتماع في المسكن الواحد ، كما يفعله المرء بمال ولده ، فإن هذا أدخل في حسن العشرة والمؤالفة ، والمعنى وإن تخالطوهم بما لا يتضمن إفساد أموالهم فذلك جائز وثانيها : أن يكون المراد بهذه المخالطة أن ينتفعوا بأموالهم بقدر ما يكون أجره مثل ذلك العمل والقائلون بهذا القول منهم من جوز ذلك سواء كان القيم غنياً أو فقيراً ، ومنهم من قال : إذا كان القيم غنياً لم يأكل من ماله لأن ذلك فرض عليه وطلب الأجرة على العمل الواجب لا يجوز ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} وأما إن كان القيم فقيراً فقالوا إنه يأكل بقدر الحاجة ويرده إذا أيسر ، فإن لم يوسر تحلله من اليتيم ، وروي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : أنزلت نفسي من مال الله تعالى بمنزلة ولي اليتيم : إن استغنيت استعففت ، وإن افتقرت أكلت قرضاً بالمعروف ثم قضيت ، وعن مجاهد أنه إذا كان فقيراً وأكل بالمعروف فلا قضاء عليه.(6/74)
القول الثالث : أن يكون معنى الآية إن يخلطوا أموال اليتامى بأموال أنفسهم على سبيل الشركة بشرط رعاية جهات المصلحة والغبطة للصبي.
والقول الرابع : وهو اختيار أبي مسلم : أن المراد بالخلط المصاهرة في النكاح ، على نحو قوله : {وَإِنْ خِفْتُمْ أَن لا تُقْسِطُواْ فِى اليتامى فانكحوا} [ النساء : 3 ] وقوله عز من قائل : {وَيَسْتَفْتُونَكَ فِى النساء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِى الكتاب فِى يتامى النساء}
[ النساء : 127 ] قال وهذا القول راجح على غيره من وجوه أحدها : أن هذا القول خلط لليتيم نفسه والشركة خلط لماله وثانيها : أن الشركة داخلة في قوله : {قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} والخلط من جهة النكاح ، وتزويج البنات منهم لم يدخل في ذلك ، فحمل الكلام في هذا الخلط أقرب وثالثها : أن قوله تعالى : {فَإِخوَانُكُمْ} يدل على أن المراد بالخلط هو هذا النوع من الخلط ، لأن اليتيم لو لم يكن من أولاد المسلمين لوجب أن يتحرى صلاح أمواله كما يتحراه إذا كان مسلماً ، فوجب أن تكون الإشارة بقوله : {فَإِخوَانُكُمْ} إلى نوع آخر من المخالطة
ورابعها : أنه تعالى قال بعد هذه الآية : {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} [ البقرة : 221 ] فكان المعنى أن المخالطة المندوب إليها إنما هي في اليتامى الذين هم لكم إخوان بالإسلام فهم الذين ينبغي أن تناكحوهم لتأكيد الألفة ، فإن كان اليتيم من المشركات فلا تفعلوا ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 45}
وقال أبو حيان :
وقد اكتنف هذه المخالطة الإصلاح قبل وبعد ، فقبل بقوله : {قل إصلاح له خير} وبعد بقوله : {والله يعلم المفسد من المصلح} فالأولى أن يراد بالمخالطة ما فيه إصلاح لليتيم بأي طريق كان ، من مخالطة في مطعم أو مسكن أو متاجرة أو مشاركة أو مضاربة أو مصاهرة أو غير ذلك. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 171}
قال البغوى : (6/75)
{فَإِخْوَانُكُم} أي فهم إخوانكم ، والإخوان يعين بعضهم بعضا ويصيب بعضهم من أموال بعض على وجه الإصلاح والرضا. أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 1 صـ 254}
وقال أبو السعود :
{فَإِخوَانُكُمْ} أي فهم إخوانُكم أي في الدين الذي هو أقوى من العلاقة النسبية ، ومن حقوق الأخوة ومواجبها المخالطةُ بالإصلاح والنفعِ ، وقد حُمل المخالطةُ على المصاهرة. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 220}
قال ابن عاشور :
وقوله {فإخوانكم} جواب الشرط ولذلك قرن بالفاء لأن الجملة الاسمية غير صالحة لمباشرة أداة الشرط ولذلك ف ( إخوانكم ) خبر مبتدأ محذوف تقديره فهم إخوانكم ، وهو على معنى التشبيه البليغ ، والمراد بالأخوة أخوة الإسلام التي تقتضي المشاورة والرفق والنصح. ونقل الفخر عن الفراء "لو نصبته كان صواباً بتقدير فإخوانكم تخالطون" وهو تقدير سمج ، ووجود الفاء في الجواب ينادي على أن الجواب جملة اسمية محضة ، وبعد فمحمل كلام الفراء على إرادة جواز تركيب مثله في الكلام العربي لا على أن يقرأ به ، ولعل الفراء كان جريئاً على إساغة قراءة القرآن بما يسوغ في الكلام العربي دون اشتراط صحة الرواية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 357}
وقال العلامة أبو حيان :
وجواب الشرط : فإخوانكم ، وهو خبر مبتدأ محذوف أي : فهم إخوانكم ، وقرأ أبو مجلز : فإخوانكم على إضمار فعل التقدير : فتخالطون إخوانكم ، وجاء جواب السؤال بجملتين : إحداهما : منعقدة من مبتدأ وخبر ؛ والثانية : من شرط وجزاء.
فالأولى : تتضمن إصلاح اليتامى وأنه خير ، وأبرزت ثبوتية منكراً مبتدأها ليدل على تناوله كل إصلاح على طريق البدلية ، ولو أضيف لعم ، أو لكان معهوداً في إصلاح خاص ، فالعموم لا يمكن وقوعه ، والمعهود لا يتناول غيره ، فلذلك جاء التنكير الدال على عموم البدل ، وأخبر عنه : بخير ، الدال على تحصيل الثواب ، ليبادر المسلم إلى فعل ما فيه الخير طلباً لثواب الله تعالى.(6/76)
وأبرزت الثانية : شرطية لأنها أتت لجواز الوقوع لا لطلبه وندبته.
ودل الجواب الأول على ضروب من الأحكام مما فيه مصلحة اليتيم ، لجواز تعليمه أمر دين وأدب ، والاستيجار له على ذلك ، وكالإنفاق عليه من ماله ، وقبول ما يوهب له ، وتزويجه ومؤاجرته ، وبيعه ماله لليتيم ، وتصرفه في ماله بالبيع والشراء ، وفي عمله فيه بنفسه مضاربة ، ودفعه إلى غيره مضاربة ، وغير ذلك من التصرفات المنوطة بالإصلاح.
ودل الجواب الثاني على جواز مخالطة اليتامى بما فيه إصلاح لهم ، فيخلطه بنفسه في مناكحه وماله بماله في مؤونة وتجارة وغيرهما.
قيل : وقد انتظمت الآية على جواز المخالطة ، فدلت على جواز المناهدة التي يفعلها المسافرون في الأسفار ، وهي أن يخرج هذا شيئاً من ماله ، وهذا شيئاً من ماله فيخلط وينفق ويأكل الناس ، وإن اختلف مقدار ما يأكلون ، وإذا أبيح لك في مال اليتيم فهو في مال البالغ بطيب نفسه أجوز.
ونظير جواز المناهدة قصة أهل الكهف : {فابعثوا أحدكم بورقكم} الآية ، وقد اختلف في بعض الأحكام التي قدمناها ، فمن ذلك : شراء الوصي من مال اليتيم ، والمضاربة فيه ، وإنكاح الوصي بيتيمته من نفسه ، وإنكاح اليتيم لابنته ، وهذا مذكور في كتب الفقه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 172}
لطيفة
قال أبو حيان :
قيل : وجعلهم إخواناً لوجهين : أحدهما : أخوة الدين ، والثاني : لانتفاعهم بهم ، إما في الثواب من الله تعالى وإما بما يأخذونه من أجرة عملهم في أموالهم ، وكل من نفعك فهو أخوك.
وقال الباقر لشخص : رأيتك في قوم لم أعرفهم ، فقال : هم إخواني ، فقال : أفيهم من إذا احتجت أدخلت يدك في كمه فأخذت منه من غير استئذان ؟ قال : لا ، قال : إذن لستم بإخوان.
وفي قوله : {فإخوانكم} دليل على أن أطفال المؤمنين مؤمنون في الأحكام لتسمية الله تعالى إياهم إخواناً لنا. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 172}
فائدة
قال فى روح البيان : (6/77)
ويؤدب اليتيم الذى فى حجره كتأديبه ولده فإنه مسئول عنه يوم القيامة ويصلح حاله
والتأديب على أنواع. منها الوعيد. ومنها الضرب. ومنها حبس المنافع والعطية والبر فإن بين النفوس تفاوتا فنفس تخضع بالغلظة والشدة ولو استعملت معها الرفق والبر لأفسدها ونفس بالعكس وقد جعل الله الحدود والتعزير لتأديب العباد على قدر ما يأتون من المنكر فأدب الأحرار إلى السلطان وأدب المماليك والأولاد إلى السادات والآباء وهو مأجور على التأديب ومسئول عنه قال الله تعالى {قوا أنفسكم وأهليكم نارا} وفى الحديث " كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته ". أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 424}
قوله تعالى : {وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان ذلك مما قد يدخل فيه الشر الذي يظهر فاعله أنه لم يرد به إلا الخير وعكسه قال مرغباً مرهباً : {والله} أي الذي له الإحاطة بكل شيء {يعلم} أي في كل حركة وسكون.
ولما كان الورع مندوباً إليه محثوثاً عليه لا سيما في أمر اليتامى فكان التحذير بهذا المقام أولى قال : {المفسد} أي الذي الفساد صفة له {من المصلح} فاتقوا الله في جميع الأمور ولا تجعلوا خلطتكم إياهم ذريعة إلى أكل أموالهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 419}
فصل في هل يتصرف في مال اليتيم
قال القرطبيُّ :
لما أذن الله عزَّ وجلَّ في مخالطة الأيتام مع قصد الإصلاح بالنَّظر إليهم وفيهم ، كان ذلك دليلاً على جواز التَّصرف في مال اليتيم تصرف الوصيّ في البيع ، والقسمة ، وغير ذلك على الإطلاق لهذه الآية ، فإذا كفل الرَّجل اليتيم ، وحازه ، وكان في نظره ، جاز عليه فعله وإن لم يقدّمه والٍ عليه ؛ لأنَّ الآية مطلقة والكفالة ولاية عامَّة ، ولم يؤثر عن أحدٍ من الخلفاء أنَّه قدّم أحداً على يتيم مع وجودهم في أزمنتهم ، وإنَّما كانوا يقتصرون على كونهم عندهم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 63}
قال الفخر :(6/78)
أما قوله : {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح} فقيل : المفسد لأموالهم من المصلح لها ، وقيل : يعلم ضمائر من أراد الإفساد والطمع في مالهم بالنكاح من المصلح ، يعني : إنكم إذا أظهرتم من أنفسكم إرادة الإصلاح فإذا لم تريدوا ذلك في قلوبكم بل كان مرادكم منه غرضاً آخر فالله مطلع على ضمائركم عالم بما في قلوبكم ، وهذا تهديد عظيم ، والسبب أن اليتيم لا يمكنه رعاية الغبطة لنفسه ، وليس له / أحد يراعيها فكأنه تعالى قال : لما لم يكن له أحد يتكفل بمصالحه فأنا ذلك المتكفل وأنا المطالب لوليه ، وقيل : والله يعلم المصلح الذي يلي من أمر اليتيم ما يجوز له بسببه الانتفاع بماله ويعلم المفسد الذي لا يلي من إصلاح أمر اليتيم ما يجوز له بسببه الانتفاع بماله ، فاتقوا أن تتناولوا من مال اليتيم شيئاً من غير إصلاح منكم لمالهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 46}
قال ابن عاشور : (6/79)
وقوله : {والله يعلم المفسد من المصلح} وعد ووعيد ، لأن المقصود من الأخبار بعلم الله الإخبار بترتب آثار العلم عليه ، وفي هذا إشارة إلى أن ما فعله بعض المسلمين من تجنب التصرف في أموال اليتامى تنزه لا طائل تحته لأن الله يعلم المتصرف بصلاح والمتصرف بغير صلاح وفيه أيضاً ترضية لولاة الأيتام فيما ينالهم من كراهية بعض محاجيرهم وضربهم على أيديهم في التصرف المالي وما يلاقون في ذلك من الخصاصة ، فإن المقصد الأعظم هو إرضاء الله تعالى لا إرضاء المخلوقات ، وكان المسلمون يومئذٍ لا يهتمون إلاّ بمرضاة الله تعالى وكانوا يحاسبون أنفسهم على مقاصدهم ، وفي هذه إشارة إلى أنه ليس من المصلحة أن يعرض الناس عن النظر في أموال اليتامى اتقاء لألسنة السوء ، وتهمة الظن بالإثم فلو تمالأ الناس على ذلك وقاية لأعراضهم لضاعت اليتامى ، وليس هذا من شأن المسلمين فإن على الصلاح والفساد دلائل ووراء المتصرفين عدالة القضاة وولاة الأمور يجازون المصلح بالثناء والحمد العلن ويجازون المفسد بالبعد بينه وبين اليتامى وبالتغريم بما أفاته بدون نظر. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 357 ـ 358}
فوائد لغوية
قال أبو حيان :
{والله يعلم المفسد من المصلح} جملة معناها التحذير ، أخبر تعالى فيها أنه عالم بالذي يفسد من الذي يصلح ، ومعنى ذلك : أنه يجازي كلاً منهما على الوصف الذي قام به ، وكثيراً ما ينسب العلم إلى الله تعالى على سبيل التحذير ، لأن من علم بالشيء جازى عليه ، فهو تعبير بالسبب عن المسبب ، و: يعلم ، هنا متعدٍ إلى واحد ، وجاء الخبر هنا بالفعل المقتضي للتجدد ، وإن كان علم الله لا يتجدد ، لأنه قصد به العقاب والثواب للمفسد والمصلح ، وهما وصفان يتجدّدان من الموصوف بهما ، فتكرر ترتيب الجزاء عليهما لتكررهما ، وتعلق العمل بالمفسد أولاً ليقع الإمساك عن الإفساد.(6/80)
ومن ، متعلقة بيعلم على تضمين ما يتعدّى بمن ، كأن المعنى : والله يميز بعلمه المفسد من المصلح.
وظاهر الألف واللام أنها للاستغراق في جميع أنواع المفسد والمصلح ، والمصلح في مال اليتيم من جملة مدلولات ذلك ، ويجوز أن تكون الألف واللام للعهد ، أي : المفسد في مال اليتيم من المصلح فيه ، والمفسد بالإهمال في تربيته من المصلح له بالتأديب ، وجاءت هذه الجملة بهذا التقسيم لإن المخالطة على قسمين : مخالطة بإفساد ، ومخالطة بإصلاح. ولأنه لما قيل : {قل إصلاح لهم خير} فهم مقابله ، وهو أن الإفساد شر ، فجاء هذا التقسيم باعتبار الإصلاح. ومقابله. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 172}
قوله تعالى : {ولو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان هذا أمراً لا يكون في بابه أمر أصلح منه ولا أيسر منّ عليهم بشرعه في قوله : {ولو شاء الله} أي بعظمة كماله {لأعنتكم} أي كلفكم في أمرهم وغيره ما يشق عليكم مشقة لا تطاق فحد لكم حدوداً وعينها يصعب لوقوف عندها وألزمكم لوازم يعسر تعاطيها ، من الإعنات وهو إيقاع العنت وهو أسوأ الهلاك الذي يفحش نعته - قاله الحرالي. ثم علل ذلك بقوله : {إن الله} أي الملك الأعظم {عزيز} يقدر على ما يريد {حكيم} يحكمه بحيث لا يقدر أحد على نقض شيء منه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 419}
قال الفخر : (6/81)
"الإعنات" الحمل على مشقة لا تطاق يقال : أعنت فلان فلاناً إذا أوقعه فيما لا يستطيع الخروج منه وتعنته تعنتاً إذا لبس عليه في سؤاله ، وعنت العظم المجبور إذا انكسر بعد الجبر وأصل {العنت} من المشقة ، وأكمة عنوت إذا كانت شاقة كدوداً ، ومنه قوله تعالى : {عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ} [ التوبة : 128 ] أي شديد عليه ما شق عليكم ، ويقال أعنتني في السؤال أي شدد علي وطلب عنتي وهو الإضرار وأما المفسرون فقال ابن عباس : لو شاء الله لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً وقال عطاء : ولو شاء الله لأدخل عليكم المشقة كما أدخلتم على أنفسكم ولضيق الأمر عليكم في مخالطتهم ، وقال الزجاج : ولو شاء الله لكلفكم ما يشتد عليكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 46}
قال الآلوسى :
{وَلَوْ شَاء الله لاعْنَتَكُمْ} أي لضيق عليكم ولم يجوز لكم مخالطتهم ، أو لجعل ما أصبتم من أموال اليتامى موبقاً قاله ابن عباس رضي الله تعالى عنه وأصل الإعنات الحمل على مشقة لا تطاق ثقلاً ، ويقال : عنت العظم عنتاً إذا أصابه وهن أو كسر بعد جبر ، وحذف مفعول المشيئة لدلالة الجواب عليه ، وفي ذلك إشعار بكمال لطفه سبحانه ورحمته حيث لم يعلق مشيئته بما يشق علينا في اللفظ أيضاً ، وفي الجملة تذكير بإحسانه تعالى على أوصياء اليتامى. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 117}
قال أبو حيان :
في وصفه تعالى بالعزة ، وهو الغلبة والاستيلاء ، إشارة إلى أنه مختص بذلك لا يشارك فيه ، فكأنه لما جعل لهم ولاية على اليتامى نبههم على أنهم لا يقهرونهم ، ولا يغالبونهم ، ولا يستولون عليهم استيلاء القاهر ، فإن هذا الوصف لا يكون إلاَّ لله.(6/82)
وفي وصفه تعالى بالحكمة إشارة إلى أنه لا يتعدّى ما أذن هو تعالى فيهم وفي أموالهم ، فليس لكم نظر إلاَّ بما أذنت فيه لكم الشريعة ، واقتضته الحكمة الإلهية. إذ هو الحكيم المتقن لما صنع وشرع ، فالإصلاح لهم ليس راجعاً إلى نظركم ، إنما هو راجع لاتباع ما شرع في حقهم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 172}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {إن الله عزيز حكيم} تذييل لما اقتضاه شرط ( لو ) من الإمكان وامتناع الوقوع أي إن الله عزيز غالب قادر فلو شاء لكلفكم العنت ، لكنه حكيم يضع الأشياء مواضعها فلذا لم يلكفكموه. وفي جمع الصفتين إشارة إلى أن تصرفات الله تعالى تجري على ما تقتضيه صفاته كلها وبذلك تندفع إشكالات عظيمة فيما يعبَّر عنه بالقضاء والقدر. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 358 ـ 359}
وقال الآلوسى :
{إنَّ الله عَزِيزٌ} غالب على أمره لا يعجزه أمر من الأمور التي من جملتها إعناتكم {حَكِيمٌ} فاعل لأفعاله حسبما تقتضيه الحكمة وتتسع له الطاقة التي هي أساس التكليف ، وهذه الجملة تذييل وتأكيد لما تقدم من حكم النفي والإثبات أي ولو شاء لأعنتكم لكون غالباً لكنه لم يشأ لكونه حكيماً. وفي الآية كما قال إلكيا دليل لمن جوز خلط مال الولي بمال اليتيم والتصرف فيه بالبيع والشراء ودفعه مضاربة إذا وافق الإصلاح ، وفيها دلالة على جواز الاجتهاد في أحكام الحوادث لأن الإصلاح الذي تضمنته الآية إنما يعلم من الاجتهاد وغلبة الظن وفيها دلالة على أنه لا بأس بتأديب اليتيم وضربه بالرفق لإصلاحه ووجه مناسبتها لما قبلها أنه سبحانه لما ذكر السؤال عن الخمر والميسر وكان في تركها مراعاة لتنمية المال ناسب ذلك النظر في حال اليتيم فالجامع بين الآيتين أن في ترك الخمر والميسر إصلاح أحوالهم أنفسهم ، وفي النظر في أحوال اليتامى إصلاحاً لغيرهم ممن هو عاجز أن يصلح نفسه فمن ترك ذلك وفعل هذا فقد جمع بين النفع لنفسه ولغيره. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 117}(6/83)
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ...}.
ابن عرفة : تضمنت الآية أنّ للموصى في خلطه بمال اليتيم ثلاث حالات : النظر في المصلحة ، والنظر في المفسدة ، والنظر المطلق.
والأول مستفاد من قوله : " قٌلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ ".
والثاني من قوله : " والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح ".
والثالث من لفظ " إِخْوَانُكُمْ " فإنه يقتضي التساوي. والظاهر أن " خير " مبتدأ " وإصلاح " خبر لتكون ( الخبرية ) محصورة فيه. ولو جعلنا " إصلاح " مبتدأ " وخير " خبرا لاحتمل أمرين :
أحدهما : أن يراد أن الفساد خير لأن ( المختلقات ) يمكن اجتماعها في شيء واحد. والثاني : أن الكفارات خير.
قوله تعالى : {والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح...}.
في الآية سؤال وهو أن القاعدة في التمييز أن يميز القليل من الكثير وتقرر في الوجود وفي الشرع أن الفساد أكثر من الصلاح.
قال الله عز وجل في سورة غافر : {إِنَّ الساعة لأَتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ} قال ابن عرفة : والجواب أنه باعتبار الطلب لا باعتبار الوجود الخارجي فنبه بالآية على أنّ المطلوب تكثير الصّلاح وتقليل الفساد حتى يكون في الوجود أكثر من الفساد.
قيل لابن عرفة : أو إشارة إلى عموم علم الله تعالى ما قلتموه في السؤال إنما يكون في المخلوقين لقصورهم وعجز إدراكهم ، فيكون تمييز القليل من الكثير أهون عليهم من العكس.
قلت : أو يجاب بأن الآية خرجت مخرج التخويف فالمناسب فيها تعلق العلم والقدرة بالمفسد ليميز من المصلح. انتهى.
قوله تعالى : {وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
قال ابن عرفة : وهي حجة لأهل السنة في قوله : إن تكليف ما لا يطاق جائز غير واقع.
قيل له : قد تقدم لكم أن الشرط يتركب من المحال ؟
(6/84)
فقال : إن الآية خرجت مخرج التمدح بكمال قدرة الله تعالى والامتنان على خلقه بتيسير التكليف ، والتَّمدح إنما يكون بالجائز.
وهذا نظير جواب الجزري المتقدم في {مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ.}
أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 283}
قوله تعالى : {وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان الورع مندوباً إليه محثوثاً عليه لا سيما في أمر اليتامى فكان التحذير بهذا المقام أولى قال : {المفسد} أي الذي الفساد صفة له {من المصلح} فاتقوا الله في جميع الأمور ولا تجعلوا خلطتكم إياهم ذريعة إلى أكل أموالهم.
(6/85)
ولما كان هذا أمراً لا يكون في بابه أمر أصلح منه ولا أيسر منّ عليهم بشرعه في قوله : {ولو شاء الله} أي بعظمة كماله {لأعنتكم} أي كلفكم في أمرهم وغيره ما يشق عليكم مشقة لا تطاق فحد لكم حدوداً وعينها يصعب لوقوف عندها وألزمكم لوازم يعسر تعاطيها ، من الإعنات وهو إيقاع العنت وهو أسوأ الهلاك الذي يفحش نعته - قاله الحرالي. ثم علل ذلك بقوله : {إن الله} أي الملك الأعظم {عزيز} يقدر على ما يريد {حكيم } يحكمه بحيث لا يقدر أحد على نقض شيء منه. ولما ذكر تعالى فيما مر حلّ الجماع في ليل الصيام وأتبع ذلك من أمره ما أراد إلى أن ذكر المخالطة على وجه يشمل النكاح في سياق مانع مع الفساد داع إلى الصلاح وختم بوصف الحكمة ولما كان النكاح من معظم المخالطة في النفقة وغيرها وكان الإنسان جهولاً تولى سبحانه وتعالى بحكمته تعريفه ما يصلح له وما لا يصلح من ذلك ، وأخر أمر النكاح عن بيان ما ذكر معه من الأكل والشرب في ليل الصيام لأن الضرورة إليهما أعظم ، وقدمه في آية الصيام لأن النفس إليه أميل فقال عاطفاً على ما دل العطف على غير مذكور على أن تقديره : فخالطوهم وأنكحوا من تلونه من اليتيمات على وجه الإصلاح إن أردتم {ولا تنكحوا} قال الحرالي : مما منه النكاح وهو إيلاج نهد في فرج ليصيرا بذلك كالشيء الواحد - انتهى. وهذا أصله لغة ، والمراد هنا العقد لأنه استعمل في العقد في الشرع وكثر استعماله فيه وغلب حتى صار حقيقة شرعية فهو في الشرع حقيقة في العقد مجاز في الجماع وفي اللغة بالعكس وسيأتي عند {حتى تنكح زوجاً غيره} [ البقرة : 230 ] عن الفارسي قرينة يعرف بها مراد أهل اللغة {المشركات} أي الوثنيات ، والأكثر على أن الكتابيات مما شملته الآية ثم خصت بآية {والمحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم} [ المائدة : 5 ] {حتى يؤمن} فإن المشركات شر محض {ولأمة} رقيقة {مؤمنة} لأن نفع الإيمان أمر ديني يرجع إلى(6/86)
الآخرة الباقية {خير} على سبيل التنزيل {من مشركة} حرة {ولو أعجبتكم} أي المشركة لأن نفع نسبها ومالها وجمالها يرجع إلى الدنيا الدنية الفانية. قال الحرالي : فانتظمت هذه الآيات في تبيين خير الخيرين وترجيح أمر الغيب في أمر الدين والعقبى في أدنى الإماء من المؤمنات خلقاً وكوناً وظاهر صورة على حال العين في أمر العاجلة من الدنيا في أعلى الحرائر من المشركات خلقاً وظاهر صورة وشرف بيت - انتهى {ولا تنكحوا} أيها الأولياء {المشركين} أي الكفار بأي كفر كان شيئاً من المسلمات {حتى يؤمنوا} فإن الكفار شر محض {ولعبد} أي مملوك {مؤمن خير} على سبيل التنزيل {من مشرك} حر {ولو أعجبكم} أي المشرك وأفهم هذا خيرية الحرة والحر المؤمنين من باب الأولى مع التشريف العظيم لهما بترك ذكرهما إعلاماً بأن خيريتهما أمر مقطوع به لا كلام فيه وأن المفاضلة إنما هي بين من كانوا يعدونه دنيا فشرفه الإيمان ومن يعدونه شريفاً فحقره الكفران ، وكذلك ذكر الموصوف بالإيمان في الموضعين ليدل على أنه وإن كان دنيا موضع التفضيل لعلو وصفه ، وأثبت الوصف بالشرك في الموضعين مقتصراً عليه لأنه موضع التحقير وإن علا في العرف موصوفه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 419 ـ 420}
وقال ابن عاشور : (6/87)
كان المسلمون أيام نزول هذه السورة ما زالوا مختلطين مع المشركين بالمدينة وما هم ببعيد عن أقربائهم من أهل مكة فربما رغب بعضهم في تزوج المشركات أو رغب بعض المشركين في تزوج نساء مسلمات فبين الله الحكم في هذه الأحوال ، وقد أوقع هذا البيان بحكمته في أرشق موقعه وأسعده به وهو موقع تعقيب حكم مخالطة اليتامى ، فإن للمسلمين يومئذٍ أقاربَ وموالي لم يزالوا مشركين ومنهم يتامى فقَدوا آباءهم في يوم بدر وما بعده فلما ذكر الله بيان مخالطة اليتامى ، وكانت المصاهرة من أعظم أحوال المخالطة تطلعت النفوس إلى حكم هاته المصاهرة بالنسبة للمشركات والمشركين ، فعطف حكم ذلك على حكم اليتامى لهاته المناسبة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 359}
قال الفخر :
الحكم السادس
فيما يتعلق بالنكاح
اعلم أن هذه الآية نظير قوله : {وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر} [ الممتحنة : 10 ] وقرىء بضم التاء ، أي لا تزوجوهن وعلى هذه القراءة لا يزوجونهن.
واعلم أن المفسرين اختلفوا في أن هذه الآية ابتداء حكم وشرع ، أو هو متعلق بما تقدم ، فالأكثرون على أنه ابتداء شرع في بيان ما يحل ويحرم ، وقال أبو مسلم : بل هو متعلق بقصة اليتامى ، فإنه تعالى لما قال : {وَإِن تُخَالِطُوهُمْ فإخوانكم} [ البقرة : 220 ] وأراد مخالطة النكاح عطف عليه ما يبعث على الرغبة في اليتامى ، وأن ذلك أولى مما كانوا يتعاطون من الرغبة في المشركات ، وبين أن أمة مؤمنة خير من مشركة وإن بلغت النهاية فيما يقتضي الرغبة فيها ، ليدل بذلك على ما يبعث على التزوج باليتامى ، وعلى تزويج الأيتام عند البلوغ ليكون ذلك داعية لما أمر به من النظر في صلاحهم وصلاح أموالهم ، وعلى الوجهين فحكم الآية لا يختلف. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 47}
سبب نزول الآية(6/88)
قال ابن عباس : نزلت في عبد الله بن رواحة ، أعتق أمة وتزوّجها ، وكانت مسلمة ، فطعن عليه ناس من المسلمين ، فقالوا : نكح أمة ، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين رغبة في أحسابهم ، فنزلت. وقال مقاتل : نزلت في أبي مرثد الغنوي ، واسمه كناز بن الحصين ، وفي قول : إنه مرثد بن أبي مرثد ، وهو حليف لبني هاشم استأذن أن يتزوّج عناق ، وهي امرأة من قريش ذات حظ من جمال ، مشركة ، وقال : يا رسول الله إنها تعجبني ، وروي هذا السبب أيضاً عن ابن عباس بأطول من هذا.
وقيل : نزلت في حسناء وليدة سوداء لحذيفة بن اليمان ، أعتقها وتزوّجها ، ويحتمل أن يكون السبب جميع هذه الحكايات. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 173}
فصل فى لفظ النكاح
قال الفخر :
اختلف الناس في لفظ النكاح ، فقال أكثر أصحاب الشافعي رحمه الله : إنه حقيقة في العقد ، واحتجوا عليه بوجوه أحدها : قوله عليه الصلاة والسلام : " لا نكاح إلا بولي وشهود " وقف النكاح على الولي والشهود ، والمتوقف على الولي والشهود هو العقد لا الوطء ، والثاني : قوله عليه الصلاة والسلام : " ولدت من نكاح ولم أولد من سفاح " دل الحديث على أن النكاح كالمقابل للسفاح ، ومعلوم أن السفاح مشتمل على الوطء ، فلو كان النكاح اسماً للوطء لامتنع كون النكاح مقابلاً للسفاح وثالثها : قوله تعالى : {وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ والصالحين مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمائِكُمْ} [ النور : 32 ] ولا شك أن لفظ ( أنكحوا ) لا يمكن حمله إلا على العقد ، ورابعها : قول الأعشى ، أنشده الواحدي في "البسيط" :
فلا تقربن من جارة إن سرها.. عليك حرام فانكحن أو تأيما(6/89)
وقوله : {فانكحن} لا يحتمل إلا الأمر بالعقد ، لأنه قال : "لا تقربن جارة" يعني مقاربتها على الطريق الذي يحرم فاعقد وتزوج وإلا فتأيم وتجنب النساء ، وقال الجمهور من أصحاب أبي حنيفة : أنه حقيقة في الوطء ، واحتجوا عليه بوجوه أحدها : قوله تعالى : {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} نفي الحل ممتد إلى غاية النكاح ، والنكاح الذي تنتهي به هذه الحرمة ليس هو العقد بدليل قوله عليه الصلاة والسلام : " لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " فوجب أن يكون المراد منه هو الوطء وثانيها : قوله عليه الصلاة والسلام : " ناكح اليد ملعون وناكح البهيمة ملعون " أثبت النكاح مع عدم العقد وثالثها : أن النكاح في اللغة عبارة عن الضم والوطء ، يقال : نكح المطر الأرض إذا وصل إليها ، ونكح النعاس عينه ، وفي المثل أنكحنا الفرا فسترى ، وقال الشاعر :
التاركين على طهر نساءهم.. والناكحين بشطي دجلة البقرا
وقال المتنبي :
أنكحت صم حصاها خف يعملة.. تعثرت بي إليك السهل والجبلا
ومعلوم أن معنى الضم والوطء في المباشرة أتم منه في العقد ، فوجب حمله عليه ، ومن الناس من قال : النكاح عبارة عن الضم ، ومعنى الضم حاصل في العقد وفي الوطء ، فيحسن استعمال هذا اللفظ فيهما جميعاً ، قال ابن جني : سألت أبا علي عن قولهم : نكح المرأة ، فقال : فرقت العرب في الاستعمال فرقاً لطيفاً حتى لا يحصل الالتباس ، فإذا قالوا : نكح فلان فلانة : أرادوا أنه تزوجها وعقد عليها ، وإذا قالوا : نكح امرأته أو زوجته ، لم يريدوا غير المجامعة ، لأنه إذا ذكر أنه نكح امرأته أو زوجته فقد استغنى عن ذكر العقد ، فلم تحتمل الكلمة غير المجامعة ، فهذا تمام ما في هذا اللفظ من البحث ، وأجمع المفسرون على أن المراد من قوله : {وَلاَ تَنْكِحُواْ} في هذه الآية أي لا تعقدوا عليهن عقد النكاح. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 48}(6/90)
سؤال : لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب ؟
قال الفخر :
اختلفوا في أن لفظ المشرك هل يتناول الكفار من أهل الكتاب ، فأنكر بعضهم ذلك ، والأكثرون من العلماء على أن لفظ المشرك يندرج فيه الكفار من أهل الكتاب وهو المختار ، ويدل عليه وجوه أحدها : قوله تعالى : {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتِ النصارى المسيح ابن الله} [ التوبة : 30 ] ثم قال في آخر الآية : {سبحانه عَمَّا يُشْرِكُونَ} [ التوبة : 31 ] وهذه الآية صريحة في أن اليهودي والنصراني مشرك وثانيها : قوله تعالى : {إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء} [ النساء : 48 ] دلت هذه الآية على أن ما سوى الشرك قد يغفره الله تعالى في الجملة فلو كان كفر اليهودي والنصراني ليس بشرك لوجب بمقتضى هذه الآية أن يغفر الله تعالى في الجملة ، ولما كان ذلك باطلاً علمنا أن كفرهما شرك وثالثها : قوله تعالى : {لَّقَدْ كَفَرَ الذين قَالُواْ إِنَّ الله ثالث ثلاثة} [ المائدة : 73 ] فهذا التثليث إما أن يكون لاعتقادهم وجود صفات ثلاثة ، أو لاعتقادهم وجود ذوات ثلاثة ، والأول باطل ، لأن المفهوم من كونه تعالى عالماً غير المفهوم من كونه قادراً ومن كونه حياً ، وإذا كانت هذه المفهومات الثلاثة لا بد من الاعتراف بها ، كان القول بإثبات صفات ثلاثة من ضرورات دين الإسلام ، فكيف يمكن تكفير النصارى بسبب ذلك ، ولما بطل ذلك علمنا أنه تعالى إنما كفرهم لأنهم أثبتوا ذواتاً ثلاثة قديمة مستقلة ، ولذلك فإنهم جوزوا في أقنوم الكلمة أن يحل في عيسى ، وجوزوا في أقنوم الحياة أن يحل في مريم ولولا أن هذه الأشياء المسماة عندهم بالأقانيم ذوات قائمة بأنفسها ، لما جوزوا عليها الانتقال من ذات إلى ذات ، فثبت أنهم قائلون بإثبات ذوات قائمة بالنفس قديمة أزلية وهذا شرك ، وقول بإثبات الآلهة ، فكانوا مشركين ، وإذا ثبت دخولهم تحت اسم المشرك ؛ وجب أن يكون اليهودي كذلك ضرورة أنه لا قائل بالفرق(6/91)
ورابعها : ما روي أنه عليه الصلاة والسلام أمر أميراً وقال : إذا لقيت عدداً من المشركين فادعهم إلى الإسلام ، فإن أجابوك فاقبل منهم ، وإن أبوا فادعهم إلى الجزية وعقد الذمة ، فإن أجابوك فاقبل منهم وكف عنهم ، سمى من يقبل منه الجزية وعقد الذمة بالمشرك ، فدل على أن الذمي يسمى بالمشرك وخامسها : ما احتج به أبو بكر الأصم فقال : كل من جحد رسالته فهو مشرك ، من حيث إن تلك المعجزات التي ظهرت على يده كانت خارجة عن قدرة البشر ، وكانوا منكرين صدورها عن الله تعالى ، بل كانوا يضيفونها إلى الجن والشياطين ، لأنهم كانوا يقولون فيها : إنها سحر وحصلت من الجن والشياطين ، فالقوم قد أثبتوا شريكاً لله سبحانه في خلق هذه الأشياء الخارجة عن قدرة البشر ، فوجب القطع بكونهم مشركين لأنه لا معنى للإله إلا من كان قادراً على خلق هذه الأشياء ، واعترض القاضي فقال : إنما يلزم هذا إذا سلم اليهودي أن ما ظهر على يد محمد صلى الله عليه وسلم من الأمور الخارجة عن قدرة البشر ، فعند ذلك إذا أضافه إلى غير الله تعالى كان مشركاً ، أما إذا أنكر ذلك وزعم أن ما ظهر على يد محمد صلى الله عليه وسلم من جنس ما يقدر العباد عليه لم يلزم أن يكون مشركاً بسبب ذلك إلى غير الله تعالى.
والجواب : أنه لا اعتبار بإقراره أن تلك المعجزات خارجة عن مقدور البشر أم لا ، إنما الاعتبار يدل على أن ذلك المعجز خارج عن قدرة البشر ، فمن نسب ذلك إلى غير الله تعالى كان مشركاً ، كما أن إنساناً لو قال : إن خلق الجسم والحياة من جنس مقدور البشر ثم أسند خلق الحيوان والنبات إلى الأفلاك والكواكب كان مشركاً فكذا ههنا ، فهذا مجموع ما يدل على أن اليهودي والنصراني يدخلان تحت اسم المشرك ، واحتج من أباه بأن الله تعالى فصل بين أهل الكتاب وبين المشركين في الذكر ، وذلك يدل على أن أهل الكتاب لا يدخلون تحت اسم المشرك ، وإنما قلنا أنه تعالى فصل لقوله تعالى :
(6/92)
{إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أَشْرَكُواْ} [ الحج : 17 ] وقال أيضاً : {مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين} [ البقرة : 105 ] وقال : {لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين} [ البينة : 1 ] ففي هذه الآيات فصل بين القسمين وعطف أحدهما على الآخر ، وذلك يوجب التغاير.
(6/93)
والجواب : أن هذا مشكل بقوله تعالى : {وإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ} [ الأحزاب : 7 ] وبقوله تعالى : {مَن كَانَ عَدُوّا لّلَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} فإن قالوا إنما خص بالذكر تنبيهاً على كمال الدرجة في ذلك الوصف المذكور ، قلنا : فههنا أيضاً إنما خص عبدة الأوثان في هذه الآيات بهذا الاسم تنبيهاً على كمال درجتهم في هذا الكفر ، فهذا جملة ما في هذه المسألة ثم اعلم أن القائلين بأن اليهود والنصارى يندرجون تحت اسم المشرك اختلفوا على قولين فقال قوم : وقوع هذا الإسم عليهم من حيث اللغة لما بينا أن اليهود والنصارى قائلون بالشرك ، وقال الجبائي والقاضي هذا الإسم من جملة الأسماء الشرعية ، واحتجا على ذلك بأنه قد تواتر النقل عن الرسول عليه الصلاة والسلام أنه كان يسمى كل من كان كافراً بالمشرك ، ومن كان في الكفار من لا يثبت إلهاً أصلاً أو كان شاكاً في وجوده ، أو كان شاكاً في وجود الشريك ، وقد كان فيهم من كان عند البعثة منكراً للبعث والقيامة ، فلا جرم كان منكراً للبعثة والتكليف ، وما كان يعبد شيئاً من الأوثان ، والذين كانوا يعبدون الأوثان فيهم من كانوا يقولون : إنها شركاء الله في الخلق وتدبير العالم ، بل كانوا يقولون : هؤلاء شفعاؤنا عند الله فثبت أن الأكثرين منهم كانوا مقرين بأن إله العالم واحد وأنه ليس له في الإلهية معين في خلق العالم وتدبيره وشريك ونظير إذا ثبت هذا ظهر أن وقوع اسم المشرك على الكافر ليس من الأسماء اللغوية ، بل من الأسماء الشرعية ، كالصلاة والزكاة وغيرهما ، وإذا كان كذلك وجب اندراج كل كافر تحت هذا الإسم ، فهذا جملة الكلام في هذه المسألة وبالله التوفيق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 48 ـ 49}
فصل(6/94)
الذين قالوا : إن اسم المشرك لا يتناول إلا عبدة الأوثان قالوا : إن قوله تعالى : {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} نهى عن نكاح الوثنية ، أما الذين قالوا : إن اسم المشرك يتناول جميع الكفار قالوا : ظاهر قوله تعالى : {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} يدل على أنه لا يجوز نكاح الكافرة أصلاً ، سواء كانت من أهل الكتاب أو لا ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فالأكثرون من الأئمة قالوا إنه يجوز للرجل أن يتزوج بالكتابية ، وعن ابن عمر ومحمد بن الحنفية والهادي وهو أحد الأئمة الزيدية أن ذلك حرام ، حجة الجمهور قوله تعالى في سورة المائدة : {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [ المائدة : 5 ] وسورة المائدة كلها ثابتة لم ينسخ منها شيء قط.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يكون المراد منه : من آمن بعد أن كان من أهل الكتاب ؟ .
قلنا : هذا لا يصح من قبل أنه تعالى أو لا أحل المحصنات من المؤمنات ، وهذا يدخل فيه من آمن منهن بعد الكفر ، ومن كن على الإيمان من أول الأمر ، ولأن قوله : {مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [ البقرة : 101 ] يفيد حصول هذا الوصف في حالة الإباحة ، ومما يدل على جواز ذلك ما روي أن الصحابة كانوا يتزوجون بالكتابيات ، وما ظهر من أحد منهم إنكار على ذلك ، فكان هذا إجماعاً على الجواز.
نقل أن حذيفة تزوج بيهودية أو نصرانية ، فكتب إليه عمر أن خل سبيلها ، فكتب إليه : أتزعم أنها حرام ؟ فقال : لا ولكنني أخاف.
(6/95)
وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : " نتزوج نساء أهل الكتاب ولا يتزوجون نساءنا " ويدل عليه أيضاً الخبر المشهور ، وهو ما روى عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه أنه عليه الصلاة والسلام قال في المجوس : " سنوا بهم سنة أهل الكتاب ، غير ناكحي نسائهم ولا آكلي ذبائحهم " ولو لم يكن نكاح نسائهم جائزاً لكان هذا الإستثناء عبثاً ، واحتج القائلون بأنه لا يجوز بأمور أولها : أن لفظ المشرك يتناول الكتابية على ما بيناه فقوله : {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} صريح في تحريم نكاح الكتابية ، والتخصيص والنسخ خلاف الظاهر ، فوجب المصير إليه ، ثم قالوا : وفي الآية ما يدل على تأكيد ما ذكرناه وذلك لأنه تعالى قال في آخر الآية : {أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار} والوصف إذا ذكر عقيب الحكم ، وكان الوصف مناسباً للحكم فالظاهر أن ذلك الوصف علة لذلك الحكم فكأنه تعالى قال : حرمت عليكم نكاح المشركات لأنهن يدعون إلى النار وهذه العلة قائمة في الكتابية ، فوجب القطع بكونها محرمة.
والحجة الثانية : لهم : أن ابن عمر سئل عن هذه المسألة فتلا آية التحريم وآية التحليل ، ووجه الاستدلال أن الأصل في الإبضاع الحرمة ، فلما تعارض دليل الحرمة تساقطا ، فوجب بقاء ، حكم الأصل ، وبهذا الطريق لما سئل عثمان عن الجمع بين الأختين في ملك اليمين ، فقال : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، فحكمتم عند ذلك بالتحريم للسبب الذي ذكرناه فكذا ههنا.
الحجة الثالثة : لهم : حكى محمد بن جرير الطبري في "تفسيره" عن ابن عباس تحريم أصناف النساء إلا المؤمنات ، واحتج بقوله تعالى : {وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [ المائدة : 5 ] وإذا كان كذلك كانت كالمرتدة في أنه لا يجوز إيراد العقد عليها.
(6/96)
الحجة الرابعة : التمسك بأثر عمر : حكي أن طلحة نكح يهودية ، وحذيفة نصرانية ، فغضب عمر رضي الله عنه عليهما غضباً شديداً ، فقالا : نحن نطلق يا أمير المؤمنين فلا تغضب ، فقال : إن حل طلاقهن فقد حل نكاحهن ، ولكن أنتزعهن منكم.
أجاب الأولون عن الحجة الأولى بأن من قال : اليهودي والنصراني لا يدخل تحت اسم المشرك فالإشكال عنه ساقط ، ومن سلم ذلك قال : إن قوله تعالى : {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [ المائدة : 5 ] أخص من هذه الآية ، فإن صحت الرواية أن هذه الحرمة ثبتت ثم زالت جعلنا قوله : {والمحصنات} ناسخاً ، وإن لم تثبت جعلناه مخصصاً ، أقصى ما في الباب أن النسخ والتخصيص خلاف الأصل ، إلا أنه لما كان لا سبيل إلا التوفيق بين الآيتين إلا بهذا الطريق وجب المصير إليه ، أما قوله ثانياً أن تحريم نكاح الوثنية إنما كان لأنها تدعو إلى النار ، وهذا المعنى قائم في الكتابية ، قلنا : الفرق بينهما أن المشركة متظاهرة بالمخالفة والمناصبة ، فلعل الزوج يحبها ، ثم أنها تحمله على المقاتلة مع المسلمين ، وهذا المعنى غير موجود في الذمية ، لأنها مقهورة راضية بالذلة والمسكنة ، فلا يفضي حصول ذلك النكاح إلى المقاتلة ، أما قوله ثالثاً إن آية التحريم والتحليل قد تعارضتا ، فنقول : لكن آية التحليل خاصة ومتأخرة بالإجماع ، فوجب أن تكون متقدمة على آية التحريم وهذا بخلاف الآيتين في الجمع بين الأختين في ملك اليمين ، لأن كل واحدة من تينك الآيتين أخص من الأخرى من وجه وأعم من وجه آخر ، فلم يحصل سبب الترجيح فيه.
أما قوله ههنا : {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب} [ المائدة : 5 ] أخص من قوله : {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} مطلقاً ، فوجب حصول الترجيح.
وأما التمسك بقوله تعالى : {فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} [ المائدة : 5 ].
(6/97)
فجوابه : أنا لما فرقنا بين الكتابية وبين المرتدة في أحكام كثيرة ، فلم لا يجوز الفرق بينهما أيضاً في هذا الحكم ؟ .
وأما التمسك بأثر عمر فقد نقلنا عنه أنه قال : ليس بحرام ، وإذا حصل التعارض سقط الاستدلال والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 50 ـ 51}
فائدة
والمقصود من التفضيل في قوله : {خير} التفضيل في المنافع الحاصلة من المرأتين ؛ فإن في تزوج الأمة المؤمنة منافع دينية وفي الحرة المشركة منافع دنيوية ومعاني الدين خير من أعراض الدنيا المنافية للدين فالمقصود منه بيان حكمة التحريم استئناساً للمسلمين.
ووقع في "الكشاف" حمل الأمة على مطلق المرأة ، لأن الناس كلهم إماء الله وعبيده وأصله منقول عن القاضي أبي الحسن الجرجاني كما في القرطبي وهذا باطل من جهة المعنى ومن جهة اللفظ ، أما المعنى فلأنه يصير تكراراً مع قوله : {ولا تنكحوا المشركات} إذ قد علم الناس أن المشركة دون المؤمنة ، ويُفيت المقصود من التنبيه على شرفِ أقلِّ أَفرادِ أحد الصنفين على أشرَف أفراد الصنف الآخر ، وأما من جهة اللفظ فلأنه لم يرد في كلام العرب إطلاق الأمة على مطلق المرأة ، ولا إطلاق العبد على الرجل إلاّ مقيَّدين بالإضافة إلى اسم الجلالة في قولهم يا عبدَ الله ويا أمةَ الله ، وكونُ الناس إماءَ الله وعبيدَه إنما هو نظر للحقائق لا للاستعمال ، فكيف يخرَّج القرآن عليه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 362}
وقال أبو حيان : (6/98)
وقد استدل بقوله : خير ، على جواز نكاح المشركة لأن أفعل التفضيل يقتضي التشريك ، ويكون النهي أوّلاً على سبيل الكراهة ، قالوا : والخيرية إنما تكون بين شيئين جائزين ، ولا حجة في ذلك ، لأن التفضيل قد يقع على سبيل الاعتقاد. لا على سبيل الوجود ، ومنه : {أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً} و: العسل أحلى من الخل ؛ وقال عمر ، في رسالته لأبي موسى : الرجوع إلى الحق خير من التمادي في الباطل ، ويحتمل إبقاء الخيرية على الاشتراك الوجودي ، ولا يدل ذلك على جواز النكاح بأن نكاح المشركة يشتمل على منافع دنيوية ، ونكاح الأمة المؤمنة على منافع أخروية ، فقد اشترك النفعان في مطلق النفع إلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى ، فالحكم بهذا النفع الدنيوي لا يقتضي التسويغ ، كما أن الخمر والميسر فيهما منافع ، ولا يقتضي ذلك الإباحة ، وما من شيء محرم إلاَّ يكاد يكون فيه نفع مّا. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 174}
فصل
قال الفخر : (6/99)
اتفق الكل على أن المراد من قوله : {حتى يُؤْمِنَّ} الإقرار بالشهادة والتزام أحكام الإسلام ، وعند هذا احتجت الكرامية بهذه الآية على أن الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار وقالوا إن الله تعالى جعل الإيمان ههنا غاية التحريم والذي هو غاية التحريم ههنا الإقرار ، فثبت أن الإيمان في عرف الشرع عبارة عن الإقرار ، واحتج أصحابنا على فساد هذا المذهب بوجوه : أحدها : أنا بينا بالدلائل الكثيرة في تفسير قوله : {الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب} [ البقرة : 3 ] أن الإيمان عبارة عن التصديق بالقلب وثانيها : قوله تعالى : {وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ ءَامَنَّا بالله وباليوم الآخر وَمَا هُم} [ البقرة : 8 ] ولو كان الإيمان عبارة عن مجرد الإفراد لكان قوله تعالى : {مَّا هُم بِمُؤْمِنِينَ} كذباً وثالثها : قوله : {قَالَتِ الأعراب ءَامَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} [ الحجرات : 14 ] ولو كان الإيمان عبارة عن مجرد الإقرار لكان قوله : {قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ} كذباً ، ثم أجابوا عن تمسكهم بهذه الآية بأن التصديق الذي في القلب لا يمكن الإطلاع عليه فأقيم الإقرار باللسان مقام التصديق بالقلب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 51}
فائدة
نقل عن الحسن أنه قال : هذه الآية ناسخة لما كانوا عليه من تزويج المشركات قال القاضي : كونهم قبل نزول هذه الآية مقدمين على نكاح المشركات إن كان على سبيل العادة لا من قبل الشرع امتنع وصف هذه الآية بأنها ناسخة ، لأنه ثبت في أصول الفقه أن الناسخ والمنسوخ يجب أن يكون حكمين شرعيين ، أما إن كان جواز نكاح المشركة قبل نزول هذه الآية ثابتاً من قبل الشرع كانت هذه الآية ناسخة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 51}
قوله تعالى : {ولأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}
قال القرطبى : (6/100)
نزلت في خَنساءَ وليدةٍ سوداءَ كانت لحذيفةَ بنِ اليمان ؛ فقال لها حذيفة : يا خنساءُ ، قد ذُكرت في الملأ الأعلى مع سوادِك ودمامَتِك ، وأنزل الله تعالى ذكرك في كتابه ، فأعتقها حُذيفةُ وتزوّجها. وقال السُّدّيّ : " نزلت في عبد الله بن رَواحةَ ، كانت له أُمَةٌ سوداءُ فلطمها في غضب ثم نَدِم ، فأتى النبيّ صلى الله عليه وسلم فأخبره ؛ فقال : "ما هي يا عبدَ الله" قال : تصوم وتُصلِّي وتُحسِن الوضوءَ وتَشهد الشهادتين ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "هذه مؤمنة" " فقال ابن رواحة : لأَعتِقنّها ولأَتزوّجنّها ؛ ففعل ؛ فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا : نكح أَمَةً ؛ وكانوا يرون أن ينكحوا إلى المشركين ، وكانوا ينكحونهم رغبة في أحسابهم ، فنزلت هذه الآية. والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 69 ـ70}
قال الفخر :
الخير هو النفع الحسن : والمعنى : أن المشركة لو كانت ثابتة في المال والجمال والنسب ، فالأمة المؤمنة خير منها لأن الإيمان متعلق بالدين والمال والجمال والنسب متعلق بالدنيا والدين خير من الدنيا ولأن الدين أشرف الأشياء عند كل أحد فعند التوافق في الدين تكمل المحبة فتكمل منافع الدنيا من الصحة والطاعة وحفظ الأموال والأولاد وعند الاختلاف في الدين لا تحصل المحبة ، فلا يحصل شيء من منافع الدنيا من تلك المرأة ، وقال بعضهم المراد ولأمة مؤمنة خير من حرة مشركة ، واعلم أنه لا حاجة إلى هذا التقدير لوجهين أحدهما : أن اللفظ مطلق والثاني : أن قوله : {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} يدل على صفة الحرية ، لأن التقدير : ولو أعجبتكم بحسنها أو مالها أو حريتها أو نسبها ، فكل ذلك داخل تحت قوله : {وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 52}
قال أبو السعود : (6/101)
{وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ} قد مر أن كلمة ( لو ) في أمثال هذه المواقع ليست لبيان انتفاءِ الشيء في الماضي لانتفاء غيره فيه فلا يلاحَظَ لها جوابٌ قد حذف ثقةً بدلالة ما قبلها عليه مع انصباب المعنى على تقديره بل هي لبيان تحقيقِ ما يفيدُه الكلام السابق من الحكم على كل حال مفروض من الأحوال المقارنة له على الإجمال بإدخالها على أبعدها منه وأشدِّها منافاةً له ليظهرَ بثبوته معه ثبوتُه مع ما عداه من الأحوال بطريق الأولوية لما أن الشيءَ متى تحقق مع المُنافي القويِّ فلأَنْ يتحققَ مع غيره أولى ، ولذلك لا يُذكر معه شيء من سائر الأحوال ويكتفى عنه بذكر الواو العاطفةِ للجملة على نظيرتها المقابلة لها المتناولةِ لجميع الأحوال المغايرة لها وهذا معنى قولهم : إنها لاستقصاء الأحوالِ على وجه الإجمال كأنه قيل : لو لم تعجبْكم ولو أعجبتكم والجملةُ في حيِّز النصبِ على الحالية من مشركة إذ المآل ولأمة مؤمنة خيرٌ من امرأة مشركة حال عدمِ إعجابها إياكم بجمالها ومالِها ونسبها وغيرِ ذلك من مبادىء الإعجابِ وموجباتِ الرغبة فيها أي على كل حال ، وقد اقتُصر على ذكر ما هو أشدُّ منافاةً للخيرية تنبيهاً على أنها حيث تحققت معه فلأَنْ تتحققَ مع غيره أولى وقيل : الواوُ حاليةٌ وليس بواضح وقيل : اعتراضيةٌ وليس بسديد ، والحقُّ أنها عاطفة مستتبعةٌ لما ذكر من الاعتبار اللطيف. نعم يجوز أن تكونَ الجملةُ الأولى مع عاطف عليها مستأنفةً مقرِّرةً لمضمون ما قبلها فتدبر. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 221}
إشكال وجوابه
قال الفخر :
في الآية إشكال وهو أن قوله : {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} يقتضي حرمة نكاح المشركة ، ثم قوله : {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مّن مُّشْرِكَةٍ} يقتضي جواز التزوج بالمشركة لأن لفظة أفعل تقتضي المشاركة في الصفة ولأحدهما مزية.(6/102)
قلنا : نكاح المشركة مشتمل على منافع الدنيا ، ونكاح المؤمنة مشتمل على منافع الآخرة ، والنفعان يشتركان في أصل كونهما نفعاً ، إلا أن نفع الآخرة له المزية العظمى ، فاندفع السؤال ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 52}
فصل
قال القرطبى : (6/103)
واختلفوا في نكاح نساءِ المجوس ؛ فمنع مالكٌ والشافعيّ وأبو حنيفة والأُوزاعيُّ وإسحاقُ من ذلك. وقال ابن حَنْبل : لا يعجبني. ورُوي أن حُذَيفة بن اليمان تزوّج مجوسية ، وأن عُمَر قال له : طلِّقها. وقال ابن القَصّار : قال بعض أصحابنا : يجب على أحد القولين أنّ لهم كتاباً أن تجوز مناكحتهم. وروى ابن وهبٍ عن مالكٍ أن الأَمَةَ المجوسيّة لا يجوز أن تُوطأ بِملْك اليمين ، وكذلك الوثنياتُ وغيرُهن من الكافرات ؛ وعلى هذا جماعة العلماء ، إلا ما رواه يحيى بنُ أيوبَ عن ابن جُريج عن عطاءٍ وعمرو بنِ دينارٍ أنهما سئلا عن نكاح الإماءِ المجوسيات ؛ فقالا : لا بأس بذلك. وتأوّلا قول الله عز وجل : {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات}. فهذا عندهما على عقد النكاح لا على الأَمَة المشتراة ؛ واحتجّا بسَبْي أَوْطاس ؛ وأن الصحابة نكحوا الإماءَ منهنّ بِملْك اليمين. قال النحاس : وهذا قول شاذّ ؛ أماسَبْيُ أَوْطاس فقد يجوز أن يكون الإماءُ أسلمن فجاز نكاحهنّ ، وأما الاحتجاج بقوله تعالى : {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} فغلط ؛ لأنهم حملوا النكاح على العَقْد ؛ والنكاح في اللغة يقع على العَقْد وعلى الوطء ؛ فلما قال : {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات} حَرّم كلَّ نكاح يقع على المشركات من نكاح ووطء. وقال أبو عمر بن عبد البر : وقال الأُوزاعيّ : سألت الزُّهريّ عن الرجل يشتري المجوسيَّة أيطؤها ؟ فقال : إذا شهدت أن لا إله إلا الله وَطِئها. وعن يونس عن ابن شهاب قال : لا يحلّ له أن يطأها حتى تُسلِم. قال أبو عمر : قول ابن شهاب لا يحل له أن يطأها حتى تُسلِم هذا وهو أعلم الناس بالمغازي والسِّيَرِ دليلٌ على فساد قولِ مَن زعم أن سَبْيَ أوْطاس وُطِئن ولم يُسلِمْنَ. رُوي ذلك عن طائفة منهم عطاءٌ وعمرُو بن دينارٍ قالا : لا بأس بوطء المجوسية ؛ وهذا لم يلتفت إليه أحدٌ من الفقهاء بالأمصار. وقد جاء عن الحسن البصريّ وهو ممن لم يكن(6/104)
غَزْوُه ولا غَزْوُ ( أهل ) ناحيتِه إلا الفُرس وما وراءهم من خُرَاسان ، وليس منهم أحدٌ أهلَ كتاب ما يُبيِّن لك كيف كانت السّيرة في نسائهم إذا سُيبن ، قال : أخبرنا عبد الله ابنُ محمد بن أسد ، قال : حدّثنا إبراهيمُ بنُ أحمد بن فراس ، قال : حدّثنا عليّ بن عبد العزيز ، قال : حدّثنا أبو عبيد ، قال : حدّثنا هشام عن يونس عن الحسن ، قال : قال رجل له : يا أبا سعيد كيف كنتم تصنعون إذا سبيتموهنّ ؟ قال : كنا نوجهها إلى القبلة ونأمرها أن تُسلِم وتَشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ؛ ثم نأمرها أن تغتسل ، وإذا أراد صاحبُها أن يصيبَها لم يُصبها حتى يستبرئَها.
وعلى هذا تأويلُ جماعةِ العلماء في قول الله تعالى : {وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ} أنهنّ الوثنيّاتُ والمجوسيّاتُ ؛ لأن الله تعالى قد أحلّ الكتابيات بقوله : {والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ} [ المائدة : 5 ] يعني العفائفَ ، لا من شُهر زناها من المسلمات. ومنهم من كَرِه نكاحَها ووطأَها بِملْك اليمين ما لم يكن منهنّ توبة ؛ لما في ذلك من إفساد النَّسَب. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 71}
قوله تعالى : {وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَلاَ تُنكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ} فلا خلاف ههنا أن المراد به الكل وأن المؤمنة لا يحل تزويجها من الكافر ألبتة على اختلاف أنواع الكفرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 52}
قال القرطبى : (6/105)
قوله تعالى : {وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ} أي مملوك {خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ} أي حَسيِب. {وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ} أي حَسَبه وماله ؛ حسب ما تقدّم. وقيل المعنى : ولرجل مؤمن ، وكذا ولأَمَة مؤمنة ، أي ولا امرأة مؤمنة ، كما بيّناه. قال صلى الله عليه وسلم : " كلُّ رجالِكم عَبيد الله وكلُّ نسائِكم إماء الله " وقال : " لا تمنعوا إماء الله مساجدَ الله " وقال تعالى : {نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ} [ ص : 30 ، 44 ]. وهذا أحسن ما حمل عليه القول في هذه الآية ، وبه يرتفع النزاع ويزول الخلاف ؛ والله الموفق. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 80}
وقال أبو حيان :
وفي هذه الآية تنبيه على العلة المانعة من المناكحة في الكفار ، لما هم عليه من الالتباس بالمحرّمات من : الخمر والخنزير ، والانغماس في القاذورات ، وتربية النسل وسرقة الطباع من طباعهم ، وغير ذلك مما لا تعادل فيه شهوة النكاح في بعض ما هم عليه ، وإذا نظر إلى هذه العلة فهي موجودة في كل كافر وكافرة فتقتضي المنع من المناكحة مطلقاً. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 175}
قوله تعالى {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كانت مخالطة أهل الشرك مظنة الفساد الذي ربما أدى إلى التهاون بالدين فربما دعا الزوج زوجته إلى الكفر فقاده الميل إلى اتباعه قال منبهاً على ذلك ومعللاً لهذا الحكم : {أولئك} أي الذين هم أهل للبعد من كل خير {يدعون إلى النار} أي الأفعال المؤدية إليها ولا بد فربما أدى الحب الزوج المسلم إلى الكفر ولا عبرة باحتمال ترك الكافر للكفر وإسلامه موافقة للزوج المسلم لأن درء المفاسد مقدم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 420}
قال الفخر :
هذه الآية نظير قوله : {مَا لِى أَدْعُوكُمْ إِلَى النجاة وَتَدْعُونَنِى إِلَى النار} [ غافر : 41 ].
فإن قيل : فكيف يدعون إلى النار وربما لم يؤمنوا بالنار أصلاً ، فكيف يدعون إليها.(6/106)
وجوابه : أنهم ذكروا في تأويل هذه الآية وجوهاً أحدها : أنهم يدعون إلى ما يؤدي إلى النار ، فإن الظاهر أن الزوجية مظنة الألفة والمحبة والمودة ، وكل ذلك يوجب الموافقة في المطالب والأغراض ، وربما يؤدي ذلك إلى انتقال المسلم عن الإسلام بسبب موافقة حبيبه.
فإن قيل : احتمال المحبة حاصل من الجانبين ، فكما يحتمل أن يصير المسلم كافراً بسبب الألفة والمحبة ، يحتمل أيضاً أن يصير الكافر مسلماً بسبب الألفة والمحبة ، وإذا تعارض الإحتمالان وجب أن يتساقطا ، فيبقى أصل الجواز.
قلنا : إن الرجحان لهذا الجانب لأن بتقدير أن ينتقل الكافر عن كفره يستوجب المسلم به مزيد ثواب ودرجة ، وبتقدير أن ينتقل المسلم عن إسلامه يستوجب العقوبة العظيمة ، والإقدام على هذا العمل دائر بين أن يلحقه مزيد نفع ، وبين أن يلحقه ضرر عظيم ، وفي مثل هذه الصورة يجب الإحتراز عن الضرر ، فلهذا السبب رجح الله تعالى جانب المنع على جانب الإطلاق.
التأويل الثاني : أن في الناس من حمل قوله : {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النار} أنهم يدعون إلى ترك المحاربة والقتال ، وفي تركهما وجوب استحقاق النار والعذاب وغرض هذا القائل من هذا التأويل أن يجعل هذا فرقاً بين الذمية وبين غيرها ، فإن الذمية لا تحمل زوجها على المقاتلة فظهر الفرق.
التأويل الثالث : أن الولد الذي يحدث ربما دعاه الكافر إلى الكفر فيصير الولد من أهل النار ، فهذا هو الدعوة إلى النار {والله يَدْعُو إلى الجنة} حيث أمرنا بتزويج المسلمة حتى يكون الولد مسلماً من أهل الجنة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 53}
قال ابن عاشور : (6/107)
وقوله : {أولئك يدعون إلى النار} الإشارة إلى المشركات والمشركين ، إذ لا وجه لتخصيصه بالمشركين خاصة لصلوحيته للعود إلى الجميع ، والواو في {يدعون} واو جماعة الرجال ووزنه يفعون ، وغُلِّب فيه المذكر على المؤنث كما هو الشائع ، والجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لتعليل النهي عن نكاح المشركات وإنكاح المشركين ، ومعنى الدعاء إلى النار الدعاء إلى أسبابها فإسناد الدعاء إليهم حقيقة عقلية ، ولفظ النار مجاز مرسل أطلق على أسباب الدخول إلى النار فإن ما هم عليه يجر إلى النار من غير علم ، ولما كانت رابطة النكاح رابطة اتصال ومعاشرة نهي عن وقوعها مع من يدعون إلى النار خشية أن تؤثر تلك الدعوة في النفس ، فإن بين الزوجين مودة وإلفاً يبعثان على إرضاء أحدهما الآخر ولما كانت هذه الدعوة من المشركين شديدة لأنهم لا يوحدون الله ولا يؤمنون بالرسل ، كان البون بينهم وبين المسلمين في الدين بعيداً جداً لا يجمعهم شيء يتفقون عليه ، فلم يبح الله مخالطتهم بالتزوج من كلا الجانبين. أما أهل الكتاب فيجمع بينهم وبين المسلمين اعتقاد وجود الله وانفراده بالخلق والإيمان بالأنبياء ويفرق بيننا وبين النصارى الاعتقاد ببنوة عيسى والإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ويفرق بيننا وبين اليهود الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم وتصديق عيسى ، فأباح الله تعالى للمسلم أن يتزوج الكتابية ولم يبح تزوج المسلمة من الكتابي اعتداداً بقوة تأثير الرجل على امرأته ، فالمسلم يؤمن بأنبياء الكتابية وبصحة دينها قبل النسخ فيوشك أن يكون ذلك جالباً إياها إلى الإسلام ، لأنها أضعف منه جانباً وأما الكافر فهو لا يؤمن بدين المسلمة ولا برسولها فيوشك أن يجرها إلى دينه ، لذلك السبب وهذا كان يجيب به شيخنا الأستاذ سالم أبو حاجب عن وجه إباحة تزوج الكتابية ومنع تزوج الكتابي المسلمة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 363}(6/108)
سؤال : فإن قالوا : فقد قال الله تعالى : {أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار} فجعل العلّة في تحريم نكاحهنّ الدعاء إلى النار. والجواب أن ذلك علة لقوله تعالى : {وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ} لأن المشرك يدعو إلى النار ؛ وهذه العلة مطّردة في جميع الكفار ؛ فالمسلمُ خيرٌ من الكافر مطلقاً ؛ وهذا بيّن.
أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 85}
فائدة
قال القرطبى :
وأما نكاح أهل الكتاب إذا كانوا حَرْباً فلا يحِلّ ؛ وسئل ابن عباس عن ذلك فقال : لا يَحلّ ، وتَلاَ قولَ الله تعالى : {قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر} [ التوبة : 29 ] إلى قوله : "صَاغِرُونَ". قال المحدّث : حدّثت بذلك إبراهيم النّخعيّ فأعجبه. وكَرِه مالكٌ تزوّجَ الحربيّات ، لعلة تركِ الولدِ في دار الحرب ، ولتصرّفها في الخمر والخنزير. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 69}
قوله تعالى {وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ}
المناسبة
قال البقاعى : (6/109)
ولما رهب من أهل الشرك حثاً على البغض فيه رغب في الإقبال إليه سبحانه وتعالى بالإقبال على أوليائه بالحب فيه وبغير ذلك فقال : {والله} أي بعز جلاله وعظمة كماله {يدعوا} أي بما يأمر به {إلى الجنة} أي الأفعال المؤدية إليها. ولما كان ربما لا يوصل إلى الجنة إلا بعد القصاص قال : {والمغفرة} أي إلى أن يفعلوا ما يؤدي إلى أن يغفر لهم ويهذب نفوسهم بحيث يصيرون إلى حالة سنية يغفرون فيها للناس ما أتوا إليهم. ولما كان الدعاء قد يكون بالحمل على الشيء وقد يكون بالبيان بحيث يصير المدعو إليه متهيئاً للوصول إليه قال : {بإذنه} أي بتمكينه من ذلك لمن يريد سعادته {ويبين آياته} في ذلك وفي غيره {للناس} كافة من أراد سعادته وغيره {لعلهم يتذكرون } أي ليكونوا على حالة يظهر لهم بها بما خلق لهم ربهم من الفهم وما طبع في أنفسهم من الغرائز حسن ما دعاهم إليه وقبح ما نهاهم عنه غاية الظهور بما أفهمه الإظهار. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 420}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {والله يَدْعُو إلى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ} ففيه قولان :
القول الأول : أن المعنى وأولياء الله يدعون إلى الجنة ، فكأنه قيل : أعداء الله يدعون إلى النار وأولياء الله يدعون إلى الجنة والمغفرة فلا جرم يجب على العاقل أن لا يدور حول المشركات اللواتي هن أعداء الله تعالى ، وأن ينكح المؤمنات فإنهن يدعون إلى الجنة والمغفرة والثاني : أنه سبحانه لما بين هذه الأحكام وأباح بعضها وحرم بعضها ، قال : {والله يَدْعُواْ إِلَى الجنة والمغفرة} لأن من تمسك بها استحق الجنة والمغفرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 53}
فائدة
قال القرطبى : (6/110)
وتقدم هنا الجنة على المغفرة ، وتأخر عنها في قوله : {سارعو إلى مغفرة من ربكم وجنة} وفي قوله : {سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة} والأصل فيه تقدم المغفرة على الجنة ، لأن دخول الجنة متسبب عن حصول المغفرة ، ففي تلك الآيتين جاء على هذا الأصل ، وأما هنا ، فتقدم ذكر الجنة على المغفرة لتحسن المقابلة ، فإن قبله {أولئك يدعون إلى النار} فجاء {والله يدعو إلى الجنة} وليبدأ بما تتشوف إليه النفس حين ذكر دعاء الله ، فأتى بالأشرف للأشرف ، ثم أتبع بالمغفرة على سبيل التتمة في الإحسان ، وتهيئة سبب دخول الجنة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 176}
وقال الآلوسى :
وتقديم الجنة على المغفرة مع قولهم : التخلية أولى بالتقديم على التحلية لرعاية مقابلة النار. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 120}
قوله : {بِإِذْنِهِ}
قال الفخر :
أما قوله : {بِإِذْنِهِ} فالمعنى بتيسير الله وتوفيقه للعمل الذي يستحق به الجنة والمغفرة ، ونظيره قوله : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [ يونس : 100 ] وقوله : {وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [ آل عمران : 145 ] وقوله : {وَمَا هُم بِضَارّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله} [ البقرة : 102 ] وقرأ الحسن {والمغفرة بِإِذْنِهِ} بالرفع أي والمغفرة حاصلة بتيسيره. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 53}
سؤال : إن قلت : هلا قال : والمؤمنون يدعون إِلَى الجَنَّةِ وَالمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ. كما ( أسند ) للمشركين الدّعاء إلى النار ؟
قلت : أجاب ابن عرفة بأن فيه كمال تشريف لدين الإسلام كما قال الله تعالى : {إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله} قال ابن عرفة : فإن قلت المغفرة سبب في دخول الجنة فهلا : قدمت عليها ؟
فالجواب من وجوه : (6/111)
الأول : قال ابن عرفة : تقدم لنا الجواب عنه فإنّها إنّما أخّرت لتتناول الآية من أطاع الله ولم يعصه فإنه يدخل الجنة ( دخولا أوليا ) ومن أطاع الله وعصى فإنه يدخل النّار ويغفر له فيدخل الجنة ، ومن أطاع الله وعصى وغفر له فإنه أيضا يدخل الجنة دخولا أوليا.
الثاني : أنه قصد ذكر المغفرة بالتضمن وبالمطابقة.
الثالث : أن المراد أولائك يدعون إلى النّار والمعصية ، وهذا مقابل له فحذف من الأول لدلالة هذا المذكور في الثاني عليه.
ورده ابن عرفة : بأنّ الآية إنما جاءت تهييجا على الطاعة ، فالمناسب أن يذكر فيها ( المخوفات ) والدعاء للمعصية ليس بمخوف.
قلت : تقول التقدير : أولئك يدعون إلى النار والعذاب. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 286}
قال الآلوسى :
{وَيُبَيِنُ آياته لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} لكي يتعظوا أو يستحضروا معلوماتهم بناءاً على أنّ معرفة الله تعالى مركوزة في العقول ، والجملة تذييل للنصح والإرشاد ، والواو اعتراضية أو عاطفة ، وفصلت الآية السابقة بـ {يَتَفَكَّرُونَ} [ البقرة : 9 21 ] لأنها كانت لبيان الأحكام والمصالح والمنافع والرغبة فيها التي هي محل تصرف العقل والتبيين للمؤمنين فناسب التفكر ، وهذه الآية بـ {يَتَذَكَّرُونَ} لأنها تذييل للإخبار بالدعوة إلى الجنة والنار التي لا سبيل إلى معرفتها إلا النقل والتبيين لجميع الناس فناسب التذكر.
(6/112)
ومن الناس من قدّر في الآية مضافاً أي فريق الله أو أولياؤه وهم المؤمنون فحذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه تشريفاً لهم ، واعترض بأن الضمير في المعطوف على الخبر لله تعالى فيلزم التفكيك مع عدم الداعي لذلك ، وأجيب بأن الداعي كون هذه الجملة معللة للخيرية السابقة ولا يظهر التعليل بدون التقدير ، وكذا لا تظهر الملائمة لقوله سبحانه : {بِإِذْنِهِ} بدون ذلك فإن تقييد دعوته تعالى ( بإذنه ) ليس فيه حينئذ كثير فائدة بأي تفسير فسر الإذن وأمر التفكيك سهل لأنه بعد إقامة المضاف إليه مقام المضاف للتشريف بجعل فعل الأوّل فعلا للثاني صورة فتتناسب الضمائر كما في "الكشاف" ولا يخفى ما فيه وعلى العلات هو أولى مما قيل : إن المراد : والله يدعو على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك فتجب إجابته بتزويج أوليائه لأنه وإن كان مستدعياً لاتحاد المرجع في الجملتين المتعاطفتين الواقعتين خبراً ، لكن يفوت التعليل وحسن المقابلة بينه وبين {أُوْلَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النار} وكذا لطافة التقييد كما لا يخفى. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 120}
قال السعدى فى معنى الآية :
{وَلا تَنْكِحُوا} النساء {الْمُشْرِكَاتِ} ما دمن على شركهن {حَتَّى يُؤْمِنَّ} لأن المؤمنة ولو بلغت من الدمامة ما بلغت خير من المشركة ، ولو بلغت من الحسن ما بلغت ، وهذه عامة في جميع النساء المشركات ، وخصصتها آية المائدة ، في إباحة نساء أهل الكتاب كما قال تعالى : {وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ}.
{وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا} وهذا عام لا تخصيص فيه.
ثم ذكر تعالى ، الحكمة في تحريم نكاح المسلم أو المسلمة ، لمن خالفهما في الدين فقال : {أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} أي : في أقوالهم أو أفعالهم وأحوالهم ، فمخالطتهم على خطر منهم ، والخطر ليس من الأخطار الدنيوية ، إنما هو الشقاء الأبدي.(6/113)
ويستفاد من تعليل الآية ، النهي عن مخالطة كل مشرك ومبتدع ، لأنه إذا لم يجز التزوج مع أن فيه مصالح كثيرة فالخلطة المجردة من باب أولى ، وخصوصا ، الخلطة التي فيها ارتفاع المشرك ونحوه على المسلم ، كالخدمة ونحوها.
وفي قوله : {وَلا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ} دليل على اعتبار الولي [في النكاح].
{وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ} أي : يدعو عباده لتحصيل الجنة والمغفرة ، التي من آثارها ، دفع العقوبات وذلك بالدعوة إلى أسبابها من الأعمال الصالحة ، والتوبة النصوح ، والعلم النافع ، والعمل الصالح.
{وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ} أي : أحكامه وحكمها {لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فيوجب لهم ذلك التذكر لما نسوه ، وعلم ما جهلوه ، والامتثال لما ضيعوه. أ هـ {تفسير السعدى صـ 99}(6/114)
قوله تعالى : {(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222))}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان في ذكر هذه الآية رجوع إلى تتميم ما أحل من الرفث في ليل الصيام على أحسن وجه تلاها بالسؤال عن غشيان الحائض ولما كان في النكاح شائبة للجماع تثير للسؤال عن أحواله وشائبة للانس والانتفاع تفتر عن ذلك كان نظم آية الحرث بآية العقد بطريق العطف أنسب منه بطريق الاستئناف فقال : {ويسئلونك عن المحيض} أي عن نكاح النساء فيه مخالفة لليهود. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 421}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى : {(وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ)
عطف على جملة : {ولا تنكحوا المشركات حتى يؤمن} [ البقرة : 221 ] ، بمناسبة أن تحريم نكاح المشركات يؤذن بالتنزه عن أحوال المشركين وكان المشركون لا يقربون نساءهم إذا كُنَّ حُيَّضاً وكانوا يفرطون في الابتعاد منهن مدة الحيض فناسب تحديد ما يكثر وقوعه وهو من الأحوال التي يخالف فيها المشركون غيرهم ، ويتساءل المسلمون عن أحق المناهج في شأنها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 364}
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى جمع في هذا الموضع ستة من الأسئلة ، فذكر الثلاثة الأول بغير الواو ، وذكر الثلاثة الأخيرة بالواو ، والسبب أن سؤالهم عن تلك الحوادث الأول وقع في أحوال متفرقة فلم يؤت فيها بحرف العطف لأن كل واحد من تلك السؤالات سؤال مبتدأ ، وسألو عن المسائل الثلاثة الأخيرة في وقت واحد ، فجيء بحرف الجمع لذلك ، كأنه قيل : يجمعون لك بين السؤال عن الخمر والميسر ، والسؤال عن كذا ، والسؤال عن كذا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 54}
وقال الآلوسى : (6/115)
قال صاحب "الانتصاف" في بيان العطف والترك : إن أول المعطوفات عين الأول من المجردة ، ولكن وقع جوابه أولاً بالمصرف لأنه الأهم ، وإن كان المسؤول عنه إنما هو المنفق لا جهة مصرفه ثم لما لم يكن في الجواب الأول تصريح بالمسؤول عنه أعيد السؤال ليجابوا عن المسؤول عنه صريحاً ، وهو العفو الفاضل فتعين إذاً عطفه ليرتبط بالأوّل ، وأما السؤال الثاني من المقرونة فقد وقع عن أحوال اليتامى ، وهل يجوز مخالطتهم في النفقة والسكنى فكان له مناسبة مع النفقة باعتبار أنهم إذا خالطوهم أنفقوا عليهم فلذا عطف على سؤال الانفاق ، وأما السؤال الثالث فلما كان مشتملاً على اعتزال الحيض ناسب عطفه على ما قبله لما فيه من بيان ما كانوا يفعلونه من اعتزال اليتامى ، وإذا اعتبرت الأسئلة المجردة من الواو لم تجد بينها مداناة ولا مناسبة ألبتة إذ الأول منها عن النفقة والثاني عن القتال في الشهر الحرام ، والثالث عن الخمر والميسر وبينها من التباين. والتقاطع ما لا يخفى فذكرت كذلك مرسلة متقاطعة غير مربوطة بعضها ببعض ، وهذا من بدائع البيان الذي لا تجده إلا في الكتاب العزيز ا ه. ولا أرى القلب يطمئن به كما لا يخفى على من أحاط خبراً بما ذكرناه فتدبر. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 121}
سبب نزول الآية
قال القرطبى : (6/116)
ذكر الطبريّ عن السُّدِّيّ أن السائل ثابتَ بن الدَّحْدَاح وقيل : أُسيد بن حُضير وعَبّاد بن بشر ؛ وهو قول الأكثرين. وسبب السؤال فيما قال قَتَادة وغيرُه : أن العرب في المدينة وما والاها كانوا قد استنوا بسُنّة بني إسرائيل في تجنُّب مؤاكلة الحائض ومساكنتها ؛ فنزلت هذه الآية. وقال مجاهد : كانوا يتجنّبون النساء في الحيض ، ويأتونهنّ في أدبارهنّ مدّةً زمن الحيض ؛ فنزلت. وفي صحيح مسلم عن أنس : أن اليهود كانوا إذا حاضت المرأة فيهم لم يؤاكلوها ولم يجامعوهنَّ في البيوت ؛ فسأل أصحابُ النبيّ صلى الله عليه وسلم النبيَّ صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} إلى آخر الآية ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اصنعوا كلَّ شيء إلاَّ النكاح " فبلغ ذلك اليهود ، فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يَدَعَ من أمرنا شيئاً إلاَّ خالفنا فيه ؛ فجاء أُسَيد بن حُضَيْر وعبّاد بن بشر فقالا : يا رسول الله ، إن اليهود تقول كذا وكذا ، أفلا نجامعهنّ ؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى ظننا أن قد وَجَد عليهما ؛ فخرجا فاستقبلهما هدّيةٌ من لَبَنٍ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل في آثارهما فسقاهما ؛ فعرفا أن لم يَجِدْ عليهما. قال علماؤنا : كانت اليهود والمجوس تجتنب الحائضّ ؛ وكانت النصارى يجامعون الحُيَّض ؛ فأمر الله بالقصد بين هذين. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 81}
قال ابن عاشور : (6/117)
والباعث على السؤال أن أهل يثرب قد امتزجوا باليهود واستنوا بسنتهم في كثير من الأشياء ، وكان اليهود يتباعدون عن الحائض أشد التباعد بحكم التوراة ففي الإصحاح الخامس عشر من سفر اللاويين "إذا كانت امرأة لها سيل دماً في لحمها فسبعة أيام تكون في طمثها وكل من مسها يكون نجساً إلى المساء وكل ما تضطجع عليه يكون نجساً وكل من مس فراشها يغسل ثيابه ويستحم بماء ويكون نجساً إلى المساء وإن اضطجع معها رجل فكان طمثها عليه يكون نجساً سبعة أيام". وذكر القرطبي أن النصارى لا يمتنعون من ذلك ولا أحسب ذلك صحيحاً فليس في الإنجيل ما يدل عليه ، وإن من قبائل العرب من كانت الحائض عندهم مبغوضة فقد كان بنو سليح أهل بلد الحضْر ، وهم من قضاعة نصارى إن حاضت المرأة أخرجوها من المدينة إلى الربض حتى تطهر وفعلوا ذلك بنصرة ابنة الضيزن ملك الحضْر ، فكانت الحال مظنة حيرة المسلمين في هذا الأمر تبعث على السؤال عنه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 364 ـ 365}
لطيفة
قال العلامة الفيروزابادى :
( بصيرة فى السؤال )
وهو ما يَسأَله الإِنسان. قال الله تعالى : {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يامُوسَى}.
والسّؤال : استدعاء معرفة أَو ما يؤدّى إِلى المعرفة ، واستدعاءُ مال ، أَو ما يؤدّى إِلى المال. فاستدعاءُ المعرفة جوابُه باللسان ، واليدُ خليفة له بالكتابة ، أَو الإِشارة. واستدعاءُ المال جوابه باليد ، واللسانُ خليفة لها إِمّا بوعد ، أَو برَدٍّ. تقول : سأَلته عن الشىء سؤالا ، ومسأَلة. وقال الأَخفش : يقال : خرجنا نسأَل عن فلان وبفلان.
وقد تخفَّف همزته فيقال سال يَسال. وقرأَ أَبو جعفر : {سَأَلَ سَآئِلٌ} بتخفيف الهمزة. قال :
ومُرهَق سال إِمتاعا بأُصْدته لم يستعِنْ وحَوامِى الموت تغشاه
والأَمر منه سَلْ بحركة الحرف الثانى من المستقبل ، ومن الأَوّل اسْأَل.(6/118)
وقوله تعالى : {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ} ، يقال : إِنّه خوطب به ليلة أُسرى به ، فجُمع بينه وبين الأَنبياءِ - صولات الله عليهم - فأَمّهم ، وصلَّى بهم ، فقيل له : فسَلْهُمْ. وقيل : معناه : سل أُمَم مَنْ أَرسلنا ، فيكون السّؤال ههنا على جهة التقرير. وقيل : الخطاب للنبىّ صلَّى الله عليه وسلم والمراد به الأُمَة ، أَى وسلوا ، كقوله تعالى : {ياأيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ}.
وقوله تعالى : {فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ} أَى لا يسأَل سؤال استعلام ، لكن سؤال تقرير وإِيجاب للحجّة عليهم. وقوله تعالى : {وَعْداً مَّسْئُولاً} هو قول الملائكة : / {رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَّهُمْ} وقوله : {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ} أَى دعا داعٍ ، يعنى قولَ نَضْر بن الحارث {اللَّهُمَّ إِن كَانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ} الآية. والباءُ فى (بعَذَاب) بمعنى عن ، أَى عن عذاب.
ورجل سُؤَلة - مثال تُؤدَة - : كثير السّؤال. وأَسأَلته سؤْلته ومسأَلته : أَى قضيت حاجته. وتساءَلوا ، أَى سأَل بعضهم بعضاً. وقرأَ الكوفيون
{تَسَآءَلُونَ} بالتخفيف ، والباقون بالتَّشديد أَى تتساءَلون ، أَى الَّذى تطلبون به حقوقكم ، وهو كقولك ، نَشَدتك بالله أَى سأَلتك بالله.
فإِن قلت : كيف يصحّ أَن يقال : السّؤال استدعاء المعرفة ، وملعوم أَنَّ الله تعالى يَسأَل عبادهُ ؟ .
قيل : إِنَّ ذلك سؤال لتعريف القوم وتبكيتهم ، لا لتعريف الله تعالى ؛ فإِنَّهُ علاَّم الغيوب ، فليس يخرج من كونه سؤال المعرفة ، والسؤال للمعرفة قد يكون تارة للاستعلام ، وتارة للتبكيت ، وتارة لتعريف المسئول وتنبيهه ، لا ليخبِر ويُعلم ، وهذا ظاهر. وعلى التبكيت قوله تعالى : {وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ}.
(6/119)
والسّؤال إِذا كان للتعريف تعدّى إِلى المفعول الثَّانى تارة بنفسه ، وتارة بالجارّ ، نحو [سأَلته كذا ، و] سأَلته عن كذا ، وبكذا ، ويعن أَكثر نحو : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}.
وأَمَّا إِذا كان السّؤال لاستدعاءِ مالٍ فَإِنَّهُ يتعدَّى بنفسه ، وبمن ؛ نحو قوله تعالى : {وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً} ، وقوله : {وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ}. ويعبّر عن الفقير إِذا كان مستدعِياً لشيىءٍ بالسّائل ، نحو قوله : {وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ}.
والسّؤال ورد فى القرآن على عشرين وجهاً :
الأَوّل : سؤال التعجّب : {قَالُواْ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً}.
الثانى : سؤال الاسترشاد : {فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ} ، {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ}.
الثَّالث : سؤال الاقتباس : {مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلاَ دُعَآؤُكُمْ}.
الرّابع : سؤال الانبساط : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يامُوسَى}.
الخامس : سؤال العطاءِ والهِبَة : {رَبِّ هَبْ لِي}.
السّادس : سؤال العَوْن والنُّصْرة : {مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}.
السابع : سؤال الاستغاثة : {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ}.
الثامن : سؤال الشفاءِ والنَّجاة : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ}.
التَّاسع : سؤال الاستعانة : {رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً}.
العاشر : سؤال القُرْبَة : {رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ}.
الحادى عشر : سؤال العذاب والهلاك : {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأَرْضِ}.
الثانى عشر : سؤال المغفرة : {رَبَّنَا اغْفِرْ لِي}.
الثالث عشر : سؤال الاستماع للسائل والمحروم : {وَأَمَّا السَّآئِلَ فَلاَ تَنْهَرْ}.
الرابع عشر : سؤال المعاودة والمراجعة لنوح : {فَلاَ تَسْئَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ} ، ولمحمّد صلَّى اللهُ عليه وسلم : {لاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ} ، وللصّحابة : {لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.
(6/120)
الخامس عشر : سؤال الطَّلب وعَرْض الحاجة : {يَسْأَلُهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ} ، {وَاسْأَلُواْ اللَّهَ مِن فَضْلِهِ}.
السادس عشر : سؤال المحاسبة والمناقشة : {فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ} ، {فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ}.
السّابع عشر : سؤال المخاصمة : {عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ} ، {وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ} أَى يتخاصمون.
الثامن عشر : سؤال الإِجابة والاستجابة : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي}.
التَّاسع عشر : سؤال التعنُّت : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}.
العشرون : سؤال ا لاستفتاءِ والمصلحة ، وذلك على وجوه/ مختلفة :
تارة من حَيْض العيال : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ}.
وتارةً من نفقة الأَموال : {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ}.
وتارة عن حكم الهلال : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ}.
وتارة عن القيامة وما فيها من الأَهوال : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ}.
وتارة عن حال الجبال : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ}.
وتارة عن الحرب والقتال : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ}.
وتارة عن الحرام والحلال : {يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ} ، {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}.
وتارة عن اليتيم وإِصلاح ما لَهُ من المال : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى}.
وتارة عن الغنائم : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ}.
وتارة عن العذاب والنكال : {سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ}.
وتارة عن العاقبة والمآل : {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ}.
وتارة عن المبالغة فى الجدال {يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا}.
وتارة عن كرم ذى الجلال : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ}. قال الشاعر :
إِذا كنت فى بلد قاطناً
وللعلم مقتبساً فسأَلِ
فإِن السّؤال شفاءُ العباد
كما قيل فى الزَّمن الأَوّل.(6/121)
أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 3 صـ 249 ـ 250}
فائدة لغوية
قال ابن عادل :
{المحيض} فعل من الحيضِ ، ويُرادُ به المصدرُ ، والزمانُ ، والمكانُ ، تقولُ : حاضِت المرأَةُ تحيضُ ، حَيضاً ومَحِيضاً ، ومَحاضاً ، فَبَنَوْه على مَفْعلٍ ومَفْعَل بالكَسرِ والفتحِ.
واعلم أنَّ في المَفْعَل مِنْ يَفْعِل بكسر العينِ ثلاثة مذاهب :
أحدها : أَنَّهُ كالصَّحيح ، فتُفْتَحُ عينهُ مراداً به المصدرُ ، وتُكسَرُ مراداً به الزَّمانُ والمكانُ.
والثَّاني : أَنْ يُتَخَيَّر بين الفتح والكسر في المصدرِ خاصَّةً ، كما جاء هنا : المَحيضُ والمحَاضُ ، ووجهُ هذا القول : أنَّهُ كثُر هذان الوجهان : أعني ، الكسر ، والفتح فاقْتَاسا.
والثالث : أَنْ يُقْتَصَرَ على السَّماعِ ، فيما سُمِع فيه الكَسرُ ، أو الفتحُ ، لا يَتَعَدَّى. فالمحيضُ المُرادُ به المَصْدَرُ ليس بمقيسِ على المذهبين الأول والثالث ، مقيسٌ على الثاني. ويقال : امرأَةٌ حائِضٌ ولا يقال : " حائِضَةٌ " إلا قليلاً ، أنشد الفرَّاء : [ الطويل ]
1079-........................... كَحَائِضَةٍ يُزْنَى بِهَا غَيْر طَاهِرِ
وَالمَعْرُوفُ أَنَّ النَّحويين فَرَّقوا بين حائضٍ ، وحائضةٍ : فالمُجرَّدُ من تاء التَّأنيث بمعنى النَّسَب ، أي : ذاتُ حيضٍ ، وإِنْ لم يكن عليها حَيْضٌ ، والملتبسُ بالتَّاءِ لِمَنْ عليها الحَيْضُ في الحال ، فيُحتمل أن يكونَ مرادُ الشاعر ذلك ، وهكذا كُلُّ صفةٍ مختصةٍ بالمُؤَنّثِ نحو : طَامِث ومُرْضِ وشبههما.
قال القرطبيُّ : ويقال : نساءٌ حيض ، وحوائض ، والحَيضةُ : المرأَةُ الواحدة. والحِيضةُ بالكَسْر ، الاسم والجمع الحيض ، والحيضة أيضاً : الخرقةُ التي تَسْتَثْفِرُ بها المَرْأَةُ ، قالت عَائِشَةُ : لَيْتَنِي كُنُتُ حِيْضَةٌ مُلْقَاةٌ " وكذلك المَحِيضَةُ ، والجمع : المَحائص.(6/122)
وأصلُ الحَيض السَّيَلانُ ، والانفجِارُ ، يُقالُ : حَاضَ السَّيلُ وَفَاضَ ، قال الفَرَّاءُ : " حَاضَتِ الشَّجَرَةُ ، أي : سال صَمْغُها " ، قال الأَزهرِيُّ : " وَمِنْ هَذَا قيل لِلْحَوضِ : حَيْضٌ ؛ لأَنَّ المَاءَ يسيلُ إليه " والعربُ تُدْخِلُ الواو على اليَاءِ ، وَالياءَ على الواوِ ؛ لأَنَّهُما من حَيِّز واحدٍ ، وهو الهواءُ.
ويقالُ : حاضت المرأةُ وتحيَّضَتْ ، ودَرَسَتْ ، وعَرَكت ، وطَمِثت فهي حائضٌ ، ودارِسٌ ، وعارِكٌ ، وَطَامِثٌ ، وطَامِسٌ ، وكَابِرٌ ، وَضَاحِكٌ. قال تعالى : {فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ} [ يوسف : 31 ] أي : حضن ، وقال تعالى : {فَضَحِكَتْ} [ هود : 71 ].
قال مجاهد : أي : حاضَتْ ونافس أيضاً ، والظَّاهر أن المحيض مصدرٌ كالحيضِ ، ومثله : " المَقِيلُ " مِنْ قال يقِيلُ ؛ قال الرَّاعِي : [ الكامل ]
1080- بُنِيَتْ مَرَافِقُهُنَّ فَوْقَ مَزَلَّةٍ... لاَ يَسْتَطِيعُ بِهَا القُرَادُ مَقِيلاَ
وكذلك قال الطَّبريُّ : " إِنَّ المَحِيضَ اسْم كالمَعِيشِ : اسمُ العَيْشِ " ؛ وأنشد لرؤبة : [ الرجز ]
1081- إِلَيْكَ أَشْكُو شِدَّةَ المَعِيشِ... وَمَرَّ أَعْوَامٍ نَتَفْنَ رِيشِي
وقيل : المَحيضُ في الآية المُرادُ به : اسمُ موضعِ الدَّم ، وعلى هذا فهو مقيسٌ اتِّفاقاً ، ويؤيِّد الأَوَّل قوله : {قُلْ هُوَ أَذًى}. وقد يُجَابُ عنه بأنَّ ثَمَّ حذف مضافٍ ، أي : هو ذُو أَذى ، ويؤيِّدُ الثَّاني قوله : {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض}. ومن حَمَلَه على المَصْدَرِ قَدَّر هنا حَذْفَ مُضَافٍ ، أي : فاعْتَزِلُوا وَطْءَ النِّسَاءِ في زَمَانِ الحَيْضِ ، وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ المَحِيضُ الأَوَّلُ مَصْدَراً والثَّاني مكاناً.(6/123)
حكى الواحديُّ في " البَسيط " عن ابن السَّكِّيت : إذا كان الفعلُ من ذوات الثلاثة نحو : كَالَ يكيلُ ، وحاضَ يحيض وأشباهه ، فإِنَّ الاسم منه مكسور والمصدر مفتوح ، مِنْ ذلك مالَ ممالاً ، وهذا مميله يذهب بالكسر إلى الاسم ، وبالفتح إلى المصدر ، ولو فتحهما جميعاً ، أو كسرهما جميعاً في المصدرِ والاسمِ لجازَ ، تقول : المَعَاشُ ، والمَعِيشُ ، والمَغَابُ ، والمَغِيبُ ، والمَسَارُ والمَسِيرُ فثبت أَنَّ لفظ المحيض حقيقةٌ في موضع الحيض ، وأيضاً هو اسمٌ لنفس الحيضِ.
قال ابن الخطيب : وعندي أَنَّهُ ليس كذلك ؛ إذ لو كان المُرادُ بالمحيض هنا الحيض ، لكان قوله تعالى {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} معناه : فاعتزلوا النِّساء في الحيض ، ويكونُ المُرادُ : فاعتزلوا النساء في زمن الحيض ، يكون ظاهره مانعاً من الاستمتاع بهنَّ فيما فوق السُّرَّة ، ودون الرّكبة ، ولما كان هذا المنعُ غير ثابت لزم القول بتطرُّق النَّسخ ، والتَّخصيص إلى الآية ، وهو خلاف الأصل ، أما إذا حملنا المحيض على موضع الحيض ؛ كان معنى الآية : فاعتزلوا النِّسَاءَ في موضع الحيض من النِّسَاء ، وعلى هذا التَّقدير لا يتطرَّقُ إلى الآية نسخٌ ، ولا تخصِيصٌ.
ومن المعلوم أَنَّ اللَّفْظ إذا كان مشتركاً بين معنيين وكان حمله على أحدهما يوجب محذوراً ، وعلى الآخر لا يوجب ذلك المحذور ، فإِنَّ حمل اللَّفظ على المعنى الَّذِي لا يُوجِبُ المحذورَ ، أولى إذا سلَّمنا أَنَّ لفظ المحيض مشتركٌ بين الموضع ، وبين المصَدرِ.
فإن قيل : الدَّليلُ على أَنَّ المُراد من المحيض الحيضُ قوله : {قُلْ هُوَ أَذًى} ، ولو كانَ المُرَادُ الموضع لما صَحَّ هذا الوَصْفُ.(6/124)
قلنا : بتقدير أَنْ يكون المحيض عبارة عن الحَيض ، فالحيض نفسُهُ ليس بِأَذى لأن " الحَيْضَ " عبارةٌ عن الدَّمِ المخصوص ، و" الأَذَى " كيفيَّةٌ مخصوصَةٌ وهو عرض ، والجسم لا يكُونُ نفس العرض فَلا بُدَّ أَنْ يقُولُوا : المرادُ منه أَنَّ الحيض موصوف بكونه أذى ، وإذا جاز ذلك فيجُوزُ لنا أيضاً أن نقول : إِنَّ المراد منه أنَّ ذلك المَوْضع ذو أذًى ، وأيضاً لم لا يجوزُ أَنْ يكون المراد بالمحيض الأَوَّل الحيض ، وبالمحيض الثَّاني موضع الحيضِ كَمَا تقدَّمَ وعلى هذا فيزولُ الإِشكالُ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 63 ـ 66}
قوله تعالى {قُلْ هُوَ أَذًى}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {قُلْ هُوَ أَذًى} أي هو شيء تتأذّى به المرأة وغيرها أي برائحة دمِ الحيض. والأذى كناية عن القَذَر على الجملة. ويُطلق على القول المكروه ؛ ومنه قوله تعالى : {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى} [ البقرة : 264 ] أي بما تسمعه من المكروه. ومنه قوله تعالى : {وَدَعْ أَذَاهُمْ} [ الأحزاب : 48 ] أي دع أَذَى المنافقين لا تجازِهم إلا أن تؤمر فيهم ، وفي الحديث : "وأَميطوا عنه الأَذَى" يعني بـ "الأذى" الشَّعْرَ الذي يكون على رأس الصبيّ حين يولد ، يُحلقُ عنه يوم أسْبُوعه ، وهي العَقِيقة. وفي حديث الإيمان : "وأدناها إماطة الأذى عن الطريق" أي تنحيته ، يعني الشوك والحجر ، وما أشبه ذلك مما يتأذى به المارُّ. وقوله تعالى : {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ} [ النساء : 102 ]. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 85 ـ 86}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {قُلْ هُوَ أَذًى} فقال عطاء وقتادة والسدي : أي قذر ، واعلم أن الأذى في اللغة ما يكره من كل شيء وقوله : {فاعتزلوا النساء فِي المحيض} الاعتزال التنحي عن الشيء ، قدم ذكر العلة وهو الأذى ، ثم رتب الحكم عليه ، وهو وجوب الإعتزال.(6/125)
فإن قيل : ليس الأذى إلا الدم وهو حاصل وقت الاستحاضة مع أن اعتزال المرأة في الاستحاضة غير واجب فقد انتقضت هذه العلة.
قلنا : العلة غير منقوضة لأن دم الحيض دم فاسد يتولد من فضلة تدفعها طبيعة المرأة من طريق الرحم ، ولو احتبست تلك الفضلة لمرضت المرأة ، فذلك الدم جار مجرى البول والغائط ، فكان أذى وقذر ، أما دم الاستحاضة فليس كذلك ، بل هو دم صالح يسيل من عروق تنفجر في عمق الرحم فلا يكون أذى ، هذا ما عندي في هذا الباب ، وهو قاعدة طيبة ، وبتقريرها يتلخص ظاهر القرآن من الطعن والله أعلم بمراده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 55}
قوله تعالى {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ}
قال ابن عاشور :
والنساء اسم جمع للمرأة لا واحد له من لفظه ، والمراد به هنا الأزواج كما يقتضيه لفظ {اعتزلوا} المخاطب به الرجال ، وإنما يعتزل من كان يخالط.
وإطلاق النساء على الأزواج شائع بالإضافة كثيراً نحو : {يا نساء النبي} [ الأحزاب : 30 ] ، وبدون إضافة مع القرينة كما هنا ، فالمراد اعتزلوا نساءكم أي اعتزلوا ما هو أخص الأحوال بهن وهو المجامعة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 366}
قال القرطبى : (6/126)
قوله تعالى : {فاعتزلوا النسآء فِي المحيض} أي في زمن الحيض ، إن حملت المحيض على المصدر ، أو في محل الحيض إن حملته على الاسم. ومقصودُ هذا النهي تركُ المجامعة. وقد اختلف العلماء في مباشرة الحائض وما يُستَباح منها ؛ فرُوي عن ابن عباس وعَبيدةَ السَّلْمانيّ أنه يجب أن يعتزِل الرجلُ فِراش زوجته إذا حاضت. وهذا قولٌ شاذ خارجٌ عن قول العلماء. وإن كان عمومُ الآية يقتضيه فالسُّنّة الثابتة بخلافه ؛ وقد وقَفَتْ على ابن عباس خالتُه ميمونةُ وقالت له : أراغب أنت عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟! وقال مالك والشافعيّ والأُوزاعيّ وأبو حنيفة وأبو يوسف وجماعةٌ عظيمة من العلماء : له منها ما فوق الإزار ؛ " لقوله عليه السلام للسائل حين سأله : ما يَحِلّ لي من امرأتي وهي حائض ؟ فقال : "لِتشدّ عليها إزارَها ثم شأنَكَ بأعلاها" " وقوله عليه السلام لعائشة حين حاضت : " شُدّي على نفسِك إزارَكِ ثم عودي إلى مضجعك " وقال الثَّوريّ ومحمد بن الحسن وبعض أصحاب الشافعيّ : يجتنب موضعَ الدم ؛ لقوله عليه السلام : " اصنعوا كلّ شيء إلا النكاح " وقد تقدّم.
وهو قول داود ، وهو الصحيح من قول الشافعيّ. وروى أبو معشر عن إبراهيم عن مسروق قال : سألت عائشة ما يحل لي من امرأتي وهي حائض ؟ فقالت : كلُّ شيء إلا الفرج. (1)
_______________
(1) ينبنى على هذا الخلاف فى هذه المسألة وما شابهها قاعدة كلية هى :
إذا اجتمع الحلال والحرام غلب الحرام(6/127)
قال الإمام السيوطى رحمه الله :
إذَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ غَلَبَ الْحَرَامُ وَأَوْرَدَهُ جَمَاعَةٌ حَدِيثًا بِلَفْظِ {مَا اجْتَمَعَ الْحَلَالُ وَالْحَرَامُ إلَّا غَلَبَ الْحَرَامُ الْحَلَالَ}.
قَالَ الْحَافِظُ أَبُو الْفَضْلِ الْعِرَاقِيُّ : وَلَا أَصْلَ لَهُ ، وَقَالَ السُّبْكِيُّ فِي الْأَشْبَاهِ وَالنَّظَائِرِ نَقْلًا عَنْ الْبَيْهَقِيّ : هُوَ حَدِيثٌ رَوَاهُ جَابِرٌ الْجُعْفِيُّ ، رَجُلٌ ضَعِيفٌ ، عَنْ الشَّعْبِيُّ عَنْ ابْنِ مَسْعُودٍ ، وَهُوَ مُنْقَطِعٌ.
قُلْت : وَأَخْرَجَهُ مِنْ هَذَا الطَّرِيقِ عَبْدُ الرَّزَّاقِ فِي مُصَنَّفِهِ.
وَهُوَ مَوْقُوفٌ عَلَى ابْنِ مَسْعُودِ لَا مَرْفُوعٌ.
ثُمَّ قَالَ ابْنُ السُّبْكِيّ : غَيْرِ أَنَّ الْقَاعِدَةَ فِي نَفْسِهَا صَحِيحَةٌ.
قَالَ الْجُوَيْنِيُّ فِي السِّلْسِلَةِ : لَمْ يَخْرُجْ عَنْهَا إلَّا مَا نَدَرَ.
فَمِنْ فُرُوعِهَا : إذَا تَعَارَضَ دَلِيلَانِ : أَحَدُهُمَا يَقْتَضِي التَّحْرِيمَ وَالْآخَرُ الْإِبَاحَةَ قُدِّمَ التَّحْرِيمُ فِي الْأَصَحِّ وَمِنْ ثَمَّ قَالَ عُثْمَانُ ، لَمَّا سُئِلَ عَنْ الْجَمْع بَيْن أُخْتَيْنِ بِمِلْكِ الْيَمِينِ " أَحَلَّتْهُمَا آيَةٌ وَحَرَّمَتْهُمَا آيَةٌ.
وَالتَّحْرِيمُ أَحَبُّ إلَيْنَا " وَكَذَلِكَ تَعَارُض حَدِيثِ {لَك مِنْ الْحَائِضِ مَا فَوْق الْإِزَارِ} وَحَدِيثِ {اصْنَعُوا كُلّ شَيْء إلَّا النِّكَاحَ} فَإِنَّ الْأَوَّلَ يَقْتَضِي تَحْرِيمَ مَا بَيْن السُّرَّةِ وَالرُّكْبَةِ.
وَالثَّانِي يَقْتَضِي إبَاحَةَ مَا عَدَا الْوَطْءِ ، فَيُرَجَّحُ التَّحْرِيمُ احْتِيَاطًا.
قَالَ الْأَئِمَّةُ : وَإِنَّمَا كَانَ التَّحْرِيمُ أَحَبَّ لِأَنَّ فِيهِ تَرْكُ مُبَاحٍ لِاجْتِنَابِ مُحَرَّمٍ.
وَذَلِكَ أَوْلَى مِنْ عَكْسِهِ.
وَمِنْهَا : لَوْ اشْتَبَهَتْ مَحْرَمٌ بِأَجْنَبِيَّاتٍ مَحْصُورَاتٍ لَمْ تَحِلّ. أ هـ {الأشباه والنظائر للسيوطى صـ 209}(6/128)
قال العلماء : مباشرة الحائض وهي مُتَّزرة على الاحتياط والقطع للذريعة ، ولأنه لو أباح فخذَيها كان ذلك منه ذَريعة إلى موضع الدم المحرّم بإجماع فأمر بذلك احتياطا ، والمحرَّمُ نفسه موضعُ الدم ؛ فتتفق بذلك معاني الآثار ، ولا تضادّ ، وبالله التوفيق. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 87}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن دم الحيض موصوف بصفات حقيقية ويتفرع عليه أحكام شرعية ، أما الصفات الحقيقية فأمران أحدهما : المنبع ودم الحيض دم يخرج من الرحم ، قال تعالى : {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ} [ البقرة : 228 ] قيل في تفسيره : المراد منه الحيض والحمل ، وأما دم الاستحاضة ، فإنه لا يخرج من الرحم ، لكن من عروق تنقطع في فم الرحم ، قال عليه والسلام في صفة دم الاستحاضة : " إنه دم عرق انفجر " وهذا الكلام يؤيد ما ذكرنا في دفع النقض عن تعليل القرآن.
والنوع الثاني : من صفات دم الحيض : الصفات التي وصف رسول الله صلى الله عليه وسلم دم الحيض بها أحدها : أنه أسود والثاني : أنه ثخين ، والثالث : أنه محتدم وهو المحترق من شدة حرارته ، الرابعة : أنه يخرج برفق ولا يسيل سيلاناً ، والخامسة : أن له رائحة كريهة بخلاف سائر الدماء وذلك لأنه من الفضلات التي تدفعها الطبيعة السادسة : أنه بحراني ، وهو شديد الحمرة وقيل : ما تحصل فيه كدورة تشبيهاً له بماء البحر ، فهذه الصفات هي الصفات الحقيقية.(6/129)
ثم من الناس من قال : دم الحيض يتميز عن دم الاستحاضة فكل دم كان موصوفاً بهذه الصفات فهو دم الحيض ، وما لا يكون كذلك لا يكون دم حيض ، وما اشتبه الأمر فيه فالأصل بقاء التكاليف وزوالها إنما يكون لعارض الحيض ، فإذا كان غير معلوم الوجود بقيت التكاليف التي كانت واجبة على ما كان ، ومن الناس من قال : هذه الصفات قد تشتبه على المكلف ، فإيجاب التأمل في تلك الدماء وفي تلك الصفات يقتضي عسراً ومشقة ، فالشارع قدر وقتاً مضبوطاً متى حصلت الدماء فيه كان حكمها حكم الحيض كيف كانت تلك الدماء ، ومتى حصلت خارج ذلك الوقت لم يكن حكمها حكم الحيض كيف كانت صفة تلك الدماء ، والمقصود من هذا إسقاط العسر والمشقة عن المكلف ، ثم إن الأحكام الشرعية للحيض هي المنع من الصلاة والصوم واجتناب دخول المسجد ومس المصحف وقراءة القرآن ، وتصير المرأة به بالغة ، والحكم الثابت للحيض بنص القرآن إنما هو حظر الجماع على ما بينا كيفية دلالة الآية عليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 56}
فائدة
قال البقاعى :
{في المحيض} أي زمنه ، وأظهره لئلا يلبس لو أضمر بأن الضمير لمطلق المراد بالأذى من الدم فيشمل الاستحاضة وهي دم صالح يسيل من عرق ينفجر من عنق الرحم فلا يكون أذى كالحيض الذي هو دم فاسد يتولد من طبيعة المرأة من طريق الرحم ولو احتبس لمرضت المرأة ، فهو كالبول والغائط فيحل الوطء معه دون الحيض لإسقاط العسر. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 421}
فصل
قال الفخر : (6/130)
اتفق المسلمون على حرمة الجماع في زمن الحيض ، واتفقوا على حل الاستمتاع بالمرأة بما فوق السرة ودون الركبة ، واختلفوا في أنه هل يجوز الاستمتاع بما دون السرة وفوق الركبة ، فنقول : إن فسرنا المحيض بموضع الحيض على ما اخترناه كانت الآية دالة على تحريم الجماع فقط ، فلا يكون فيها دلالة على تحريم ما وراءه ، بل من يقول : إن تخصيص الشيء بالذكر يدل على أن الحكم فيما عداه بخلافه ، يقول إن هذه الآية تدل على حل ما سوى الجماع ، أما من يفسر المحيض بالحيض ، كان تقدير الآية عنده فاعتزلوا النساء في زمان الحيض ، ثم يقول ترك العمل بهذه الآية فيما فوق السرة ودون الركبة ، فوجب أن يبقى الباقي على الحرمة وبالله التوفيق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 56}
قوله تعالى : {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ الله}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ الله} فاعلم أن قوله : {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} أي ولا تجامعوهن ، يقال قرب الرجل امرأته إذا جامعها ، وهذا كالتأكيد لقوله تعالى : {فاعتزلوا النساء فِي المحيض} ويمكن أيضاً حملها على فائدة جليلة جديدة وهي أن يكون قوله : {فاعتزلوا النساء فِي المحيض} نهياً عن المباشرة في موضع الدم وقوله : {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} يكون نهياً عن الالتذاذ بما يقرب من ذلك الموضع.
وفي الآية مسائل : (6/131)
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير ، ونافع ، وأبو عمرو ، وابن عامر ، ويعقوب الحضرمي ، وأبو بكر عن عاصم ( حتى يطهرن ) خفيفة من الطهارة ، وقرأ حمزة والكسائي {يَطْهُرْنَ} بالتشديد ، وكذلك حفص عن عاصم ، فمن خفف فهو زوال الدم لأن يطهرن من طهرت امرأة من حيضها ، وذلك إذا انقطع الحيض ، فالمعنى : لا تقربوهن حتى يزول عنهن الدم ، ومن قرأ : {يَطْهُرْنَ} بالتشديد فهو على معنى يتطهرن فأدغم كقوله : {يأَيُّهَا المزمل} [ المزمل : 1 ] ، و{يا أيها المدثر} [ المدثر : 1 ] أي المتزمل والمتدثر وبالله التوفيق.
المسألة الثانية : أكثر فقهاء الأمصار على أن المرأة إذا انقطع حيضها لا يحل للزوج مجامعتها إلا بعد أن تغتسل من الحيض ، وهذا قول مالك والأوزاعي والشافعي والثوري ، والمشهور عن أبي حنيفة أنها إن رأت الطهر دون عشرة أيام لم يقربها زوجها ، وإن رأته لعشرة أيام جاز أن يقربها قبل الاغتسال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 59}
قال ابن عاشور :
وقوله : {ولا تقربوهن حتى يطهرن} جاء النهي عن قربانهن تأكيداً للأمر باعتزالهن وتبييناً للمراد من الاعتزال وإنه ليس التباعد عن الأزواج بالأبدان كما كان عند اليهود بل هو عدم القِربان ، فكان مقتضى الظاهر أن تكون جملة {ولا تقربوهن} مفصولة بدون عطف ، لأنها مؤكدة لمضمون جملة {فاعتزلوا النساء في المحيض} ومبينة للاعتزال وكلا الأمرين يقتضي الفصل ، ولكن خولف مقتضى الظاهر اهتماماً بهذا الحكم ليكون النهي عن القربان مقصوداً بالذات معطوفاً على التشريعات.(6/132)
ويكنى عن الجماع بالقربان بكسر القاف مصدر قرِب بكسر الراء ولذلك جيء فيه بالمضارع المفتوح العين الذي هو مضارع قرب كسمِع متعدياً إلى المفعول ؛ فإن الجماع لم يجىء إلا فيه دون قرب بالضم القاصر يقال قرُب منه بمعنى دنا وقربه كذلك واستعماله في المجامعة ، لأن فيها قرباً ولكنهم غلبوا قرب المكسور العين فيها دون قرب المضموم تفرقة في الاستعمال ، كما قالوا بَعُدَ إذا تجافى مكانه وبَعِدَ كمعنى البُعد المعنوي ولذلك يدعو بلا يَبْعَدْ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 366 ـ 367}
فصل في ورود لفظ الطهور في القرآن
قال أبو العبَّاس المقري : ورد لفظ " الطُّهُورِ " في القرآن بإزاء تسعة معانٍ :
الأول : انقطاع الدَّم ، قال تعالى : {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} [ البقرة : 222 ] ، أي : حتى ينقطع الدَّم.
الثاني : الاستنجاء بالماء ؛ قال تعالى : {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} [ التوبة : 108 ] ، أي : يستنجون بالماء.
الثالث : الاغتسال ، قال تعالى : {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ} [ البقرة : 222 ] أي : اغْتَسَلْنَ.
الرابع : التَّنظيف من الأدناس ، قال تعالى : {وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ} [ البقرة : 25 ].
الخامس : التَّطهُّر من الذُّنوب ؛ قال تعالى : {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون} [ الواقعة : 79 ] ، ومثله : {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [ التوبة : 103 ].
السادس : التَّطهير من الشّرك ، قال تعالى : {وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ} [ الحج : 26 ] ، أي : طهره من الشرك.
السابع : الطهور الطيب ، قال تعالى : {ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ} [ الأحزاب : 53 ] أي أطيب.
الثامن : الطهور الحلّ ، قال تعالى : {هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ} [ هود : 78 ] ، أي : أحل.(6/133)
التاسع : التطهر من الرّجس ، قال تعالى : {وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً} [ الأحزاب : 33 ] ، أي : من الآثام والرِّجس. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 74 ـ 75}
فصل فى اختلافهم فى المراد بقوله تعالى : {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله}
قال الفخر :
اختلفوا في المراد بقوله تعالى : {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} وفيه وجوه الأول : وهو قول ابن عباس ومجاهد وإبراهيم وقتادة وعكرمة : فأتوهن في المأتي فإنه هو الذي أمر الله به ، ولا تؤتوهن في غير المأتي ، وقوله : {مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} أي في حيث أمركم الله ، كقوله : {إِذَا نُودِىَ للصلاة مِنْ يَوْمِ الجُمعة} [ الجمعة : 9 ] أي في يوم الجمعة.
الثاني : قال الأصم والزجاج : أي فأتوهن من حيث يحل لكم غشيانهن ، وذلك بأن لا يكن صائمات ، ولا معتكفات ، ولا محرمات الثالث : وهو قول محمد بن الحنفية فأتوهن من قبل الحلال دون الفجور ، والأقرب هو القول الأول لأن لفظة {حَيْثُ} حقيقة في المكان مجاز في غيره. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 60}
فائدة
قال ابن عاشور :
ورجح الطبري قراءة التشديد قائلاً : "لإجماع الأمة على أنه حرام على الرجل أن يقرب امرأته بعد انقطاع الدم عنها حتى تطهر" وهو مردود بأن لا حاجة إلى الاستدلال بدليل الإجماع ولا إلى ترجيح القراءة به ، لأن اللفظ كاف في إفادة المنع من قربان الرجل امرأته حتى تطهر بدليل مفهوم الشرط في قوله : {فإذا تطهرن}.(6/134)
وقد دلت الآية على أن غاية اعتزال النساء في المحيض هي حصول الطهر فإن حملنا الطهر على معناه اللغوي فهو النقاء من الدم ويتعين أن يحمل التطهر في قوله : {فإذا تطهرن} على المعنى الشرعي ، فيحصل من الغاية والشرط اشتراط النقاء والغسل وإلى هذا المعنى ذهب علماء المالكية ونظَّروه بقوله تعالى : {وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} [ النساء : 6 ] وإن حمل الطهر في الموضعين على المعنى الشرعي لا سيما على قراءة ( حتى يطَّهَّرْن ) حصل من مفهوم الغاية ومن الشرط المؤكِّد له اشتراط الغسل بالماء وهو يستلزم اشتراط النقاء عادة ، إذ لا فائدة في الغسل قبل ذلك. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 368}(6/135)
وقال العلامة ابن العربى رحمه الله :
قَوْله تَعَالَى : {فَأْتُوهُنَّ} : مَعْنَاهُ فَجِيئُوهُنَّ ، أَوْ يَكُونُ ذَلِكَ كِنَايَةً عَنْ الْوَطْءِ ، كَمَا كَنَّى عَنْهُ بِالْمُلَامَسَةِ فِي قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ : " إنَّ اللَّهَ حَيِيٌّ كَرِيمٌ يَعْفُو وَيُكَنِّي ، كَنَّى بِاللَّمْسِ عَنْ الْجِمَاعِ ".
وَأَمَّا مَوْرِدُهُ فَقَدْ كَانَ يَتَرَكَّبُ عَلَى قَوْله تَعَالَى : {فَاعْتَزِلُوا} لَوْلَا قَوْلُهُ : " مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمْ اللَّهُ " فَإِنَّهُ خَصَّصَهُ وَهِيَ : الْمَسْأَلَةُ التَّاسِعَةَ عَشْرَةَ : وَفِيهَا سِتَّةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مِنْ حَيْثُ نُهُوا عَنْهُنَّ.
الثَّانِي : الْقُبُلُ ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ فِي أَحَدِ قَوْلَيْهِ.
الثَّالِثُ : مِنْ جَمِيعِ بَدَنِهَا ؛ قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا.
الرَّابِعُ : مِنْ قَبْلِ طُهْرِهِنَّ ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ وَقَتَادَةُ.
الْخَامِسُ : مِنْ قَبْلِ النِّكَاحِ ؛ قَالَهُ ابْنُ الْحَنَفِيَّةِ.
السَّادِسُ : مِنْ حَيْثُ أَحَلَّ اللَّهُ تَعَالَى لَكُمْ الْإِتْيَانَ ، لَا صَائِمَاتٍ وَلَا مُحْرِمَاتٍ وَلَا مُعْتَكِفَاتٍ ؛ قَالَهُ الْأَصَمُّ.
أَمَّا الْأَوَّلُ : فَهُوَ قَوْلٌ مُجْمَلٌ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ عَنْهُ مُخْتَلَفٌ فِيهِ ، فَكَيْفَمَا كَانَ النَّهْيُ جَاءَتْ الْإِبَاحَةُ عَلَيْهِ ؛ فَبَقِيَ تَحْقِيقُ مَوْرِدِ النَّهْيِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ : الْقُبُلُ ، فَهُوَ مَذْهَبُ أَصْبَغَ وَغَيْرِهِ ؛ وَيَشْهَدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى : {قُلْ هُوَ أَذًى} وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.
وَأَمَّا الثَّالِثُ : وَهُوَ جَمِيعُ بُدْنِهَا فَالشَّاهِدُ لَهُ قَوْله تَعَالَى : {فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ} ؛ وَقَدْ تَقَدَّمَ.
(6/136)
وَأَمَّا الرَّابِعُ : وَهُوَ قَوْلُهُ : مِنْ قَبْلِ طُهْرِهِنَّ ؛ فَيَعْنِي بِهِ إذَا طَهُرْنَ ؛ وَهُوَ قَوْلُ مَنْ قَالَ بِالْفَرْجِ ؛ لِأَنَّ اشْتِرَاطَ الطَّهَارَةِ لَا يَكُونُ إلَّا بِالْفَرْجِ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنْ صَحِيحِ الْأَقْوَالِ ، وَإِنْ شِئْت فَرَكِّبْهُ عَلَى الْأَقْوَالِ كُلِّهَا يَتَرَكَّبْ ؛ فَمَا صَحَّ فِيهَا صَحَّ فِيهِ.
وَأَمَّا الْخَامِسُ : وَهُوَ النِّكَاحُ ، فَضَعِيفٌ لِمَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَنَّ قَوْله تَعَالَى : {النِّسَاءَ} إنَّمَا يُرِيدُ بِهِ الْأَزْوَاجَ اللَّوَاتِي يَخْتَصُّ التَّحْرِيمُ فِيهِنَّ بِحَالَةِ الْحَيْضِ.
وَأَمَّا السَّادِسُ : فَصَحِيحٌ فِي الْجُمْلَةِ ، لِأَنَّ كُلَّ مَنْ ذُكِرَ نَهَى اللَّهُ تَعَالَى عَنْ وَطْئِهِ ، وَلَكِنْ عُلِمَ ذَلِكَ مِنْ غَيْرِ هَذِهِ الْآيَةِ بِأَدِلَّتِهَا ؛ وَإِنَّمَا اخْتَصَّتْ الْآيَةُ بِحَالِ الطُّهْرِ ، كَمَا اخْتَصَّ قَوْله تَعَالَى : {وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ} يَعْنِي : فِي حَالَةِ الصَّوْمِ وَالِاعْتِكَافِ ، وَلَا يُقَالُ : إنَّ هَذَا كُلَّهُ يَخْرُجُ مِنْ هَذِهِ الْآيَةِ ، وَإِنَّهَا مُرَادَةٌ بِهِ ، وَإِنْ كَانَ مُحْتَمَلًا لَهُ ؛ فَلَيْسَ كُلُّ مُحْتَمَلٍ فِي اللَّفْظِ مُرَادًا بِهِ فِيهِ ، وَهَذَا مِنْ نَفِيسِ عِلْمِ الْأُصُولِ ، فَافْهَمْهُ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 338 ـ 339}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقوله : {فأتوهن} الأمر هنا للإباحة لا محالة لوقوعه عقب النهي مثل {وإذا حللتم فاصطادوا} [ المائدة : 2 ] عبر بالإتيان هنا وهو شهير في التكني به عن الوطء لبيان أن المراد بالقِربان المنهي عنه هو الذي المعنى الكنائي فقد عبر بالاعتزال ثم قُفِّيَ بالقربان ثم قفي بالإتيان ومع كل تعبير فائدة جديدة وحكم جديد وهذا من إبداع الإيجاز في الإطناب.(6/137)
وقوله : {من حيث أمركم الله} حيث اسم مكان مبهم مبنيٌ على الضم ملازمٌ الإضافة إلى جملة تحدده لِزوال إبهامها ، وقد أشكل المراد من هذا الظرف على الذين تصدوا لتأويل القرآن وما أرى سبب إشكاله إلا أن المعنى قد اعتاد العرب في التعبير عنه سلوك طريق الكناية والإغماض وكان فهمه موكولاً إلى فطنهم ومعتاد تعبيرهم. فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة والربيع أي إلا من حيث أمركم الله بأن تعتزلوهن منه مدة الحيض يعني القبل قال القرطبي ( من ) بمعنى في ونظره بقوله تعالى : {أروني ماذا خلقوا من الأرض} [ الأحقاف : 4 ] وقوله : {وإذا نودي للصلاة من يوم الجمعة} [ الجمعة : 9 ] ، وعن ابن عباس وأبي رزين مسعود بن مالك والسُّدي وقتادة أن المعنى : من الصفة التي أمركم الله وهي الطهر ، فحيث مجاز في الحال أو السبب و( من ) لابتداء الأسباب فهي بمعنى التعليل.
والذي أراه أن قوله : {من حيث أمركم الله} قد علم السامعون منه أنه أمر من الله كان قد حصل فيما قبل ، وأما ( حيث ) فظرف مكان وقد تستعمل مجازاً في التعليل فيجوز أن المراد بأمر الله أمره الذي تضمنته الغاية بـ ( حتى ) في قوله : {ولا تقربوهن حتى يطهرن} لأن غاية النهي تنتهي إلى الإباحة فالأمر هو الإذن ، و( من ) للابتداء المجازي ، و( حيث ) مستعملة في التعليل مجازاً تخييليا أي لأن الله أمركم بأن تأتوهن عند انتهاء غاية النهي بالتطهر.(6/138)
أو المراد بأمر الله أمره الذي به أباح التمتع بالنساء وهو عقد النكاح ، فحرف ( من ) للتعليل والسببية ، و( حيث ) مستعار للمكان المجازي وهو حالة الإباحة التي قبل النهي كأنهم كانوا محجوزين عن استعمال الإباحة أو حجر عليهم الانتفاع بها ثم أذن لهم باستعمالها فشبهت حالتهم بحالة من حبس عند مكان ثم أطلق سراحه فهو يأتي منه إلى حيث يريد. وعلى هذين المعنيين لا يكون في الآية ما يؤذن بقصد تحديد الإتيان بأن يكون في مكان النسل ، ويعضد هذين المعنيين تذييل الكلام بجملة : {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 370}
قوله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما دل ما في السياق من تأكيد على أن بعضهم عزم أو أحب أن يفعل بعض ما تقدم النهي عنه علل بقوله : {إن الله} مكرراً الاسم الأعظم تعظيماً للمقام ولم يضمره إعلاماً بأن هذا حكم عام لما يقع من هفوة بسبب الحيض أو غيره {يحب} أي بما له من الاختصاص بالإحاطة بالإكرام وإن كان مختصاً بالإحاطة بالجلال {التوابين} أي الرجاعين عما كانوا عزموا عليه من ذلك ومن كل ذنب أوجب لهم نقص الإنسانية ولا سيما شهوة الفرج الإلمام به ، كلما وقعت منهم زلة أحدثوا لها توبة لأن ذلك من أسباب إظهاره سبحانه صفة الحلم والفعو والجود والرحمة والكرم " لو لم تذنبوا لجاء الله بقوم يذنبون فيستغفرون فيغفر لهم " أخرجه مسلم والترمذي عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه. وإذا أحب من يتكرر منه التوبة بتكرار المعاصي فهو في التائب الذي لم يقع منه بعد توبته زلة إن كان ذلك يوجد أحب وفيه أرغب وبه أرحم ، ولما كان ذلك مما يعز التخلص من إشراكه إما في تجاوز ما في المباشرة أو في الجماع أولاً أو آخراً أتى بصيغة المبالغة.(6/139)
قال الحرالي : تأنيساً لقلوب المتحرجين من معاودة الذنب بعد توبة منه ، أي ومن معاودة التوبة بعد الوقوع في ذنب ثان لما يخشى العاصي من أن يكتب عليه كذبه كلما أحدث توبة وزل بعدها فيعد مستهزئاً فيسقط من عين الله ثم لا يبالي به فيوقفه ذلك عن التوبة.
ولما كانت المخالطة على الوجه الذي نهى الله عنه قذره جداً أشار إلى ذلك بقوله : {ويحب} ولما كانت شهوة النكاح وشدة الشبق جديرة بأن تغلب الإنسان إلا بمزيد مجاهدة منه أظهر تاء التفعل فقال : {المتطهرين } أي الحاملين أنفسهم على ما يشق من أمر الطهارة من هذا وغيره ، وهم الذين يبالغون ورعاً في البعد عن كل مشتبه فلا يواقعون حائضاً إلا بعد كمال التطهر ؛ أي يفعل معهم من الإكرام فعل المحب وكذا كل ما يحتاج إلى طهارة حسية أو معنوية. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 421 ـ 422}
قال الفخر :
التواب هو المكثر من فعل ما يسمى توبة ، وقد يقال هذا من حق الله تعالى من حيث يكثر في قبول التوبة.
فإن قيل : ظاهر الآية يدل على أنه يحب تكثير التوبة مطلقاً والعقل يدل على أن التوبة لا تليق إلا بالمذنب ، فمن لم يكن مذنباً وجب أن لا تحسن منه التوبة.(6/140)
والجواب من وجهين : الأول : أن المكلف لا يأمن ألبتة من التقصير ، فتلزمه التوبة دفعاً لذلك التقصير المجوز الثاني : قال أبو مسلم الأصفهاني {التوبة} في اللغة عبارة عن الرجوع ورجوع العبد إلى الله تعالى في كل الأحوال محمود اعترض القاضي عليه بأن التوبة وإن كانت في أصل اللغة عبارة عن الرجوع ، إلا أنها في عرف الشرع عبارة عن الندم على ما فعل في الماضي ، والترك في الحاضر ، والعزم على أن لا يفعل مثله في المستقبل فوجب حمله على هذا المعنى الشرعي دون المفهوم اللغوي ، ولأبي مسلم أن يجيب عنه فيقول : مرادي من هذا الجواب أنه إن أمكن حمل اللفظ على التوبة الشرعية ، فقد صح اللفظ وسلم عن السؤال ، وإن تعذر ذلك حملته على التوبة بحسب اللغة الأصلية ، لئلا يتوجه الطعن والسؤال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 60}
قال ابن عاشور :
{إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين} وهو ارتفاق بالمخاطبين بأن ذلك المنع كان لمنفعتهم ليكونوا متطهرين ، وأما ذكر التوابين فهو ادماج للتنويه بشأن التوبة عند ذكر ما يدل على امتثال ما أمرهم الله به من اعتزال النساء في المحيض أي إن التوبة أعظم شأناً من التطهر أي إن نية الامتثال أعظم من تحقق مصلحة التطهر لكم ، لأن التوبة تطهر روحاني والتطهر جثماني. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 370}
قوله تعالى : {وَيُحِبُّ المتطهرين}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَيُحِبُّ المتطهرين} ففيه وجوه أحدها : المراد منه التنزيه عن الذنوب والمعاصي وذلك لأن التائب هو الذي فعله ثم تركه ، والمتطهر هو الذي ما فعله تنزهاً عنه ، ولا ثالث لهذين القسمين ، واللفظ محتمل لذلك ، لأن الذنب نجاسة روحانية ، ولذلك قال : {إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ} [ التوبة : 28 ] فتركه يكون طهارة روحانية ، وبهذا المعنى يوصف الله تعالى بأنه طاهر مطهر من حيث كونه منزهاً عن العيوب والقبائح ، ويقال : فلان طاهر الذيل.(6/141)
والقول الثاني : أن المراد : لا يأتيها في زمان الحيض ، وأن لا يأتيها في غير المأتى على ما قال : {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} ومن قال بهذا القول قال : هذا أولى لأنه أليق بما قبل الآية ولأنه تعالى قال حكاية عن قوم لوط {أَخْرِجُوهُم مّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [ الأعراف : 82 ] فكان قوله : {وَيُحِبُّ المتطهرين} ترك الإتيان في الأدبار.
والقول الثالث : أنه تعالى لما أمرنا بالتطهر في قوله : {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ} فلا جرم مدح المتطهر فقال : {وَيُحِبُّ المتطهرين} والمراد منه التطهر بالماء ، وقد قال تعالى : {رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المتطهرين} [ التوبة : 108 ] فقيل في التفسير : إنهم كانوا يستنجون بالماء فأثنى الله عليهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 60}
وقال القرطبى :
قيل : التوابون من الذنوب والشرك. والمتطهرون أي بالماء من الجنابة والأحداث ؛ قاله عطاء وغيره. وقال مجاهد : من الذنوب ؛ وعنه أيضاً : من إتيان النساء في أدبارهنّ. ابن عطية : كأنه نظر إلى قوله تعالى حكاية عن قوم لوط : {أَخْرِجُوهُمْ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ} [ الأعراف : 82 ]. وقيل : المتطهرون الذين لم يُذنبوا. فإن قيل : كيف قدم بالذكر الذي أذنب على من لم يذنب ؛ قيل : قدَّمه لئلا يقنط التائب من الرحمة ولا يعجب المتطهر بنفسه ؛ كما ذكر في آية أُخرى : {فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات} [ فاطر : 32 ]. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 91}
قال السعدى :
ولما كان هذا المنع لطفا منه تعالى بعباده ، وصيانة عن الأذى قال تعالى : {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ} أي : من ذنوبهم على الدوام {وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} أي : المتنزهين عن الآثام وهذا يشمل التطهر الحسي من الأنجاس والأحداث.(6/142)
ففيه مشروعية الطهارة مطلقا ، لأن الله يحب المتصف بها ، ولهذا كانت الطهارة مطلقا ، شرطا لصحة الصلاة والطواف ، وجواز مس المصحف ، ويشمل التطهر المعنوي عن الأخلاق الرذيلة ، والصفات القبيحة ، والأفعال الخسيسة. أ هـ {تفسير السعدى صـ 100}
فائدة
قال ابن عرفة
قوله تعالى : {إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين...}.
التَّشديد لتكثير التَّوبة ودوامها ، فقد تكون توبة واحدة لكنّها دائمة فمن يذكر المعصية ويندم عليها تائب ، ومن يذكرها ويتشوّق لعودته إليها غير تائب لأنه مصر عليها ، وتارة يقف ولا يندم ولا يتشوّق إلى العودة ، واختلفوا هل تجب التوبة في كل زمن هو فيه ذاكر للمعصية ، أم لا تجب على قولين ؟ . أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 289}
قال أبو حيان :
والذي يظهر أنه تعالى ذكر في صدر الآية {يسئلونك عن المحيض} ودل السبب على أنهم كانت لهم حالة يرتكبونها حالة الحيض ، من مجامعتهنّ في الحيض في الفرج ، أو في الدبر ، ثم أخبر الله تعالى بالمنع من ذلك ، وذلك في حالة الحيض في الفرج أو في الدبر ، ثم أباح الإتيان في الفرج بعد انقطاع الدم والتطهر الذي هو واجب على المرأة لأجل الزوج ، وإن كان ليس مأموراً به في لفظ الآية ، فأثنى الله تعالى على من امتثل أمر الله تعالى ، ورجع عن فعل الجاهلية إلى ما شرعه تعالى ، وأثنى على من امتثلت أمره تعالى في مشروعية التطهر بالماء ، وأبرز ذلك في صورتين عامتين ، استدرج الأزواج والزوجات في ذلك ، فقال تعالى : {إن الله يحب التوابين} أي : الراجعين إلى ما شرع {ويحب المتطهرين} بالماء فيما شرع فيه ذلك فكان ختم الآية بمحبة الله من اندرج فيه الأزواج والزوجات. وذكر الفعل ليدل على اختلاف الجهتين من التوبة والتطهر ، وأن لكل من الوصفين محبة من الله يخص ذلك الوصف ، أو كرر ذلك على سبيل التوكيد.
(6/143)
وقد أثنى الله تعالى على أهل قباء بقوله : {فيه رجال يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين} وسألهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن السبب الذي أثنى الله به عليهم ، فقالوا : كنا نجمع بين الاستجمار والإستنجاء بالماء ، أو كلاماً هذا معناه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 179 ـ 180}
فصل فى مسائل مهمة
قال الخازن :
المسألة الأولى : أجمع المسلمون على تحريم الجماع في زمن الحيض ، ومستحله كافر عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى حائضاً أو امرأة في دبرها أو كاهناً فقد كفر بما أنزل على محمد " أخرجه الترمذي. وقال : إنما معنى هذا عند أهل العلم على التغليظ ومن فعله وهو عالم بالتحريم عزره الإمام وفي وجوب الكفارة قولان أحدهما أنه يستغفر الله ويتوب إليه وكفارة عليه وهو قول أبي حنيفة والشافعي في الجديد ، والقول الثاني أنه تجب عليه الكفارة ، وهو القول القديم للشافعي وبه قال أحمد بن حنبل : لما روي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الرجل يقع على امرأته وهي حائض ، قال : يتصدق بنصف دينار وفي رواية. قال : إذا كان دماً أحمر فدينار وإن كان دماً فنصف دينار أخرجه الترمذي.
وقال : رفعه بعضهم عنه ابن عباس ووقفه بعضهم.(6/144)
المسألة الثانية : أجمع العلماء على جواز الاستمتاع بالمرأة الحائض بما فوق السرة ودون الركبة وجواز مضاجعتها وملامستها ، ويدل على ذلك ما روي عن عائشة قالت : كانت إحدانا إذا كانت حائضاً وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يباشرها أمرها أن تأتزر بإزار في فور حيضها ، ثم يباشرها وأيكم يملك إربه كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يملك إربه وفي رواية قالت : كنت اغتسل أنا ورسول الله صلى الله عليه وسلم من إناء واحد وكلانا جنب وكان يأمرني فأتزر فيباشرني وأنا حائض أخرجاه في الصحيحين المراد بالمباشرة الاستمتاع بما دون الفرج ، وفور كل شيء أوله وابتناؤه وقولها يملك إربه يروى بسكون الراء وهو العضو وبفتحها وهو الحاجة ( م ) عن عائشة قالت : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ناوليني الخمرة من المسجد قلت : أنا حائض. قال إن حيضتك ليس في يدك. الخمرة حصير صغير مضفور من سعف النخل أو غيره بقدر الكف وقولها : من المسجد يعني ناداها من المسجد لأنه صلى الله عليه وسلم كان معتكفاً في المسجد ، وعائشة في حجرتها فطلب منها الخمرة وهي حائض.
المسألة الثالثة : يحرم على الحائض الصلاة والصوم ودخول المسجد وقراءة القرآن ومس المصحف وحلمه ، فلو أمنت الحائض من التلويث في عبور المسجد جاز في أحد الوجهين قياساً على الجنب والثاني لا لأن حدثها أغلظ ، ويجب على الحائض قضاء الصوم دون الصلاة لما روي عن معاذة العدوية ، قالت : سألت عائشة فقلت : ما بال الحائض تقضي الصوم ولا تقضي الصلاة قالت : أحرورية أنت ؟ قلت لست بحرورية ولكني أسأل قالت : كان يصيبنا ذلك فنؤمر بقضاء الصوم ولا نؤمر بقضاء الصلاة أخرجاه في الصحيحين.
(6/145)
المسألة الرابعة : لا يرتفع شيء مما منعه الحيض بانقطاع الدم ما لم تغتسل ، أو تتيمم عند عدم الماء إلا الصوم ، فإنه إذا انقطع دمها بالليل ونوت الصوم فإنه يصح ، وإن اغتسلت في النهار وذهب أبو حنيفة إلى أنه يجوز للزوج غشيانها إذا انقطع الدم لأكثر الحيض ، وهو عشرة أيام عنده قبل الغسل ، ومذهب الشافعي وغيره من العلماء أنه لا يجوز للزوج غشيانها ما لم تغتسل من الحيض أو تتيمم عند عدم الماء لأن الله تعالىعلق جواز وطء الحائض بشرطين : أحدهما انقطاع الدم والثاني الغسل فقال : {ولا تقربوهن حتى يطهرن} يعني من الحيض {فإذا تطهرن} يعني اغتسلن {فأتوهن من حيث أمركم الله} فدل ذلك على أن الوطء لا يحل قبل الغسل. وقوله تعالى : {إن الله يحب التوابين} يعني من الذنوب ، والتواب الذي كلما أذنب جدد توبة ، وقيل : التواب هو الذي لا يعود إلى الذنب {ويحب المتطهرين} يعني من الأحداث وسائر النجاسات بالماء. وقيل : المتطهرين من الشرك وقيل : هم الذين لم يصيبوا الذنوب. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 149}(6/146)
بحث طبى فى أذى المحيض
يقذف الغشاء المبطن للرحم أثناء الحيض وبفحص دم الحيض تحت المجهر نجد بالإضافة إلى كرات الدم الحمراء والبيضاء قطعاً من الغشاء المبطن للرحم. ويكون الرحم متقرحاً نتيجة لذلك.فهو معرض للعدوى البكتيرية. ومن المعلوم طبياً أن الدم هو خير بيئة لتكاثر الميكروبات ونموها... وتقل مقاومة الرحم للميكروبات الغازية نتيجة لذلك ويصبح دخول الميكروبات الموجودة على سطح القضيب يشكل خطراً داهما على الرحم.. ومما يزيد الطين بلة أن مقاومة المهبل لغزوا البكتيريا تكون في أدنى مستواها أثناء الحيض.. إذ يقل إفراز المهبل الحامض الذي يقتل الميكروبات ويصبح الإفراز أقل حموضة إن لم يكن قلوي التفاعل....
كما تقل المواد المطهرة الموجودة بالمهبل أثناء الحيض إلى أدنى مستوى لها... ليس ذلك فحسب ولكن جدار المهبل الذي يتألف من عدة طبقات يقل أثناء الحيض إلى أدنى مستوى لها.
ـ يمتد الالتهاب إلى قناة الحيض غلى أدنى مستوى لها.
ـ يمتد الالتهاب إلى قناة مجرى البول فالكلى.
ـ يصاحب الحيض آلام شديدة.
ـ تصاب كثير من النساء أثناء الحيض بحالة كآبة وضيق كما أن حالتها العقلية والفكرية تكون في أدنى درجاتها أثناء الحيض لذلك نهى رسول الله عن تطليق النساء أثناء الحيض.
ـ تصاب بعض النساء بصداع نصفي ( الشقيقة ) قرب بداية الحيض وآلام مبرحة.
· ـ تقل الرغبة الجنسية لدى المراة أثناء الحيض.
· ـ يسبب الحيض فقر دم للمرأة.
· ـ تنخفض درجة حرارة المرأة أثناء الحيض درجة مؤوية واحدة.
· ـ تزيد شراسة الميكروبات أثناء الحيض في دم الحيض وخاصة ميكروبات السيلان
· ـ تصاب الغدد بالتغير فتقل أفرازاتها.
· ـ يبطىء النبض وينخفض ضغط الدم فيسبب الشعور بالدوخة والفتور والكسل.
· ـ لا يتم الحمل أثناء الحيض.
ـ لا يقتصر الأذى على الحائض بل ينتقل الأذى إلى الرجل الذي وطئها أيضاً.(6/147)
ـ ظهور بحث حديث قدمه البروفسور عبد الله باسلامة إلى المؤتمر الطبي السعودي جاء فيه أن الجماع أثناء الحيض قد يكون أحد أسباب سرطان عنق الرحم ويحتاج الأمر إلى مزيد من الدراسة.
· وتنتقل الميكروبات من قناة الرحم إلى مجرى البول البروستاتو المثانة.
والتهاب البروستات سرعان ما يزمن لكثرة قنواتها الضيقة الملتفة والتي نادراً الدواء ما يتمكن الدواء بكمية كافية من قتل الميكروبات المختفية في تلافيفها...فإذا ما أزمن التهاب البروستاتا فإن الميكروبات سرعان ما تغزوا بقية الجهاز البولي التناسلي فتنتقل إلى الحالبين ثم إلى الكلى... وهو العذاب المستمر...حتى نهاية الأجل....
وقد ينتقل الميكروب من البروستاتا إلى الحويصلات المنوية فالحبل المنوي فالبربخ فالخصيتين... وقد يسبب ذلك عقماً بسبب انسداد قناة المني. أ هـ
المرجع :
خلق الإنسان بين الطب والقرآن د. محمد على البار(6/148)
قوله تعالى : {(نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما بين سبحانه وتعالى المأتي في الآية السابقة نوع بيان أوضحه مشيراً إلى ثمرة النكاح الناهية لكل ذي لب عن السفاح فقال : {نساؤكم} أي اللاتي هن حل لكم بعقد أو ملك يمين ولما كان إلقاء النطفة التي يكون منها النسل كإلقاء البذر الذي يكون منه الزرع شبههن بالمحارث دلالة على أن الغرض الأصيل طلب النسل فقال مسمياً موضع الحرث باسمه موقعاً اسم الجزء على الكل موحداً لأنه جنس {حرث لكم} فأوضح ذلك. قال الحرالي : ليقع الخطاب بالإشارة أي في الآية الأولى لأولي الفهم وبالتصريح أي في هذه لأولي العلم لأن الحرث كما قال بعض العلماء إنما يكون في موضع الزرع - انتهى. وفي تخصيص الحرث بالذكر وتعميم جميع الكيفيات الموصلة إليه بقوله : {فأتوا حرثكم} أي الموضع الصالح للحراثة {أنى شئتم} أي من أين وكيف إشارة إلى تحريم ما سواه لما فيه من العبث بعدم المنفعة. قال الثعلبي : الأدبار موضع الفرث لا موضع الحرث.
ولما كانت هذه أموراً خفية لا يحمل على صالحها وتحجر عن فاسدها إلا محض الورع قال : {وقدموا} أي أوقعوا التقديم. ولما كان السياق للجمع وهو من شهوات النفس قال مشيراً إلى الزجر عن اتباعها كل ما تهوي : {لأنفسكم} أي من هذا العمل وغيره من كل ما يتعلق بالشهوات ما إذا عرض على من تهابونه وتعتقدون خيره افتخرتم به عنده وذلك بأن تصرفوا مثلاً هذا العمل عن محض الشهوة إلى قصد الإعفاف وطلب الولد الذي يدوم به صالح العمل فيتصل الثواب ، ومن التقديم التسمية عند الجماع على ما وردت به السنة وصرح به الحبر ابن عباس رضي الله تعالى عنهما على ما نقل عنه.(6/149)
ولما كانت أفعال الإنسان في الشهوات تقرب من فعل من عنده شك احتيج إلى مزيد وعظ فقال : {واتقوا الله} أي اجعلوا بينكم وبين ما يكرهه الملك الأعظم من ذلك وغيره وقاية من الحلال أو المشتبه.
وزاد سبحانه وتعالى في الوعظ والتحذير بالتنبيه بطلب العلم وتصوير العرض فقال : {واعلموا أنكم ملاقوه} وهو سائلكم عن جميع ما فعلتموه من دقيق وجليل وصالح وغيره فلا تقعوا فيما تستحيون منه إذا سألكم فهو أجل من كل جليل. قال الحرالي : وفيه إشعار بما يجري في أثناء ذلك من الأحكام التي لا يصل إليها أحكام حكام الدنيا مما لا يقع الفصل فيه إلا في الآخرة من حيث إن أمر ما بين الزوجين سر لا يفشى ، قال عليه الصلاة والسلام : " لا يسأل الرجل فيم ضرب امرأته " وقال : " لا أحب للمرأة أن تشكو زوجها " فأنبأ تعالى أن أمر ما بين الزوجين مؤخر حكمه إلى لقاء الله عز وجل حفيظة على ما بين الزوجين ليبقى سراً لا يظهر أمره إلا الله تعالى ، وفي إشعاره إبقاء للمروة في أن لا يحتكم الزوجان عند حاكم في الدنيا وأن يرجع كل واحد منهما إلى تقوى الله وعلمه بلقاء الله - انتهى.
ولما كان هذا لا يعقله حق عقله كل أحد أشار إلى ذلك بالالتفات إلى أكمل الخلق فقال عاطفاً على ما تقديره : فأنذر المكذبين فعلاً أو قولاً ، قوله تعالى : {وبشر المؤمنين } أي الذين صار لهم الإيمان وصفاً راسخاً تهيؤوا به للمراقبة ، وهو إشارة إلى أن مثل هذا من باب الأمانات لا يحجز عنه إلا الإخلاص في الإيمان والتمكن فيه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 422 ـ 424}
سبب نزول الآية
قال القرطبى : (6/150)
روى الأئمة واللفظ لمسلم عن جابر ابن عبد الله قال : كانت اليهود تقول : إذا أتى الرجل امرأته من دُبرِها في قُبِلُها كان الولدُ أحول ؛ فنزلت الآية : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} زاد في رواية عن الزّهريّ : إن شاء مُجَبِّية وإن شاء غير مُجَبِّيةٍ غير إن ذلك في صمامٍ واحد. ويُروى : في سمام واحد بالسين ؛ قاله الترمذيُّ. وروى البخاريّ عن نافعٍ قال : كان ابن عمر إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغَ منه ؛ فأخذت عليه يوماً ؛ فقرأ سورة "البقرة" حتى انتهى إلى مكانٍ قال : أتدري فيم أنزلت ؟ قلت : لا قال : نَزلت في كذا وكذا ؛ ثم مضى. وعن عبد الصمد قال : حدثني أبي قال حدّثني أيوب عن نافع عن ابن عمرَ : "فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ" قال : يأتيها في. قال الحُميدي : يعني الفرج. وروى أبو داود عن ابن عباسٍ قال : إن ابن عمر والله يُغفر له وهِم ؛ إنما كان هذا الحيُّ من الأنصار ، وهُم أهل وثنٍ ، مع هذا الحيِّ من يهود ، وهم أهل كتاب : وكانوا يرون لهم فضلاً عليهم في العلم ؛ فكانوا يقتدون بكثير من فعلهم ، وكان من أمر أهل الكتاب ألاّ يأتوا النساء إلا على حرف ؛ وذلك أستر ما تكون المرأة ، فكان هذا الحيُّ من الأنصار قد أخذوا بذلك من فعلهم ، وكان هذا الحيُّ من قريش يَشْرَحون النساءَ شَرْحاً منكراً ؛ ويتلذذون منهنّ مُقْبِلاتٍ ومدبراتٍ ومستلقياتٍ ؛ فلما قدم المهاجرون المدينةَ تزوّج رجل منهم امرأة من الأنصار ؛ فذهب يصنع بها ذلك فأنكرته عليه ، وقالت : إنما كنا نُؤتى على حرفٍ! فاصْنع ذلك وإلا فاجتنبني ؛ حتى شَري أمرُهما ؟ فبلغ ذلك النبيّ صلى الله عليه وسلم ؛ فأنزل الله عز وجل : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} ؛ أي مقبلاتٍ ومدبراتٍ ومستلقياتٍ ، يعني بذلك موضع الولد. وروى الترمذيّ عن ابن عباس قال : " جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ، هلكتُ! قال : (6/151)
"وما أهلك" قال : حوّلت رحلى الليلة ؛ قال : فلم يُردَّ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ؛ قال : فأوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} "أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ واتَّقِ الدُّبُرَ والحَيْضَةَ" " قال : هذا حديث حسن صحيح. وروى النَّسائي عن أبي النَّضْر أنه قال لنافع مولَى ابن عمر : قد أَكثر عليك القولُ. إنك تقول عن ابن عمر : أنه أفتى بأن يُؤتَى النساء في أدبارهنّ. قال نافع : لقد كذبوا عليّ! ولكن سأُخبرك كيف كان الأمر : إن ابن عمَر عَرض عليّ المصحفَ يوماً وأنا عنده حتى بلغ : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} ؛ قال نافع : هل تدري ما أمر هذه الآية ؟ إنا كنا معشر قريش نُجَبِّي النساءَ ، فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهنّ ما كنا نريد من نسائنا ؛ فإذا هنّ قد كرِهن ذلك وأعظمنه ، وكان نساء الأنصار إنما يؤتين على جنوبهنّ ؛ فأنزل الله سبحانه : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ}. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 92 ـ 93}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى : {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لكم)(6/152)
هذه الجملة تذييل ثان لجملة : {فأتوهن من حيث أمركم الله نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} [ البقرة : 222 ] قصد به الارتفاق بالمخاطبين والتأنس لهم لإشعارهم بأن منعهم من قربان النساء في مدة المحيض منع مؤقت لفائدتهم وأن الله يعلم أن نساءهم محل تعهدهم وملابستهم ليس منعهم منهن في بعض الأحوال بأمر هين عليهم لولا إرادة حفظهم من الأذى ، كقول عمر بن الخطاب لما حمي الحمى "لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حميت عليهم من بلادهم شبراً إنها لبلادُهم" وتعتبر جملة {نساؤكم حرث} مقدِّمة لجملة {فأتوا حرثكم أنى شئتم} وفيها معنى التعليل للإذن بإتيانهن أنّى شاءوا ، والعلةُ قد تجعل مقدمة فلو أوثر معنى التعليل لأخرت عن جملة {فأتوا حرثكم أنى شئتم} ولكن أوثر أن تكون مقدمة للتي بعدها لأنه أحكم نسيج نظم ولتتأتى عقبه الفاء الفصيحة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 370 ـ 371}
فوائد لغوية
قال ابن عاشور :
الحرث مصدر حرث الأرض إذا شقها بآلة تشق التراب ليزرع في شقوقه زريعة أو تغرس أشجار. وهو هنا مطلق على معنى اسم المفعول.
وإطلاق الحرث على المحروث وأنواعه إطلاق متعدد فيطلق على الأرض المجعولة للزرع أو الغرس كما قال تعالى : {وقالوا هذه أنعام وحرث حجر} [ الأنعام : 138 ] أي أرض زرع محجورة على الناس أن يزرعوها.
وقال : {والخيل المسومة والأنعام والحرث} [ آل عمران : 14 ] أي الجنات والحوائط والحقول.
وقال : {كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته} [ "ل عمران : 117 ] أي فأهلكت زرعهم.
وقال : {فتنادوا مصبحين أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين} [ القلم : 22 ] يعنون به جنتهم أي صارمين عراجين التمر.(6/153)
والحرث في هذه الآية مراد به المحروث بقرينة كونه مفعولاً لفعل {فأتوا حرثكم} وليس المراد به المصدر لأن المقام ينبو عنه ، وتشبيه النساء بالحرث تشبيه لطيف كما شبه النسل بالزرع في قول أبي طالب في خطبته خديجة للنبيء صلى الله عليه وسلم " الحمد لله الذي جعلنا من ذرية إبراهيم وزرع إسماعيل ".
والفاء في {فأتوا حرثكم أنى شئتم} فاء فصيحة لابتناء ما بعدها على تقرر أن النساء حرث لهم ، لا سيما إذا كانوا قد سألوا عن ذلك بلسان المقال أو بلسان الحال.
وكلمة ( أنى ) اسم لمكان مبهم تبينه جملة مضاف هو إليها ، وقد كثر استعماله مجازاً في معنى كيف بتشبيه حال الشيء بمكانه ، لأن كيف اسم للحال المبهمة يبينها عاملها نحو {كيف يشاء} [ آل عمران : 6 ] وقال في "لسان العرب" : إن ( أنى ) تكون بمعنى ( متى ) ، وقد أضيف ( أنى ) في هذه الآية إلى جملة ( شئتم ) والمشيئات شتى فتأوله كثير من المفسرين على حمل ( أني ) على المعنى المجازي وفسره بكيف شئتم وهو تأويل الجمهور الذي عضدوه بما رووه في سبب نزول الآية وفيها روايتان.
(6/154)
إحداهما عن جابر بن عبد الله والأخرى عن ابن عباس وتأوله الضحاك على معنى متى شئتم وتأوله جمع على معناه الحقيقي من كونه اسم مكان مبهم ، فمنهم من جعلوه ظرفاً لأنه الأصل في أسماء المكان إذا لم يصرح فيها بما يصرف عن معنى الظرفية وفسروه بمعنى في أي مكان من المرأة شئتم وهو المروي في "صحيح البخاري" تفسيراً من ابن عمر ، ومنهم من جعلوه اسم مكان غير ظرف وقدروا أنه مجرور بـ ( من ) ففسروه من أي مكان أو جهة شئتم وهو يئول إلى تفسيره بمعنى كيف ، ونسب القرطبي هذين التأويلين إلى سيبويه. فالذي يتبادر من موقع الآية وتساعد عليه معاني ألفاظها أنها تذييل وارد بعد النهي عن قربان النساء في حال الحيض. فتحمل ( أني ) على معنى متى ويكون المعنى فأتوا نساءكم متى شئتم إذا تطهرن فوزانها وزان قوله تعالى : {وإذا حللتم فاصطادوا بعد قوله : {غير محلى الصيد وأنتم حرم} [ المائدة : 2 ].
ولا مناسبة تبعث لصرف الآية عن هذا المعنى إلا أن ما طار بين علماء السلف ومن بعدهم من الخوض في محامل أخرى لهذه الآية ، وما رووه من آثار في أسباب النزول يضطّرنا إلى استفصال البيان في مختلف الأقوال والمحامل مقتنعين بذلك ، لما فيه من إشارة إلى اختلاف الفقهاء في معاني الآية ، وإنها لمسألة جديرة بالاهتمام ، على ثقل في جريانها ، على الألسنة والأقلام. أ هـ
ثم ذكر ابن عاشور ـ رحمه الله ـ الروايات السابقة فى سبب النزول ، ثم قال :
(6/155)
أقول : قد أجمل كلام الله تعالى هنا ، وأبهم وبين المبهمات بمبهمات من جهة أخرى لاحتمال {أمركم الله} معاني ليس معنى الإيجاب والتشريع منها ، إذ لم يعهد سبق تشريع من الله في هذا كما قدمناه ، ثم أتبع بقوله : {يحب التوابين} [ البقرة : 222 ] فربما أشعر بأن فعلاً في هذا البيان كان يرتكب والله يدعو إلى الانكفاف عنه وأتبع بقوله : {ويحب المتطهرين} فأشعر بأن فعلاً في هذا الشأن قد يلتبس بغيرِ التنزه والله يحب التنزه عنه ، مع احتمال المحبة عنه لمعنى التفضيل والتكرمة مثل {يحبون أن يتطهروا والله يحب المتطهرين} [ التوبة : 108 ] ، واحتمالها لمعنى : ويبغض غير ذلك ، ثم جاء ما هو كالدليل وهو قوله : {نساؤكم حرث لكم} فجعلن حرثاً على احتمال وجوه في الشبه ؛ فقد يقال : إنه وكل للمعروف ، وقد يقال : إنه جعل شائعاً في المرأة ، فلذلك نيط الحكم بذات النساء كلها ، ثم قال : {فأتوا حرثكم أنى شئتم} فجاء بأنى المحتملة للكيفيات وللأمكنة وهي أصل في الأمكنة ووردت في الكيفيات ، وقد قيل : إنها ترد للأزمنة فاحتمل كونها أمكنة الوصول من هذا الإتيان ، أو أمكنة الورود إلى مكان آخر مقصود فهي أمكنة ابتداء الإتيان أو أمكنة الاستقرار فأُجمِل في هذا كله إجمال بديع وأثنى ثناء حسن.
واختلاف محامل الآية في أنظار المفسرين والفقهاء طوعُ علم المتأمل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 373 ـ 374}
فصل
قال الفخر : (6/156)
ذهب أكثر العلماء إلى أن المراد من الآية أن الرجل مخير بين أن يأتيها من قبلها في قبلها ، وبين أن يأتيها من دبرها في قبلها ، فقوله : {أنى شِئْتُمْ} محمول على ذلك ، ونقل نافع عن ابن عمر أنه كان يقول : المراد من الآية تجويز إتيان النساء في أدبارهن ، وسائر الناس كذبوا نافعاً في هذه الرواية ، وهذا قول مالك ، واختيار السيد المرتضى من الشيعة ، والمرتضى رواه عن جعفر بن محمد الصادق رضي الله عنه ، وحجة من قال : إنه لا يجوز إتيان النساء في أدبارهن من وجوه :
الحجة الأولى : أن الله تعالى قال في آية المحيض : {قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النساء فِي المحيض} [ البقرة : 222 ] جعل قيام الأذى علة لحرمة إتيان موضع الأذى ، ولا معنى للأذى إلا ما يتأذى الإنسان منه وههنا يتأذى الإنسان بنتن روائح ذلك الدم وحصول هذه العلة في محل النزاع أظهر فإذا كانت تلك العلة قائمة ههنا وجب حصول الحرمة.
الحجة الثانية : قوله تعالى : {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [ البقرة : 222 ] وظاهر الأمر للوجوب ، ولا يمكن أن يقال : إنه يفيد وجوب إتيانهن لأن ذلك غير واجب ، فوجب حمله على أن المراد منه أن من أتى المرأة وجب أن يأتيها في ذلك الموضع الذي أمر الله تعالى به ثم هذا غير محمول على الدبر ، لأن ذلك بالإجماع غير واجب فتعين أن يكون محمولاً على القبل ، وذلك هو المطلوب.
(6/157)
الحجة الثالثة : روى خزيمة بن ثابت أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن إتيان النساء في أدبارهن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " حلال ، فلما ولى الرجل دعاه فقال : كيف قلت في أي الخربتين ، أو في أي الخرزتين ، أو في أي الخصفتين ، أو من قبلها في قبلها فنعم ، أمن دبرها في قبلها فنعم ، أمن دبرها في دبرها فلا ، إن الله لا يستحي من الحق : "لا تؤتوا النساء في أدبارهن " وأراد بخربتها مسلكها ، وأصل الخربة عروة المزادة شبه الثقب بها ، والخرزة هي التي يثقبها الخراز ، كنى به عن المأتي ، وكذلك الخصفة من قولهم : خصفت الجلد إذا خرزته ، حجة من قال بالجواز وجوه :
الحجة الأولى : التمسك بهذه الآية من وجهين الأول : أنه تعالى جعل الحرث اسماً للمرأة فقال : {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} فهذا يدل على أن الحرث اسم للمرأة لا للموضع المعين ، فلما قال بعده : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} كان المراد فأتوا نساءكم أنى شئتم فيكون هذا إطلاقاً في إتيانهن على جميع الوجوه ، فيدخل فيه محل النزاع.
الوجه الثاني : أن كلمة {أَنّى} معناها أين ، قال الله تعالى : {أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله} [ ال عمران : 37 ] والتقدير : من أين لك هذا فصار تقدير الآية : فأتوا حرثكم أين شئتم وكلمة : أين شئتم ، تدل على تعدد الأمكنة : اجلس أين شئت ويكون هذا تخييراً بين الأمكنة.
إذا ثبت هذا فنقول : ظهر أنه لا يمكن حمل الآية على الإتيان من قبلها في قبلها ، أو من دبرها في قبلها لأن على هذا التقدير المكان واحد ، والتعداد إنما وقع في طريق الإتيان ، واللفظ اللائق به أن يقال : اذهبوا إليه كيف شئتم فلما لم يكن المذكور ههنا لفظة : كيف ، بل لفظة {أَنّى} ويثبت أن لفظة {أَنّى} مشعرة بالتخيير بين الأمكنة ، ثبت أنه ليس المراد ما ذكرتم بل ما ذكرناه.
(6/158)
الحجة الثانية : لهم : التمسك بعموم قوله تعالى : {إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [ المؤمنون : 6 ] ترك العمل به في حق الذكور لدلالة الإجماع ، فوجب أن يبقى معمولاً به في حق النسوان.
الحجة الثالثة : توافقنا على أنه لو قال للمرأة : دبرك على حرام ونوى الطلاق أنه يكون طلاقاً ، وهذا يقتضي كون دبرها حلالاً له ، هذا مجموع كلام القوم في هذا الباب.
أجاب الأولون فقالوا : الذي يدل على أنه لا يجوز أن يكون المراد من هذه الآية إتيان النساء في غير المأتي وجوه الأول : أن الحرث اسم لموضع الحراثة ، ومعلوم أن المراد بجميع أجزائها ليست موضعاً للحراثة ، فامتنع إطلاق اسم الحرث على ذات المرأة ، ويقتضي هذا الدليل أن لايطلق لفظ الحرث على ذات المرأة إلا أنا تركنا العمل بهذا الدليل في قوله : {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} لأن الله تعالى صرح ههنا بإطلاق لفظ الحرث على ذات المرأة ، فحملنا ذلك على المجاز المشهور من تسمية كل الشيء باسم جزئه ، وهذه الصورة مفقودة في قوله : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} فوجب حمل الحرث ههنا على موضع الحراثة على التعيين ، فثبت أن الآية لا دلالة فيها إلا على إتيان النساء في المأتي.
الوجه الثاني : في بيان أن هذه الآية لا يمكن أن تكون دالة على ما ذكروه لما بينا أن ما قبل هذه الآية يدل على المنع مما ذكروه من وجهين أحدهما : قوله : {قُلْ هُوَ أَذًى} [ البقرة : 222 ] والثاني : قوله : {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} فلو دلت هذه الآية على التجويز لكان ذلك جمعاً بين ما يدل على التحريم وبين ما يدل على التحليل في موضع واحد ، والأصل أنه لا يجوز.
(6/159)
الوجه الثالث : الروايات المشهورة في أن سبب نزول هذه الآية اختلافهم في أنه هل يجوز إتيانها من دبرها في قبلها ، وسبب نزول الآية لا يكون خارجاً عن الآية فوجب كون الآية متناولة لهذه الصورة ، ومتى حملناها على هذه الصورة لم يكن بنا حاجة إلى حملها على الصورة الأخرى فثبت بهذه الوجوه أن المراد من الآية ليس ما ذكروه ، وعند هذا نبحث عن الوجوه التي تمسكوا بها على التفصيل.
أما الوجه الأول : فقد بينا أن قوله : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} معناه : فأتوه موضع الحرث.
وأما الثاني : فإنه لما كان المراد بالحرث في قوله : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} ذلك الموضع المعين لم يكن حمل {أنى شِئْتُمْ} على التخيير في مكان ، وعند هذا يضمر فيه زيادة ، وهي أن يكون المراد من {أنى شِئْتُمْ} فيضمر لفظة : من ، لا يقال ليس حمل لفظ الحرث على حقيقته ، والتزام هذا الإضمار أولى من حمل لفظ الحرث على المرأة على سبيل المجاز ، حتى لا يلزمنا هذا الإضمار لأن نقول : بل هذا أولى ، لأن الأصل في الأبضاع الحرمة.
وأما الثالث : فجوابه : أن قوله : {إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [ المؤمنون : 6 ] عام ، ودلائلنا خاصة ، والخاص مقدم على العام.
وأما الرابع : فجوابه : أن قوله : دبرك على حرام ، إنما صلح أن يكون كناية عن الطلاق ، لأنه محل لحل الملابسة والمضاجعة ، فصار ذلك كقوله : يدك طالق ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 61 ـ 63}
قال القرطبى : (6/160)
قوله تعالى : {أنى شِئْتُمْ} معناه عند الجمهور من الصحابة والتابعين وأئمّة الفتوى : من أيّ وجهٍ شئتم مقبلة ومدبرة ؛ كما ذكرنا آنفاً. و"أَنَّى" تجيء سؤالاً وإخباراً عن أمرٍ له جهات ؛ فهو أعمّ في اللغة من "كيف" ومن "أين" ومن "متى" ؛ هذا هو الاستعمال العربي في "أَنَّى". وقد فسر الناس "أنى" في هذه الآية بهذه الألفاظ. وفسّرها سيبويه بـ "كيف" ومن "أين" باجتماعهما. وذهبت فرقة ممن فسّرها بـ "أين" إلى أن الوطء في الدّبر مباح ؛ وممن نسب إليه هذا القول : سعيدُ بنُ المسيّب ونافعُ وابن عمرَ ومحمد بن كعبٍ القُرَظيّ وعبد الملك بن الماجشون ، وحُكي ذلك عن مالكٍ في كتاب له يسمى "كتاب السر". وحذّاق أصحابِ مالكٍ ومشايخهم يُنكرون ذلك الكتاب ؛ ومالكٌ أجلُّ من أن يكون له "كتابُ سِرٍّ". ووقع هذا القول في العُتْبِيّة. وذكر ابن العربيّ أن ابن شعبان أسند جواز هذا القولِ إلى زمرة كبيرة من الصحابة والتابعين ، وإلى مالكٍ من روايات كثيرة في كتاب "جماع النّسوان وأحكام القرآن". وقال الكِيَا الطبريّ : وروي عن محمد بن كعب القُرَظِيّ أنه كان لا يرى بذلك بأساً ؛ ويتأوّل فيه قول الله عزّ وجلّ : {أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ} [ الشعراء : 165 ، 166 ] وقال : فتقديره تتركون مثل ذلك من أزواجكم ؛ ولو لم يُبح مثلُ ذلك من الأزواج لما صح ذلك ، وليس المباح من الموضع الآخَر مِثلاً له ؛ حتى يُقال : تفعلون ذلك وتتركون مثله من المباح. قال الكِيَا : وهذا فيه نظر ، إذ معناه : وتذرون ما خلق لكم ربُّكم من أزواجكم مما فيه تسكينُ شهوتكم ؛ ولذة الوقاع حاصلة بهما جميعاً ؛ فيجوز التوبيخ على هذا المعنى. وفي قوله تعالى : {فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [ البقرة : 222 ] مع قوله : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} ما يدل على أن المَأْتى اختصاصا ، وأنه مقصور على موضع الولد.(6/161)
قلت : هذا هو الحقّ في المسألة. وقد ذكر أبو عمر بن عبد البر أن العلماء لم يختلفوا في الرَّتْقاء التي لا يوصل إلى وطئها أنه عيب تُردَّ به ؛ إلاَّ شيئاً جاء عن عمرَ بنِ عبد العزيز من وجهٍ ليس بالقويّ أنه لا تردّ الرتقاء ولا غيرُها ؛ والفقهاء كلُّهم على خلاف ذلك ، لأن المسيس هو المبتغى بالنكاح ، وفي إجماعهم على هذا دليل على أن الدُّبُر ليس بموضع وطء ، ولو كان موضعاً للوطء ما رُدّت من لا يُوصَل إلى وطئها في الفرج. وفي إجماعهم أيضاً على أن العقِيم التي لا تلد لا ترد. والصحيح في هذه المسألة ما بيّناه. وما نسب إلى مالكٍ وأصحابِه من هذا باطل وهم مُبَرَّءون من ذلك ؛ لأن إباحة الإتيان مختصة بموضع الحرث ؛ لقوله تعالى : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} ؛ ولأن الحكمة في خلق الأزواج بثّ النّسل ؛ فغير موضع النسل لا يناله مِلْك النكاح ، وهذا هو الحقّ. وقد قال أصحاب أبي حنيفة : إنه عندنا ولائطَ الذكر سواء في الحكم ؛ ولأن القَذَر والأذَى في موضع النجو أكثرُ من دمِ الحيض ، فكان أشنع. وأما صِمَام البول فغير صمام الرَّحِم. وقال ابن العربي في قبسه : قال لنا الشيخ الإمام فخرُ الإسلام أبو بكر محمدُ بنُ أحمد بن الحسين فقيه الوقت وإمامه : الفرج أشبه شيء بخمسة وثلاثين ؛ وأخرج يده عاقداً بها. وقال : مسلك البول ما تحت الثلاثين ، ومسلك الذَّكَر والفرج ما اشتملت عليه الخمسةُ ؛ وقد حرّم الله تعالى الفرجَ حال الحيِض لأجل النجاسة العارضة. فأولى أن يحرُم الدّبُر لأجل النجاسة اللازمة. وقال مالك لابن وهب وعليّ بن زياد لما أخبراه أن ناساً بمصر يتحدّثون عنه أنه يجيز ذلك ؛ فنفر من ذلك ؛ وبادر إلى تكذيب الناقل فقال : كذبوا عليّ ، كذبوا عَلَيّ ، كذبوا عَلَيّ! ثم قال : ألستم قوماً عَرَباً ؟ ألم يقل الله تعالى : {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} ؟ وهل يكون الحرث إلاَّ في موضع المنبِت! وما استدل به المخالف من أنّ قوله عزّ وجلّ : (6/162)
{أنى شِئْتُمْ} شامل للمسالك بحكم عمومها فلا حجة فيها ، إذ هي مخصصة بما ذكرناه ، وبأحاديثَ صحيحةٍ حسانٍ وشهيرةٍ رواها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم اثنا عشر صحابياً بمُتُون مختلفة ؛ كلها متواردة على تحريم إتيان النساء في الأدبار ؛ ذكرها أحمد بنُ حنبل في مسنده ، وأبو داود والنَّسَائيُّ والترمذيُّ وغيرُهم. وقد جمعها أبو الفرج بن الجوزيّ بطرقها في جزء سماه "تحريم المحل المكروه". ولشيخنا أبي العباس أيضاً في ذلك جزء سماه "إظهارُ إدبار ، من أجاز الوطء في الأدبار". قلت : وهذا هو الحقّ المتَّبع والصحيح في المسألة ، ولا ينبغي لمؤمن بالله واليوم الآخر أن يُعرِّج في هذه النازلة على زلة عالم بعد أن تصح عنه ، وقد حُذِّرنا من زَلّة العالم.
(6/163)
وقد رُوي عن ابن عمر خلافُ هذا ، وتكفيرُ مَن فعله ؛ وهذا هو اللائق به رضي الله عنه. وكذلك كذّب نافعٌ من أخبر عنه بذلك ؛ كما ذكر النَّسائيّ ، وقد تقدّم. وأنكر ذلك مالكٌ واستعظمه ، وكذّب من نسب ذلك إليه. وروى الدارِمِيّ أبو محمد في مسنده عن سعيد بن يسار أبي الحُبَاب قال : قلت لابن عمر : ما تقول في الجوارى حين أحمض بهنّ ؟ قال : وما التَّحْميض ؟ فذكرت له الدُّبُر ؛ فقال : هل يفعل ذلك أحد من المسلمين! وأسند عن خزيمةَ بن ثابت : سمعتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أيها الناس إن الله لا يستحي من الحقّ لا تأتوا النساء في أعجازهنّ " ومثله عن عليّ بن طَلْق. وأسند عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " من أتى امرأة في دُبُرِها لم ينظر الله تعالى إليه يوم القيامة " وروى أبو داود الطّيالِسِيّ في مسنده عن قتَادة عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " تلك اللوطية الصغرى " يعني إتيان المرأة في دبرها. ورُوي عن طاوس أنه قال : كان بدء عمل قومِ لوطٍ إتيان النساء في أدبارهنّ. قال ابن المنذر ؛ وإذا ثبت الشيء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم استغني به عما سواه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 95 ـ 96}
قال العلامة الشنقيطى :
لم يبين هنا هذا المكان المأمور بالإتيان منه المعبر عنه بلفظه " حيث " ولكنه بين أن المراد به الإتيان في القبل في آيتين.
إحداهما : هي قوله هنا : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} [ البقرة : 223 ] ؛ لأن قوله : {فَأْتُواْ} أمر بالإتيان بمعنى الجماع ، وقوله : {حَرْثَكُمْ} يبين أن الإتيان المأمور به إنما هو في محل الحرث ، يعني بذر الولد بالنطفة ، وذلك هو القبل دون الدبر كما لا يخفى ؛ لأن الدبر ليس محل بذر للأولاد ، كما هو ضروري.(6/164)
الثانية : قوله تعالى : {فالآن بَاشِرُوهُنَّ وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} [ البقرة : 187 ] ، لأن المراد بما كتب الله لكم ، الولد ، على قول الجمهور ، وهو اختيار ابن جرير ، وقد نقله عن ابن عباس ، ومجاهد ، والحكم ، وعكرمة والحسن البصري ، والسدي ، والربيع ، والضحاك بن مزاحم. ومعلوم أن ابتغاء الولد إنما هو بالجماع في القبل. فالقبل إذن هو المأمور بالمباشرة فيه ، بمعنى الجماع ، فيكون معنى الآية : فالآن باشروهن ، ولتكن تلك المباشرة في محل ابتغاء الولد ، الذي هو القبل دون غيره ، بدليل قوله : {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} [ البقرة : 187 ] يعني الولد.
ويتضح لك من هذا أن معنى قوله تعالى : {أنى شِئْتُمْ} [ البقرة : 223 ] يعني أن يكون الإتيان في محل الحرث على أي حالة شاء الرجل ، سواء كانت المرأة مستلقية أو باركة أو على جنب ، أو غير ذلك ، ويؤيد هذا ما رواه الشيخان وأبو داود والترمذي عن جابر رضي الله عنه قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول ، فنزلت {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} [ البقرة : 223 ].
فظهر من هذا أن جابراً رضي الله عنه يرى أن معنى الآية ، فأتوهن في القبل على أية حالة شئتم ولو كان من ورائها.
والمقرر في علوم الحديث أن تفسير الصحابي الذي له تعلق بسبب النزول له حكم الرفع كما عقده صاحب طلعة الأنوار بقوله :
تفسير صاحب له تعلق... بالسبب الرفع له محقق. أ هـ
ثم قال رحمه الله :
اعلم أن من روي عنه جواز ذلك كابن عمر ، وأبي سعيد وجماعات من المتقدمين ، والمتأخرين ، يجب حمله على أن مرادهم بالإتيان في الدبر إتيانها في الفرج من جهة الدبر ، كما يبينه حديث جابر ، والجمع واجب إذا أمكن. أ هـ
ثم قال :
(6/165)
ولا ينتقض هذا بجواز الجماع في عكن البطن ، وفي الفخذين ، والساقين ، ونحو ذلك مع أن الكل ليس محل حرث. لأن ذلك يسمى استمناء لا جماعاً. والكلام في الجمع. لأن المراد بالإتيان في قوله : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} [ البقرة : 223 ] الجماع والفارق موجود. لأن عكن البطن ونحوها لا قذر فيها ، والدبر فيه القذر الدائم ، والنجس الملازم. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 123 ـ 125} بتصرف يسير.
كلام قيم لابن القيم
قال رحمه الله :
إذا كان الله حرَّم الوطءَ في الفرج لأجل الأذى العارض ، فما الظنُّ بالحشِّ الذي هو محل الأذى اللازم مع زيادة المفسدة بالتعرض لانقطاع النسل والذريعة القريبة جداً من أدبار النساء إلى أدبار الصبيان.
وأيضاً : فللمرأة حق على الزوج في الوطء ، ووطؤها في دُبرها يفوِّتُ حقها ، ولا يقضي وطَرَها ، ولا يُحَصِّل مقصودها.
وأيضاً : فإن الدبر لم يتهيأ لهذا العمل ، ولم يخلق له ، وإنما الذي هيئ له الفرج ، فالعادلون عنه إلى الدُّبُر خارجون عن حكمة الله وشرعه جميعاً.
وأيضاً : فإن ذلك مضر بالرجل ، ولهذا ينهي عنه عقلاءُ الأطباء منِ الفلاسفة وغيرهم ، لأن للفرج خاصية في اجتذاب الماء المحتقن وراحة الرجل منه والوطءُ فى الدُّبُر لا يعين على اجتذاب جميع الماء ، ولا يخرج كلَّ المحتقن لمخالفته للأمر الطبيعى.
وأيضاً : يضر من وجه آخَر ، وهو إحواجُه إلى حركات متعبةٍ جداً لمخالفته للطبيعة.
وأيضاً : فإنه محل القذر والنَّجْوِ ، فيستقبلُه الرَّجل بوجهه ، ويُلابسه.
وأيضاً : فإنه يضرُّ بالمرأة جداً ، لأنه واردٌ غريب بعيدٌ عن الطباع ، مُنافر لها غايةَ المنافرة.
وأيضاً : فإنه يُحِدثُ الهمَّ والغم ، والنفرةَ عن الفاعل والمفعول.
وأيضاً : فإنه يُسَوِّدُ الوجه ، ويُظلم الصدر ، ويَطمِسُ نور القلب ، ويكسو الوجه وحشةً تصير عليه كالسِّيماء يعرِفُها مَن له أدنى فراسة.
(6/166)
وأيضاً : فإنه يُوجب النُّفرة والتباغض الشديد ، والتقاطع بين الفاعل والمفعول ، ولا بُدَّ.
وأيضاً : فإنه يُفسد حال الفاعل والمفعول فساداً لا يكادُ يُرجَى بعده صلاح ، إلا أن يشاءَ الله بالتوبة النصوح.
وأيضاً : فإنه يُذهبُ بالمحاسن منهما ، ويكسوهما ضِدَّها. كما يُذهب بالمَوَدَّة بينهما ، ويُبدلهما بها تباغضاً وتلاعُناً.
وأيضاً : فإنه من أكبر أسباب زوال النِعَم ، وحُلول النِقَم ، فإنه يوجب اللَّعنةَ والمقتَ من الله ، وإعراضه عن فاعله ، وعدم نظره إليه ، فأىُّ خير يرجوه بعد هذا ، وأىُّ شر يأمنُه ، وكيف حياة عبد قد حلَّتْ عليه لعنة الله ومقته ، وأعرض عنه بوجهه ، ولم ينظر إليه.
وأيضاً : فإنه يُذهب بالحياءِ جملةً ، والحياءُ هو حياة القلوب ، فإذا فقدها القلبُ ، استحسَن القبيح ، واستقبحَ الحسن ، وحينئذٍ فقد استَحكَم فسادُه.
وأيضاً : فإنهُ يُحيل الطباعَ عما رَكَّبَها الله ، ويُخرج الإنسانَ عن طبعه إلى طبع لم يُركِّب الله عليه شيئاً من الحيوان ، بل هو طبع منكوس ، وإذا نُكِسَ الطبعُ انتكس القلب ، والعمل ، والهدى ، فيستطيبُ حينئذٍ الخبيثَ من الأعمال والهيئات ، ويفسد حاله وعملُه وكلامه بغير اختياره.
وأيضاً : فإنه يُورِث مِنَ الوقاحة والجُرأة ما لا يُورثه سواه.
وأيضاً : فإنه يُورث مِنَ المهانة والسِّفال والحقَارة ما لا يورثه غيره.
وأيضاً : فإنه يكسو العبدَ مِن حُلَّة المقت والبغضاء ، وازدراءِ الناس له ، واحتقارِهم إيَّاه ، واستصغارِهم له ما هو مشاهَدٌ بالحسِّ ، فصلاة الله وسلامه على مَن سعادةُ الدنيا والآخرة فى هَدْيِه واتباعِ ما جاء به ، وهلاكُ الدنيا والآخرة فى مخالفة هَدْيِه وما جاء به. أ هـ {زاد المعاد حـ 4 صـ 262 ـ 264}(6/167)
لطيفة فى الفرق بين الحرث والزرع
قال الراغب : الحرث إلقاء البذر وتهيئة الأرض ، والزرع مراعاته وإنباته ، ولذلك قال تعالى {أفرأيتم ما تحرثون أأنتم تزرعونه أم نحن الزارعون} أثبت لهم الحرث ونفى عنهم الزرع. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 180}
فصل
قال الفخر :
اختلف المفسرون في تفسير قوله : {أنى شِئْتُمْ} والمشهور ما ذكرناه أنه يجوز للزوج أن يأتيها من قبلها في قبلها ، ومن دبرها في قبلها والثاني : أن المعنى : أي وقت شئتم من أوقات الحل : يعنى إذا لم تكن أجنبية ، أو محرمة ، أو صائمة ، أو حائضاً والثالث : أنه يجوز للرجل أن ينكحها قائمة أو باركة ، أو مضطجعة ، بعد أن يكون في الفرج الرابع : قال ابن عباس : المعنى إن شاء ، وإن شاء لم يعزل ، وهو منقول عن سعيد بن المسيب الخامس : متى شئتم من ليل أو نهار.
فإن قيل : فما المختار من هذه الأقاويل ؟ .
قلنا : قد ظهر عن المفسرين أن سبب نزول هذه الآية هو أن اليهود كانوا يقولون : من أتى المرأة من دبرها في قبلها جاء الولد أحول ، فأنزل الله تعالى هذا لتكذيب قولهم ، فكان الأولى حمل اللفظ عليه ، وأما الأوقات فلا مدخل لها في هذا الباب ، لأن {أَنّى} يكون بمعنى {متى} ويكون بمعنى {كَيْفَ} وأما العزل وخلافه فلا يدخل تحت {أنّى} لأن حال الجماع لا يختلف بذلك ، فلا وجه لحمل الكلام إلا على ما قلنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 63}
قوله تعالى : {وَقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ}
قال القرطبى : (6/168)
قوله تعالى : {وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ} أي قدّموا ما ينفعكم غداً ؛ فحذف المفعول ، وقد صُرِّح به في قوله تعالى : {وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله} [ البقرة : 110 ]. فالمعنى قدّموا لأنفسكم الطاعَةَ والعملَ الصالحَ. وقيل ابتغاء الولد والنسل ؛ لأن الولد خير الدنيا والآخرة ؛ فقد يكون شفيعاً وجُنَّة. وقيل : هو التزوّج بالعفائف ؛ ليكون الولد صالحاً طاهراً. وقيل : هو تقدّم الأفراط ؛ كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " من قَدَّم ثلاثةً من الولد لم يبلغوا الحِنثَ لم تمسه النار إلاَّ تَحِلَّةَ القَسَم " الحديث. وسيأتي في "مريم" إن شاء الله تعالى. وقال ابن عباس وعطاء : أي قدّموا ذكر الله عند الجماع ؛ كما قال عليه السَّلام : " لو أنّ أحدكم إذا أتى امرأته قال بسم الله اللَّهُمَّ جنّبنا الشيطان وجنّب الشيطانَ ما رزقَتنا فإنه إن يُقَدَّر بينهما ولدٌ لم يضرّه شيطانٌ أبداً " أخرجه مسلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 96}
وقال الفخر :
أما قوله : {وَقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ} فمعناه : افعلوا ما تستوجبون به الجنة والكرامة ونظيره أن يقول الرجل لغيره : قدم لنفسك عملاً صالحاً ، وهو كقوله : {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} [ البقرة : 197 ] ونظير لفظ التقديم ما حكى الله تعالى عن فريق من أهل النار وهو قوله : {قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ القرار} [ ص : 60 ].
فإن قيل : كيف تعلق هذا الكلام بما قبله ؟ .(6/169)
قلنا : نقل عن ابن عباس أنه قال : معناه التسمية عند الجماع وهو في غاية البعد ، والذي عندي فيه أن قوله : {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} جار مجرى التنبيه على سبب إباحة الوطء ، كأنه قيل : هؤلاء النسوان إنما حكم الشرع بإباحة وطئهن لكم لأجل أنهن حرث لكم أي بسبب أنه يتولد الولد منها ثم قال بعده : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ} أي لما كان السبب في إباحة وطئها لكم حصول الحرث ، فأتوا حرثكم ، ولاتأتوا غير موضع الحرث ، فكان قوله : {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} دليلاً على الإذن في ذلك الموضع ، والمنع من غير ذلك الموضع ، فلما اشتملت الآية عل الإذن في أحد الموضعين ، والمنع عن الموضع الآخر ، لا جرم قال : {وَقَدّمُواْ لاِنفُسِكُمْ} أي لا تكونوا في قيد قضاء الشهوة بل كونوا في قيد تقديم الطاعة ، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : {واتقوا الله} ثم أكده ثالثاً بقوله : {واعلموا أَنَّكُم ملاقوه} وهذه التهديدات الثلاثة المتوالية لا يليق ذكرها إلا إذا كانت مسبوقة بالنهي عن شيء لذيذ مشتهى ، فثبت أن ما قبل هذه الآية دال على تحريم هذا العمل ، وما بعدها أيضاً دال على تحريمه ، فظهر أن المذهب الصحيح في تفسير هذه الآية ما ذهب إليه جمهور المجتهدين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 64}
قال ابن عاشور :
{وَقَدِّمُواْ لاَِنفُسِكُمْ واتقوا الله واعلموا أَنَّكُم ملاقوه وَبَشِّرِ المؤمنين}
عطف على جملة {فأتوا حرثكم} أو على جملة {إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين}. عطف الإنشاء على الخبر ، على أن الجملة المعطوف عليها وإن كانت خبراً فالمقصود منها الأمر بالتوبة والتطهر ؛ فكرر ذلك اهتماماً بالحرص على الأعمال الصالحة بعد الكلام على اللذائذ العاجلة.
وحذف مفعول {وقدموا} اختصاراً لظهوره ؛ لأن التقديم هنا إعداد الحسنات فإنها بمنزلة الثَّقَل الذي يقدمه المسافر.(6/170)
وقوله : {لأنفسكم} متعلق بـ {قدموا} ، واللام للعلة أي لأجل أنفسكم أي لنفعها ، وقوله : {واتقوا الله} تحريض على امتثال الشرع بتجنب المخالفة ، فيدخل تحته التخلي عن السيئات والتحلي بالواجبات والقربات ، فمضمونها أعم من مضمون جملة {وقدموا لأنفسكم} فلذلك كانت هذه تذييلاً.
وقوله : {واعلموا أنكم ملاقوه} يجمع التحذير والترغيب ، أي فلاقوه بما يرضى به عنكم كقوله : {ووجد الله عنده} [ النور : 39 ] وهو عطف على قوله : {واتقوا الله}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 374 ـ 375}
قوله تعالى : {واتقوا الله واعلموا أَنَّكُم ملاقوه}
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى ذكر هذه الأمور الثلاثة أولها : {وَقَدّمُواْ لأَنفُسِكُمْ} والمراد منه فعل الطاعات وثانيها : قوله : {واتقوا الله} والمراد منه ترك المحظورات وثالثها : قوله : {واعلموا أَنَّكُم ملاقوه} وفيه إشارة إلى أني إنما كلفتكم بتحمل المشقة في فعل الطاعات وترك المحظورات لأجل يوم البعث والنشور والحساب ، فلولا ذلك اليوم لكان تحمل المشقة في فعل الطاعات وترك المحظورات عبثاً وما أحسن هذا الترتيب ، ثم قال : {وَبَشّرِ المؤمنين} والمراد منه رعاية الترتيب المعتبر في القرآن وهو أن يجعل مع كل وعيد وعداً والمعنى وبشر المؤمنين خاصة بالثواب والكرامة فحذف ذكرهما لما أنهم كالمعلوم ، فصار كقوله : {وَبَشّرِ المؤمنين بِأَنَّ لَهُمْ مّنَ الله فَضْلاً كِبِيراً} [ الأحزاب : 47 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 64}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقد رتبت الجمل الثلاث الأول على عكس ترتيب حصول مضامينها في الخارج ؛ فإن الظاهر أن يكون الإعلام بملاقاة الله هو الحاصل أولاً ثم يعقبه الأمر بالتقوى ثم الأمر بأن يقدموا لأنفسهم ، فخولف الظاهر للمبادرة بالأمر بالاستعداد ليوم الجزاء ، وأعقب بالأمر بالتقوى إشعاراً بأنها هي الاستعداد ثم ذكِّروا بأنهم ملاقو الله فجاء ذلك بمنزلة التعليل.(6/171)
وقوله : وبشر المؤمنين} تعقيب للتحذير بالبشارة ، والمراد : المؤمنون الكاملون وهم الذين يسرون بلقاء الله كما جاء : " من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه " وذِكر هذه البشارة عقب ما تقدم إشارة إلى أن امتثال الأحكام المتقدمة من كمال الإيمان ، وجملة : {وبشر المؤمنين} ، معطوفة على جملة : {واعلموا أنكم ملاقوه} ، على الأظهر من جعل جملة : {نساؤكم حرث لكم} ، استئنافاً غير معمولة لقل هو أذى ، وإذا جعلت جملة {نساؤكم} من معمول القول كانت جملة {قل هو أذى} [ البقرة : 222 ] معطوفة على جملة : {قُلْ هُوَ أَذًى} ؛ إذ لا يصح وقوعها مقولا للقول كما اختاره التفتازاني.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 375}
فائدة
قال ابن عرفة :
قوله تعالى : {وَبَشِّرِ المؤمنين}.
قد يتمسك بها المعتزلة في قولهم : إن مرتكب الكبيرة مخلد في النار لأن المناسب أن كان يقال وبشر المحسنين ( أو بشّر المتّقين ) الذين يجتنبون هذا الفعل ، فما قال " وَبَشِّرَ المُؤْمِنِينَ " دل على أن فاعل هذا الفعل غير مؤمن ؟
قال : والجواب أن المراد ( المؤمنين ) الإيمان الكامل. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 289}
قال السعدى :
قال : {وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ} لم يذكر المبشر به ليدل على العموم ، وأن لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، وكل خير واندفاع كل ضير ، رتب على الإيمان فهو داخل في هذه البشارة.
وفيها محبة الله للمؤمنين ، ومحبة ما يسرهم ، واستحباب تنشيطهم وتشويقهم بما أعد الله لهم من الجزاء الدنيوي والأخروي. أ هـ {تفسير السعدى صـ 100}
لطيفة فى الآيات السابقة
من قوله تعالى {يسئلونك عن الخمر والميسر} إلى هذه الآية
قال العلامة أبو حيان : (6/172)
كان ابتداء هذه الآيات بالتحذير عن معاطاة العصيان ، واختتامها بالتبشير لأهل الإيمان آيات تعجز عن وصف ما تضمنته البدائع الألسن ، ويذعن لفصاحتها الجهبذ اللسن ، جمعت بين براعة اللفظ ونصاعة المعنى ، وتعلق الجمل وتأنق المبنى ، من سؤال وجواب ، وتحذير من عقاب ، وترغيب في ثواب ، هدت إلى الصراط المستقيم ، وتلقيت من لدن حكيم عليم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 180}(6/173)
بحث نفيس
حكمة الزواج في الإسلام
لقد أكد الله جل وعلا على أهمية الزواج في كتابه الكريم كنعمة منه وفضل على عباده ، وقد تعددت الآيات القرآنية المتعلقة بالزواج ، فمنها ما يتعلق بالمباشرة الزوجية ، وآيات عن المواليد ، وأخرى عن الصلح بين الزوجين ، وغيرها
ومما جاء في القرآن الكريم مناً من الله تعالى على عباده بفرضه لسنة الزواج بين الرجال والنساء ما جاء في هذه الآيات : [ يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة ، وخلق منها زوجها ، وبث منهما رجالا كثيرا ونساء ، واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام ، إن الله كان عليكم رقيبا ] (النساء 1)
[ هوالذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ](6/174)
(الأعراف 189) [ ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها ، وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ] (الروم 21) وأي فضل وأية منة من الله أعظم من أن يخلق لكل امرئ زوجا له يسكن إليه ويحمل عنه هموم الحياة ويواسيه ، ويشد من أزره في مودة ورحمة هي حقا من أجل وأعظم آيات الله ، فالزوج يصبح لزوجه بمجرد إتمام البناء كل شئ في الحياة ، والزواج هو خط فاصل وعميق في مشوار الحياة ، بل هو أهم أحداث الحياة قاطبة
والزواج في الإسلام أمر حتمي وضرورة شرعية لأنه من الفطرة ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن هجر النساء ، وقد قال صلى الله عليه وسلم : " يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر ، وأحصن للفرج" متفق عليه ، وروى ابن ماجة أنه قال صلى الله عليه وسلم : " من كان موسرا لأن ينكح ثم لم ينكح فليس منيّ " وقال صلى الله عليه وسلم : "إن كنتم من رهبان النصارى فالحقوا بهم إني أصوم وأفطر ، وأقوم وأرقد وأنكح النساء ، وهذه سنتي فمن رغب عن سنتي فليس منيّ"
(6/175)
وحكمة تشريع الزواج لها جوانب عديدة ، أهمها ما يبثه في نفس الزوجين من طمأنينة وأمان في مواجهة الحياة ، وإقامة أسرة تكون مجتمعا صغيرا يرجى له الصلاح ، حتى تكون لبنة قوية في البناء الاجتماعي الأكبر ، ومن أهم هذه الجوانب حرص الإسلام على نشر الفضيلة والخلق القويم في المجتمع ، والبعد عن كل ما يدنس حياة البشر ، فالزواج بما يبيحه للزوجين من تمتع تام لكل منهما بالآخر من جماع ومقدماته فإنه يحدث بالتالي عفة للزوجين ، ويؤدي إلى بقاء البشرية إلى ما شاء الله ، والأهم هو منع اختلاط الأنساب ومنع الزنا لما فيه من فساد شديد يضرب بجذوره في كل جوانب المجتمع ، وهاهي المجتمعات التي لا تلقي للزواج بالا ، ولا تجعله أمرا مفروضا لأبنائها لأنها تركت أوامر ربها بالكلية ، وما عادت تعرف إلها يشرع لها ما يصلحها من قوانين ومناهج ، هذه المجتمعات قد توغلت فيها الأمراض الرهيبة التي نتجت عن هذه العشوائية الشديدة ، من استغلال الناس هناك لما أسموه بالحرية الشخصية ، فانتشر الزنا واللواط ونكاح المحارم ، وانتشرت جرائم الاغتصاب بشكل مريع يندي له جبين البشرية ، فهل هذه هي الحرية وهل هذا هو النور الذي يريد أن يعيش فيه إنسان القرن الحادي والعشرين ؟
لماذا لم يعرف الإنسان الإيدز إلا في هذه السنوات التي ازداد فيها توغلا في حياة الدنس والآثام ، ومن قبله أمراض السيلان والزهري والهربس وأمراضا أخرى كثيرة تدمر صحة الإنسان تماما وتؤدي بحياته إلى طريق مسدود يقف فيه معدوم الحيلة ، لا يستطيع المضي قدما في الحياة ولا يقدر على العودة من حيث بدأ
(6/176)
إن الإيدز الذي لا ينتقل بين البشر إلا عن طريق الممارسات الجنسية المحرمة كاللواط والسحاق مما تعافه الفطرة الإنسانية السوية ، هذا المرض المدمر قتل في عدة سنوات ستة آلاف شخص ، حيث يدمر المرض الجهاز المناعي تماما للمريض ويكون الموت هو النتيجة الحتمية حتى الآن. هذا المرض المخيف ألم يعالجه القرآن الكريم حق علاج ؟ ألم يحمل القرآن "روشتة" مجانية رائعة تقضى عليه من جذوره ، ألم يق القرآن منه بتعاليمه وتوجيهاته بالزواج الفطري بين الرجل والمرأة ، ألم يق الإنسان شر هذا المرض وأمراضا كثيرة أخرى منها ما اكتشف وعرفه الأطباء ، ومنها ما لم يعرفوه بعد ؟؟ ؟
إن التشريع الإسلامي الحاسم حين قرر أن الزواج هو الشكل الوحيد للعلاقة بين الرجل والمرأة الصالح لحياة البشر ، والواقي لهم من أخطار صحية ونفسية واجتماعية جسيمة تهددهم من كل حدب وصوب ، إن هذا التشريع يؤكد أن كل ما حدث للإنسانية من تدهور إنما هو نتيجة تمردها على هذا الشكل ولهذاالمنهج ، إنه يؤكد في ضوء كل ما حدث أنه تشريع ومنهج إلهي وضعه خالق هذا الكون ، لا يمكن أن يكون قد جاء من عند أحد من البشر حتى لو كان محمد صلى الله عليه وسلم [ حم ، تنزيل من الرحمن الرحيم ، كتاب فصلت آياته قرآنا عربيا لقوم يعقلون ، بشيرا ونذيرا فأعرض أكثرهم فهم لا يسمعون] ( فصلت 1ـ4)
الجماع
يعتبر الإسلام أن الزواج من امرأة صالحة هو نصف الدين بفضل ما يهيئه للزوجين من العفاف والاستقامة والتفرغ لأعباء الحياة وعبادة الله ، وفي ذلك يقول صلى الله عليه وسلم : "من رزقه الله امرأة صالحة فقد أعانه على شطر دينه فليتق الله في الشطر الباقي" رواه الطبراني والحاكم ، بل يرى الإسلام أن أعظم متعة للإنسان في دنياه هي أن يوهب زوجة صالحة ، وفي هذا يقول صلى الله عليه وسلم فيما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص : "إنما الدنيا متاع وليس من متاع الدنيا شئ أفضل من المرأة الصالحة" أخرجه ابن ماجة
(6/177)
وقد اتفق علم الطب الحديث وعلم الاجتماع مع الإسلام في أن الزواج هو الخطوة الأساسية نحو بناء مجتمع سليم معافى متعاون ، كما أنه الخطوة الأولى نحو حياة إنسانية سليمة خالية من الأمراض النفسية والعقلية والتناسلية ، ولإنجاب ذرية صحيحة وقوية ، ولذا نجد أن الإسلام قد وضع قواعد دقيقة جدا لكل أمور الزواج ، واهتم بكل تفاصيل الحياة الزوجية ، وبالطبع من أهم هذه الأمور على الإطلاق أمر الجماع والمباشرة بين الزوجين ، وهذه لم يتركها الإسلام هكذا يزاولها كل إنسان حسب هواه ومزاجه بل فصلت تفصيلات في القرآن والسنة. فهل لنا أن نتعرف على موجز لآداب الإسلام في هذه الأمور :
قال تعالى : [ نساؤكم حرث لكم فأتوا حرثكم أنى شئتم وقدموا لأنفسكم ، واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه ، وبشر المؤمنين ] (البقرة 223)
وقال جل وعلا : [ فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ] (البقرة 187)
قال ابن عباس رضي الله عنه : أنزلت هذه الآية في أناس من الأنصار أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه فقال النبي صلى الله عليه وسلم : " ائتها على كل حال ، إذا كان في الفرج " وأصل الحرث مكان الزرع ، أي أن أزواجكم كالزرع فأتوهن من المكان الذي يرجى منه ولا تتركوه لما لا خير فيه ، "وأنى شئتم " بمعنى على أي وضع شئتم ما دمتم تتحرون موضع النسل الذي تتحقق به حكمته سبحانه وتعالى في بقاء الإنسان إلى ما شاء الله. وقال جل وعلا :
[ فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ] (البقرة 187)
(6/178)
وقد حث الإسلام على احترام أمر العلاقة الزوجية الخاصة بكل جوانبها ، ولم ينظر إليها نظرة المحتقر المستهين أو المتحرج المتلعثم ، فهذا الأسلوب يورث العقد والنفاق ويجعل الإنسان يحتقر نفسه وزوجه ومجتمعه كله ، لهذا كان صحابة رسول الله وزوجاتهم يستشيرونه صلى الله عليه وسلم في أمورهم الزوجية العاطفية ، وكان صلى الله عليه وسلم يجيبهم بما علمه الله دون إبهام أو مواربة. وقد سبق الإسلام بهذا الدنيا كلها بمئات السنين ، حيث كانت هذه الأمور في أوروبا في هذا الوقت من الأمور المشينة التي يعاب تماما على الرجل أو المرأة أن يسأل فيها ، مما أصل في تلك المجتمعات المظلمة العقد والزنا والفواحش ، وكانت النظرة إلى العلاقات الزوجية أنها خبث وشر لابد منه فجاء الإسلام ليجعلها آية من آيات الخالق القدير في خلقه وحث عباده على التفكر فيها ، فرفع من شأنها وكرمها أيما تكريم
ولا شك أن اهتمام الإسلام بالعلاقة الجنسية بين الزوجين إنما يرجع إلى دورها الخطير في استقرار الأسرة وسعادتها ، وفي تجنبها المشاكل والعقد والأمراض ؛ فقد روى مسلم والنسائي أن رجلا سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " وفي بضع أحدكم صدقة فقال : يا رسول الله أيأتي أحدنا شهوته ثم تكون له صدقة ؟ فقال الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم : أرأيتم لو وضعها في حرام أكان عليه وزر ، فكذلك إذا وضعها في الحلال كان له أجر". فانظروا لهذا النور الوضيء في معنى وحكمة المباشرة الزوجية في الإسلام ، فهي محمودة من الخالق ويثاب عليها المؤمنون لأنها قطع لسبيل الفاحشة وبتر لمسالك الزنا ، وهذا هو مقصد الشرع الإسلامي.. إقامة مجتمع نظيف نقي معافى قوي يعبد الناس فيه ربهم دون متاعب أو مخاوف تنغص عليهم أمور حياتهم
(6/179)
وكما جاء في كتاب "الطب الوقائي في الإسلام" فقد أكد الإسلام على مراعاة المحبة والوفاق العاطفي بين الزوجين كشرط لإقامة علاقة مترابطة ودائمة ، فتغير هذا الحب وذلك التعاطف والتفاهم يقلب متعة الحياة الزوجية إلى جحيم دائم ، وقد استنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم مسلك الذي يسئ معاملة زوجته ثم يدعوها بعد ذلك إلى فراشه فقال : "يظل أحدكم يضرب زوجته ضرب العبيد ثم يدعوها إلى فراشه.. الحديث" ( ابن ماجة)
ويأمر الإسلام الرجل أن يتجمل لزوجته كما يحب أن تتجمل هي له ، وفي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اغسلوا ثيابكم ، وخذوا من شعوركم واستاكوا ، وتنظفوا فإن بني إسرائيل لم يكونوا يفعلون ذلك فزنت نساؤهم "
بل إن الإسلام راعى أمرا في منتهى الدقة والحساسية بين الأزواج ، وهو النهي عن مباشرة الرجل لزوجته دون تمهيد وتدرج ، فجاء في الآية الكريمة [ وقدموا لأنفسكم ] يقول عنها المفسرون : أي ابدءوا بالمداعبة والملاطفة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا يقعن أحدكم على امرأته كما تقع البهيمة ".
ويحرم الإسلام تماما الشذوذ مع المرأة أي إتيانها في الدبر ، بل يجب أن تؤتى في المكان الفطري الطبيعي الذي جعله الله للنسل [ فأتوهن من حيث أمركم الله ] ويقول صلى الله عليه وسلم كما جاء في سنن ابن ماجة والترمذي : " اتقوا الله ولا تأتوا النساء من أدبارهن "
ولا يقتصر ضرر الشذوذ هذا إلى منع النسل فقط ، بل إنه علاوة على الأذى النفسي الشديد الذي يسببه للزوجة ، فإنه يحدث تشققات عميقة والتهابات شديدة في الشرج ، أما الرجل فيصاب في مجرى البول بالتهابات وغالبا ما تصعد الميكروبات إلى البروستاتا ، وقد تسبب له العقم ، وذلك لأن الشرج ملئ بالميكروبات التي لا يوجد مثلها في باب الرحم وهو المكان الطبيعي للجماع ، ثم إن الرجل يأخذ هذه الميكروبات مرة أخرى عند الجماع الطبيعي لكي يزرعها في رحم المرأة ، مما قد يصيبها بالعقم
(6/180)
ويحرم الإسلام على الزوجة تحريما قاطعا أن تماطل زوجها أو تتهرب منه إذا طلبها لفراشه دون سبب شرعي ، وفي هذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " والذي نفسي بيده ما من رجل يدعو زوجته إلى فراشه فتأبى عليه إلا كان الذي في السماء ساخطا عليها حتى يرضى عنها " رواه البخاري ومسلم. ولذلك حكمة عظيمة ، فحرمان الرجل من الحياة الزوجية المنظمة تؤدي به إلى الكبت والشعور بالحرمان ، مما يوغل في نفسيته وقد يدفعه أو يوقعه في الزنا. وكما أمر الإسلام الزوجة بطاعة زوجها في هذا فإنه قد أمر الزوج أيضا ألا يهجر فراش زوجته ما لم تقترف ما تستحق به عقوبة الهجر ، وإذا هجر فلفترة محددة ، وفي هذا نذكر المحادثة الشهيرة للثلاثة الذين جاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يسألون عن عبادته ، فقال أحدهم : وأنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا ، فنهاه الرسول صلى الله عليه وسلم عن هذا وقال : "من رغب عن سنتي فليس مني"
إن الإسلام دين متكامل حينما يعالج قضية يتناولها من كافة جوانبها وليس للإنسان القاصر عقله والمحدود علمه أن ينجح في وضع منهج للحياة أفضل مما وضعه خالق الكون
الحيض
من الأمور الصحية التي تناولها القرآن الكريم تحريم مباشرة الرجل لزوجته في فترة الحيض ، فيا ترى ما هي الحكمة في هذا التحريم القاطع ؟ لنستمع معا إلى هذه الآيات أولا :
يقول تعالى : [ ويسألونك عن المحيض قل هو أذى فاعتزلوا النساء في المحيض ، ولا تقربوهن حتى يطهرن ، فإذا تطهرن فأتوهن من حيث أمركم الله ، إن الله يحب التوابين ويحب المتطهرين ] (البقرة 222)
(6/181)
فالمولى سبحانه وتعالى يعلمنا ويرشدنا أن فترة حيض المرأة لا يشرع فيها الجماع المعتاد بين الزوجين ، ولهذا الأمر حكمة عظيمة اكتشف العلم الحديث بعضا من جوانبها ؛ ففي فترة الحيض يفرز جسم المرأة هرمونا يختلف عن الذي يفرزه في الفترة العادية ، وهذا الهرمون يجعل المرأة في حالة نفسية ومعنوية غير عادية ، فتصاب كثير من النساء في هذه الفترة باضطرابات عصبية وتكون كارهة للجماع ، ففي تركه احترام وتوقير لمشاعرها وظروفها الخاصة
في هذه الفترة. أيضا تكون أعضاء المرأة التناسلية كالرحم والمبيض في حالة احتقان شديد ، وهذا يجعلها عرضة للجراح الصغيرة والتسلخات غير المرئية أثناء المجامعة ، وقد يسبب ذلك دخول الميكروبات التي تسبب التهابات قد تؤدي إلى العقم
وبالنسبة للزوج فإنه قد يصاب بالالتهابات هو الآخر ؛ لأن الدم النازل من الرحم يكون فاسدا ، وهو مزرعة للميكروبات التي قد تصيب مجرى البول منهوالنهي عن لقاء الزوجين في هذه الفترة إنما هو نهي عن الجماع التام ، فقد قال صلى الله عليه وسلم عن فترة الحيض فيما رواه مسلم وابن ماجة : " اصنعوا كل شئ إلا النكاح " فلا بأس إذن بما يحدث بين الرجل وزوجته في فترة الحيض طالما كان دون الجماع الكامل
وهكذا نرى حكمة الله الخالق تتجلى لنا في واحدة من الإعجازات التشريعية الإسلامية ، فالمشرع الحكيم هو رب السموات والأرض وخالق هذا الكون إنما يشرع بحكمة وعلم يحيطان كل شئ. فحتى الحالة النفسية للمرأة في الحيض يراعيها الشرع ، ويقول جل وعلا : [ قل هو أذى ] وأي أذى أكبر من أن يأتي الرجل زوجته وهي كارهة لهذا ، أو تكون رغبتها الفطرية في الجماع في أدنى معدلاتها ؛ مما يؤدي إلى قطع حبل المودة والرحمة الذي بدونه ينهار أساس الحياة الزوجية تماما. أ هـ(6/182)
قوله تعالى : {(وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أذن في إتيان النساء في محل الحرث كيف ما اتفق ومنع مما سوى ذلك ومنع من محل الحرث في حال الحيض بين حكم ما إذا منع الإنسان نفسه من ذلك بالإيلاء أو بمطلق اليمين ولو على غير سبيل الإيلاء لأنه نقل عن كثير منهم شدة الميل إلى النكاح فكان يخشى المواقعة في حال المنع فتحمله شدة الورع على أن يمنع نفسه بمانع مظاهرة كما بين في سورة المجادلة أو غيرها من الأيمان فمنعهم من ذلك بقوله تعالى عادلاً عن خطاب نبيه صلى الله عليه وسلم تعظيماً لمقامه : {ولا تجعلوا الله} أي الذي لا شيء يداني جلاله وعظمته وكماله {عرضة} أي معرضاً {لأيمانكم} فيكون في موضع ما يمتهن ويبتذل فإن ذلك إذا طال حمل على الاجتراء على الكذب فجر إلى أقبح الأشياء. قال الحرالي : والعرضة ذكر الشيء وأخذه على غير قصد له ولا صمد نحوه بل له صمد غيره {أن} أي لأجل أن {تبروا} في أموال اليتامى وغيرها مما تقدم الأمر به أو النهي عنه {وتتقوا} أي تحملكم أيمانكم على البر وهو الاتساع في كل خلق جميل والتقوى وهي التوغل في خوف الله سبحانه وتعالى {وتصلحوا بين الناس} فتجعلوا الأيمان لكم ديدناً فتحلفون تارة أن تفعلوا وتارة أن لا تفعلوا لإلزام أنفسكم بتلك الأشياء فإن من لا ينقاد إلى الخير إلا بقائد من يمين أو غيرها ليس بصادق العزيمة ، وفي الأمثال : فرس لا تجري إلا بمهماز بئس الفرس. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 424}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى : {(وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ)(6/183)
جملة معطوفة على جملة {نساؤكم حرث لكم} [ البقرة : 223 ] عطف تشريع على تشريع فالمناسبة بين الجملتين تعلق مضمونيهما بأحكام معاشرة الأزواج مع كون مضمون الجملة الأولى منعاً من قربان الأزواج في حالة الحيض ، وكون مضمون هذه الجملة تمهيداً لجملة {للذين يؤلون من نسائهم} [ البقرة : 226 ] ، فوقع هذا التمهيد موقع الاعتراض بين جملة {نساؤكم حرث لكم} ، وجملة {للذين يؤلون من نسائهم} وسلك فيه طريق العطف لأنه نهي عطف على نهي في قوله : {ولا تقربوهن حتى يطهرن} [ البقرة : 222 ].
وقال التفتازاني : الأظهر أنه معطوف على مقدر أي امتثلوا ما أمرت به ولا تجعلوا الله عرضة أ هـ.
وفيه تكلف وخلو عن إبداء المناسبة ، وجوز التفتازاني أن يكون معطوفاً على الأوامر السابقة وهي {وقدموا} [ البقرة : 223 ] {واتقوا} [ البقرة : 223 ] {واعلموا أنكم ملاقوه} [ البقرة : 223 ] أ هـ أي فالمناسبة أنه لما أمرهم باستحضار يوم لقائه بين لهم شيئاً من التقوى دقيق المسلك شديد الخفاء وهو التقوى باحترام الاسم المعظم ؛ فإن التقوى من الأحداث التي إذا تعلقت بالأسماء كان مفادها التعلق بمسمى الاسم لا بلفظه ، لأن الأحكام اللفظية إنما تجري على المدلولات إلا إذا قام دليل على تعلقها بالأسماء مثل سميته محمداً ، فجىء بهذه الآية لبيان ما يترتب على تعظيم اسم الله واتقائه في حرمة أسمائه عند الحنث مع بيان ما رخص فيه من الحنث ، أو لبيان التحذير من تعريض اسمه تعالى للاستخفاف بكثرة الحلف حتى لا يضطر إلى الحنث على الوجهين الآتيين ، وبعد هذا التوجيه كله فهو يمنع منه أن مجيء قوله تعالى : {واتقوا الله واعلموا أنكم ملاقوه} [ البقرة : 223 ] مجيء التذييل للأحكام السابقة مانع من اعتبار أن يعطف عليه حكم معتد به ، لأنه يطول به التذييل وشأن التذييل الإيجاز.
(6/184)
وقال عبد الحكيم : معطوف على جملة {قل} [ البقرة : 222 ] بتقدير قل أي : وقل لا تجعلوا الله عرضة أو على قوله : {وقدموا} [ البقرة : 223 ] إن جعل قوله : {وقدموا} من جملة مقول {قل}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 375 ـ 376}
قال القرطبى :
قال العلماء : لما أمر الله تعالى بالإنفاق وصحبة الأيتام والنساء بجميل المعاشرة قال : لا تمتنعوا عن شيء من المكارم تعلّلا بأنا حلفنا ألا نفعل كذا ؛ قال معناه ابن عباس والنخعيّ ومجاهد والربيع وغيرهم. قال سعيد بن جبير : هو الرجل يحلف ألا يَبرّ ولا يصِلَ ولا يُصلِح بين الناس ؛ فيقال له : بَرّ ؛ فيقول : قد حلفت. وقال بعض المتأولين : المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين إذا أردتم البِر والتقوى والإصلاح ؛ فلا يحتاج إلى تقدير "لا" بعد "أن". وقيل : المعنى لا تستكثروا من اليمين بالله فإنه أهيب للقلوب ؛ ولهذا قال تعالى : {واحفظوا أَيْمَانَكُمْ} [ المائدة : 89 ]. وذمّ من كثّر اليمين فقال تعالى : {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} [ القلم : 10 ] والعرب تمتدِح بقلة الأيْمان ؛ حتى قال قائلهم :
قليلُ الألاَيَا حافِظٌ ليمينه... وإن صدرت منه الأليّةُ بَرَّتِ
وعلى هذا "أن تبروا" معناه : أقِلّوا الأيمان لما فيه من البرّ والتقوى ؛ فإن الإكثار يكون معه الحِنثُ وقلة رَعْى لحق الله تعالى : وهذا تأويل حسن. مالك بن أنس : بلغني أنه الحلِف بالله في كل شيء. وقيل : المعنى لا تجعلوا اليمين مبتذَلَة في كل حق وباطل. وقال الزجاج وغيره : معنى الآية أن يكون الرجل إذا طلب منه فعل خير اعتل بالله فقال : عليّ يمين ؛ وهو لم يحلف. القتبيّ : المعنى إذا حلفتم على ألا تصِلوا أرحامكم ولا تتصدّقوا ولا تصلحوا ، وعلى أشباه ذلك من أبواب البِر فكفروا اليمين.
قلت : وهذا حسن لما بيناه ، وهو الذي يدل عليه سبب النزول. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 97}
قال الفخر : (6/185)
المفسرون أكثروا من الكلام في هذه الآية ، وأجود ما ذكروه وجهان الأول : وهو الذي ذكره أبو مسلم الأصفهاني ، وهو الأحسن أن قوله : {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم} نهى عن الجراءة على الله بكثرة الحلف به ، لأن من أكثر ذكر شيء في معنى من المعاني فقد جعله عرضة له يقول الرجل : قد جعلتني عرضة للومك ، وقال الشاعر :
ولا تجعلني عرضة للوائم.. وقد ذم الله تعالى من أكثر الحلف بقوله : {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ} [ القلم : 10 ] وقال تعالى : {واحفظوا أيمانكم} [ المائدة : 89 ] والعرب كانوا يمدحون الإنسان بالإقلال من الحلف ، كما قال كثير :
قليل الألا يا حافظ ليمينه.. وإن سبقت منه الألية برت
والحكمة في الأمر بتقليل الأيمان أن من حلف في كل قليل وكثير بالله انطلق لسانه بذلك ولا يبقى لليمين في قلبه وقع ، فلا يؤمن إقدامه على اليمين الكاذبة ، فيختل ما هو الغرض الأصلي في اليمين ، وأيضاً كلما كان الإنسان أكثر تعظيماً لله تعالى كان أكمل في العبودية ومن كمال التعظيم أن يكون ذكر الله تعالى أجل وأعلى عنده من أن يستشهد به في غرض من الأغراض الدنيوية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 65}
سبب نزول الآية
قال ابن الجوزى :
في سبب نزولها أربعة أقوال.
أحدها : أنها نزلت في عبد الله بن رواحة ، كان بينه وبين ختنه شيء ، فحلف عبد الله أن لا يدخل عليه ولا يكلمه ، وجعل يقول : قد حلفت بالله ، فلا يحل لي ، إلا أن تبرّ يميني ، فنزلت هذه الآية ، قاله ابن عباس.
والثاني : أن الرجل كان يحلف بالله أن لا يصل رحمه ، ولا يصلح بين الناس ، فنزلت هذه الآية ، قاله الربيع بن أنس.
والثالث : أنها نزلت في أبي بكر حين حلف ، لا ينفق على مسطح ، قاله ابن جريج. والرابع : نزلت في أبي بكر ، حلف أن لا يصل ابنه عبد الرحمن حتى يسلم ، قاله المقاتلان : ابن حيان ، وابن سليمان. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 253}
فائدة(6/186)
قال ابن عاشور :
وتعليق الجعل بالذات هنا هو على معنى التعليق بالاسم ، فالتقدير : ولا تجعلوا اسم الله ، وحذف لكثرة الاستعمال في مثله عند قيام القرينة لظهور عدم صحة تعلق الفعل بالمسمى كقول النابغة :
... حَلفت فلم أترك لنفسك ريبةً
وليس وراءَ اللَّهِ للمرء مذهب...
أي وليس بعد اسم الله للمرء مذهب للحلف. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 376}
قوله تعالى : {أنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ}
قال الفخر :
وأما قوله تعالى بعد ذلك : {أَن تَبَرُّواْ} فهو علة لهذا النهي ، فقوله : {أَن تَبَرُّواْ} أي إرادة أن تبروا ، والمعنى : إنما نهيتكم عن هذا لما أن توقى ذلك من البر والتقوى والإصلاح ، فتكونون يا معشر المؤمنين بررة أتقياء مصلحين في الأرض غير مفسدين.
فإن قيل : وكيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى والإصلاح بين الناس ؟ .
قلنا : لأن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تعالى أجل وأعظم أن يستشهد باسمه العظيم في مطالب الدنيا وخسائس مطالب الحفل ، فلا شك أن هذا من أعظم أبواب البر وأما معنى التقوى فظاهر أنه اتقى أن يصدر منه ما يخل بتعظيم الله ، وأما الإصلاح بين الناس فمتى اعتقدوا في صدق لهجته ، وبعده عن الأغراض الفاسدة فيقبلون قوله فيحصل الصلح بتوسطه.(6/187)
التأويل الثاني : قالوا : العرضة عبارة عن المانع ، والدليل على صحة هذه اللغة أنه يقال : أردت أفعل كذا فعرض لي أمر كذا ، واعترض أي تحامى ذلك فمنعني منه ، واشتقاقها من الشيء الذي يوضع في عرض الطريق فيصير مانعاً للناس من السلوك والمرور ويقال : اعترض فلان على كلام فلان ، وجعل كلامه معارضاً لكلام آخر ، أي ذكر ما يمنعه من تثبيت كلامه ، إذا عرفت أصل الاستقاق فالعرضة فعلة بمعنى المفعول ، كالقبضة ، والغرفة ، فيكون اسماً لما يجعل معرضاً دون الشيء ، ومانعاً منه ، فثبت أن العرضة عبارة عن المانع ، وأما اللام في قوله : {لأيمانكم} فهو للتعليل.
إذا عرفت هذا فنقول : تقدير الآية : ولا تجعلوا ذكر الله مانعاً بسبب أيمانكم من أن تبروا أو في أن تبروا ، فأسقط حرف الجر لعدم الحاجة إليه بسبب ظهوره ، قالوا : وسبب نزول الآية أن الرجل كان يحلف على ترك الخيرات من صلة الرحم ، أو إصلاح ذات البين ، أو إحسان إلى أحد أدعيائه ثم يقول : أخاف الله أن أحنث في يميني فيترك البر إرادة البر في يمينه فقيل : لا تجعلوا ذكر الله مانعاً بسبب هذه الأيمان عن فعل البر والتقوى هذا أجود ما ذكره المفسرون. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 65}
سؤال : فإن قلت : كيف يلزم من ترك الحلف حصول البر والتقوى والإصلاح بين الناس ؟
قلنا : لأن من ترك الحلف لاعتقاده أن الله تبارك وتعالى ، أعظم وأجل أن يستشهد باسمه المعظم في طلب الدنيا ، إن هذا من أعظم أبواب البر. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 189}
فوائد لغوية
قال ابن عاشور : (6/188)
والأَيمان جمع يمين وهو الحلف سمي الحلف يميناً أخذاً من اليمين التي هي إحدى اليدين وهي اليد التي يفعل بها الإنسان معظم أفعاله ، وهي اشتقت من اليمن وهو البركة ، لأن اليد اليمنى يتيسر بها الفعل أحسن من اليد الأخرى ، وسمي الحلف يميناً لأن العرب كان من عادتهم إذا تحالفوا أن يمسك المتحالفان أحدهما باليد اليمنى من الآخر قال تعالى : {إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم} [ الفتح : 10 ] فكانوا يقولون أعطى يمينه ، إذا أكد العهد.
وشاع ذلك في كلامهم قال كعب بن زهير :
حتى وضعت يمينى لا أنازعه
في كف ذي يسرات قيله القيل...
ثم اختصروا فقالوا صدرت منه يمين أو حلف يميناً ، فتسمية الحلف يميناً من تسمية الشيء باسم مقارنه الملازم له ، أو من تسمية الشيء باسم مكانه ؛ كما سَمَّوا الماء وادياً وإنما المحل في هذه التسمية على هذا الوجه محل تخييلي.
ولما كان غالب أَيمانهم في العهود والحلف ، وهو الذي يضع فيه المتعاهدون أيديهم بعضَها في بعض ، شاع إطلاق اليمين على كل حَلِف ، جرياً على غالب الأحوال ؛ فأطلقت اليمين على قَسم المرء في خاصة نفسه دون عهد ولا حلف.
والقصد من الحَلِف يرجع إلى قصد أن يشهد الإنسان اللَّهَ تعالى على صدقه في خبر أو وعد أو تعليق ، ولذلك يقوله : {بالله} أي أخبر متلبساً بإشهاد الله ، أو أعد أو أُعلِّق متلبساً بإشهاد الله على تحقيق ذلك ، فمِن أجْل ذلك تضمن اليمين معنى قوياً في الصدق ، لأن من أشهد بالله على باطل فقد اجترأَ عليه واستخف به ، ومما يدل على أن أصل اليمين إشْهاد اللَّهِ ، قوله تعالى : {ويشهد الله على ما في قلبه} [ البقرة : 204 ] كما تقدم ، وقول العرب يَعْلم الله في مقام الحلف المغلظ ، ولأجله كانت الباء هي أصل حروف القسم لدلالتها على الملابسة في أصل معانيها ، وكانت الواو والتاء لاحقتين بها في القسم الإنشائي دون الاستعطافي.
(6/189)
ومعنى الآية إن كانت العرضة بمعنى الحاجز نهيُ المسلمين عن أن يجعلوا اسم الله حائلاً معنوياً دون فعل ما حلفوا على تركه من البر والتقوى والإصلاحِ بين الناس فاللاَّم للتعليل ، وهي متعلقة بتجعلوا ، و{أن تبروا} متعلق بعرضة على حذف اللام الجارة ، المطرد حذفها مع أَنْ ، أي ولا تجعلوا الله لأجل أن حلفتم به عرضة حاجزاً عن فعل البر والإصلاح والتقوى ، فالآية على هذا الوجه نهي عن المحافظة على اليمين إذا كانت المحافظة عليها تمنع من فعل خير شرعي ، وهو نهي تحريم أو تنزيه بحسب حكم الشيء المحلوف على تركه ، ومن لوازمه التحرز حين الحلف وعدم التسرع للأيمان ، إذ لا ينبغي التعرض لكثرة الترخص.
وقد كانت العرب في الجاهلية تغضب فتقسم بالله وبآلهتها وبآبائها ، على الامتناع من شيء ، ليسدوا باليمين بابَ المراجعة أو الندامة.
وفي "الكشاف" "كان الرجل يحلف على ترك الخير من صلة الرحم ، أو إصلاح ذات البين ، أو إحسان ، ثم يقول أخاف أن أحنث في يميني ، فيترك فعل البر فتكون الآية واردة لإصلاح خلل من أحوالهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 378}
قوله تعالى : {والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما أرشد السياق والعطف على غير مذكور إلى أن التقدير : فالله جليل عظيم عطف عليه قوله : {والله} أي بما له من العز والعظمة {سميع} لجميع ما يكون من ذلك وغيره {عليم} بما أسر منه وما أعلن ، فاحذروه في جميع ما يأمركم به وينهاكم عنه ، ويجوز أن يكون الجملة حالاً من واو {تجعلوا} فلا يكون هناك مقدر ويكون الإظهار موضع الإضمار لتعظيم المقام.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 424 ـ 425}
قال الفخر :
{والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أي : إن حلفتم يسمع ، وإن تركتم الحلف تعظيماً لله وإجلالاً له من أن يستشهد باسمه الكريم في الأغراض العاجلة فهو عليم عالم بما في قلوبكم ونيتكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 66}
وقال أبو حيان : (6/190)
{والله سميع عليم} ختم هذه الآية بهاتين الصفتين لأنه تقدم ما يتعلق بهما ، فالذي يتعلق بالسمع الحلف لأنه من المسموعات ، والذي يتعلق بالعلم هو إرادة البر والتقوى والإصلاح إذ هو شيء محله القلب ، فهو من المعلومات ، فجاءت هاتان الصفتان منتظمتين للعلة والمعلول ، وجاءتا على ترتيب ما سبق من تقديم السمع على العلم ، كما قدم الحلف على الإرادة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 190}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {والله سميع عليم} تذييل ، والمراد منه العلم بالأقوال والنيات ، والمقصود لازمه ، وهو الوعد على الامتثال ، على جميع التقادير ، والعذر في الحنث على التقدير الأول ، والتحذير من الحلف على التقدير الثاني.
وقد دلت الآية على معنى عظيم وهو أن تعظيم الله لا ينبغي أن يجعل وسيلة لتعطيل ما يحبه الله من الخير ، فإن المحافظة على البر في اليمين ترجع إلى تعظيم اسم الله تعالى ، وتصديق الشهادة به على الفعل المحلوف عليه ، وهذا وإن كان مقصداً جليلاً يُشكر عليه الحالف الطالب للبر ؛ لكن التوسل به لقطع الخيرات مما لا يرضَى به الله تعالى ، فقد تعارض أمران مرضيان لله تعالى إذا حصل أحدهما لم يحصل الآخر.
والله يأمرنا أن نقدم أحد الأمرين المرضيين له ، وهو ما فيه تعظيمه بطلب إرضائه ، مع نفع خلقه بالبر والتقوى والإصلاح ، دون الأمر الذي فيه إرضاؤه بتعظيم اسمه فقط ، إذ قد علم الله تعالى أن تعظيم اسمه قد حصل عند تحرج الحالف من الحنث ، فبِر اليمينِ أدبٌ مع اسم الله تعالى ، والإتيانُ بالأعمال الصالحة مرضاة لله ؛ فأمَرَ الله بتقديم مرضاته على الأدب مع اسمه ، كما قيل : الامتثالُ مقدَّم على الأدب.(6/191)
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم " إني لأحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا كفّرت عن يميني وفعلتُ الذي هو خير " ولأجل ذلك لما أقسم أيوب أن يضرب امرأته مائة جلدة ، أمره الله أن يأخذ ضغثاً من مائة عصا فيضربها به ، وقد علم الله أن هذا غيرُ مقصد أيوب ؛ ولكن لما لم يرض الله من أيوب أن يضرب امرأته نهاه عن ذلك ، وأمره بالتحلل محافظة على حرص أيوب على البر في يمينه ، وكراهته أن يتخلف منه معتاده في تعظيم اسم ربه ، فهذا وجه من التحلة ، أفتى الله به نبيه.
ولعل الكفّارة لم تكن مشروعة فهي من يسر الإسلام وسماحته ، فقد كفانا الله ذلك إذ شرع لنا تحلّة اليمين بالكفّارة ؛ ولذلك صار لا يجزىء في الإسلام أن يفعل الحالف مثل ما فعل أيوب. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 379 ـ 380}
فائدة
قال السعدى فى معنى الآية
المقصود من اليمين ، والقسم تعظيم المقسم به ، وتأكيد المقسم عليه ، وكان الله تعالى قد أمر بحفظ الأيمان ، وكان مقتضى ذلك حفظها في كل شيء ، ولكن الله تعالى استثنى من ذلك إذا كان البر باليمين ، يتضمن ترك ما هو أحب إليه ، فنهى عباده أن يجعلوا أيمانهم عرضة ، أي : مانعة وحائلة عن أن يبروا : أن يفعلوا خيرا ، أو يتقوا شرا ، أو يصلحوا بين الناس ، فمن حلف على ترك واجب وجب حنثه ، وحرم إقامته على يمينه ، ومن حلف على ترك مستحب ، استحب له الحنث ، ومن حلف على فعل محرم ، وجب الحنث ، أو على فعل مكروه استحب الحنث ، وأما المباح فينبغي فيه حفظ اليمين عن الحنث.
ويستدل بهذه الآية على القاعدة المشهورة ، أنه "إذا تزاحمت المصالح ، قدم أهمها "فهنا تتميم اليمين مصلحة ، وامتثال أوامر الله في هذه الأشياء ، مصلحة أكبر من ذلك ، فقدمت لذلك.(6/192)
ثم ختم الآية بهذين الاسمين الكريمين فقال : {وَاللَّهُ سَمِيعٌ} أي : لجميع الأصوات {عَلِيمٌ} بالمقاصد والنيات ، ومنه سماعه لأقوال الحالفين ، وعلمه بمقاصدهم هل هي خير أم شر ، وفي ضمن ذلك التحذير من مجازاته ، وأن أعمالكم ونياتكم ، قد استقر علمها عنده. أ هـ {تفسير السعدى صـ 100}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ...}.
قيل : أي مانعا من أيمانكم. وأطلق اليمين على المحلوف عليه مجازا ، أي لا تجعلوه مانعا من فعل ما حلفتم عليه ، وقيل أي لا تكثروا الحلف به وإن كان ذلك تعظيما له خشية أن يفضي بكم ذلك إلى التهاون وعدم التعظيم فأحرى فيما عداها.
قال ابن عرفة : وعلى الوجه الأول يكون في الآية عندي دليل على أنّ الاسم غير المسمّى لأن الجعل لا يتعلق بالذات الكريمة ، وإنّما يتعلق بالألفاظ الدّالة عليها بخلاف قولك : جعلت زيدا حائلا بيني وبين كذا. وكذلك أيضا على الثاني لأن الحلف إنّما هو بالألفاظ لا بالذات.
قال ابن عرفة : وقول الله تعالى : {أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ...}.
قيل إرادة البرّ ، وقيل أي إرادة أن تكونوا أبرارا فعلى الأول تكون ترقيا ، لأن التقوى أخص من البر ، والإصلاح بين الناس أخص. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 291}
فائدة
قال صاحب البحر المديد :
كثرة الحلف مذموم يدل على الخفة والطيش ، وعدم الحلف بالكلية تعسف ، وخيرُ الأمور أوساطها ، كان عليه الصلاة والسلام يحلف في بعض أحيانه ، يقول : " لاَ وَمُقَلِّبِ الْقُلُوبِ " " وَالَّذِي نَفْسُ مُحَمَّدٍ بِيَدِهِ " والله تعالى أعلم. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 184}(6/193)
قوله تعالى : {لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تقدم إليهم سبحانه وتعالى في هذا وكانت ألسنتهم قد مرنت على الأيمان من غير قصد بحيث صاروا لا يقدرون على ترك ذلك إلا برياضة كبيرة ومعالجة طويلة وكان مما رحم الله به هذه الأمة العفو عما أخطأت به ولم تتعمده قال في جواب من كأنه سأل عن ذلك : {لا يؤاخذكم} أي لا يعاقبكم ، وحقيقته يعاملكم معاملة من يناظر شخصاً في أن كلاًّ منهما يريد أخذ الآخر بذنب أسلفه إليه {الله} فكرر في الإطلاق والعفو الاسم الأعظم الذي ذكره في التقييد والمنع إيذاناً بأن عظمته لا تمنع من المغفرة {باللغو} وهو ما تسبق إليه الألسنة من القول على غير عزم قصد إليه - قاله الحرالي. {في أيمانكم} فإن ذلك لا يدل على الامتهان بل ربما دل على المحبة والتعظيم. ولما بين ما أطلقه بين ما منعه فقال : {ولكن يؤاخذكم} والعبارة صالحة للإثم والكفارة. ولما كان الحامل على اليمين في الأغلب المنافع الدنيوية التي هي الرزق وكان الكسب يطلق على طلب الرزق وعلى القصد والإصابة عبر به فقال : {بما كسبت} أي تعمدت {قلوبكم} فاجتمع فيه مع اللفظ النية. قال الحرالي : فيكون ذلك عزماً باطناً وقولاً ظاهراً فيؤاخذ باجتماعهما ، ففي جملته ترفيع لمن لا يحلف بالله في عزم ولا لغو ، وذلك هو الذي حفظ حرمة الحلف بالله ، وفي مقابلته من يحلف على الخير أن لا يفعله - انتهى. ولم يبين هنا الكفارة صريحاً إشارة إلى أنهم ينبغي أن يكونوا أتقى من أن يمنعوا من شيء فيقارفوه ، وأشار إليها في الإيلاء كما يأتي.
(6/194)
ولما كان ذكر المؤاخذة قطعاً لقلوب الخائفين سكنها بقوله مظهراً موضع الإضمار إشارة إلى أن رحمته سبقت غضبه : {والله} أي مع ما له من العظمة {غفور} أي ستور لذنوب عباده إذا تابوا. ولما كان السياق للمؤاخذة التي هي معالجة كل من المتناظرين لصاحبه بالأخذ كان الحلم أنسب الأشياء لذلك فقال {حليم} لا يعاجلهم بالأخذ ، والحلم احتمال الأعلى للأذى من الأدنى ، وهو أيضاً رفع المؤاخذة عن مستحقها بجناية في حق مستعظم - قاله الحرالي. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 425 ـ 426}
وقال أبو حيان :
مناسبة هذه الآية لما قبلها ظاهرة ، لأنه تعالى لما نهى عن جعل الله معرضاً للأيمان ، كان ذلك حتماً لترك الأيمان وهم يشق عليهم ذلك ، لأن العادة جرت لهم بالأيمان ، فذكر أن ما كان منها لغواً فهو لا يؤاخذ به ، لأنه مما لا يقصد به حقيقة اليمين ، وإنما هو شيء يجري على اللسان عند المحاورة من غير قصد ، وهذا أحسن ما يفسر به اللغو ، لأنه تعالى جعل مقابلة ما كسبه القلب وهو ماله فيه اعتماد وقصد. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 190}
قال الفخر :
{اللغو} الساقط الذي لا يعتد به ، سواء كان كلاماً أو غيره ، أما ورود هذه اللفظة في الكلام ، فيدل عليه الآية والخبر والرواية ، أما الآية فقوله تعالى : {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [ القصص : 55 ] وقوله : {لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً} [ الواقعة : 25 ] وقوله : {لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرءان والغوا فيه} [ فصلت : 26 ] وقوله : {لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاغية} [ الغاشية : 11 ] أما قوله : {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ كِراماً} [ الفرقان : 72 ] فيحتمل أن يكون المراد ، وإذا مروا بالكلام الذي يكون لغواً ، وأن يكون المراد ، وإذا مروا بالفعل الذي يكون لغواً.
وأما الخبر فقوله صلى الله عليه وسلم : " من قال يوم الجمعة لصاحبه صه والإمام يخطب فقد لغا ".(6/195)
وأما الرواية فيقال : لغا الطائر يلغو لغواً إذا صوت ، ولغو الطائر تصويته ، وأما ورود هذا اللفظ في غير الكلام ، فهو أنه يقال لما لا يعتد به من أولاد الإبل : لغو ، قال جرير :
يعد الناسبون بني تميم.. بيوت المجد أربعة كباراً
وتخرج منهم المرئى لغواً.. كما ألغيت في الدية الحوارا
وقال العجاج :
ورب أسراب حجيج كظم.. عن اللغا ورفث التكلم
قال الفراء : اللغا ، مصدر للغيت ، و{اللغو} مصدر للغوت ، فهذا ما يتعلق باللغة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 66}
قال ابن عاشور :
والأيمان جمع يمين ، واليمين القسم والحلف ، وهو ذكر اسم الله تعالى ، أو بعض صفاته ، أو بعض شؤونه العليا أو شعائره.
فقد كانت العرب تحلف بالله ، وبرب الكعبة ، وبالهدي ، وبمناسك الحج.
والقسم عندهم بحرف من حروف القسم الثلاثة : الواو والباء والتاء ، وربما ذكروا لفظ حلفت أو أقسمت ، وربما حلفوا بدماء البدن ، وربما قالوا والدماءِ ، وقد يدخلون لاماً على عَمْر الله ، يقال : لَعَمْرُ الله ، ويقولون : عمرَك الله ، ولم أر أنهم كانوا يحلفون بأسماء الأصنام.
فهذا الحلف الذي يراد به التزام فعل ، أو براءة من حق.
وقد يحلفون بأشياء عزيزة عندهم لقصد تأكيد الخبر أو الالتزام ، كقولهم وأبيك ولَعَمْرك ولعمري ، ويحلفون بآبائهم ، ولما جاء الإسلام نهى عن الحلف بغير الله.
ومن عادة العرب في القسم أن بعض القسم يقسمون به على التزام فعل يفعله المقسِم ليُلجىء نفسه إلى عمله ولا يندم عنه ، وهو من قبيل قسم النذر ، فإذا أراد أحد أن يظهر عزمه على فعل لا محالة منه ، ولا مطمع لأحد في صرفه عنه ، أكده بالقسم ، قال بلعاء بن قيس :
وفارسٍ في غِمار المَوْت منغَمِس
إذَا تَأَلَّى على مَكْروهَةٍ صَدَقَا...(6/196)
( أي إذا حلف على أن يقاتل أو يقتل أو نحو ذلك من المصاعب والأضرار ومنه سميت الحرب كريهة ) فصار نطقهم باليمين مؤذناً بالغرم ، وكثر ذلك في ألسنتهم في أغراض التأْكيد ونحوه ، حتى صار يجري ذلك على اللسان كما تجري الكلمات الدالة على المعاني من غير إرادة الحلف ، وصارت كثرته في الكلام لا تنحصر ، فكثر التحرج من ذلك في الإسلام قال كثيِّر :
قليل الألايى حافظ ليمينه
وإن سبقت منه الأليَّة بَرَّتِ...
فأشبهه جريانُ الحلف على اللسان اللغوَ من الكلام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 381 ـ 382}
سؤال : ما المراد باللغو فى الآية الكريمة ؟
قال الفخر : (6/197)
أما المفسرون فقد ذكروا وجوهاً الأول : قال الشافعي رضي الله عنه : إنه قول العرب : لا والله ، وبلى والله ، مما يؤكدون به كلامهم ولا يخطر ببالهم الحلف ، ولو قيل لواحد منهم : سمعتك اليوم تحلف في المسجد الحرام ألف مرة لأنكر ذلك ، ولعله قال : لا والله ألف مرة والثاني : وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه : أن اللغو هو أن يحلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن فهذا هو اللغو ، وفائدة هذا الإختلاف أن الشافعي لا يوجب الكفارة في قول الرجل لا والله وبلى والله ويوجبها فيما إذا حلف على شيء يعتقد أنه كان ثم بان أنه لم يكن ، وأبو حنيفة يحكم بالضد من ذلك ومذهب الشافعي هو قول عائشة ، والشعبي ، وعكرمة ، وقول أبي حنيفة هو قول ابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، والنخعي والزهري ، وسليمان بن يسار ، وقتادة ، والسدي ، ومكحول ، حجة الشافعي رضي الله عنه على قوله وجوه الأول : ما روت عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لغو اليمين قول الرجل في كلامه كلا والله ، وبلى والله ، ولا والله " وروي أنه صلى الله عليه وسلم مر بقوم ينتضلون ، ومعه رجل من أصحابه فرمى رجل من القوم ، فقال : أصبت والله ، ثم أخطأ ، ثم قال الذي مع النبي صلى الله عليه وسلم : حنث الرجل يا رسول الله ، فقال صلى الله عليه وسلم : " كل أيمان الرماة لغو لا كفارة فيها ولا عقوبة " وعن عائشة أنها قالت : أيمان اللغو ماكان في الهزل والمراء والخصومة التي لا يعقد عليها القلب ، وأثر الصحابي في تفسير كلام الله حجة.
(6/198)
الحجة الثانية : أن قوله : {لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو فِى أيمانكم ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} يدل على أن لغو اليمين كالمقابل المضاد لما يحصل بسبب كسب القلب ، ولكن المراد من قوله : {بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} هو الذي يقصده الإنسان على الجد ويربط قلبه به ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون اللغو الذي هو كالمقابل له أن يكون معناه ما لا يقصده الإنسان بالجد ، ولا يربط قلبه به ، وذلك هو قول الناس على سبيل التعود في الكلام : لا والله بلى والله ، فأما إذا حلف على شيء بالجد أنه كان حاصلاً ثم ظهر أنه لم يكن فقد قصد الإنسان بذلك اليمين تصديق قول نفسه وربط قلبه بذلك ، فلم يكن ذلك لغواً ألبتة بل كان ذلك حاصلاً بكسب القلب.
الحجة الثالثة : أنه سبحانه ذكر قبل هذه الآية : {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم} [ البقرة : 224 ] وقد ذكرنا أن معناه النهي عن كثرة الحلف واليمين ، وهؤلاء الذين يقولون على سبيل الاعتياد : لا والله وبلى والله لا شك أنهم يكثرون الحلف ، فذكر تعالى عقيب قوله : {وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأيمانكم} حال هؤلاء الذين يكثرون الحلف على سبيل الاعتياد في الكلام لا على سبيل القصد إلى الحلف ، وبين أنه لا مؤاخذة عليهم ، ولا كفارة ، لأن إيجاب المؤاخذة والكفارة عليهم يفضي إما إلى أن يمتنعوا عن الكلام ، أو يلزمهم في كل لحظة كفارة وكلاهما حرج في الدين فظهر أن تفسير اللغو بما ذكرناه هو المناسب لما قبل الآية ، فأما الذي قال أبو حنيفة رضي الله عنه فإنه لا يناسب ما قبل الآية فكان تأويل الشافعي أولى ، حجة أبي حنيفة رضي الله عنه من وجوه.
الحجة الأولى : قوله صلى الله عليه وسلم : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر عن يمينه " الحديث دل على وجوب الكفارة على الحانث مطلقاً من غير فصل بين المجد والهازل.
(6/199)
الحجة الثانية : أن اليمين معنى لا يلحقه الفسخ ، فلا يعتبر فيه القصد كالطلاق والعتاق ، فهاتان الحجتان يوجبان الكفارة في قول الناس : لا والله بلى والله ، إذا حصل الحنث ، ثم الذي يدل على أن اللغو لا يمكن تفسيره بما قال الشافعي ، ويجب تفسيره بما قاله أبو حنيفة أن اليمين في اللغة عبارة عن القوة قال الشاعر :
إذا ما راية رفعت لمجد.. تلقاها عرابة باليمين
أي بالقوة ، والمقصود من اليمين تقوية جانب البر على جانب الحنث بسبب اليمين ، وهذا إنما يفعل في الموضع الذي يكون قابلاً للتقوية ، وهذا إنما يكون إذا وقع اليمين على فعل في المستقبل ، فأما إذا وقع اليمين على الماضي فذلك لا يقبل التقوية ألبتة ، فعلى هذا اليمين على الماضي تكون خالية عن الفائدة المطلوبة منها ، والخالي عن المطلوب يكون لغواً ، فثبت أن اللغو هو اليمين على الماضي ، وأما اليمين على المستقبل فهو قابل للتقوية ، فلم تكن هذه اليمين خالية عن الغرض المطلوب منها فلا تكون لغواً.
القول الثالث : في تفسير يمين اللغو : هو أنه إذا حلف على ترك طاعة ، أو فعل معصية ، فهذا هو يمين اللغو وهو المعصية.
(6/200)
قال تعالى : {وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ} [ القصص : 55 ] فبين أنه تعالى لا يؤاخذ بترك هذه الأيمان ، ثم قال : {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي بإقامتكم على ذلك الذي حلفتم عليه من ترك الطاعة وفعل المعصية ، قالوا : وهذا التأويل مناف لقوله عليه السلام : " من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليأت الذي هو خير ثم ليكفر " وهذا التأويل ضعيف من وجهين الأول : هو أن المؤاخذة المذكورة في هذه الآية صارت مفسرة في آية المائدة بقوله تعالى : {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان فَكَفَّارَتُهُ} [ المائدة : 89 ] ولما كان المراد بالمؤاخذة إيجاب الكفارة وههنا الكفارة واجبة ، علمنا أن المراد من الآية ليس هو هذه الصورة الثاني : أنه تعالى جعل المقابل للغو هو كسب القلب ، ولا يمكن تفسيره بما ذكره من الإصرار على الشيء الذي حلفوا عليه لأن كسب القلب مشعر بالشروع في فعل جديد ، فأما الاستمرار على ما كان فذلك لا يسمى كسب القلب.
القول الرابع : في تفسير يمين اللغو : أنها اليمين المكفرة سميت لغواً لأن الكفارة أسقطت الإثم ، فكأنه قيل : لا يؤاخذكم الله باللغو إذا كفرتم ، وهذا قول الضحاك.
القول الخامس : وهو قول القاضي : أن المراد به ما يقع سهواً غير مقصود إليه ، والدليل عليه قوله تعالى بعد ذلك : {ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ} أي يؤاخذكم إذا تعمدتم ، ومعلوم أن المقابل للعمد هو السهو. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 67 ـ 68}(6/201)
وقال ابن العربى :
قَوْله تَعَالَى : {لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاَللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ} فِيهَا ثَلَاثُ مَسَائِلَ : الْمَسْأَلَةُ الْأُولَى : اللَّغْوُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ مَخْصُوصٌ بِكُلِّ كَلَامٍ لَا يُفِيدُ ، وَقَدْ يَنْطَلِقُ عَلَى مَا لَا يَضُرُّ.
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ : فِي الْمُرَادِ بِذَلِكَ : وَفِيهِ سَبْعَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا يَجْرِي عَلَى اللِّسَانِ مِنْ غَيْرِ قَصْدٍ ، كَقَوْلِهِ : لَا وَاَللَّهِ ، وَبَلَى وَاَللَّهِ ؛ قَالَتْهُ عَائِشَةُ ، وَالشَّافِعِيُّ.
الثَّانِي : مَا يَحْلِفُ فِيهِ عَلَى الظَّنِّ ، فَيَكُونُ بِخِلَافِهِ قَالَهُ مَالِكٌ.
الثَّالِثُ : يَمِينُ الْغَضَبِ.
الرَّابِعُ : يَمِينُ الْمَعْصِيَةِ.
الْخَامِسُ : دُعَاءُ الْإِنْسَانِ عَلَى نَفْسِهِ ، كَقَوْلِهِ : إنْ لَمْ أَفْعَلْ كَذَا فَيَلْحَقُ بِي كَذَا وَنَحْوُهُ.
وَالسَّادِسُ : الْيَمِينُ الْمُكَفِّرُ.
السَّابِعُ : يَمِينُ النَّاسِي.(6/202)
الْمَسْأَلَةُ الثَّانِيَةُ فِي تَنْقِيحِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ : اعْلَمُوا أَنَّ جَمِيعَ هَذِهِ السَّبْعَةِ الْأَقْوَالِ لَا تَخْلُو مِنْ قِسْمَيْ اللَّغْوِ اللَّذَيْنِ بَيَّنَّاهُمَا ، وَحَمْلُ الْآيَةِ عَلَى جَمِيعِهَا مُمْتَنِعٌ ، لِأَنَّ الدَّلِيلَ قَدْ قَامَ عَلَى الْمُؤَاخَذَةِ بِبَعْضِهَا ، وَفِي ذَلِكَ آيَاتٌ وَأَخْبَارٌ وَآثَارٌ لَوْ تَتَبَّعْنَاهَا لَخَرَجْنَا عَنْ مَقْصُودِ الِاخْتِصَارِ بِمَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ مِنْ الْإِكْثَارِ وَاَلَّذِي يَقْطَعُ بِهِ اللَّبِيبُ أَنَّهُ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ تَقْدِيرِ الْآيَةِ : لَا يُؤَاخِذُكُمْ اللَّهُ بِمَا لَا مَضَرَّةَ فِيهِ عَلَيْكُمْ ، إذْ قَدْ قَصَدَ هُوَ الْإِضْرَارَ بِنَفْسِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَ الْمُؤَاخَذَةَ بِالْقَصْدِ ، وَهُوَ كَسْبُ الْقَلْبِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اللَّغْوَ مَا لَا فَائِدَةَ فِيهِ ، وَخَرَجَ مِنْ اللَّفْظِ يَمِينُ الْغَضَبِ وَيَمِينُ الْمَعْصِيَةِ ، وَانْتَظَمَتْ الْآيَةُ قِسْمَيْنِ : قِسْمٌ كَسَبَهُ الْقَلْبُ ، فَهُوَ الْمُؤَاخَذُ بِهِ ، وَقِسْمٌ لَا يَكْسِبُهُ الْقَلْبُ ، فَهُوَ الَّذِي لَا يُؤَاخَذُ بِهِ ، وَخَرَجَ مِنْ قِسْمِ الْكَسْبِ يَمِينُ الْحَالِفِ نَاسِيًا ، فَأَمَّا الْحَانِثُ نَاسِيًا فَهُوَ بَابٌ آخَرَ يَأْتِي فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ ، كَمَا خَرَجَ مِنْ قِسْمِ الْكَسْبِ أَيْضًا الْيَمِينُ عَلَى شَيْءٍ يَظُنُّهُ ، فَخَرَجَ بِخِلَافِهِ ، لِأَنَّهُ مِمَّا لَمْ يَقْصِدْهُ ، وَفِي ذَلِكَ نَظَرٌ طَوِيلٌ بَيَانُهُ فِي الْمَسَائِلِ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 348 ـ 349}(6/203)
وقال العلامة الثعالبى ـ رحمه الله ـ :
وطريقةُ النَّظَر أن تتأمَّل لفظة اللغْو ، ولفظة الكَسْب ، ويُحَكَّم موقعهما في اللغة ، فكَسْب المرء ما قَصَده ، ونواه ، واللَّغْوُ : ما لم يتعمَّده ، أو ما حقُّه لهجنته أن يسقط ، فيقوَّى على هذه الطريقة بعْض الأقوال المتقدِّمة ، ويضعَّف بعضها ، وقد رفع اللَّه عز وجَلَّ المؤاخذة بالإِطلاق في اللَّغْو ، فحقيقته : ما لا إِثم فيه ، ولا كفارة ، والمؤاخذةُ في الأيمان هي بعقوبةِ الآخِرَةِ في الغَمُوس المَصْبُورة ، وفيما تُرِكَ تكفيره ممَّا فيه كفَّارة ، وبعقوبة الدنيا في إِلزام الكفَّارة ، فيضعَّف القول بأنها اليمين المكفَّرة ؛ لأن المؤاخذة قد وَقَعَتْ فيها ، وتخصيصُ المؤاخذة ؛ بأنها في الآخرة فقَطْ تحكُّم.
والقولُ الأوَّل أرجح ، وعليه عَوَّل اللَّخْميُّ وغيره. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 174}
( فصل في بيان حكم الآية : وفيه مسائل )
المسألة الأولى : لا تنعقد اليمين إلا بالله وبأسمائه وصفاته ، فأما اليمين بالله فهو كقول الرجل : والذي نفسي بيده والذي أعبده ، ونحو ذلك ، والحلف بأسمائه كقوله والله والرحمن والرحيم والمهيمن ونحو ذلك والحلف بصفاته كقوله وعزة الله ، وقدرته وعظمته ونحوه ، فإذا حلف بشيء من ذلك ثم حنث فعليه الكفارة.
المسألة الثانية : لا يجوز الحلف بغير الله كقوله : والكعبة والنبي وأبي ونحو ذلك ، فإذا حلف بشيء من ذلك لا تنعقد يمينه ولا كفارة عليه ، ويكره الحلف به لما روى عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت " أخرجاه في الصحيحين.(6/204)
المسألة الثالثة : إذا حلف على أمر في المستقبل ، فحنث فعليه الكفارة وإن كان على أمر ماض ولم يكن ، أو على أنه لم يكن فكان فإن كان عالماً به حال حلفه بأن يقول : والله ما فعلت وقد فعل أو لقد فعلت وما فهل فهذه اليمين الغموس ، وهي من الكبائر سميت غموساً لأنهما تغمس صاحبها في الإثم وتجب فيها الكفارة عند الشافعي سواء كان عالماً أو جاهلاً ، وذهب أبو حنيفة إلى أنه لا كفارة عليه ، فإن كان عالماً فهي كبيرة ، وإن كان جاهلاً فهي من لغو اليمين. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 151}
وقال ابن الجوزى :
فصل
الأيمان على ضربين ، ماضٍ ومستقبل ، فالماضي على ضربين : يمين محرمة ، وهي : اليمين الكاذبة ، وهي أن يقول : والله ما فعلت ، وقد فعل. أو : لقد فعلت ، وما فعل. ويمين مباحة ، وهي أن يكون صادقاً في قوله : ما فعلت. أو : لقد فعلت. والمستقبلة على خمسة أقسام. أحدها : يمين عقدُها طاعة ، والمقام عليها طاعة ، وحلها معصية ، مثل أن يحلف : لأصلينَّ الخمس ، ولأصومنَّ رمضان ، أو : لاشربت الخمر. والثاني : عقدها معصية ، والمقام عليها معصية ، وحلها طاعة ، وهي عكس الأولى. والثالث : يمين عقدها طاعة ، والمقام عليها طاعة ، وحلها مكروه ، مثل أن يحلف : ليَفعلنّ النوافل من العبادات. والرابع : يمين عقدها مكروه ، والمقام عليها مكروه ، وحلها طاعة ، وهي عكس التي قبلها. والخامس : يمين عقدها مباح ، والمقام عليها مباح ، وحلها مباح. مثل أن يحلف : لا دخلت بلداً فيه من يظلم الناس ، ولا سلكت طريقاً مخوفاً ، ونحو ذلك. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 256}
قوله تعالى : {والله غَفُورٌ حليم}
قال الفخر : (6/205)
أما قوله تعالى : {والله غَفُورٌ حليم} فقد علمت أن : الغفور ، مبالغة في ستر الذنوب ، وفي إسقاط عقوبتها ، وأما : الحليم ، فاعلم أن الحلم في كلام العرب الأناة والسكون ، يقال : ضع الهودج على أحلم الجمال ، أي على أشدها تؤدة في السير ، ومنه الحلم لأنه يرى في حال السكون ، وحلمة الثدي ، ومعنى : الحليم ، في صفة الله : الذي لا يعجل بالعقوبة ، بل يؤخر عقوبة الكفار والفجار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 68}
وقال أبو حيان :
{والله غفور حليم} جاءت هاتان الصفتان تدلان على توسعة الله على عباده حيث لم يؤاخذهم باللغو في الأيمان ، وفي تعقيب الآية بهما إشعار بالغفران ، والحلم عن من أوعده تعالى بالمؤاخذة ، وإطماع في سعة رحمته ، لأن من وصف نفسه بكثرة الغفران والصفح مطموع في ما وصف به نفسه ، فهذا الوعيد الذي ذكره تعالى مقيد بالمشيئة ، كسائر وعيده تعالى. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 191}
وقال الخازن :
{والله غفور} يعني لعباده فيما لغوا من أيمانهم التي أخبر أنه لا يؤاخذكم عليها ، ولو شاء آخذهم وألزمهم للكفارة في العاجل والعقوبة عليها في الآجل {حليم} يعني في ترك معاجلة أهل العصيان بالعقوبة ، قال الحليمي في معنى الحليم : إنه الذي لا يحبس إنعامه وأفضاله عن عباده لأجل ذنوبهم ، ولكنه يرزق العاصي كما يرزق المطيع ويبقيه وهو منهمك في معاصيه كما يبقى البر المتقي وقد يقيه الآفات والبلايا ، وهو غافل لا يذكره فضلاً عن أن يدعوه كما يقيها الناسك الذي يدعوه ويسأله ، وقال أبو سليمان الخطابي : الحليم ذو الصفح والأناة الذي لا يستفزه غضب ولا يستخفه جهل جاهل ولا عصيان عاص ولا يستحق الصافح مع العجز اسم الحليم ، إنما الحليم الصفوح مع القدرة على الانتقام المتأني الذي لا يعجل بالعقوبة. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 151}
وقال ابن عرفة :
قوله تعالى : {والله غَفُورٌ حَلِيمٌ}(6/206)
يحتمل أن يرجع " غفور " للغو اليمين و" حليم " لعدم المعاجلة بالعقوبة في اليمين الغموس. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 291}
لطيفة
قال الإمام القشيرى :
ما جرى به اللسان على مقتضى السهو فليس له كثير خطرٍ في الخير والشر ، ولكن ما انطوت عليه الضمائر ، واحتوت عليه السرائر ، من قصود صحيحة ، وعزائم قوية فذلك الذي يؤخذ به إن كان خيراً فجزاءٌ جميل ، وإن كان شراً فعناءٌ طويل. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 179}(6/207)
قوله تعالى : {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان الإيلاء حلفاً مقيداً وبين حكم مطلق اليمين قبله لتقدم المطلق على المقيد بانفكاكه عنه بينه دليلاً على حلمه حيث لم يؤاخذهم به فقد كانوا يضارون به النساء في الجاهلية بأن يحلفوا على عدم الوطء أبداً فتكون المرأة لا أيماً ولا ذات بعل وجعل لهم فيه مرجعاً يرجعون إليه فقال في جواب من كأنه سأل عنه لما أشعر به ما تقدم : {للذين يؤلون} أي يحلفون حلفاً مبتدئاً {من نسائهم} في صلب النكاح أو علقة الرجعة بما أفادته الإضافة بأن لا يجامعوهن أبداً أو فوق أربعة أشهر فالتعدية بمن تدل على أخذ في البعد عنهن.
قال الحرالي : والإيلاء تأكيد الحلف وتشديده سواء كانوا أحراراً أو عبيداً أو بعضاً وبعضاً في حال الرضى أو الغضب محبوباً كان أو لا لأن المضارة حاصلة بيمينه {تربص} أي إمهال وتمكث يتحمل فيه الصبر الذي هو مقلوب لفظه - انتهى.
{أربعة أشهر} ينتظر فيها رجوعهم إليهن حلماً من الله سبحانه وتعالى حيث لم يجعل الأمر بتاحين الحلف بفراق أو وفاق. قال الحرالي : ولما كان لتخلص المرأة من الزوج أجل عدة كان أجلها مع أمد هذا التربص كأنه - والله سبحانه وتعالى أعلم - هو القدر الذي تصبر المرأة عن زوجها ، يذكر أن عمر رضي الله تعالى عنه سأل النساء عن قدر ما تصبر المرأة عن الزوج ، فأخبرنه أنها تصبر ستة أشهر ، فجعل ذلك أمد البعوث فكان التربص والعدة قدر ما تصبره المرأة عن زوجها ، وقطع سبحانه وتعالى بذلك ضرار الجاهلية في الإيلاء إلى غير حد - انتهى وفيه تصرف. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 426}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى : {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ}(6/208)
استئناف ابتدائي للانتقال إلى تشريع في عمل كان يغلب على الرجال أن يعملوه في الجاهلية ، والإسلام.
كان من أشهر الأيمان الحائلة بين البر والتقوى والإصلاح ، أيمان الرجال على مهاجرة نسائهم ، فإنها تجمع الثلاثة ؛ لأن حسن المعاشرة من البر بين المتعاشرين ، وقد أمر الله به في قوله : {وعاشروهن بالمعروف} [ النساء : 19 ] فامتثاله من التقوى ، ولأن دوامه من دوام الإصلاح ، ويحدث بفقده الشقاق ، وهو مناف للتقوى.
وقد كان الرجل في الجاهلية يولي من امرأته السنة والسنتين ، ولا تنحل يمينه إلاّ بعد مضي تلك المدة ، ولا كلام للمرأة في ذلك.
وعن سعيد بن المسيب : "كان الرجل في الجاهلية لا يريد المرأة ، ولا يحب أن يطلقها ، لئلا يتزوجها غيره ، فكان يحلف ألاّ يقربها مضارة للمرأة" أي ويقسم على ذلك لكيلا يعود إليها إذا حصل له شيء من الندم.
قال : "ثم كان أهل الإسلام يفعلون ذلك ، فأزال الله ذلك ، وأمهل للزوج مدة حتى يتروى" فكان هذا الحكم من أهم المقاصد في أحكام الأيمان ، التي مهد لها بقوله : {ولا تجعلوا الله عرضة} [ البقرة : 224 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 384}
سبب نزول الآية
قال ابن عباس : كان أهل الجاهلية إذا طلب الرجل من امرأته شيئاً ، فأبت أن تعطيه ؛ حلف أن لا يقربها السنة ، والسنتين ، والثلاث ، فيدعها لا أيّماً ، ولا ذات بعل ، فلما كان الإسلام ، جعل الله ذلك أربعة أشهر ، فأنزل الله هذه الآية. وقال سعيد بن المسيب : كان الإيلاء ضرار أهل الجاهلية ، وكان الرجل لا يريد المرأة ، ولا يحب أن يتزوجها غيره ، فيحلف أن لا يقربها أبداً ، فجعل الله تعالى الأجل الذي يعلم به ما عند الرجل في المرأة أربعة أشهر ، وأنزل هذه الآية. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 256}
قال الفخر :
قرأ عبد الله {آلوا مِن نّسَائِهِمْ} وقرأ ابن عباس رضي الله عنهما {يَقْسِمُونَ مِن نّسَائِهِمْ}.(6/209)
أما قوله : {مِن نّسَائِهِمْ} ففيه سؤال ، وهو أنه يقال : المتعارف أن يقال : حلف فلان على كذا أو آلى على كذا ، فلم أبدلت لفظة على ههنا بلفظة {مِنْ} ؟ .
والجواب من وجهين : الأول : أن يراد لهم من نسائهم تربص أربعة أشهر ، كما يقال : لي منك كذا والثاني : أنه ضمن في هذا القسم معنى البعد ، فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم مولين أو مقسمين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 69}
فوائد لغوية
قال ابن عاشور :
الإيلاء : الحلف ، وظاهر كلام أهل اللغة أنه الحلف مطلقاً يقال آلى يولي إيلاء ، وتألى يتألى تألياً ، وائتلى يأتلي ائتلاء ، والاسم الألوَّة والألية ، كلاهما بالتشديد ، وهو واوي فالألوة فعولة والألية فعيلة.
وقال الراغب : "الإيلاء حلف يقتضي التقصير في المحلوف عليه مشتق من الألو وهو التقصير قال تعالى : {لا يألونكم خبالاً} [ آل عمران : 118 ] {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة} [ النور : 22 ] وصار في الشرع الحلف المخصوص" فيؤخذ من كلام الراغب أن الإيلاء حلف على الامتناع والترك ؛ لأن التقصير لا يتحقق بغير معنى الترك ؛ وهو الذي يشهد به أصل الاشتقاق من الألو ، وتشهد به موارد الاستعمال ، لأنا نجدهم لا يذكرون حرف النفي بعد فعل آلى ونحوه كثيراً ، ويذكرونه كثيراً ، قال المتلمس :
آلَيْتُ حبَّ العِرَاققِ الدَّهْرَ أَطْعَمُه...
وقال تعالى : {ولا يأتل أولوا الفضل منكم والسعة أن يؤتوا} [ النور : 22 ] أي على أن يؤتوا وقال تعالى هنا : {للذين يؤلون من نسائهم} فَعدَّاه بمِنْ ، ولا حاجة إلى دعوى الحذف والتضمين.
وأيَّاً مَّا كان فالإيلاء بعد نزول هذه الآية ، صار حقيقة شرعية في هذا الحَلِف على الوصف المخصوص.
ومجيء اللام في {للذين يؤلون} لبيان أن التربص جعل توسعة عليهم ، فاللام للأَجْل مثل هَذا لَكَ ويعلم منه معنى التخيير فيه ، أي ليس التربص بواجب ، فللمولى أَن يفىء في أقل من الأشهر الأربعة.(6/210)
وعدى فعل الإيلاء بمِن ، مع أن حقه أن يعدَّى بعلى ؛ لأنه ضمن هنا معنى البُعد ، فعدي بالحرف المناسب لفعل البُعد ، كأنه قال : للذين يؤلون متباعدين من نسائهم ، فمِنْ للابتداء المجازي.
والنساء : الزوجات كما تقدم في قوله : {فاعتزلوا النساء في المحيض} [ البقرة : 222 ] وتعليق الإيلاء باسم النساء من باب إضافة التحليل والتحريم ونحوهما إلى الأعيان ، مثل {حرمت عليكم أمهاتكم} [ النساء : 23 ] وقد تقدم في قوله تعالى : {إنما حرم عليكم الميتة} [ البقرة : 173 ].
والتربص : انتظار حصول شيء لغير المنتظِر ، وسيأتي الكلام عليه عند قوله تعالى : {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [ البقرة : 228 ] ، وإضافة تربص إلى أربعة أشهر إضافة على معنى "في" كقوله تعالى : {بل مكر الليل} [ سبأ : 33 ].
وتقديم {للذين يؤلون} على المبتدأ المسند إليه ، وهو تربص ، للاهتمام بهذه التوسعة التي وسع الله على الأزواج ، وتشويق لذِكْر المسند إليه.
و {فاءوا} رجعوا أي رجعوا إلى قربان النساء ، وحذف متعلق {فاءوا} بالظهور المقصود.
والفَيْئة تكون بالتكفير عن اليمين المذكورة في سورة العقود. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 385}
قوله تعالى : {مِن نِّسَآئِهِمْ}
قال الثعالبى :
وقوله تعالى : {مِن نِّسَآئِهِمْ} يدخل فيه الحرائرُ والإِماء ، إِذا تزوَّجن ، والتربُّص : التأنِّي والتأخُّر ، وأربعَةَ أشْهُرٍ ؛ عند مالك ، وغيره : للحر ، وشهران : للعبد.
وقال الشافعيُّ : هو كالحرِّ. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 175}
فائدة
قال الآلوسى : (6/211)
وعدى القسم على الماجمعة بـ {مِنْ} لتضمنه معنى البعد ، فكأنه قيل : يبعدون من نسائهم مولين ، وقيل : إن هذا الفعل يتعدى بـ ( من ) وعلى ، ونقل أبو البقاء عن بعضهم من أهل اللغة تعديته بـ ( من ) وقيل : بها بمعنى على ، وقيل : بمعنى في ، وقيل : زائدة ، وجوّز جعل الجار ظرفاً مستقراً ، أي استقرّ لهم من نسائهم. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 129}
قوله تعالى : {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} فاعلم أن التربص التلبث والانتظار يقال : تربصت الشيء تربصاً ، ويقال : ما لي على هذا الأمر ربصة ، أي تلبث ، وإضافة التربص إلى أربعة أشهر إضافة المصدر إلى الظرف كقوله : بينهما مسيرة يوم ، أي مسيرة في يوم ومثله كثير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 70}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} التربص : التأنِّي والتأخُّر ؛ مقلوب التصبر ؛ قال الشاعر :
تَرَبَّصْ بها رَيْبَ المُنونِ لعلّها... تطَلَّق يوماً أو يموتُ حَلِيلُها
وأما فائدة توقيت الأربعة الأشهر فيما ذكر ابن عباس عن أهل الجاهلية كما تقدّم ، فمنع الله من ذلك وجعل للزوج مدّة أربعة أشهر في تأديب المرأة بالهجر ؛ لقوله تعالى : {واهجروهن فِي المضاجع} [ النساء : 34 ]. وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من أزواجه شهراً تأديباً لهنّ. وقد قيل : الأربعة الأشهر هي التي لا تستطيع ذات الزوج أن تصبر عنه أكثر منها ؛ وقد روى أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يطوف ليلة بالمدينة فسمع امرأة تنشِد :
ألا طال هذا اللّيْلُ واسود جانبُه... وأرّقَنِي أن لا حَبِيبَ ألاَعِبُهْ
فواللّهِ لولا اللَّهُ لا شيءَ غيره... لزُعْزِعَ من هذا السّريرِ جوانِبُهْ
مخافةَ ربّي والحَيَاءُ يكفّني... وإكرامَ بَعْلِي أن تُنال مراكِبُهْ
فلما كان من الغد استدعى عمر بتلك المرأة وقال لها : أين زوجك ؟ فقالت : بعثتَ به إلى العراق! فاستدعى نساء فسألهنّ عن المرأة كم مقدار ما تصبِر عن زوجها ؟ فقلن : شهرين ، ويَقلّ صبرها في ثلاثة أشهر ، وينفَدُ صبرُها في أربعة أشهر ، فجعل عمر مدّة غزوِ الرجل أربعة أشهر ؛ فإذا مضت أربعةُ أشهر استرد الغازين ووجه بقوم آخرين ؛ وهذا والله أعلم يقوِّي اختصاص مدّة الإيلاء بأربعة أشهر. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 108}(6/212)
لطيفة
قال الفيروزابادى :
( بصيرة فى التربص )
يقال : تربّص به تربُّصاً أَى انتظر به خيراً أَو شرّاً يحُلّ به.
وقد ورد فى القرآن لثمانية أُمور :
الأَوّل : تربّص الإِيلاءِ {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} :
الثانى : تربّص المطلَّقة ثلاثة أَشهر أَو ثلاثة أَطْهار.
الثالث : تربّص المعتدّة {والمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}.
الرّابع تربّص المنافقين للمؤمنين بالغنيمة أَو الشَّهادة {هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ}.
الخامس : تربّص كفَّارة مكَّة فى حقِّ سيّدِ المرسلين لحادثة أَو نكبة {أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ}.
السّادس : تربّص المؤمنين للمنافقين بالنكال والفضيحة {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ}.
السّابع : تربّص سيّد المرسلين لهلاك أَعداءِ الدّين {قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ الْمُتَرَبِّصِينَ}.
الثامن : تربّص العموم والخصوص للقضاءِ والقَدَر {قُلْ كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُواْ}.
ويقرب من معنى التربّص الترقُّب والترصّد والتَّنظُّر والتطلُّع. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 3 صـ 44}
فائدة
قال ابن المنذر : أجمع كلُّ من يُحفظ عنه من أهل العلم على أن الفيء الجماع لمن لا عذر له ؛ فإن كان له عذر مرض أو سجن أو شبه ذلك فإن ارتجاعه صحيح وهي امرأته ؛ فإذا زال العذر بقدومه من سفره أو إفاقته من مرضه ، أو انطلاقه من سجنه فأبى الوطء فُرّق بينهما إن كانت المدّة قد انقضت ؛ قاله مالك في المدونة والمبسوط. وقال عبد الملك : وتكون بائنا منه يوم انقضت المدّة ، فإن صدق عذره بالفيئة إذا أمكنته حكم بصدقه فيما مضى ؛ فإن أكذب ما ادعاه من الفيئة بالامتناع حين القدرة عليها ، حمل أمره على الكذب فيها واللّدَدِ ، وأُمْضيت الأحكامُ على ما كانت تجب في ذلك الوقت.(6/213)
وقالت طائفة : إذا شهدت بيِّنة بفيْئته في حال العذر أجزأه ؛ قاله الحسن وعكرمة والنخعيّ ، وبه قال الأُوزاعيّ. وقال النخعيّ أيضاً : يصح الفيء بالقول والإشهاد فقط ، ويسقط حكم الإيلاء ؛ أرأيتَ إن لم ينتشر للوطء ؛ قال ابن عطية : ويرجع هذا القول إن لم يطأ إلى باب الضرر. وقال أحمد بن حنبل : إذا كان له عذر يَفِيءُ بقلبه ؛ وبه قال أبو قِلابة. وقال أبو حنيفة : إن لم يقدر على الجماع فيقول : قد فئت إليها. قال الكِيا الطبريّ : أبو حنيفة يقول فيمن آلَى وهو مريض وبينه وبينها مدّة أربعة أشهر ، وهي رتقاء أو صغيرة أو هو مجبوب : إنه إذا فَاءَ إليها بلسانه ومضت المدّة والعذرُ قائمٌ فذلك فَيْءٌ صحيح ؛ والشافعيّ يخالفه على أحد مذهبيه. وقالت طائفة : لا يكون الفيء إلا بالجماع في حال العذر وغيره ؛ وكذلك قال سعيد بن جبير ، قال : وكذلك إن كان في سفر أو سجن. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 109}
قوله تعالى {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان حالهم بعد ذلك مردداً بين تعالى قسميه فقال مفصلاً له {فإن فاؤا} أي رجعوا في الأشهر ، وأعقبها عن المفاصلة إلى المواصلة ، من الفيء وهو الرجوع إلى ما كان منه الانبعاث {فإن الله} يغفر لهم ما قارفوه في ذلك من إثم ويرحمهم بإنجاح مقاصدهم لأنه {غفور رحيم} له هاتان الصفتان ينظر بهما إلى من يستحقهما فيغفر ما في ذلك من جناية منهما أو من أحدهما إن شاء ويعامل بعد ذلك بالإكرام. قال الحرالي : وفي مورد هذا الخطاب بإسناده للأزواج ما يظافر معنى إجراء أمور النكاح على سترة وإعراض عن حكم الحكام من حيث جعل التربص له والفيء منه ، فكأن الحكم من الحاكم إنما يقع على من هتك حرمة ستر أحكام الأزواج التي يجب أن تجري بين الزوجين من وراء ستر كما هو سر النكاح الذي هو سبب جمعهما ليكون حكم السر سراً وحكم الجهر جهراً - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 426}(6/214)
قال الفخر :
أما قوله : {فَإِن فَآءوا} فمعناه فإن رجعوا ، والفيء في اللغة هو رجوع الشيء إلى ما كان عليه من قبل ، ولهذا قيل لما تنسخه الشمس من الظل ثم يعود : فيء ، وفرق أهل العربية بين الفيء والظل ، فقالوا : الفيء ما كان بالعشي ، لأنه الذي نسخته الشمس والظل ما كان بالغداة لأنه لم تنسخه الشمس وفي الجنة ظل وليس فيها فيء ، لأنه لا شمس فيها ، قال الله تعالى : {وَظِلّ مَّمْدُودٍ} [ الواقعة : 30 ] وأنشدوا :
فلا الظل من برد الضحى يستطيعه.. ولا الفيء من برد العشي يذوق
وقيل : فلان سريع الفيء والفيئة حكاهما الفراء عن العرب ، أي سريع الرجوع عن الغضب إلى الحالة المتقدمة وقيل : لما رده الله على المسلمين من مال المشركين فيء كأنه كان لهم فرجع إليهم فقوله : {فَإِن فَآءوا} معناه فإن فرجعوا عما حلفوا عليه من ترك جماعها {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} للزوج إذا تاب من إضراره بامرأته كما أنه غفور رحيم لكل التائبين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 70}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {فإن الله غفور رحيم} دليل الجواب ، أي فحنثهم في يمين الإيلاء مغفور لهم ؛ لأن الله غفور رحيم.
وفيه إيذان بأن الإيلاء حرام ، لأن شأن إيلائهم الوارد فيه القرآن ، قصدُ الإضرار بالمرأة.
وقد يكون الإيلاء مباحاً إذا لم يقصد به الإضرار ولم تطل مدته كالذي يكون لقصد التأديب ، أو لقصد آخر معتبر شرعاً ، غير قصد الإضرار المذموم شرعاً.
وقد آلى النبي صلى الله عليه وسلم من نسائه شَهْراً ، قيل : لمرض كان برجله ، وقيل : لأجل تأديبهن ؛ لأنهن قد لقين من سعة حلمه ورفقه ما حدا ببعضهن إلى الإفراط في الإدلال ، وحمَل البقية على الاقتداء بالأخريات ، أو على استحسان ذلك.
والله ورسوله أعلم ببواطن الأمور.(6/215)
وأما جواز الإيلاء للمصلحة كالخوف على الولد من الغَيْل ، وكالحُمْية من بعض الأمراض في الرجل والمَرأة ، فإباحته حاصلة من أدلة المصلحة ونفي المضرة ، وإنما يحصل ذلك بالحلف عند بعض الناس ، لما فيهم من ضعف العزم واتهام أنفسهم بالفلتة في الأمرِ ، إن لم يقيدوها بالحلف. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 386}
فائدة
قوله تعالى : {فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}.
قيل لابن عرفة : هذا دليل على أن الإيلاء غير جائز ؟
فقال : المذهب أنّه جائز على تفصيل ، والصّحيح جوازه مطلقا ، لأنّ النبي صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه. وقد ذكر الشيخ ابن العربي قضيته لما رد على ابن الخطيب في قوله : إن النبي صلى الله عليه وسلم آلى وطلّق وظاهرَ. فقال : له قولك آلى وطلق صحيح وقولك ظَاهَرَ ( غير صحيح ) كيف والله تعالى يقول {وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً} قال ابن عرفة : والجواب بأن تكون المغفرة والرحمة راجعين بسبب الإيلاء لأن الإيلاء لا يكون إلاّ عن غضب وشرور وذلك غير جائز فحسن تعقيبه بالمغفرة. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 292}
قال العلامة ابن كثير فى معنى الآية : (6/216)
الإيلاء : الحلف ، فإذا حلف الرجل ألا يجامع زوجته مدة ، فلا يخلو : إما أن يكون أقل من أربعة أشهر ، أو أكثر منها ، فإن كانت أقل ، فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته ، وعليها أن تصبر ، وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة ، وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة : أن رسول الله آلى من نسائه شهرًا ، فنزل لتسع وعشرين ، وقال : "الشهر تسع وعشرون" ولهما عن عمر بن الخطاب نحوه. فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر ، فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر : إما أن يفيء -أي : يجامع -وإما أن يطلق ، فيجبره الحاكم على هذا أو هذا لئلا يضر بها. ولهذا قال تعالى : {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ} أي : يحلفون على ترك الجماع من نسائهم ، فيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور. {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} أي : ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف ، ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق. ولهذا قال : {فَإِنْ فَاءُوا} أي : رجعوا إلى ما كانوا عليه ، وهو كناية عن الجماع ، قاله ابن عباس ، ومسروق والشعبي ، وسعيد بن جبير ، وغير واحد ، ومنهم ابن جرير رحمه الله {فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} أي : لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين.
وقوله : {فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} فيه دلالة لأحد قولي العلماء -وهو القديم عن الشافعي : أن المولي إذا فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا كفارة عليه. ويعتضد بما تقدم في الآية التي قبلها ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "من حلف على يمين فرأى غيرها خيرًا منها فتركها كفارتها" كما رواه أحمد وأبو داود والذي عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي أن عليه الكفارة لعموم وجوب التكفير على كل حالف ، كما تقدم أيضا في الأحاديث الصحاح. والله أعلم. أ هـ {تفسيرابن كثير حـ 1 صـ 604}
فائدة
قال السعدى :
(6/217)
ويستدل بهذه الآية على أن الإيلاء ، خاص بالزوجة ، لقوله : {من نسائهم} وعلى وجوب الوطء في كل أربعة أشهر مرة ، لأنه بعد الأربعة ، يجبر إما على الوطء ، أو على الطلاق ، ولا يكون ذلك إلا لتركه واجبا. أ هـ {تفسير السعدى صـ 101}
قوله تعالى {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان الحال في مدة الإيلاء شبيهاً بحال الطلاق وليس به قال مبيناً أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة الأشهر بل إما أن يفيء أو يطلق فإن أبى طلق عليه الحاكم : {وإن عزموا الطلاق} فأوقع عليه العزم من غير حرف جر بمعنى أنهم تركوا ما كانوا فيه من الذبذبة وجعلوا الطلاق عزيمة واقعاً من غير مجمجة ولا ستر ، والعزم الإجماع على إنفاذ الفعل ، والطلاق هو في المعنى بمنزلة إطلاق الشيء من اليد الذي يمكن أخذه بعد إطلاقه - قاله الحرالي.
ولما كان المطلق ربما ندم فحمله العشق على إنكار الطلاق رهبه بقوله : {فإن الله} أي الملك الذي له الجلال والإكرام {سميع} أي لعبارتهم عنه. قال الحرالي : في إشارته إعلام بأن الطلاق لا بد له من ظاهر لفظ يقع مسموعاً - انتهى.
{عليم} أي به وبنيتهم فيه.
قال الحرالي : وفيه تهديد بما يقع في الأنفس والبواطن من المضارة والمضاجرة بين الأزواج في أمور لا تأخذها الأحكام ولا يمكن أن يصل إلى علمها الحكام فجعلهم أمناء على أنفسهم فيما بطن وظهر ، ولذلك رأى العلماء أن الطلاق أمانة في أيدي الرجال كما أن العدد والاستبراء أمانة في أيدي النساء ، فلذلك انتظمت آية تربص المرأة في عدتها بآية تربص الزوج في إيلائه - انتهى. وبقي من أحكام الإيلاء قسم ثالث ترك التصريح به إشارة إلى أنهم ينبغي أن يكونوا في غاية النزاهة عنه وهو الإصرار على الإضرار ، وأشار بصفتي المغفرة والرحمة لفاعل ضده إلى أن مرتكبه يعامل بضدهما مما حكمه معروف في الفقه والله الموفق. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 427}(6/218)
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فاعلم أن العزم عقد القلب على الشيء يقال عزم على الشيء يعزم عزماً وعزيمة ، وعزمت عليك لتفعلن ، أي أقسمت ، والطلاق مصدر طلقت المرأة أطلق طلاقاً ، وقال الليث : طلقت بضم اللام ، وقال ابن الأعرابي : طلقت بضم اللام من الطلاق أجود ، ومعنى الطلاق هو حل عقد النكاح بما يكون حلالاً في الشرع ، وأصله من الإنطلاق ، وهو الذهاب ، فالطلاق عبارة عن انطلاق المرأة ، فهذا ما يتعلق بتفسير لفظ الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 70}
وقال ابن عاشور :
وعَزم الطلاق : التصميم عليه ، واستقرار الرأي فيه بعد التأمل وهو شيء لا يحصل لكل مُولٍ من تلقاء نفسه ، وخاصة إذا كان غالب القصد من الإيلاء المغاضبة والمضارة ، فقوله : {وإن عزموا الطلاق} دليل على شرط محذوف ، دل عليه قوله : {فإن فاءو} فالتقدير : وإن لم يفيئوا فقد وجب عليهم الطلاق ، فهم بخير النظرين بين أن يفيئوا أو يطلقوا فإن عزموا الطلاق فقد وقع طلاقهم.
وقوله {فإن الله سميع عليم} دليل الجواب ، أي فقد لزمهم وأمضى طلاقهم ، فقد حد الله للرجال في الإيلاء أجلاً محدوداً ، لا يتجاوزونه ، فإما أن يعودوا إلى مضاجعة أزواجهم ، وإما أن يطلقوا ، ولا مندوحة لهم غير هذين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 386}
فائدة
قوله تعالى : {وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق فَإِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ}.
قال ابن عرفة : جواب الشرط مقدر ، أي ارتفع حكم الإيلاء ( عنهم ).
قال الزمخشري : فإن قلت : العزم من أعمال القلب فيكف عقبه بالسّمع وهو من لوازم الأقوال لا الأفعال.
قال ابن عرفة : وهذا ( السؤال ) لا يوافق أصله فإنه يرد صفة السمع لصفة العلم فلا فرق عنده بين السميع والعليم وأيضا فهو ينفي الكلام النفسي.
وأجاب الزمخشري : بأنّ العازم على الطلاق لا يخلو من مقاولة ودمدمة.(6/219)
وأجاب ابن عرفة : بأنا ( نثبت ) الكلام النفسي ، ويصح عندنا سماعه كما سمع موسى كلام الله القديم الأزلي ، وليس بصوت ولا حرف ، أو يقال : إنّ العزم على الطلاق له اعتباران :
اعتبار في نفس الأمر عند الله تعالى ، واعتبار في الظاهر لنا بالحكم الشرعي من حيث يرتفع له حكم الإيلاء عن صاحبه ، ويخرج عن عهدة الحكم عليه ، فهو بهذا الاعتبار لا يعلم إلا بأمارة وقول يدل عليه ، وذلك القول مسموع فعلق به السمع بهذا الاعتبار والعلم باعتبار الأول. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 293}
فائدة
قال الإمام الجصاص :
وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ بِالْوَقْفِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} أَنَّهُ لَمَّا قَالَ " سَمِيعٌ عَلِيمٌ " دَلَّ عَلَى أَنَّ هُنَاكَ قَوْلًا مَسْمُوعًا وَهُوَ الطَّلَاقُ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا جَهْلٌ مِنْ قَائِلِهِ ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ السَّمِيعَ لَا يَقْتَضِي مَسْمُوعًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَزَلْ سَمِيعًا وَلَا مَسْمُوعَ.
وَأَيْضًا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} وَلَيْسَ هُنَاكَ قَوْلٌ ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {لَا تَتَمَنَّوْا لِقَاءَ الْعَدُوِّ ، فَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فَاثْبُتُوا وَعَلَيْكُمْ بِالصَّمْتِ} وَأَيْضًا جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ رَاجِعًا إلَى أَوَّلِ الْكَلَامِ ، وَهُوَ قَوْله تَعَالَى {لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ} فَأَخْبَرَ أَنَّهُ سَامِعٌ لِمَا تَكَلَّمَ بِهِ عَلِيمٌ بِمَا أَضْمَرَهُ وَعَزَمَ عَلَيْهِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 53}
فوائد ولطائف
قال العلامة أبو حيان ـ رحمه الله ـ :
وفي قوله في هذا التقسيم : {فإن فاؤا} و{إن عزموا الطلاق} دليل على أن الفرقة التي تقع في الإيلاء لا تقع بمضي الأربعة الأشهر من غير قول ، بل لا بد من القول لقوله : عزموا الطلاق ، لأن العزم على فعل الشيء ليس فعلاً للشيء ، ويؤكده : {فإن الله سميع عليم} إذ لا يسمع إلاَّ الأقوال ، وجاءت هاتان الصفتان باعتبار الشرط وجوابه ، إذ قدرناه : فليوقعوه ، أي الطلاق ، فجاء : سميع ، باعتبار إيقاع الطلاق ، لأنه من باب المسموعات ، وهو جواب الشرط ، وجاء : عليم ، باعتبار العزم على الطلاق ، لأنه من باب النيات ، وهو الشرط ، ولا تدرك النيات إلاَّ بالعلم.
وتأخر هذا الوصف لمؤاخاة رؤوس الآي ، ولأن العلم أعم من السمع ، فمتعلقه أعم ، ومتعلق السمع أخص ، وأبعد من قال : فإن الله سميع لإيلائه ، لبعد انتظامه مع الشرط قبله. وقال الزمخشري : فإن قلت ما تقول في قوله : فإن الله سميع عليم ؟ وعزمهم الطلاق مما لا يعلم ولا يسمع ؟ قلت : الغالب أن العازم للطلاق ، وترك الفيئة والفرار لا يخلو من مقارنة ودمدمة ، ولا بد من أن يحدث نفسه ويناجيها بذلك ، وذلك حديث لا يسمعه إلاَّ الله ، كما يسمع وسوسة الشيطان.
انتهى كلامه.(6/220)
وقد قدّمنا أن صفة السمع جاءت هنا لأن المعنى : وإن عزموا الطلاق أوقعوه ، أي : الطلاق ، والإيقاع لا يكون إلاَّ باللفظ ، فهو من باب المسموعات ، والصفة تتعلق بالجواب لا بالشرط ، فلا تحتاج إلى تأويل الزمخشري. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 194}
موعظة
على العبد أن يعلم أن الله لا يضيع حق أحد من عباده لا على نفسه ولا على غيره فلما تقاصر لسان الزوجة لكونها أسيرة فى يد الزوج فالله تعالى تولى الأمر بمراعاة حقها فأمر الزوج بالرجوع إليها أو تسريحها فإذا كان حق صحبة الأشكال محفوظا عليك حتى لو أخللت به أخذك بحكمه فحق الحق أحق بأن يجب مراعاته. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 435}. بتصرف يسير.
فصل فى بعض الأحكام المتعلقة بالإيلاء
قال الفخر :
المسألة الأولى : كل زوج يتصور منه الوقاع ، وكان تصرفه معتبراً في الشرع ، فإنه يصح منه الإيلاء ، وهذا القيد معتبر طرداً وعكساً.
أما الطرد فهو أن كل من كان كذلك صح إيلاؤه ، ويتفرع عليه أحكام الأول : يصح إيلاء الذمي ، وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه ، وقال أبو يوسف ومحمد : لا يصح إيلاؤه بالله تعالى ويصح بالطلاق والعتاق لنا قوله تعالى : {لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} وهذا العموم يتناول الكافر والمسلم.(6/221)
الحكم الثاني : قال الشافعي رضي الله عنه : مدة الإيلاء لا تختلف بالرق والحرية فهي أربعة أشهر سواء كان الزوجان حرين أو رقيقين ، أو أحدهما كان حراً والآخر رقيقاً ، وعند أبي حنيفة ومالك رضي الله عنهما تتنصف بالرق ، إلا أن عند أبي حنيفة تتنصف برق المرأة ، وعند مالك برق الرجل ، كما قالا في الطلاق لنا إن ظاهر قوله تعالى : {لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ} يتناول الكل ، والتخصيص خلاف الظاهر ، لأن تقدير هذه المدة إنما كان لأجل معنى يرجع إلى الجبلة والطبع ، وهو قلة الصبر على مفارقة الزوج ، فيستوي فيه الحر والرقيق ، كالحيض ، ومدة الرضاع ومدة العنة.
الحكم الثالث : يصح الإيلاء في حال الرضا والغضب ، وقال مالك : لا يصح إلا في حال الغضب لنا ظاهر هذه الآية.
الحكم الرابع : يصح الإيلاء من المرأة سواء كانت في صلب النكاح ، أو كانت مطلقة طلقة رجعية ، بدليل أن الرجعية يصدق عليها أنها من نسائه ، بدليل أنه لو قال : نسائي طوالق ، وقع الطلاق عليها ، وإذا ثبت أنها من نسائه دخلت تحت الآية لظاهر قوله : {لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ}.
أما عكس هذه القضية.
وهو أن من لا يتصور منه الوقاع لا يصح إيلاؤه ، ففيه حكمان :
الحكم الأول : إيلاء الخصي صحيح ، لأنه يجامع كما يجامع الفحل ، إنما المفقود في حقه الإنزال وذلك لا أثر له : ولأنه داخل تحت عموم الآية.
الحكم الثاني : المجبوب إن بقي منه ما يمكنه أن يجامع به صح إيلاؤه وإن لم يبق ففيه قولان أحدهما : أنه لا يصح إيلاؤه وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه والثاني : أنه يصح لعموم هذه الآية ، لأن قصد المضارة باليمين قد حصل منه.
(6/222)
القيد الثاني : أن يكون زوجاً ، فلو قال لأجنبية : والله لا أجامعك ثم نكحها لم يكن مؤلياً لأن قوله تعالى : {لّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نّسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} يفيد أن هذا الحكم لهم لا لغيرهم ، كقوله : {لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِىَ دِينِ} [ الكافرون : 6 ] أي لكم لا لغيركم.
المسألة الثانية : المحلوف به والحلف إما أن يكون بالله أو بغيره ، فإن كان بالله كان مولياً ثم إن جامعها في مدة الإيلاء خرج عن الإيلاء ، وهل تجب كفارة اليمين فيه قولان : الجديد وهو الأصح ، وقول أبي حنيفة رضي الله عنه أنه تجب كفارة اليمين ، والقديم أنه إذا فاء بعد مضي المدة أو في خلال المدة فلا كفارة عليه ، حجة القول : والله لا أقربك ثم يقربها ، وبين أن يقول : والله لا أكلمك ثم يكلمها وحجة القول القديم قوله تعالى : {فَإِن فَآءوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والاستدلال به من وجهين أحدهما : أن الكفارة لو كانت واجبة لذكرها الله ههنا ، لأن الحاجة ههنا داعية إلى معرفتها ، وتأخير البيان عن وقت الحاجة لا يجوز والثاني : أنه تعالى كما لم يذكر وجوب الكفارة نبه على سقوطها بقوله : {فَإِن فَآءوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} والغفران يوجب ترك المؤاخذة وللأولين أن يجيبوا فيقولوا : إنما ترك الكفارة ههنا لأنه تعالى بينها في القرآن وعلى لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سائر المواضع.
(6/223)
أما قوله : {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فهو يدل على عدم العقاب ، لكن عدم العقاب لا ينافي وجوب الفعل ، كما أن التائب عن الزنا والقتل لا عقاب عليه ، ومع ذلك يجب عليه الحد والقصاص ، وأما إن كان الحلف في الإيلاء بغير الله كما إذا قال : إن وطئتك فعبدي حر ، أو أنت طالق ، أو ضرتك طالق ، أو ألزم أمراً في الذمة ، فقال : إن وطئتك فلله علي عتق رقبة ، أو صدقة ، أو صوم ، أو حج ، أو صلاة ، فهل يكون مولياً للشافعي رضي الله عنه فيه قولان : قال في القديم : لا يكون مولياً ، وبه قال أحمد في ظاهر الرواية دليله أن الإيلاء معهود في الجاهلية ، ثم قد ثبت أن معهود الجاهلية في هذا الباب هو الحلف بالله ، وأيضاً روي أنه صلى الله عليه وسلم قال : من حلف فليحلف بالله ، فمطلق الحلف يفهم منه الحلف بالله ، وقال في الجديد ، وهو قول أبي حنيفة ومالك وجماعة العلماء رحمهم الله أنه يكون مولياً لأن لفظ الإيلاء يتناول الكل ، وعلق القولين فيمينه منعقدة فإن كان قد علق به عتقاً أو طلاقاً ، فإذا وطئها يقع ذلك المتعلق ، وإن كان المعلق به التزام قربة في الذمة فعليه ما في نذر اللجاج ، وفيه أقوال أصحها : أن عليه كفارة اليمين والثاني : عليه الوفاء بما سمى ، والثالث : أنه يتخير بين كفارة اليمين وبين الوفاء بما سمى ، وفائدة هذين القولين أنا إن قلنا إنه يكون مولياً فبعد مضي أربعة أشهر يضيق الأمر عليه حتى يفيء أو يطلق وإن قلنا : لا يكون مولياً لا يضيق عليه الأمر.
(6/224)
المسألة الثالثة : اختلفوا في مقدار مدة الإيلاء على أقوال فالأول : قول ابن عباس أنه لا يكون مولياً حتى يحلف على أن لا يطأها أبداً والثاني : قول الحسن البصري وإسحق : إن أي مدة حلف عليها كان مولياً وإن كانت يوماً ، وهذان المذهبان في غاية التباعد والثالث : قول أبي حنيفة والثوري أنه لا يكون مولياً حتى يحلف على أنه لا يطأها أربعة أشهر أو فيما زاد والرابع : قول الشافعي وأحمد ومالك رضي الله عنهم : إنه لا يكون موالياً حتى تزيد المدة على أربعة أشهر وفائدة الخلاف بين أبي حنيفة والشافعي رضي الله عنهما أنه إذا آلى منها أكثر من أربعة أشهر أجل أربعة ، وهذه المدة تكون حقاً للزوج ، فإذا مضت تطالب المرأة الزوج بالفيئة أو بالطلاق ، فإن امتنع الزوج منهما طلقها الحاكم عليه ، وعن أبي حنيفة : إذا مضت أربعة أشهر يقع الطلاق بنفسه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 72}
( فروع ) تتعلق بحكم الآية :
( الفرع الأول ) : إذا حلف أنه لا يقرب زوجته أبداً أو مدة هي أكثر من أربعة أشهر فهو مول ، فإذا مضت أربعة أشهر ، يوقف الزوج ، ويؤمر بالفيء وهو الرجوع أو الطلاق ، وذلك بعد مطالبة الزوجة فإن رجع عما قال بالوطء إن قدر عليه أو بالقول مع العجز عنه ، فإن لم يفيء ولم يطلق طلق عليه الحاكم واحدة ، وهو قول عمر وعثمان وأبي الدرداء وابن عمر ، قال سليمان بن يسار : أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يقول : يوقف المولي. وذهب إليه سعيد بن جبير وسليمان بن يسار ومجاهد. وبه قال مالك والشافعي وأحمد وإسحاق ، وقال ابن عباس وابن مسعود : إذا مضت مدة أربعة أشهر يقع عليها طلقة بائنة. وبه قال سفيان الثوري وأبو حنيفة وقال سعيد بن المسيب والزهري : يقع عليها طلقة رجعية.
( الفرع الثاني ) : لو حلف أن لا يطأها أقل من أربعة أشهر ، فليس بمول بل هو حالف فإن وطئها قبل مضي المدة لزمه كفارة يمين.(6/225)
( الفرع الثالث ) : لو حلف أن لا يطأها أربعة أشهر ، فليس بمول بعد مضي المدة عند الشافعي لأن بقاء المدة شرط للوقوف ، وثبوت المطالبة بالفيء أو الطلاق ، وقد مضت المدة ، وعند أبي حنيفة يكون مولياً ويقع الطلاق بمضي المدة.
( الفرع الرابع ) : مدة الإيلاء أربعة أشهر في حق الحر والعبد ، جميعاً عند الشافعي لأنها مدة ضربت لمعنى يرجع إلى الطبع وهو قلة صبر المرأة عن الزوج فيستوي فيه الحر والعبد كمدة العنة وعن مالك وأبي حنيفة تتنصف مدة الإيلاء بالرق غير أن عند أبي حنيفة تنتصف مدة الإيلاء برق المرأة ، وعند مالك برق الزوج كما في الطلاق.
( الفرع الخامس ) : إذا وطئ خرج من الإيلاء ويجب عليه كفارة يمين ، وهذا قول أكثر العلماء وقيل : لا كفارة عليه لأن الله تعالى وعده المغفرة فقال : {فإن فاؤوا فإن الله غفور رحيم} ومن قال : بوجوب الكفارة عليه ، قال : ذلك في إسقاط العقوبة عنه لا في الكفارة. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 152}(6/226)
قوله تعالى : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ختم آيتي الإيلاء بالطلاق بين عدته فقال : - وقال الحرالي : لما ذكر تربص الزوج - سبحانه وتعالى في أمر الطلاق الذي هو أمانته ذكر تربص المرأة في أمر العدة التي هي أمانتها ؛ انتهى - فقال : {والمطلقات} أي المدخول بهن بما أفهمه الإيلاء من أن الكلام فيهن غير الحوامل لأن عدتهن بالولادة وغير ذوات الأشهر لصغر أن كبر. ولما أريد التأكيد لأمرهن بالعدة سبق بعد تأكيده ببنائه على المبتدأ في صيغة الخبر الذي من شأنه أن يكون قد وجد وانقضى إيماء إلى المسارعة إلى امتثاله فقيل : {يتربصن} أي ينتظرن اعتداداً.
ولما كانت النفس داعية إلى الشهوات لا سيما أنفس النساء إلى الرجال وكان التربص عاماً في النفس بالعقد لزوج آخر وفي التعرض له باكتحال وتزين وتعريض بكلام مع البينونة وبغير ذلك خص الأول معبراً لها بالنفس هزاً إلى الاحتياط في كمال التربص والاستحياء مما يوهم الاستعجال فقال : {بأنفسهن} فلا يطمعنها في مواصلة رجل قبل انقضاء العدة.(6/227)
ولما كان القرء مشتركاً بين الطهر والحيض وكان الأقراء مشتركاً بين جمع كل منهما وكان الطهر مختصاً عند جمع من أهل اللغة بأن يجمع على قروء كان مذكراً يؤنث عدده وكانت الحيضة مؤنثة يذكر عددها دل على أن المراد الإظهار بما يخصه من الجمع وبتأنيث عدده فقال ذاكراً ظرف التربص : {ثلاثة قروء} أي جموع من الدم وسيأتي في أول سورة الحجر أن هذه المادة بأي ترتيب كان تدور على الجمع وأن المراد بالقروء الأطهار لأنها زمن جمع الدم حقيقة ، وأما زمن الحيض فإنما يسمى بذلك لأنه سبب تحقق الجمع ، والمشهور من كلام أهل اللغة أن جمع القرء بمعنى الطهر أقراء وقروء ، وأن جمعه إذا أطلق على الحيض أقراء فقط ؛ وذلك لأن المادة لما كانت للجمع كانت أيام الطهر هي المتحققة بذلك وكان جمع الكثرة أعرف في الجمع كان بالطهر أولى.
وقال الحرالي : قروء جمع قرء وهو الحد الفاصل بين الطهر والحيض الذي يقبل الإضافة إلى كل واحد منهما ، ولذلك ما تعارضت في تفسير لغته تفاسير اللغويين واختلف في معناه أقوال العلماء لخفاء معناه بما هو حد بين الحالين كالحد الفاصل بين الظل والشمس فالقروء الحدود ، وذلك حين تطلق المرأة لقبل عدتها في طهر لم تمس فيه ليطلقها على ظهور براءة من علقتهما لئلا يطلق ما لم تنطلق عنه ، فإذا انتهى الطهر وابتدأ الحيض كان ما بينهما قرءاً لأن القرء استكمال جمع الحيض حين يتعفن فما لم ينته إلى الخروج لم يتم قرءاً ، فإذا طهرت الطهر الثاني وانتهى إلى الحيض كانا قرءين ، فإذا طهرت الطهر الثالث وانتهى إلى الحيض شاهد كمال القرء كان ثلاثة أقراء ، فلذلك يعرب معناه عن حل المرأة عند رؤيتها الدم من الحيضة الثالثة لتمام عدة الأقراء الثلاثة ، فيوافق معنى من يفسر القرء بالطهر ويكون أقرب من تفسيره بالحيض فأمد الطهر ظاهراً هو أمد الاستقراء للدم باطناً فيبعد تفسيره بالحيض عما هو تحقيقه من معنى الحد بعداً ما - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 427 ـ 428}(6/228)
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى ذكر في هذا الموضع أحكاماً كثيرة للطلاق :
فالحكم الأول للطلاق وجوب العدة : اعلم أن المطلقة هي المرأة التي أوقع الطلاق عليها ، وهي إما أن تكون أجنبية أو منكوحة ، فإن كانت أجنبية فإذا أوقع الطلاق عليها فهي مطلقة بحسب اللغة ، لكنها غير مطلقة بحسب عرف الشرع ، والعدة غير واجبة عليها بالإجماع ، وأما المنكوحة فهي إما أن تكون مدخولاً بها أو لا تكون ، فإن لم تكن مدخولاً بها لم تجب العدة عليها ، قال الله تعالى : {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [ الأحزاب : 49 ] وأما إن كانت مدخولاً بها فهي إما أن تكون حائلاً أو حاملاً ، فإن كانت حاملاً فعدتها بوضع الحمل لا بالإقراء قال الله تعالى : {وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [ الطلاق : 4 ] وأما إن كانت حائلاً فأما أن يكون الحيض ممكناً في حقها أو لا يكون فإن امتنع الحيض في حقها إما للصغر المفرط ، أو للكبر المفرط كانت عدتها بالأشهر لا بالإقراء ، قال الله تعالى : {واللائى يَئِسْنَ مِنَ المحيض} [ الطلاق : 4 ] وأما إذا كان الحيض في حقها ممكناً فإما أن تكون رقيقة ، وإما أن تكون حرة ، فإن كانت رقيقة كانت عدتها بقرأين لا بثلاثة ، أما إذا كانت المرأة منكوحة ، وكانت مطلقة بعد الدخول ، وكانت حائلاً ، وكانت من ذوات الحيض وكانت حرة ، فعند اجتماع هذه الصفات كانت عدتها بالإقراء الثلاثة على ما بين الله حكمها في هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 73 ـ 74}
قال الماوردى :
(6/229)
قوله عز وجل : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ} يعني المخليات ، والطلاق : التخلية كما يقال للنعجة المهملة بغير راع : طالق ، فسميت المرأة المَخْلي سبيلها بما سميت به النعجة المهمل أمرها ، وقيل إنه مأخوذ من طلق الفرس ، وهو ذهابه شوطاً لا يمنع ، فسميت المرأة المُخْلاَةُ طالقاً لأنها لا تمنع من نفسها بعد أن كانت ممنوعة ، ولذلك قيل لذات الزوج إنها في حباله لأنها كالمعقولة بشيء ، وأما قولهم طَلَقَتْ المرأة فمعناه غير هذا ، إنما يقال طَلَقَتْ المرأة إذا نَفَسَتْ ، هذا من الطلْق وهو وجع الولادة ، والأول من الطَّلاَقِ. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 290}
قال ابن عاشور :
وجملة {والمطلقات يتربصن} خبرية مراد بها الأمر ، فالخبر مستعمل في الإنشاء وهو مجاز فيجوز جعله مجازاً مرسلاً مركباً ، باستعمال الخبر في لازم معناه ، وهو التقرر والحصول ، وهو الوجه الذي اختاره التفتازاني في قوله تعالى : {أفمن حق عليه كلمة العذاب أفأنت تنقذ من في النار} [ الزمر : 19 ] بأن يكون الخبر مستعملاً في المعنى المركب الإنشائي ، بعلاقة اللزوم بين الأمر مثلاً كما هنا وبين الامتثال ، حتى يقدر المأمور فاعلاً فيخبر عنه ويجوز جعله مجازاً تمثيلياً كما اختاره الزمخشري في هذه الآية إذ قال : "فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً ، ونحوه قولهم في الدعاء : رحمه الله ثقة بالاستجابة" قال التفتازاني : فهو تشبيه ما هو مطلوب الوقوع بما هو محقق الوقوع في الماضي كما في قول الناس : رحمه الله ، أو في المستقبل ، أو الحال ، كما في هذه الآية.
قلت : وقد تقدم في قوله تعالى : {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} [ البقرة : 197 ] وأنه أُطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة.
والتعريف في ( المطلقات ) تعريف الجنس ، وهو مفيد للاستغراق ، إذ لا يصلح لغيره هنا.(6/230)
وهو عام في المطلقات ذوات القروء بقرينة قوله : {يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} ، إذ لا يتصور ذلك في غيرهن ، فالآية عامة في المطلقات ذوات القروء ، وليس هذا بعام مخصوص في هذه ، بمتصل ولا بمنفصل ، ولا مراد به الخصوص ، بل هو عام في الجنس الموصوف بالصفة المقدرة التي هي من دلالة الاقتضاء ، فالآية عامة في المطلقات ذوات القروء ، وهي مخصصة بالحرائر دون الإماء ، فأخرجت الإماء بما ثبت في السنة أن عدة الأمة حيضتان ، رواه أبو داود والترمذي ، فهي شاملة لجنس المطلقات ذوات القروء ، ولا علاقة لها بغيرهن من المطلقات ، مثل المطلقات اللاتي لسن من ذوات القروء ، وهن النساء اللاتي لم يبلغن سن المحيض ، والآيسات من المحيض ، والحوامل ، وقد بين حكمهن في سورة الطلاق ، إلاّ أنها يخرج عن دلالتها المطلقات قبل البناء من ذوات القروء ، فهن مخصوصات من هذا العموم بقوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [ الأحزاب : 49 ] فهي في ذلك عام مخصوص بمخصص منفصل.
وقال المالكية والشافعية : إنها عام مخصوص منه الأصناف الأربعة بمخصصات منفصلة ، وفيه نظر فيما عدا المطلقة قبل البناء ، وهي عند الحنفية عام أريد به الخصوص بقرينة ، أي بقرينة دلالة الأحكام الثابتة لتلك الأصناف.
وإنما لجأُوا إلى ذلك لأنهم يرون المخصص المنفصل ناسخاً ، وشرط النسخ تقرر المنسوخ ، ولم يثبت وقوع الاعتداد في الإسلام بالأقراء لكل المطلقات.
والحق أن دعوى كون المخصص المنفصل ناسخاً ، أصلٌ غيرُ جدير بالتأصيل ؛ لأن تخصيص العام هو وروده مُخْرَجاً منه بعض الأفراد بدليلٍ ، فإن مجيء العمومات بعد الخصوصات كثير ، ولا يمكن فيه القول بنسخ العام للخاص لظهور بطلانه ولا بنسخ الخاص للعام لظهور سبقه ، والناسخ لا يسبق وبعد ، فمهما لم يقع عمل بالعموم فالتخصيص ليس بنسخ.
(6/231)
و{يتربصن بأنفسهن} أي يتلبثن وينتظرن مرور ثلاثة قروء ، وزيد {بأنفسهن} تعريضاً بهن ، بإظهار حالهن في مظهر المستعجلات ، الراميات بأنفسهن إلى التزوج ، فلذلك أُمِرْن أن يتربصن بأنفسهن ، أي يمسكنهن ولا يرسلنهن إلى الرجال.
قال في "الكشاف" : "ففي ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث ؛ لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 388 ـ 390}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {يَتَرَبَّصْنَ} التربص الانتظار ؛ على ما قدّمناه. وهذا خبر والمراد الأمر ؛ كقوله تعالى : {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ} [ البقرة : 233 ] وجمع رجل عليه ثيابه ، وحسبك درهم ، أي اكتف بدرهم ؛ هذا قول أهل اللسان من غير خلاف بينهم فيما ذكر ابن الشجريّ. ابن العربيّ : وهذا باطل ، وإنما هو خبر عن حكم الشرع ؛ فإن وجدت مطلقة لا تتربص فليس من الشرع ، ولا يلزم من ذلك وقوع خبر الله تعالى على خلاف مخبره.
وقيل : معناه ليتربصن ، فحذف اللام. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 113}
أسئلة وأجوبة للإمام فخر الدين الرازى
قال رحمه الله :
وفي الآية سؤالات :
السؤال الأول : العام إنما يحسن تخصيصه إذا كان الباقي بعد التخصيص أكثر من حيث أنه جرت العادة بإطلاق لفظ الكل على الغالب ، يقال في الثوب : إنه أسود إذا كان الغالب عليه السواد ، أو حصل فيه بياض قليل ، فأما إذا كان الغالب عليه البياض ، وكان السواد قليلاً ، كان انطلاق لفظ الأسود عليه كذباً ، فثبت أن الشرط في كون العام مخصوصاً أن يكون الباقي بعد التخصيص أكثر ، وهذه الآية ليست كذلك فإنكم أخرجتم من عمومها خمسة أقسام وتركتم قسماً واحداً ، فإطلاق لفظ العام في مثل هذا الموضع لا يليق بحكمة الله تعالى.(6/232)
والجواب : أما الأجنبية فخارجة عن اللفظ فإن الأجنبية لا يقال فيها : إنها مطلقة ، وأما غير المدخول بها فالقرينة تخرجها لأن المقصود من العدة براءة الرحم ، والحاجة إلى البراءة لا تحصل إلا عند سبق الشغل ، وأما الحامل والآيسة فهما خارجتان عن اللفظ لأن إيجاب الاعتداد بالإقراء إنما يكون حيث تحصل الإقراء ، وهذان القسمان لم تحصل الإقراء في حقهما ، وأما الرقيقة فتزويجها كالنادر فثبت أن الأعم الأغلب باق تحت هذا العموم.
السؤال الثاني : قوله : {يَتَرَبَّصْنَ} لا شك أنه خبر ، والمراد منه الأمر فما الفائدة في التعبير عن الأمر بلفظ الخبر.
والجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى لو ذكره بلفظ الأمر لكان ذلك يوهم أنه لا يحصل المقصود إلا إذا شرعت فيها بالقصد والاختيار ، وعلى هذا التقدير فلو مات الزوج ولم تعلم المرأة ذلك حتى انقضت العدة وجب أن لا يكون ذلك كافياً في المقصود ، لأنها لما كانت مأمورة بذلك لم تخرج عن العهدة إلا إذا قصدت أداء التكليف ، أما لما ذكر الله تعالى هذا التكليف بلفظ الخبر زال ذلك الوهم ، وعرف أنه مهماً انقضت هذه العدة حصل المقصود ، سواء علمت ذلك أو لم تعلم وسواء شرعت في العدة بالرضا أو بالغضب الثاني : قال صاحب "الكشاف" : التعبير عن الأمر بصيغة الخبر يفيد تأكيد الأمر إشعاراً بأنه مما يجب أن يتعلق بالمسارعة إلى امتثاله ، فكأنهن امتثلن الأمر بالتربص فهو يخبر عنه موجوداً ، ونظيره قولهم في الدعاء : رحمك الله أخرج في صورة الخبر ثقة بالإجابة كأنها وجدت الرحمة فهو يخبر عنها.
السؤال الثالث : لو قال يتربص المطلقات : لكان ذلك جملة من فعل وفاعل ، فما الحكمة في ترك ذلك ، وجعل المطلقات مبتدأ ، ثم قوله : {يتربصن} إسناد الفعل إلى الفاعل ، ثم جعل هذه الجملة خبراً عن ذلك المبتدأ.
(6/233)
الجواب : قال الشيخ عبد القاهر الجرجاني في كتاب "دلائل الإعجاز" : إنك إذا قدمت الاسم فقلت : زيد فعل فهذا يفيد من التأكيد والقوة ما لا يفيده قولك : فعل زيد ، وذلك لأن قولك : زيد فعل يستعمل في أمرين أحدهما : أن يكون لتخصيص ذلك الفاعل بذلك الفعل ، كقولك : أنا أكتب في المهم الفلاني إلى السلطان ، والمراد دعوى الإنسان الانفراد الثاني : أن لا يكون المقصود ذلك ، بل المقصود أن تقديم ذكر المحدث عنه بحديث كذا لإثبات ذلك الفعل ، كقولهم : هو يعطي الجزيل لا يريد الحصر ، بل أن يحقق عند السامع أن إعطاء الجزيل دأبه ومثله قوله تعالى : {والذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقون} [ النحل : 20 ] ليس المراد تخصيص المخلوقية وقوله تعالى : {وَإِذَا جَاءوكُمْ قَالُواْ ءَامَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ} [ المائدة : 61 ] وقول الشاعر :
هما يلبسان المجد أحسن لبسة.. شجيعان ما اسطاعا عليه كلاهما
والسبب في حصول هذا المعنى عند تقديم ذكر المبتدأ أنك إذا قلت : عبد الله ، فقد أشعرت بأنك تريد الأخبار عنه ، فيحصل في العقل شوق إلى معرفة ذلك فإذا ذكرت ذلك الخبر قبله العقل قبول العاشق لمعشوقه ، فيكون ذلك أبلغ في التحقيق ونفي الشبهة.
السؤال الرابع : هلا قيل : يتربصن ثلاثة قروء كما قيل : {تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ} [ البقرة : 226 ] وما الفائدة في ذكر الأنفس.
الجواب : في ذكر الأنفس تهييج لهن على التربص وزيادة بعث ، لأن فيه ما يستنكفن منه فيحملهن على أن يتربصن ، وذلك لأن أنفس النساء طوامح إلى الرجال فأراد أن يقمعن أنفسهن ويغلبنها على الطموح ويخبرنها على التربص.
السؤال الخامس : لفظ ( أنفس ) جمع قلة ، مع أنهن نفوس كثيرة ، والقروء جمع كثرة ، فلم ذكر جمع الكثرة مع أن المراد هذه القروء الثلاثة وهي قليلة.
(6/234)
والجواب : أنهم يتسعون في ذلك فيستعملون كل واحد من الجمعين مكان الآخر لاشتراكهما في معنى الجمعية ، أو لعل القروء كانت أكثر استعمالاً في جمع قرء من الإقراء.
السؤال السادس : لم لم يقل : ثلاث قروء ، كما يقال : ثلاثة حيض.
الجواب : لأنه أتبع تذكير اللفظ ولفظ القروء مذكر فهذا ما يتعلق بالسؤالات في هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 74 ـ 75}
فصل
قال الإمام الفخر :
القروء جمع قرء وقرء ، ولا خلاف أن اسم القرء يقع على الحيض والطهر ، قال أبو عبيدة : الإقراء من الأضداد في كلام العرب ، والمشهور أنه حقيقة فيهما كالشفق اسم للحمرة والبياض جميعاً ، وقال آخرون إنه حقيقة في الحيض ، مجاز في الطهر ، ومنهم من عكس الأمر ، وقال قائلون : إنه موضوع بحيثية معنى واحد مشترك بين الحيض والطهر ، والقائلون بهذا القول اختلفوا على ثلاثة أقوال فالأول : أن القرء هو الاجتماع ، ثم في وقت الحيض يجتمع الدم في الرحم ، وفي وقت الطهر يجتمع الدم في البدن ، وهو قول الأصمعي والأخفش والفراء والكسائي.
والقول الثاني : وهو قول أبي عبيد : أنه عبارة عن الانتقال من حالة إلى حالة.
والقول الثالث : وهو قول أبي عمرو بن العلاء : أن القرء هو الوقت ، يقال : أقرأت النجوم إذا طلعت ، وأقرأت إذا أفلت ، ويقال : هذا قارىء الرياح لوقت هبوبها ، وأنشدوا للهذلي :
(6/235)
إذا هبت لقارئها الرياح.. وإذا ثبت أن القرء هو الوقت دخل فيه الحيض والطهر ، لأن لكل واحد منهما وقتاً معيناً ، واعلم أنه تعالى أمر المطلقة أن تعتد بثلاثة قروء ، والظاهر يقتضي أنها إذا اعتدت بثلاثة أشياء تسمى ثلاثة أقراء إن تخرج عن عهدة التكليف ، إلا أن العلماء أجمعوا على أنه لا يكفي ذلك ، بل عليها أن تعتد بثلاثة أقراء من أحد الجنسين ، واختلفوا فيه فمذهب الشافعي رضي الله عنه أنها الأطهار ، روي ذلك عن ابن عمر ، وزيد ، وعائشة ، والفقهاء السبعة ، ومالك ، وربيعة ، وأحمد رضي الله عنهم في رواية ، وقال علي وعمر وابن مسعود هي الحيض ، وهو قول أبي حنيفة ، والثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى ، وابن شبرمة ، وإسحاق رضي الله عنهم ، وفائدة الخلاف أن مدة العدة عند الشافعي أقصر ، وعندهم أطول ، حتى لو طلقها في حال الطهر يحسب بقية الطهر قرءاً وإن حاضت عقيبه في الحال ، فإذا شرعت في الحيضة الثالثة انقضت عدتها ، وعند أبي حنيفة رضي الله عنه ما لم تطهر من الحيضة الثالثة إن كان الطلاق في حال الطهر ، ومن الحيضة الرابعة إن كان في حال الحيض لا يحكم بانقضاء عدتها ، ثم قال إذا طهرت لأكثر الحيض تنقضي عدتها قبل الغسل وإن طهرت لأقل الحيض لم تنقض عدتها حتى تغتسل أو تتيمم عند عدم الماء ، أو يمضي عليها وقت صلاة. أ هـ
ثم ذكر الإمام الفخر ـ رحمه الله ـ حجج كل فريق ثم عقب على ذلك بقوله :
واعلم أن عند تعارض هذه الوجوه تضعف الترجيحات ، ويكون حكم الله في حق الكل ما أدى اجتهاده إليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 75 ـ 78} باختصار يسير.
وقال ابن عاشور :
ومرجِع النظر عندي في هذا إلى الجمع بين مقصدي الشارع من العدة وذلك أن العدة قصد منها تحقق براءة رحم المطلقة من حمل المطلق ، وانتطارُ الزوج لعله أن يرجع.
فبراءة الرحم تحصل بحيضة أو طهر واحد ، وما زاد عليه تمديد في المدة انتظاراً للرجعة.
(6/236)
فالحيضة الواحدة قد جعلت علامة على براءة الرحم ، في استبراء الأمة في انتقال الملك ، وفي السبايا ، وفي أحوال أخرى ، مختلفاً في بعضها بين الفقهاء ، فتعين أن ما زاد على حيض واحد ليس لتحقق عدم الحمل ، بل لأن في تلك المدة رفقاً بالمطلق ، ومشقة على المطلقة ، فتعارض المقصدان ، وقد رجح حق المطلق في انتظاره أمداً بعد حصول الحيضة الأولى وانتهائها ، وحصول الطهر بعدها ، فالذين جعلوا القروء أطهاراً راعوا التخفيف عن المرأة ، مع حصول الإمهال للزوج ، واعتضدوا بالأثر.
والذين جعلوا القروء حيضات زادوا للمطلق إمهالاً ؛ لأن الطلاق لا يكون إلاّ في طهر عند الجميع ، كما ورد في حديث عمر بن الخطاب في الصحيح ، واتفقوا على أن الطهر الذي وقع الطلاق فيه معدود في الثلاثة القروء.
وقروء صيغة جمع الكثرة ، استعمل في الثلاثة ، وهي قلة توسعاً ، على عاداتهم في الجموع أنها تتناوب ، فأوثر في الآية الأخف مع أمن اللبس بوجود صريح العدد.
وبانتهاء القروء الثلاثة تنقضي مدة العدة ، وتبِين المطلقة الرجعية من مفارقها ، وذلك حين ينقضي الطهر الثالث وتدخل في الحيضة الرابعة ، قال الجمهور : إذا رأت أول نقطة الحيضة الثالثة خرجت من العدة ، بعد تحقق أنه دم الحيض. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 391}
قوله تعالى : {وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}
المناسبة
قال البقاعى :
(6/237)
ولما كان النكاح أشهى ما إلى الحيوان وكان حبك للشيء يعمي ويصم وكان النساء أرغب في ذلك مع ما بهن من النقص في العقل والدين فكان ذلك ربما حملهن على كتم ولد لإرادة زوج آخر تقصيراً للعدة وإلحاقاً للولد به ، أو حيض لرغبة في رجعة المطلق قال سبحانه وتعالى : {ولا يحل لهن} أي المطلقات {أن يكتمن ما خلق الله} أي الذي له الأمر كله من ولد أو دم {في أرحامهن} جمع رحم. قال الحرالي : وهو ما يشتمل على الولد من أعضاء التناسل يكون فيه تخلقه من كونه نطفة إلى كونه خلقا آخر - انتهى. وليس فيه دليل على أن الحمل يعلم ، إنما تعلم أماراته.
ولما كان معنى هذا الإخبار النهي ليكون نافياً للحل بلفظه مثبتاً للحرمة بمعناه تأكيداً له فكان التقدير : ولا يكتمن ، قال مرغباً في الامتثال مرهباً من ضده : {إن كنّ يؤمن بالله} أي الذي له جميع العظمة {واليوم الآخر} الذي تظهر فيه عظمته أتم ظهور ويدين فيه العباد بما فعلوا ، أي فإن كتمن شيئاً من ذلك دل على عدم الإيمان. وقال الحرالي : ففي إشعاره إثبات نوع نفاق على الكاتمة ما في رحمها ؛ انتهى - وفيه تصرف. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 428 ـ 429}
قال الفخر : (6/238)
أما قوله تعالى : {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ} فاعلم أن انقضاء العدة لما كان مبنياً على انقضاء القرء في حق ذوات الأقراء ، وضع الحمل في حق الحامل ، وكان الوصول إلى علم ذلك للرجال متعذراً جعلت المرأة أمينة في العدة ، وجعل القول قولها إذا ادعت انقضاء قرئها في مدة يمكن ذلك فيها ، وهو على مذهب الشافعي رضي الله عنه اثنان وثلاثون يوماً وساعة ، لأن أمرها يحمل على أنها طقلت طاهرة فحاضت بعد سعة ، ثم حاضت يوماً وليلة وهو أقل الحيض ، ثم طهرت خمسة عشر يوماً وهو أقل الطهر ، مرة أخرى يوماً وليلة ، ثم طهرت خمسة عشر يوماً ، ثم رأت الدم فقد انقضت عدتها بحصول ثلاثة أطهار ، فمتى ادعت هذا أو أكثر من هذا قبل قولها ، وكذلك إذا كانت حاملاً فادعت أنها أسقطت كان القول قولها ، لأنها على أصل أمانتها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 78 ـ 79}
وقال ابن عاشور :
وقوله تعالى : {ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن} إخبار عن انتفاء إباحة الكتمان ، وذلك مقتضى الإعلام بأن كتمانهن منهي عنه محرم ، فهو خبر عن التشريع ، فهو إعلام لهن بذلك ، وما خلق الله في أرحامهن هو الدم ومعناه كتم الخبر عنه لا كتمان ذاته ، كقول النابغة : "كتمتك ليلاً بالجمومين ساهراً" أي كتمتك حال ليل.
و{ما خلق الله في أرحامهن} موصول ، فيجوز حمله على العهد ، أي ما خلق من الحيض بقرينة السياق.
ويجوز حمله على معنى المعرف بلام الجنس فيعم الحيض والحمل ، وهو الظاهر وهو من العام الوارد على سبب خاص ؛ لأن اللفظ العام الوارد في القرآن عقب ذكر بعض أفراده ، قد ألحقوه بالعام الوارد على سبب خاص ، فأما من يقصر لفظ العموم في مثله على خصوص ما ذُكر قَبله ، فيكون إلحاق الحوامل بطريق القياس ، لأن الحكم نيط بكتمان ما خلق الله في أرحامهن. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 392}
(6/239)
قوله تعالى : {مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ}
قال الفخر :
واعلم أن للمفسرين في قوله : {مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ} ثلاثة أقوال الأول : أنه الحبل والحيض معاً ، وذلك لأن المرأة لها أغراض كثيرة في كتمانهما ، أما كتمان الحبل فإن غرضها فيه أن انقضاء عدتها بالقروء أقل زماناً من انقضاء عدتها بوضع الحمل ، فإذا كتمت الحبل قصرت مدة عدتها فتزوج بسرعة ، وربما كرهت مراجعة الزوج الأول ، وربما أحبت التزوج بزوج آخر.
أو أحبت أن يلتحق ولدها بالزوج الثاني ، فلهذه الأغراض تكتم الحبل ، وأما كتمان الحيض فغرضها فيه أن المرأة إذا طلقها الزوج وهي من ذوات الأقراء فقد تحب تطويل عدتها لكي يراجعها الزوج الأول ، وقد تحب تقصير عدتها لتبطيل رجعته ولا يتم لها ذلك إلا بكتمان بعض الحيض في بعض الأوقات لأنها إذا حاضت أولاً فكتمته ، ثم أظهرت عند الحيضة الثانية أن ذلك أول حيضها فقد طولت العدة ، وإذا كتمت أن الحيضة الثالثة وجدت فكمثل ، وإذا كتمت أن حيضها باق فقد قطعت الرجعة على زوجها ، فثبت أنه كما أن لها غرضاً في كتمان الحبل ، فكذلك في كتمان الحيض ، فوجب حمل النهي على مجموع الأمرين.
القول الثاني : أن المراد هو النهي عن كتمان الحمل فقط ، واحتجوا عليه بوجوه أحدها : قوله تعالى : {هُوَ الذي يُصَوّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَاء} [ آل عمران : 6 ] وثانيها : أن الحيض خارج عن الرحم لا أنه مخلوق في الرحم وثالثها : أن حمل قوله تعالى : {مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ} على الولد الذي هو جوهر شريف ، أولى من حمله على الحيض الذي هو شيء في غاية الخساسة والقذر ، واعلم أن هذه الوجوه ضعيفة ، لأنه لما كان المقصود منعها عن إخفاء هذه الأحوال التي لا اطلاع لغيرها عليها ، وبسببها تختلف أحوال الحرمة والحل في النكاح ، فوجب حمل اللفظ على الكل.
(6/240)
القول الثالث : المراد هو النهي عن كتمان الحيض ، لأن هذه الآية وردت عقيب ذكر الأقراء ، ولم يتقدم ذكر الحمل ، وهذا أيضاً ضعيف ، لأن قوله : {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ} كلام مستأنف مستقل بنفسه من غير أن يضاف إلى ما تقدم ، فيجب حمله على كل ما يخلق في الرحم.
أما قوله تعالى : {إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الأخر} فليس المراد أن ذلك النهي مشروط بكونها مؤمنة ، بل هذا كما تقول للرجل الذي يظلم : إن كنت مؤمناً فلا تظلم ، تريد إن كنت مؤمناً فينبغي أن يمنعك إيمانك عن ظلمي ، ولا شك أن هذا تهديد شديد على النساء ، وهو كما قال في الشهادة {وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ ءاثِمٌ قَلْبُهُ} [ البقرة : 283 ] وقال : {فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضًا فَلْيُؤَدّ الذى اؤتمن أمانته وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ} [ البقرة : 283 ] والآية دالة على أن كل من جعل أميناً في شيء فخان فيه فأمره عند الله شديد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 79}
قال ابن عرفة :
قوله تعالى : {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ...}.
قال ابن عرفة : هذا إخبار عن الحكم ، فلا يصح أن يكون الشرط الذي بعده قيدا فيه لأن متعلق الخبر حاصل في نفس الأمر سواء حصل الشرط أو لا. لأن حكم الله لا يتبدل فلا يحل لهن ذلك سواء آمنّ أو كفرن ، ولا بدّ أن يقال : إنه شرط في لازم ذلك الخبر. والتقدير لا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن فلا يكتُمنه إن كن يؤمن بالله ، وهذا على سبيل التهييج لئلا يلزم عليه التكفير بالذنب وهو مذهب المعتزلة. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 294}
وقال ابن عاشور :
(6/241)
وقوله : {إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر} شرط أريد به التهديد دون التقييد ، فهو مستعمل في معنى غير معنى التقييد ، على طريقة المجاز المرسل التمثِيلي ، كما يستعمل الخبر في التحسر والتهديد ، لأنه لا معنى لتقييد نفي الحمل بكونهن مؤمنات ، وإن كان كذلك في نفس الأمر ، لأن الكوافر لا يمتثلن لحكم الحلال والحرام الإسلامي ، وإنما المعنى أنهن إن كتمن فهن لا يؤمن بالله واليوم الآخر ؛ إذ ليس من شأن المؤمنات هذا الكتمان.
وجيء في هذا الشرط بإنْ ، لأنها أصل أدوات الشرط ، ما لم يكن هنالك مقصد لتحقيق حصول الشرط فيؤتى بإذا ، فإذا كان الشرط مفروضاً ، فرضاً لا قصد لتحقيقه ولا لعدمه جيء بإن.
وليس لأنْ هنا ، شيء من معنى الشك في حصول الشرط ، ولا تنزيل إيمانهن المحقق منزلة المشكوك ، لأنه لا يستقيم ، خلافاً لما قرره عبد الحكيم.
والمراد بالإيمان بالله واليوم الآخر الإيمان الكامل ، وهو الإيمان بما جاء به دين الإسلام ، فليس إيمان أهل الكتاب بالله واليوم الآخر بمراد هنا ؛ إذ لا معنى لربط نفي الحمل في الإسلام بثبوت إيمان أهل الكتاب.
وليس في الآية دليل على تصديق النساء في دعوى الحمل والحيض كما يجري على ألسنة كثير من الفقهاء ، فلا بد من مراعاة أن يكون قولهن مشبهاً ، ومَتَى ارتيب في صدقهن وجب المصير إلى ما هو المحقق ، وإلى قول الأطباء والعارفين.
ولذلك قال مالك : "لو ادعت ذات القروء انقضاء عدتها في مدة شهر من يوم الطلاق لم تصدق ، ولا تصدق في أقل من خمسة وأربعين يوماً مع يمينها" وقال عبد الملك : خمسون يوماً ، وقال ابن العربي : لا تصدق في أقل من ثلاثة أشهر ، لأنه الغالب في المدة التي تحصل فيها ثلاثة قروء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 392 ـ 393}
وقال العلامة الخازن :
وفي سبب وعيد النساء بهذا قولان
أحدهما أنه لأجل ما يستحقه الزوج من الرجعة. قاله ابن عباس :
والثاني أنه لأجل إلحاق الولد بغير أبيه قاله قتادة
(6/242)
وقيل : كانت المرأة إذا رغبت في زوجها تقول : إني حائض وإن كانت قد طهرت ليراجعها وإن كانت زاهدة فيه كتمت حيضها وتقول قد طهرت لتفوته فنهاهن الله عن ذلك وأمرن بأداء الأمانة. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 154}
قوله تعالى : {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان الرجعي أخف الطلاق بين الرجعة تنبيهاً على أنه إن كان ولا بد من الطلاق فليكن رجعياً فقال تعالى : {وبعولتهن} أي أزواجهن ، جمع بعل. قال الحرالي : وهو الرجل المتهيىء لنكاح الأنثى المتأتي له ذلك ، يقال على الزوج والسيد - انتهى. ولما كان للمطلقة حق في نفسها قال : {أحق بردهن} أي إلى ما كان لهم عليهن من العصمة لإبطال التربص فله حرمة الاستمتاع من المطلقات بإرادة السراح {في ذلك} أي في أيام الأقراء فإذا انقضت صارت أحق بنفسها منه بها لانقضاء حقه والكلام في الرجعية بدليل الآية التي بعدها.
ولما أثبت الحق لهم وكان منهم من يقصد الضرر قيده بقوله : {إن أرادوا} أي بالرجعة {إصلاحاً} وهذا تنبيه على أنه إن لم يرد الإصلاح وأرادت هي السراح كان في باطن الأمر زانياً. قال الحرالي : الإصلاح لخلل ما بينهما أحق في علم الله وحكمته من افتتاح وصلة ثانية لأن تذكر الماضي يخل بالحاضر ، مما حذر النبي صلى الله عليه وسلم نكاح اللفوت وهي التي لها ولد من زوج سابق ، فلذلك كان الأحق إصلاح الأول دون استفتاح وصلة لثان - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 429}
قال الفخر : (6/243)
اعلم أن هذا هو الحكم الثاني للطلاق وهو الرجعية ، وفي البعولة قولان أحدهما : أنه جمع بعل ، كالفحولة والذكورة والجدودة والعمومة ، وهذه الهاء زائدة مؤكدة لتأنيث الجماعة ولا يجوز إدخالها في كل جمع بل فيما رواه أهل اللغة عن العرب ، فلا يقال في كعب : كعوبه ، ولا في كلب : كلابة ، واعلم أن اسم البعل مما يشترك فيه الزوجان فيقال للمرأة بعلة ، كما يقال لها زوجة في كثير من اللغات ، وزوج في أفصح اللغات فهما بعلان ، كما أنهما زوجان ، وأصل البعل السيد المالك فيما قيل ، يقال : من بعل هذه الناقة ؟ كما يقال : من ربها ، وبعل اسم صنم كانوا يتخدونه رباً ، وقد كان النساء يدعون أزواجهن بالسودد.
القول الثاني : أن البعولة مصدر ، يقال : بعل الرجل يبعل بعولة ، إذا صار بعلاً ، وباعل الرجل امرأته إذا جامعها ، وفي الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في أيام التشريق : " أنها أيام أكل وشرب وبعال " وامرأته حسنة البعل إذا كانت تحسن عشرة زوجها ، ومنه الحديث " إذا أحسنتن ببعل أزواجكن " وعلى هذا الوجه كان معنى الآية : وأهل بعولتهن.
وأما قوله : {أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذلك} فالمعنى : أحق برجعتهن في مدة ذلك التربص. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 80}
قال الفيروزابادى :
( بصيرة فى البعل )
وهو الزَّوج. والجمع بِعَال ، وبُعُول. والمرأَة بَعْل ، وبَعْلة. وبَعَل يَبْعَل بُعُولة : صار بعلاً. وكذا اسْتَبْعَل. والبِعال. والتباعُل. والمباعلة : الجماع ، وملاعبة الرّجل المرأَة. وباعلت : اتخذتْ بعلاً ، وتبعَّلتْ : أَطاعت بعلها ، أَو تزيَّنَتْ له.
وذكر فى القرآن البَعْل على وجهين :
الأَوّل : اسم صنم لقول إِلياس عليه السّلام : {أَتَدْعُونَ بَعْلاً}.
الثانى : بمعنى الأَزواج : {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ} {وَهذا بَعْلِي شَيْخاً} وله نظائر.
(6/244)
ولمَّا تُصوّر من الرّجل استعلاء على المرأَة ، وأَن بسببه صار سائسَها ، والقائم عليها ، شُبّه كلّ مستعل على غيره به ، فسمّى به. فسمَّى قوم معبودهم الذى يتقَرَّبُون به إِلى الله تعالى "بعلا" لاعتقادهم ذلك فيه. وقيل للأَرضِ المستعلية على غيرها : بَعْل ، ولفَحْل النخل : بعل. تشبيها بالبعل من الرّجال ، وكذا سمّوا ما عَظُم من النخل حتى شرب بعروقه بعلاً ، لاستعلائه واسغنائه عن السّاقى ، ولمّا كانت وَطْأَة العالى على المستولَى عليه مستثقلة فى النَّفس قيل : أَصبح فلان بَعْلاً على أَهله أَى ثقيلاً ، لعلوّه عليهم. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 2 صـ 331}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {وبعولتهنَّ}.
البعولة جمع بعل ، والبعل اسم زوج المرأة.
وأصل البعل في كلامهم ، السيد.
وهو كلمة ساميَّة قديمة ، فقد سمَّى الكنعانيون ( الفينقيون ) معبودهم بَعْلاً قال تعالى : {أتدعون بعلاً وتذرون أحسن الخالقين} [ الصافات : 125 ] وسمي به الزوج لأنه ملك أمر عصمة زوجه ، ولأن الزوج كان يعتبر مالكاً للمرأة وسيداً لها ، فكان حقيقاً بهذا الاسم ، ثم لما ارتقى نظام العائلة من عهد إبراهيم عليه السلام فما بعده من الشرائع ، أخذ معنى الملك في الزوجية يضعف ، فأطلق العرب لفظ الزوج على كلَ من الرجل والمرأة ، اللذين بينهما عصمة نكاح ، وهو إطلاق عادل ؛ لأن الزوج هو الذي يثنى الفرد ، فصارا سواء في الاسم ، وقد عبر القرآن بهذا الاسم في أغلب المواضع ، غير التي حكى فيها أحوال الأمم الماضية كقوله : {وهذا بعلي شيخا} [ هود : 72 ] ، وغير المواضع التي أشار فيها إلى التذكير بما للزوج من سيادة ، نحو قوله تعالى : {وإن امرأة خافت من بعلها نشوزاً أو إعراضاً} [ النساء : 128 ] وهاته الآية كذلك ، لأنه لما جعل حق الرجعة للرَّجل جبراً على المرأة ، ذكَّر المرأة بأنه بعلُها قديماً.
(6/245)
وقيل : البعل : الذكر ، وتسمية المعبود بَعْلاً لأنه رمز إلى قوة الذكورة ، ولذلك سمي الشجر الذي لا يسقى بَعْلاً ، وجاء جمعه على وزن فعولة ، وأصله فُعول المطردُ في جمع فَعْل ، لكنه زيدت فيه الهاء لتوهم معنى الجماعة فيه ، ونظيره قولهم : فُحُولة وذُكُورة وكُعُوبة وسُهُولة ، جمع السَّهل ضد الجبل ، وزيادة الهاء على مثله سماعي ؛ لأنها لا تؤذن بمعنى ، غير تأكيد معنى الجمعية بالدلالة على الجماعة.
وضمير {بعولتهن} ، عائد إلى ( المطلقات ) قبله ، وهن المطلقات الرجعيات كما تقدم ، فقد سماهن الله تعالى مطلقات لأن أزواجهن أنشأُوا طلاقهن ، وأَطلق اسم البعولة على المطلقين ، فاقتضى ظاهره أنهم أزواج للمطلقات ، إلاّ أن صدور الطلاق منهم إنشاء لفك العصمة التي كانت بينهم ، وإنما جعل الله مدة العدة توسعة على المطلقين ، عسى أن تحدث لهم ندامة ورغبة في مراجعة أزواجهم ؛ لقوله تعالى : {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} [ الطلاق : 1 ] ، أي أمر المراجعة ، وذلك شبيه بما أجرته الشريعة في الإيلاء ، فللمطلقين بحسب هذه الحالة حالة وسَطٌ بين حالة الأزواج وحالة الأجانب ، وعلى اعتبار هذه الحالة الوسط أُوقع عليهم اسم البعولة هنا ، وهو مجاز قرينته واضحة ، وعلاقته اعتبار ما كان ، مثل إطلاق اليتامى في قوله تعالى : {وأتوا اليتامى أموالهم} [ النساء : 2 ].
وقد حمله الجمهور على المجاز ؛ فإنهم اعتبروا المطلقة طلاقاً رجعياً امرأة أجنبية عن المطلق بحسب الطلاق ، ولكن لما كان للمطلق حق المراجعة ، ما دامت المرأة في العدة ، ولو بدون رضاها ، وجب إعمال مقتضى الحالتين ، وهذا قول مالك والشافعي.
(6/246)
قال مالك : "لا يجوز للمطلق أن يستمتع بمطلقته الرجعية ، ولا أن يدخل عليها بدون إذن ، ولو وطئها بدون قصدِ مراجعةٍ أَثم ، ولكن لا حد عليه للشبهة ، ووجب استبراؤها من الماء الفاسد ، ولو كانت رابعة لم يكن له تزوج امرأة أخرى ، ما دامت تلك في العدة".
وإنما وجبت لها النفقة لأنها محبوسة لانتظار مراجعته ، ويشكل على قولهم إن عثمان قضى لها بالميراث إذا مات مطلِّقها وهي في العدة ؛ قضى بذلك في امرأة عبد الرحمن بن عوف ، بموافقة عليَ ، رواه في "الموطأ" ، فيُدفع الإشكال بأن انقضاء العدة شرط في إنفاذ الطلاق ، وإنفاذ الطلاق مانع من الميراث ، فما لم تنقض العدة فالطلاق متردد بين الإعمال والإلغاء ، فصار ذلك شكاً في مانع الإرث ، والشك في المانع يبطل إعماله.
وحمل أبو حنيفة والليث بن سعد البعولة على الحقيقة ، فقالا "الزوجية مستمرة بين المطلق الرجعي ومطلَّقته ؛ لأن الله سماهم بعُولة" وسوغا دخول الطلاق عليها ، ولو وطئها فذلك ارتجاع عند أبي حنيفة.
وقال به الأوزاعي والثوري وابن أبي ليلى ، ونسب إلى سعيد بن المسيب والحسن والزهري وابن سيرين وعطاء وبعض أصحاب مالك.
وأحسب أن هؤلاء قائلون ببقاء الزوجية بين المطلق ومطلقته الرجعية.
و( أحق ) قيل : هو بمعنى اسم الفاعل مسلوب المفاضلة ، أتى به لإفادة قوة حقهم ، وذلك مما يستعمل فيه صيغة أفعل ، كقوله تعالى : {ولذكر الله أكبر} [ العنكبوت : 45 ] لا سيما إن لم يذكر بعدها مفضل عليه بحرف من ، وقيل : هو تفضيل على بابه ، والمفضل عليه محذوف ، أشار إليه في "الكشاف" ، وقرره التفتازاني بما تحصيله وتبيينه : أن التفضيل بين صنفي حق مختلفين باختلاف المتعلق : هما حق الزوج في الرجعة إن رغب فيها ، وحق المرأة في الامتناع من المراجعة إن أبتها ، فصار المعنى : وبعولتهن أحق برد المطلقات ، من حق المطلقات بالامتناع وقد نسج التركيب على طريقة الإيجاز.
(6/247)
وقوله : {في ذلك} الإشارة بقوله : {ذلك} إلى التربص بمعنى مدته ، أي للبعولة حق الإرجاع في مدة القروء الثلاثة ، أي لا بعد ذلك كما هو مفهوم القيد.
هذا تقرير معنى الآية ، على أنها جاءت لتشريع حكم المراجعة في الطلاق ما دامت العدة ، وعندي أن هذا ليس مجرد تشريع للمراجعة بل الآية جامعة لأمرين : حكم المراجعة ، وتحضيض المطلقين على مراجعة المطلقات ، وذلك أن المتفارقين لا بد أن يكون لأحدهما أو لكليهما ، رغبة في الرجوع ، فالله يعلم الرجال بأنهم أولى بأن يرغبوا في مراجعة النساء ، وأن يصفحوا عن الأسباب التي أوجبت الطلاق لأن الرجل هو مظنة البصيرة والاحتمال ، والمرأة أهل الغضب والإباء.
والرد تقدم الكلام عليه عند قوله تعالى : {حتى يرددكم عن دينكم} [ البقرة : 217 ] والمراد به هنا الرجوع إلى المعاشرة وهو المراجعة ، وتسمية المراجعة رداً يرجح أن الطلاق قد اعتبر في الشرع قطعاً لعصمة النكاح ، فهو إطلاق حقيقي على قول مالك ، وأما أبو حنيفة ومن وافقوه فتأوَّلوا التعبير بالرد بأن العصمة في مدة العدة سائرة في سبيل الزوال عند انقضاء العدة ، فسميت المراجعة رداً عن هذا السبيل الذي أخذت في سلوكه وهو رد مجازي. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 393 ـ 395}
أسئلة وأجوبة للعلامة الفخر :
قال رحمه الله :
وههنا سؤالات :
السؤال الأول : ما فائدة قوله : {أَحَقُّ} مع أنه لا حق لغير الزوج في ذلك.
(6/248)
الجواب من وجهين الأول : أنه تعالى قال قبل هذه الآية : {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله فِى أَرْحَامِهِنَّ} كان تقدير الكلام : فإنهن إن كتمن لأجل أن يتزوج بهن زوج آخر ، فإذا فعلن ذلك كان الزوج الأول أحق بردهن ، وذلك لأنه ثبت للزوج الثاني حق في الظاهر ، فبين أن الزوج الأول أحق منه ، وكذا إذا ادعت انقضاء أقرائها ثم علم خلافه فالزوج الأول أحق من الزوج الآخر في العدة الثاني : إذا كانت معتدة فلها في مضي العدة حق انقطاع النكاح فلما كان لهن هذا الحق الذي يتضمن إبطال حق الزوج جاز أن يقول : {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ} من حيث إن لهم أن يبطلوا بسبب الرجعة ما هن عليه من العدة.
السؤال الثاني : ما معنى الرد ؟ .
الجواب : يقال : رددته أي رجعته قال تعالى في موضع {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى} [ الكهف : 36 ] وفي موضع آخر : {وَلَئِن رُّجّعْتُ}.
السؤال الثالث : ما معنى الرد في المطلقة الرجعية ؟ وهي ما دامت في العدة فهي زوجته كما كانت.
الجواب : أن الرد والرجعة يتضمن إبطال التربص والتحري في العدة فهي ما دامت في العدة كأنه كانت جارية في إبطال حق الزوج وبالرجعة يبطل ذلك ، فلا جرم سميت الرجعة رداً ، لا سيما ومذهب الشافعي رضي الله عنه أنه يحرم الاستمتاع بها إلا بعد الرجعة ، ففي الرد على مذهبه شيئان أحدهما : ردها من التربص إلى خلافه الثاني : ردها من الحرمة إلى الحل.
السؤال الرابع : ما الفائدة في قوله تعالى : {فِي ذلك}.
الجواب : أن حق الرد إنما يثبت في الوقت الذي هو وقت التربص ، فإذا انقضى ذلك الوقت فقد بطل حق الردة والرجعة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 80 ـ 81}
قال العلامة الشنقيطى :
قوله تعالى : {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً}.
ظاهر هذه الآية الكريمة أن أزواج كل المطلقات أحق بردهن ، لا فرق في ذلك بين رجعية وغيرها.
(6/249)
ولكنه أشار في موضع آخر إلى أن البائن لا رجعة له عليها ، وذلك في قوله تعالى : {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا} [ الأحزاب : 49 ].
وذلك لأن الطلاق قبل الدخول بائن ، كما أنه أشار هنا إلى أنها إذا بانت بانقضاء العدة لا رجعة له عليها ، وذلك في قوله تعالى : {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ} [ البقرة : 228 ]. لأن الإشارة بقوله : {ذَلِكَ} راجعة إلى زمن العدة المعبر عنه في الآية بثلاثة قروء.
واشترط هنا في كون بعولة الرجعيات أحق بردهن إرادتهم الإصلاح بتلك الرجعة ، في قوله : {إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً} [ البقرة : 228 ] ولم يتعرض لمفهوم هذا الشرط هنا ، ولكنه صرح في مواضع أخر : أن زوج الرجعية إذا ارتجعها لا بنية الإصلاح بل بقصد الإضرار بها. لتخالعه أو نحو ذلك ، أن رجعتها حرام عليه ، كما هو مدلول النهي في قوله تعالى : {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً} [ البقرة : 231 ].
فالرجعة بقصد الإضرار حرام إجماعاً ، كما دل عليه مفهوم الشرط المصرح به في قوله {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً} [ البقرة : 231 ] الآية وصحة رجعته حينئذ باعتبار ظاهر الأمر ، فلو صرح للحاكم بأنه ارتجعها بقصد الضرر ، لأبطل رجعته كما ذكرنا ، والعلم عند الله تعالى. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 133}
قوله تعالى : {إِنْ أَرَادُواْ إصلاحا}
قال ابن عاشور :
وقوله : {إن أرادوا إصلاحاً} شرط قصد به الحث على إرادة الإصلاح ، وليس هو للتقييد.
(6/250)
لا يجوز أن يكون ضمير {لهن} عائداً إلى أقرب مذكور وهو ( المطلقات ) ، على نسق الضمائر قبله ؛ لأن المطلقات لم تبق بينهن وبين الرجال علقة حتى يكون لهن حقوق وعليهن حقوق ، فتعين أن يكون ضمير {لهن} ضمير الأزواج النساء اللائي اقتضاهن قوله {بردهن} بقرينة مقابلته بقوله {وللرجال عليهن درجة}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 395 ـ 396}
وقال الفخر :
أما قوله تعالى : {إِنْ أَرَادُواْ إصلاحا} فالمعنى أن الزوج أحق بهذه المراجعة إن أرادوا الإصلاح وما أرادوا المضارة ، ونظيره قوله : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَقَدْ ظَلَمَ نفسه} [ البقرة : 231 ] والسبب في هذه الآية أن في الجاهلية كانوا يرجعون المطلقات ، ويريدون بذلك الإضرار بهن ليطلقوهن بعد الرجعة ، حتى تحتاج المرأة إلى أن تعتد عدة حادثة ، فنهوا عن ذلك ، وجعل الشرط في حل المراجعة إرادة الإصلاح ، وهو قوله : {إِنْ أَرَادُواْ إصلاحا}.
فإن قيل : إن كلمة {إِنْ} للشرط ، والشرط يقتضي انتفاء الحكم عند انتفائه ، فيلزم إذا لم توجد إرادة الإصلاح أن لا يثبت حق الرجعة.
والجواب : أن الإرادة صفة باطنة لا اطلاع لنا عليها ، فالشرع لم يوقف صحة المراجعة عليها ، بل جوازها فيما بينه وبين الله موقوف على هذه الإرادة ، حتى إنه لو راجعها لقصد المضارة استحق الإثم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 81}
قوله تعالى : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ}
المناسبة
قال البقاعى :(6/251)
ولما اخرج أمر الرجعة عنهن جبرهن بقوله : {ولهن} أي من الحقوق {مثل الذي عليهن} أي في كونه حسنة في نفسه على ما يليق بملك منهما لا في النوع ، فكما للرجال الرجعة قهراً فلهن العشرة بالجميل ، وكما لهم حبسهن فلهن ما يزيل الوحشة بمن يؤنس ونحو ذلك. ولما كان كل منهما قد يجور على صاحبه قال : {بالمعروف} أي من حال كل منهما. قال الحرالي : والمعروف ما أقره الشرع وقبله العقل ووافقه كرم الطبع - انتهى.أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 429}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ} فاعلم أنه تعالى لما بين أنه يجب أن يكون المقصود من المراجعة إصلاح حالها ، لا إيصال الضرر إليها بين أن لكل واحد من الزوجين حقاً على الآخر.
واعلم أن المقصود من الزوجين لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما مراعياً حق الآخر ، وتلك الحقوق المشتركة كثيرة ، ونحن نشير إلى بعضها فأحدها : أن الزوج كالأمير والراعي ، والزوجة كالمأمور والرعية ، فيجب على الزوج بسبب كونه أميراً وراعياً أن يقوم بحقها ومصالحها ، ويجب عليها في مقابلة ذلك إظهار الانقياد والطاعة للزوج وثانيها : روي عن ابن عباس أنه قال : "إني لأتزين لأمرأتي كما تتزين لي" لقوله تعالى : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ} وثالثها : ولهن على الزوج من إرادة الإصلاح عند المراجعة ، مثل ما عليهن من ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن ، وهذا أوفق لمقدمة الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 81}
قال الماوردى :
قوله تعالى : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : ولهن من حسن الصحبة والعشرة بالمعروف على أزواجهن ، مثل الذي عليهن من الطاعة ، فيما أوجبه الله تعالى عليهن لأزواجهن ، وهو قول الضحاك.
والثاني : ولهن على أزواجهن من التصنع والتزين ، مثل ما لأزواجهن ، وهو قول ابن عباس.(6/252)
والثالث : أن الذي لهن على أزواجهن ، ترك مضارتهن ، كما كان ذلك لأزواجهن ، وهو قول أبي جعفر. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 292 ـ 293}
فائدة
قال أبو حيان :
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الذى عَلَيْهِنَّ بالمعروف} هذا من بديع الكلام ، إذ حذف شيئاً من الأول أثبت نظيره في الآخر ، وأثبت شيئاً في الأول حذف نظيره في الآخر ، وأصل التركيب ولهنّ على أزواجهنّ مثل الذي لأزواجهنّ عليهنّ ، فحذفت على أزواجهنّ لإثبات : عليهنّ ، وحذف لأزواجهنّ لإثبات لهنّ. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 200}
لطيفة
قال ابن عباس في معنى الآية : إني أحب أن أتزين لامرأتي كما أحب أن تتزين لي لأن الله تعالى قال : {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف}
عن جابر أنه ذكر خطبة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وقال : فيها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانات الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف ".(6/253)
قوله : " فاتقوا الله في النساء " فيه الحث على الوصية بهن ومراعاة حقوقهن ومعاشرتهن بالمعروف. قوله : " فإنكم أخذتموهن بأمانات الله " ويروى بأمانة وقوله : " واستحللتم فروجهن بكلمة الله " معناه بإباحة الله والكلمة هي قوله : {فانكحوا ما طاب لكم من النساء} وقيل : الكلمة هي قوله {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} وقيل : الكلمة هي كلمة التوحيد وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله إذ لا تحل مسلمة لغير مسلم وقوله : لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه معناه ولا يأذن لأحد أن يتحدث إليهن ، وكان من عادة العرب أن يتحدث الرجال مع النساء ولا يرون ذلك عيباً ولا يعدونه ريبة إلى أن نزلت آية الحجاب فنهوا عن ذلك وليس المراد بوطء الفرش نفس الزنا فإن ذلك محرم على كل الوجوه ، فلا معنى لاشتراط الكراهة فيه ، ولو كان المراد من ذلك لم يكن الضرب فيه ضرباً غير مبرح إنما كان فيه الحد ، والضرب المبرح هو الشديد. وقول : ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف يعني العدل وفيه وجوب نفقة الزوجة ، وكسوتها وذلك ثابت بالإجماع. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 155}
فائدة
قال القرطبى : (6/254)
قول ابن عباس : "إنّي لأتزين لامرأتي" قال العلماء : أما زينة الرجال فعلى تفاوت أحوالهم ؛ فإنهم يعملون ذلك على اللَّبق والوفاق ، فربما كانت زينة تليق في وقت ولا تليق في وقت ، وزينة تليق بالشّباب ، وزينة تليق بالشيوخ ولا تليق بالشباب ؛ ألا ترى أن الشيخ والكهل إذا حفّ شاربه لِيقَ به ذلك وزَانَه ، والشاب إذا فعل ذلك سُمج ومُقِت. لأن اللحية لم توفر بعد ، فإذا حَفّ شاربه في أوّل ما خرج وجهه سَمُج ، وإذا وفرت لحيته وحف شاربه زانه ذلك. وروي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أمرني ربِّي أن أعفِي لحيتي وأحفِي شاربي " وكذلك في شأن الكسوة ؛ ففي هذا كله ابتغاء الحقوق ؛ فإنما يعمل على اللّبَق والوِفَاق ليكون عند امرأته في زينة تسرها ويُعِفّها عن غيره من الرجال. وكذلك الكحل من الرجال منهم من يليق به ومنهم من لا يليق به. فأما الطّيْب والسِّواك والخلال والرّمي بالدّرَن وفُضولِ الشعر والتطهير وقلم الأظفار فهو بَيِّن موافق للجميع. والخِضاب للشيوخ والخاتم للجميع من الشباب والشيوخ زينة ؛ وهو حَلْيُ الرجال على ما يأتي بيانه في سورة "النحل". ثم عليه أن يَتَوخّى أوقات حاجتها إلى الرجل فيُعِفّها ويُغنيها عن التطلع إلى غيره. وإن رأى الرجُل من نفسه عجزا عن إقامة حقها في مضجعها أخذ من الأدْوِيّة التي تزيد في باهِه وتُقوّي شهوته حتى يُعفّها. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 124}(6/255)
فصل في حكم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خدمة المرأة لزوجها
قال ابن حبيب في الواضحة : حكم النبي صلى الله عليه وسلم بين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وبين زوجته فاطمة رضي الله عنها حين اشتكيا إليه الخدمة فحكم على فاطمة بالخدمة الباطنة خدمة البيت وحكم على علي بالخدمة الظاهرة ثم قال ابن حبيب : والخدمة الباطنة : العجين والطبخ والفرش وكنس البيت واستقاء الماء وعمل البيت كله
وفي الصحيحين : [ أن فاطمة رضي الله عنها أتت النبي صلى الله عليه وسلم تشكو إليه ما تلقى في يديها من الرحى وتسأله خادما فلم تجده فذكرت ذلك لعائشة رضي الله عنها فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته قال علي : فجاءنا وقد أخذنا مضاجعنا فذهبنا نقوم فقال : مكانكما فجاء فقعد بيننا حتى وجدت برد قدميه على بطني فقال : ألا أدلكما على ما هو خير لكما مما سألتما إذا أخذتما مضاجعكما فسبحا الله ثلاثا وثلاثين واحمدا ثلاثا وثلاثين وكبرا أربعا وثلاثين فهو خير لكما من خادم قال علي : فما تركتها بعد قيل : ولا ليلة صفين ؟ قال : ولا ليلة صفين ]
وصح عن أسماء أنها قالت : كانت أخدم الزبير خدمة البيت كله وكان له فرس وكنت أسوسه وكنت أحتش له وأقوم عليه
وصح عنها أنها كانت تعلف فرسه وتسقي الماء وتخرز الدلو وتعجن وتنقل النوى على رأسها من أرض له على ثلثي فرسخ
فاختلف الفقهاء في ذلك فأوجب طائفة من السلف والخلف خدمتها له في مصالح البيت وقال أبو ثور : عليها أن تخدم زوجها في كل شئ ومنعت طائفة وجوب خدمته عليها في شئ وممن ذهب إلى ذلك مالك والشافعي وأبو حنيفة وأهل الظاهر قالوا : لأن عقد النكاح إنما اقتضى الإستمتاع لا الإستخدام وبذل المنافع قالوا : والأحاديث المذكورة إنما تدل على التطوع ومكارم الأخلاق فأين الوجوب منها ؟ (6/256)
واحتج من أوجب الخدمة بأن هذا هو المعروف عند من خاطبهم الله سبحانه بكلامه وأما ترفيه المرأة وخدمة الزوج وكنسه وطحنه وعجنه وغسيله وفرشه وقيامه بخدمة البيت فمن المنكر والله تعالى يقول : {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} [ البقرة : 228 ] وقال : {الرجال قوامون على النساء} [ النساء : 34 ] وإذا لم تخدمه المرأة بل يكون هو الخادم لها فهي
القوامة عليه
وأيضا : فإن المهر في مقابلة البضع وكل من الزوجين يقضي وطره من صاحبه فإنما أوجب الله سبحانه نفقتها وكسوتها ومسكنها في مقابلة استمتاعه بها وخدمتها وما جرت به عادة الأزواج
وأيضا فإن العقود المطلقة إنما تنزل على العرف والعرف خدمة المرأة وقيامها بمصالح البيت الداخلة وقولهم : إن خدمة فاطمة وأسماء كانت تبرعا وإحسانا يرده أن فاطمة كانت تشتكي ما تلقى من الخدمة فلم يقل لعلي : لا خدمة عليها وإنما هي عليك وهو صلى الله عليه وسلم لا يحابي في الحكم أحدا ولما رأى أسماء والعلف على رأسها والزبير معه لم يقل له : لا خدمة عليها وأن هذا ظلم لها بل أقره على استخدامها وأقر سائر أصحابه على استخدام أزواجهم مع علمه بأن منهن الكارهة والراضية هذا أمر لا ريب فيه
ولا يصح التفريق بين شريفة ودنيئة وفقيرة وغنية فهذه أشرف نساء العالمين كانت تخدم زوجها وجاءته صلى الله عليه وسلم تشكو إليه الخدمة فلم يشكها وقد سمى النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح المرأة عانية فقال : [ اتقوا الله في النساء فإنهن عوان عندكم ] والعاني : الأسير ومرتبة الأسير خدمة من هو تحت يده ولا ريب أن النكاح نوع من الرق كما قال بعض السلف : النكاح رق فلينظر أحدكم عند من يرق كريمته ولا يخفى على المنصف الراجح من المذهبين والأقوى من الدليلين. أ هـ {زاد المعاد حـ 5 صـ 169}(6/257)
قوله تعالى : {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما ذكر الرجعة له بصيغة الأحق وبين الحق من الجانبين بين فضل الرجال بقوله : {وللرجال} أعم من أن يكونوا بعولة {عليهن} أي أزواجهم {درجة} أي فضل من جهات لا يخفى كالإنفاق والمهر لأن الدرجة المرقى إلى العلو. وقال الحرالي : لما أوثروا به من رصانة العقل وتمام الدين - انتهى. فالرجل يزيد على المرأة بدرجة من ثلاث لأن كل امرأتين بمنزلة رجل.
ولما أعز سبحانه وتعالى الرجل وصف نفسه بالعزة مبتدئاً بالاسم الأعظم الدال على كل كمال فقال عطفاً على ما تقديره : لأن الله أعزهم عليهن بحكمته : {والله} أي الذي له كمال العظمة {عزيز} إشارة إلى أنه أعز بل لا عزيز إلا هو ليخشى كل من أعاره ثوب عزة سطوته ؛ وقال : {حكيم} تنبيهاً على أنه ما فعل ذلك إلا لحكمة بالغة تسلية للنساء وإن ما أوجده بعزته وأتقنه بحكمته لا يمكن نقضه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 429 ـ 430}
قال العلامة الشنقيطى :
قوله تعالى : {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ}.
لم يبين هنا ما هذه الدرجة التي للرجال على النساء ، ولكنه أشار لها في موضع آخر وهو قوله تعالى :
{الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [ النساء : 34 ] فأشار إلى أن الرجل أفضل من المرأة. وذلك لأن الذكورة شرف وكمال والأنوثة نقص خلقي طبيعي ، والخلق كأنه مجمع على ذلك. لأن الأنثى يجعل لها جميع الناس أنواع الزينة والحلي ، وذلك إنما هو لجبر النقص الخلقي الطبيعي الذي هو الأنوثة ، بخلاف الذكر فجمال ذكورته يكفيه عن الحلي ونحوه.
وقد أشار تعالى إلى نقص المرأة وضعفها الخلقيين الطبيعيين ، بقوله : {أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ} [ الزخرف : 18 ]. لأن نشأتها في الحلية دليل على نقصها المراد جبره ، والتغطية عليه بالحلي كما قال الشاعر :
وما الحلي إلا زينة من نقيصة... يتمم من حسن إذا الحسن قصرا
وأما إذا كان الجمال موفراً... كحسنك لم يحج إلى أن يزورا
ولأن عدم إبانتها في الخصام إذا ظلمت دليل على الضعف الخلقي ، كما قال الشاعر :
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له... ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
فلم يعتذر عذر البرئ ولم تزل... به سكتة حتى يقال مريب
ولا عبرة بنوادر النساء. لأن النادر لا حكم له.(6/258)
وأشار بقوله {وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ} [ النساء : 34 ] إلى أن الكامل في وصفه وقوته وخلقته يناسب حاله ، أن يكون قائماً على الضعيف الناقص خلقة.
ولهذه الحكمة المشار إليها جعل ميراثه مضاعفاً على ميراثها. لأن من يقوم على غيره مترقت للنقص ، ومن يقوم عليه غيره مترقب للزيادة ، وإيثار مترقب النقص على مترقب الزيادة ظاهر الحكمة.
كما أنه أشار إلى حكمة كون الطلاق بيد الرجل دون إذن المرأة بقوله {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} [ البقرة : 223 ] : لأن من عرف أن حقله غير مناسب للزراعة لا ينبغي أن يرغم على الازدراع في حقل لا يناسب الزراعة. ويوضح هذا لمعنى أن آلة الازدراع بيد الرجل ، فلو أكره على البقاء مع من لا حاجة له فيها حتى ترضى بذلك ، فإنها إن أرادت أن تجامعه لا يقوم ذكره ، ولا ينتشر إليها ، فلم تقدر على تحصيل النسل منه ، الذي هو أعظم الغرض من النكاح بخلاف الرجل ، فإنه يولدها وهي كارهة كما هو ضروري.
أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 133 ـ 134}
وقال أبو حيان :
{وَلِلرّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} أي : مزية وفضيلة في الحق ، أتى بالمظهر عوض المضمر إذ كان لو أتى على المضمر لقال : ولهم عليهنّ درجة ، للتنويه بذكر الرجولية التي بها ظهرت المزية للرجال على النساء ، ولما كان يظهر في الكلام بالإضمار من تشابه الألفاظ ، وأنت تعلم ما في ذاك ، إذ كان يكون : ولهنّ مثل الذي عليهنّ بالمعروف ولهم عليهنّ درجة ، ولقلق الإضمار حذف مضمران ومضافان من الجملة الأولى. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 200}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن فضل الرجل على المرأة أمر معلوم ، إلا أن ذكره ههنا يحتمل وجهين الأول : أن الرجل أزيد في الفضيلة من النساء في أمور أحدها :
العقل
والثاني : في الدية
والثالث : في المواريث
والرابع : في صلاحية الإمامة والقضاء والشهادة(6/259)
والخامس : له أن يتزوج عليها ، وأن يتسرى عليها ، وليس لها أن تفعل ذلك مع الزوج
والسادس : أن نصيب الزوج في الميراث منها أكثر من نصيبها في الميراث منه
والسابع : أن الزوج قادر على تطليقها ، وإذا طلقها فهو قادر على مراجعتها ، شاءت المرأة أم أبت ، أما المرأة فلا تقدر على تطليق الزوج ، وبعد الطلاق لا تقدر على مراجعة الزوج ولا تقدر أيضاً على أن تمنع الزوج من المراجعة والثامن : أن نصيب الرجل في سهم الغنيمة أكثر من نصيب المرأة ، وإذا ثبت فضل الرجل على المرأة في هذه الأمور ، ظهر أن المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم : " استوصوا بالنساء خيراً فإنهن عندكم عوان " وفي خبر آخر : " اتقوا الله في الضعيفين : اليتيم والمرأة " ، وكان معنى الآية أنه لأجل ما جعل الله للرجال من الدرجة عليهن في الاقتدار كانوا مندوبين إلى أن يوفوا من حقوقهن أكثر ، فكان ذكر ذلك كالتهديد للرجال في الإقدام على مضارتهن وإيذائهن ، وذلك لأن كل من كانت نعم الله عليه أكثر ، كان صدور الذنب عنه أقبح ، واستحقاقه للزجر أشد.(6/260)
والوجه الثاني : أن يكون المراد حصول المنافع واللذة مشترك بين الجانبين ، لأن المقصود من الزوجية السكن والألفة والمودة ، واشتباك الأنساب واستكثار الأعوان والأحباب وحصول اللذة ، وكل ذلك مشترك بين الجانبين بل يمكن أن يقال : إن نصيب المرأة فيها أوفر ، ثم إن الزوج اختص بأنواع من حقوق الزوجة ، وهي التزام المهر والنفقة ، والذب عنها ، والقيام بمصالحها ، ومنعها عن مواقع الآفات ، فكان قيام المرأة بخدمة الرجل آكد وجوباً ، رعاية لهذه الحقوق الزائدة وهذا كما قال تعالى : {الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النساء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أموالهم} [ النساء : 34 ] وعن النبي صلى الله عليه وسلم : " لو أمرت أحداً بالسجود لغير الله لأمرت المرأة بالسجود لزوجها ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 82}
روى البغوى بسنده عن أبي ظبيان أن معاذ بن جبل خرج في غزاة بعثه النبي صلى الله عليه وسلم فيها ثم رجع فرأى رجالا يسجد بعضهم لبعض فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم "لو أمرت أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها". أ هـ {رواه ابن ماجه : في النكاح : باب حق الزوج على المرأة برقم (1853) 1 / 595. وأبو داود : في النكاح : باب في حق الزوج على المرأة 3 / 67. وأخرجه ابن حبان في صحيحه برقم (1290) ص 314 وأحمد : 4 / 381 ، عن عبد الله بن أبي أوفى. 5 / 228 عن معاذ بن جبل 6 / 76 عن عائشة بلفظ آخر. والمصنف في شرح السنة : 9 / 158. وذكره الهيثمي في المجمع 4 / 309 وقال : رواه بتمامة البزار وأحمد باختصار ورجاله رجال الصحيح}.
وقال ابن عرفة :
قوله تعالى : {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ...}.(6/261)
أي في التفضيل ، وفي تفسير الدّرجة خلاف ( فالجمهور ) يحملونها على حسن العشرة كما قال ابن العباس رضي الله عنهما. وهذا الظاهر ، فيقولون وله عليها من القيام بحقه المبادرة إلى غرضه ورفقه ، مثل الذي عليه وزيادة درجة التقديم. ويريدون المعنوي وهو التفضيل ومن بدع التفاسير ما نقلوه عن ابن مسعود أن الدرجة ( اللحية ).
قال ابن عرفة : والتفضيل هو الأمر المُباح مثل إذا تعارض سكناها في دار أرادتها مع سكناها في دار أخرى أرادها زوجها وهما مستويان ، فينبغي للمرأة إيثار اختيار الزوج. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 295}
وقال الثعالبى :
وقوله تعالى : {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ} قال مجاهدٌ : هو تنبيهٌ على فضْلِ حظِّه على حظِّها في الميراث ، وما أشبهه ، وقال زيد بن أسلم : ذلك في الطَّاعة ؛ علَيْها أنْ تطيعه ، وليس علَيْه أن يطيعَهَا ، وقال ابن عباس : تلك الدرَجَةُ إِشارة إِلى حضِّ الرجُلِ على حُسْن العِشرة ، والتوسُّع للنساء في المالِ والخُلُقِ ، أي : أنَّ الأفضل ينبغِي أنْ يتحامَلَ على نفسه ، وهو قولٌ حسَنٌ بارعٌ. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 176}
وقال أبو حيان :
والذي يظهر أن الدرجة هي ما تريده النساء من البر والإكرام والطواعية والتبجيل في حق الرجال ، وذلك أنه لما قدّم أن على كل واحد من الزوجين للآخر عليه مثل ما للآخر عليه ، اقتضى ذلك المماثلة ، فبين أنهما ، وإن تماثلا في ما على كل واحد منهما للآخر ، فعليهن مزيد إكرام وتعظيم لرجالهنّ ، وأشار إلى العلة في ذلك : وهو كونه رجلاً يغالب الشدائد والأهوال ، ويسعى دائماً في مصالح زوجته ، ويكفيها تعب الاكتساب ، فبازاء ذلك صار عليهنّ درجة للرجل في مبالغة الطواعية ، وفيما يفضي إلى الاستراحة عندها.
وملخص ما قاله المفسرون ، يقتضى أن للرجل درجة تقتضي التفضيل. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 201}
وقال القرطبى :(6/262)
ولا يخفى على لبيب فضل الرجال على النساء ؛ ولو لم يكن إلا أن المرأة خلقت من الرجل فهو أصلها ، وله أن يمنعها من التصرف إلا بإذنه ؛ فلا تصوم إلا بإذنه ولا تحج إلا معه.
أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 125}
كلام نفيس للعلامة ابن عاشور ـ ولله دره ـ :
قال رحمه الله :
المراد بالرجال في قوله : {وللرجال} الأزواج ، كأنه قيل : ولرجالهن عليهن درجة.
والرجل إذا أضيف إلى المرأة ، فقيل : رجل فلانة ، كان بمعنى الزوج ، كما يقال للزوجة : امرأة فلان ، قال تعالى : {وامرأته قائمة} [ هود : 71 ] {إلا امرأتك} [ هود : 81 ].
ويجوز أن يعود الضمير إلى النساء في قوله تعالى {للذين يؤلون من نسائهم} [ البقرة : 226 ] بمناسبة أن الإيلاء من النساء هضم لحقوقهن ، إذا لم يكن له سبب ، فجاء هذا الحكم الكلي على ذلك السبب الخاص لمناسبة ؛ فإن الكلام تدرج من ذكر النساء اللائي في العصمة ، حين ذكر طلاقهن بقوله {وإن عزموا الطلاق} [ البقرة : 227 ] ، إلى ذكر المطلقات بتلك المناسبة ، ولما اختتم حكم الطلاق بقوله : {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} صار أولئك النساء المطلقات زوجات ، فعاد الضمير إليهن باعتبار هذا الوصف الجديد ، الذي هو الوصف المبتدأ به في الحكم ، فكان في الآية ضرب من رد العجز على الصدر ، فعادت إلى أحكام الزوجات بأسلوب عجيب والمناسبة أن في الإيلاء من النساء تطاولاً عليهن ، وتظاهراً بما جعل الله للزوج من حق التصرف في العصمة ، فناسب أن يذكَّروا بأن للنساء من الحق مثل ما للرجال.
وفي الآية احتباك ، فالتقدير : ولهن على الرجال مثل الذي للرجال عليهن ، فحذف من الأول لدلالة الآخر ، وبالعكس.(6/263)
وكان الاعتناء بذكر ما للنساء من الحقوق على الرجال ، وتشبيهه بما للرجال على النساء ؛ لأن حقوق الرجال على النساء مشهورة ، مسلمة من أقدم عصور البشر ، فأما حقوق النساء فلم تكن مما يلتفت إليه أو كانت متهاوناً بها ، وموكولة إلى مقدار حظوة المرأة عند زوجها ، حتى جاء الإسلام فأقامها.
وأعظم ما أُسِّست به هو ما جمعته هذه الآية.
وتقديم الظرف للاهتمام بالخبر ؛ لأنه من الأخبار التي لا يتوقعها السامعون ، فقدم ليصغى السامعون إلى المسند إليه ، بخلاف ما لو أُخر فقيل : ومثل الذي عليهن لهن بالمعروف ، وفي هذا إعلان لحقوق النساء ، وإصداع بها وإشادة بذكرها ، ومثل ذلك من شأنه أن يُتلقى بالاستغراب ، فلذلك كان محل الاهتمام.
ذلك أن حال المرأة إزاء الرجل في الجاهلية ، كانت زوجة أم غيرها ، هي حالة كانت مختلطة بين مظهر كرامة وتنافس عند الرغبة ، ومظهر استخفاف وقلة إنصاف ، عند الغضب ، فأما الأول فناشىء عما جبل عليه العربي من الميل إلى المرأة وصدق المحبة ، فكانت المرأة مطمح نظر الرجل ، ومحل تنافسه ، رغبة في الحصول عليها بوجه من وجوه المعاشرة المعروفة عندهم ، وكانت الزوجة مرموقة من الزوج بعين الاعتبار والكرامة قال شاعرهم وهو مُرَّةُ بن مَحْكانَ السْعدي :
يا ربَّةَ البيتِ قومي غيرَ صاغرةٍ
ضُمِّي إليكِ رحالَ القَوْم والقِرَبا...
فسماها ربة البيت وخاطبها خطاب المتلطف حين أمَرَها فأعقب الأمر بقوله غير صاغرة.
وأما الثاني فالرجل مع ذلك يرى الزوجة مجعولة لخدمته فكان إذا غاضبها أو ناشزته ، ربما أشتد معها في خشونة المعاملة ، وإذا تخالف رأياهما أرغمها على متابعته ، بحق أو بدونه ، وكان شأن العرب في هذين المظهرين متفاوتاً بحسب تفاوتهم في الحضارة والبداوة ، وتفاوت أفرادهم في الكياسة والجلافة ، وتفاوت حال نسائهم في الاستسلام والإباء والشرف وخلافه.(6/264)
روى البخاري عن عمر بن الخطاب أنه قال : " كنا معشر قريش نغلب النساء فلما قدمنا على الأنصار إذا قومٌ تغلبهم نساؤهم فطفِق نساؤنا يأخذن من أدب الأنصار فصخبتُ علَى امرأتي فراجعتْني فأنكرتُ أن تراجعني قالت : ولِمَ تنكرُ أَن أراجعك فوالله إن أزواج النبيى ليراجعنه وإن إحداهن لتهجره اليوم حتى الليل فراعني ذلك وقلت : قد خابت من فعلت ذلك منهن ثم جمعت عليَّ ثيابي فنزلت فدخلت على حفصة فقلت لها : أَيْ حفصةُ أتغاضب إحداكن النبي اليوم حتى الليل ؟ قالت : نعم فقلت : قد خبتِ وخسرتِ " الحديث.
وفي رواية عن ابن عباس عنه "كنا في الجاهلية لا نعد النساء شيئاً فلما جاء الإسلام ، وذكَرَهُن الله رأَينا لهن بذلك علينا حقاً من غير أن ندخلهن في شيء من أمورنا" ويتعين أن يكون هذا الكلام صدراً لما في الرواية الأخرى وهو قوله : "كنا معشر قريش نغلب النساء" إلى آخره ، فدل على أن أهل مكة كانوا أشد من أهل المدينة في معاملة النساء.
وأحسب أن سبب ذلك أن أهل المدينة كانوا من أزد اليمن ، واليمن أقدم بلاد العرب حضارة ، فكانت فيهم رقة زائدة.
وفي الحديث " جاءكم أهل اليمن هم أرق أفئدة وألين قلوباً ، الإيمانُ يَمَاننٍ والحكمةُ يَمَانية "
وقد سمى عمر بن الخطاب ذلك أدباً فقال : فطفِق نساؤنا يأخذْن من أدب الأنصار.
وكانوا في الجاهلية إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته ، إن شاء بعضهم تزوجها إذا حلت له ، وإن شاءوا ، زوجوها بمن شاؤا وإن شاءوا لم يزوجوها فبقيت بينهم ، فهم أحق بذلك فنزلت آية : {يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرهاً} [ النساء : 19 ].(6/265)
وفي حديث الهجرة أن النبي صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة مع أصحابه ، وآخى بين المهاجرين والأنصار ، آخى بين عبد الرحمن بن عوف وبين سعد بن الربيع الأنصاري ، فعَرض سعد بن الربيع على عبد الرحمن أن يناصفه ماله وقال له "انظر أي زوجتيَّ شئتَ أنْزِلْ لك عنها" فقال عبد الرحمن "بارك الله لك في أهلك ومالك" الحديث.
فلما جاء الإسلام بالإصلاح ، كان من جملة ما أصلحه من أحوال البشر كافة ، ضبط حقوق الزوجين بوجه لم يبق معه مدخل للهضيمة حتى الأشياءُ التي قد يخفى أمرها قد جُعل لهَا التحكيم قال تعالى : {وإن خفتم شقاق بينهما فابعثوا حكماً من أهله وحكماً من أهلها إن يريداً إصلاحاً يوفق الله بينهما} [ النساء : 35 ] وهذا لم يكن للشرائع عهد بمثله.
وأول إعلام هذا العدل بين الزوجين في الحقوق ، كان بهاته الآية العظيمة ، فكانت هذه الآية من أول ما أنزل في الإسلام.
والمثل أصله النظير والمشابه ، كالشبه والمثل ، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} [ البقرة : 17 ] ، وقد يكون الشيء مثلاً لشيء في جميع صفاته وقد يكون مثلاً له في بعض صفاته.
وهي وجه الشبه.
فقد يكون وجه المماثلة ظاهراً فلا يحتاج إلى بيانه ، وقد يكون خفياً فيحتاج إلى بيانه ، وقد ظهر هنا أنه لا يستقيم معنى المماثلة في سائر الأحوال والحقوق : أجناساً أو أنواعاً أو أشخاصاً ؛ لأن مقتضى الخلقة ، ومقتضى المقصد من المرأة والرجل ، ومقتضى الشريعة ، التخالف بين كثير من أحوال الرجال والنساء في نظام العمران والمعاشرة.(6/266)
فلا جرم يعلم كل السامعين أن ليست المماثلة في كل الأحوال ، وتعين صرفها إلى معنى المماثلة في أنواع الحقوق على إجمال تبينه تفاصيل الشريعة ، فلا يتوهم أنه إذا وجب على المرأة أن تقم بيت زوجها ، وأن تجهز طعامه ، أنه يجب عليه مثل ذلك ، كما لا يتوهم أنه كما يجب عليه الإنفاق على امرأته أنه يجب على المرأة الإنفاق على زوجها بل كما تقم بيته وتجهز طعامه يجب عليه هو أن يحرس البيت وأن يحضر لها المعجنة والغربال ، وكما تحضن ولده يجب عليه أن يكفيها مؤنة الارتزاق كي لا تهمل ولده ، وأن يتعهده بتعليمه وتأديبه ، وكما لا تتزوج عليه بزوج في مدة عصمته ، يجب عليه هو أن يعدل بينها وبين زوجة أخرى حتى لا تحس بهضيمة فتكون بمنزلة من لم يتزوج عليها ، وعلى هذا القياس فإذا تأتَّت المماثلة الكاملة فتُشْرَعَ ، فعلى المرأة أن تحسن معاشرة زوجها ، بدليل ما رتب على حكم النشوز ، قال تعالى : {والتي تخافون نشوزهن} [ النساء : 34 ] وعلى الرجل مثل ذلك قال تعالى : {وعاشروهن بالمعروف} [ النساء : 19 ] وعليها حفظ نفسها عن غيره ممن ليس بزوج ، وعليه مثل ذلك عمن ليست بزوجة {} [ النور : 30 ] ثم قال : {وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن} [ النور : 30 ] الآية {والذين هم لفروجهم حافظون إلا على أزواجهم} [ المؤمنون : 5 6 ] إلاّ إذا كانت له زوجة أخرى فلذلك حكم آخر ، يدخل تحت قوله تعالى : {وللرجال عليهن درجة والمماثلة في بعث الحكمين ، والمماثلة في الرعاية ، ففي الحديث : الرجل راع على أهله والمرأة راعية في بيت زوجها ، والمماثلة في التشاور في الرضاع ، قال تعالى : {فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور} [ البقرة : 233 ] {وأتمروا بينكم بمعروف} [ الطلاق : 6 ].(6/267)
وتفاصيل هاته المماثلة ، بالعين أو بالغاية ، تؤخذ من تفاصيل أحكام الشريعة ، ومرجعها إلى نفي الإضرار ، وإلى حفظ مقاصد الشريعة من الأمة ، وقد أومأ إليها قوله تعالى : {بالمعروف} أي لهن حق متلبساً بالمعروف ، غير المنكر ، من مقتضى الفطرة ، والآداب ، والمصالح ، ونفي الإضرار ، ومتابعة الشرع.
وكلها مجال أنظار المجتهدين.
ولم أر في كتب فروع المذاهب تبويباً لأبواب تجمع حقوق الزوجين.
وفي "سنن أبي داود" ، و"سنن ابن ماجه" ، بابان أحدهما لحقوق الزوج على المرأة ، والآخر لحقوق الزوج على الرجل ، باختصار كانوا في الجاهلية يعدون الرجل مولى للمرأة فهي ولية كما يقولون ، وكانوا لا يدخرونها تربية ، وإقامة وشفقة ، وإحساناً ، واختيار مصير ، عند إرادة تزويجها ، لما كانوا حريصين عليه من طلب الأكفاء ، بيد أنهم كانوا مع ذلك لا يرون لها حقاً في مطالبة بميراث ولا بمشاركة في اختيار مصيرها ، ولا بطلب ما لها منهم ، وقد أشار الله تعالى إلى بعض أحوالهم هذه في قوله : {وما يتلى عليكم في الكتاب في يتامى النساء التي لا تؤتونهن ما كتب لهن} [ النساء : 127 ] وقال : {فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن} [ البقرة : 232 ] فحدد الله لمعاملات النساء حدوداً ، وشرع لهن أحكاماً ، قد أعلنتها على الإجمال هذه الآية العظيمة ، ثم فصلتها الشريعة تفصيلاً ، ومن لطائف القرآن في التنبيه إلى هذا عطف المؤمنات على المؤمنين عند ذكر كثير من الأحكام أو الفضائل ، وعطف النساء على الرجال.
وقوله : {بالمعروف} الباء للملابسة ، والمراد به ما تعرفه العقول السالمة ، المجردة من الانحياز إلى الأهواء ، أو العادات أو التعاليم الضالة ، وذلك هو الحسن وهو ما جاء به الشرع نصاً أو قياساً ، أو اقتضته المقاصد الشرعية أو المصلحة العامة ، التي ليس في الشرع ما يعارضها.(6/268)
والعرب تطلق المعروف على ما قابل المنكر أي وللنساء من الحقوق مثل الذي عليهن ملابساً ذلك دائماً للوجه غير المنكر شرعاً وعقلاً ، وتحت هذا تفاصيل كبيرة تؤخذ من الشريعة ، وهي مجال لأنظار المجتهدين.
في مختلف العصور والأقطار.
فقول من يرى أن البنت البكر يجبرها أبوها على النكاح ، قد سلبها حق المماثلة للابن ، فدخل ذلك تحت الدرجة ، وقول من منع جبرها وقال لا تزوج إلاّ برضاها قد أثبت لها حق المماثلة للذكر ، وقول من منع المرأة من التبرع بما زاد على ثلاثها ألا بإذن زوجها قد سلبها حق المماثلة للرجل ، وقول من جعلها كالرجل في تبرعها بما لها قد أثبت لها حق المماثلة للرجل ، وقول من جعل للمرأة حق الخيار في فراق زوجها إذا كانت به عاهة قد جعل لها جق المماثلة وقول من لم يجعل لها ذلك قد سلبها هذا الحق.
وكل ينظر إلى أن ذلك من المعروف أو من المنكر.
وهذا الشأن في كل ما أجمع عليه المسلمون من حقوق الصنفين ، وما اختلفوا فيه من تسوية بين الرجل والمرأة ، أو من تفرقة ، كل ذلك منظور فيه إلى تحقيق قوله تعالى : {بالمعروف} قطعاً أو ظناً فكونوا من ذلك بمحل التيقظ ، وخُذوا بالمعنى دون التلفظ.
ودين الإسلام حري بالعناية بإصلاح شأن المرأة ، وكيف لا وهي نصف النوع الإنساني ، والمربية الأولى ، التي تفيض التربية السالكة إلى النفوس قبل غيرها ، والتي تصادف عقولاً لم تمسها وسائل الشر ، وقلوباً لم تنفذ إليها خراطيم الشيطان.
فإذا كانت تلك التربية خيراً ، وصدقاً ، وصواباً ، وحقاً ، كانت أول ما ينتقش في تلك الجواهر الكريمة ، وأسبق ما يمتزج بتلك الفطر السليمة ، فهيأت لأمثالها ، من خواطر الخير ، منزلاً رحباً ، ولم تغادر لأغيارها من الشرور كرامة ولا حباً.
ودين الإسلام دين تشريع ونظام ، فلذلك جاء بإصلاح حال المرأة ، ورفع شأنها لتتهيأ الأمة الداخلة تحت حكم الإسلام ، إلى الارتقاء وسيادة العالم.(6/269)
وقوله : {وللرجال عليهن درجة} إثبات لتفضيل الأزواج في حقوق كثيرة على نسائهم لكيلا يظن أن المساواة المشروعة بقوله : {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} مطردة ، ولزيادة بيان المراد من قوله {بالمعروف} ، وهذا التفضيل ثابت على الإجمال لكل رجل ، ويظهر أثر هذا التفضيل عند نزول المقتضيات الشرعية والعادية.
وقوله : {للرجال} خبر عن ( درجة ) ، قدم للاهتمام بما تفيده اللام من معنى استحقاقهم تلك الدرجة ، كما أشير إلى ذلك الاستحقاق في قوله تعالى : {الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض} [ النساء : 34 ] وفي هذا الاهتمام مقصدان أحدهما دفع توهم المساواة بين الرجال والنساء في كل الحقوق ، توهماً من قوله آنفاً : {ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف} وثانيهما تحديد إيثار الرجال على النساء بمقدار مخصوص ، لإبطال إيثارهم المطلق ، الذي كان متبعاً في الجاهلية.
والرجال جمع رجل ، وهو الذكر البالغ من الآدميين خاصة ، وأما قولهم : امرأة رجلة الرَّأي ، فهو على التشبيه أي تشبه الرجل.
والدرجة ما يرتقى عليه في سلم أو نحوه ، وصيغت بوزن فعلة من درج إذا انتقل على بطء ومهل ، يقال : درج الصبي ، إذا ابتدأ في المشي ، وهي هنا استعارة للرفعة المكنَّى بها عن الزيادة في الفضيلة الحقوقية ، وذلك أنه تقرر تشبيه المزية في الفضل بالعلو والارتفاع ، فتبع ذلك تشبيه الأفضلية بزيادة الدرجات في سير الصاعد ، لأن بزيادتها زيادة الارتفاع ، ويسمون الدرجة إذا نزل منها النازل : دركة ، لأنه يدرك بها المكان النازل إليه.
والعبرة بالمقصد الأول ، فإن كان المقصد من الدرجة الارتفاع كدرجة السلم والعلو فهي درجة وإن كان القصد النزول كدرك الداموس فهي دركة ، ولا عبرة بنزول الصاعد وصعود النازل.(6/270)
وهذه الدرجة اقتضاها ما أودعه الله في صنف الرجال من زيادة القوة العقلية والبدنية ، فإن الذكورة في الحيوان تمام في الخلقة ، ولذلك نجد صنف الذكر في كل أنواع الحيوان أذكى من الأنثى ، وأقوى جسماً وعزماً ، وعن إرادته يكون الصدر ، ما لم يعرض للخلقة عارض يوجب انحطاط بعض أفراد الصنف ، وتفوق بعض أفراد الآخر نادراً ، فلذلك كانت الأحكام التشريعية الإسلامية جارية على وفق النظم التكوينية ، لأن واضع الأمرين واحد.
وهذه الدرجة هي ما فضل به الأزواج على زوجاتهم : من الإذن بتعدد الزوجة للرجل ، دون أن يؤذن بمثل ذلك للأنثى ، وذلك اقتضاه التزيد في القوة الجسمية ، ووفرة عدد الإناث في مواليد البشر ، ومِن جعل الطلاق بيد الرجل دون المرأة ، والمراجعة في العدة كذلك ، وذلك اقتضاه التزيد في القوة العقلية وصدق التأمل ، وكذلك جعل المرجع في اختلاف الزوجين إلى رأي الزوج في شؤون المنزل ، لأن كل اجتماع يتوقع حصول تعارض المصالح فيه ، يتعين أن يجعل له قاعدة في الانفصال والصدر عن رأي واحد معين من ذلك الجمع ، ولما كانت الزوجية اجتماع ذاتين لزم جعل إحداهما مرجعاً عند الخلاف ، ورجح جانب الرجل لأن به تأسست العائلة ، ولأنه مظنة الصواب غالباً ، ولذلك إذا لم يمكن التراجع ، واشتد بين الزوجين النزاع ، لزم تدخل القضاء في شأنهما ، وترتب على ذلك بعث الحكمين كما في آية {وإن خفتم شقاق بينهما} [ النساء : 35 ].(6/271)
ويؤخذ من الآية حكم حقوق الرجال غير الأزواج بلحن الخطاب ، لمساواتهم للأزواج في صفة الرجولة التي كانت هي العلة في ابتزازهم حقوق النساء في الجاهلية فلما أسست الآية حكم المساواة والتفضيل ، بين الرجال والنساء الأزواج إبطالاً لعمل الجاهلية ، أخذنا منها حكم ذلك بالنسبة للرجال غير الأزواج على النساء ، كالجهاد وذلك مما اقتضته القوة الجسدية ، وكبعض الولايات المختلف في صحة إسنادها إلى المرأة ، والتفضيل في باب العدالة ، وولاية النكاح والرعاية ، وذلك مما اقتضته القوة الفكرية ، وضعفها في المرأة وسرعة تأثرها ، وكالتفضيل في الإرث وذلك مما اقتضته رئاسة العائلة الموجبة لفرط الحاجة إلى المال ، وكالإيجاب على الرجل إنفاق زوجه ، وإنما عدت هذه درجة ، مع أن للنساء أحكاماً لا يشاركهن فيها الرجال كالحضانة ، تلك الأحكام التي أشار إليها قوله تعالى : {للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن} [ النساء : 32 ] لأن ما امتاز به الرجال كان من قبيل الفضائل.
فأما تأديب الرجل المرأة إذا كانا زوجين ، فالظاهر أنه شرعت فيه تلك المراتب رعياً لأحوال طبقات الناس ، مع احتمال أن يكون المراد من قوله : {والتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن} [ النساء : 34 ] أن ذلك يجريه ولاة الأمور ، ولنا فيه نظر عند ما نصل إليه إن شاء الله تعالى. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 396 ـ 402}
قوله تعالى : {والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ}
قال الفخر :
{والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ} أي غالب لا يمنع ، مصيب أحكامه وأفعاله ، لا يتطرق إليهما احتمال العبث والسفه والغلط والباطل.
وقال ابن عاشور :
وقوله : {والله عزيز حكيم} العزيز : القوى ، لأن العزة في كلام العرب القوة {لَيُخْرِجَنَّ الأعز منها الأذل} [ المنافقون : 8 ] وقال شاعرهم :
وإنما العزة للكاثر
والحكيم : المتقن الأمور في وضعها ، من الحكمة كما تقدم.(6/272)
والكلام تذييل وإقناع للمخاطبين ، وذلك أن الله تعالى لما شرع حقوق النساء كان هذا التشريع مظنة المتلقى بفرط التحرج من الرجال ، الذين ما اعتادوا أن يسمعوا أن للنساء معهم حظوظاً ، غير حظوظ الرضا والفضل والسخاء ، فأصبحت لهن حقوق يأخذنها من الرجال كرهاً ، إن أبَوْا ، فكان الرجال بحيث يرون في هذا ثلماً لعزتهم ، كما أنبأ عنه حديث عمر بن الخطاب المتقدم ، فبين الله تعالى أن الله عزيز أي قوي لا يعجزه أحد ، ولا يتقي أحداً ، وأنه حكيم يعلم صلاح الناس ، وأن عزته تؤيد حكمته فينفذ ما اقتضته الحكمة بالتشريع ، والأمر الواجب امتثاله ، ويحمل الناس على ذلك وإن كرهوا. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 403}
وقال أبو حيان :
{والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ} تقدّم تفسير هذين الوصفين ، وختم الآية بهما لأنه تضمنت الآية ما معناه الأمر في قوله : يتربصنّ ، والنهي في قول : ولا يحل لهنّ ، والجواز في قوله : وبعولتهنّ أحق ، والوجوب في قوله : ولهنّ مثل الذي عليهنّ ، ناسب وصفه تعالى بالعزة وهو القهر والغلبة ، وهي تناسب التكليف ، وناسب وصفه بالحكمة وهي إتقان الأشياء ووضعها على ما ينبغي ، وهي تناسب التكليف أيضاً. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 202}
فصل في أحكام العدة وفيه مسائل
المسألة الأولى : عدة الحمل تنقضي بوضع الحمل سواء المطلقة والمتوفى عنها زوجها ، وسواء في ذلك الحرة والأمة.
المسألة الثانية : عدة المتوفى عنها سوى الحامل أربعة أشهر وعشرة ايام سواء مات عنها زوجها قبل الدخول أو بعده وسواء في ذلك الحيض والأمة والآيسة.
المسألة الثالثة : عدة المطلقة المدخول بها وهي ضربان : أحدهما الحيض بالإقراء ، وهي ثلاثة أقراء الضرب الثاني الآيسات من الحيض وإما الكبر ، أو تكون لم تحض قط فعدتها ثلاثة أشهر وأما المطلقة قبل الدخول فلا عدة عليها.(6/273)
المسألة الرابعة : عدة الإماء نصف عدة الحرائر فيما له نصف وفي الأقراء قرآن لأنه لا يتنصف قال عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه : ينكح العبد اثنتين ويطلق طلقتين وتعتد الأمة بحيضتين. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 156}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : {وَالمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قُرُوءٍ}.
أمَرَ المطلقات بالعِدَّة احتراماً لصحبة الأزواج ، يعني إنْ انقطعت العلاقة بينكما فأقيموا على شرط الوفاء لما سَلَفَ من الصحبة ، ولا تقيموا غيره مقامه بهذه السرعة ؛ فاصبروا حتى يمضي مقدار من المدة. ألا ترى أن غير المدخول بها لم تؤمر بالعدة حيث لم تقم بينهما صحبة ؟
ثم قال جلّ ذكره : {وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللهُ فِى أَرْحَامِهِنَّ إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللهِ وَاليَوْمِ الآخِرِ}.
يعني إنْ انقطع بينكما السبب فلا تقطعوا ما أثبت الله من النَّسَبِ.
ثم قال جلّ ذكره : {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ}.
يعني مَنْ سَبَقَ له الصحبة فهو أحق بالرجعة لما وقع في النكاح من الثلمة.
{فِى ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلاَحًا}.
يعني أن يكون القصد بالرجعة استدراك ما حصل من الجفاء لا تطويل العدة عليها بأن يعزم على طلاقها بعدما أرجعها.
{وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِى عَلَيْهِنَّ بِالمَعْرُوفِ}.
يعني إن كان له عليها حق ما أنفق من المال فلها حق الخدمة لما سلف من الحال. {وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
في الفضيلة ، ولهن مزية في الضعف وعجز البشرية. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 181}(6/274)
بحث فى الآية
وللرجال عليهن درجة
الحمد لله خالق الزوجين الذكر والأنثى من نطفة إذا تمنى، وأشهد أن لا إله إلا الله يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله البشير النذير والسراج المنير، وبعد:
يقول تعالى: والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكيم {البقرة: 228}،
وحول آخر الآية يقول ابن كثير رحمه الله: أي ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف لحديث مسلم عن جابر أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في خطبة الوداع: "فاتقوا الله في النساء فإنكم أخذتموهن بأمانة الله واستحللتم فروجهن بكلمة الله، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحدًا تكرهونه فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضربًا غير مبرح، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف".
ولحديث بهز بن حكيم بن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده قال: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ قال: "أن تطعمها إذا طعمت وتكسوها إذا اكتسيت ولا تضرب الوجه ولا تقبح ولا تهجر إلا في البيت".
وقوله تعالى: وللرجال عليهن درجة أي في الفضيلة والخلق والخلق والمنزلة والطاعة والانفاق والقيام بالمصالح والفضل في الدنيا والآخرة كما قال تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم (ابن كثير 1-257).
فها هو الحافظ ابن كثير يستدل بالقرآن لتفسير القرآن وهو أصح التفسير؛ أن يفسر القرآن بالقرآن، فقد بدأ القرآن بحق المرأة أولاً فقال: "ولهن"، ثم ثنى بحق الرجال وقال: "عليهن"(6/275)
ومع التساوي في الحقوق والواجبات والتساوي في الخضوع لأحكام رب الأرض والسماوات، يبقى التقرير الإلهي: وللرجال عليهن درجة، وقوله تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض، فلابد من وجود هذه الدرجة لا لتستمر المعركة بين الرجل والمرأة، ولا لتحقيق مكاسب لصالح طرف؛ وإنما لصالح النفس الإنسانية بشقيها الرجل والمرأة على السواء، وهذه الدرجة للرجال ليست من كسبهم وإنما هي من عطاءات الله لهم لعلمه سبحانه بهم وبما يصلح من شأنهم وشأن من تولوا أمرهم.
للرجل على المرأة درجة
وإليك أيها الكريم شيئًا من تفاصيل هذه الدرجة كما قال ابن كثير أي في الفضيلة والخلق والخلق والمنزلة وطاعة الأمر والإنفاق.
أولاً في الفضيلة: فقد اختار الله سبحانه وتعالى أنبياءه من الرجال ليحملوا كلامه ورسالاته إلى الناس ولم يختر رسلاً من النساء كما قال تعالى: وما أرسلنا من قبلك إلا رجالا نوحي إليهم من أهل القرى أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم ولدار الآخرة خير للذين اتقوا أفلا تعقلون {يوسف: 109}،
يقول ابن كثير في تفسيره إنما أرسل رسله من الرجال لا من النساء، وهذا قول جمهور العلماء، وأن الله تعالى لم يوحِ إلى امرأة من بنات آدم، وحي تشريع، والذي عليه أهل السنة والجماعة أنه ليس في النساء نبيةٌ وإنما فيهن صِدِّيقات، كما قال تعالى: ما المسيح ابن مريم إلا رسول قد خلت من قبله الرسل وأمه صديقة كانا يأكلان الطعام))
فوصفها في أشرف مقاماتها بالصديقية، فلو كانت نبية لذكر ذلك في مقام التشريف والإعظام، فهي صديقة بنص القرآن. {ابن كثير: 2-477}.
ويقول ابن حجر باب وإذ قالت الملائكة يا مريم إن الله اصطفاك ليس بصريح أنها نبية ولا يمنع وصفها بأنها صديقة، فقد وصف يوسف بذلك.(6/276)
ونقل النووي أن إمام الحرمين نقل الإجماع على أن مريم ليست نبية، وعن الحسن ليس في النساء نبية ولا في الجن. انتهى بتصرف. {فتح الباري ج6-542، 543}.
ثانيًا: للرجال درجة في الخَلْق والخُلُق:
فالذي خَلَق هو الذي لم يجعل النوعين شيئًا واحدًا، فقد قال تعالى: فلما وضعتها قالت رب إني وضعتها أنثى والله أعلم بما وضعت وليس الذكر كالأنثى وإني سميتها مريم وإني أعيذها بك وذريتها من الشيطان الرجيم {آل عمران: 36}،
ومن الأسرار العجيبة أن كلمة "وضعتُ" قرئت بالضمة في التاء من قراءة ابن عامر فيكون من جملة كلام امرأة عمران وهي التي تشهد وتقول: ليس الذكر كالأنثى، وعلى قراءة الجمهور بسكون التاء يكون تقرير رب العالمين: ليس الذكر كالأنثى لا في الخلق ولا التكوين ولا الاستعداد الفطري، فقد زودت المرأة بالرقة والعطف وسرعة الانفعال، والاستجابة العاجلة لمطالب الطفولة بغير وعي ولا سابق تفكير بل بغير إرادة أحيانًا، وهذه ليست خصائص سطحية وإنما هي غائرة في التكوين العضوي والعصبي للمرأة وفي كل خلية من خلاياها، وزود الرجل بالخشونة والصلابة وبطء الانفعال والاستجابة واستخدام الوعي والتفكير قبل الحركة، لأن وظائفه كلها تحتاج إلى قدر من التروي قبل الإقدام.(6/277)
كذلك ليس الذكر كالأنثى في التركيب البدني والهرموني والدماغي ليس الذكر كالأنثى في فرض بعض الأمور الشرعية مثل الجهاد، فإنه لم يُفرض على النساء ولله تعالى الحكمة في ذلك؛ لأن المرأة هي التي تلد الرجال الذين يجاهدون، وهي مهيأة لولادة الرجال بكل تكوينها العضوي والنفسي ومهيأة لإعدادهم للجهاد وللحياة على حد سواء، فالحرب حين تحصد الرجال وتستبقي الإناث تدع للأمة مراكز إنتاج الذرية، فرجل واحد مع أربع نساء يعوض الأمة الكثير من الرجال، ولكن ألف رجل لا يملكون أن يجعلوا امرأة واحدة تنتج أكثر مما تنتج من رجل واحد، فهذا باب من أبواب حكمة الله التي لم تجعل الذكر كالأنثى وأعفت المرأة من فريضة الجهاد إلا في حالات الضرورة القصوى.
ثالثًا: للرجال درجة في المنزلة والتقديم:
فهو إمامها في الصلاة ولم يعرف التاريخ الإسلامي منذ فجره أن امرأةً مهما بلغ علمها وحفظها لكتاب الله تعالى وفقهها أن المسلمين قدموها لتصلي بهم، ولا طلبت المرأة هذا. والكل يحفظ حديث الرسول صلى الله عليه وسلم عند مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال: قال رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم : "يؤُم القوم أقرؤهم لكتاب الله، فإن كانوا في القراءة سواءً فأعلمهم بالسنة، فإن كانوا في السنة سواء فأقدمهم هجرة، فإن كانوا في الهجرة سواءً فأقدمهم سِلْمًا ولا يَؤُمَّنَّ الرجلُ الرجلَ في سلطانه ولا يقعد في بيته على تكرمته إلا بإذنه". {رقم 673}.
أليس هذا فضلا ودرجةً من قبيل تفضيل الرسول صلى الله عليه وسلم الأقرأ من الرجال وتقديمه وإن كان في القوم من هو أقرأ منه من النساء وأفقه؟!
رابعًا: هو رئيسها والحاكم عليها وليس العكس:(6/278)
لقوله تعالى: ( بما فضل الله بعضهم على بعض ) يقول ابن كثير في تفسيره: لأن الرجال أفضل من النساء والرجل خير من المرأة، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال، وكذلك الملك الأعظم لقوله صلى الله عليه وسلم : "لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة". رواه البخاري.
وكذا منصب القضاء، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه وله الفضل عليها والإفضال، فناسب أن يكون قيمًا عليها كما قال تعالى: وللرجال عليهن درجة، وعن ابن عباس: الرجال قوامون على النساء يعني: أمراء عليهن. {ابن كثير: 1-465} بتصرف.
أقول: وأكبر شاهد على عدم الفلاح الوارد في حديث البخاري: "ولن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة" ما ذكره القرآن من شأن ملكة سبأ: إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ولها عرش عظيم (23) وجدتها وقومها يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون {النمل: 23، 24} ، فهو يحكمها ولا تحكمه ويسوسها ولا تسوسه، فهل عرفنا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون {الروم: 30}.
والحمد لله رب العالمين.أ هـ {إعداد شوقي عبد الصادق
مجلة التوحيد عدد 37 1-3-2005}(6/279)
قوله تعالى : {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذكر الرجعة ولم يبين لها غاية تنتهي بها فكانت الآية كالمجمل عرض سؤال : هل هي ممتدة كما كانوا يفعلون في الجاهلية متى راجعها في العدة له أن يطلقها ما دام يفعل ذلك ولو ألف مرة أو منقطعة ؟ فقال : {الطلاق} أي المحدث عنه وهو الذي تملك فيه الرجعة.
قال الحرالي : لما كان الطلاق لما يتهيأ رده قصره الحق تعالى على المرتين اللتين يمكن فيهما تلافي النكاح بالرجعة - انتهى. وقال تعالى : {مرتان} دون طلقتان تنبيهاً - على أنه ينبغي أن تكون مرة بعد مرة كل طلقة في مرة لا أن يجمعهما في مرة.(6/280)
ولما كان له بعد الثانية في العدة حالان إعمال وإهمال وكان الإعمال إما بالرجعة وإما بالطلاق بدأ بالإعمال لأنه الأولى بالبيان لأنه أقرب إلى أن يؤذي به وأخر الإهمال إلى أن تنقضي العدة لأنه مع فهمه من آية الأقراء سيصرح به في قوله في الآية الآتية {أو سرحوهن بمعروف} [ البقرة : 231 ] فقال معقباً بالفاء {فإمساك} أي إن راجعها في عدة الثانية. قال الحرالي : هو من المسك وهو إحاطة تحبس الشيء ، ومنه المسك - بالفتح - للجلد {بمعروف} قال الحرالي فصرفهم بذلك عن ضرار الجاهلية الذي كانوا عليه بتكرير الطلاق إلى غير حد فجعل له حداً يقطع قصد الضرار - انتهى {أو تسريح} أي إن طلقها الثالثة ، ولا يملك بعد هذا التسريح عليها الرجعة لما كان عليه حال أهل الجاهلية. قال الحرالي : سمى الثالثة تسريحاً لأنه إرسال لغير معنى الأخذ كتسريح الشيء الذي لا يراد إرجاعه. وقال أيضاً : هو إطلاق الشيء على وجه لا يتهيأ للعود ، فمن أرسل البازي مثلاً ليسترده فهو مطلق ، ومن أرسله لا ليسترجعه فهو مسرح انتهى. ويجوز أن يراد بالتسريح عدم المراجعة من الثانية لا أنه طلقة ثالثة. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 430}
سبب نزول الآية
روى مالك في جامع الطلاق من "الموطأ" : "عن هشام بن عروة عن أبيه أنه قال : كان الرجل إذا طلق امرأته ثم ارتجعها قبل أن تنقضي عدتها كان له ذلك وإن طلقها ألفَ مرة فعمَد رجلٌ إلى امرأته فطلقها حتى إذا شارفت انقضاء عدتها راجعها ثم طلقها ثم قال والله لا آويك ولا تحلين أبداً فأنزل الله تعالى : {الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} فاستقبل الناس الطلاق جديداً من يومئذٍ من كان طلق منهم أو لم يطلق".
وروى أبو داود والنسائي عن ابن عباس قريباً منه.(6/281)
ورواه الحاكم في "مستدركه" إلى عروة بن الزبير عن عائشة قالت : لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس فقال : والله لا تركتك لا أَيماً ولا ذات زوج فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ففعل ذلك مراراً فأنزل الله تعالى : {الطلاق مرتان} ، وفي ذلك روايات كثيرة تقارب هذه ، وفي "سنن أبي داود" : باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث وأخرج حديث ابن عباس أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً فنسخ ذلك ونزل {الطلاق مرتان} ، فالآية على هذا إبطال لما كان عليه أهل الجاهلية ، وتحديد لحقوق البعولة في المراجعة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 403 ـ 404}
قال القرطبى :
الطلاق هو حَلّ العِصمة المنعقدةِ بين الأزواج بألفاظ مخصوصة. والطلاق مباح بهذه الآية وبغيرها ، وبقوله عليه السلام في حديث ابن عمر : " فإن شاء أمسك وإن شاء طلق " وقد طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حفصة ثم راجعها ؛ خرّجه ابن ماجه. وأجمع العلماء على أن من طلق امرأته طاهراً في طهر لم يمسها فيه أنه مطلِّق للسنّة ، وللعدّة التي أمر الله تعالى بها ، وأن له الرّجعة إذا كانت مدخولاً بها قبل أن تنقضي عدّتها ؛ فإذا انقضت فهو خاطب من الخُطّاب. فدل الكتاب والسنة وإجماع الأمّة على أن الطلاق مباح غير محظور. قال ابن المنذر : وليس في المنع منه خبر يثبت.
(6/282)
روى الدارقطنِيّ "حدّثني أبو العباس محمد بن موسى بن عليّ الدُّولابِيّ ويعقوب بن إبراهيم ، قالا حدّثنا الحسن بن عرفة حدّثنا إسماعيل بن عياش بن حميد بن مالك اللخميّ عن مكحول عن معاذ بن جبل قال قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا معاذ ما خلق الله شيئاً على وجه الأرض أحب إليه من العِتاق ولا خلق الله تعالى شيئاً على وجه الأرض أبغض إليه من الطلاق فإذا قال الرجل لمملوكه أنت حر إن شاء الله فهو حر ولا استثناء له وإذا قال الرجل لامرأته أنتِ طالق إن شاء الله فله استثناؤه ولا طلاق عليه " حدّثنا محمد بن موسى بن عليّ حدّثنا حميد بن الربيع حدّثنا يزيد بن هارون أنبأنا إسماعيل بن عياش بإسناده نحوه. قال حميد قال لي يزيد بن هارون : وأيّ حديث لو كان حميد بن مالك اللخميّ معروفا! قلت : هو جدِّي! قال يزيد : سررتني ، الآن صار حديثاً"!. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 126}
قال الفخر :
اختلف المفسرون في أن هذا الكلام حكم مبتدأ وهو متعلق بما قبله ، قال قوم : إنه حكم مبتدأ ، ومعناه أن التطليق الشرعي يجب أن يكون تطليقة بعد تطليقة على التفريق دون الجمع والإرسال دفعة واحدة ، وهذا التفسير هو قول من قال : الجمع بين الثلاث حرام ، وزعم أبو زيد الدبوسي في الأسرار : أن هذا هو قول عمر ، وعثمان ، وعلي ، وعبد الله بن مسعود ، وعبد الله ابن عباس ، وعبد الله بن عمر ، وعمران بن الحصين ، وأبي موسى الأشعري ، وأبي الدرداء وحذيفة.
والقول الأول : في تفسير الآية أن هذا ليس ابتداء كلام بل هو متعلق بما قبله ، والمعنى أن الطلاق الرجعي مرتان ، ولا رجعة بعد الثلاث ، وهذا التفسير هو قول من جوز الجمع بين الثلاث ، وهو مذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه.(6/283)
حجة القائلين بالقول الأول : أن لفظ الطلاق يفيد الاستغراق ، لأن الألف واللام إذا لم يكونا للمعهود أفادا الاستغراق ، فصار تقدير الآية : كل الطلاق مرتان ، ومرة ثالثة ، ولو قال هكذا لأفاد أن الطلاق المشروع متفرق ، لأن المرات لا تكون إلا بعد تفرق بالإجماع.
فإن قيل : هذه الآية وردت لبيان الطلاق المسنون ، وعندي الجمع مباح لا مسنون.
قلنا : ليس في الآية بيان صفة السنة ، بل كان تفسير الأصل الطلاق ، ثم قال هذا الكلام وإن كان لفظه لفظ الخبر ، إلا أن معناه هو الأمر ، أي طلقوا مرتين يعني دفعتين ، وإنما وقع العدول عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لما ذكرنا فيما تقدم أن التعبير عن الأمر بلفظ الخبر يفيد تأكيد معنى الأمر ، فثبت أن هذه الآية دالة على الأمر بتفريق الطلقات ، وعلى التشديد في ذلك الأمر والمبالغة فيه ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا على قولين الأول : وهو اختيار كثير من علماء الدين ، أنه لو طلقها اثنين أو ثلاثاً لا يقع إلا الواحدة ، وهذا القول هو الأقيس ، لأن النهي يدل على اشتمال المنهي عنه على مفسدة راجحة ، والقول بالوقوع سعى في إدخال تلك المفسدة في الوجود وأنه غير جائز ، فوجب أن يحكم بعدم الوقوع.
والقول الثاني : وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه : أنه وإن كان محرماً إلا أنه يقع ، وهذا منه بناء على أن النهي لا يدل على الفساد.
(6/284)
القول الثالث : في تفسير هذه الآية أن نقول : أنها ليست كلاماً مبتدأ ، بل هي متعلقة بما قبلها ، وذلك لأنه تعالى بين في الآية الأولى أن حق المراجعة ثابت للزوج ولم يذكر أن ذلك الحق ثابت دائماً أو إلى غاية معينة ، فكان ذلك كالمجمل المفتقر إلى المبين ، أو كالعام المفتقر إلى المخصص فبين في هذه الآية أن ذلك الطلاق الذي ثبت فيه للزوج حق الرجعة ، هو أن يوجد طلقتان فقط وأما بعد الطلقتين فلا يثبت ألبتة حق الرجعة بالألف واللام في قوله : الطلاق للمعهود السابق ، يعني ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة هو أن يوجد مرتين ، فهذا تفسير حسن مطابق لنظم الآية والذي يدل على أن هذا التفسير أولى لوجوه الأول : أن قوله : {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ} [ البقرة : 228 ] إن كان لكل الأحوال فهو مفتقر إلى المخصص ، وإن لم يكن عاماً فهو مجمل ، لأنه ليس فيه بيان الشرط الذي عنده يثبت حق الرجعة ، فيكون مفتقراً إلى البيان ، فإذا جعلنا الآية الثانية متعلقة بما قبلها كان المخصص حاصلاً مع العام المخصوص ، أو كان البيان حاصلاً مع المجمل ، وذلك أولى من أن لا يكون كذلك ، لأن تأخير البيان عن وقت الخطاب وإن كان جائزاً إلا أن الأرجح أن لا يتأخر.
الحجة الثانية : إذا جعلنا هذا الكلام مبتدأ ، كان قوله : {الطلاق مَرَّتَانِ} يقتضي حصر كل الطلاق في المرتين وهو باطل بالإجماع ، لا يقال : إنه تعالى ذكر الطلقة الثالثة ، وهو قوله : {أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} فصار تقدير الآية : الطلاق مرتان ومرة ، لأنا نقول : إن قوله : {أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} متعلق بقوله : {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} لا بقوله : {الطلاق مَرَّتَانِ} ولأن لفظ التسريح بالإحسان لا إشعار فيه بالطلاق ، ولأنا لو جعلنا التسريح هو الطلقة الثالثة ، لكان قوله فإن طلقها طلقة رابعة وإنه غير جائز.
(6/285)
الحجة الثالثة : ما روينا في سبب نزول هذه الآية ، إنها إنما نزلت بسبب امرأة شكت إلى عائشة رضي الله عنها أن زوجها يطلقها ويراجعها كثيراً بسبب المضارة ، وقد أجمعوا على أن سبب نزول الآية لا يجوز أن يكون خارجاً عن عموم الآية ، فكان تنزيل هذه الآية على هذا المعنى أولى من تنزيلها على حكم آخر أجنبي عنه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 82 ـ 84}
فائدة
قال ابن عاشور :
التعريف في قوله ( الطلاق ) تعريف الجنس على ما هو المتبادر في تعريف المصادر وفي مساق التشريع ، فإن التشريع يقصد بيان الحقائق الشرعية ، نحو قوله : {وأحل الله البيع} [ البقرة : 275 ] وقوله : {وإن عزموا الطلاق} [ البقرة : 227 ] وهذا التعريف هو الذي أشار صاحب "الكشاف" إلى اختياره ، فالمقصود هنا الطلاق الرجعي الذي سبق الكلام عليه آنفاً في قوله : {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك} [ البقرة : 228 ] فإنه الطلاق الأصلي ، وليس في أصل الشريعة طلاق بائن غير قابل للمراجعة لذاته ، إلاّ الطلقة الواقعة ثالثة ، بعد سبق طلقتين قبلها فإنها مبينة بعدُ وأما ما عداها من الطلاق البائن الثابت بالسنة ، فبينونته لحق عارض كحق الزوجة فيما تعطيه من مالها في الخلع ، ومثل الحق الشرعي في تطليق اللعان ، لمظنة انتفاء حسن المعاشرة بعد أن تَلاعنا ، ومثل حق المرأة في حكم الحاكم لها بالطلاق للإضرار بها ، وحُذف وصف الطلاق ، لأن السياق دال عليه ، فصار التقدير : الطلاق الرجعي مرتان.
وقد أخبر عن الطلاق بأنه مرتان ، فعلم أن التقدير : حق الزوج في إيقاع التطليق الرجعي مرتان ، فأما الطلقة الثالثة فليست برجعيّة.
(6/286)
وقد دل على هذا قوله تعالى بعد ذِكر المرتين : {فإمساك بمعروف} وقوله بعدهُ : {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجاً غيره} [ البقرة : 230 ] الآية وقد روي مثل هذا التفسير عن النبي صلى الله عليه وسلم روي أبو بكر بن أبي شيبة : " أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال أرأيت قول الله تعالى : {الطلاق مرتان} فأين الثالثة فقال رسول الله عليه السلام : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان " وسؤال الرجل عن الثالثة ، يقتضي أن نهاية الثلاث كانت حكماً معروفاً إِما من السنة وإِما من بقية الآية ، وإنما سأل عن وجه قوله ( مرتان ) ولما كان المراد بيان حكم جنس الطلاق ، باعتبار حصوله من فاعله ، وهو إنما يحصل من الأزواج كان لفظ الطلاق آيلاً إلى معنى التطليق ، كما يؤول السلام إلى معنى التسليم.
وقوله {مرتان} ، تثنية مرة ، والمرة في كلامهم الفعلة الواحدة من موصوفها أو مضافها ، فهي لا تقع إلا جارية على حدث ، بوصف ونحوه ، أو بإضافة ونحوها ، وتقع مفردة ، ومثناة ، ومجموعة ، فتدل على عدم تكرر الفعل ، أو تكرر فعله تكرراً واحداً ، أو تكرره تكرراً متعدداً ، قال تعالى : {سنعذبهم مرتين} [ التوبة : 101 ] وتقول العرب "نهيتك غير مرة فلم تنته" أي مراراً ، وليس لفظ المرة بمعنى الواحدة من الأشياء الأعيان ، ألا ترى أنك تقول : أعطيتك درهماً مرتين ، إذا أعطيته درهماً ثم درهما ، فلا يفهم أنك أعطيته درهمين مقترنين ، بخلاف قولك أعطيتك درهمين.
(6/287)
فقوله تعالى : {الطلاق مرتان} يفيد أن الطلاق الرجعي شرع فيه حق التكرير إلى حد مرتين ، مرة عقب مرة أخرى لا غير ، فلا يتوهم منه في فهم أهل اللسان أن المراد : الطلاق لا يقع إلا طلقتين مقترنتين لا أكثر ولا أقل ، ومن توهم ذلك فاحتاج إلى تأويل لدفعه فقد أبعد عن مجاري الاستعمال العربي ، ولقد أكثر جماعة من متعاطي التفسير الاحتمالات في هذه الآية والتفريع عليها ، مدفوعين بأفهام مولدة ، ثم طبقوها على طرائق جدلية في الاحتجاج لاختلاف المذاهب في إثبات الطلاق البدعي أو نفيه ، وهم في إرخائهم طِوَل القول ناكبون عن معاني الاستعمال ، ومن المحققين من لم يفته المعنى ولم تف به عبارته كما وقع في "الكشاف".
ويجوز أن يكون تعريف الطلاق تعريف العهد ، والمعهود هو ما يستفاد من قوله تعالى : {والمطلقات يتربصن إلى قوله وبعولتهن أحق بردهن} [ البقرة : 228 ] فيكون كالعهد في تعريف الذَّكَر في قوله تعالى : {وليس الذكر كالأنثى} [ آل عمران : 36 ] فإنه معهود مما استفيد من قوله : {إني نذرت لك ما في بطني} [ آل عمران : 35 ].
وقوله : {فإمساك بمعروفٍ} جملة مفرعة على جملة {الطلاق مرتان} فيكون الفاء للتعقيب في مجرد الذكر ، لا في وجود الحكم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 404 ـ 405}
فائدة
قال ابن الجوزى :
الطلاق على أربعة أضرب :
واجب ، ومندوب إليه ، ومحظور ، ومكروه.
فالواجب : طلاق المؤلي بعد التربص ، إذا لم يفئ ، وطلاق الحكمين في شقاق الزوجين ، إذا رأيا الفرقة.
والمندوب : إذا لم يتفقا ، واشتدَّ الشقاق بينهما ، ليتخلصا من الإثم.
والمحظور : في الحيض ، إذا كانت مدخولاً بها ، وفي طهر جامعها فيه قبل أن تطهر.
والمكروه : إذا كانت حالهما مستقيمة ، وكل واحد منهما قيم بحق صاحبه. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 264}(6/288)
فائدة
قال الجصاص :
وقَوْله تَعَالَى : {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} وَإِنْ كَانَ ظَاهِرُهُ الْخَبَرَ فَإِنَّ مَعْنَاهُ الْأَمْرُ ، كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ} وَمَا جَرَى هَذَا الْمَجْرَى مِمَّا هُوَ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ وَمَعْنَاهُ الْأَمْرُ وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهُ أَمْرٌ وَلَيْسَ بِخَبَرٍ ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَوُجِدَ مُخْبَرُهُ عَلَى مَا أُخْبِرَ بِهِ ؛ لِأَنَّ أَخْبَارَ اللَّهِ لَا تَنْفَكُّ مِنْ وُجُودِ مُخْبَرَاتهَا ؛ فَلَمَّا وَجَدْنَا النَّاسَ قَدْ يُطَلِّقُونَ الْوَاحِدَةَ وَالثَّلَاثَ مَعًا ، وَلَوْ كَانَ قَوْله تَعَالَى : {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} اسْمًا لِلْخَبَرِ لَاسْتَوْعَبَ جَمِيعَ مَا تَحْتَهُ ، ثُمَّ وَجَدْنَا فِي النَّاسِ مَنْ يُطَلِّقُ لَا عَلَى الْوَجْهِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَةِ ، عَلِمْنَا أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الْخَبَرَ وَأَنَّهُ تَضَمَّنَ أَحَدَ مَعْنَيَيْنِ : إمَّا الْأَمْرُ بِتَفْرِيقِ الطَّلَاقِ مَتَى أَرَدْنَا الْإِيقَاعَ ، أَوْ الْإِخْبَارُ عَنْ الْمَسْنُونِ الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ مِنْهُ.
وَأَوْلَى الْأَشْيَاءِ حَمْلُهُ عَلَى الْأَمْرِ ؛ إذْ قَدْ ثَبَتَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ حَقِيقَةَ الْخَبَرِ ؛ لِأَنَّهُ حِينَئِذٍ يَصِيرُ بِمَعْنَى قَوْلِهِ " طَلِّقُوا مَرَّتَيْنِ مَتَى أَرَدْتُمْ الطَّلَاقَ " وَذَلِكَ يَقْتَضِي الْإِيجَابَ ، وَإِنَّمَا يَنْصَرِفُ إلَى النَّدْبِ بِدَلَالَةٍ ، وَيَكُونُ كَمَا قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {الصَّلَاةُ مَثْنَى مَثْنَى وَالتَّشَهُّدُ فِي كُلِّ رَكْعَتَيْنِ وَتَمَسْكُنٌ وَخُشُوعٌ} فَهَذِهِ صِيغَةُ الْخَبَرِ ، وَالْمُرَادُ الْأَمْرُ بِالصَّلَاةِ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ.
(6/289)
وَعَلَى أَنَّهُ إنْ حُمِلَ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بَيَانُ الْمَسْنُونِ
مِنْ الطَّلَاقِ كَانَتْ دَلَالَتُهُ قَائِمَةً عَلَى حَظْرِ جَمْعِ الِاثْنَيْنِ أَوْ الثَّلَاثِ ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : {الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ} مُنْتَظِمٌ لِجَمِيعِ الطَّلَاقِ الْمَسْنُونِ ، فَلَا يَبْقَى شَيْءٌ مِنْ مَسْنُونِ الطَّلَاقِ إلَّا وَقَدْ انْطَوَى تَحْتَ هَذَا اللَّفْظِ ، فَإِذَا مَا خَرَجَ عَنْهُ فَهُوَ عَلَى خِلَافِ السُّنَّةِ ، فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ مَنْ جَمَعَ اثْنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثًا فِي كَلِمَةٍ فَهُوَ مُطَلِّقٌ لِغَيْرِ السُّنَّةِ.
فَانْتَظَمَتْ هَذِهِ الْآيَةُ الدَّلَالَةَ عَلَى مَعَانٍ : مِنْهَا أَنَّ مَسْنُونَ الطَّلَاقِ التَّفْرِيقُ بَيْنَ أَعْدَادِ الثَّلَاثِ إذَا أَرَادَ أَنْ يُطَلِّقَ ثَلَاثًا.
وَمِنْهَا أَنَّ لَهُ أَنْ يُطَلِّقَ اثْنَتَيْنِ فِي مَرَّتَيْنِ.
وَمِنْهَا أَنَّ مَا دُونَ الثَّلَاثِ تَثْبُتُ مَعَهُ الرَّجْعَةُ.
وَمِنْهَا أَنَّهُ إذَا طَلَّقَ اثْنَتَيْنِ فِي الْحَيْضِ وَقَعَتَا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بِوُقُوعِهِمَا.
وَمِنْهَا أَنَّهُ نَسَخَ هَذِهِ الْآيَةَ الزِّيَادَةَ عَلَى الثَّلَاثِ ، عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا يُطَلِّقُونَ مَا شَاءُوا مِنْ الْعَدَدِ ثُمَّ يُرَاجِعُونَ ، فَقُصِرُوا عَلَى الثَّلَاثِ وَنُسِخَ بِهِ مَا زَادَ.
(6/290)
فَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلَالَةٌ عَلَى حُكْمِ الْعَدَدِ الْمَسْنُونِ مِنْ الطَّلَاقِ ، وَلَيْسَ فِيهَا ذِكْرُ الْوَقْتِ الْمَسْنُونِ فِيهِ إيقَاعُ الطَّلَاقِ ، وَقَدْ بَيَّنَ اللَّهُ ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى : {فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} وَبَيَّنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ طَلَاقَ الْعِدَّةِ { ، فَقَالَ لِابْنِ عُمَرَ حِينَ طَلَّقَ امْرَأَتَهُ وَهِيَ حَائِضٌ : مَا هَكَذَا أَمَرَك اللَّهُ إنَّمَا طَلَاقُ الْعِدَّةِ أَنْ تُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا وَقَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا فَتِلْكَ الْعِدَّةُ الَّتِي أَمَرَ اللَّهُ أَنْ يُطَلَّقَ لَهَا النِّسَاءُ} ؛ فَكَانَ طَلَاقُ السُّنَّةِ مَعْقُودًا بِوَصْفَيْنِ : أَحَدُهُمَا : الْعَدَدُ ، وَالْآخَرُ : الْوَقْتُ.
فَأَمَّا الْعَدَدُ فَأَنْ لَا يَزِيدَ فِي طُهْرٍ وَاحِدٍ عَلَى وَاحِدَةٍ ، وَأَمَّا الْوَقْتُ فَأَنْ يُطَلِّقَهَا طَاهِرًا مِنْ غَيْرِ جِمَاعٍ أَوْ حَامِلًا قَدْ اسْتَبَانَ حَمْلُهَا. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 74 ـ 75}(6/291)
قوله تعالى : {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان}
قال الفخر :
تقدير الآية ذلك الطلاق الذي حكمنا فيه بثبوت الرجعة للزوج ، هو أن يوجد مرتان ، ثم الواجب بعد هاتين المرتين إما إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، ومعنى الإمساك بالمعروف هو أن يراجعها لا على قصد المضارة ، بل على قصد الإصلاح والإنفاع ، وفي معنى الآية وجهان أحدهما : أن توقع عليها الطلقة الثالثة ، " روي أنه لما نزل قوله تعالى : {الطلاق مَرَّتَانِ} قيل له صلى الله عليه وسلم : فأين الثالثة ؟ فقال صلى الله عليه وسلم : هو قوله : {أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} " والثاني : أن معناه أن يترك المراجعة حتى تبين بانقضاء العدة ، وهو مروي عن الضحاك والسدي.
واعلم أن هذا الوجه هو الأقرب لوجوه أحدها : أن الفاء في قوله : {فَإِن طَلَّقَهَا} [ البقرة : 230 ] تقتضي وقوع الطلقة متأخرة عن ذلك التسريح ، فلو كان المراد بالتسريح هو الطلقة الثالثة ، لكان قوله : فإن طلقها طلقة رابعة وأنه لا يجوز وثانيها : أنا لو حملنا التسريح على ترك المراجعة كانت الآية متناولة لجميع الأحوال ، لأنه بعد الطلقة الثانية ، إما أن يراجعها وهو المراد بقوله : {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} أو لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة وهو المراد بقوله : {أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} أو يطلقها وهو المراد بقوله : {فَإِن طَلَّقَهَا} فكانت الآية مشتملة على بيان كل الأقسام ، أما لو جعلنا التسريح بالإحسان طلاقاً آخر لزم ترك أحد الأقسام الثلاث ، ولزم التكرير في ذكر الطلاق وأنه غير جائز وثالثها : أن ظاهر التسريح هو الإرسال والإهمال فحمل اللفظ على ترك المراجعة أولى من حمله على التطليق ورابعها : أنه قال بعد ذكر التسريح {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} والمراد به الخلع ، ومعلوم أنه لا يصح الخلع بعد أن طلقها الثالثة ، فهذه الوجوه ظاهرة لو لم يثبت الخبر الذي رويناه في صحة ذلك القول ، فإن صح ذلك الخبر فلا مزيد عليه.(6/292)
واعلم أن المراد من الإحسان ، هو أنه إذا تركها أدى إليها حقوقها المالية ، ولا يذكرها بعد المفارقة بسوء ولا ينفر الناس عنها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 84 ـ 85}
فوائد لغوية
قال ابن عاشور :
و ( إمساك ) خبر مبتدأ محذوف تقديره فالشأن أو فالأمر إمساك بمعروف أو تسريح على طريقة {فصبر جميل} [ يوسف : 18 ] وإذ قد كان الإمساك والتسريح ممكنين عند كل مرة من مرتي الطلاق ، كان المعنى فإمساك أو تسريح في كل مرة من المرتين ، أي شأن الطلاق أن تكون كل مرة منه معقبة بإرجاع بمعروف أو ترك بإحسان ، أي دون ضرار في كلتا الحالتين.
وعليه فإمساك وتسريح مصدران ، مراد منهما الحقيقة والاسم ، دون إرادة نيابة عن الفعل ، والمعنى أن المطلق على رأس أمره فإن كان راغباً في امرأته فشأنه إمساكها أي مراجعتها ، وإن لم يكن راغباً فيها فشأنه ترك مراجعتها فتسرح ، والمقصود من هذه الجملة إدماج الوصاية بالإحسان في حال المراجعة ، وفي حال تركها ، فإن الله كتب الإحسان على كل شيء ، إبطالاً لأفعال أهل الجاهلية ؛ إذ كانوا قد يراجعون المرأة بعد الطلاق ثم يطلقونها دَوَالَيْك ، لتبقى زمناً طويلاً في حالة ترك إضراراً بها ، إذ لم يكن الطلاق عندهم منتهياً إلى عدد لا يملك بعده المراجعة ، وفي هذا تمهيد لما يرد بعده من قوله : {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً الآية.
ويجوز أن يكون إمساك وتسريح مصدرين جعلا بدلين من فعليهما ، على طريقة المفعول المطلق الآتي بدلاً من فعله ، وأصلهما النصب ، ثم عدل عن النصب إلى الرفع لإفادة معنى الدوام ، كما عدل عن النصب إلى الرفع في قوله تعالى : {قال سلامٌ} [ هود : 69 ] وقد مضى أول سورة الفاتحة ، فيكون مفيداً معنى الأمر بالنيابة عن فعله ، ومفيداً الدوام بإيراد المصدرين مرفوعين ، والتقدير فأمسكوا أو سرحوا.(6/293)
فتبين أن الطلاق حدد بمرتين ، قابلة كل منهما للإمساك بعدها ، والتسريح بإحسان توسعة على الناس ليرتأوا بعد الطلاق ما يليق بحالهم وحال نسائهم ، فلعلهم تعرض لهم ندامة بعد ذوق الفراق ويحسوا ما قد يغفلون عن عواقبه حين إنشاء الطلاق ، عن غضب أو عن ملالة ، كما قال تعالى : {لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} [ الطلاق : 1 ] وقوله : {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا آيات الله هزواً} [ البقرة : 231 ] وليس ذلك ليتخذوه ذريعة للإضرار بالنساء كما كانوا يفعلون قبل الإسلام.
وقد ظهر من هذا أن المقصود من الجملة هو الإمساك أو التسريح المطْلَقين وأما تقييد الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان ، فهو إدماج لوصية أخرى في كلتا الحالتين ، إدماجاً للإرشاد في أثناء التشريع.
وقدم الإمساك على التسريح إيماء إلى أنه الأهم ، المرغب فيه في نظر الشرع.
والإمساك حقيقته قبض اليد على شيء مخافة أن يسقط أو يتفلت ، وهو هنا استعارة لدوام المعاشرة.
والتسريح ضد الإمساك في معنييه الحقيقي والمجازي ، وهو مستعار هنا لإبطال سبب المعاشرة بعد الطلاق ، وهو سبب الرجعة ثم استعارة ذلك الإبطال للمفارقة فهو مجاز بمرتبتين.
والمعروف هنا هو ما عرفه الناس في معاملاتهم من الحقوق التي قررها الإسلام أو قررتها العادات التي لا تنافي أحكام الإسلام.
وهو يناسب الإمساك لأنه يشتمل على أحكام العصمة كلها من إحسان معاشرة ، وغير ذلك ، فهو أعم من الإحسان.
وأما التسريح فهو فراق ومعروفه منحصر في الإحسان إلى المفارقة بالقول الحسن والبذل بالمتعة ، كما قال تعالى : {فمتعوهن وسرحوهن سراحاً جميلاً} [ الأحزاب : 49 ] وقد كان الأزواج يظلمون المطلقات ويمنعونهن من حليهن ورياشهن ، ويكثرون الطعن فيهن. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 405 ـ 407}
سؤال : ما الحكمة في إثبات حق الرجعة ؟ (6/294)
الجواب : الحكمة في إثبات حق الرجعة أن الإنسان ما دام يكون مع صاحبه لا يدري أنه هل تشق عليه مفارقته أو لا فإذا فارقه فعند ذلك يظهر ، فلو جعل الله الطلقة الواحدة مانعة من الرجوع لعظمت المشقة على الإنسان بتقدير أن تظهر المحبة بعد المفارقة ، ثم لما كان كمال التجربة لا يحصل بالمرة الواحدة ، فلا جرم أثبت تعالى حق المراجعة بعد المفارقة مرتين ، وعند ذلك قد جرب الإنسان نفسه في تلك المفارقة وعرف حال قلبه في ذلك الباب ، فإن كان الأصلح إمساكها راجعها وأمسكها بالمعروف ، وإن كان الأصلح له تسريحها سرحها على أحسن الوجوه وهذا التدريج والترتيب يدل على كمال رحمته ورأفته بعبده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 85}
فصل
قال القرطبى : (6/295)
ترجم البخاريّ على هذه الآية "باب من أجاز الطلاق الثلاث بقوله تعالى : الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان" وهذا إشارة منه إلى أن هذا التعديد إنما هو فُسْحَة لهم ؛ فمن ضيّق على نفسه لزمه. قال علماؤنا : واتفق أئمة الفتوى على لزوم إيقاع الطلاق الثلاث في كلمة واحدة ؛ وهو قول جمهور السلف ، وشذّ طاوس وبعض أهل الظاهر إلى أن طلاق الثلاث في كلمة واحدة يقع واحدة ؛ ويروى هذا عن محمد بن إسحاق والحجاج بن أرطاة. وقيل عنهما : لا يلزم منه شيء ؛ وهو قول مقاتل. ويحكى عن داود أنه قال لا يقع. والمشهور عن الحجاج بن أرطاة وجمهور السلف والأئمة أنه لازم واقع ثلاثاً. ولا فرق بين أن يوقع ثلاثاً مجتمعة في كلمة أو متفرّقة في كلمات ؛ فأما من ذهب إلى أنه لا يلزم منه شيء فاحتج بدليل قوله تعالى : {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [ البقرة : 228 ]. وهذا يعُمُّ كل مطلقة إلا ما خص منه ؛ وقد تقدّم. وقال : {الطلاق مَرَّتَانِ} والثالثة {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}. ومن طلق ثلاثاً في كلمة فلا يلزم ؛ إذ هو غير مذكور في القرآن. وأما من ذهب إلى أنه واقع واحدةً فاستدل بأحاديث ثلاثةٍ : أحدها حديث ابن عباس من رواية طاوس وأبي الصَّهْباء وعكرمة. وثانيها حديث ابن عمر على رواية من روى أنه طلق امرأته ثلاثاً ، وأنه عليه السلام أمره برجعتها واحتسبت له واحدة. وثالثها أن رُكَانَة طلق امرأته ثلاثاً فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم برجعتها ؛ والرجعة تقتضي وقوع واحدة. والجواب عن الأحاديث ما ذكره الطحاويّ أن سعيد بن جبير ومجاهداً وعطاء وعمرو بن دينار ومالك بن الحويرث ومحمد بن إياس بن البُكَيْر والنعمان بن أبي عياش رووا عن ابن عباس فيمن طلق امرأته ثلاثاً أنه قد عصى ربه وبانت منه امرأته ، ولا ينكحها إلا بعد زوج ؛ وفيما رواه هؤلاء الأئمة عن ابن عباس مما يوافق الجماعة ما يدل على(6/296)
وهن رواية طاوس وغيره ؛ وما كان ابن عباس ليخالف الصحابة إلى رأي نفسه.
قال ابن عبد البر : ورواية طاوس وَهْمٌ وغلط لم يعرج عليها أحد من فقهاء الأمصار بالحجاز والشام والعراق والمشرق والمغرب ؛ وقد قيل : إن أبا الصهباء لا يعرف في موالي ابن عباس. قال القاضي أبو الوليد الباجي : "وعندي أن الرواية عن ابن طاوس بذلك صحيحة ، فقد روى عنه الأئمة : مَعْمَر وابن جريج وغيرهما ؛ وابن طاوس إمام. والحديث الذي يشيرون إليه هو ما رواه ابن طاوس عن أبيه عن ابن عباس قال : كان الطلاق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وسنتين من خلافة عمر بن الخطاب طلاق الثلاث واحدة ؛ فقال عمر رضي الله عنه : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ؛ فلو أمضيناه عليهم! فأمضاه عليهم. ومعنى الحديث أنهم كانوا يوقِعون طلقة واحدة بدل إيقاع الناس الآن ثلاث تطليقات ؛ ويدل على صحة هذا التأويل أن عمر قال : إن الناس قد استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة ؛ فأنكر عليهم أن أحدثوا في الطلاق استعجال أمر كانت لهم فيه أناة ؛ فلو كان حالهم ذلك في أوّل الإسلام في زمن النبيّ صلى الله عليه وسلم ما قاله ، ولا عاب عليهم أنهم استعجلوا في أمر كانت لهم فيه أناة. ويدل على صحة هذا التأويل ما روي عن ابن عباس من غير طريقٍ أنه أفتى بلزوم الطلاق الثلاث لمن أوقعها مجتمعة ؛ فإن كان هذا معنى حديث ابن طاوس فهو الذي قلناه ، وإن حمل حديث ابن عباس على ما يتأوّل فيه من لا يُعْبأ بقوله فقد رجع ابن عباس إلى قول الجماعة وانعقد به الإجماع ؛ ودليلنا من جهة القياس أن هذا طلاق أوقعه من يملكه فوجب أن يُلزَمه ، أصل ذلك إذا أوقعه مفرداً".(6/297)
قلت : ما تأوّله الباجيّ هو الذي ذكر معناه الكيا الطبريّ عن علماء الحديث ؛ أي إنهم كانوا يطلّقون طلقة واحدة هذا الذي يطلّقون ثلاثاً ، أي ما كانوا يطلقون في كل قرء طلقة ؛ وإنما كانوا يطلقون في جميع العدّة واحدة إلى أن تَبِين وتنقضي العدّة. وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب : معناه أن الناس كانوا يقتصرون على طلقة واحدة ، ثم أكثروا أيام عمر من إيقاع الثلاث. قال القاضي : وهذا هو الأشبه بقول الراوي : إن الناس في أيام عمر استعجلوا الثلاث فعَجّل عليهم ؛ معناه ألزمهم حكمها.(6/298)
وأما حديث ابن عمر فإن الدارقطنِيّ روى عن أحمد بن صبيح عن طريف بن ناصح عن معاوية بن عمار الدهنيّ عن أبي الزبير قال : سألت ابن عمر عن رجل طلق امرأته ثلاثاً وهي حائض ؛ فقال لي : أتعرف ابن عمر ؟ قلت : نعم ؛ قال : طلقت امرأتي ثلاثاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ( وهي حائض ) فردّها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السُّنّة. فقال الدارقطنيّ : كلهم من الشيعة ؛ والمحفوظ أن ابن عمر طلق امرأته واحدة في الحيض. قال عبيد الله : وكان تطليقه إياها في الحيض واحدة غير أنه خالف السنة. وكذلك قال صالح بن كيسان وموسى بن عقبة وإسماعيل بن أُمية وليث بن سعد وابن أبي ذئب وابن جريج وجابر وإسماعيل بن إبراهيم بن عقبة عن نافع : أن ابن عمر طلق تطليقة واحدة. وكذا قال الزهريّ عن سالم عن أبيه ويونس بن جبير والشعبيّ والحسن. وأما حديث رُكَانَة فقيل : إنه حديث مضطرب منقطع ، لا يستند من وجه يحتج به ؛ رواه أبو داود من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع ، وليس فيهم من يحتج به ، عن عكرمة " عن ابن عباس. وقال فيه : إن رُكانة بن عبد يزيد طلق امرأته ثلاثاً ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أرجعها" " وقد رواه أيضاً من طرق عن نافع بن عجير أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته البتة فاستحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد بها ؟ فحلف ما أراد إلا واحدة ؛ فردّها إليه. فهذا اضطراب في الاسم والفعل ؛ ولا يحتج بشيء من مثل هذا.(6/299)
قلت : قد أخرج هذا الحديث من طرقٍ الدّارقطنيّ في سننه ؛ قال في بعضها : "حدّثنا محمد بن يحيى بن مِرداس حدّثنا أبو داود السجستانيّ حدّثنا أحمد ابن عمرو بن السرح وأبو ثور إبراهيم بن خالد الكلبيّ وآخرون قالوا : حدّثنا محمد بن إدريس الشافعي حدّثني عمى محمد بن علي بن شافع عن عبد الله بن عليّ بن السائب " عن نافع بن عجير ابن عبد يزيد : أن ركانة ابن عبد يزيد طلق امرأته سُهَيْمة المزنية البَتّة ؛ فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ؛ فقال : والله ما أردت إلا واحدة ؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "والله ما أردت إلا واحدة" ؟ فقال رُكانة : والله ما أردت بها إلا واحدة ؛ فردّها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم " ؛ فطلقها الثانية في زمان عمر بن الخطاب ، والثالثة في زمان عثمان. قال أبو داود : هذا حديث صحيح". فالذي صح من حديث ركانة أنه طلق امرأته البتة لا ثلاثاً ؛ وطلاق البتّةِ قد اختلف فيه على ما يأتي بيانه فسقط الاحتجاج والحمد لله ، والله أعلم. وقال أبو عمر : رواية الشافعيّ لحديث ركانة عن عمه أتمّ ، وقد زاد زيادة لا تردّها الأُصول ؛ فوجب قبولها لثقة ناقليها ، والشافعيّ وعمه وجدّه أهل بيت ركانة ، كلهم من بني عبد المطلب بن عبد مناف وهم أعلم بالقصة التي عرضت لهم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 132}
قوله تعالى : {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آَتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}
المناسبة
قال البقاعى : (6/300)
ولما كان مقصود النكاح حسن الصحبة وكانت من الرجل الإمتاع بالنفس والمال وكان الطلاق منعاً للإمتاع بالنفس قال : {بإحسان} تعريضاً بالجبر بالملل لئلا يجتمع منعان : منع النفس وذات اليد - أفاده الحرالي وقال : ففيه بوجه ما تعريض بما صرحت به آية المتعة الآتية - انتهى. ومن ذلك بذل الصداق كاملاً وأن لا يشاححها في شيء لها فيه حق مع طيب المقال وكرم الفعال.
ولما كان سبحانه وتعالى قد خيره بين شيئين : الرجعة والتسريح الموصوفين وكانت الرجعة أقرب إلى الخير بدأ بها ولكنها لما كانت قد تكون لأجل الافتداء بما أعطيته المرأة وكان أخذه أو شيئاً منه مشاركاً للسراح في أنه يقطع عليه ما كان له من ملك الرجعة ولا يملك بعد هذا التسريح عليها الرجعة كما كان عليه حال أهل الجاهلية وكان الافتداء قد يكون في الأولى لم يفرعها بالقابل قال مشيراً إلى أن من إحسان التسريح سماح الزوج بما أعطاها عاطفاً على ما تقديره : فلا يحل لكم مضارتهن : {ولا يحل لكم} أي أيها المطلقون أو المتوسطون من الحكام وغيرهم لأنهم لما كانوا آمرين عدوا آخذين {أن تأخذوا} إحساناً في السراح {مما آتيتموهن} من صداق وغيره {شيئاً} أي بدون مخالفة. قال الحرالي : لأن إيتاء الرجل للمرأة إيتاء نحلة لإظهار مزية الدرجة لا في مقابلة الانتفاع فلذلك أمضاه ولم يرجع منه شيئاً ولذلك لزم في النكاح الصداق لتظهر مزية الرجل بذات اليد كما ظهرت في ذات النفس - انتهى.(6/301)
ولما كان إسناد الخوف إلى ضمير الجمع ربما ألبس قال : {إلا أن يخافا} نصاً على المراد بالإسناد إلى الزوجين ، وعبر عن الظن بالخوف تحذيراً من عذاب الله ، وعبر في هذا الاستثناء إن قلنا إنه منقطع بأداة المتصل تنفيراً من الأخذ ومعنى البناء للمفعول في قراءة حمزة وأبي جعفر ويعقوب إلا أن يحصل لهما أمر من حظ أو شهوة يضطرهما إلى الخوف من التقصير في الحدود ، ولا مفهوم للتقييد بالخوف لأنه لا يتصور من عاقل أن يفتدي بمال من غير أمر محوج ومتى حصل المحوج كان الخوف ومتى خاف أحدهما خافا لأنه متى خالفه الآخر حصل التشاجر المثير للحظوظ المقتضية للإقدام على ما لا يسوغ والله سبحانه وتعالى أعلم {ألا يقيما} أي في الاجتماع {حدود الله} العظيم فيفعل كل منهما ما وجب عليه من الحق.(6/302)
قال الحرالي : وفي إشعاره أن الفداء في حكم الكتاب مما أخذت الزوجة من زوجها لا من غير ذلك من مالها ، والحدود جمع حد وهو النهاية في المتصرف المانع من الزيادة عليه - انتهى. ثم زاد الأمر بياناً لأنه في مقام التحديد فقال مسنداً إلى ضمير الجمع حثاً على التحقق ليحل الفداء حلاً نافياً لجميع الحرج : {فإن خفتم} أي أيها المتوسطون بينهما من الحكام وغيرهم من الأئمة بما ترون منهما وما يخبرانكم به عن أنفسهما {ألا يقيما حدود الله} وتكرير الاسم الأعظم يدل على رفعة زائدة لهذا المقام ، وتعظيم كبير لهذه لأحكام ، وحث عظيم على التقيد في هذه الرسوم بالمراعاة والالتزام ، وذلك لأن كل إنسان مجبول على تقديم نفسه على غيره ، والشرع كله مبني على العدل الذي هو الإنصاف ومحبة المرء لغيره ما يحب لنفسه {فلا جناح} أي ميل بإثم {عليهما} وسوغ ذلك أن الظن شبهة فإنك لا تخاف ما لا تظنه {فيما افتدت به} أي لا على الزوج بالأخذ ولا عليها بالإعطاء سواء كان ذلك مما آتاها أو من غيره أكثر منه أو لا لأن الخلع عقد معاوضة فكما جاز لها أن تمتنع من أول العقد حتى ترضى ولو بأكثر من مهر المثل فكذا في الخلع يجوز له أن لا يرضى إلا بما في نفسه كائناً ما كان ويكون ذلك عما كان يملكه عليها من الرجعة ، فإذا أخذه بانت المرأة فصارت أحق بنفسها فلا سبيل عليها إلا بإذنها. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 431 ـ 432}
قال الفخر : (6/303)
اعلم أن هذا هو الحكم الرابع من أحكام الطلاق وهو بيان الخلع ، واعلم أنه تعالى لما أمر أن يكون التسريح مقروناً بالإحسان ، بين في هذه الآية أن من جملة الإحسان أنه إذا طلقها لا يأخذ منها شيئاً من الذي أعطاها من المهر والثياب وسائر ما تفضل به عليها ، وذلك لأنه ملك بضعها ، واستمتع بها في مقابلة ما أعطاها ، فلا يجوز أن يأخذ منها شيئاً ، ويدل في هذا النهي أن يضيق عليها ليلجئها إلى الافتداء ، كما قال في سورة النساء : {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ} [ النساء : 19 ] وقوله ههنا : {إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} هو كقوله هناك : {إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيّنَةٍ} فثبت أن الإتيان بالفاحشة المبينة قد يكون بالبذاء وسوء الخلق ، ونظيره قوله تعالى : {لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بفاحشة مُّبَيّنَةٍ} [ الطلاق : 1 ] فقيل المراد من الفاحشة المبينة البذاء على أحمائها وقال أيضاً : {فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً} [ النساء : 20 ] فعظم في أخذ شيء من ذلك بعد الإفضاء.
فإن قيل : لمن الخطاب في قوله : {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ} فإن كان للأزواج لم يطابقه قوله : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} وإن قلت للأئمة والحكام فهؤلاء لا يأخذون منهن شيئاً.
قلنا : الأمران جائزان فيجوز أن يكون أول الآية خطاباً للأزواج وآخرها خطاباً للأئمة والحكام ، وذلك غير غريب في القرآن ، ويجوز أن يكون الخطاب كله للأئمة والحكام ، لأنهم هم الذين يأمرون بالأخذ والإيتاء عند الترافع إليهم فكأنهم هم الآخذون والمؤتون. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 85}
قال ابن عاشور : (6/304)
قوله تعالى {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله}.
يجوز أن تكون الواو اعتراضية ، فهو اعتراض بين المتعاطفين ، وهما قوله : {فإمساك} وقوله {فإن طلقها} ويجوز أن تكون معطوفة على {أو تسريح بإحسان} لأن من إحسان التسريح ألا يأخذ المسرح وهو المطلق عوضاً عن الطلاق ، وهذه مناسبة مجىء هذا الاعتراض ، وهو تفنن بديع في جمع التشريعات والخطاب للأمة ، ليأخذ منه كل أفرادها ما يختص به ، فالزوج يقف عن أخذ المال ، وولي الأمر يحكم بعدم لزومه ، وولي الزوجة أو كبير قبيلة الزوج يسعى ويأمر وينهى ( وقد كان شأن العرب أن يلي هذه الأمور ذوو الرأي من قرابة الجانبين ) وبقية الأمة تأمر بالامتثال لذلك ، وهذا شأن خطابات القرآن في التشريع كقوله : {ولا تؤتوا السفهاء أموالكم} إلى قوله : {وارزقوهم فيها} [ النساء : 5 ] وإليه أشار صاحب "الكشاف".
وقال ابن عطية والقرطبي وصاحب "الكشاف" : الخطاب في قوله : {ولا يحل لكم} للأزواج بقرينة قوله {أن تأخذوا} وقوله : {أتيتموهن} والخطاب في قوله : {فإن خفتم ألا تقيما حدود الله} للحكام ، لأنه لو كان للأزواج لقيل : فإن خفتم ألا تقيموا أو ألا تقيما ، قال في "الكشاف" : "ونحو ذلك غير عزيز في القرآن" أ هـ يعني لظهور مرجع كل ضمير من قرائن المقام ونظره في "الكشاف" بقوله تعالى في سورة الصف ( 13 ) {وبشر المؤمنين} على رأي صاحب الكشاف} ، إذ جعله معطوفاً على {تؤمنون بالله ورسوله} إلخ لأنه في معنى آمنوا وجاهدوا أي فيكون معطوفاً على الخطابات العامة للأمة ، وإن كان التبشير خاصاً به الرسول صلى الله عليه وسلم لأنه لا يتأتى إلا منه.(6/305)
وأظهر من تنظير صاحب "الكشاف" أن تنظره بقوله تعالى فيما يأتي : {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} [ البقرة : 232 ] إذ خوطب فيه المطلّق والعاضل ، وهما متغايران.
والضمير المؤنث في {أتيتموهن} راجع إلى {المطلقات} ، المفهوم من قوله : {الطلاق مرتان} لأن الجنس يقتضي عدداً من المطلقين والمطلقات ، وجوز في "الكشاف" أن يكون الخطاب كله للحكام وتأول قوله : {أن تأخذوا}.
وقوله : {مما أتيتموهن} بأن إسناد الأخذ والإتيان للحكام ، لأنهم الذين يأمرون بالأخذ والإعطاء ، ورجحه البيضاوي بسلامته من تشويش الضمائر بدون نكتة التفات ووهنه صاحب "الكشاف" وغيره بأن الخلع قد يقع بدون ترافع ، فما آتاه الأزواج لأزواجهم من المهور لم يكن أخذه على يد الحكام فبطل هذا الوجه ، ومعنى لا يحل لا يجوز ولا يسمح به ، واستعمال الحل والحرمة في هذا المعنى وضده قديم في العربية ، قال عنترة :
يا شاة ما قنص لمن حلت له
حرمت على وليتها لم تحرم...
وقال كعب :
إذا يساور قرناً لا يحل له
أن يترك القرن إلا وهو مجدول...
وجيء بقوله : {شيئاً} لأنه من النكرات المتوغلة في الإبهام ، تحذيراً من أخذ أقل قليل بخلاف ما لو قال مالاً أو نحوه ، وهذا الموقع من محاسن مواقع كلمة شيء التي أشار إليها الشيخ في "دلائل الإعجاز".
وقد تقدم بسط ذلك عند قوله تعالى : {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع} [ البقرة : 155 ].
وقوله : {إلا أن يخافا} قرأه الجمهور بفتح ياء الغيبة ، فالفعل مسند للفاعل ، والضمير عائد إلى المتخالعين المفهومين من قوله : {أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً} وكذلك ضمير {يخافا ألا يقيما} وضمير {فلا جناح عليهما} ، وأسند هذا الفعل لهما دون بقية الأمة لأنهما اللذان يعلمان شأنهما.(6/306)
وقرأ حمزة وأبو جعفر ويعقوب بضم ياء الغائب والفعل مبني للنائب والضمير للمتخالعين ؛ والفاعل محذوف هو ضمير المخاطبين ؛ والتقدير : إلا أن تخافوهما ألا يقيما حدود الله.
والخوف توقع حصول ما تكرهه النفس وهو ضد الأمن.
ويطلق على أثره وهو السعي في مرضاة المخوف منه ، وامتثال أوامره كقوله : {فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين} [ آل عمران : 175 ] وترادفه الخشية ، لأن عدم إقامة حدود الله مما يخافه المؤمن ، والخوف يتعدى إلى مفعول واحد ، قال تعالى : {فلا تخافوهم.
وقال الشاعر يهجو رجلاً من فَقْعَسَ أكَلَ كلبَه واسمه حبتر :
يا حبتر لم أكلته لمه
لو خافك اللَّه عليه حرمه...
وخرج ابن جني في شرح الحماسة} ، عليه قول الأحوص فيها على أحد تأويلين :
فإذا تزول تزول على متخمط
تُخْشَى بوادره على الأقران...
وحذفت على في الآية لدخولها على أن المصدرية.
وقد قال بعض المفسرين : إن الخوف هنا بمعنى الظن ، يريد ظن المكروه ؛ إذ الخوف لا يطلق إلا على حصول ظن المكروه وهو خوف بمعناه الأصلي.
وإقامة حدود الله فسرها مالك رحمه الله بأنها حقوق الزوج وطاعته والبرِّ به ، فإذا أضاعت المرأة تلك فقد خالفت حدود الله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 407 ـ 409}
وقال الفخر :
أما قوله تعالى : {إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} فاعلم أنه تعالى لما منع الرجل أن يأخذ من امرأته عند الطلاق شيئاً استثنى هذه الصورة وهي مسألة الخلع وفي الآية مسائل : (6/307)
المسألة الأولى : روي أن هذه الآية نزلت في جميلة بنت عبد الله بن أبي ، وفي زوجها ثابت بن قيس بن شماس ، وكانت تبغضه أشد البغض ، وكان يحبها أشد الحب ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، " وقالت : فرق بيني وبينه فإني أبغضه ، ولقد رفعت طرف الخباء فرأيته يجيء في أقوام فكان أقصرهم قامة ، وأقبحهم وجهاً ، وأشدهم سواداً ، وإني أكره الكفر بعد الإسلام ، فقال ثابتٍ : يا رسول الله مرها فلترد علي الحديقة التي أعطيتها ، فقال لها : ما تقولين ؟ قالت : نعم وأزيده فقال صلى الله عليه وسلم : لا حديقته فقط ، ثم قال لثابت : خذ منها ما أعطيتها وخل سبيلها ففعل فكان ذلك أول خلع في الإسلام "
وفي سنن أبي داود أن المرأة كانت حفصة بنت سهل الأنصارية.(6/308)
المسألة الثانية : اختفلوا في أن قوله تعالى : {إلا أن يخافا} هو استثناء متصل أو منقطع ، وفائدة هذا الخلاف تظهر في مسألة فقهية ، وهي أن أكثر المجتهدين قالوا : يجوز الخلع في غير حالة الخوف والغضب ، وقال الأزهري والنخعي وداود : لا يباح الخلع إلا عند الغضب ، والخوف من أن لا يقيما حدود الله ، فإن وقع الخلع في غير هذه الحالة فالخلع فاسد وحجتهم أن هذه الآية صريحة في أنه لا يجوز للزوج أن يأخذ من المرأة عند طلاقها شيئاً ، ثم استثنى الله حالة مخصوصة فقال : {إِلاَّ أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله} فكانت الآية صريحة في أنه لا يجوز الأخذ في غير حالة الخوف ، وأما جمهور المجتهدين فقالوا : الخلع جائز في حالة الخوف وفي غير حالة الخوف والدليل عليه قوله تعالى : {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَىْء مّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً} [ النساء : 4 ] فإذا جاز لها أن تهب مهرها من غير أن تحصل لنفسها شيئاً بإزاء ما بذل كان ذلك في الخلع الذي تصير بسببه مالكة لنفسها أولى ، وأما كلمة {إِلا} فهي محمولة على الاستثناء المنقطع كما في قوله تعالى : {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خطئاً} [ النساء : 92 ] أي لكن إن كان خطأ {فتحريرُ رَقبةٍ مؤمنةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ} [ النساء : 92 ].
المسألة الثالثة : الخوف المذكور في هذه الآية يمكن حمله على الخوف المعروف ، وهو الإشفاق مما يكره وقوعه ، ويمكن حمله على الظن ، وذلك لأن الخوف حالة نفسانية مخصوصة ، وسبب حصولها ظن أنه سيحدث مكروه في المستقبل وإطلاق اسم المعلول على العلة مجاز مشهور فلا جرم أطلق على هذا الظن اسم الخوف ، وهذا مجاز مشهور فقد يقول الرجل لغيره : قد خرج غلامك بغير إذنك ، فتقول : قد خفت ذلك على معنى ظننته وتوهمته ، وأنشد الفراء :
إذا متُّ فادفني إلى جنب كرمة.. تروي عظامي بعد موتي عروقها(6/309)
ولا تدفنني في الفلاة فإنني.. أخاف إذا ما مت أن لا أذوقها
ثم الذي يؤكد هذا التأويل قوله تعالى فيما بعد هذه الآية : {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله} [ البقرة : 230 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 86}
قال الماوردى :
وفي {أَن يَخَافَا أَلاَّ يُقِيَما حُدُودَ اللهِ} أربعة تأويلات :
أحدها : أن يظهر من المرأة النُّشُوز وسوء الخُلُق ، وهو قول ابن عباس.
والثاني : أن لا تطيع له أمراً ، ولا تبرّ له قَسَماً ، وهو قول الحسن ، والشعبي.
والثالث : هو أن يبدي لسانها أنها له كارهة ، وهو قول عطاء.
والرابع : أن يكره كل واحد منهما صاحبه ، فلا يقيم كل واحد منهما ما أوجب الله عليه من حق صاحبه ، وهو قول طاووس ، وسعيد بن المسيب ، والقاسم بن محمد ، روى ثابت بن يزيد ، عن عقبة بن عامر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " المُخْتِلعَاتُ والمُنْتَزِعَاتُ هُنَّ المُنَافِقَاتُ ". يعني التي تخالع زوجها لميلها إلى غيره. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 294 ـ 295}
فائدة
قال الجصاص :
وَهَذَا الْخَوْفُ مِنْ تَرْكِ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ عَلَى وَجْهَيْنِ : إمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا سَيِّئَ الْخُلُقِ أَوْ جَمِيعًا ، فَيُفْضِي بِهِمَا ذَلِكَ إلَى تَرْكِ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ فِيمَا أَلْزَمَ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِنْ حُقُوقِ النِّكَاحِ فِي قَوْله تَعَالَى : {وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَحَدُهُمَا مُبْغِضًا لِلْآخَرِ فَيَصْعُبُ عَلَيْهِ حُسْنُ الْعِشْرَةِ وَالْمُجَامَلَةِ ، فَيُؤَدِّيهِ ذَلِكَ إلَى مُخَالَفَةِ أَمْرِ اللَّهِ فِي تَقْصِيرِهِ فِي الْحُقُوقِ الَّتِي تَلْزَمُهُ وَفِيمَا أَلْزَمَ الزَّوْجَ مِنْ إظْهَارِ الْمَيْلِ إلَى غَيْرِهَا فِي قَوْله تَعَالَى : {فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ} فَإِذَا وَقَعَ أَحَدُ هَذَيْنِ وَأَشْفَقَا مِنْ تَرْكِ إقَامَةِ حُدُودِ اللَّهِ الَّتِي حَدَّهَا لَهُمَا حَلَّ الْخُلْعُ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 90}
فصل
قال الفخر :
اعلم أن ظاهر هذه الآية يدل على أن الشرط هو حصول الخوف للرجل وللمرأة ، ولا بد ههنا من مزيد بحث ، فنقول : الأقسام الممكنة في هذا الباب أربعة لأنه إما أن يكون هذا الخوف حاصلاً من قبل المرأة فقط ، أو من قبل الزوج فقط ، أو لا يحصل الخوف من قبل واحد منهما ، أو يكون الخوف حاصلاً من قبلهما معاً.
أما القسم الأول : وهو أن يكون هذا الخوف حاصلاً من قبل المرأة ، وذلك بأن تكون المرأة ناشزة مبغضة للزوج ، فههنا يحل للزوج أخذ المال منها والدليل عليه ما رويناه من حديث جميلة مع ثابت ، لأنها أظهرت البغض فجوز رسول الله صلى الله عليه وسلم لها الخلع ولثابت الأخذ.
فإن قيل : فقد شرط تعالى في هذه الآية خوفهما معاً ، فكيف قلتم : إنه يكفي حصول الخوف منها فقط.(6/310)
قلنا : سبب هذا الخوف وإن كان أوله من جهة المرأة إلا أنه قد يترتب عليه الخوف الحاصل من قبل الزوج ، لأن المرأة تخاف على نفسها من عصيان الله في أمر الزوج ، وهو يخاف أنها إذا لم تطعه فإنه يضربها ويشتمها ، وربما زاد على قدر الواجب فكان الخوف حاصلاً لهما جميعاً ، فقد يكون ذلك السبب منها لأمر يتعلق بالزوج ، ويجوز أن تكره المرأة مصاحبة ذلك الزوج لفقره أو لقبح وجهه ، أو لمرض منفر منه ، وعلى هذا التقدير تكون المرأة خائفة من معصية الله في أن لا تطيع الزوج ، ويكون الزوج خائفاً من معصية الله تعالى من أن يقع منه تقصير في بعض حقوقها.
القسم الثاني : أن يكون الخوف من قبل الزوج فقط ، بأن يضربها ويؤذيها ، حتى تلتزم الفدية فهذا المال حرام بدليل أول هذه الآية ، وبدليل سائر الآيات ، كقوله : {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ} إلى قوله : {أَتَأْخُذُونَهُ بهتانا وَإِثْماً مُّبِيناً} [ النساء : 19 ، 20 ] وهذا مبالغة عظيمة في تحريم أخذ ذلك المال.
القسم الثالث : أن لا يكون هذا الخوف حاصلاً من قبل الزوج ، ولا من قبل الزوجة ، وقد ذكرنا أن قول أكثر المجتهدين : أن هذا الخلع جائز ، والمال المأخوذ حلال ، وقال قوم إنه حرام.
القسم الرابع : أن يكون الخوف حاصلاً من قبلهما معاً ، فهذا المال حرام أيضاً ، لأن الآيات التي تلوناها تدل على حرمة أخذ ذلك المال إذا كان السبب حاصلاً من قبل الزوج ، وليس فيه تقييد بقيد أن يكون من جانب المرأة سبب لذلك أم لا ولأن الله تعالى أفرد لهذا القسم آية أخرى وهو قوله تعالى : {وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا} [ النساء : 35 ] الآية ، ولم يذكر فيه تعالى حل أخذ المال ، فهذا شرح هذه الأقسام الأربعة ، واعلم أن هذا الذي قلناه من هذه الأقسام إنما هو فيما بين المكلفين وبين الله تعالى ، فأما في الظاهر فهو جائز هذا هو قول الفقهاء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 87}(6/311)
فائدة
قال ابن العربى :
قَوْله تَعَالَى : {إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} وَفِي ذَلِكَ تَأْوِيلَاتٌ كُلُّهَا أَبَاطِيلُ ، وَإِنَّمَا الْمُرَادُ بِهِ أَنْ يَظُنَّ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا بِنَفْسِهِ أَلَّا يُقِيمَ حَقَّ النِّكَاحِ لِصَاحِبِهِ حَسْبَمَا يَجِبُ عَلَيْهِ فِيهِ لِكَرَاهِيَةٍ يَعْتَقِدُهَا ، فَلَا حَرَجَ عَلَى الْمَرْأَةِ أَنْ تَفْتَدِيَ وَلَا عَلَى الزَّوْجِ أَنْ يَأْخُذَ.(6/312)
وَقَدْ أَكَّدَ اللَّهُ تَعَالَى الْمَنْعَ حَالَةَ الْفِرَاقِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} وَذَلِكَ لِأَنَّهَا حَالَةٌ تَشْرَهُ النُّفُوسَ فِيهَا إلَى أَنْ يَأْخُذَ الزَّوْجُ مَا نَحَلَهُ الزَّوْجَةَ فِي حَالَةِ النِّكَاحِ ؛ إذْ يَخْطُرُ لَهُ أَنَّك إنَّمَا كُنْت أُعْطِيت عَلَى النِّكَاحِ ، وَقَدْ فَارَقْت فَأَنْتَ مَعْذُورٌ فِي أَخْذِك ؛ فَمَنَعَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ بِقَوْلِهِ : {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ} وَجَوَّزَهُ عِنْدَ مُسَامَحَةِ الْمَرْأَةِ بِهِ فَقَالَ تَعَالَى : {فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ} وَحَلَّلَ أَخْذَ النِّصْفِ بِوُقُوعِ الْفِرَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} وَطِيبُهُ عِنْدَ عَفْوِهَا أَوْ عَفْوِ صَاحِبِ الْعُقْدَةِ عَنْ جَمِيعِهِ ، فَقَالَ تَعَالَى : {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} عَلَى مَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي مَوْضِعِهِ إنْ شَاءَ اللَّهُ تَعَالَى. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 384}(6/313)
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في قدر ما يجوز وقوع الخلع به ، فقال الشعبي والزهري والحسن البصري وعطاء وطاوس : لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها ، وهو قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال سعيد بن المسيب : بل ما دون ما أعطاها حتى يكون الفضل له ، وأما سائر الفقهاء فإنهم جوزوا المخالعة بالأزيد والأقل والمساوي ، واحتج الأولون بالقرآن والخبر والقياس ، أما القرآن فقوله تعالى : {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} ثم قال بعد ذلك : {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} فوجب أن يكون هذا راجعاً إلى ما آتاها : وإذا كان كذلك لم يدخل في إباحة الله تعالى إلا قدر ما آتاها من المهر ، وأما الخبر روينا أن ثابتاً لما طلب من جميلة أن ترد عليه حديقته ، فقالت جميلة وأزيده ، فقال صلى الله عليه وسلم : لا حديقته فقط ، ولو كان الخلع بالزائد جائزاً لما جاز للنبي صلى الله عليه وسلم أن يمنعها منه ، وأما القياس فهو أنه استباح بعضها ، فلو أخذ منها أزيد مما دفع إليها لكان ذلك إجحافاً بجانب المرأة وإلحاقاً للضرر بها ، وأنه غير جائز ، وأما سائر الفقهاء فإنهم قالوا الخلع عقد معاوضة ، فوجب أن لا يتقيد بمقدار معين ، فكما أن للمرأة أن لا ترضى عند النكاح إلا بالصداق الكثير ، فكذا للزوج أن لا يرضى عند المخالعة إلا بالبذل الكثير ، لا سيما وقد أظهرت الاستخفاف بالزوج ، حيث أظهرت بغضه وكراهته ، ويتأكد هذا بما روي أن عمر رضي الله عنه رفعت إليه امرأة ناشزة أمرها فأخذها عمر وحبسها في بيت الزبل ليلتين ، ثم قال لها : كيف حالك ؟ فقالت : ما بت أطيب من هاتين الليلتين ، فقال عمر : اخلعها ولو بقرطها ، والمراد اخلعها حتى بقرطها وعن ابن عمر أنه جاءته امرأة قد اختلعت من زوجها بكل شيء وبكل ثوب عليها إلا درعها ، فلم ينكر عليها.(6/314)
المسألة السابعة : الخلع تطليقة بائنة وهو قول علي وعثمان وابن مسعود والحسن والشعبي والنخعي وعطاء وابن المسيب وشريح ومجاهد ومكحول والزهري ، وهو قول أبي حنيفة وسفيان ، وهو أحد قولي الشافعي رضي الله عنهم ، وقال ابن عباس وطاوس وعكرمة رضي الله عنهم : إنه فسخ للعقد ، وهو القول الثاني للشافعي ، وبه قال أحمد وإسحق وأبو ثور.
( حجة من قال إنه طلاق ) أن الأمة مجمعة على أنه فسخ أو طلاق ، فإذا بطل كونه فسخاً ثبت أنه طلاق وإنما قلنا : إنه ليس بفسخ لأنه لو كان فسخاً لما صح بالزيادة على المهر المسمى : كالإقالة في البيع ، وأيضاً لو كان الخلع فسخاً فإذا خالعها ولم يذكر المهر وجب أن يجب عليها المهر ، كالإقالة ، فإن الثمن يجب رده ، وإن لم يذكر ولما لم يكن كذلك ثبت أن الخلع ليس بفسخ ، وإذا بطل ذلك ثبت أنه طلاق.
حجة من قال إنه ليس بطلاق وجوه :
الحجة الأولى : أنه تعالى قال : {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ} ثم ذكر الطلاق فقال : {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [ البقرة : 230 ] فلو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً ، وهذا الاستدلال نقله الخطابي في كتاب معالم السنن عن ابن عباس.
الحجة الثانية : وهو أن النبي صلى الله عليه وسلم أذن لثابت بن قيس بن شماس في مخالعة امرأته ، مع أن الطلاق في زمان الحيض أو في طهر حصل الجماع فيه حرام ، فلو كان الخلع طلاقاً لكان يجب على النبي صلى الله عليه وسلم أن يستكشف الحال في ذلك ، فلما لم يستكشف بل أمره بالخلع مطلقاً دل على أن الخلع ليس بطلاق.(6/315)
الحجة الثالثة : روى أبو داود في "سننه" عن عكرمة عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس لما اختلعت منه جعل النبي صلى الله عليه وسلم عدتها حيضة ، قال الخطابي : وهذا أدل شيء على أن الخلع فسخ وليس بطلاق ، لأن الله تعالى قال : {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قُرُوء} [ البقرة : 228 ] فلو كانت هذه مطلقة لم يقتصر لها على قرء واحد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 88 ـ 89}
وقال ابن عاشور :
والحق أن الآية صريحة في تحريم أخذ العوض عن الطلاق إلا إذا خيف فساد المعاشرة بألا تحب المرأة زوجها ، فإن الله أكد هذا الحكم إذ قال : {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} لأن مفهوم الاستثناء قريب من الصريح في أنهما إن لم يخافا ذلك لا يحل الخلع ، وأكده بقوله : {فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما أفتدت به} فإن مفهومه أنهما إن لم يخافا ذلك ثبت الجناح ، ثم أكد ذلك كله بالنهي بقوله : تلك حدود الله فلا تعتدوها ثم بالوعيد بقوله : {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} وقد بين ذلك كله قضاء رسول الله صلى الله عليه وسلم بين جميلة بنت أو أخت عبد الله بن أبي بن سلول ، وبين زوجها ثابت بن قيس بن شماس ؛ إذ قالت له يا رسول الله لا أنا ولا ثابت ، أو لا يجمع رأسي ورأس ثابت شيء ، والله ما أعتب عليه في دين ولا خلق ولكني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضاً فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم " أتردين عليه حديقته التي أصدقك " قالت "نعم وأزيده" زاد في رواية قال : " أما الزائد فلا " وأجاب الجمهور بأن الآية لم تذكر قوله : {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} على وجه الشرط بل لأنه الغالب من أحوال الخلع ، ألا يُرى قوله تعالى : {فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئاً مريئاً} [ النساء : 4 ] هكذا أجاب المالكية كما في "أحكام ابن العربي" ، و"تفسير القرطبي".(6/316)
وعندي أنه جواب باطل ، ومتمسك بلا طائل ، أما إنكار كون الوارد في هاته الآية شرطا ، فهو تعسف وصرف للكلام عن وجهه ، كيف وقد دل بثلاثة منطوقات وبمفهومين وذلك قوله : {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً} فهذا نكرة في سياق النفي ، أي لا يحل أخذ أقل شيء ، وقوله : {إلا أن يخافا} ففيه منطوق ومفهوم ، وقوله : {فإن خفتم} ففيه كذلك ، ثم إن المفهوم الذي يجيء مجيء الغالب هو مفهوم القيود التوابع كالصفة والحال والغاية ، دون ما لا يقع في الكلام إلا لقصد الاحتراز ، كالاستثناء والشرط.
وأما الاحتجاج للجواز بقوله : {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً} ، فمورده في عفو المرأة عن بعض الصداق ، فإن ضمير {منه} عائد إلى الصدقات ، لأن أول الآية {وأتوا النساء صدقاتهن نحلة فإن طبن لكم} [ النساء : 4 ] الآية فهو إرشاد لما يعرض في حال العصمة مما يزيد الألفة ، فلا تعارض بين الآيتين ولو سلمنا التعارض لكان يجب على الناظر سلوك الجمع بين الآيتين أو الترجيح. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 411}
لطيفة
روي أن امرأة نشزت على عهد عمر ، فبيتها في اصطبل في بيت الزبل ثلاث ليال ، ثم دعاها ، فقال : كيف رأيت مكانك ؛ فقالت ما رأيت ليالي أقرّ لعيني منها ، وما وجدت الراحة مذ كنت عنده إلاَّ هذه الليالي. فقال عمر : هذا وأبيكم النشوز ، وقال لزوجها اجلعها ولو من قرطها ، اختلعها بما دون عقاص رأسها ، فلا خير لك فيها. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 208}
قوله تعالى : {تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229)}
المناسبة
قال البقاعى :(6/317)
ولما كانت أحكام النساء تارة بالمرافقة وتارة بالمفارقة وكانت مبنية على الشهوات تارة على البهيمية وتارة على السبعية وكان سبحانه وتعالى قد حد فيها حدوداً تكون بها المصالح وتزول المفاسد منع سبحانه وتعالى من تعدى تلك الحدود أي الأحكام التي بينها في ذلك ولم يذكر قربانها كما مضى في آية الصوم فقال : {تلك} أي الأحكام العظيمة التي تولى الله بيانها من أحكام الطلاق والرجعة والخلع وغيرها {حدود الله} أي شرائع الملك الأعظم الذي له جميع العزة من الأوامر والنواهي التي بينها فصارت كالحدود المعروفة في الأراضي.
ولما كانت شرائع الله ملائمة للفطرة الأولى السليمة عن نوازع النقائص وجواذب الرذائل أشار إلى ذلك سبحانه بصيغة الافتعال في قوله : {فلا تعتدوها} أي لا تتكلفوا مجاوزتها ، وفيه أيضاً إشارة إلى العفو عن المجاوزة من غير تعمد.(6/318)
ولما أكد الأمر تارة بالبيان وتارة بالنهي زاد في التأكيد بالتهديد فقال عاطفاً على ما تقديره : فمن تعدى شيئاً منها فقد ظلم : {ومن يتعد} أي يتجاوز {حدود الله} أي المحيط بصفات الكمال التي بينها وأكد أمرها وزاد تعظيمها بتكرير اسمه الأعظم. قال الحرالي : ففيه ترجية فيما يقع من تعدي الحدود من دون ذلك من حدود أهل العلم ووجوه السنن وفي إعلامه إيذان بأن وقوع الحساب يوم الجزاء على حدود القرآن التي لا مندوحة لأحد بوجه من وجوه السعة في مخالفتها ولذلك تتحقق التقوى والولاية مع الأخذ بمختلفات السنن ومختلفات أقوال العلماء - انتهى. وإليه يرشد الحصر في قوله : {فأولئك} أي المستحقون للابعاد {هم الظالمون} أي العريقون في الظلم بوضع الأشياء في غير مواضعها فكأنهم يمشون في الظلام. قال الحرالي : وفي إشعاره تصنيف الحدود ثلاثة أصناف : حد الله سبحانه وتعالى ، وحد النبي صلى الله عليه وسلم ، وحد العالم ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " ما جاء من الله فهو الحق ، وما جاء مني فهو السنة ، وما جاء من أصحابي فهو السعة " فأبرأ العباد من الظلم من حافظ على أن لا يخرج عن حدود العلماء ليكون أبعد أن يخرج من حدود السنة ليكون أبعد أن يخرج من حدود الكتاب ، فالظالم المنتهي ظلمه الخارج عن الحدود الثلاثة : حد العالم ، وحد السنة ، وحد الله - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 432 ـ 433}
قال الفخر : (6/319)
أما قوله تعالى : {تِلْكَ حُدُودُ الله} فالمعنى أن ما تقدم ذكره من أحكام الطلاق والرجعة والخلع {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} أي فلا تتجاوزوا عنها ، ثم بعد هذا النهي المؤكد أتبعه بالوعيد ، فقال : {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظالمون} وفيه وجوه أحدها : أنه تعالى ذكره في سائر الآيات {أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} [ هود : 18 ] فذكر الظلم ههنا تنبيهاً على حصول اللعن ، وثانيها : أن الظالم اسم ذم وتحقير ، فوقوع هذا الاسم يكون جارياً مجرى الوعيد ، وثالثها : أنه أطلق لفظ الظلم تنبيهاً على أنه ظلم من الإنسان على نفسه ، حيث أقدم على المعصية ، وظلم أيضاً للغير بتقدير أن لا تتم المرأة عدتها ، أو كتمت شيئاً مما خلق في رحمها ، أو الرجل ترك الإمساك بالمعروف والتسريح بالإحسان ، أو أخذ من جملة ما آتاها شيئاً لا بسبب نشوز من جهة المرأة ، ففي كل هذه المواضع يكون ظالماً للغير فلو أطلق لفظ الظالم دل على كونه ظالماً لنفسه ، وظالماً لغيره ، وفيه أعظم التهديدات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 89}
وقال ابن عاشور :
جملة {تلك حدود الله فلا تعتدوها} معترضة بين جملة {ولا يحل لكم أن تأخذوا مما أتيتموهن شيئاً} وما اتصل بها ، وبين الجملة المفرعة عليها وهي {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} الآية.
ومناسبة الاعتراض ما جرى في الكلام الذي قبلها من منع أخذ العوض عن الطلاق ، إلا في حالة الخوف من ألا يقيما حدود الله ، وكانت حدود الله مبينة في الكتاب والسنة ، فجيء بهذه الجملة المعترضة تبْيِيناً ؛ لأن منع أخذ العوض على الطلاق هو من حدود الله.
وحدود الله استعارة للأوامر والنواهي الشرعية بقرينة الإشارة ، شبهت بالحدود التي هي الفواصل المجعولة بين أملاك الناس ، لأن الأحكام الشرعية ، تفصل بين الحلال والحرام ، والحق والباطل وتفصل بين ما كان عليه الناس قبل الإسلام ، وما هم عليه بعده.(6/320)
والإقامة في الحقيقة الإظهار والإيجاد ، يقال : أقام حداً لأرضه ، وهي هنا استعارة للعمل بالشرع تبعاً لاستعارة الحدود للأحكام الشرعية ، وكذلك إطلاق الاعتداء الذي هو تجاوز الحد على مخالفة حكم الشرع ، هو استعارة تابعة لتشبيه الحكم بالحد.
وجملة : {ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون} تذييل وأفادت جملة {فأولئك هم الظالمون} حصراً وهو حصر حقيقي ، إذ ما من ظالم إلا وهو متعد لحدود الله ، فظهر حصر حال المتعدي حدود الله في أنه ظالم.
واسم الإشارة من قوله : {فأولئك هم الظالمون} مقصود منه تمييز المشار إليه ، أكمل تمييز ، وهو من يتعدى حدود الله ، اهتماماً بإيقاع وصف الظالمين عليهم.
وأطلق فعل {يتعد} على معنى يخالف حكم الله ترشيحاً لاستعارة الحدود لأحكام الله ، وهو مع كونه ترشيحاً مستعار لمخالفة أحكام الله ؛ لأن مخالفة الأمر والنهي تشبه مجاوزة الحد في الاعتداء على صاحب الشيء المحدود. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 413}
وقال السعدى :
{وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ} وأي ظلم أعظم ممن اقتحم الحلال ، وتعدى منه إلى الحرام ، فلم يسعه ما أحل الله ؟
والظلم ثلاثة أقسام :
ظلم العبد فيما بينه وبين الله ، وظلم العبد الأكبر الذي هو الشرك ، وظلم العبد فيما بينه وبين الخلق ، فالشرك لا يغفره الله إلا بالتوبة ، وحقوق العباد ، لا يترك الله منها شيئا ، والظلم الذي بين العبد وربه فيما دون الشرك ، تحت المشيئة والحكمة. أ هـ {تفسير السعدى صـ 102}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {الطلاق مَرَّتَانِ...}.
فسّروه بوجهين : إما الطّلاق الرجعي مرتان لأن الطلقة ( الثالثة ) لا رجعة فيها ، وإما الطّلاق السني مرتان.(6/321)
( فإن ) قلت : الطلاق السّني ثلاث تطليقات ؟ ( قلنا ) لأجل هذا قال الزمخشري : إنّ التثنية ليست على حقيقتها بل للتكرار أي مرة بعد مرة مثل {ثُمَّ ارجع البَصَرَ كَرَّتَيْنِ} أي كرة بعد كرة فيكون تنبيها على أنّ الطّلاق الموقع في كلمة واحدة غيرُ سنّي. فإن قلت : هلاّ قال : الطلاق ثنتان ؟ فالجواب من وجوه :
الأول : قال ابن عرفة : قدمنا أن ( الثنتين ) يصدقان على الطلاق الممكن والمحال فيقال : الطلاق طلاقان. ويكون محالا بخلاف المرتين لأن المرة تفيد بدلالتها / على الزمان أن الطّلاق وجودي واقع.
الثاني : أنه إنما قيل " مرتان " تنبيها على أن المراد الطلاق ( مرة بعد مرة لأن المرة زمان والزمانان متفرقان بلا شك لاستحالة اجتماعهما ) ولو قيل : ثنتان الطلاق مجتمعا ومفرقا لأفاد بذلك النهي عن أيقاع الثالث في كلمة واحدة.
قيل لابن عرفة : إن الشيخ الفقيه القاضي أبا العباس أحمد بن حيدرة والفقيه المفتي أبا القاسم الغبريني رحمهما الله تعالى سئلا عمن شهد عليه أنه قال : لزوجته ما نصّه : أنت طالق مرتين ؟ قال لها في مرة واحدة فقالا : يُنَوّى. فاستشكله ابن عرفة لأنه صريح أو ظاهر في الاثنتين وقد أسرته البينة.
أبو حيان : أي عدد الطلاق مرتان أو إيقاعه مرتان.
قال اين عرفة : إن أراد تقدير معنى فصواب ، وإن أراد أمرا حاجيا لا بد منه ولا يتم اللفظ إلا به ، فليس كذلك.
قال ابن عرفة : والآية دالة على أن طلاق الحر مساو لطلاق العبد.
قوله تعالى : {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ...}.
قال ابن عرفة : فإن قلت : هلا قيل : فإمساك بإحسان أو تسريح بمعروف ، وهذا السؤال مذكور في حسن الائتلاف ؟ (6/322)
قال : وعادتهم يجيبون بأن المعروف أخفّ من الإحسان لأن المعروف حسن العشرة والتزام حقوق الزوجية والإحسان ألاّ يظلمها شيئا من حقها ، فيقتضي الإعطاء وبذل المال أشق على النفوس من حسن العشرة ( فجعل ) المعروف مع الإمساك المقتضي لدوام العصمة إذ لا يضر تكرّره ، وجعل الإحسان المشق على النفوس ( مع ) التسريح الذي لا يتكرر بل هو مرة أو مرتان أو ثلاث فقط.
ونقل ابن يونس عن أبي ( عمر ) : أنّ هذه الآية ما زالت يكتبها الموثقون في الصّدُقات.
قال : وكان الشيخ القاضي أبو عبد الله محمد بن عبد السلام ينكر على أهل زماننا كتبها في الصدقات إذ لا يذكر في عقد النكاح إلا ما يلائمه ويناسبه. وأما الطلاق ففي ذكره فيه تفاؤل ومناقضة للنكاح ولذا ( تجد ) بعضهم يقول : من الإمساك بالمعروف أو المعاشرة بالإحسان ( فيؤول ) اللفظ.
أبو حيان : ( " إِمْسَاكٌ " ) إما خبر ، أي فالواجب إمساك ، وإما مبتدأ وخبره مقدر إما قبله أي فعليكم امساك أو بعده أي فإمساك عليكم.
قال ابن عرفة : سببه أنّ " بِمَعْرُوفٍ " إن كان صفة الإمساك قدر الخبر متأخرا ، وإن كان متعلقا به قدر مقدما لأن المبتدأ نكرة.
قوله تعالى : {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً...}.
قال ابن عرفة : إن أريد تأكيد التحريم يقال : لا يحل كذا ، وإن أريد مطلق التحريم يقال : لا تفعل كذا ، لاحتماله الكراهة ، وكذلك المفتي لا يقول : لا يحل كذا ، إلاّ فيما قوي دليل تحريمه عنده ، وأما دون ذلك فيقول : لا يُفعل أو لا ينبغي ( أن تفعل ) كذا.
قوله تعالى : {مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً...}.
قال أبو حيان : حذف العائد على ( ما ) لأنه ( المفعول ) الأول للفعل وهو ضمير نصب متصل ، والثاني كذلك. وتقديره مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنّ. هذا نص أبي حيان ، إن " ءاتَيْتُمْ " يعتدّى إلى مفعولين حذف أحدهما وهو العائد على ما تقديره ( ءاتيتموهن إيّاه ).(6/323)
قال الصفاقسي : فيه نظر لأنّهم نصّوا على أنّ الضمير المنصوب لا يجوز ( حذفه ) ولا يجوز اجتماع ضميري نصب متصلين.
فقال بعض الطلبة : إنّما ذلك إذا اتفقا في الإفراد والتثنية والجمع أما إذا كان أحدهما مفردا والآخر مجموعا فنص سيبويه على جوازه.
وقال بعض الطلبة : بل ضعفه ابن مالك.
قال ابن عرفة : وعادتهم يجيبون بأن ( يردوا ) على أبي حيان بأنّ المحذوف هنا ضمير نصب متصل. والتقدير : مما ءَاتتموه إيّاهن ، فحذف الضمير المفرد واتصل الآخر بالفعل بعد أن كان منفصلا فصار " ءَاتَيْتُمُوهُنّ ".
قوله تعالى : {إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله...}.
هذا إما استثناء من الأسباب ، أي منهن شيئا لسبب من الأسباب : خوف عدم إقامة حدود الله. والزمخشري يعبر عنه في غير هذا بأنه استثناء من أعمّ العام.
قال ابن عرفة : وهذا يدل بالمطابقة على جواز الخلغ منهما معا وباللزوم على جوازه من المرأة وحدها وأما الزوج فيستحيل ذلك في حقه. وهذا الخلع للزوجين قد يكون للحاكم. ومثاله : إذا زوج الأب ابنه الصغير ومات وأراد القاضي أن يخالع منه.
قوله تعالى : {إِلاَّ أَن يَخَافَآ...}.
ذكر أبو حيان أنّه في موضع الحال.
ورده ابن عرفة بأنّ " أَنْ " الموصولة ( أعرف المعارف عندهم والحال لايكون إلا نكرة. قلت : الحال هنا ) معنوية لا لفظية والتعريف في اللفظ لا في المعنى.
قوله تعالى : {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ...}.
قيل لابن عرفة : الفدية في اصطلاح الفقهاء هي المخالعة بالبعض لا بالكل وهو مناسب لقوله " أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً ".
فقال : اللّغة لا تفسر بإصطلاح. والمناسب هناك منع الخلع بالبعض فيستلزم منعه بالكلّ من باب أحرى. والمناسب هنا إباحة الخلع بالجميع فيستلزم إباحته بالبعض.
قوله تعالى : {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون}.(6/324)
قال ابن عرفة : إفراد الضمير العائد على ( مَنْ ) أوّلا (و) جمعه ثانيا مناسب لفظا ومعنى ؛ أما اللفظ فالمستحسن عند النحويين معاملة لفظ ( من ) أولا ثم معناها ، وأما المعنى فأفرد ضمير المتعدي تقليلا له ومبالغة في التنفير من صفة التعدي حتى كأنه لا يقع ( الأمر ) من أحد. ثم جمع الظالمين لأنه ( جزاء ) انتقام وعقوبة فالمناسب جمعه ( ليعم ) كل ظالم حتى يزجر عن ذلك من هذه صفته. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 296 ـ 297}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : {الطَّلاَقُ مّرَّتَانِ}.
ندب إلى تفريق الطلاق لئلا تسارع إلى إتمام الفراق ، وقيل في معناه :
إنْ تَبْيَنْتُ أَنَّ عَزْمَكِ قتلى... فذريني أضني قليلاً قليلا
ثم قال جلّ ذكره : {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ}.
إمَّا صحبة جميلة أو فُرْقة جميلة. فأمَّا سوء العشرة وإذهاب لذة العيش بالأخلاق الذميمة فغير مَرَْضِيٍ في الطريقة ، ولا محمود في الشريعة.
قوله جلّ ذكره : {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً}.
فإِن في الخبر " العائد في هبته كالعائد في قَيْئِه " والرجوع فيما خرجتَ عنه خِسَّة.
ثم قال جلّ ذكره : {إِلاَّ أَنْ يَخَافَا أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ اللهِ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ}.
يعني إنْ أرادت المرأة أن تتخلص من زوجها فلا جناح عليها فيما تبذل من مال ، فإنَّ النفس تساوي لصاحبها كل شيء ، والرجال إذا فاتته صحبة المرأة فلو اعتاض عنها شيئاً فلا أقلَّ من ذلك ، حتى إذا فاتته راحة الحال يصل إلى يده شيء من المال.
قوله جلّ ذكره : {تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ اللهِ فَأُلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}.(6/325)
هذه آداب يُعَلِّمكموها الله ويَسُنُّها لكم ، فحافظوا على حدوده ، وداوموا على معرفة حقوقه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 182}
مسائل وألفاظ تكثر الحاجة إليها فى باب الطلاق
قال القرطبى :
لم يختلف العلماء فيمن قال لامرأته ؛ قد طلقتك ، أنه من صريح الطلاق في المدخول بها وغير المدخول بها ؛ فمن قال لامرأته : أنت طالق فهي واحدة إلاَّ أن ينوي أكثر من ذلك. فإن نوى اثنتين أو ثلاثاً لزمه ما نواه ، فإن لم ينو شيئاً فهي واحدة تملك الرجعة. ولو قال : أنت طالق ، وقال : أردت من وَثَاق لم يقبل قوله ولزمه ، إلاَّ أن يكون هناك ما يدل على صدقه. ومن قال : أنت طالق واحدة ، لا رجعة لي عليك فقوله : "لا رجعة لي عليك" باطل ، وله الرجعة لقوله واحدة ؛ لأن الواحدة لا تكون ثلاثاً ؛ فإن نوى بقوله : "لا رجعة لي عليك" ثلاثاً فهي ثلاث عند مالك.(6/326)
واختلفوا فيمن قال لامرأته : قد فارقتك ، أو سرحتك ، أو أنت خلية ، أو برية ، أو بائن ، أو حبلك على غاربك ، أو أنت عليّ حرام ، أو الحقي بأهلِكِ ، أو قد وهبتك لأهلك ، أو قد خليت سبيلك ، أولا سبيل لي عليك ؛ فقال أبو حنيفة وأبو يوسف : هو طلاق بائن ، وروي عن ابن مسعود وقال : إذا قال الرجل لامرأته استقلي بأمرِك ، أو أمرِك لكِ ، أو الحقي بأهلك فقبِلوها فواحدة بائنة. وروي عن مالكٍ فيمن قال لامرأته : قد فارقتك ، أو سرحتك ، أنه من صريح الطلاق ؛ كقوله : أنت طالق. وروي عنه أنه كناية يرجع فيها إلى نية قائِلها ، ويسأل ما أراد من العدد ، مدخولاً بها كانت أو غير مدخول بها. قال ابن الموّاز : وأصح قوليه في التي لم يدخل بها أنها واحدة ، إلاَّ أن ينوي أكثر ؛ وقاله ابن القاسم وابن عبد الحكم. وقال أبو يوسف : هي ثلاث ؛ ومثله خلعتك ، أو لا مِلك لي عليك. وأمّا سائر الكنايات فهي ثلاث عند مالك في كل من دخل بها لا ينوَّى فيها قائلها ، وينوّى في غير المدخول بها. فإن حلف وقال أردت واحدة كان خاطباً من الخطاب ، لأنه لا يخلى المرأة التي قد دخل بها زوجها ولا يُبينها ولا يبريها إلاَّ ثلاث تطليقات. والتي لم يدخل بها يُخليها ويُبريها ويُبينها الواحدة. وقد روي عن مالك وطائفة من أصحابه ، وهو قول جماعة من أهل المدينة ، أنه ينوى في هذه الألفاظ كلها ويلزمه من الطلاق ما نوى. وقد روي عنه في البتة خاصة من بين سائر الكنايات أنه لا ينوي فيها لا في المدخول بها ولا في غير المدخول بها. وقال الثوريّ وأبو حنيفة وأصحابه : له نيته في ذلك كله ، فإن نوى ثلاثاً فهي ثلاث ، وإن نوى واحدة فهي واحدة بائنة وهي أحق بنفسها. وإن نوى اثنتين فهي واحدة. وقال زفر : إن نوى اثنتين فهي اثنتان. وقال الشافعيّ : هو في ذلك كله غير مطلق حتى يقول : أردت بمخرج الكلام مني طلاقاً فيكون ما نوى. فإن نوى دون الثلاث كان رجعياً ، ولو طلقها واحدة بائنة كانت رجعية.(6/327)
وقال إسحاق : كل كلام يشبِه الطلاق فهو ما نوى من الطلاق. وقال أبو ثور : هي تطليقة رجعية ولا يسأل عن نيته. وروي عن ابن مسعود أنه كان لا يرى طلاقاً بائناً إلاَّ في خلع أو إيلاء وهو المحفوظ عنه ؛ قاله أبو عبيد. وقد ترجم البخاريّ "باب إذا قال فارقتك أو سرحتك أو البرية أو الخلية أو ما عني به الطلاق فهو على نيته". وهذا منه إشارة إلى قول الكوفيين والشافعيّ وإسحاق في قوله : "أو ما عنى به من الطلاق" والحجة في ذلك أن كل كلمة تحتمل أن تكون طلاقاً أو غير طلاق فلا يجوز أن يلزم بها الطلاق إلاَّ أن يقول المتكلم : إنه أراد بها الطلاق فيلزمه بإقراره ، ولا يجوز إبطال النكاح لأنهم قد أجمعوا على صحته بيقين.
قال أبو عمر : واختلف قول مالك في معنى قول الرجل لامرأته : اعتدى ، أو قد خليتك ، أو حبلك على غارِبك ؛ فقال مرة : لا ينوى فيها وهي ثلاث. وقال مرّة : ينوى فيها كلها ، في المدخول بها وغير المدخول بها ؛ وبه أقول.(6/328)
قلت : ما ذهب إليه الجمهور ، وما روي عن مالك أنه ينوي في هذه الألفاظ ويحكم عليه بذلك هو الصحيح ؛ لما ذكرناه من الدليل ، وللحديث الصحيح الذي خرّجه أبو داود وابن ماجه والدارقطنيّ وغيرهم عن يزيد بن ركانة : أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ؛ فقال : "آلله ما أردت إلاَّ واحدة" ؟ فقال ركانة : والله ما أردت إلاَّ واحدة ؛ فرّدها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ قال ابن ماجه : سمعت أبا الحسن الطنافِسيّ يقول : ما أشرف هذا الحديث! وقال مالك في الرجل يقول لامرأته : أنت عليّ كالميتة والدّم ولحم الخنزير : أراها البتّة وإن لم تكن له نية ، فلا تحِلّ إلاَّ بعد زوج. وفي قول الشافعيّ : إن أراد طلاقاً فهو طلاق ، وما أراد من عدد الطلاق ؛ وإن لم يُرد طلاقاً فليس بشيء بعد أن يحلف. وقال أبو عمر : أصل هذا الباب في كل كناية عن الطلاق ، ما روي " عن النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال للتي تزوّجها حين قالت : أعوذ بالله منك : "قد عذتِ بمعاذٍ الحقي بأهلك" " فكان ذلك طلاقاً. وقال كعب بن مالك لامرأته حين أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم باعتزالها : الحقي بأهلك فلم يكن ذلك طلاقاً ؛ فدل على أن هذه اللفظة مفتقرة إلى النية ، وأنها لا يقضى فيها إلاَّ بما ينوِي اللاّفِظ بها ، وكذلك سائر الكنايات المحتملات للفراق وغيره. والله أعلم. وأما الألفاظ التي ليست من ألفاظ الطلاق ولا يكنّى بها عن الفراق ، فأكثر العلماء لا يُوقعون بشيء منها طلاقاً وإن قصده القائل.
وقال مالك : كل من أراد الطلاق بأيّ لفظ كان لزمه الطلاقُ ، حتى بقوله : كلي واشربي وقومي واقعدي ؛ ولم يتابع مالكاً على ذلك إلاَّ أصحابه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 134 ـ 136}
( فروع ) : تتعلق بأحكام الطلاق : (6/329)
( الفرع الأول ) : صريح اللفظ الذي يقع به الطلاق ، من غير نية ثلاث الطلاق والفراق والسراح ، وعند أبي حنيفة الصريح هو لفظ الطلاق فقط.
( الفرع الثاني ) : الحر إذا طلق زوجته طلقة أو طلقتين بعد الدخول بها فله مراجعتها من غير رضاها ما دامت في العدة فإذا لم يراجعها حتى انقضت عدتها أو طلقها قبل الدخول بها أو خالعها ، فلا تحل له إلا بنكاح جديد بإذنها وإذن وليها.
( الفرع الثالث ) : العبد يملك على زوجته الأمة تطليقتين. واختلف فيما إذا كان أحد الزوجين حراً فالحر يملك على زوجته الأمة ثلاث تطليقات ، والعبد يملك على زوجته الحرة تطليقتين فالاعتبار بحال الزوج في عدد الطلاق وبه قال الشافعي ومالك وأحمد وذهب أبو حنيفة إلى أن الاعتبار بالمرأة فالعبد يملك على زوجته الحرة ثلاث تطليقات ، والحر يملك على زوجته الأمة تطليقتين. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 157}(6/330)
بحثان قيمان لابن القيم
الأول في حكمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيمن طلق ثلاثا بكلمة واحدة
والثانى فى مسألة وقوع الثلاث بكلمة واحدة.
البحث الأول في حكمه ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيمن طلق ثلاثا بكلمة واحدة
قال رحمه الله :
قد تقدم حديث محمود بن لبيد رضى الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبر عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعا فقام مغضبا ثم قال : [ أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم ؟! ] وإسناده على شرط مسلم فإن ابن وهب قد رواه عن مخرمة بن بكير بن الأشج عن أبيه قال : سمعت محمود بن لبيد فذكره ومخرمة ثقة بلا شك وقد احتج مسلم في صحيحه بحديثه عن أبيه
والذين أعلوه قالوا : لم يسمع منه وإنما هو كتاب قال أبو طالب : سألت أحمد بن حنبل عن مخرمة بن بكير ؟ فقال : هو ثقة ولم يسمع من أبيه إنما هو كتاب مخرمة فنظر فيه كل شئ يقول : بلغني عن سليمان بن يسار فهو من كتاب مخرمة وقال أبو بكر بن أبي خيثمة : سمعت يحيي بن معين يقول : مخرمة بن بكير وقع إليه كتاب أبيه ولم يسمعه وقال في رواية عباس الدوري : هو ضعيف وحديثه عن أبيه كتاب ولم يسمعه منه وقال أبو داود : لم يسمع من أبيه إلا حديثا واحدا حديث الوتر وقال سعيد بن أبي مريم عن خاله موسى بن سلمة : أتيت مخرمة فقلت : حدثك أبوك ؟ قال : لم أدرك أبي ولكن هذه كتبه
والجواب عن هذا من وجهين(6/331)
أحدهما : أن كتاب أبيه كان عنده محفوظا مضبوطا فلا فرق في قيام الحجة بالحديث بين ما حدثه به أو رآه في كتابه بل الأخذ عن النسخة أحوط إذا تيقن الراوي أنها نسخة الشيخ بعينها وهذه طريقة الصحابة والسلف وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يبعث كتبه إلى الملوك وتقوم عليهم بها الحجة وكتب كتبه إلى عماله في بلاد الإسلام فعملوا بها واحتجوا بها ودفع الصديق كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الزكاة إلى أنس بن مالك فحمله وعملت به الأمة وكذلك كتابه إلى عمرو بن حزم في الصدقات الذي كان عند آل عمرو ولم يزل السلف والخلف يحتجون بكتاب بعضهم إلى بعض ويقول المكتوب إليه : كتب إلي فلان أن فلانا أخبره ولو بطل الإحتجاج بالكتب لم يبق بأيدي الأمة إلا أيسر اليسير فإن الإعتماد إنما هو على النسخ لا على الحفظ والحفظ خوان والنسخة لا تخون ولا يحفظ في زمن من الأزمان المتقدمة أن أحدا من أهل العلم رد الإحتجاج بالكتاب وقال : لم يشافهني به الكاتب فلا أقبله بل كلهم مجمعون على قبول الكتاب والعمل به إذا صح عنده أنه كتابه(6/332)
الجواب الثاني : أن قول من قال : لم يسمع من أبيه معارض بقول من قال : سمع منه ومعه زيادة علم وإثبات قال عبد الرحمن بن أبي حاتم : سئل أبي عن مخرمة بن بكير ؟ فقال : صالح الحديث قال : وقال ابن أبي أويس : وجدت في ظهر كتاب مالك : سألت مخرمة عما يحدث به عن أبيه سمعها من أبيه ؟ فحلف لي : ورب هذه البنية - يعني المسجد - سمعت من أبي وقال علي بن المديني : سمعت معن بن عيسى يقول : مخرمة سمع من أبيه وعرض عليه ربيعة أشياء من رأي سليمان بن يسار وقال علي : ولا أظن مخرمة سمع من أبيه كتاب سليمان لعله سمع منه الشئ اليسير ولم أجد أحدا بالمدينة يخبرني عن مخرمة بن بكير أنه كان يقول في شئ من حديثه : سمعت أبي ومخرمة ثقة انتهى ويكفي أن مالكا أخذ كتابه فنظر فيه واحتج به في موطئه وكان يقول : حدثني مخرمة وكان رجلا صالحا وقال أبو حاتم : سألت إسماعيل بن أبي أويس قلت : هذا الذي يقول مالك بن أنس : حدثني الثقة من هو ؟ قال : مخرمة بن بكير وقيل لأحمد بن صالح المصري : كان مخرمة من ثقات الرجال ؟ قال : نعم وقال ابن عدي عن ابن وهب ومعن بن عيسى عن مخرمة : أحاديث حسان مستقيمة وأرجو أنه لا بأس به
وفي صحيح مسلم قول ابن عمر للمطلق ثلاثا : حرمت عليك حتى تنكح زوجا غيرك وعصيت ربك فيما أمرك به من طلاق امرأتك وهذا تفسير منه للطلاق المأمور به وتفسير الصحابي حجة وقال الحاكم : هو عندنا مرفوع(6/333)
ومن تأمل القرآن حق التأمل تبين له ذلك وعرف أن الطلاق المشروع بعد الدخول هو الطلاق الذي يملك به الرجعة ولم يشرع الله سبحانه إيقاع الثلاث جملة واحدة البتة قال تعالى : {الطلاق مرتان} ولا تعقل العرب في لغتها وقوع المرتين إلا متعاقبتين كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ من سبح الله دبر كل صلاة ثلاثا وثلاثين وحمده ثلاثا وثلاثين وكبره أربعا وثلاثين ] ونظائره فإنه لا يعقل من ذلك إلا تسبيح وتكبير وتحميد متوال يتلو بعضه بعضا فلو قال : سبحان الله ثلاثا وثلاثين والحمد لله ثلاثا وثلاثين والله أكبر أربعا وثلاثين بهذا اللفظ لكان ثلاث مرات فقط وأصرح من هذا قوله سبحانه : {والذين يرمون أزواجهم ولم يكن لهم شهداء إلا أنفسهم فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} [ النور : 6 ] فلو قال : أشهد بالله أربع شهادات إني لمن الصادقين كانت مرة وكذلك قوله : {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين} [ النور : 8 ] فلو قالت : أشهد بالله أربع شهادات إنه لمن الكاذبين كانت واحدة وأصرح من ذلك قوله تعالى : {سنعذبهم مرتين} [ التوبة : 101 ] فهذا مرة بعد مرة ولا ينتقض هذا بقوله تعالى : {نؤتها أجرها مرتين} [ الاحزاب : 31 ] وقوله صلى الله عليه وسلم : [ ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين ] فإن المرتين هنا هما الضعفان وهما المثلان وهما مثلان في القدر كقوله تعالى : {يضاعف لها العذاب ضعفين} [ الأحزاب : 30 ] وقوله : {فآتت أكلها ضعفين} [ البقرة : 265 ] أي : ضعفي ما يعذب به غيرها وضعفي ما كانت تؤتي ومن هذا قول أنس : انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين أي : شقتين وفرقتين كما قال في اللفظ الآخر : انشق القمر فلقتين وهذا أمر معلوم قطعا أنه إنما انشق القمر مرة واحدة والفرق معلوم بين ما يكون مرتين في الزمان وبين ما يكون مثلين وجزأين ومرتين في المضاعفة فالثاني : يتصور فيه اجتماع المرتين في آن(6/334)
واحد والأول لا يتصور فيه ذلك
ومما يدل على أن الله لم يشرع الثلاث جملة : أنه قال تعالى : {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} إلى أن قال : {وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحا} [ البقرة : 228 ] فهذا يدل على أن كل طلاق بعد الدخول فالمطلق أحق فيه بالرجعة سوى الثالثة المذكورة بعد هذا وكذلك قوله تعالى : {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن} إلى قوله : {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف} فهذا هو الطلاق المشروع وقد ذكر الله سبحانه وتعالى أقسام الطلاق كلها في القرآن وذكر أحكامها فذكر الطلاق قبل الدخول وأنه لا عدة فيه وذكر الطلقة الثالثة وأنها تحرم الزوجة على المطلق حتى تنكح زوجا غيره وذكر طلاق الفداء الذي هو الخلع وسماه فدية ولم يحسبه من الثلاث كما تقدم وذكر الطلاق الرجعي الذي المطلق أحق فيه بالرجعة وهو ما عدا هذه الأقسام الثلاثة
وبهذا احتج أحمد والشافعي وغيرهما على أنه ليس في الشرع طلقة واحدة بعد الدخول بغير عوض بائنة وأنه إذا قال لها : أنت طالق طلقة بائة كانت رجعة ويلغو وصفها بالبينونة وأنه لا يملك إبانتها إلا بعوض وأما أبو حنيفة فقال : تبين بذلك لأن الرجعة حق له وقد أسقطها والجمهور يقولون : وإن كانت الرجعة حقا له لكن نفقة الرجعية وكسوتها حق عليه فلا يملك إسقاطه إلا باختيارها وبذلها العوض أو سؤالها أن تفتدي نفسها منه بغير عوض في أحد القولين وهو جواز الخلع بغير عوض
وأما إسقاط حقها من الكسوة والنفقة بغير سؤالها ولا بذلها العوض فخلاف النص والقياس(6/335)
قالو ! : وأيضا فالله سبحانه شرع الطلاق على أكمل الوجوه وأنفعها للرجل والمرأة فإنهم كانوا يطلقون في الجاهلية بغير عدد فيطلق أحدهم المرأة كلما شاء ويراجعها وهذا وإن كان فيه رفق بالرجل ففيه إضرار بالمرأة فنسخ سبحانه ذلك بثلاث وقصر الزوج عليها وجعله أحق بالرجعة ما لم تنقض عدتها فإذا استوفى العدد الذي ملكه حرمت عليه فكان في هذا رفق بالرجل إذ لم تحرم بأول طلقة وبالمرأة حيث لم يجعل إليه أكثر من ثلاث فهذا شرعه وحكمته وحدوده التي حدها لعباده فلو حرمت عليه بأول طلقة يطلقها كان خلاف شرعه وحكمته وهو لم يملك إيقاع الثلاث جملة بل إنما ملك واحدة فالزائد عليها غير مأذون له فيه
قالوا : وهذا كما أنه لم يملك إبانتها بطلقة واحدة إذ هو خلاف ما شرعه لم يملك إبانتها بثلاث مجموعة إذ هو خلاف شرعه
ونكتة المسألة أن الله لم يجعل للأمة طلاقا بائنا قط إلا في موضعين أحدهما : طلاق غير المدخول بها والثاني : الطلقة الثالثة وما عداه من الطلاق فقد جعل للزوج فيه الرجعة هذا مقتضى الكتاب كما تقدم تقريره وهذا قول الجمهور منهم : الإمام أحمد والشافعي وأهل الظاهر قالوا : لا يملك إبانتها بدون الثلاث إلا في الخلع
ولأصحاب مالك ثلاثة أقوال فيما إذا قال : أنت طالق طلقة لا رجعة فيها أحدها : أنها ثلاث قاله ابن الماجشون لأنه قطع حقه من الرجعة وهي لا تنقطع إلا بثلاث فجاءت الثلاث ضرورة الثاني : أنها واحدة بائنة كما قال هذا قول ابن القاسم لأنه يملك إبانتها بطلقة بعوض فملكها بدونه والخلع عنده طلاق الثالث : أنها واحدة رجعية وهذا قول ابن وهب وهو الذي يقتضيه الكتاب والسنة والقياس وعليه الأكثرون. أ هـ {زاد المعاد حـ 5 صـ 220 ـ 225}
البحث الثانى فى مسألة وقوع الثلاث بكلمة واحدة
قال رحمه الله :
اختلف الناس فيها على أربعة مذاهب
أحدها : أنها تقع وهذا قول الأئمة الأربعة وجمهور التابعين وكثير من الصحابة رضي الله عنهم(6/336)
الثاني : أنها لا تقع بل ترد لأنها بدعة محرمة والبدعة مردودة لقوله صلى الله عليه وسلم : [ من عمل عملا ليس عليه أمرنا فهو رد ] وهذا المذهب حكاه أبو محمد ابن حزم وحكي للإمام أحمد فأنكره وقال : هو قول الرافضة
الثالث : أنه يقع به واحدة رجعية وهذا ثابت عن ابن عباس ذكره أبو داود عنه قال الإمام أحمد : وهذا مذهب ابن إسحاق يقول : خالف السنة فيرد إلى السنة انتهى وهو قول طاووس وعكرمة وهو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية
الرابع : أنه يفرق بين المدخول بها وغيرها فتقع الثلاث بالمدخول بها ويقع بغيرها واحدة وهذا قول جماعة من أصحاب ابن عباس وهو مذهب إسحاق بن راهويه فيما حكاه عنه محمد بن نصر المروزي في كتاب اختلاف العلماء
فأما من لم يوقعها جملة فاحتجوا بأنه طلاق بدعة محرم والبدعة مردودة وقد اعترف أبو محمد ابن حزم بانها لو كانت بدعة محرمة لوجب أن ترد وتبطل ولكنه اختار مذهب الشافعي أن جمع الثلاث جائز غير محرم وسيأتي حجة هذا القول
وأما من جعلها واحدة فاحتج بالنص والقياس فأما النص فما رواه معمر وابن جريج عن ابن طاووس عن أبيه أن أبا الصهباء قال لابن عباس : ألم تعلم أن الثلاث كانت تجعل واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر ؟ قال نعم رواه مسلم في صحيحه
وفي لفظ : ألم تعلم أن الثلاث كانت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر ترد إلى واحدة ؟ قال : نعم(6/337)
وقال أبو داود : حدثنا أحمد بن صالح حدثنا عبد الرزاق أن ابن جريج قال : أخبرني بعض بني أبى رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عكرمة عن ابن عباس قال : [ طلق عبد يزيد - أبو ركانة وإخوته - أم ركانة ونكح امرأة من مزينة فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : ما يغني عني إلا كما تغني هذه الشعرة لشعرة أخذتها من رأسها ففرق بيني وبينه فأخذت النبي صلى الله عليه وسلم حمية فدعا بركانة وإخوته ثم قال لجلسائه : ألا ترون أن فلانا يشبه منه كذا وكذا من عبد يزيد وفلانا منه كذا وكذا ؟ قالوا : نعم قال النبي صلى الله عليه وسلم لعبد يزيد : طلقها ففعل ثم قال : راجع امرأتك أم ركانة وإخوته فقال : إنى طلقتها ثلاثا يا رسول الله قال : قد علمت راجعها ] وتلا : {يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن}
وقال الإمام أحمد : حدثنا سعد بن إبراهيم قال : حدثنا أبي عن محمد بن إسحاق قال : حدثني داود بن الحصين عن عكرمة مولى ابن عباس عن عبد الله بن عباس قال : [ طلق ركانة بن عبد يزيد أخو بني المطلب امرأته ثلاثا في مجلس وحد فحزن عليها حزنا شديدا قال : فسأله رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف طلقتها : فقال : طلقتها ثلاثا فقال : في مجلس واحد قال : نعم قال : فإنما تلك واحدة فارجعها إن شئت ] قال : فراجعها فكان ابن عباس يرى أنما الطلاق عند كل طهر(6/338)
قالوا : وأما القياس فقد تقدم أن جمع الثلاث محرم وبدعة والبدعة مردودة لأنها ليست على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : وسائر ما تقدم في بيان التحريم يدل على عدم وقوعها جملة قالوا : ولو لم يكن معنا إلا قوله تعالى : {فشهادة أحدهم أربع شهادات بالله} [ النور : 6 ] وقوله : {ويدرأ عنها العذاب أن تشهد أربع شهادات بالله} [ النور : 8 ] قالوا : وكذلك كل ما يعتبر له التكرار من حلف أو إقرار أو شهادة وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : [ تحلفون خمسين يمينا وتستحقون دم صاحبكم ]
فلو قالوا : نحلف بالله خمسين يمينا : إن فلانا قتله كانت يمينا واحدة قالوا : وكذلك الإقرار بالزنى كما في الحديث : أن بعض الصحابة قال لماعز : إن أقررت أربعا رجمك رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذا لا يعقل أن تكون الأربع فيه مجموعة بفم واحد
وأما الذين فرقوا بين المدخول بها وغيرها فلهم حجتان
إحداهما : ما رواه أبو داود بإسناد صحيح عن طاووس أن رجلا يقال له : أبو الصهباء كان كثير السؤال لابن عباس قال له : أما علمت أن الرجل كان إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر ؟ فلما رأى عمر الناس قد تتايعوا فيها قال أجيزوهن عليهم
الحجة الثانية : أنها تبين بقوله : أنت طالق فيصادفها ذكر الثلاث وهى بائن فتلغو ورأى هؤلاء أن إلزام عمر بالثلاث هو في حق المدخول بها وحديث أبي الصهباء في غير المدخول بها قالوا : ففي هذا التفريق موافقة المنقول من الجانبين وموافقة القياس وقال بكل قول من هذه الأقوال جماعة من أهل الفتوى كما حكاه أبو محمد ابن حزم وغيره ولكن عدم الوقوع جملة هو مذهب الإمامية وحكوه عن جماعة من أهل البيت
قال الموقعون للثلاث : الكلام معكم في مقامين
أحدهما : تحريم جمع الثلاث والثاني : وقوعها جملة ولو كان محرمة ونحن نتكلم معكم في المقامين فأما الأول : (6/339)
فقد قال الشافعي وأبو ثور وأحمد بن حنبل في إحدى الروايات عنه وجماعة من أهل الظاهر : إن جمع الثلاث سنة واحتجوا عليه بقوله تعالى : {فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره} [ البقرة : 236 ] ولم يفرق بين أن تكون الثلاث مجموعة أو مفرقة ولا يجوز أن نفرق بين ما جمع الله بينه كما لا نجمع بين ما فرق الله بينه وقال تعالى : {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [ البقرة : 227 ] ولم يفرق وقال : {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} الآية ولم يفرق وقال : {وللمطلقات متاع بالمعروف} [ البقرة : 241 ] وقال : {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن} [ الأحزاب : 49 ] ولم يفرق قالوا : وفي الصحيحين أن عويمرا العجلاني طلق امرأته ثلاثا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يأمره بطلاقها قالوا : فلو كان جمع الثلاث معصية لما أقر عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يخلو طلاقها أن يكون قد وقع وهي امرأته أو حين حرمت عليه باللعان فإن كان الأول فالحجة منه ظاهرة وإن كان الثاني فلا شك أنه طلقها وهو يظنها امرأته فلو كان حراما لبينها له رسول الله صلى الله عليه وسلم وإن كانت قد حرمت عليه قالوا : وفي صحيح البخاري من حديث القاسم بن محمد عن عائشة أم المؤمنين أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فطلقت فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أتحل للأول ؟ قال : [ لا حتى يذوق عسيلتها كما ذاق الأول ] فلم ينكر صلى الله عليه وسلم ذلك وهذا يدل على إباحة جمع الثلاث وعلى وقوعها إذ لو لم تقع لم يوقف رجوعها إلى الأول على ذوق الثاني عسيلتها(6/340)
قالوا : وفي الصحيحين من حديث أبي سلمة بن عبد الرحمن [ أن فاطمة بنت قيس أخبرته أن زوجها أبا حفص بن المغيرة المخزومي طلقها ثلاثا ثم انطلق إلى اليمن فانطلق خالد بن الوليد في نفر فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت ميمونة أم المؤمنين فقالوا : إن أبا حفص طلق امرأته ثلاثا فهل لها من نفقة ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس لها نفقة وعليها العدة ]
وفي صحيح مسلم في هذه القصة : قالت فاطمة فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : [ كم طلقك ؟ قلت : ثلاثا فقال : صدق ليس لك نفقة ]
وفي لفظ له : قالت : يا رسول الله ! إن زوجي طلقني ثلاثا وإني أخاف أن يقتحم علي
وفي لفظ له : عنها أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في المطلقة ثلاثا : [ ليس لها سكنى ولا نفقة ]
قالوا : وقد روى عبد الرزاق في مصنفه عن يحيى بن العلاء عن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن داود بن عبادة بن الصامت قال : طلق جدي امرأة له ألف تطليقة فانطلق أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : [ ما اتقى الله جدك أما ثلاث فله وأما تسعمائة وسبعة وتسعون فعدوان وظلم إن شاء الله عذبه وإن شاء غفر له ]
ورواه بعضهم عن صدقة بن أبي عمران عن إبراهيم بن عبيد الله بن عبادة بن الصامت عن أبيه عن جده قال : [ طلق بعض آبائي امرأته فانطلق بنوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله ! إن أبانا طلق أمنا ألفا فهل له من مخرج ؟ فقال : إن أباكم لم يتق الله فيجعل له مخرجا بانت منه بثلاث على غير السنة وتسعمائة وسبعة وتسعون إثم في عنقه ](6/341)
قالوا : وروى محمد بن شاذان عن معلى بن منصور عن شعيب بن زريق أن عطاء الخراساني حدثهم عن الحسن قال : حدثنا عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه طلق امرأته وهي حائض ثم أراد أن يتبعها بطلقتين أخريين عند القرءين الباقيين فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : [ يا ابن عمر ! ما هكذا أمرك الله أخطأت السنة ] وذكر الحديث وفيه فقلت : يا رسول الله ! لو كنت طلقتها ثلاثا أكان لي أن أجمعها قال : [ لا كانت تبين وتكون معصية ]
قالوا : وقد روى أبو داود في سننه : عن نافع بن عجير بن عبد يزيد بن ركانة أن ركانة بن عبد يزيد طلق امرأته سهيمة البتة فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بذلك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [ والله ما أردت إلا واحدة ؟ فقال ركانة : والله ما أردت إلا واحدة فردها إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ] فطلقها الثانية في زمن عمر والثالثة في زمن عثمان
وفي جامع الترمذي : [ عن عبد الله بن علي بن يزيد بن ركانة عن أبيه عن جده أنه طلق امرأته البتة فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما أردت بها ؟ قال : واحدة قال : آلله قال : آلله قال : هو على ما أردت ] قال الترمذي : لا نعرفه إلا من هذا الوجه وسألت محمدا - يعني البخاري - عن هذا الحديث ؟ فقال : فيه اضطراب
ووجه الإستدلال بالحديث أنه صلى الله عليه وسلم أحلفه أنه أراد بالبتة واحدة فدل على أنه لو أراد بها أكثر لوقع ما أراده ولو لم يفترق الحال لم يحلفه
قالوا : وهذا أصح من حديث ابن جريج عن بعض بني أبي رافع عن عكرمة عن ابن عباس أنه طلقها ثلاثا قال أبو داود : لأنهم ولد الرجل وأهله أعلم به أن ركانة إنما طلقها البتة
قالوا : وابن جريج إنما رواه عن بعض بني أبي رافع فإن كان عبيد الله فهو ثقة معروف وإن كان غيره من إخوته فمجهول العدالة لا تقوم به حجة(6/342)
قالوا : وأما طريق الإمام أحمد ففيها ابن إسحاق والكلام فيه معروف وقد حكى الخطابي أن الإمام أحمد كان يضعف طرق هذا الحديث كلها
قالوا : وأصح ما معكم حديث أبي الصهباء عن ابن عباس وقد قال البيهقي : هذا الحديث أحد ما اختلف فيه البخاري ومسلم فأخرجه مسلم وتركه البخاري وأظنه تركه لمخالفته سائر الروايات عن ابن عباس ثم ساق الروايات عنه بوقوع الثلاث ثم قال : فهذه رواية سعيد بن جبير وعطاء بن أبي رباح ومجاهد وعكرمة وعمرو بن دينار ومالك بن الحارث ومحمد بن إياس بن البكير قال : ورويناه عن معاوية بن أبى عياش الأنصاري كلهم عن ابن عباس أنه أجاز الثلاث وأمضاهن
وقال ابن المنذر : فغير جائز أن يظن بابن عباس أنه يحفط عن النبي صلى الله عليه وسلم شيئا ثم يفتي بخلافه
وقال الشافعي : فإن كان معنى قول ابن عباس : إن الثلاث كانت تحسب على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة يعني أنه بأمر النبي صلى الله عليه وسلم فالذي يشبه - والله أعلم - أن يكون ابن عباس قد علم أنه كان شيئا فنسخ قال البيهقي : ورواية عكرمة عن ابن عباس فيها تأكيد لصحة هذا التأويل - يريد البيهقي - ما رواه أبو داود والنسائي من حديث عكرمة في قوله تعالى : {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} الآية وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثا فنسخ ذلك فقال : {الطلاق مرتان}
قالوا : فيحتمل أن الثلاث كانت تجعل واحدة من هذا الوقت بمعنى أن الزوج كان يتمكن من المراجعة بعدها كما يتمكن من المراجعة بعد الواحدة ثم نسخ ذلك(6/343)
وقال ابن سريج : يمكن أن يكون ذلك إنما جاء في نوع خاص من الطلاق الثلاث وهو أن يفرق بين الألفاظ كأن يقول : أنت طالق أنت طالق أنت طالق وكان في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وعهد أبي بكر رضي الله عنه الناس على صدقهم وسلامتهم لم يكن فيهم الخب والخداع فكانوا يصدقون أنهم أرادوا به التأكيد ولا يريدون به الثلاث فلما رأى عمر رضي الله عنه في زمانه أمورا ظهرت وأحوالا تغيرت منع من حمل اللفظ على التكرار وألزمهم الثلاث
وقالت طائفة : معنى الحديث أن الناس كانت عادتهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إيقاع الواحدة ثم يدعها حتى تنقضي عدتها ثم اعتادوا الطلاق الثلاث جملة وتتايعوا فيه ومعنى الحديث على هذا : كان الطلاق الذي يوقعه المطلق الآن ثلاثا يوقعه على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر واحدة فهو إخبار عن الواقع لا عن المشروع
وقالت طائفة : ليس في الحديث بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم هو الذي كان يجعل الثلاث واحدة ولا أنه أعلم بذلك فأقر عليه ولا حجة إلا فيما قاله أو فعله أو علم به فأقر عليه ولا يعلم صحة واحدة من هذه الأمور في حديث أبي الصهباء
قالوا : وإذا اختلفت علينا الأحاديث نظرنا إلى ما عليه أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم أعلم بسنته فنظرنا فإذا الثابت عن عمر بن الخطاب الذي لا يثبت عنه غيره ما رواه عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن سلمة بن كهيل حدثنا زيد بن وهب أنه رفع إلى عمر بن الخطاب رجل طلق امرأته ألفا فقال له عمر : أطلقت امرأتك ؟ فقال : إنما كنت ألعب فعلاه عمر بالدرة وقال : إنما يكفيك من ذلك ثلاث
وروى وكيع عن الأعمش عن حبيب بن أبي ثابت قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : إني طلقت امرأتي ألفا فقال له علي : بانت منك بثلاث واقسم سائرهن بين نسائك(6/344)
وروى وكيع أيضا عن جعفر بن برقان عن معاوية بن أبي يحيى قال : جاء رجل إلى عثمان بن عفان فقال : طلقت امرأتي ألفا فقال : بانت منك بثلاث
وروى عبد الرزاق عن سفيان الثوري عن عمرو بن مرة عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس : طلقت امرأتي ألفا فقال له ابن عباس : ثلاث تحرمها عليك وبقيتها عليك وزر اتخذت آيات الله هزوا
وروى عبد الرزاق أيضا عن معمر عن الأعمش عن إبراهيم عن علقمة قال : جاء رجل إلى ابن مسعود فقال : إني طلقت امرأتي تسعا وتسعين فقال له ابن مسعود : ثلاث تبينها منك وسائرهن عدوان
وذكر أبو داود في سننه عن محمد بن إياس أن ابن عباس وأبا هريرة وعبد الله بن عمرو بن العاص سئلوا عن البكر يطلقها زوجها ثلاثا فكلهم قال : لا تحل له حتى تنكح زوجا غيره
قالوا : فهؤلاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تسمعون قد أوقعوا الثلاث جملة ولو لم يكن فيهم إلا عمر المحدث الملهم وحده لكفى فإنه لا يظن به تغيير ما شرعه النبي صلى الله عليه وسلم من الطلاق الرجعي فيجعله محرما وذلك يتضمن تحريم فرج المرأة على من لم تحرم عليه وإباحته لمن لا تحل له ولو فعل ذلك عمر لما أقره عليه الصحابة فضلا عن أن يوافقوه ولو كان عند ابن عباس حجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الثلاث واحدة لم يخالفها ويفتي بغيرها موافقة لعمر وقد علم مخالفته له في العول وحجب الأم بالإثنين من الإخوة والأخوات وغير ذلك
قالوا : ونحن في هذه المسألة تبع لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهم أعلم بسنته وشرعه ولو كان مستقرا من شريعته أن الثلاث واحدة وتوفي والأمر على ذلك لم يخف عليهم ويعلمه من بعدهم ولم يحرموا الصواب فيه ويوفق له من بعدهم ويروي حبر الأمة وفقيهها خبر كون الثلاث واحدة ويخالفه(6/345)
قال المانعون من وقوع الثلاث : التحاكم في هذه المسألة وغيرها إلى من أقسم الله سبحانه وتعالى أصدق قسم وأبره أنا لا نؤمن حتى نحكمه فيما شجر بيننا ثم نرضى بحكمه ولا يلحقنا فيه حرج ونسلم له تسليما لا إلى غيره كائنا من كان اللهم إلا أن تجمع أمته إجماعا متيقنا لا نشك فيه على حكم فهو الحق الذي لا يجوز خلافه ويأبى الله أن تجتمع الأمة على خلاف سنة ثابتة عنه أبدا ونحن قد أوجدناكم من الأدلة ما تثبت المسألة به بل وبدونه ونحن نناظركم فيما طعنتم به في تلك الأدلة وفيما عارضتمونا به على أنا لا نحكم على أنفسنا إلا نصا عن الله أو نصا ثابتا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أو إجماعا متيقنا لا شك فيه وما عدا هذا فعرضة للنزاع وغايته أن يكون سائغ الإتباع لا لازمه فلتكن هذه المقدمة سلفا لنا عندكم وقد قال تعالى : {فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول} [ النساء : 59 ] فقد تنازعنا نحن وأنتم في هذه المسألة فلا سبيل إلى ردها إلى غير الله ورسوله البتة وسيأتي أننا أحق بالصحابة وأسعد بهم فيها فنقول :
أما منعكم لتحريم جمع الثلاث فلا ريب أنها مسألة نزاع ولكن الأدلة الدالة على التحريم حجة عليكم(6/346)
أما قولكم : إن القرآن دل على جواز الجمع فدعوى غير مقبولة بل باطلة وغاية ما تمسكتم به إطلاق القرآن للفظ الطلاق وذلك لا يعم جائزه ومحرمه كما لا يدخل تحته طلاق الحائض وطلاق الموطوءة في طهرها وما مثلكم في ذلك إلا كمثل من عارض السنة الصحيحة في تحريم الطلاق المحرم بهذه الإطلاقات سواء ومعلوم أن القرآن لم يدل على جواز كل طلاق حتى تحملوه ما لا يطيقه وإنما دل على أحكام الطلاق والمبين عن الله عز وجل بين حلاله وحرامه ولا ريب أنا أسعد بظاهر القرآن كما بينا في صدر الإستدلال وأنه سبحانه لم يشرع قط طلاقا بائنا بغير عوض لمدخول بها إلا أن يكون آخر العدد وهذا كتاب الله بيننا وبينكم وغاية ما تمسكتم به ألفاظ مطلقة قيدتها السنة وبينت شروطها وأحكامها(6/347)
وأما استدلالكم بأن الملاعن طلق امرأته ثلاثا بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم فما أصحه من حديث وما أبعده من استدلالكم على جواز الطلاق الثلاث بكلمة واحدة في نكاح يقصد بقاؤه ودوامه ثم المستدل بهذا إن كان ممن يقول : إن الفرقة وقعت عقيب لعان الزوج وحده كما يقوله الشافعي أو عقيب لعانهما وإن لم يفرق الحاكم كما يقوله أحمد في إحدى الروايات عنه فالإستدلال به باطل لأن الطلاق الثلاث حينئذ لغو لم يفد شيئا وإن كان ممن يوقف الفرقة على تفريق الحاكم لم يصح الإستدلال به أيضا لأن هذا النكاح لم يبق سبيل إلى بقائه ودوامه بل هو واجب الإزالة ومؤبد التحريم فالطلاق الثلاث مؤكد لمقصود اللعان ومقرر له فإن غايته أن يحرمها عليه حتى تنكح زوجا غيره وفرقة اللعان تحرمها عليه على الأبد ولا يلزم من نفوذ الطلاق في نكاح قد صار مستحق التحريم على التأبيد نفوذه في نكاح قائم مطلوب البقاء والدوام ولهذا لو طلقها في هذا الحال وهي حائض أو نفساء أو في طهر جامعها فيه لم يكن عاصيا لأن هذا النكاح مطلوب الإزالة مؤيد التحريم ومن العجب أنكم متمسكون بتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم على هذا الطلاق المذكور ولا تتمسكون بإنكاره وغضبه للطلاق الثلاث من غير الملاعن وتسميته لعبا بكتاب الله كما تقدم فكم بين هذا الإقرار وهذا الإنكار ؟ ونحن بحمد الله قائلون بالأمرين مقرون لما أقره رسول الله صلى الله عليه وسلم منكرون لما أنكره(6/348)
وأما استدلالكم بحديث عائشة رضي الله عنها أن رجلا طلق امرأته ثلاثا فتزوجت فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم هل تحل للأول ؟ قال : [ لا حتى تذوق العسيلة ] فهذا لا ننازعكم فيه نعم هو حجة على من اكتفى بمجرد عقد الثاني ولكن أين في الحديث أنه طلق الثلاث بفم واحد بل الحديث حجة لنا فإنه لا يقال : فعل ذلك ثلاثا وقال ثلاثا إلا من فعل وقال : مرة بعد مرة هذا هو المعقول في لغات الأمم عربهم وعجمهم كما يقال : قذفه ثلاثا وشتمه ثلاثا وسلم عليه ثلاثا
قالوا : وأما استدلالكم بحديث فاطمة بنت قيس فمن العجب العجاب فإنكم خالفتموه فيما هو صريح فيه لا يقبل تأويلا صحيحا وهو سقوط النفقة والكسوة للبائن مع صحته وصراحته وعدم ما يعارضه مقاوما له وتمسكتم به فيما هو مجمل بل بيانه في نفس الحديث مما يبطل تعلقكم به فإن قوله : طلقها ثلاثا ليس بصريح في جمعها بل كما تقدم كيف وفي الصحيح في خبرها نفسه من رواية الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن زوجها أرسل إليها بتطليقة كانت بقيت لها من طلاقها
وفي لفظ في الصحيح : أنه طلقها آخر ثلاث تطليقات وهو سند صحيح متصل مثل الشمس فكيف ساغ لكم تركه إلى التمسك بلفظ مجمل وهو أيضا حجة عليكم كما تقدم ؟ (6/349)
قالوا : وأما استدلالكم بحديث عبادة بن الصامت الذي رواه عبد الرزاق فخبر في غاية السقوط لأن في طريقه يحيى بن العلاء عن عبيد الله بن الوليد الوصافي عن إبراهيم بن عبيد الله - ضعيف عن هالك عن مجهول ثم الذي يدل على كذبه وبطلانه أنه لم يعرف في شئ من الآثار صحيحا ولا سقيما ولا متصلا ولا منقطعا أن والد عبادة بن الصامت أدرك الإسلام فكيف بجده فهذا محال بلا شك وأما حديث عبد الله بن عمر فأصله صحيح بلا شك لكن هذه الزيادة والوصلة التي فيه : فقلت : يا رسول الله : لو طلقتها ثلاثا أكانت تحل لي ؟ إنما جاءت من رواية شعيب بن زريق وهو الشامي وبعضهم يقلبه فيقول : زريق بن شعيب وكيفما كان فهو ضعيف ولو صح لم يكن فيه حجة لأن قوله : لو طلقتها ثلاثا بمنزلة قوله : لو سلمت ثلاثا أو أقررت ثلاثا أو نحوه مما لا يعقل جمعه
وأما حديث نافع بن عجير الذي رواه أبو داود أن ركانة طلق امرأته البتة فأحلفه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أراد إلا واحدة فمن العجب تقديم نافع بن عجير المجهول الذي لا يعرف حاله البتة ولا يدرى من هو ولا ما هو على ابن جريج ومعمر وعبد الله بن طاووس في قصة أبي الصهباء وقد شهد إمام أهل الحديث محمد بن إسماعيل البخاري بأن فيه اضطرابا هكذا قال الترمذي في الجامع وذكر عنه في موضع آخر : أنه مضطرب فتارة يقول : طلقها ثلاثا وتارة يقول : واحدة وتارة يقول : البتة وقال الإمام أحمد : وطرقه كلها ضعيفة وضعفه أيضا البخاري حكاه المنذري عنه(6/350)
ثم كيف يقدم هذا الحديث المضطرب المجهول رواية على حديث عبد الرزاق عن ابن جريج لجهالة بعض بني أبي رافع هذا وأولاده تابعيون وإن كان عبيد الله أشهرهم وليس فيهم متهم بالكذب وقد روى عنه ابن جريج ومن يقبل رواية المجهول أو يقول : رواية العدل عنه تعديل له فهذا حجة عنده فأما أن يضعفه ويقدم عليه رواية من هو مثله في الجهالة أو أشد فكلا فغاية الأمر أن تتساقط روايتا هذين المجهولين ويعدل إلى غيرهما وإذا فعلنا ذلك نظرنا في حديث سعد بن إبراهيم فوجدناه صحيح الإسناد وقد زالت علة تدليس محمد بن إسحاق بقوله : حدثني داود بن الحصين وقد احتج أحمد بإسناده في مواضع وقد صحح هو وغيره بهذا الإسناد بعينه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد زينب على زوجها أبي العاص بن الربيع بالنكاح الأول ولم يحدث شيئا
وأما داود بن الحصين عن عكرمة فلم تزن الأئمة تحتج به وقد احتجوا به في حديث العرايا فيما شك فيه ولم يجزم به من تقديرها بخمسة أوسق أو دونها مع كونها على خلاف الأحاديث التي نهى فيها عن بيع الرطب بالتمر فما ذنبه في هذا الحديث سوى رواية ما لا يقولون به وإن قدحتم في عكرمة - ولعلكم فاعلون - جاءكم ما لا قبل لكم به من التناقض فيما احتججتم به أنتم وأئمة الحديث من روايته وارتضاء البخاري لإدخال حديثه في صحيحه
فصل
وأما تلك المسالك الوعرة التي سلكتموها في حديث أبي الصهباء فلا يصح شئ منها(6/351)
أما المسلك الأول وهو انفراد مسلم بروايته وإعراض البخاري عنه فتلك شكاة ظاهر عنك عارها وما ضر ذلك الحديث انفراد مسلم به شيئا ثم هل تقبلون أنتم أو أحد مثل هذا في كل حديث ينفرد به مسلم عن البخاري وهل قال البخاري قط : إن كل حديث لم أدخله في كتابي فهو باطل أو ليس بحجة أو ضعيف وكم قد احتج البخاري بأحاديث خارج الصحيح ليس لها ذكر في صحيحه وكم صحح من حديث خارج عن صحيحه فأما مخالفة سائر الروايات له عن ابن عباس فلا ريب أن عن ابن عباس روايتين صحيحتين بلا شك إحداهما : توافق هذا الحديث والأخرى : تخالفه فإن أسقطنا رواية برواية سلم الحديث على أنه بحمد الله سالم ولو اتفقت الروايات عنه على مخالفته فله أسوة أمثاله وليس بأول حديث خالفه راويه فنسألكم : هل الأخذ بما رواه الصحابي عندكم أو بما رآه ؟ فإن قلتم : الأخذ بروايته وهو قول جمهوركم بل جمهور الأمة على هذا كفيتمونا مؤونة الجواب وإن قلتم : الأخذ برأيه أريناكم من تناقضكم ما لا حيلة لكم في دفعه ولا سيما عن ابن عباس نفسه فإنه روى حديث بريرة وتخييرها ولم يكن بيعها طلاقا ورأى خلافه وأن بيع الأمة طلاقها فأخذتم - وأصبتم - بروايته وتركتم رأيه فهلا فعلتم ذلك فيما نحن فيه وقلتم : الرواية معصومة وقول الصحابي غير معصوم ومخالفته لما رواه يحتمل احتمالات عديدة من نسيان أو تأويل أو اعتقاد معارض راجح في ظنه أو اعتقاد أنه منسوخ أو مخصوص أو غير ذلك من الإحتمالات فكيف يسوغ ترك روايته مع قيام هذه الإحتمالات ؟ وهل هذا إلا ترك معلوم لمظنون بل مجهول ؟ قالوا : وقد روى أبو هريرة رضي الله عنه حديث التسبيح من ولوغ الكلب وأفتى بخلافه فأخذتم بروايته وتركتم فتواه ولو تتبعنا ما أخذتم فيه برواية الصحابي دون فتواه لطال
قالوا : واما دعواكم نسخ الحديث فموقوفة على ثبوت معارض مقاوم متراخ فأين هذا ؟!(6/352)
وأما حديث عكرمة عن ابن عباس في نسخ المراجعة بعد الطلاق الثلاث فلو صح لم يكن فيه حجة فإنه إنما فيه أن الرجل كان يطلق امرأته ويراجعها بغير عدد فنسخ ذلك وقصر على ثلاث فيها تنقطع الرجعة فأين في ذلك الإلزام بالثلاث بفم واحد ثم كيف يستمر المنسوخ على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر لا تعلم به الأمة وهو من أهم الأمور المتعلقة بحل الفروج ثم كيف يقول عمر : إن الناس قد استعجلوا في شئ كانت لهم فيه أناة وهل للأمة أناة في المنسوح بوجه ما ؟! ثم كيف يعارض الحديث الصحيح بهذا الذي فيه علي بن الحسين بن واقد وضعفه معلوم ؟
وأما حملكم الحديث على قول المطلق : أنت طالق أتت طالق أنت طالق ومقصوده التأكيد بما بعد الأول فسياق الحديث من أوله إلى آخره يرده فإن هذا الذي أولتم الحديث عليه لا يتغير بوفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يختلف على عهده وعهد خلفائه وهلم جرا إلى آخر الدهر ومن ينويه في قصد التأكيد لا يفرق بين بر وفاجر وصادق وكاذب بل يرده إلى نيته وكذلك من لا يقبله في الحكم لا يقبله مطلقا برا كان أو فاجرا(6/353)
وأيضا فإن قوله : إن الناس قد استعجلوا وتتايعوا في شئ كانت لهم فيه أناة فلو أنا أمضيناه عليهم إخبار من عمر بأن الناس قد استعجلوا ما جعلهم الله في فسحة منه وشرعه متراخيا بعضه عن بعض رحمة بهم ورفقا وأناة لهم لئلا يندم مطلق فيذهب حبيبه من يديه من أول وهلة فيعز عليه تداركه فجعل له أناة وسهلة يستعتبه فيها ويرضيه ويزول ما أحدثه العتب الداعي إلى الفراق ويراجع كل منهما الذي عليه بالمعروف فاستعجلوا فيما جعل لهم فيه أناة ومهلة وأوقعوه بفم واحد فرأى عمر رضي الله عنه أنه يلزمهم ما التزموه عقوبة لهم فإذا علم المطلق أن زوجته وسكنه تحرم عليه من أول مرة بجمعه الثلاث كف عنها ورجع إلى الطلاق المشروع المأذون فيه وكان هذا من تأديب عمر لرعيته لما أكثروا من الطلاق الثلاث كما سيأتي مزيد تقريره عند الإعتذار عن عمر رضي الله عنه في إلزامه بالثلاث هذا وجه الحديث الذي لا وجه له غيره فأين هذا من تأويلكم المستكره المستبعد الذي لا توافقه ألفاظ الحديث بل تنبو عنه وتنافره(6/354)
وأما قول من قال : إن معناه كان وقوع الطلاق الثلاث الآن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم واحدة فإن حقيقة هذا التأويل : كان الناس على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يطلقون واحدة وعلى عهد عمر صاروا يطلقون ثلاثا والتأويل إذا وصل إلى هذا الحد كان من باب الألغاز والتحريف لا من باب بيان المراد ولا يصح ذلك بوجه ما فإن الناس ما زالوا يطلقون واحدة وثلاثا وقد طلق رجال نساءهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثا فمنهم من ردها إلى واحدة كما في حديث عكرمة عن ابن عباس ومنهم من أنكر عليه وغضب وجعله متلاعبا بكتاب الله ولم يعرف ما حكم به عليهم وفيهم من أقره لتأكيد التحريم الذي أوجبه اللعان ومنهم من ألزمه بالثلاث لكون ما أتى به من الطلاق آخر الثلاث فلا يصح أن يقال : إن الناس ما زالوا يطلقون واحدة إلى أثناء خلافة عمر فطلقوا ثلاثا ولا يصح أن يقال : إنهم قد استعجلوا في شئ كانت لهم فيه أناة فنمضيه عليهم ولا يلائم هذا الكلام الفرق بين عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين عهده بوجه ما فإنه ماض منكم على عهده وبعد عهده
ثم إن في بعض ألفاظ الحديث الصحيحة : ألم تعلم أنه من طلق ثلاثا جعلت واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم
وفي لفظ : أما علمت أن الرجل كان إذ طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من خلافة عمر فقال ابن عباس : بلى كان الرجل إذا طلق امرأته ثلاثا قبل أن يدخل بها جعلوها واحدة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وصدرا من إمارة عمر فلما رأى الناس - يعني عمر - قد تتايعوا فيها قال : أجيزوهن عليهم هذا لفظ الحديث وهو بأصح إسناد وهو لا يحتمل ما ذكرتم من التأويل بوجه ما ولكن هذا كله عمل من جعل الأدلة تبعا للمذهب فاعتقد ثم استدل وأما من جعل المذهب تبعا للدليل واستدل ثم اعتقد لم يمكنه هذا العمل(6/355)
وأما قول من قال : ليس في الحديث بيان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان هو الذي يجعل ذلك ولا أنه علم به وأقره عليه فجوابه أن يقال : سبحانك هذا بهتان عظيم أن يستمر هذا الجعل الحرام المتضمن لتغيير شرع الله ودينه وإباحة الفرج لمن هو عليه حرام وتحريمه على من هو عليه حلال على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه خير الخلق وهم يفعلونه ولا يعلمونه ولا يعلمه هو والوحي ينزل عليه وهو يقرهم عليه فهب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمه وكان الصحابة يعلمونه ويبدلون دينه وشرعه والله يعلم ذلك ولا يوحيه إلى رسوله ولا يعلمه به ثم يتوفى الله رسوله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك فيستمر هذا الضلال العظيم والخطأ المبين عندكم مدة خلافة الصديق كلها يعمل به ولا يغير إلى أن فارق الصديق الدنيا واستمر الخطأ والضلال المركب صدرا من خلافة عمر حتى رأى بعد ذلك برأيه أن يلزم الناس بالصواب فهل في الجهل بالصحابة وما كانوا عليه في عهد نبيهم وخلفائه أقبح من هذا وتالله لو كان جعل الثلاث واحدة خطأ محضا لكان أسهل من هذا الخطإ الذي ارتكبتموه والتأويل الذي تأولتموه ولو تركتم المسألة بهيأتها لكان أقوى لشأنها من هذه الأدلة والأجوبة
قالوا : وليس التحاكم في هذه المسألة إلى مقلد متعصب ولا هياب للجمهور ولا مستوحش من التفرد إذا كان الصواب في جانبه وإنما التحاكم فيها إلى راسخ في العلم قد طال منه باعه ورحب بنيله ذراعه وفرق بين الشبهة والدليل وتلقى الأحكام من نفس مشكاة الرسول وعرف المراتب وقام فيها بالواجب وباشر قلبه أسرار الشريعة وحكمها الباهرة وما تضمنته من المصالح الباطنة والظاهرة وخاض في مثل هذه المضايق لججها واستوفى من الجانبين حججها والله المستعان وعليه التكلان
قالوا : وأما قولكم : إذا اختلفت علينا الأحاديث نظرنا فيما عليه الصحابة رضي الله عنهم فنعم والله وحيهلا بيرك الإسلام وعصابة الإيمان(6/356)
( فلا تطلب لي الأعواض بعدهم... فإن قلبي لا يرضى بغيرهم )
ولكن لا يليق بكم أن تدعونا إلى شئ وتكونوا أول نافر عنه ومخالف له فقد توفي النبي صلى الله عليه وسلم عن أكثر من مائة ألف عين كلهم قد رآه وسمع منه فهل صح لكم عن هؤلاء كلهم أو عشرهم أو عشر عشرهم أو عشر عشر عشرهم القول بلزوم الثلاث بفم واحد ؟ هذا ولو جهدتم كل الجهد لم تطيقوا نقله عن عشرين نفسا منهم أبدا مع اختلاف عنهم في ذلك فقد صح عن ابن عباس القولان وصح عن ابن مسعود القول باللزوم وصح عنه التوقف ولو كاثرناكم بالصحابة الذين كان الثلاث على عهدهم واحدة لكانوا أضعاف من نقل عنه خلاف ذلك ونحن نكاثركم بكل صحابي مات إلى صدر من خلافة عمر ويكفينا مقدمهم وخيرهم وأفضلهم ومن كان معه من الصحابة على عهده بل لو شئنا لقلنا ولصدقنا : إن هذا كان إجماعا قديما لم يختلف فيه على عهد الصديق اثنان ولكن لا ينقرض عصر المجمعين حتى حدث الإختلاف فلم يستقر الإجماع الأول حتى صار الصحابة على قولين واستمر الخلاف بين الأمة في ذلك إلى اليوم ثم نقول : لم يخالف عمر إجماع من تقدمه بل رأى إلزامهم بالثلاث عقوبة لهم لما علموا أنه حرام وتتايعوا فيه ولا ريب أن هذا سائغ للأئمة أن يلزموا الناس بما ضيقوا به على أنفسهم ولم يقبلوا فيه رخصة الله عز وجل وتسهيله بل اختاروا الشدة والعسر فكيف بأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وكمال نظره للأمة وتأديبه لهم ولكن العقوبة تختلف باختلاف الأزمنة والأشخاص والتمكن من العلم بتحريم الفعل المعاقب عليه وخفائه وأمير المؤمنين عمر رضي الله عنه لم يقل لهم : إن هذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وإنما هو رأي رآه مصلحة للأمة يكفهم بها عن التسارع إلى إيقاع الثلاث ولهذا قال : فلو أنا أمضيناه عليهم وفي لفظ آخر : [ فأجيزوهن عليهم ] أفلا يرى أن هذا رأي منه رآه للمصلحة لا إخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولما علم رضي الله عنه أن تلك الأناة والرخصة نعمة من الله على المطلق ورحمة به وإحسان(6/357)
إليه وأنه قابلها بضدها ولم يقبل رخصة الله وما جعله له من الأناة عاقبه بأن حال بينه وبينها وألزمه ما ألزمه من الشدة والإستعجال وهذا موافق لقواعد الشريعة بل هو موافق لحكمة الله في خلقه قدرا وشرعا فإن الناس إذا تعدوا حدوده ولم يقفوا عندها ضيق عليهم ما جعله لمن اتقاه من المخرج وقد أشار إلى هذا المعنى بعينه من قال من الصحابة للمطلق ثلاثا : إنك لو اتقيت الله لجعل لك مخرجا كما قاله ابن مسعود وابن عباس فهذا نظر أمير المؤمنين ومن معه من الصحابة لا أنه رضي الله غير أحكام الله وجعل حلالها حراما فهذا غاية التوفيق بين النصوص وفعل أمير المؤمنين ومن معه وأنتم لم يمكنكم ذلك إلا بإلغاء أحد الجانبين فهذا نهاية أقدام الفريقين في هذا المقام الضنك والمعترك الصعب وبالله التوفيق. أ هـ {زاد المعاد حـ 5 صـ 226 ـ 248}(6/358)
قوله تعالى : {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى : {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}
تفريع مرتب على قوله : {الطلاق مرتان فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله} [ البقرة : 229 ] وما بينهما بمنزلة الاعتراض ، على أن تقديمه يكسبه تأثيراً في تفريع هذا على جميع ما تقدم ؛ لأنه قد علم من مجموع ذلك أن بعد المرتين تخييراً بني المراجعة وعدمها ، فرتب على تقدير المراجعة المعبر عنها بالإمساك {فإن طلقها} وهو يدل بطريق الاقتضاء على مقدر أي فإن راجعها فطلقها لبيان حكم الطلقة الثالثة.(6/359)
وقد تهيأ السامع لتلقي هذا الحكم من قوله : {الطلاق مرتان} [ البقرة : 229 ] إذ علم أن ذلك بيان لآخر عدد في الرجعي وأن ما بعده بتات ، فذكر قوله : {فإن طلقها} زيادة في البيان ، وتمهيد لقوله : {فلا تحل له من بعد} إلخ فالفاء إما عاطفة لجملة {فإن طلقها} على جملة {فإمساك} [ البقرة : 229 ] باعتبار ما فيها من قوله {فإمساك} ، إن كان المراد من الإمساك المراجعة ومن التسريح عدمها ، أي فإن أمسك المطلق أي راجع ثم طلقها ، فلا تحل له من بعد ، وهذا هو الظاهر ، وإما فصيحة لبيان قوله : {أو تسريح بإحسان} [ البقرة : 229 ] ، إن كان المراد من التسريح إحداث الطلاق ، أي فإن ازداد بعد المراجعة فسرح فلا تحل له من بعد ، وإعادة هذا على هذا الوجه ليرتب عليه تحريم المراجعة إلا بعد زوج ، تصريحاً بما فهم من قوله : {الطلاق مرتان} ويكون التعبير بالطلاق هنا دون التسريح للبيان وللتفنن على الوجهين المتقدمين ، ولا يعوزك توزيعه عليهما ، والضمير المستتر راجع للمطلق المستفاد من قوله : {الطلاق مرتان} والضمير المنصوب راجع للمطلقة المستفادة من الطلاق أيضاً ، كما تقدم في قوله : {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} [ البقرة : 229 ].
والآية بيان لنهاية حق المراجعة صراحة ، وهي إما إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية وتشريع إسلامي جديد ، وإما نسخ لما تقرر أول الإسلام إذا صح ما رواه أبو داود في "سننه" ، في باب نسخ المراجعة بعد التطليقات الثلاث ، عن ابن عباس "أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً فنسخ ذلك ونزل {الطلاق مرتان}.(6/360)
ولا يصح بحال عطف قوله : {فإن طلقها} على جملة {ولا يحل لكم أن تأخذوا} [ البقرة : 229 ] ، ولا صدق الضميرين على ما صدقت عليه ضمائر {إلا أن يخافا ألا يقيما} ، و{فلا جناح عليهما} لعدم صحة تعلق حكم قوله تعالى : {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} بما تعلق به حكم قوله : {ولا يحل لكم أن تأخذوا} [ البقرة : 229 ] إلخ إذ لا يصح تفريع الطلاق الذي لا تحل بعده المرأة على وقوع الخلع ، إذ ليس ذلك من أحكام الإسلام في قول أحد ، فمن العجيب ما وقع في "شرح الخطابي على سنن أبي داود" : أن ابن عباس احتج لكون الخلع فسخاً بأن الله ذكر الخلع ثم أعقبه بقوله : {فإن طلقها فلا تحل له من بعد} الآية قال : " فلو كان الخلع طلاقاً لكان الطلاق أربعاً " ولا أحسب هذا يصح عن ابن عباس لعدم جريه على معاني الاستعمال العربي. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 414}
قال الفخر :
اعلم أن هذا هو الحكم الخامس من أحكام الطلاق ، وهو بيان أن الطلقة الثالثة قاطعة لحق الرجعة ، وفيه مسائل : (6/361)
المسألة الأولى : الذين قالوا : إن قوله {أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [ البقرة : 229 ] إشارة إلى الطلقة الثالثة قالوا إن قوله : {فَإِن طَلَّقَهَا} تفسير لقوله : {تَسْرِيحٌ بإحسان} وهذا قول مجاهد ، إلا أنا بينا أن الأولى أن لا يكون المراد من قوله : {تَسْرِيحٌ بإحسان} الطلقة الثالثة ، وذلك لأن للزوج مع المرأة بعد الطلقة الثانية أحوالاً ثلاثة أحدها : أن يراجعها ، وهو المراد بقوله : {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [ البقرة : 229 ] والثاني : أن لا يراجعها بل يتركها حتى تنقضي العدة وتحصل البينونة ، وهو المراد بقوله : {أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} والثالث : أن يطلقها طلقة ثالثة ، وهو المراد بقوله : {فَإِن طَلَّقَهَا} فإذا كانت الأقسام ثلاثة ، والله تعالى ذكر ألفاظاً ثلاثة وجب تنزيل كل واحد من الألفاظ الثلاثة على معنى من المعاني الثلاثة ، فأما إن جعلنا قوله : {أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} عبارة عن الطلقة الثالثة كنا قد صرفنا لفظين إلى معنى واحد على سبيل التكرار ، وأهملنا القسم الثالث ، ومعلوم أن الأول أولى.
واعلم أن وقوع آية الخلع فيما بين هاتين الآيتين كالشيء الأجنبي ، ونظم الآية {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}.
فإن قيل : فإذا كان النظم الصحيح هو هذا فما السبب في إيقاع آية الخلع فيما بين هاتين الآيتين ؟ .
قلنا : السبب أن الرجعة والخلع لا يصحان إلا قبل الطلقة الثالثة ، أما بعدها فلا يبقى شيء من ذلك : فلهذا السبب ذكر الله حكم الرجعة ، ثم أتبعه بحكم الخلع ، ثم ذكر بعد الكل حكم الطلقة الثالثة لأنها كالخاتمة لجميع الأحكام المعتبرة في هذا الباب والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 89 ـ 90}
قال البقاعى : (6/362)
{فإن طلقها} أي الثالثة التي تقدم التخيير فيها بلفظ التسريح فكأنه قال : فإن اختار الطلاق البات بعد المرتين إما في العدة من الطلاق الرجعي أو بعد الرجعة بعوض أو غيره ولا فرق في جعلها ثالثة بين أن تكون بعد تزوج المرأة بزوج آخر أو لا. قال الحرالي : فردد معنى التسريح الذي بينه في موضعه بلفظ الطلاق لما هيأها بوجه إلى المعاد ، وذلك فيما يقال من خصوص هذه الأمة وإن حكم الكتاب الأول أن المطلقة ثلاثاً لا تعود أبداً فلهذا العود بعد زوج صار السراح طلاقاً - انتهى. {فلا تحل له} ولما كان إسقاط الحرف والظرف يوهم أن الحرمة تختص بما استغرق زمن البعد فيفهم أن نكاحه لها في بعض ذلك الزمن يحل قال : {من بعد} أي في زمن ولو قل من أزمان ما بعد استيفاء الدور الذي هو الثلاث بما أفاده إثبات الجار ، وتمتد الحرمة {حتى} أي إلى أن {تنكح} أي تجامع بذوق العسيلة التي صرح بها النبي صلى الله عليه وسلم ، قال الفارسي : إذا قال العرب : نكح فلان فلانة ، أرادوا عقد عليها ؛ وإذا قالوا : نكح امرأته أو زوجته ، أرادوا جامعها ؛ وقال الإمام : إن هذا الذي قاله أبو علي جار على قوانين الأصول وإنه لا يصح إرادة غيره ودل على ذلك بقياس رتبة ، فالآية دالة على أنه لا يكتفى في التحليل بدون الجماع كما بينته السنة وإلا كانت السنة ناسخة ، لأن غاية الحرمة في الآية العقد وفي الخبر الوطء وخبر الواحد لا ينسخ القرآن ، وأشار بقوله : {زوجاً} إلى أن شرط هذا الجماع أن يكون حلالاً في عقد صحيح {غيره} أي المطلق ، وفي جعل هذا غاية للحل زجر لمن له غرض ما في امرأته عن طلاقها ثلاثاً لأن كل ذي مروة يكره أن يفترش امرأته آخر ومجرد العقد لا يفيد هذه الحكمة وذلك بعد أن أثبت له سبحانه وتعالى من كمال رأفته بعباده الرجعة في الطلاق الرجعي مرتين لأن الإنسان في حال الوصال لا يدري ما يكون حاله بعده ولا تفيده الأولى كمال التجربة فقد يحصل له نوع شك بعدها وفي الثانية(6/363)
يضعف ذلك جداً ويقرب الحال من التحقق فلا يحمل على الفراق بعدها إلا قلة التأمل ومحض الخرق بالعجلة المنهي عنها. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 433 ـ 434}
وقال ابن عاشور :
قوله : {فلا تحل له} أي تحرم عليه وذكر قوله : {من بعد} أي من بعد ثلاث تطليقات تسجيلاً على المطلق ، وإيماء إلى علة التحريم ، وهي تهاون المطلق بشأن امرأته ، واستخفافه بحق المعاشرة ، حتى جعلها لعبة تقلبها عواصف غضبه وحماقته ، فلما ذكر لهم قوله {من بعد} علم المطلقون أنهم لم يكونوا محقين في أحوالهم التي كانوا عليها في الجاهلية.
والمراد من قوله : {تنكح زوجاً غيره} أن تعقد على زوج آخر ، لأن لفظ النكاح في كلام العرب لا معنى له إلا العقد بين الزوجين ، ولم أر لهم إطلاقاً آخر فيه لا حقيقة ولا مجازاً ، وأياً ما كان إطلاقه في الكلام فالمراد في هاته الآية العقد بدليل إسناده إلى المرأة ، فإن المعنى الذي ادعى المدعون أنه من معاني النكاح بالاشتراك والمجاز أعني المسيس ، لا يسند في كلام العرب للمرأة أصلاً ، وهذه نكتة غفلوا عنها في المقام.
وحكمة هذا التشريع العظيم ردع الأزواج عن الاستخفاف بحقوق أزواجهم ، وجعلهن لُعباً في بيوتهم ، فجعل للزوج الطلقة الأولى هفوة ، والثانية تجربة ، والثالثة فراقاً ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث موسى والخضر : "فكانت الأولى من موسى نسياناً والثانية شرطاً والثالثة عمداً فلذلك قال له الخضر في الثالث {هذا فراق بيني وبينك} [ الكهف : 78 ].(6/364)
وقد رتب الله على الطلقة الثالثة حكمين وهما سلب الزوج حق الرجعة ، بمجرد الطلاق ، وسلب المرأة حق الرضا بالرجوع إليه إلا بعد زوج ، واشتراط التزوج بزوج ثان بعد ذلك لقصد تحذير الأزواج من المسارعة بالطلقة الثالثة ، إلا بعد التأمل والتريث ، الذي لا يبقى بعده رجاء في حسن المعاشرة ، للعلم بحرمة العود إلا بعد زوج ، فهو عقاب للأزواج المستخفين بحقوق المرأة ، إذا تكرر منهم ذلك ثلاثاً ، بعقوبة ترجع إلى إيلام الوجدان ، لما ارتكز في النفوس من شدة النفرة من اقتران امرأته برجل آخر ، وينشده حال المرأة قول ابن الزَّبير :
وفي الناس إن رثَّتْ حِبالك وَاصل
وفي الأرض عن دار القِلَى متحول...(6/365)
وفي الطيبي قال الزجاج : "إنما جعل الله ذلك لعلمه بصعوبة تزوج المرأة على الرجل فحرم عليهما التزوج بعد الثلاث لئلا يعجلوا وأن يثبتوا" وقد علم السامعون أن اشتراط نكاح زوج آخر هو تربية للمطلقين ، فلم يخطر ببال أحد إلا أن يكون المراد من النكاح في الآية حقيقته وهي العقد ، إلا أن العقد لما كان وسيلة لما يقصد له في غالب الأحوال من البناء وما بعده ، كان العقد الذي لا يعقبه وطء العاقد لزوجه غير معتد به فيما قصد منه ، ولا يعبأ المطلق الموقع الثلاث بمجرد عقد زوج آخر لم يمس فيه المرأة ، ولذلك لما طلق رفاعة بن سموأل القرظي زوجه تميمة ابنة وهب طلقة صادفت أخرى الثلاث ، وتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزَّبير القرظي ، جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت له : "يا رسول الله إن رفاعة طلقني فبت طلاقي ، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني وإنما معه مثل هدبة هذا الثوب" وأشارت إلى هدب ثوب لها فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة " قالت "نعم" قال " لا ، حتى تذوقي عسيلته " الحديث ، فدل سؤالها على أنها تتوقع عدم الاعتداد بنكاح ابن الزبير في تحليل من بتها ، لعدم حصول المقصود من النكاية والتربية بالمطلق ، فاتفق علماء الإسلام على أن النكاح الذي يحل المبتوتة هو دخول الزوج الثاني بالمرأة ومسيسه لها ، ولا أحسب دليلهم في ذلك إلا الرجوع إلى مقصد الشريعة ، الذي علمه سائر من فهم هذا الكلام العربي الفصيح ، فلا حاجة بنا إلى متح دلاء الاستدلال بأن هذا من لفظ النكاح المراد به في خصوص هذه الآية المسيسُ أو هو من حديث رفاعة ، حتى يكون من تقييد الكتاب بخبر الواحد ، أو هو من الزيادة على النص حتى يجىء فيه الخلاف في أنها نسخ أم لا ، وفي أن نسخ الكتاب بخبر الواحد يجوز أم لا ، كل ذلك دخول فيما لا طائل تحت تطويل تقريره بل حسبنا إجماع الصحابة وأهل اللسان على فهم هذا المقصد من لفظ القرآن ، ولم يشذ عن ذلك(6/366)
إلا سعيد بن المسيب فإنه قال : يحل المبتوتة مجرد العقد على زوج ثان ، وهو شذوذ ينافي المقصود ؛ إذ أية فائدة تحصل من العقد ، إن هو إلا تعب للعاقدين ، والولي ، والشهود إلا أن يجعل الحكم منوطاً بالعقد ، باعتبار ما يحصل بعده غالباً ، فإذا تخلف ما يحصل بعده اغتفر ، من باب التعليل بالمظنة ، ولم يتابعه عليه أحد معروف ، ونسبه النحاس لسعيد بن جبير ، وأحسب ذلك سهواً منه واشتباهاً ، وقد أمر الله بهذا الحكم ، مرتباً على حصول الطلاق الثالث بعد طلقتين تقدمتاه فوجب امتثاله وعلمت حكمته فلا شك في أن يقتصر به على مورده ، ولا يتعدى حكمه ذلك إلى كل طلاق عبر فيه المطلق بلفظ الثلاث تغليظاً ، أو تأكيداً ، أو كذباً لأن ذلك ليس طلاقاً بعد طلاقين ، ولا تتحقق فيه حكمة التأديب على سوء الصنيع ، وما المتلفظ بالثلاث في طلاقه الأول إلا كغير المتلفظ بها في كون طلقته الأولى ، لا تصير ثانية ، وغاية ما اكتسبه مقاله أنه عد في الحمقى أو الكذابين ، فلا يعاقب على ذلك بالتفريق بينه وبين زوجه ، وعلى هذا الحكم استمر العمل في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، وصدر من خلافة عمر ، كما ورد في كتب الصحيح : "الموطأ" وما بعده ، عن ابن عباس رضي الله عنه ، وقد ورد في بعض الآثار رواية حديث ابن عمر حين طلق امرأته في الحيض أنه طلقها ثلاثاً في كلمة ، وورد حديث ركانة بن عبد يزيد المطلبي ، أنه طلق امرأته ثلاثاً في كلمة واحدة فسأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : إنما ملكك الله واحدة فأمره أن يراجعها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 415 ـ 417}
سؤالان : فإن قيل : ما الحكمة في إسناد النِّكاح إلى المرأة دون الرجل فقال {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً} ؟
فالجواب : فيه فائدتان :
إحداهما : ليفيد أنَّ المقصود من هذا النكاح الوطء ، لا مجرَّد العقد ؛ لأن المرأة لا تعقد عقد النكاح ، بخلاف الرجل ؛ فإنه يطلِّق عند العقد.
الثانية : لأنَّه أفصح ، لكونه أوجز.
فإن قيل : فقد أُسند النِّكاح إلى المرأة في قوله - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إِذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ " وإنما أراد العقد.
فالجواب : أن هذا يدلُّ لنا ؛ لأنَّ جَعْلَ إسناد النكاح إلى المرأة ، والمراد به العقد ، يكون باطلاً ، وكلامنا في إسناد النِّكاح الصَّحيح. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 145}(6/367)
فصل
قال الفخر :
مذهب جمهور المجتهدين أن المطلقة بالثلاث لا تحل لذلك الزوج إلا بخمس شرائط : تعتد منه ، وتعقد للثاني ، ويطؤها ، ثم يطلقها ، ثم تعتد منه ، وقال سعيد بن جبير وسعيد بن المسيب : تحل بمجرد العقد ، واختلف العلماء في أن شرط الوطء بالسنة ، أو بالكتاب ، قال أبو مسلم الأصفهاني : الأمران معلومان بالكتاب وهذا هو المختار.
وقبل الخوض في الدليل لا بد من التنبيه على مقدمة ، قال عثمان بن جني : سألت أبا علي عن قولهم : نكح المرأة ، فقال : فرقت العرب بالاستعمال ، فإذا قالوا : نكح فلان فلانة ، أرادوا أنه عقد عليها ، وإذا قالوا : نكح امرأته أو زوجته أرادوا به المجامعة ، وأقول : هذا الذي قاله أبو علي كلام محقق بحسب القوانين العقلية ، لأن الإضافة الحاصلة بين الشيئين مغايرة لذات كل واحد من المضافين ، فإذا قيل : نكح فلان زوجته ، فهذا النكاح أمر حاصل بينه وبين زوجته فهذا النكاح مغاير له ولزوجته ، ثم الزوجة ليست اسماً لتلك المرأة بحسب ذاتها بل اسماً لتلك الذات بشرط كونها موصوفة بالزوجية ، فالزوجة ماهية مركبة من الذات ومن الزوجية والمفرد مقدم لا محالة على المركب.(6/368)
إذا ثبت هذا فنقول : إذا قلنا نكح فلان زوجته ، فالناكح متأخر عن المفهوم من الزوجية ، والزوجية متقدمة على الزوجة من حيث إنها زوجة ، تقدم المفرد على المركب ، وإذا كان كذلك لزم القطع بأن ذلك النكاح غير الزوجية ، إذا ثبت هذا كان قوله : {حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} يقتضي أن يكون ذلك النكاح غير الزوجية ، فكل من قال بذلك قال : إنه الوطء ، فثبت أن الآية دالة على أنه لا بد من الوطء ، فقوله : {تَنْكِحَ} يدل على الوطء ، وقوله : {زَوْجًا} يدل على العقد ، وأما قول من يقول : إن الآية غير دالة على الوطء ، وإنما ثبت الوطء بالسنة فضعيف ، لأن الآية تقتضي نفي الحل ممدوداً إلى غاية ، وهي قوله : {حتى تَنْكِحَ} وما كان غاية للشيء يجب انتهاء الحكم عند ثبوته ، فيلزم انتهاء الحرمة عند حصول النكاح ، فلو كان النكاح عبارة عن العقد لكانت الآية دالة على وجوب انتهاء الحرمة عند حصول العقد ، فكان رفعها بالخبر نسخاً للقرآن بخبر الواحد ، وأنه غير جائز ، أما إذا حملنا النكاح على الوطء ، وحملنا قوله : {زَوْجًا} على العقد ، لم يلزم هذا الإشكال ، وأما الخبر المشهور في السنة فما روي أن تميمة بنت عبد الرحمن القرظي ، كانت تحت رفاعة بن وهب بن عتيك القرظي ابن عمها ، فطلقها ثلاثاً ، فتزوجت بعبد الرحمن بن الزبير القرظي ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم وقالت : كنت تحت رفاعة فطلقني فبت طلاقي ، فتزوجت بعده عبد الرحمن بن الزبير ، وإن ما معه مثل هدبة الثواب ، وأنه طلقني قبل أن يمسني أفأرجع إلى ابن عمي ؟ فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أتريدين أن ترجعي إلى رفاعة لا حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك " والمراد بالعسيلة الجماع شبه اللذة فيه بالعسل ، فلبثت ما شاء الله ثم عادت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالت : إن زوجي مسني فكذبها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : كذبت في الأول فلن أصدقك في الآخر ، فلبثت حتى قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتت أبا بكر فاستأذنت ، فقال : لا ترجعي إليه فلبثت حتى مضى لسبيله ، فأتت عمر فاستأذنت فقال لئن رجعت إليه لأرجمنك ، وفي قصة رفاعة نزل قوله : {فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ}.
أما القياس فلأن المقصود من توقيف حصول الحل على هذا الشرط زجر الزوج عن الطلاق لأن الغالب أن الزوج يستنكر أن يفترش زوجته رجل آخر ، ولهذا المعنى قال بعض أهل العلم إنما حرم الله تعالى على نساء النبي أن ينكحن غيره لما فيه من الغضاضة ، ومعلوم أن الزجر إنما يحصل بتوقيف الحل على الدخول فأما مجرد العقد فليس فيه زيادة نفرة فلا يصح جعله مانعاً وزاجراً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 90 ـ 91}(6/369)
فائدة
قال ابن القيم :
حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فى المطلقة ثلاثا لا تحل للأول حتى يطأها الزوج الثانى
ثبت فى "الصحيحين" : عن عائشة رضى الله عنها ، أن امرأة رفاعة القرظى جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله ، إن رفاعة طلقنى ، فبت طلاقى ، وإنى نكحت بعده عبد الرحمن بن الزبير القرظى ، وإن ما معه مثل الهدبة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "لعلك تريدين أن ترجعى إلى رفاعة. لا ، حتى تذوقى عسيلته ويذوق عسيلتك".
وفى سنن النسائى : عن عائشة رضى الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "العسيلة : الجماع ولو لم ينزل".
وفيها عن ابن عمر ، قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يطلق امرأته ثلاثا ، فيتزوجها الرجل ، فيغلق الباب ، ويرخى الستر ، ثم يطلقها قبل أن يدخل بها ؟ قال : "لا تحل للأول حتى يجامعها الآخر".
فتضمن هذا الحكم أمورا.
أحدهما : أنه لا يقبل قول المرأة على الرجل أنه لا يقدر على جماعها.
الثانى : أن إصابة الزوج الثانى شرط فى حلها للأول ، خلافا لمن اكتفى بمجرد العقد ، فإن قوله مردود بالسنة التى لا مرد لها.
الثالث : أنه لا يشترط الإنزال ، بل يكفى مجرد الجماع الذى هو ذوق العسيلة.
الرابع : أنه صلى الله عليه وسلم لم يجعل مجرد العقد المقصود الذى هو نكاح رغبة كافيا ، ولا اتصال الخلوة به ، وإغلاق الأبواب ، وإرخاء الستور حتى يتصل به الوطء ، وهذا يدل على أنه لا يكفى مجرد عقد التحليل الذى لا غرض للزوج والزوجة فيه سوى صورة العقد ، وإحلالها للأول بطريق الأولى ، فإنه إذا كان عقد الرغبة المقصود للدوام غير كاف حتى يوجد فيه الوطء ، فكيف يكفى عقد تيس مستعار ليحلها لا رغبة له فى إمساكها ، إنما هو عارية كحمار العشرين المستعار للضراب ؟ . أ هـ {زاد المعاد حـ 5 صـ 281 ـ 282}(6/370)
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {فَإِن طَلَّقَهَا} فالمعنى : إن طلقها الزوج الثاني الذي تزوجها بعد الطلقة الثالثة لأنه تعالى قد ذكره بقوله : {حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي على المرأة المطلقة والزوج الأول أن يتراجعا بنكاح جديد ، فذكر لفظ النكاح بلفظ التراجع ، لأن الزوجية كانت حاصلة بينهما قبل ذلك ، فإذا تناكحا فقد تراجعا إلى ما كانا عليه من النكاح ، فهذا تراجع لغوي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 91}
قال البقاعى :
{فإن طلقها} أي الثاني وتعبيره بإن التي للشك للتنبيه على أنه متى شرط الطلاق على المحلل بطل العقد بخروجه عن دائرة الحدود المذكورة. لأن النكاح كما قال الحرالي عقد حرمة مؤبدة لا حد متعة مؤقتة فلذلك لم يكن الاستمتاع إلى أمد محللاً في السنة وعند الأئمة لما يفرق بين النكاح والمتعة من التأبيد والتحديد - انتهى.
{فلا جناح عليهما} أي على المرأة ومطلقها الأول {أن يتراجعا} بعقد جديد بعد عدة طلاق الثاني المعلومة مما تقدم من قوله : {والمطلقات يتربصن} وهذه مطلقة إلى ما كانا فيه من النكاح. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 434 ـ 435}(6/371)
من لطائف الإمام تاج الدين السبكى ـ رحمه الله ـ :
قوله تعالى {فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجا غيره}
قال الشيخ الإمام ـ رحمه الله ـ لا شك أن الحل منتف من حين الطلاق الثلاث حتى تنكح ولكن هذه الصيغة لو جاءت في غير هذا المحل كقولك لا يقوم زيد حتى تزول الشمس محتملة معنيين أحدهما أن القيام حتى تزول الشمس منتف وقد لا ينتفي قيام دونه ومأخذ هذا أن حتى متعلقة بالفعل قبل دخول النفي ثم ورد النفي عليه وهو الذي تقتضيه صناعة العربية عند الجمهور في تعليقهم ذلك بالفعل الصريح والثاني أن النفي في جميع الزمان المتصل بالكلام حتى تزول الشمس ومأخذ هذا إما أن يؤخذ فعل من معنى النفي الذي دلت عليه لا كما يفعله بعض النحاة والزمخشري في بعض الأوقات أي انتفاء وإما أن يؤخذ الفعل بقيد كونه منتفيا وهذان الاحتمالان يأتي مثلهما في قولك لا يقوم القوم إلا زيد أحدهما المعنى أن قيام القوم غير زيد منتف إما بقيامهم جميعهم وإما بقيامه والثاني قيامه وعدم قيامهم
ولم يأت هذان الاحتمالان في سائر تعلقات الفعل من الظروف والحال وغيرهما وإنما هما في الغاية والاستثناء ولا يطرد ذلك في الصفة لأنها متعلقة بالمفرد لا بالنسبة ولا بالشرط وإن تعلق بالنسبة لأن له صدر الكلام انتهى
ومن كلامه أيضا رحمه الله قوله تعالى حتى تنكح زوجا غيره قال كنت أظن أنه قرينة في إفادة الوطء كقولهم نكح زوجته إذا وطئها
ونكح امرأة إذا عقد عليها
ثم رجعت عن ذلك وإن كانت القاعدة صحيحة لكن ذلك إذا قال زوجته لدلالة اللفظ على أنها زوجة متقدمة(6/372)
أما نكح زوجته فلا بل يصح بمعنى نكح امرأة كقوله من قتل قتيلا فإن قلت قد يقال اشتريت عبدي هذا والمراد العقد فلم لا يقال نكحت زوجتي هذه والمراد العقد قلت إذا أريد الإخبار بأصل الشراء أو أصل النكاح فلا ينبغي أن يقال عبدي ولا زوجتي لخلوه عن الفائدة وإنما يقال اشتريت هذا وتزوجت هذه أو نكحتها وإنما يحسن ذلك إذا أريد الإخبار بأمر زائد كقولك اشتريت عبدي هذا فأنفقت منه كذا أو نكحت زوجتي هذه فحمدت عشرتها فمحط الفائدة هو الثاني انتهى. أ هـ {فتاوى السبكى حـ 1 صـ 23 ـ 24}(6/373)
فصل
قال الفخر :
ظاهر الآية يقتضي أن عندما يطلقها الزوج الثاني تحل المراجعة للزوج الأول ، إلا أنه مخصوص بقوله تعالى : {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثلاثة قُرُوء} [ البقرة : 228 ] لأن المقصود من العدة استبراء الرحم ، وهذا المعنى حاصل ههنا ، وهذا هو الذي عول عليه سعيد بن المسيب في أن التحليل يحصل بمجرد العقد ، لأن الوطء لو كان معتبراً لكانت العدة واجبة ، وهذه الآية تدل على سقوط العدة ، لأن الفاء في قوله : {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَن يَتَرَاجَعَا} تدل على أن حل المراجعة حاصل عقيب طلاق الزوج الثاني إلا أن الجواب ما قدمنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 91}
فصل
قال القرطبى :
اختلفوا فيما يكفي من النكاح ، وما الذي يبيح التحليل ؛ فقال سعيد بن المسيب ومن وافقه : مجرّد العقد كاف وقال الحسن بن أبي الحسن : لا يكفي مجرّد الوطء حتى يكون إنزال. وذهب الجمهور من العلماء والكافّة من الفقهاء إلى أن الوطء كاف في ذلك ، وهو التقاء الختانين الذي يوجب الحدّ والغسل ، ويفسد الصوم والحجّ ويُحصن الزوجين ويوجب كمال الصداق. قال ابن العربيّ : ما مرت بي في الفقه مسألة أعسر منها ، وذلك أن من أُصول الفقه أن الحكم هل يتعلق بأوائل الأسماء أو بأواخرها ؟ فإن قلنا : إن الحكم يتعلق بأوائل الأسماء لزِمنا أن نقول بقول سعيد بن المسيب. وإن قلنا : إن الحكم يتعلق بأواخر الأسماء لزمنا أن نشترط الإنزال مع مِغيب الحشفة في الإحلال ، لأنه آخر ذوق العُسَيْلة على ما قاله الحسن.
قال ابن المنذر : ومعنى ذوق العسيلة هو الوطء ؛ وعلى هذا جماعة العلماء إلا سعيد بن المسيب فقال : أما الناس فيقولون : لا تحل للأوّل حتى يجامعها الثاني ؛ وأنا أقول : إذا تزوّجها تزوّجا صحيحاً لا يريد بذلك إحلالها فلا بأس أن يتزوّجها الأوّل. وهذا قول لا نعلم أحداً وافقه عليه إلا طائفة من الخوارج ؛ والسنة مستغنًى بها عما سواها.(6/374)
قلت : وقد قال بقول سعيد بن المسيب سعيد بن جبير ؛ ذكره النحاس في كتاب "معاني القرآن" له. قال : وأهل العلم على أن النكاح هاهنا الجماع ؛ لأنه قال : {زَوْجاً غَيْرَهُ} فقد تقدّمت الزوجية فصار النكاح الجماع ؛ إلا سعيد بن جبير فإنه قال : النكاح هاهنا التزوّج الصحيح إذا لم يرد إحلالها.
قلت : وأظنهما لم يبلغهما حديث العسيلة أو لم يصح عندهما فأخذا بظاهر القرآن ، وهو قوله تعالى : {حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ} والله أعلم. روى الأئمة واللفظ للدارقطنِيّ عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا طلق الرجل امرأته ثلاثاً لا تحل له حتى تنكح زوجاً غيره ويذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه " قال بعض علماء الحنفية : من عقد على مذهب سعيد بن المسيب فللقاضي أن يفسخه ؛ ولا يعتبر فيه خلافه لأنه خارج عن إجماع العلماء. قال علماؤنا : ويفهم من قوله عليه السلام : " حتى يذوق كل واحد منهما عسيلة صاحبه " استواؤهما في إدراك لذة الجماع ، وهو حجة لأحد القولين عندنا في أنه لو وطئها نائمة أو مغمى عليها لم تحل لمطلقها ؛ لأنها لم تذق العسيلة إذ لم تدركها.
(6/375)
الثالثة : روى النسائيّ عن عبد الله قال : لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الواشمة والمستوشِمة والواصلة والمستوصلة وآكل الربا ومؤكِله والمحلِّل والمحلَّل له. وروى الترمذيّ عن عبد الله بن مسعود قال : "لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلِّل والمحلَّل له". وقال : هذا حديث حسن صحيح.
وقد روي هذا الحديث عن النبيّ صلى الله عليه وسلم من غير وجه. والعمل على هذا عند أهل العلم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ؛ منهم عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وعبد الله بن عمر وغيرهم ؛ وهو قول الفقهاء من التابعين ، وبه يقول سفيان الثوريّ وابن المبارك والشافعيّ ومالك وأحمد وإسحاق ، وسمعت الجارود يذكر عن وكَيع أنه قال بهذا ، وقال : ينبغي أن يرمى بهذا الباب من قول أصحاب الرأي. وقال سفيان : إذا تزوّج الرجل المرأة ليحلها ثم بدا له أن يمسكها فلا تحِل له حتى يتزوّجها بنكاح جديد.
قال أبو عمر بن عبد البر : اختلف العلماء في نكاح المحلِّل ؛ فقال مالك : المحلِّل لا يقيم على نكاحه حتى يستقبل نكاحاً جديداً ؛ فإن أصابها فلها مهر مثلها ، ولا تحلها إصابته لزوجها الأوّل ؛ وسواء علما أو لم يعلما إذا تزوّجها ليحلها ، ولا يقرّ على نكاحه ويفسخ ؛ وبه قال الثوريّ والأُوزاعيّ.(6/376)
وفيه قول ثانٍ روي عن الثوري في نكاح الحيار والمحلّل أن النكاح جائز والشرط باطل ؛ وهو قول ابن أبي ليلى في ذلك وفي نكاح المتعة. وروي عن الأُوزاعيّ في نكاح المحلل : بئس ما صنع والنكاح جائز. وقال أبو حنيفة وأبو يوسف ومحمد : النكاح جائز إن دخل بها ، وله أن يمسكها إن شاء. وقال أبو حنيفة مرة هو وأصحابه : لا تحل للأوّل إن تزوّجها ليحلّها ، ومرة قالوا : تحل له بهذا النكاح إذا جامعها وطلقها. ولم يختلفوا في أن نكاح هذا الزوج صحيح ، وأن له أن يقيم عليه. وفيه قول ثالث قال الشافعيّ : إذا قال أتزوّجِك لأحِلك ثم لا نكاح بيننا بعد ذلك فهذا ضرب من نكاح المتعة ، وهو فاسد لا يقرّ عليه ويفسخ ؛ ولو وطىء على هذا لم يكن تحليلاً. إن تزوّجها تزوّجا مطلقاً لم يشترط ولا اشترط عليه التحليل فللشافعيّ في ذلك قولان في كتابه القديم : أحدهما مثل قول مالك ، والآخر مثل قول أبي حنيفة. ولم يختلف قوله في كتابه الجديد المصريّ أن النكاح صحيح إذا لم يشترط ، وهو قول داود.
قلت : وحكى الماورديّ عن الشافعيّ أنه إن شُرط التحليل قبل العقد صح النكاح وأحلها للأوّل ، وإن شرطاه في العقد بطل النكاح ولم يحلها للأوّل ، قال : وهو قول الشافعيّ. وقال الحسن وإبراهيم : إذا همّ أحد الثلاثة بالتحليل فسد النكاح ؛ وهذا تشديد. وقال سالم والقاسم : لا بأس أن يتزوّجها ليحلها إذا لم يعلم الزوجان وهو مأجور ؛ وبه قال ربيعة ويحيى بن سعيد ، وقاله داود بن عليّ إذا لم يظهر ذلك في اشتراطه في حين العقد.
(6/377)
الرابعة : مدار جواز نكاحِ التحليل عند علمائنا على الزوج الناكح ، وسواء شرط ذلك أو نواه ؛ ومتى كان شيء من ذلك فسد نكاحه ولم يقرّ عليه ، ولم يحلِّل وطؤه المرأةَ لزوجها. وعِلْمُ الزوج المطلِّق وجهلُه في ذلك سواء. وقد قيل : إنه ينبغي له إذا علم أن الناكح لها لذلك تزوّجها أنْ يتنزّه عن مراجعتها ، ولا يُحلها عند مالك إلا نكاح رغبةٍ لحاجته إليها ، ولا يقصد به التحليل ، ويكون وطؤه لها وطأ مباحاً : لا تكون صائمة ولا مُحرِمة ولا في حيضتها ، ويكون الزوج بالغاً مسلماً. وقال الشافعيّ : إذا أصابها بنكاح صحيح وغيب الحشفة في فرجها فقد ذاقا العُسَيْلَة ؛ وسواء في ذلك قويّ النكاح وضعيفه ، وسواء أدخله بيده أم بيدها ، وكان من صبيّ أو مراهق أو مجبوب بقي له ما يغيبه كما يغيب غير الخصيّ ، وسواء أصابها الزوج مُحرِمةً أو صائمة ؛ وهذا كله على ما وصف الشافعي قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأُوزاعي والحسنِ بنِ صالح ، وقول بعضِ أصحاب مالك. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 147 ـ 150}(6/378)
سؤال : فإن قلت ما معنى لعنهما ؟
قلت معنى اللعن على المحلل لأنه نكح على قصد الفراق والنكاح شرع للدوام وصار كالتيس المستعار والتيس هو الذكر من الغنم وقد يستعيره الناس لاستيلاد الغنم واللعن على المحلل له لأنه صار سببا لمثل هذا النكاح والمتسبب شريك المباشر فى الإثم والثواب.
أو المراد من اللعن إظهار خساستهما
أما خساسة المحلل فلمباشرته مثل هذا النكاح بدليل قوله ـ عليه السلام ـ " ألا أنبئكم بالتيس المستعار " وأما خساسة المحلل له فلمباشرة ما ينفر عنه الطبع السليم من عودها إليه بعد مضاجعة غيره إياها واستمتاعه بها لا حقيقة اللعن إذ هو لا يليق بمنصب الرسالة فى حق الأمة لأنه عليه الصلاة والسلام لم يبعث لعانا. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 443}(6/379)
كلام نفيس لابن القيم فى هذا الموضوع
قال رحمه الله :
إنما سموه محللا لأنه أحل ما حرم الله فاستحق اللعنة فإن الله سبحانه حرمها على المطلق حتى تنكح زوجا غيره والنكاح اسم في كتاب الله وسنة رسوله للنكاح الذي يتعارفه الناس بينهم نكاحا وهو الذي شرع إعلانه والضرب عليه بالدفوف والوليمة فيه وجعل للإيواء والسكن وجعله الله مودة ورحمة وجرت العادة فيه بضد ما جرت به في نكاح المحلل فان المحلل لم يدخل على نفقه ولا كسوة ولا سكنى ولا إعطاء مهر ولا يحصل به نسب ولا صهر ولا قصد المقام مع الزوجة وإنما دخل عارية كالتيس المستعار للضراب ولهذا شبههبه النبيصلى الله عليه وسلم ثم لعنه فعلم قطعا لا شك فيه أنه ليس هو الزوج المذكور في القرآن ولا نكاحه هو النكاح المذكور في القرآن وقد فطر الله سبحانه قلوب الناس على أن هذا ليس بنكاح ولا المحلل بزوج وأن هذا منكر قبيح وتعير به المرأة والزوج والمحلل والولي فكيف يدخل هذا في النكاح الذي شرعه الله ورسوله وأحبه وأخبر أنه سنته ومن رغب عنه فليس منه
وتأمل قوله تعالى : فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا [ البقره : 230 ] أي فإن طلقها هذا الثاني فلا جناح عليها وعلى الأول أن يتراجعا أي ترجع إليه بعقد جديد فأتى بحرف إن الدالة على أنه يمكنه أن يطلق وأن يقيم والتحليل الذي يفعله هؤلاء لا يتمكن الزوج فيه من الأمرين بل يشرطون عليه أنه متى وطئها فهي طالق ثم لما علموا أنه قد لا يخبر بوطئها ولا يقبل قولها في وقوع الطلاق انتقلوا إلى أن جعلوا الشرط إخبار المرأة بأنه دخل بها فبمجرد إخبارها بذلك تطلق عليه والله سبحانه وتعالى شرع النكاح للوصلة الدائمة
(6/380)
وللاستمتاع وهذا النكاح جعله أصحابه سببا لانقطاعه ولوقوع الطلاق فيه فإنه متى وطىء كان وطؤه سببا لانقطاع النكاح وهذا ضد شرع الله وأيضا فإن الله سبحانه جعل نكاح الثاني وطلاقه واسمه كنكاح الأول وطلاقه واسمه فهذا زوج وهذا زوج وهذا نكاح وهذا نكاح وكذلك الطلاق ومعلوم أن نكاح المحلل وطلاقه واسمه لا يشبه نكاح الأول ولا طلاقه ولا اسمه كاسمه ذاك زوج راغب قاصد للنكاح باذل للمهر ملتزم للنفقة والسكنى والكسوة وغير ذلك من خصائص النكاح والمحلل برىء من ذلك كله غير ملتزم لشىء منه
وإذا كان الله تعالى ورسوله قد حرم نكاح المتعة مع أن قصد الزوج الاستمتاع بالمرأة وأن يقيم معها زمانا وهو ملتزم لحقوق النكاح فالمحلل الذي ليس له غرض أن يقيم مع المرأة إلا قدر ما ينزو عليها كالتيس المستعار لذلك ثم يفارقها أولى بالتحريم
وسمعت شيخ الإسلام يقول : نكاح المتعة خير من نكاح التحليل من عشرة أوجه :
أحدها : أن نكاح المتعة كان مشروعا في أول الإسلام ونكاح التحليل لم يشرع في زمن من الأزمان
الثاني أن الصحابة تمتعوا على عهد النبي صلى الله تعالى عليه وآله وسلم ولم يكن في الصحابة محلل قط
الثالث : أن نكاح المتعة مختلف فيه بين الصحابة فأباحه ابن عباس وإن قيل : إنه رجع عنه وأباحه عبدالله بن مسعود ففي الصحيحين عنه قال : كنا نغزو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لنا نساء فقلنا : ألا نختصي فنهانا عن ذلك ثم رخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ثم قرأ عبدالله : يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم
وفتوى ابن عباس بها مشهورة
قال عروة : قام عبدالله بن الزبير بمكة فقال : إن ناسا أعمى الله قلوبهم كما أعمى أبصارهم يفتون بالمتعة : يعرض بعبدالله بن عباس فناداه فقال : إنك لجلف جاف فلعمري لقد كانت المتعة تفعل على عهد إمام المتقين يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم
(6/381)
فقال له ابن الزبير : فجرب نفسك فوالله لئن فعلتها لأرجمنك بأحجارك
فهذا قول ابن مسعود وابن عباس في المتعة وذاك قولهما وروايتهما في نكاح التحليل
الرابع : أن رسول اللهصلى الله عليه وسلملم يجىء عنه في لعن المستمتع والمستمتع بها حرف واحد وجاء عنه في لعن المحلل والمحلل له وعن الصحابة : ما تقدم
الخامس : أن المستمتع له غرض صحيح في المرأة ولها غرض أن تقيم معه مدة النكاح فغرضه المقصود بالنكاح مدة والمحلل لا غرض له سوى أنه مستعار للضراب كالتيس فنكاحه غير مقصود له ولا للمرأة ولا للولي وإنما هو كما قال الحسن : مسمار نار في حدود الله وهذه التسمية مطابقة للمعنى
قال شيخ الإسلام : يريد الحسن : أن المسمار هو الذي يثبت الشىء المسمور فكذلك هذا يثبت تلك المرأة لزوجها وقد حرمها الله عليه
السادس : أن المستمتع لم يحتل على تحليل ما حرم الله فليس من المخادعين الذين يخادعون الله كأنما يخادعون الصبيان بل هو ناكح ظاهرا وباطنا والمحلل ماكر مخادع متخذ آيات الله هزوا ولذلك جاء في وعيده مالم يجىء في وعيد المستمتع مثله ولا قريب منه
السابع : أن المستمتع يريد المرأة لنفسه وهذا سر النكاح ومقصوده فيريد بنكاحه حلها له ولا يطؤها حراما والمحلل لا يريد حلها لنفسه وإنما يريد حلها لغيره ولهذا سمي محللا فأين من يريد أن يحل له وطىء امرأة يخاف أن يطأها حراما إلى من لا يريد ذلك وإنما يريد بنكاحها أن يحل وطأها لغيره فهذا ضد شرع الله ودينه وضد ما وضع له النكاح
الثامن : أن الفطر السليمة والقلوب التي لم يتمكن منها مرض الجهل والتقليد تنفر من التحليل أشد نفار وتعير به أعظم تعيير حتى إن كثيرا من النساء تعير المرأة به أكثر مما تعيرها بالزنا ونكاح المتعة لا تنفر منه الفطر والعقول ولو نفرت منه لم يبح في أول الإسلام
التاسع : أن نكاح المتعة يشبه إجارة الدابة مدة للركوب وإجارة الدار مدة للانتفاع
(6/382)
والسكنى وإجارة العبد للخدمة مدة ونحو ذلك مما للباذل فيه غرض صحيح ولكن لما دخله التوقيت أخرجه عن مقصود النكاح الذي شرع بوصف الدوام والاستمرار وهذا بخلاف نكاح المحلل فإنه لا يشبه شيئا من ذلك ولهذا شبهه الصحابة رضي الله عنهم بالسفاح وشبهوه باستعارة التيس للضراب
العاشر : أن الله سبحانه نصب هذه الأسباب كالبيع والإجارة والهبة والنكاح مفضية إلى أحكام جعلها مسببات لها ومقتضيات فجعل البيع سببا لملك الرقبة والإجارة سببا لملك المنفعة أو الانتفاع والنكاح سببا لملك البضع وحل الوطء والمحلل مناقض معاكس لشرع الله تعالى ودينه فإنه جعل نكاحه سببا لتمليك المطلق البضع وإحلاله له ولم يقصد بالنكاح ما شرعه الله له من ملكه هو للبضع وحله له ولا له غرض في ذلك ولا دخل عليه وإنما قصد به أمرا آخر لم يشرع له ذلك السبب ولم يجعل طريقا له
الحادي عشر : أن المحلل من جنس المنافق فإن المنافق يظهر أنه مسلم ملتزم لعقد الإسلام ظاهرا وباطنا وهو في الباطن غير ملتزم له وكذلك المحلل يظهر أنه زوج وأنه يريد النكاح ويسمى المهر ويشهد على رضى المرأة وفي الباطن بخلاف ذلك ولا القيام بحقوق النكاح وقد أظهر خلاف ما أبطن وأنه مريد لذلك والله يعلم والحاضرون والمرأة وهو والمطلق : أن الأمر كذلك وأنه غير زوج على الحقيقة ولا هي امرأته على الحقيقة(6/383)
الثاني عشر : أن نكاح المحلل لا يشبه نكاح أهل الجاهلية ولا نكاح أهل الإسلام فكان أهل الجاهلية يتعاطون في أنكحتهم أمورا منكرة ولم يكونوا يرضون نكاح التحليل ولا يفعلونه ففي صحيح البخاري عن عروة بن الزبير أن عائشة رضي الله عنها أخبرته : أن النكاح في الجاهلية كان على أربعة أنحاء : فنكاح منها نكاح الناس اليوم : يخطب الرجل إلى الرجل وليته أو ابنته فيصدقها ثم ينكحها ونكاح آخر : كان الرجل يقول لامرأته إذا طهرت من طمثها : أرسلي إلى فلان فاستبضعي منه فيعتزلها زوجها ولا يمسها أبدا حتى يتبين حملها من ذلك الرجل الذي تستبضع منه فإذا تبين حملها أصابها زوجها إذا أحب وإنما يفعل ذلك
رغبة في نجابة الولد فكان هذا النكاح نكاح الاستبضاع ونكاح آخر : يجتمع الرهط ما دون العشرة فيدخلون على المرأة كلهم يصيبها فإذا حملت ووضعت ومر ليالي بعد أن تضع حملها أرسلت إليهم فلم يستطع رجل منهم أن يمتنع حتى يجتمعوا عندها فتقول لهم : قد عرفتم الذي كان من أمركم وقد ولدت فهو ابنك يا فلان تسمى من أحبت باسمه فيلحق به ولدها لا يستطيع أن يمتنع منه ونكاح رابع : يجتمع الناس الكثير فيدخلون على المرأة لا تمتنع ممن جاءها وهن البغايا كن ينصبن على أبوابهن رايات تكون علما فمن أرادهن دخل عليهن فإذا حملت إحداهن ووضعت حملها جمعوا لها ودعوا لهم القافة ثم ألحقوا ولدها بالذي يرون فالتاط به ودعى ابنه لا يمتنع من ذلك فلما بعث الله تعالى محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق هدم نكاح الجاهلية كله إلا نكاح الناس اليوم
ومعلوم أن نكاح المحلل ليس من نكاح الناس الذي أشارت إليه عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقره ولم يهدمه ولا كان أهل الجاهلية يرضون به فلم يكن من أنكحتهم فإن الفطر والأمم تنكره وتعير به. أ هـ {إغاثة اللهفان حـ 1 صـ 276 ـ 280}(6/384)
كلام نفيس لحجة الإسلام فى الطلاق
قال رحمه الله :
الطلاق مباح ، ولكنه أبغض المباحات إلى الله تعالى ، وإنما يكون مباحاً إذا لم يكن فيه إيذاء بالباطل ، ومهما طلقها فقد آذاها ، ولا يباح إيذاء الغير إلا بجناية من جانبها أو بضرورة من جانبه ، قال الله تعالى " فإن أطعنكم فلا تبغوا عليهن سبيلا " أي لا تطلبوا حيلة للفراق. أ هـ
ثم قال رحمه الله :
ثم ليراع الزوج في الطلاق أربعة أمور.
الأول : أن يطلقها في طهر لم يجامعها فيه ، فإن الطلاق في الحيض أو الطهر الذي جامع فيه يدعى حرام وإن كان واقعاً ، لما فيه من تطويل العدة عليها ؛ فإن فعل ذلك فليراجعها : طلق ابن عمر زوجته في الحيض فقال صلى الله عليه وسلم لعمر : مره فليراجعها حتى تطهر ثم تحيض ثم تطهر ، ثم إن شاء طلقها وإن شاء أمسكها ، فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء " وإنما أمره بالصبر بعد الرجعة طهرين لئلا يكون مقصود الرجعة الطلاق فقط.
الثاني : أن يقتصر على طلقة واحدة فلا يجمع بين الثلاث ، لأن الطلقة الواحدة بعد العدة تفيد المقصود ويستفيد بها الرجعة إن ندم في العدة وتجديد النكاح إن أراد بعد العدة ، وإذا طلق ثلاثاً ربما ندم فيحتاج إلى أن يتزوجها محلل وإلى الصبر مدة ، وعقد المحلل منهي عنه ، ويكون هو الساعي فيه ثم يكون قلبه معلقاً بزوجة الغير وتطليقه - أعني زوجة المحلل بعد أن زوج منه - ثم يورث ذلك تنفيراً من الزوجة ، وكل ذلك ثمرة الجمع ، وفي الواحدة كفاية في المقصود من غير محذور ، ولست أقول الجمع حرام " لكنه مكروه بهذه المعاني ، وأعني بالكراهة تركه النظر لنفسه.
الثالث : أن يتلطف في التعلل بتطليقها من غير تعنيف واستخفاف ، وتطيب قلبها بهدية على سبيل الإمتاع والجبر لما فجعها به من أذى الفراق. قال تعالى " ومتعوهن " وذلك واجب مهما لم يسم لها مهر في أصل النكاح.
(6/385)
كان الحسن بن علي رضي الله عنهما مطلاقاً ومنكاحاً ، ووجه ذات يوم بعض أصحابه لطلاق امرأتين من نسائه وقال : قل لهما اعتدا ، وأمره أن يدفع إلى كل واحدة عشرة آلاف درهم ، ففعل ، فلما رجع إليه قال : ماذا فعلتا ؟ قال أما إحداهما فنكست رأسها وتنكست ، وأما الأخرى فبكت وانتحت وسمعتها تقول : متاع قليل من حبيب مفارق فأطرق الحسن وترحم لها وقال : لو كنت مراجعاً امرأةً بعد ما فارقتها لراجعتها ، ودخل الحسن ذات يوم على عبد الرحمن بن الحارث بن هشام - فقيه المدينة ورئيسها - ولم يكن له بالمدينة نظير وبه ضربت المثل عائشة رضي الله عنها حيث قالت لو لم أسر مسيري ذلك لكان أحب إلي من أن يكون لي ستة عشراً ذكراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل عبد الرحمن بن الحارث بن هشام : فدخل عليه الحسن في بيته ، فعظمه عبد الرحمن وأجلسه في مجلسه وقال : ألا أرسلت إلي فكنت أجيئك ، فقال : الحاجة لنا. قال : وما هي ؟ قال جئتك خاطباً ابنتك ، فأطرق عبد الرحمن ثم رفع رأسه وقال : والله ما على وجه الأرض أحد يمشي عليها أعز علي منك ، ولكنك تعلم أن ابنتي بضعة مني يسوءني ما ساءها ويسرني ما سرها ، وأنت مطلاق ، فأخاف أن تطلقها ، وإن فعلت خشيت أن يتغير قلبي في محبتك وأكره أن يتغير قلبي عليك ، فأنت بضعة من رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن شرطت أن لا تطلقها زوجتك ، فسكت الحسن وقام وخرج وقال بعض أهل بيته. سمعته وهو يمشي ويقول : ما أراد عبد الرحمن إلا أن يجعل ابنته طوقاً في عنقي. وكان علي رضي الله عنه يضجر من كثرة تطليقه ، فكان يعتذر منه على المنبر ويقول في خطبته ، إن حسناً مطلاقاً فلا تنكحوه ، حتى قام رجل من همدان فقال : والله يا أمير المؤمنين لننكحه ما شاء ، فإن أحب أمسك وإن شاء ترك ، فسر ذلك علياً وقال :
لو كنت بواباً على باب الجنة... لقلت لهمدان ادخلي بسلام
(6/386)
وهذا تنبيه على أن من طعن في حبيبه من أهل وولد بنوع حياء فلا ينبغي أن يوافق عليه ، فهذه الموافقة القبيحة ، بل الأدب المخالفة ما أمكن ، فإن ذلك أسر لقلبه وأوفق لباطن ذاته ، والقصد من هذا بيان أن الطلاق مباح ، وقد وعد الله الغنى في الفراق والنكاح جميعاً فقال " وأنكحوا الأيام منكم والصالحين من عبادكم وإمائكم إن يكونوا فقراء يغنيهم الله من فضله " وقال سبحانه وتعالى " وإن يتفرقا يغن الله كلاً من سعته.
الرابع : أن لا يفشي سرها لا في الطلاق ولا عند النكاح ، فقد ورد في إفشاء سر النساء في الخبر الصحيح وعيد عظيم. ويروى عن بعض الصالحين أنه أراد طلاق امرأة ، فقيل له : ما الذي يريبك فيها ؟ فقال : العاقل ، لا يهتك ستر امرأته ، فلما طلقها قيل له. لم طلقتها ؟ فقال : مالي ولامرأة غيري ، فهذا بيان ما على الزوج. أ هـ {إحياء علوم الدين حـ 2 صـ 55 ـ 56}(6/387)
قوله تعالى : {إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله}
قال البقاعى :
{إن ظنا} أي وقع في ظن كل منهما {أن يقيما حدود الله} أي الذي له الكمال كله التي حدها لهما في العشرة. قال الحرالي : لما جعل الطلاق سراحاً جعل تجديد النكاح مراجعة كل ذلك إيذاناً بأن الرجعة للزوج أولى من تجديد الغير - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 435}
قال ابن عاشور :
ووصف {زوجاً غيره} تحذير للأزواج من الطلقة الثالثة ، لأنه بذكر المغايرة يتذكر أن زوجته ستصير لغيره كحديث الواعظ الذي اتعظ بقول الشاعر :
اليومَ عندك دَلُّها وحديثُها
وغداً لغيرك زندها والمعصم...
وأسند الرجعة إلى المتفارقين بصيغة المفاعلة لتوقفها على رضا الزوجة بعد البينونة ثم علق ذلك بقوله : {إن ظنا أن يقيما حدود الله} أي أن يسيرا في المستقبل على حسن المعاشرة وإلا فلا فائدة في إعادة الخصومات.
و {حدود الله} هي أحكامه وشرائعه ، شبهت بالحدود لأن المكلف لا يتجاوزها فكأنه يقف عندها.
وحقيقة الحدود هي الفواصل بين الأرضين ونحوها وقد تقدم في قوله : {إلا أن يخافا ألا يقيما حدود الله} [ البقرة : 229 ] والإقامة استعارة لحفظ الأحكام تبعاً لاستعارة الحدود إلى الأحكام كقولهم : نَقَض فلان غزله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 420}
وقال الفخر :
أما قوله تعالى : {إِن ظَنَّا أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : قال كثير من المفسرين {إِن ظَنَّا} أي إن علما وأيقنا أنهما يقيمان حدود الله ، وهذا القول ضعيف من وجوه أحدها : أنك لا تقول : علمت أن يقوم زيد ولكن علمت أنه يقوم زيد والثاني : أن الإنسان لا يعلم ما في القدر وإنما يظنه والثالث : أنه بمنزلة قوله تعالى : {وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدّهِنَّ فِي ذلك إِنْ أَرَادُواْ إصلاحا} [ البقرة : 228 ] فإن المعتبر هناك الظن فكذا ههنا ، وإذا بطل هذا القول فالمراد منه نفس الظن ، أي متى حصل هذا الظن ، وحصل لهما العزم على إقامة حدود الله ، حسنت هذه المراجعة ومتى لم يحصل هذا الظن وخافا عند المراجعة من نشوز منها أو إضرار منه فالمراجعة تحرم.
المسألة الثانية : كلمة {إن} في اللغة للشرط والمعلق بالشرط عدم عند عدم الشرط فظاهر الآية يقتضي أنه متى لم يحصل هذا الظن لم يحصل جواز المراجعة ، لكنه ليس الأمر كذلك ، فإن جواز المراجعة ثابت سواء حصل هذا الظن أو لم يحصل إلا أنا نقول : ليس المراد أن هذا شرط لصحة المراجعة : بل المراد منه أنه يلزمهم عند المراجعة بالنكاح الجديد رعاية حقوق الله تعالى ، وقصد الإقامة لحدود الله وأوامره. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 92}
فائدة
قال القرطبى : (6/388)
جاء عن عمر بن الخطاب في هذا الباب تغليظ شديد وهو قوله : لا أُوتي بمحلِّل ولا محلِّل له إلا رجمتهما. وقال ابن عمر : التحليل سفاح ؛ لا يزالان زانيين ولو أقاما عشرين سنة. قال أبو عمر : لا يحتمل قول عمر إلا التغليظ ؛ لأنه قد صح عنه أنه وضع الحدّ عن الواطىء فرجاً حراماً قد جهل تحريمه وعذَره بالجهالة ؛ فالتأويل أولى بذلك ، ولا خلاف أنه لا رجم عليه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 152}
قوله تعالى : {وَتِلْكَ حُدُودُ الله}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان الدين مع سهولته ويسره شديداً لن يشاده أحد إلا غلبه وكانت الأحكام مع وضوحها قد تخفى لما في تنزيل الكليات على الجزئيات من الدقة لأن الجزئي الواحد قد يتجاذبه كليان فأكثر فلا تجردها من مواقع الشبه إلا من نور الله بصيرته عطف على تلك الماضية تعظيماً للحدود قوله : {وتلك} أي الأحكام المتناهية في مدارج العظم ومراتب الحكم {حدود الله} أي العظيمة بإضافتها إليه سبحانه وتعالى وبتعليقها بالاسم الأعظم {يبينها} أي يكشف اللبس عنها بتنوير القلب {لقوم} فيهم نهضة وجد في الاجتهاد وقيام وكفاية {يعلمون} أي يجددون النظر والتأمل بغاية الاجتهاد في كل وقت فبذلك يعطيهم الله ملكة يميزون بها ما يلبس على غيرهم {أن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً} [ الأنفال : 29 ] {واتقوا الله ويعلمكم الله} [ البقرة : 282 ]. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 435}
قال الفخر : (6/389)
قوله تعالى : {وَتِلْكَ حُدُودُ الله} إشارة إلى ما بينها من التكاليف ، وقوله : {يُبَيّنُهَا} إشارة إلى الاستقبال والجمع بينهما متناقض وعندي أن هذه النصوص التي تقدمت أكثرها عامة يتطرق إليها تخصيصات كثيرة ، وأكثر تلك المخصصات إنما عرفت بالسنة ، فكان المراد والله أعلم أن هذه الأحكام التي تقدمت هي حدود الله وسيبينها الله تعالى كمال البيان على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم ، وهو كقوله تعالى : {لِيُبَيّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزّلَ إِلَيْهِمْ} [ النحل : 44 ].
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 92}
وقال ابن عاشور :
وأما قوله : {وتلك حدود الله يبينها} فالبيان صالح لمناسبة المعنى الحقيقي والمجازي ؛ لأنّ إقامة الحدّ الفاصل فيه بيان للناظرين.
والمراد {بقوم يعلمون} ، الذين يفهمون الأحكام فهماً يهيئهم للعمل بها ، وبإدراك مصالحها ، ولا يتحيلون في فهمها.
{وَتِلْكَ حُدُودُ الله يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ}
الواو اعتراضية ، والجملة معترضة بين الجملتين المعطوفة إحداهما على الأخرى ، وموقع هذه الجملة كموقع جملة {تلك حدود الله فلا تعتدوها} [ البقرة : 229 ] المتقدمة آنفاً.
و {وتلك حدود الله} تقدم الكلام عليها قريباً.
وتبيين الحدود ذكرها للناس موضحة مفصلة معللة ، ويتعلق قوله {لقوم يعلمون} بفعل {يبينها} ، ووصف القوم بأنهم يعلمون صريح في التنويه بالذين يدركون ما في أحكام الله من المصالح ، وهو تعريض بالمشركين الذين يعرضون عن اتّباع الإسلام.
وإقحام كلمة ( لقوم ) للإِيذان بأن صفة العلم سجيتهم وملكة فيهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 420 ـ 421}
وقال الآلوسى :
{يُبَيّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} أي يفهمون ويعملون بمقتضى العلم فهو للتحريض على العمل كما قيل أو لأنهم المنتفعون بالبيان ، أو لأن ما سيلحق بعض الحدود منه لا يعقله إلا الراسخون ، أو ليخرج غير المكلفين. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 142}(6/390)
سؤال : لم خص العلماء بهذا البيان ؟
الجواب : إنما خص العلماء بهذا البيان لوجوه
أحدها : أنهم هم الذين ينتفعون بالآيات فغيرهم بمنزلة من لا يعتد به ، وهو كقوله : {فِيهِ هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} [ البقرة : 2 ] ، والثاني : أنه خصهم بالذكر كقوله : {وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وميكال} [ البقرة : 98 ] والثالث : يعني به العرب لعلمهم باللسان ، والرابع : يريد من له عقل وعلم ، كقوله : {وَمَا يَعْقِلُهَا إِلاَّ العالمون} [ العنكبوت : 43 ] والمقصود أنه لا يكلف إلا عاقلاً عالماً بما يكلفه ، لأنه متى كان كذلك فقد أزيح عذر المكلف ، والخامس : أن قوله : {تِلْكَ حُدُودُ الله} يعني ما تقدم ذكره من الأحكام يبينها الله لمن يعلم أن الله أنزل الكتاب وبعث الرسول ليعملوا بأمره وينتهوا عما نهوا عنه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 92}
فائدة
قال السعدى فى معنى الآية
يقول تعالى : {فَإِنْ طَلَّقَهَا} أي : الطلقة الثالثة {فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} أي : نكاحا صحيحا ويطؤها ، لأن النكاح الشرعي لا يكون إلا صحيحا ، ويدخل فيه العقد والوطء ، وهذا بالاتفاق.
ويشترط أن يكون نكاح الثاني ، نكاح رغبة ، فإن قصد به تحليلها للأول ، فليس بنكاح ، ولا يفيد التحليل ، ولا يفيد وطء السيد ، لأنه ليس بزوج ، فإذا تزوجها الثاني راغبا ووطئها ، ثم فارقها وانقضت عدتها {فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} أي : على الزوج الأول والزوجة {أَنْ يَتَرَاجَعَا} أي : يجددا عقدا جديدا بينهما ، لإضافته التراجع إليهما ، فدل على اعتبار التراضي.
ولكن يشترط في التراجع أن يظنا {أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} بأن يقوم كل منهما ، بحق صاحبه ، وذلك إذا ندما على عشرتهما السابقة الموجبة للفراق ، وعزما أن يبدلاها بعشرة حسنة ، فهنا لا جناح عليهما في التراجع.
(6/391)
ومفهوم الآية الكريمة ، أنهما إن لم يظنا أن يقيما حدود الله ، بأن غلب على ظنهما أن الحال السابقة باقية ، والعشرة السيئة غير زائلة أن عليهما في ذلك جناحا ، لأن جميع الأمور ، إن لم يقم فيها أمر الله ، ويسلك بها طاعته ، لم يحل الإقدام عليها.
وفي هذا دلالة على أنه ينبغي للإنسان ، إذا أراد أن يدخل في أمر من الأمور ، خصوصا الولايات ، الصغار ، والكبار ، نظر في نفسه ، فإن رأى من نفسه قوة على ذلك ، ووثق بها ، أقدم ، وإلا أحجم.
ولما بين تعالى هذه الأحكام العظيمة قال : {وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ} أي : شرائعه التي حددها وبينها ووضحها.
{يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ} لأنهم هم المنتفعون بها ، النافعون لغيرهم.
وفي هذا من فضيلة أهل العلم ، ما لا يخفى ، لأن الله تعالى جعل تبيينه لحدوده ، خاصا بهم ، وأنهم المقصودون بذلك ، وفيه أن الله تعالى يحب من عباده ، معرفة حدود ما أنزل على رسوله والتفقه بها. أ هـ {تفسير السعدى صـ 102}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ...}
قيل لابن عرفة : وما أفاد قوله " من بعد " والكلام يستقل بدونه ؟
فقال : أفاد التنبيه على مرجوحية الطلقة الثالثة.
قال ابن عرفة : ( وهذا الخلع ) هل هو فسخ أو طلاق ؟ منهم من قال : لا يكون طلاقا إلا إذا كان بلفظ الطلاق فتقول له : خالعتك على كذا. فيقول : أنت طالق على ذلك ، ولو قال وأنا أخالعك على ذلك أو قال : سرّحتك على ( ذلك ) وخليت سبيلك وأبحت لك الأزواج ، فهو فسخ. وهي مسألة وقعت في المغرب في رجل كان يقال له البخاري ، لأنه كان يحفظ البخاري ، كان طلق زوجته طلاق الخلع ثلاثا بغير لفظ الطلاق ، ثم ردها قبل زوج فاختلف الفاسيون. فبعضهم قال : يرجم ، وآخرون قالوا : يلزمه الأدب فقط ، لأنه خالع بغير لفظ الطّلاق ، وحدّوه حينئذ وتركوه. وهي مسالة المدونه إما أن يعذر بجهل أولا ، وهذا الرجل كان عالما.
(6/392)
قوله تعالى : {حتى تَنكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ...}.
قال سعيد بن المسيب : إنها تحلّ بالعقد.
قال ابن عرفة : وما حمله عندي إلا أنه يقول : اقتضت الآية أنّها تحل بالعقد ، وبينت السنة أنّه لا بد من الوطء. وبهذا كان يرد بعضهم على من قال : كل نكاح في القرآن المراد به العقد إلا ( في ) هذه الآية ، فكان يقول : بل هو هنا حقيقة في العقد ، وبينت السنة أنه لابدّ من الوطء.
قوله تعالى : {إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله...}.
ولَمْ يَقُلْ : إن لم يخافا ألاّ يقيما حدود الله ، لأن هذه أبلغ في التكليف. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 298}(6/393)
قوله تعالى : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذكر الطلاق رجعية وبائنة عقبه ببيان وصف الرجعة من الحل والحرمة وبيان وقتها وتحديده والإشارة إلى تصوير بعض صور المضارة ترهيباً منها فليست الآية مكررة فقال : {وإذا طلقتم النساء} أي طلاقاً رجعياً والمراد من يملك نكاحها من هذا النوع الشامل للقليل والكثير ولم يقل : نساءكم ، لئلا تفهم الإضافة أن لطلاقهم غير نسائهم حكماً مغائراً لهذا في بلوغ الأجل مثلاً ونحوه.
(6/394)
ولما كانت إباحة الرجعة في آخر العدة دالة على إباحتها فيما قبل ذلك بطريق الأولى وكان من المقطوع به عقلاً أن لما بعد الأجل حكماً غير الحكم الذي كان له قبله لم يكن التعبير بالبلوغ ملبساً وكان التعبير به مفيداً أقصى ما يمكن به المضارة فقال : {فبلغن أجلهن} أي شارفن انقضاء العدة ، بدليل الأمر بالإمساك لأنه لا يتأتى بعد الأجل. وقال الحرالي : ولما كان للحد المحدود الفاصل بين أمرين متقابلين بلوغ وهو الانتهاء إلى أول حده وقرار وهو الثبات عليه ومجاوزة لحده ذكر سبحانه وتعالى البلوغ الذي هو الانتهاء إلى أول الحد دون المجاوزة والمحل ، والأجل مشارفة انقضاء أمد الأمر حيث يكون منه ملجأ الذي هو مقلوبه كأنه مشارفة فراغ المدة - انتهى {فأمسكوهن} أي بالمراجعة إن أردتم ولو في أخر لحظة من العدة {بمعروف} أي بحال حسنة تحمد عاقبتها ، ونكره إشعاراً بأنه لا يشترط فيه رضى المرأة {أو سرحوهن بمعروف} بأن تتركوهن حتى تنقضي العدة فيملكن أنفسهن من غير تلبيس بدعوى ولا تضييق في شيء من الأشياء.
وقال الحرالي : هذا معروف الإمتاع والإحسان وهو غير معروف الإمساك ، ولذلك فرقه الخطاب ولم يكن : فأمسكوهن أو سرحوهن بمعروف - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 435 ـ 436}
سبب نزول الآية
قال أبو حيان :
نزلت في ثابت بن بشار ، ويقال أسنان الأنصاري ، طلق امرأته حتى إذا بقي من عدّتها يومان أو ثلاثة ، وكادت أن تبين راجعها ، ثم طلقها ثم راجعها ، ثم طلقها حتى مضت سبعة أشهر مضارّة لها ، ولم يكن الطلاق يومئذ محصوراً.
أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 217}
سؤال : لقائل أن يقول : لا فرق بين هذه الآية وبين قوله : {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [ البقرة : 229 ] فتكون إعادة هذه الآية بعد ذكر تلك الآية تكريراً لكلام واحد في موضع واحد من غير فائدة وأنه لا يجوز.(6/395)
والجواب : أما أصحاب أبي حنيفة فهم الذين حملوا قوله : {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} على أن الجمع بين الطلقات غير مشروع ، وإنما المشروع هو التفريق ، فهذا السؤال ساقط عنهم ، لأن تلك الآية في بيان كيفية الجمع والتفريق ، وهذه الآية في بيان كيفية الرجعة ، وأما أصحاب الشافعي رحمهم الله وهم الذين حملوا تلك الآية على كيفية الرجعة فهذا السؤال وارد عليهم ، ولهم أن يقولوا : إن من ذكر حكماً يتناول صوراً كثيرة ، وكان إثبات ذلك الحكم في بعض تلك الصور أهم لم يبعد أن يعيد بعد ذلك الحكم العام تلك الصورة الخاصة مرة أخرى ، ليدل ذلك التكرير على أن في تلك الصورة من الاهتمام ما ليس في غيرها وههنا كذلك وذلك لأن قوله : {الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بإحسان} [ البقرة : 229 ] فيه بيان أنه لا بد في مدة العدة من أحد هذين الأمرين ، وأما في هذه الآية ففيه بيان أن عند مشارفة العدة على الزوال لا بد من رعاية أحد هذين الأمرين ومن المعلوم أن رعاية أحد هذين الأمرين عند مشارفة زوال العدة أولى بالوجوب من سائر الأوقات التي قبل هذا الوقت ، وذلك لأن أعظم أنواع الإيذاء أن يطلقها ، ثم يراجعها مرتين عند آخر الأجل حتى تبقى في العدة تسعة أشهر ، فلما كان هذا أعظم أنواع المضارة لم يقبح أن يعيد الله حكم هذه الصورة تنبيهاً على أن هذه الصورة أعظم الصور اشتمالاً على المضارة وأولاها بأن يحترز المكلف عنها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 93}
قال ابن عاشور :
قوله : {فبلغهن أجلهن} مؤذن بأن المراد : وإذا طلقتم النساء طلاقاً فيه أجل.
والأجل هنا لما أضيف إلى ضمير النساء المطلقات علم أنه أجل معهود بالمضاف إليه ، أعني أجل الانتظار وهو العدة ، وهو التربص في الآية السابقة.
(6/396)
وبلوغ الأجل : الوصول إليه ، والمراد به هنا مشارفة الوصول إليه بإجماع العلماء ؛ لأن الأجل إذا انقضى زال التخيير بين الإمساك والتسريح ، وقد يطلق البلوغ على مشارفة الوصول ومقاربته ، توسعاً أي مجازاً بالأوْل.
وفي القاعدة الخامسة من الباب الثامن من "مغني اللبيب" أن العرب يعبرون بالفعل عن أمور : أحدها ، وهو الكثير المتعارف عن حصول الفعل وهو الأصل.
الثاني : عن مشارفته نحو {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً} [ البقرة : 240 ] أي يقاربون الوفاة ، لأنه حينَ الوصية.
الثالث : إرادته نحو {إذا قمتم إلى الصلوات فاغسلوا} [ المائدة : 6 ].
الرابع : القدرة عليه نحو {وعداً علينا إنا كنا فاعلين} [ الأنبياء : 104 ] أي قادرين.
والأجل في كلام العرب يطلق على المدة التي يمهل إليها الشخص في حدوث حادث معين ، ومنه قولهم : ضرب له أجلاً {أيما الأجلين قضيت} [ القصص : 28 ].
والمراد بالأجل هنا آخر المدة ، لأن قوله : {فبلغن} مؤذن بأنه وصول بعد مسير إليه ، وأسند ( بلغن ) إلى النساء لأنهن اللاتي ينتظرن انقضاء الأجل ، ليخرجن من حبس العدة ، وإن كان الأجل للرجال والنساء معاً ، للأوَّلين توسعة للمراجعة ، وللأخيرات تحديداً للحِل للتزوج.
وأضيف الأجل إلى ضمير النساء لهاته النكتة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 421 ـ 422}
قال أبو حيان :
فبلغن أي : قاربن انقضاء العدة والأجل ، هو الذي ضربه الله للمعتدّات من الأقراء ، والأشهر ، ووضع الحمل. وأضاف الأجل إليهن لأنه أمس بهنّ ، ولهذا قيل : الطلاق للرجال والعدة للنساء ، ولا يحمل : بلغن أجلهنّ على الحقيقة ، لأن الإمساك إذ ذاك ليس له ، لأنها ليست بزوجة ، إذ قد تقضت عدتها فلا سبيل له عليها. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 217}(6/397)
سؤال : لقائل أن يقول : إنه تعالى أثبت عند بلوغ الأجل حق المراجعة ، وبلوغ الأجل عبارة عن انقضاء العدة ، وعند انقضاء العدة لا يثبت حق المراجعة ؟
والجواب من وجهين : أحدهما : المراد ببلوغ الأجل مشارفة البلوغ لا نفس البلوغ ، وبالجملة فهذا من باب المجاز الذي يطلق فيه اسم الكل على الأكثر ، وهو كقول الرجل إذا قارب البلد : قد بلغنا الثاني : أن الأجل اسم للزمان فنحمله على الزمان الذي هو آخر زمان يمكن إيقاع الرجعة إليه ، بحيث إذا فات لا يبقى بعده مكنة الرجعة ، وعلى هذا التأويل فلا حاجة بنا إلى المجاز. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 94}
فصل
قال الفخر :
اختلف العلماء في كيفية المراجعة ، فقال الشافعي رضي الله عنه : لما لم يكن نكاح ولا طلاق إلا بكلام ، لم تكن الرجعة إلا بكلام ، وقال أبو حنيفة والثوري رضي الله عنهما : تصح الرجعة بالوطء ، وقال مالك رضي الله عنه : إن نوى الرجعة بالوطء كانت رجعة وإلا فلا.(6/398)
حجة الشافعي رضي الله عنه ما روي أن ابن عمر رضي الله عنه لما طلق زوجته وهي حائض فسأل عمر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال عليه الصلاة والسلام " مره فليراجعها ثم ليمسكها " حتى تطهر أمره النبي صلى الله عليه وسلم بالمراجعة مطلقاً ، وقيل : درجات الأمر الجواز فنقول : إنه كان مأذوناً بالمراجعة في زمان الحيض ، وما كان مأذوناً بالوطء في زمان الحيض فيلزم أن لا يكون الوطء رجعة وحجة أبي حنيفة رضي الله تعالى عنه أنه تعالى قال : {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} أمر بمجرد الإمساك ، وإذا وطئها فقد أمسكها ، فوجب أن يكون كافياً ، أما الشافعي رضي الله تعالى عنه فإنه لما قال : إنه لا بد من الكلام ، فظاهر مذهبه أن الإشهاد على الرجعة مستحب ولا يجب وبه قال مالك وأبو حنيفة رضي الله عنهما ، وقال في "الإملاء" : هو واجب ، وهو اختيار محمد بن جرير الطبري ، والحجة فيه قوله تعالى : {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ولا يكون معروفاً إلا إذا عرفه الغير ، وأجمعنا على أنه لا يجب عرفان غير الشاهد ، فوجب أن يكون عرفان الشاهد واجباً وأجاب الأولون بأن المراد بالمعروف هو المراعاة وإيصال الخير لا ما ذكرتم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 93 ـ 94}
قال ابن عاشور :
وقوله : {أو سرحوهن بمعروف} قيد التسريح هنا بالمعروف ، وقيد في قوله السالف {أو تسريح بإحسان} ، بالإحسان للإشارة إلى أن الإحسان المذكور هنالك ، هو عين المعروف الذي يعرض للتسريح ، فلما تقدم ذكره لم يُحتج هنا إلى الفرق بين قيده وقيد الإمساك.
أو لأن إعادة أحوال الإمساك والتسريح هنا ليبنى عليه النهي عن المضارة ، والذي تخاف مضارته بمنزلة بعيدة عن أن يطلب منه الإحسان ، فطلب منه الحق ، وهو المعروف الذي عدم المضارة من فروعه ، سواء في الإمساك أو في التسريح ، ومضارة كل بما يناسبه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 422}
سؤال : لم عبر بالتسريح عن التخلية ؟
الجواب : عبر بالتسريح عن التخلية لأن مآلها إليه ، إذ بانقضاء العدّة حصلت البينونة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 218}(6/399)
لطيفة
قوله تعالى {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف} وفى سورة الطلاق : {فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف}.
للسائل أن يسأل عن الفرق بين قوله" أو سرحوهن" وقوله" أو فارقوهن" واختصاص كل من الموضعين بما اختص به من ذلك.
والجواب والله أعلم أن آية البقرة قد اكتنفها النهى عن مضارة النساء وتحريم أخذ شئ منهن ما لم يكن منهن ما يسوغ ذلك من ألا يقيما حدود الله ، فلما اكتنفها ما ذكر وأتبع ذلك بالمنع عن عضلهن وتكرر أثناء ذلك ما يفهم الأمر بمجاملتهن والإحسان إليهن حالى الاتصال والانفصال لم يكن ليناسب ما قصد من هذا أن يعبر بلفظ أو فارقوهن لأن لفظ الفراق أقرب إلى الاساءة منه إلى الإحسان فعدل إلى ما يحصل منه المقصود مع تحسين العبارة وهو لفظ التسريح فقال تعالى : " فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن بمعروف" وليجرى مع ماتقدم من قوله تعالى : "الطلاق مرتان فامساك بمعروف أو تسريح بإحسان" ، وقيل هنا"بإحسان" ليناسب ما به تعلق المجرور من قوله"أو تسريح" وقد روعى فى هذه الآى كلها مقصد التلطف وتحسين الحال فى المحبة والافتراق ولما لم يكن فى سورة الطلاق تعرض لعضل ولا ذكر مضارة لم يذكر ورود التعبير بلفظ "أو فارقوهن" عن الانفصال ووقع الاكتفاء فيما يراد من المجاملة فى الحالين بقوله"بمعروف" وبان افتراق القضيتين فى السورتين ، وورد كل من العباراتين على ما يجب من المناسبة والله أعلم. أ هـ {ملاك التأويل صـ 91}(6/400)
قوله تعالى : {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان المعروف يعم كل خير وكان الأمر به لا يفيد التكرار خص ترك الشر اهتماماً به معبراً بما يتناول جميع الأوقات فقال : {ولا تمسكوهن} أي بالمراجعة في آخر العدة {ضراراً} كما كان في الجاهلية {لتعتدوا} أي قاصدين بذلك التوصل إلى شيء من مجاوزة الحدود التي بينت لكم مثل أن يريد تطويل العدة عليها فإنه قد يفضي إلى اعتدادها تسعة أشهر.
ولما كان التقدير : فمن يفعل ذلك فقد ظلم زوجه عطف عليه زيادة في التنفير عنه قوله : {ومن يفعل ذلك} أي الفعل البعيد عن الخير ، وفي التعبير بالمضارع إشعار بأن في الأمة من يتمادى على فعله {فقد ظلم نفسه} أي بتعريضها لسخط الله عليه ونفرة الناس منه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 436}
سؤال : لقائل أن يقول : فلا فرق بين أن يقول : {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} وبين قوله : {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} لأن الأمر بالشيء نهي عن ضده فما الفائدة في التكرار ؟ .
والجواب : الأمر لا يفيد إلا مرة واحدة ، فلا يتناول كل الأوقات ، أما النهي فإنه يتناول كل الأوقات ، فلعله يمسكها بمعروف في الحال ، ولكن في قلبه أن يضارها في الزمان المستقبل ، فلما قال تعالى : {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا} اندفعت الشبهات وزالت الاحتمالات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 94}
قال ابن عاشور : (6/401)
وقوله : {ولا تمسكوهن ضراراً} تصريح بمفهوم {فأمسكوهن بمعروف} إذ الضرار ضد المعروف ، وكأن وجه عطفه مع استفادته من الأمر بضده التشويه بذكر هذا الضد لأنه أكثر أضداد المعروف يقصده الأزواج المخالفون لحكم الإمساك بالمعروف ، مع ما فيه من التأكيد ، ونكتته تقرير المعنى المراد في الذهن بطريقتين غايتهما واحدة وقال الفخر : نكتة عطف النهي على الأمر بالضد في الآية هي أن الأمر لا يقتضي التكرار بخلاف النهي ، وهذه التفرقة بين الأمر والنهي غير مسلمة ، وفيها نزاع في علم الأصول ، ولكنه بناها على أن الفرق بين الأمر والنهي هو مقتضى اللغة.
على أن هذا العطف إن قلنا : إن المعروف في الإمساك حيثما تحقق انتفى الضرار ، وحيثما انتفى المعروف تحقق الضرار ، فيصير الضرار مساوياً لنقيض المعروف ، فلنا أن نجعل نكتة العطف حينئذٍ لتأكيد حكم الإمساك بالمعروف : بطريقي إثبات ونفي ، كأنه قيل : ( ولا تمسكوهن إلاّ بالمعروف ) ، كما في قول السموأل :
تسيل على حد الظُّباتتِ نُفُوسنا
وليستْ على غير الظُّبات تسيل...
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 423}
فصل
قال الفخر :
قال القفال : الضرار هو المضارة قال تعالى : {والذين اتخذوا مَسْجِدًا ضِرَارًا} [ التوبة : 107 ] أي اتخذوا المسجد ضراراً ليضاروا المؤمنين ، ومعناه رجع إلى إثارة العداوة وإزالة الألفة وإيقاع الوحشة ، وموجبات النفرة ، وذكر المفسرون في تفسير هذا الضرار وجوها أحدها : ما روي أن الرجل كان يطلق المرأة ثم يدعها ، فإذا قارب انقضاء القرء الثالث راجعها ، وهكذا يفعل بها حتى تبقى في العدة تسعة أشهر أو أكثر والثاني : في تفسير الضرار سوء العشرة والثالث : تضييق النفقة ، واعلم أنهم كانوا يفعلون في الجاهلية أكثر هذه الأعمال رجاء أن تختلع المرأة منه بمالها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 94}
قوله تعالى : {لّتَعْتَدُواْ}
قال الفخر :
(6/402)
أما قوله تعالى : {لّتَعْتَدُواْ} ففيه وجهان الأول : المراد لا تضاروهن فتكونوا معتدين ، يعني فتكون عاقبة أمركم ذلك وهو كقوله : {فالتقطه ءالُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً} [ القصص : 8 ] أي فكان لهم وهي لام العاقبة والثاني : أن يكون المعنى : لا تضاروهن على قصد الاعتداء عليهن ، فحينئذٍ تصيرون عصاة الله ، وتكونون متعمدين قاصدين لتلك المعصية ، ولا شك أن هذا أعظم أنواع المعاصي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 94}
سؤال : لم حذف مفعول "تعتدوا" ؟
الجواب : حذف مفعول "تعتدوا" ليشمل الاعتداء عليهن وعلى أحكام الله تعالى ، فتكون اللام مستعملة في التعليل والعاقبة.
والاعتداء على أحكام الله لا يكون علة للمسلمين ، فنزل منزلة العلة مجازاً في الحصول ، تشنيعاً على المخالفين ، فحرف اللام مستعمل في حقيقته ومجازه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 423}
قوله تعالى : {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ} ففيه وجوه أحدها : ظلم نفسه بتعريضها لعذاب الله وثانيها : ظلم نفسه بأن فوت عليها منافع الدنيا والدين ، أما منافع الدنيا فإنه إذا اشتهر فيما بين الناس بهذه المعاملة القبيحة لا يرغب في التزوج به ولا معاملته أحد ، وأما منافع الدين فالثواب الحاصل على حسن العشرة مع الأهل والثواب الحاصل على الانقياد لأحكام الله تعالى وتكاليفه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 94}
وقال ابن عاشور :
وقوله {فقد ظلم نفسه} جعل ظلمهم نساءهم ظلماً لأنفسهم ، لأنه يؤدي إلى اختلال المعاشرة واضطراب حال البيت وفوات المصالح بشغب الأذهان في المخاصمات.
وظلم نفسه أيضاً بتعريضها لعقاب الله في الآخرة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 423}
قوله تعالى : {وَلَا تَتَّخِذُوا آَيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا}
المناسبة
قال البقاعى :
(6/403)
ولما كان قد لا يقصد شيئاً من انتهاك الحرمات ولا من المصالح فكان مقدماً على ما لا يعلم أو يظن له عاقبة حميدة تهاوناً بالنظر وكان فاعل ذلك شبيهاً بالهازىء كما يقال لمن لا يجد فى أمر : هو لاعب ، قال : {ولا تتخذوا آيات الله} أي مع ما تعلمون من عظمتها بعظمة ناصبها {هزواً} بإهمالها عن قصد المصالح الذي هو زوجها. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 436}
قوله تعالى : {وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا}
قال ابن عاشور :
عطف هذا النهي على النهي في قوله : {ولا تمسكوهن ضراراً لتعتدوا} لزيادة التحذير من صنيعهم في تطويل العدة ، لقصد المضارة ، بأن في ذلك استهزاء بأحكام الله التي شرع فيها حق المراجعة ، مريداً رحمة الناس ، فيجب الحذر من أن يجعلوها هزؤاً.
وآيات الله هي ما في القرآن من شرائع المراجعة نحو قوله : {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [ البقرة : 228 ] إلى قوله {وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون} [ البقرة : 230 ].
والهزء بضمتين مصدر هزأ به إذا سخر ولعب ، وهو هنا مصدر بمعنى اسم المفعول ، أي لا تتخذوها مستهزأ به ، ولما كان المخاطب بهذا المؤمنين ، وقد علم أنهم لم يكونوا بالذين يستهزئون بالآيات ، تعين أن الهزء مراد به مجازه وهو الاستخفاف وعدم الرعاية ، لأن المستخف بالشيء المهم يعد لاستخفافه به ، مع العلم بأهميته ، كالساخر واللاعب.
وهو تحذير للناس من التوصل بأحكام الشريعة إلى ما يخالف مراد الله ، ومقاصد شرعه ، ومن هذا التوصل المنهي عنه ، ما يسمى بالحيل الشرعية بمعنى أنها جارية على صور صحيحة الظاهر ، بمقتضى حكم الشرع ، كمن يهب ماله لزوجه ليلة الحول ليتخلص من وجوب زكاته ، ومن أبعد الأوصاف عنها الوصف بالشرعية.(6/404)
فالمخاطبون بهذه الآيات محذرون أن يجعلوا حكم الله في العدة ، الذي قصد منه انتظار الندامة وتذكر حسن المعاشرة ، لعلهما يحملان المطلق على إمساك زوجته حرصاً على بقاء المودة والرحمة ، فيغيروا ذلك ويجعلوه وسيلة إلى زيادة النكاية ، وتفاقم الشر والعداوة.
وفي "الموطأ" أن رجلاً قال لابن عباس : إني طلقت امرأتي مائة طلقة فقال له ابن عباس "بانت منك بثلاث ، وسبع وتسعون اتخذت بها آيات الله هزؤاً" يريد أنه عمد إلى ما شرعه الله من عدد الطلاق ، بحكمة توقع الندامة مرة أولى وثانية ، فجعله سبب نكاية وتغليظ ، حتى اعتقد أنه يضيق على نفسه المراجعة إذ جعله مائة.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 424}
وقال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا} ففيه وجوه الأول : أن من نسي فلم يفعله بعد أن نصب نفسه منصب من يطيع ذلك الأمر ، يقال فيه أنه استهزأ بهذا الأمر ويلعب به ، فعلى هذا كل من أمر بأنه تجب عليه طاعة الله وطاعة رسوله ، ثم وصلت إليه هذه التكاليف التي تقدم ذكرها في العدة والرجعة والخلع وترك المضارة فلا يتشمر لأدائها ، كان كالمستهزىء بها ، وهذا تهديد عظيم للعصاة من أهل الصلاة
وثانيها : المراد : ولا تتسامحوا في تكاليف الله كما يتسامح فيما يكون من باب الهزل والعبث
والثالث : قال أبو الدرداء : كان الرجل يطلق في الجاهلية ، ويقول : طلقت وأنا لاعب ، ويعتق وينكح ، ويقول مثل ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : " من طلق ، أو حرر ، أو نكح ، فزعم أنه لاعب فهو جد "(6/405)
والرابع : قال عطاء : المعنى أن المستغفر من الذنب إذا كان مصراً عليه أو على مثله ، كان كالمستهزىء بآيات الله تعالى ، والأقرب هو الوجه الأول ، لأن قوله : {وَلاَ تَتَّخِذُواْ آيات الله هُزُوًا} تهديد ، والتهديد إذا ذكر بعد ذكر التكاليف كان ذلك التهديد تهديداً على تركها ، لا على شيء آخر غيرها أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 94 ـ 95}
وقال أبو حيان :
قال ابن عطية ، المراد آياته النازلة في الأوامر والنواهي ، وخصها الكلبي بقوله : {فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان} {ولا تمسكوهنّ}.
وقال الحسن : نزلت هذه الآية فيمن طلق لاعباً أو هازلاً ، أو راجع كذلك ، والذي يظهر أنه تعالى لما أنزل آيات تضمنت الأمر والنهي في النكاح ، وأمر الحيض والإيلاء ، والطلاق والعدة ، والرجعة والخلع ، وترك المعاهدة ، وكانت هذه أحكامها جارية بين الرجل وزوجته ، وفيها إيجاب حقوق للزوجة على الزوج ، وله عليها ، وكان من عادة العرب عدم الاكتراث بأمر النساء والاغتفال بأمر شأنهن ، وكنّ عندهم أقل من أن يكون لهنّ أمر أو حق على الزوج ، فأنزل الله فيهنّ ما أنزل من الأحكام ، وحدّ حدوداً لا تتعدى ، وأخبرهم أن من خالف فهو ظالم متعدٍّ ، أكد ذلك بالنهي عن اتخاذ آيات الله ، التي منها هذه الآيات النازلة في شأن النساء ، هزؤاً ، بل تؤخذ وتتقبل بجد واجتهاد ، لأنها من أحكام الله ، فلا فرق بينها وبين الآيات التي نزلت في سائر التكاليف التي بين العبد وربه ، وبين العبد والناس. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 219}
قال القرطبى :
{وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً}. قال علماؤنا :
والأقوال كلها داخلة في معنى الآية ؛ لأنه يُقال لمن سخر من آيات الله : اتخذها هزواً. ويُقال ذلك لمن كفر بها ، ويُقال ذلك لمن طرحها ولم يأخذ بها وعمل بغيرها ؛ فعلى هذا تدخل هذه الأقوال في الآية.
وآيات الله : دلائله وأمره ونهيه.(6/406)
ولا خلاف بين العلماء أن من طلق هازلاً أن الطلاق يلزمه ، واختلفوا في غيره على ما يأتي بيانه في "براءة" إن شاء الله تعالى. وخرّج أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ثلاث جِدّهن جِدّ وهزلِهن جِدّ النكاح والطلاق والرّجعة "
وروي عن عليّ بن أبي طالب وابن مسعود وأبي الدّرداء كلهم قالوا : ثلاث لا لعب فيهنّ واللاعب فيهنّ جادّ : النكاح والطلاق والعِتاق.
وقيل : المعنى لا تتركوا أوامر الله فتكونوا مقصرين لاعبين. ويدخل في هذه الآية الاستغفار من الذنب قولاً مع الإصرار فعلاً ؛ وكذا كل ما كان في هذا المعنى فاعلمه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 157}
فائدة
قال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ} الآية.
صرح تعالى في هذه الآية الكريمة بالنهي عن إمساك المرأة مضارة لها. لأجل الاعتداء عليها بأخذه ما أعطاها. لأنها إذا طال عليها الإضرار افتدت منه. ابتغاء السلامة من ضرره. وصرح في موضع آخر بأنها إذا أتت بفاحشة مبينة جاز له عضلها ، حتى تفتدى منه وذلك في قوله تعالى : {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ ُلِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ} [ النساء : 19 ] واختلف العلماء في المراد بالفاحشة المبينة.
فقال جماعة منهم هي : الزنا ، وقال قوم هي : النشوز والعصيان وبذاء اللسان. والظاهر شمول الآية للكل كما اختاره ابن جرير.
وقال ابن كثير : إنه جيد ، فإذا زنت أو أساءت بلسانها ، أو نشزت جازت مضاجرتها. لتفتدي منه بما أعطاها على ما ذكرنا من عموم الآية. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 174}
قوله تعالى : {وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ}
المناسبة
قال البقاعى : (6/407)
ولما كان على العبد أن يقتفي أثر السيد في جميع أفعاله قال : {واذكروا نعمة الله} أي الذي له الكمال كله ثم عبر بأداة الاستعلاء إشارة إلى عموم النعم وغلبتها فقال : {عليكم} هل ترون فيها شيئاً من وادي العبث بخلوه عن حكمة ظاهرة {وما} أي وخصوا بالذكر الذي {أنزل عليكم من الكتاب} الذي فاق جميع الكتب وعلا عن المعارضة فغلب جميع الخلق بما أفادته أداة الاستعلاء {والحكمة} التي بثها فيه وفي سنة نبيه صلى الله عليه وسلم حال كونه {يعظكم} أي يذكر بما يرقق قلوبكم {به} أي بذلك كله {واتقوا الله} أي بالغوا في الخوف ممن له الإحاطة بجميع صفات الكمال باستحضار ما له من العظمة التي لا تتناهى ونبه على عظيم أمره بقوله : {واعلموا} وبتكرير الاسم الأعظم في قوله : {أن الله} فلم يبق وراء ذلك مرمى {بكل شيء} أي من أمور النكاح وغيرها {عليم} أي بالغ العلم فاحذروه حذر من يعلم أنه بحضرته وكل ما يعمله من سر وعلن فبعينه. قال الحرالي : والتهديد بالعلم منتهى التحديد - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 436}
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما رغبهم في أداء التكاليف بما ذكر من التهديد ، رغبهم أيضاً في أدائها بأن ذكرهم أنواع نعمه عليهم ، فبدأ أولاً بذكرها على سبيل الإجمال فقال : {واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} وهذا يتناول كل نعم الله على العبد في الدنيا وفي الدين ، ثم إنه تعالى ذكر بعد هذا نعم الدين ، وإنما خصها بالذكر لأنها أجل من نعم الدنيا ، فقال : {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم مّنَ الكتاب والحكمة يَعِظُكُم بِهِ} والمعنى أنه إنما أنزل الكتاب والحكمة ليعظكم به. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 95}
وقال أبو حيان : (6/408)
و : الكتاب ، القرآن ، و: الحكمة ، هي السنة التي بها كمال الأحكام التي لم يتضمنها القرآن ، والمبينة ما فيه من الإجمال. ودل هذا على أن السنة أنزلها الله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، كما قال تعالى : {وما ينطق عن الهوى إن هو إلاَّ وحي يوحى}
وقيل : وفي ظاهره رد على من زعم أن له الحكم بالاجتهاد ، لأن ما يحكم به من السنة ينزل من الله عليه ، فلا اجتهاد ، وذكر : النعم ، لا يراد به سردها على اللسان ، وإنما المراد بالذكر الشكر عليها ، لأن ذكر المسلم النعمة سبب لشكرها ، فعبر بالسبب عن المسبب ، فإن أريد بالنعمة المنعم به فيكون : عليكم ، في موضع الحال ، فيتعلق بمحذوف ، أي : كائنة عليكم ، ويكون في ذلك تنبيه على أن نعمته تعالى منسحبة علينا ، قد استعلت وتجللت وصارت كالظلة لنا ، وإن أريد بالنعمة الإنعام فيكون : عليكم ، متعلقاً بلفظ النعمة ، ويكون إذ ذاك مصدراً من : أنعم ، على غير قياس ، كنبات من أنبت. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 219}
وقال السعدى :
{وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} عموما باللسان ثناء وحمدا ، وبالقلب اعترافا وإقرارا ، وبالأركان بصرفها في طاعة الله ، {وَمَا أَنزلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ} أي : السنة اللذين بيّن لكم بهما طرق الخير ورغبكم فيها ، وطرق الشر وحذركم إياها ، وعرفكم نفسه ووقائعه في أوليائه وأعدائه ، وعلمكم ما لم تكونوا تعلمون.
وقيل : المراد بالحكمة أسرار الشريعة ، فالكتاب فيه ، الحكم ، والحكمة فيها ، بيان حكمة الله في أوامره ونواهيه ، وكلا المعنيين صحيح ، ولهذا قال {يَعِظُكُمْ بِهِ} أي : بما أنزل عليكم ، وهذا مما يقوي أن المراد بالحكمة ، أسرار الشريعة ، لأن الموعظة ببيان الحكم والحكمة ، والترغيب ، أو الترهيب ، فالحكم به ، يزول الجهل ، والحكمة مع الترغيب ، يوجب الرغبة ، والحكمة مع الترهيب يوجب الرهبة. أ هـ {تفسير السعدى صـ 103}
وقال الآلوسى : (6/409)
{واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ} أي قابلوها بالشكر والقيام بحقوقها والنعمة إمّا عامة فعطف {وَمَا أَنزَلَ عَلَيْكُم} عليها من عطف الخاص على العام ، وإمّا أن تخص بالإسلام ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم وخصا بالذكر ليناسب ما سبقه ، وليدل على أن ما كانوا عليه من الإمساك إضراراً من سنن الجاهلية المخالفة ، كأنه لما قيل : جدّوا في العمل بالآيات على طريق الكناية أكد ذلك بأنه شكر النعمة فقوموا بحقه ، ويكون العطف تأكيداً على تأكيد لأن الإسلام ونبوّة محمد صلى الله عليه وسلم يشملان إنزال الكتاب والسنة وهو قريب من عطف التفسير ولا بأس أن يسمى عطف التقرير ، قيل : ولو عمم النعمة لم يحسن موقعه هذا الحسن ، ولا يخفى أنه في حيز المنع ، والظرف الأوّل متعلق بمحذوف وقع حالاً من نعمة أو صفة لها على رأي من يجوّز حذف الموصول مع بعض الصلة ، ويجوز أن يتعلق بنفسها إن أريد بها الإنعام لأنها اسم مصدر كنبات من أنبت ولا يقدح في عمله تاء التأنيث لأنه مبني عليها كما في قوله :
فلولا رجاء النصر منك وهيبة... عقابك قد كانوا لنا كالموارد
والظرف الثاني متعلق بما عنده وأتى به تنبيهاً للمأمورين وتشريفاً لهم ، و{مَا} موصولة حذف عائدها من الصلة ، و{مِنْ} في قوله تعالى : {مّنَ الكتاب والحكمة} بيانية ، والمراد بهما القرآن الجامع للعنوانين ، أو القرآن والسنة ، والإفراد بالذكر بعد الاندراج في المذكور إظهاراً للفضل وإيماءاً إلى أن الشرف وصل إلى غاية لا يمكن معها الاندراج ، وذاك من قبيل :
فإن تفق الأنام وأنت منهم... فإن المسك بعض دم الغزال
أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 144}
وقال ابن عاشور : (6/410)
ثم إن الله تعالى بعد أن حذرهم دعاهم بالرغبة فقال : {واذكروا نعمت الله عليكم} فذكرهم بما أنعم عليهم بعد الجاهلية بالإسلام ، الذي سماه نعمة كما سماه بذلك في قوله : {واذكروا نعمت الله عليكم إذ كنتم أعداء فألف بين قلوبكم فأصبحتم بنعمته إخواناً} [ آل عمران : 103 ] فكما أنعم عليكم بالإنسلاخ عن تلك الضلالة ، فلا ترجعوا إليها بالتعاهد بعد الإسلام.
وقوله : {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة} معطوف على ( نعمة ) ، وجملة {يعظكم به} حال ويجوز جعله مبتدأ ؛ وجملة {يعظكم} خبراً ، والكتاب : القرآن.
والحكمة : العلم المستفاد من الشريعة ، وهو العبرة بأحوال الأمم الماضية وإدراك مصالح الدين ، وأسرار الشريعة ، كما قال تعالى ، بعد أن بين حكم الخمر والميسر {كذلك يبين الله لكم الآيات لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة} [ البقرة : 219 ، 220 ] ومعنى إنزال الحكمة أنها كانت حاصلة من آيات القرآن كما ذكرنا ، ومن الإيماء إلى العلل ، ومما يحصل أثناء ممارسة الدين ، وكل ذلك منزل من الله تعالى بالوحي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم ومن فسر الحكمة بالسنة فقد فسرها ببعض دلائلها.
والموعظة والوعظ : النصح والتذكير بما يلين القلوب ، ويحذر الموعوظ.
وقوله : {واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم} تذكير بالتقوى وبمراعاة علمهم بأن الله عليم بكل شيء تنزيلاً لهم في حين مخالفتهم بأفعالهم لمقاصد الشريعة ، منزلة من يجهل أن الله عليم ، فإن العليم لا يخفى عليه شيء ، وهو إذا علم مخالفتهم لا يحول بين عقابه وبينهم شيء ، لأن هذا العليم قدير. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 425}
قال أبو حيان :
(6/411)
{واتقوا الله} لما كان تعالى قد ذكر أوامر ونواهي ، وذلك بسبب النساء اللاتي هنّ مظنة الإهمال وعدم الرعاية ، أمر الله تعالى بالتقوى ، وهي التي بحصولها يحصل الفلاح في الدنيا والآخرة ، ثم عطف عليها ما يؤكد طلبها وهي قوله : {واعلموا أن الله بكل شيء عليم} والمعنى : بطلب العلم الديمومة عليه ، إذ هم عالمون بذلك ، وفي ذلك تنبيه على أنه يعلم نياتكم في المضارة والاعتداء ، فلا تلبسوا على أنفسكم. وكرر اسم الله في قوله تعالى : {واتقوا الله} {واعلموا أن الله} لكونه من جملتين ، فتكريره أفخم ، وترديده في النفوس أعظم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 220}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً}.
وقال قبل هذا : {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ} وتقدّم أن المعروف أخف من الإحسان فالجمع بين الآيتين بأنه لما وقع الأمر بتسريحهن مقارنا للإحسان إليهن خاف أن يتوهّم أن الأمر بالإحسان إليهن عند تسريحهن للوجوب فعقبه بهذا تنبيها على أنه إحسان بمعروف فهو للندب لا للوجوب. ولفظ التسريح عندهم من الكنايات الظاهرة في الثلاث.
وقوله " لاَ تُمْسِكُوهُنّ " قال أبو حيان : إن كان " ضرارا " حالا تعلقت اللاّم ( من " لِّتَعْتَدُواْ " به أو بـ " وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ " ، وإن كان مفعولا من أجله تعلقت اللام ) بـ " ضرارا " أو كان علة للعلة كقولك : ضربت بني تأديبا لينتفع. ولا يجوز أن يتعلق بـ " لاَ تُمْسِكُوهُنَّ " فيكون الفعل قد تغير إلى علة وإلى عاقبة وهما مختلفان.(6/412)
قال ابن عرفة : ليس امتناعه من جهة الإعراب بل من جهة المعنى لأنه لا يقصد أحد ( بإمساك زوجته أنه متعدّ حكم الله كما لا يقصد أحد ) بالزنا أنه متعدّ حكم الله ، وإنّما يقصد أضدادها فيؤول ( أمره ) إلى تعدى ( حكم الله ) والزاني يقصد اتّباع شهوته ويؤول أمره إلى أنه تعدى حدود الله.
قوله تعالى : {وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ...}.
قال ابن عرفة : هذا احتراس لأنّ من يأمره بأمر ويؤكده بالنّهي عن ضده ثم يزيد تأكيدا ، فإنما يفعل ذلك لتعلق غرضه به وانتفاعه به وتضرره من ( عدمه ) فبين أنه تعالى لا يلحقه من فعل ذلك نفع ولا يناله من ( تركه ) ضرر بوجه.
قوله تعالى : {وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً...}.
ولم يقل : ولا تستهزئوا بآيات اللهِ ، مع أن الاستهزاء بها أعم من اتّخاذها هزؤا ونفي الأعم أخص من نفي الأخص لأن اتّخاذ آيات الله هزؤا أخص من مطلق الاستهزاء.
فالجواب أنّ الاستهزاء بها لو وقع لما وقع إلاّ على المعنى الأخص ولذلك أضاف الآية إلى الله تعالى إضافة تشريف. ونظيره قول الله تعالى : {وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ} أجابوا بوجهين : إما بأن المبالغة في نفس الظلم أي لو كان وقع لكان عظيما لأنّ الحقير من العظيم ، وإما باعتبار تعدد متعلقاته. وآيات الله إما أحكامه أو دلائل أحكامه وهو الظاهر لأن الزاني لم يستهزىء بالزنا ولا بتحريمه ، ( بل ) بالدليل الدال على تحريمه.
قوله تعالى : {لِّتَعْتَدُواْ}.
لتعتدوا : متعلق بـ " ضرار " وهي لام العاقبة وليس متعلقاً بـ " تمسكوا ". أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 299}
موعظة
قال فى روح البيان :
الأذية والمضارة ليست من الإسلام ولا من آثار الإيمان ولا من شعار المسلمين عموما كما قال ـ عليه السلام ـ " المؤمن من أمنه الناس " وقال " المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده " ويتضمن حسن المعاشرة مع الخلق جميعا.
(6/413)
فأما الزوجان ففيهما خصوصية بالأمر بحسن المعاشرة معهن وترك أذيتهن والمغايظة معهن على وجه اللجاج فأما تخلية سبيل من غير جفاء أو قيام بحق الصحبة على شرائط الوفاء بلا اعتداء {ومن يفعل ذلك} أى من الأذية والمضارة والاعتداء بالجفاء {فقد ظلم نفسه} لأن الله تعالى يجازى الظالم والمظلوم يوم القيامة بأن يكافىء المظلوم من حسنات الظالم ويجازى الظالم من سيئات المظلوم والظالم إذا أساء إلى غيره صارت نفسه مسيئة وإذا أحسن صارت نفسه محسنة فترجع إساءة الظالم إلى نفسه لا إلى نفس غيره حقيقة فإنه ظلم نفسه لا غيره ولهذا قال تعالى {إن أحسنتم أحسنتم لأنفسكم وإن أسأتم فلها}. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 445}(6/414)
قوله تعالى : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما نهى عن الضرار في العصمة وفي أثرها الذي هو العدة أتبعه النهي عما كان منه بعد انقضائها بالعضل من كل من يتصور منه عضل لكن لما كان نهي الأولياء إذا كانوا أزواجاً نهياً لغيرهم بطريق الأولى أسنده إلى الأزواج وهم في غمارهم فقال : {وإذا طلقتم} أي أيها الأزواج ، وأظهر ولم يضمر لأن المذكور هنا أعم من الأول فقال : {النساء} أيّ طلاق كان {فبلغن أجلهن} أي انقضت عدتهن فقد دل سياق الكلامين على اختلاف البلوغين - نقله الأصبهاني عن الشافعي يعني أن الأول دل على المشارفة للأمر بالإمساك وهذا على الحقيقة للنهي عن العضل {فلا تعضلوهن} أي تمنعوهن أيها الأولياء أزواجاً كنتم أو غير أزواج ، والعضل قال الحرالي هو أسوأ المنع ، من عضلت الدجاجة إذا نشبت بيضتها فيها حتى تهلك - انتهى.
(6/415)
{أن ينكحن أزواجهن} أي الذين طلقوهن وغيرهم ، وسموا أزواجاً لمآل أمرهم إلى ذلك كما أن المطلقين سموا أزواجاً بما كان ؛ واستدل الشافعي رضي الله تعالى عنه ورحمه بها على أنه لا نكاح إلا بولي ، لأن التعبير بالعضل دال على المنع الشديد المعبر من الداء العضال ، وإن عضل من غير كفوء جاز ولم تزوج منه ولو كانت المرأة تزوج نفسها لما كان إعياء ولا يثبت عضله الممنوع ليحصل عزله إلا إذا منع عند الحاكم وقد بينت ذلك السنة. وهذه الآية من عجائب أمر الاحتباك {طلقتم} يفهم الأزواج من {تعضلوهن} و{تعضلوهن} يفهم الأولياء من {طلقتم} وقد بينت ذلك في كتابي الإدراك {إذا تراضوا} أي النساء والأزواج الأكفاء بما أفهمته الإضافة دون أن يقال : أزواجاً لهن مثلاً. ولما كان الرضى ينبغي أن يكون على العدل أشار إليه بقوله : {بينهم} ولما كانا قد يتراضيان على ما لا ينبغي قيده بقوله : {بالمعروف} فإن تراضوا على غيره كما لو كان الزوج غير كفوء فاعضلوهن ، وعرفه كما قال الحرالي لاجتماع معروفين منهما فكان مجموعهما المعروف التام وأما المنكر فوصف أحدهما - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 437}
سبب نزول الآية
قال ابن القرطبى : (6/416)
روى أن مَعْقِل بن يَسّار كانت أُخته تحت أبي البدّاح فطلقها حتى انقضت عدّتها ، ثم ندم فخطبها فرضيت وأبى أخوها أن يزوّجها وقال : وجهي من وجهك حرام إن تزوّجتيه. فنزلت الآية. قال مقاتل : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم معقِلاً فقال : "إن كنت مؤمناً فلا تمنع أُختك عن أبي البدّاح" فقال : آمنت بالله ، وزوّجها منه " وروى البخاريّ عن الحسن : " أن أُخت معقل بن يسار طلقها زوجها حتى انقضت عدّتها فخطبها فأبى معقِلٌ فنزلت : {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} " وأخرجه أيضاً الدارقطنيّ عن الحسن قال : حدّثني معقِل بن يسار قال : كانت لي أُخت فخطِبت إليّ فكنت أمنعها الناس ، فأتى ابن عم لي فخطبها فأنكحتها إياه ، فاصطحبا ما شاء الله ثم طلقها طلاقاً رجعياً ثم تركها حتى انقضت عدّتها فخطبها مع الخُطّاب ؛ فقلت : منعتُها الناس وزوّجتك إياها ثم طلقتها طلاقاً له رجعة ثم تركتها حتى انقضت عدّتها فلما خطبت إليّ أتيتني تخطبها مع الخطاب! لا أزوّجك أبدا! فأنزل الله ، أو قال أنزلت : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ} فكفّرت عن يميني وأنكحتها إياه. في رواية للبخاريّ : "فحمِيَ معقلٌ من ذلك آنفاً ، وقال : خَلّى عنها وهو يقدر عليها ثم يخطبها! فأنزل الله الآية ؛ فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه الآية فترك الحمِية وانقاد لأمر الله تعالى. وقيل : هو معقل بن سنان ( بالنون ). قال النحاس : رواه الشافعيّ في كتبه عن معقل بن يَسّار أو سنان. وقال الطحاويّ : هو معقل بن سنان. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 158}
وقيل : إنها نزلت عموماً في نهي كل ولي عن مضارة وليّته من النساء أن يعضلها عن النكاح ، وهذا قول ابن عباس ، والضحاك ، والزهري. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 298}
قال ابن عاشور : (6/417)
المراد من هذه الآية مخاطبة أولياء النساء بألا يمنعوهن من مراجعة أزواجهن بعد أن أمر المفارقين بإمساكهن بمعروف ورغبهم في ذلك ، إذ قد علم أن المرأة إذا رأت الرغبة من الرجل الذي كانت تألفه وتعاشره لم تلبث أن تقرن رغبته برغبتها ، فإن المرأة سريعة الانفعال قريبة القلب ، فإذا جاء منع فإنما يجيء من قبل الأولياء ولذلك لم يذكر الله ترغيب النساء في الرضا بمراجعة أزواجهن ونهى الأولياء عن منعهن من ذلك.
وقد عرف من شأن الأولياء في الجاهلية وما قاربها ، الأنفة من أصهارهم ، عند حدوث الشقاق بينهم وبين ولاياهم ، وربما رأوا الطلاق استخفافاً بأولياء المرأة وقلة اكتراث بهم ، فحملتهم الحمية على قصد الانتقام منهم عند ما يرون منهم ندامة ، ورغبة في المراجعة.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 425 ـ 426}
قال الفخر :
(6/418)
اختلف المفسرون في أن قوله : {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} خطاب لمن ؟ فقال الأكثرون إنه خطاب للأولياء ، وقال بعضهم إنه خطاب للأزواج ، وهذا هو المختار ، الذي يدل عليه أن قوله تعالى : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} جملة واحدة مركبة من شرط وجزاء ، فالشرط قوله : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} والجزاء قوله : {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} ولا شك أن الشرط وهو قوله : {وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النساء} خطاب مع الأزواج ، فوجب أن يكون الجزاء وهو قوله : {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} خطاباً معهم أيضاً ، إذ لو لم يكن كذلك لصار تقدير الآية : إذا طلقتم النساء أيها الأزواج فلا تعضلوهن أيها الأولياء وحيئنذٍ لا يكون بين الشرط وبين الجزاء مناسبة أصلاً وذلك يوجب تفكك نظم الكلام وتنزيه كلام الله عن مثله واجب ، فهذا كلام قوي متين في تقرير هذا القول ، ثم إنه يتأكد بوجهين آخرين الأول : أن من أول آية في الطلاق إلى هذا الموضع كان الخطاب كله مع الأزواج ، وألبتة ما جرى للأولياء ذكر فكان صرف هذا الخطاب إلى الأولياء على خلاف النظم والثاني : ما قبل هذه الآية خطاب مع الأزواج في كيفية معاملتهم مع النساء قبل انقضاء العدة ، فإذا جعلنا هذه الآية خطاباً لهم في كيفية معاملتهم مع النساء بعد انقضاء العدة كان الكلام منتظماً ، والترتيب مستقيماً ، أما إذا جعلناه خطاباً للأولياء لم يحصل فيه مثل هذا الترتيب الحسن اللطيف ، فكان صرف الخطاب إلى الأزواج أولى.
(6/419)
حجة من قال الآية خطاب للأولياء وجوه الأول : وهو عمدتهم الكبرى : أن الروايات المشهورة في سبب نزول الآية دالة على أن هذه الآية خطاب مع الأولياء لا مع الأزواج ، ويمكن أن يجاب عنه بأنه لما وقع التعارض بين هذه الحجة وبين الحجة التي ذكرناها كانت الحجة التي ذكرناها أولى بالرعاية لأن المحافظة على نظم الكلام أولى من المحافظة على خبر الواحد وأيضاً فلأن الروايات متعارضة ، فروي عن معقل أنه كان يقول ، إن هذه الآية لو كانت خطاباً مع الأزواج لكانت إما أن تكون خطاباً قبل انقضاء العدة أو مع انقضائها ، والأول باطل لأن ذلك مستفاد من الآية ، فلو حملنا هذه الآية على مثل ذلك المعنى كان تكراراً من غير فائدة ، وأيضاً فقد قال تعالى : {فلا تَعْضُلُوهُنَّ أَن يَنكِحْنَ أزواجهن إِذَا تراضوا بَيْنَهُم بالمعروف} فنهى عن العضل حال حصول التراضي ، ولا يحصل التراضي بالنكاح إلا بعد التصريح بالخطبة ، ولا يجوز التصريح بالخطبة إلا بعد انقضاء العدة ، قال تعالى : {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} [ البقرة : 235 ] والثاني : أيضاً باطل لأن بعد انقضاء العدة ليس للزوج قدرة على عضل المرأة ، فكيف يصرف هذا النهي إليه ، ويمكن أن يجاب عنه بأن الرجل قد يكون بحيث يشتد ندمه على مفارقة المرأة بعد انقضاء عدتها وتلحقه الغيرة إذا رأى من يخطبها ، وحينئذٍ يعضلها عن أن ينكحها غيره إما بأن يجحد الطلاق أو يدعي أنه كان راجعها في العدة ، أو يدس إلى من يخطبها بالتهديد والوعيد ، أو يسيء القول فيها وذلك بأن ينسبها إلى أمور تنفر الرجل عن الرغبة فيها ، فالله تعالى نهى الأزواج عن هذه الأفعال وعرفهم أن ترك هذه الأفعال أزكى لهم وأطهر من دنس الآثام.
(6/420)
الحجة الثالثة لهم قالوا قوله تعالى : {أَن يَنكِحْنَ أزواجهن} معناه : ولا تمنعوهن من أن ينكحن الذين كانوا أزواجاً لهن قبل ذلك ، وهذا الكلام لا ينتظم إلا إذا جعلنا الآية خطاباً للأولياء ، لأنهم كانوا يمنعونهن من العود إلى الذين كانوا أزواجاً لهن قبل ذلك ، فأما إذا جعلنا الآية خطاباً للأزواج ، فهذا الكلام لا يصح ، ويمكن أن يجاب عنه بأن معنى قوله : {يَنكِحْنَ أزواجهن} من يريدون أن يتزوجوهن فيكونون أزواجاً والعرب قد تسمي الشيء باسم ما يؤول إليه ، فهذا جملة الكلام في هذا الباب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 96 ـ 97}
قال ابن عاشور :
والخطاب الواقع في قوله {طلقتم} و{تعضلوهن} ينبغي أن يحمل على أنه موجه إلى جهة واحدة دون اختلاف التوجه ، فيكون موجهاً إلى جميع المسلمين ، لأن كل واحد صالح لأن يقع منه الطلاق إن كان زوجاً ، ويقع منه العضل إن كان ولياً ، والقرينة ظاهرة على مثله فلا يكاد يخفى في استعمالهم ، ولما كان المسند إليه أحد الفعلين ، غير المسند إليه الفعل الآخر ، إذ لا يكون الطلاق ممن يكون منه العضل ولا العكس ، كان كل فريق يأخذ من الخطاب ما هو به جدير ، فالمراد بقوله : {طلقتم} أوقعتم الطلاق ، فهم الأزواج ، وبقوله {فلا تعضلوهن} النهي عن صدور العضل ، وهم أولياء النساء.
وجعل في "الكشاف" الخطاب للناس عامة أي إذا وجد فيكم الطلاق وبلغ المطلقات أجلهن ، فلا يقع منكم العضل ووجه تفسيره هذا بقوله : "لأنه إذا وجد العضل بينهم وهم راضون كانوا في حكم العاضلين". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 426}
قوله تعالى : {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}
قال الفخر :
(6/421)
قوله تعالى : {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} محمول في هذه الآية على انقضاء العدة ، قال الشافعي رضي الله عنه : دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين ، ومعنى هذا الكلام أنه تعالى قال في الآية السابقة : {فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} ولو كانت عدتها قد انقضت لما قال : {فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} لأن إمساكها بعد انقضاء العدة لا يجوز ، ولما قال : {أَوْ سَرّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ} لأنها بعد انقضاء العدة تكون مسرحة فلا حاجة إلى تسريحها ، وأما هذه الآية التي نحن فيها فالله تعالى نهى عن عضلهن عن التزوج بالأزواج ، وهذا النهي إنما يحسن في الوقت الذي يمكنها أن تتزوج فيه بالأزواج ، وذلك إنما يكون بعد انقضاء العدة ، فهذا هو المراد من قول الشافعي رضي الله عنه ، دل سياق الكلامين على افتراق البلوغين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 ـ 98}
فوائد لغوية
قال ابن عاشور :
العضل : المنع والحبس وعدم الانتقال ، فمنه عضَّلت المرأة بالتشديد إذا عسرت ولادتها وعضَّلت الدجاجة إذا نشب بيضها فلم يخرج ، والمعاضلة في الكلام : احتباس المعنى حتى لا يبدو من الألفاظ ، وهو التعقيد ، وشاع في كلام العرب في منع الولي مولاته من النكاح.
وفي الشرع هو المنع بدون وجه صلاح ، فالأب لا يعد عاضلاً برد كفء أو اثنين ، وغير الأب يعد عاضلاً برد كفء واحد.
وإسناد النكاح إلى النساء هنا لأنه هو المعضول عنه ، والمراد بأزواجهن طالبو المراجعة بعد انقضاء العدة ، وسماهن أزواجاً مجازاً باعتبار ما كان ، لقرب تلك الحالة ، وللإشارة إلى أن المنع ظلم ؛ فإنهم كانوا أزواجاً لهن من قبل ، فهم أحق بأن يُرَجَّعن إليهم.
(6/422)
وقوله : {إذا تراضوا بينهم بالمعروف} شرط للنهي ، لأن الولي إذا علم عدم التراضي بين الزوجين ، ورأى أن المراجعة ستعود إلى دخل وفساد فله أن يمنع مولاته نصحاً لها ، وفي هذا الشرط إيماء إلى علة النهي : وهي أن الولي لا يحق له منعها مع تراضي الزوجين بعود المعاشرة ، إذ لا يكون الولي أدرى بميلها منها ، على حد قولهم في المثل المشهور "رضي الخصمان ولم يرض القاضي". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 427}
بحث نفيس للعلامة الجصاص فى النكاح بغير ولى
قال رحمه الله :
وَقَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ وُجُوهٍ عَلَى جَوَازِ النِّكَاحِ إذَا عَقَدَتْ عَلَى نَفْسِهَا بِغَيْرِ وَلِيِّ وَلَا إذْنِ وَلِيِّهَا : أَحَدُهَا إضَافَةُ الْعَقْدِ إلَيْهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ إذْنِ الْوَلِيِّ.
وَالثَّانِي : نَهْيُهُ عَنْ الْعَضْلِ إذَا تَرَاضَى الزَّوْجَانِ.
فَإِنْ قِيلَ : لَوْلَا أَنَّ الْوَلِيَّ يَمْلِكُ مَنْعَهَا عَنْ النِّكَاحِ لَمَا نَهَاهُ عَنْهُ كَمَا لَا يُنْهَى الْأَجْنَبِيُّ الَّذِي لَا وِلَايَةَ لَهُ عَنْهُ.
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ ؛ لِأَنَّ النَّهْيَ يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقٌّ فِيمَا نُهِيَ عَنْهُ فَكَيْفَ يُسْتَدَلُّ بِهِ عَلَى إثْبَاتِ الْحَقِّ ؟ وَأَيْضًا فَإِنَّ الْوَلِيَّ يُمْكِنُهُ أَنْ يَمْنَعَهَا مِنْ الْخُرُوجِ وَالْمُرَاسَلَةِ فِي عَقْدِ النِّكَاحِ ، فَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ النَّهْيُ عَنْ الْعَضْلِ مُنْصَرِفًا إلَى هَذَا الضَّرْبِ مِنْ الْمَنْعِ ؛ لِأَنَّهَا فِي الْأَغْلَبِ تَكُونُ فِي يَدِ الْوَلِيِّ بِحَيْثُ يُمْكِنُهُ
مَنْعُهَا مِنْ ذَلِكَ.
(6/423)
وَوَجْهٌ آخَرُ مِنْ دَلَالَةِ الْآيَةِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا ، وَهُوَ أَنَّهُ لَمَّا كَانَ الْوَلِيُّ مَنْهِيًّا عَنْ الْعَضْلِ إذَا زَوَّجَتْ هِيَ نَفْسَهَا مِنْ كُفُوٍ ، فَلَا حَقَّ لَهُ فِي ذَلِكَ ، كَمَا لَوْ نُهِيَ عَنْ الرِّبَا وَالْعُقُودِ الْفَاسِدَةِ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ فِيمَا قَدْ نُهِيَ عَنْهُ ، فَلَمْ يَكُنْ لَهُ فَسْخُهُ ؛ وَإِذَا اخْتَصَمُوا إلَى الْحَاكِمِ فَلَوْ مَنَعَ الْحَاكِمُ مِنْ مِثْلِ هَذَا الْعَقْدِ كَانَ ظَالِمًا مَانِعًا مِمَّا هُوَ مَحْظُورٌ عَلَيْهِ مَنْعُهُ ، فَيَبْطُلُ حَقُّهُ أَيْضًا فِي الْفَسْخِ فَيَبْقَى الْعَقْدُ لَا حَقَّ لِأَحَدٍ فِي فَسْخِهِ فَيَنْفُذُ وَيَجُوزُ.
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا نَهَى اللَّهُ سُبْحَانَهُ الْوَلِيَّ عَنْ الْعَضْلِ إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ، فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ إذَا عَقَدَهُ غَيْرُ الْوَلِيِّ.
قِيلَ لَهُ : قَدْ عَلِمْنَا أَنَّ الْمَعْرُوفَ مَهْمَا كَانَ مِنْ شَيْءٍ فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ مَعْنَى الْمَعْرُوفِ أَنْ لَا يَجُوزَ عَقْدُهَا لِمَا فِيهِ مِنْ نَفْيٍ مُوجِبِ الْآيَةِ ، وَذَلِكَ لَا يَكُونُ إلَّا عَلَى وَجْهِ النَّسْخِ ؛ وَمَعْلُومٌ امْتِنَاعُ جَوَازِ النَّاسِخِ وَالْمَنْسُوخِ فِي خِطَابٍ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّ النَّسْخَ لَا يَجُوزُ إلَّا بَعْدَ اسْتِقْرَارِ الْحُكْمِ وَالتَّمَكُّنِ مِنْ الْفِعْلِ ؛ فَثَبَتَ بِذَلِكَ أَنَّ الْمَعْرُوفَ الْمَشْرُوطَ فِي تُرَاضِيهِمَا لَيْسَ هُوَ الْوَلِيُّ.
(6/424)
وَأَيْضًا فَإِنَّ الْبَاءَ تَصْحَبُ الْأَبْدَالَ ، فَإِنَّمَا انْصَرَفَ ذَلِكَ إلَى مِقْدَارِ الْمَهْرِ ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ مَهْرُ مِثْلِهَا لَا نَقْصَ فِيهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : ( إنَّهَا إذَا نُقِصَتْ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا ).
وَنَظِيرُ هَذِهِ الْآيَةِ فِي جَوَازِ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيٍّ قَوْله تَعَالَى : {فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} قَدْ حَوَى الدَّلَالَةَ مِنْ وَجْهَيْنِ عَلَى مَا ذَكَرْنَا : أَحَدُهُمَا : إضَافَتُهُ عَقْدَ النِّكَاحِ إلَيْهَا فِي
قَوْلِهِ : {حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} ، وَالثَّانِي : {فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا} فَنَسَب التَّرَاجُعَ.
إلَيْهِمَا مِنْ غَيْرِ ذِكْرِ الْوَلِيِّ.
وَمِنْ دَلَائِلِ الْقُرْآنِ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ} فَجَازَ فِعْلُهَا فِي نَفْسِهَا مِنْ غَيْرِ شَرْطِ الْوَلِيِّ ، وَفِي إثْبَاتِ شَرْطِ الْوَلِيِّ فِي صِحَّةِ الْعَقْدِ نَفْيٌ لِمُوجِبِ الْآيَةِ.
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا أَرَادَ بِذَلِكَ اخْتِيَارَ الْأَزْوَاجِ وَأَنْ لَا يَجُوزَ الْعَقْدُ عَلَيْهَا إلَّا بِإِذْنِهَا.
(6/425)
قِيلَ لَهُ : هَذَا غَلَطٌ مِنْ وَجْهَيْنِ : أَحَدُهُمَا : عُمُومُ اللَّفْظِ فِي اخْتِيَارِ الْأَزْوَاجِ وَفِي غَيْرِهِ ، وَالثَّانِي : أَنَّ اخْتِيَارَ الْأَزْوَاجِ لَا يَحْصُلُ لَهَا بِهِ فِعْلٌ فِي نَفْسِهَا وَإِنَّمَا يَحْصُلُ ذَلِكَ بِالْعَقْدِ الَّذِي يَتَعَلَّقُ بِهِ أَحْكَامُ النِّكَاحِ ؛ وَأَيْضًا فَقَدْ ذَكَرَ الِاخْتِيَارَ مَعَ الْعَقْدِ بِقَوْلِهِ : {إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} ذِكْرُ الِاخْتِلَافِ فِي ذَلِكَ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي عَقْدِ الْمَرْأَةِ عَلَى نَفْسِهَا بِغَيْرِ وَلِيِّ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : ( لَهَا أَنْ تُزَوِّجَ نَفْسَهَا كُفُوًا وَتَسْتَوْفِيَ الْمَهْرَ وَلَا اعْتِرَاضَ لِلْوَلِيِّ عَلَيْهَا ) وَهُوَ قَوْلُ زُفَرَ ( وَإِنْ زَوَّجَتْ نَفْسَهَا غَيْرَ كُفُوٍ فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ أَيْضًا وَلِلْأَوْلِيَاءِ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَهُمَا ).
وَرُوِيَ عَنْ عَائِشَةَ أَنَّهَا زَوَّجَتْ حَفْصَةَ بِنْتَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِي بَكْرٍ مِنْ الْمُنْذِرِ بْنِ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ غَائِبٌ ؛ فَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ مِنْ مَذْهَبِهِمَا جَوَازُ النِّكَاحِ بِغَيْرِ وَلِيِّ ، وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ وَالشَّعْبِيِّ وَالزُّهْرِيِّ وَقَتَادَةَ.
وَقَالَ أَبُو يُوسُفَ : ( لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ ، فَإِنْ سَلَّمَ الْوَلِيُّ جَازَ ، وَإِنْ أَبَى أَنْ يُسَلِّمَ وَالزَّوْجُ كُفُوٌ أَجَازَهُ الْقَاضِي ) وَإِنَّمَا يَتِمُّ النِّكَاحُ عِنْدَهُ حِينَ يُجِيزُهُ الْقَاضِي ؛ وَهُوَ قَوْلُ مُحَمَّدٍ.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ أَبِي يُوسُفَ غَيْرُ ذَلِكَ ، وَالْمَشْهُورُ عَنْهُ مَا ذَكَرْنَاهُ.
(6/426)
وَقَالَ الْأَوْزَاعِيُّ : ( إذَا وَلَّتْ أَمْرَهَا رَجُلًا فَزَوَّجَهَا كُفُوًا فَالنِّكَاحُ جَائِزٌ ، وَلَيْسَ لِلْوَلِيِّ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَهُمَا ).
وَقَالَ ابْنُ أَبِي لَيْلَى وَالثَّوْرِيُّ وَالْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَالشَّافِعِيُّ : ( لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ ).
وَقَالَ ابْنُ شُبْرُمَةَ : ( لَا يَجُوزُ النِّكَاحُ إلَّا بِوَلِيٍّ ، وَلَيْسَ الْوَالِدَةُ بِوَلِيٍّ وَلَا أَنْ تَجْعَلَ الْمَرْأَةُ وَلِيَّهَا رَجُلًا إلَّا قَاضٍ مِنْ قُضَاةِ الْمُسْلِمِينَ ).
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ : ( إذَا كَانَتْ امْرَأَةً مُعْتَقَةً أَوْ مِسْكِينَةً أَوْ دَنِيَّةً لَا خَطَرَ لَهَا ، فَلَا بَأْسَ أَنْ تَسْتَخْلِفَ رَجُلًا وَيُزَوِّجُهَا ، وَيَجُوزُ ).
وَقَالَ مَالِكٌ : ( وَكُلُّ امْرَأَةٍ لَهَا مَالُ وَغِنًى وَقَدْرٌ فَإِنَّ تِلْكَ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُزَوِّجَهَا إلَّا الْأَوْلِيَاءُ أَوْ السُّلْطَانُ ) قَالَ : وَأَجَازَ مَالِكٌ لِلرَّجُلِ أَنْ يُزَوِّجَ الْمَرْأَةَ وَهُوَ مِنْ فَخِذِهَا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَقْرَبَ مِنْهُ إلَيْهَا.
وَقَالَ اللَّيْثُ فِي الْمَرْأَةِ تُزَوَّجُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ : ( إنْ غَيْرُهُ أَحْسَنَ مِنْهُ يُرْفَعُ أَمْرُهَا إلَى السُّلْطَانِ ، فَإِنْ كَانَ كُفُؤًا أَجَازَهُ وَلَمْ يَفْسَخْهُ ) وَذَلِكَ فِي الثَّيِّبِ ، وَقَالَ فِي السَّوْدَاءِ تُزَوَّجُ بِغَيْرِ وَلِيٍّ : ( إنَّهُ جَائِزٌ ) ، قَالَ : ( وَالْبِكْرُ إذَا زَوَّجَهَا غَيْرُ وَلِيٍّ وَالْوَلِيُّ قَرِيبٌ حَاضِرٌ فَهَذَا الَّذِي أَمْرُهُ إلَى الْوَلِيِّ يَفْسَخُهُ لَهُ السُّلْطَانُ إنْ رَأَى لِذَلِكَ وَجْهًا ، وَالْوَلِيُّ مِنْ قِبَلِ هَذَا أَوْلَى مِنْ الَّذِي أَنْكَحَهَا ).
(6/427)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَجَمِيعُ مَا قَدَّمْنَا مِنْ دَلَائِلِ الْآيِ الْمُوجِبَةِ لِجَوَازِ عَقْدِهَا تَقْضِي بِصِحَّةِ قَوْلِ أَبِي حَنِيفَةَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ ؛ وَمِنْ جِهَةِ السُّنَّةِ حَدِيثُ ابْنِ عَبَّاسٍ ، حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا الْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الرَّزَّاقِ قَالَ : حَدَّثَنَا مَعْمَرٌ ، عَنْ صَالِحِ بْنِ كَيْسَانَ ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرِ بْنِ مُطْعَمٍ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ} قَالَ أَبُو دَاوُد : وَحَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ يُونُسَ وَعَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْلَمَةَ قَالَا : حَدَّثَنَا مَالِكٌ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ الْفَضْلِ ، عَنْ نَافِعِ بْنِ جُبَيْرٍ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا}.
فَقَوْلُهُ : {لَيْسَ لِلْوَلِيِّ مَعَ الثَّيِّبِ أَمْرٌ} يُسْقِطُ اعْتِبَارَ الْوَلِيِّ فِي الْعَقْدِ ، وَقَوْلُهُ : {الْأَيِّمُ أَحَقُّ بِنَفْسِهَا مِنْ وَلِيِّهَا} يَمْنَعُ أَنْ يَكُونَ لَهُ حَقٌّ فِي مَنْعِهَا الْعَقْدَ عَلَى نَفْسِهَا ، كَقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {الْجَارُ أَحَقُّ بِصَقَبِهِ} {وَقَوْلُهُ لِأُمِّ الصَّغِيرِ : أَنْتِ أَحَقُّ بِهِ مَا لَمْ تَنْكِحِي} فَنَفَى بِذَلِكَ كُلِّهِ أَنْ يَكُونَ لَهُ مَعَهَا حَقٌّ.
(6/428)
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ حَدِيثُ الزُّهْرِيِّ عَنْ {سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ فِي الْمَرْأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا لِي فِي النِّسَاءِ مِنْ أَرَبٍ فَقَامَ رَجُلٌ فَسَأَلَهُ أَنْ يُزَوِّجَهَا ، فَزَوَّجَهَا وَلَمْ يَسْأَلْهَا هَلْ لَهَا وَلِيٌّ أَمْ لَا} ، وَلَمْ يَشْتَرِطْ الْوَلِيَّ فِي جَوَازِ عَقْدِهَا.
{وَخَطَبَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أُمَّ سَلَمَةَ ، فَقَالَتْ : مَا أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدٌ ؛ فَقَالَ لَهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : مَا أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِك شَاهِدٌ وَلَا غَائِبٌ يَكْرَهُنِي فَقَالَتْ لِابْنِهَا وَهُوَ غُلَامٌ صَغِيرٌ : قُمْ فَزَوِّجْ أُمَّك رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَتَزَوَّجَهَا صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِغَيْرِ وَلِيٍّ}.
فَإِنْ قِيلَ : لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ وَلِيَّهَا وَوَلِيُّ الْمَرْأَةِ الَّتِي وَهَبَتْ نَفْسَهَا لَهُ ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ} قِيلَ لَهُ : هُوَ أَوْلَى بِهِمْ فِيمَا يَلْزَمُهُمْ مِنْ اتِّبَاعِهِ وَطَاعَتِهِ فِيمَا يَأْمُرُهُمْ بِهِ ، فَأَمَّا أَنْ يَتَصَرَّفَ عَلَيْهِمْ فِي أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ فَلَا ؛ أَلَا تَرَى أَنَّهُ لَمْ يَقُلْ لَهَا حِينَ قَالَتْ لَهُ لَيْسَ أَحَدٌ مِنْ أَوْلِيَائِي شَاهِدٌ ( وَمَا عَلَيْك مِنْ أَوْلِيَائِك وَأَنَا أَوْلَى بِك مِنْهُمْ ) بَلْ قَالَ : ( مَا أَحَدٌ مِنْهُمْ يَكْرَهُنِي ) ؟ وَفِي هَذَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ وَلِيًّا لَهُنَّ فِي النِّكَاحِ.
(6/429)
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ جِهَةِ النَّظَرِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى جَوَازِ نِكَاحِ الرَّجُلِ إذَا كَانَ جَائِزَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ ، كَذَلِكَ الْمَرْأَةُ لَمَّا كَانَتْ جَائِزَةَ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهَا وَجَبَ جَوَازُ عَقْدِ نِكَاحِهَا.
وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْعِلَّةَ فِي جَوَازِ نِكَاحِ الرَّجُلِ مَا وَصَفْنَا أَنَّ الرَّجُلَ إذَا كَانَ مَجْنُونًا غَيْرَ جَائِزِ التَّصَرُّفِ فِي مَالِهِ لَمْ يَجُزْ نِكَاحُهُ ، فَدَلَّ عَلَى صِحَّةِ مَا وَصَفْنَا.
وَاحْتَجَّ مَنْ خَالَفَ فِي ذَلِكَ بِحَدِيثِ شَرِيكٍ عَنْ سِمَاكٍ عَنْ ابْنِ أُبَيٍّ أَخِي مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عَنْ مَعْقِلٍ : {أَنَّ أُخْتَ مَعْقِلٍ كَانَتْ تَحْتَ رَجُلٍ ، فَطَلَّقَهَا ثُمَّ أَرَادَ أَنْ يُرَاجِعَهَا ، فَأَبَى عَلَيْهَا مَعْقِلٌ ، فَنَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ : {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ}}.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ الْحَسَنِ أَيْضًا هَذِهِ الْقِصَّةُ ، وَأَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِيهَا ، وَأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَعَا مَعْقِلًا وَأَمَرَهُ بِتَزْوِيجِهَا.
وَهَذَا الْحَدِيثُ غَيْرُ ثَابِتٍ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ النَّقْلِ ، لِمَا فِي سَنَدِهِ مِنْ الرَّجُلِ الْمَجْهُولِ الَّذِي رَوَى عَنْهُ سِمَاكٌ.
وَحَدِيثُ الْحَسَنِ مُرْسَلٌ ، وَلَوْ ثَبَتَ لَمْ يَنْفِ دَلَالَةَ الْآيَةِ عَلَى جَوَازِ عَقْدِهَا ، مِنْ قِبَلِ أَنَّ مَعْقِلًا فَعَلَ ذَلِكَ فَنَهَاهُ اللَّهُ عَنْهُ فَبَطَلَ حَقُّهُ فِي الْعَضْلِ.
(6/430)
فَظَاهِرُ الْآيَةِ يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ خِطَابًا لِلْأَزْوَاجِ ؛ لِأَنَّهُ قَالَ : {وَإِذَا طَلَّقْتُمْ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} فَقَوْلُهُ تَعَالَى : {فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} إنَّمَا هُوَ خِطَابٌ لِمَنْ طَلَّقَ ؛ وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ كَانَ مَعْنَاهُ عَضْلَهَا عَنْ الْأَزْوَاجِ بِتَطْوِيلِ الْعِدَّةِ عَلَيْهَا كَمَا قَالَ : {وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا}.
وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ قَوْله تَعَالَى : {وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ} خِطَابًا لِلْأَوْلِيَاءِ وَلِلْأَزْوَاجِ وَلِسَائِرِ النَّاسِ ؛ وَالْعُمُومُ يَقْتَضِي ذَلِكَ.
وَاحْتَجُّوا أَيْضًا بِمَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {أَيُّمَا امْرَأَةٍ نَكَحَتْ بِغَيْرِ إذْنِ وَلِيِّهَا فَنِكَاحُهَا بَاطِلٌ}.
وَبِمَا رُوِيَ مِنْ قَوْلِهِ : {لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ} ، وَبِحَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {لَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ الْمَرْأَةَ ، وَلَا تُزَوِّجُ الْمَرْأَةُ نَفْسَهَا ، فَإِنَّ الزَّانِيَةَ هِيَ الَّتِي تُزَوِّجُ نَفْسَهَا}.
فَأَمَّا الْحَدِيثُ الْأَوَّلُ فَغَيْرُ ثَابِتٍ ، وَقَدْ بَيَّنَّا عِلَلَهُ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ ؛ وَقَدْ رُوِيَ فِي بَعْضِ الْأَلْفَاظِ : {أَيُّمَا امْرَأَةٍ تَزَوَّجَتْ بِغَيْرِ إذْنِ مَوَالِيهَا} وَهَذَا عِنْدَنَا عَلَى الْأَمَةِ تُزَوِّجُ نَفْسَهَا بِغَيْرِ إذْنِ مَوْلَاهَا.
(6/431)
وَقَوْلُهُ : {لَا نِكَاحَ إلَّا بِوَلِيٍّ} لَا يَعْتَرِضُ عَلَى مَوْضِعِ الْخِلَافِ ؛ لِأَنَّ هَذَا عِنْدَنَا نِكَاحٌ بِوَلِيٍّ ؛ لِأَنَّ الْمَرْأَةَ وَلِيُّ نَفْسِهَا كَمَا أَنَّ الرَّجُلَ وَلِيُّ نَفْسِهِ ؛ لِأَنَّ الْوَلِيَّ هُوَ الَّذِي يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى مَنْ يَلِي عَلَيْهِ ، وَالْمَرْأَةُ تَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ وَالتَّصَرُّفَ عَلَى نَفْسِهَا فِي مَالِهَا فَكَذَلِكَ فِي بُضْعِهَا.
وَأَمَّا حَدِيثُ أَبِي هُرَيْرَةَ ، فَمَحْمُولٌ عَلَى وَجْهِ الْكَرَاهَةِ لِحُضُورِ الْمَرْأَةِ مَجْلِسَ الْإِمْلَاكِ ؛ لِأَنَّهُ مَأْمُورٌ بِإِعْلَانِ النِّكَاحِ ، وَلِذَلِكَ يُجْمَعُ لَهُ النَّاسُ ، فَكُرِهَ لِلْمَرْأَةِ حُضُورُ ذَلِكَ الْمَجْمَعِ ؛ وَقَدْ ذُكِرَ أَنَّ قَوْلَهُ : ( الزَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تَنْكِحُ نَفْسَهَا ) مِنْ قَوْلِ أَبِي هُرَيْرَةَ.
وَقَدْ رُوِيَ فِي حَدِيثٍ آخَرَ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ هَذَا الْحَدِيثُ ، وَذُكِرَ فِيهِ أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ قَالَ : ( كَانَ يُقَالُ الزَّانِيَةُ هِيَ الَّتِي تَنْكِحُ نَفْسَهَا ).
وَعَلَى أَنَّ هَذَا اللَّفْظَ خَطَأٌ بِإِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ ؛ لِأَنَّ تَزْوِيجَهَا نَفْسَهَا لَيْسَ بِزِنًا عِنْدَ أَحَدٍ مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْوَطْءُ غَيْرُ مَذْكُورٍ فِيهِ ، فَإِنْ حَمَلْته عَلَى أَنَّهَا زَوَّجَتْ نَفْسَهَا وَوَطِئَهَا الزَّوْجُ فَهَذَا أَيْضًا لَا خِلَافَ فِيهِ أَنَّهُ لَيْسَ بِزِنًا ؛ لِأَنَّ مَنْ لَا يُجِيزُهُ إنَّمَا يَجْعَلُهُ نِكَاحًا فَاسِدًا يُوجِبُ الْمَهْرَ وَالْعِدَّةَ وَيَثْبُتُ بِهِ النَّسَبُ إذَا وَطِئَ ؛ وَقَدْ اسْتَقْصَيْنَا الْكَلَامَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي شَرْحِ الطَّحَاوِيِّ.
(6/432)
وَقَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ : {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ} يَعْنِي إذَا لَمْ تَعْضُلُوهُنَّ ؛ لِأَنَّ الْعَضْلَ رُبَّمَا أَدَّى إلَى ارْتِكَابِ الْمَحْظُورِ مِنْهُمَا عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الْعَقْدِ ؛ وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : إذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ ، إلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ}.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ شَاذَانَ قَالَ : حَدَّثَنَا مُعَلَّى قَالَ : حَدَّثَنَا حَاتِمُ بْنُ إسْمَاعِيلَ قَالَ : سَمِعْت عَبْدَ اللَّهِ بْنَ هُرْمُزٍ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {إذَا جَاءَكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَأَنْكِحُوهُ ، إلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ}. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 100 ـ 104}(6/433)
وقال العلامة الفخر :
(6/434)
وقال الإمام فخر الدين الرازى :
تمسك الشافعي رضي الله عنه بهذه الآية في بيان أن النكاح بغير ولي لا يجوز وبنى ذلك الاستدلال على أن الخطاب في هذه الآية مع الأولياء ، قال : وإذا ثبت هذا وجب أن يكون التزويج إلى الأولياء لا إلى النساء ، لأنه لو كان للمرأة أن تتزوج بنفسها أو توكل من يزوجها لما كان الولي قادراً على عضلها من النكاح ، ولو لم يقدر الولي على هذا العضل لما نهاه الله عز وجل عن العضل ، وحيث نهاه عن العضل كان قادراً على العضل ، وإذا كان الولي قادراً على العضل وجب أن لا تكون المرأة متمكنة من النكاح ، واعلم أن هذا الاستدلال بناءً على أن هذا الخطاب مع الأولياء ، وقد تقدم ما فيه من المباحث ، ثم إن سلمنا هذه المقدمة لكن لم لا يجوز أن يكون المراد بقوله : {وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} أن يخليها ورأيها في ذلك ، وذلك لأن الغالب في النساء الأيامى أن يركن إلى رأي الأولياء في باب النكاح ، وإن كان الاستئذان الشرعي لهن ، وإن يكن تحت تدبيرهم ورأيهم ، وحينئذٍ يكونون متمكنين من منعهن لتمكنهم من تزويجهن ، فيكون النهي محمولاً على هذا الوجه ، وهو منقول عن ابن عباس في تفسير الآية ، وأيضاً فثبوت العضل في حق الولي ممتنع ، لأنه مهما عضل لا يبقى لعضله أثر ، وعلى هذا الوجه فصدور العضل عنه غير معتبر ، وتمسك أبو حنيفة رضي الله عنه بقوله تعالى : {أَن يَنكِحْنَ أزواجهن} على أن النكاح بغير ولي جائز ، وقال إنه تعالى أضاف النكاح إليها إضافة الفعل إلى فاعله ، والتصرف إلى مباشره ، ونهى الولي عن منعها من ذلك ، ولو كان ذلك التصرف فاسداً لما نهى الولي عن منعها منه ، قالوا : وهذا النص متأكد بقوله تعالى : {حتى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ} [ البقرة : 230 ] وبقوله : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بالمعروف} [ البقرة : 234 ] وتزويجها نفسها من الكفء فعل بالمعروف فوجب أن يصح ، وحقيقة هذه الإضافة على(6/435)
المباشر دون الخطاب ، وأيضاً قوله تعالى : {وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِىّ إِنْ أَرَادَ النبى أَن يَسْتَنكِحَهَا} [ الأحزاب : 50 ] دليل واضح مع أنه لم يحضر هناك ولي ألبتة ، وأجاب أصحابنا بأن الفعل كما يضاف إلى المباشر قد يضاف أيضاً إلى المتسبب ، يقال : بنى الأمير داراً ، وضرب ديناراً ، وهذا وإن كان مجازاً إلا أنه يجب المصير إليه لدلالة الأحاديث على بطلان هذا النكاح. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 97 ـ 98}(6/436)
وقال العلامة ابن العربى :
الْعَضْلُ يَتَصَرَّفُ عَلَى وُجُوهٍ مَرْجِعُهَا إلَى الْمَنْعِ ، وَهُوَ الْمُرَادُ هَاهُنَا ؛ فَنَهَى اللَّهُ تَعَالَى أَوْلِيَاءَ الْمَرْأَةِ مِنْ مَنْعِهَا عَنْ نِكَاحِ مَنْ تَرْضَاهُ.
وَهَذَا دَلِيلٌ قَاطِعٌ عَلَى أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا حَقَّ لَهَا فِي مُبَاشَرَةِ النِّكَاحِ ، وَإِنَّمَا هُوَ حَقُّ الْوَلِيِّ ، خِلَافًا لِأَبِي حَنِيفَةَ ، وَلَوْلَا ذَلِكَ لَمَا نَهَاهُ اللَّهُ عَنْ مَنْعِهَا.
وَقَدْ صَحَّ أَنَّ مَعْقِلَ بْنَ يَسَارٍ كَانَتْ لَهُ أُخْتٌ فَطَلَّقَهَا زَوْجُهَا ، فَلَمَّا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا خَطَبَهَا ، فَأَبَى مَعْقِلٌ ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى هَذِهِ الْآيَةَ ، وَلَوْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَقٌّ لَقَالَ اللَّهُ تَعَالَى لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ : لَا كَلَامَ لِمَعْقِلٍ فِي ذَلِكَ.
وَفِي الْآيَةِ أَسْئِلَةٌ كَثِيرَةٌ يَقْطَعُهَا هَذَا الْحَدِيثُ الصَّحِيحُ ، خَرَّجَهُ الْبُخَارِيُّ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 398}
وقال ابن عاشور :
وفي الآية إشارة إلى اعتبار الولاية للمرأة في النكاح بناء على غالب الأحوال يومئذٍ ؛ لأن جانب المرأة جانب ضعيف مطموع فيه ، معصوم عن الامتهان ، فلا يليق تركها تتولى مثل هذا الأمر بنفسها ؛ لأنه ينافي نفاستها وضعفها ، فقد يستخف بحقوقها الرجال ، حرصاً على منافعهم وهي تضعف عن المعارضة.(6/437)
ووجه الإشارة : أن الله أشار إلى حقين : حق الولي بالنهي عن العضل ؛ إذ لو لم يكن الأمر بيده لما نهي عن منعه ، ولا يقال : نهي عن استعمال ما ليس بحق له لأنه لو كان كذلك لكان النهي عن البغي والعدوان كافياً ، ولجيء بصيغة : ما يكون لكم ونحوها وحق المرأة في الرضا ولأجله أسند الله النكاح إلى ضمير النساء ، ولم يقل : أن تُنكحوهن أزواجهن ، وهذا مذهب مالك والشافعي وجمهور فقهاء الإسلام ، وشذ أبو حنيفة في المشهور عنه فلم يشترط الولاية في النكاح ، واحتج له الجصاص بأن الله أسند النكاح هنا للنساء وهو استدلال بعيد استعمال العرب في قولهم : نكحت المرأة ، فإنه بمعنى تزوجت دون تفصيل بكيفية هذا التزوج لأنه لا خلاف في أن رضا المرأة بالزوج هو العقد المسمى بالنكاح ، وإنما الخلاف في اشتراط مباشرة الولي لذلك دون جبر ، وهذا لا ينافيه إسناد النكاح إليهن ، أما ولاية الإجبار فليست من غرض هذه الآية ؛ لأنها واردة في شأن الأيامى ولا جبر على أيم باتفاق العلماء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 427}
قوله تعالى : {إِذَا تراضوا بَيْنَهُم بالمعروف}
قال الفخر :
في التراضي وجهان أحدهما : ما وافق الشرع من عقد حلال ومهر جائز وشهود عدول
وثانيها : أن المراد منه ما يضاد ما ذكرناه في قوله تعالى : {وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لّتَعْتَدُواْ} [ البقرة : 231 ] فيكون معنى الآية أن يرضى كل واحد منهما ما لزمه في هذا العقد لصاحبه ، حتى تحصل الصحبة الجميلة ، وتدوم الألفة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 ـ 98}
وقال ابن العربى :
(6/438)
قَوْله تَعَالَى : {إذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ} يَعْنِي إذَا كَانَ لَهَا كُفُؤًا ، لِأَنَّ الصَّدَاقَ فِي الثَّيِّبِ الْمَالِكَةِ أَمْرَ نَفْسِهَا لَا حَقَّ لِلْوَلِيِّ فِيهِ ، وَالْآيَةُ نَزَلَتْ فِي ثَيِّبٍ مَالِكَةٍ أَمْرَ نَفْسِهَا ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمَعْرُوفَ الْمُرَادَ بِالْآيَةِ هُوَ الْكَفَاءَةُ ، وَفِيهَا حَقٌّ عَظِيمٌ لِلْأَوْلِيَاءِ ، لَمَا فِي تَرْكِهَا مِنْ إدْخَالِ الْعَارِ عَلَيْهِمْ ؛ وَذَلِكَ إجْمَاعٌ مِنْ الْأُمَّةِ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 399}
قوله {بالمعروف}
قال أبو حيان :
فسر بأنه ما يحسن من الدين والمروءة في الشرائط وقيل : مهر المثل ، وقيل : المهر والإشهاد. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 221}
فصل
قال الفخر :
قال بعضهم : التراضي بالمعروف ، هو مهر المثل ، وفرعوا عليه مسألة فقهية وهي أنها إذا زوجت نفسها ونقصت عن مهر مثلها نقصاناً فاحشاً ، فالنكاح صحيح عند أبي حنيفة ، وللولي أن يعترض عليها بسبب النقصان عن المهر ، وقال أبو يوسف ومحمد : ليس للولي ذلك.(6/439)
حجة أبي حنيفة رحمه الله في هذه الآية هو قوله تعالى : {إِذَا تراضوا بَيْنَهُم بالمعروف} وأيضاً أنها بهذا النقصان أرادت إلحاق الشين بالأولياء ، لأن الأولياء يتضررون بذلك لأنهم يعيرون بقلة المهور ، ويتفاخرون بكثرتها ، ولهذا يكتمون المهر القليل حياء ويظهرون المهر الكثير رياء ، وأيضاً فإن نساء العشيرة يتضررن بذلك لأنه ربما وقعت الحاجة إلى إيجاب مهر المثل لبعضهن ، فيعتبرون ذلك بهذا المهر القليل ، فلا جرم للأولياء أن يمنعوها عن ذلك وينوبوا عن نساء العشيرة ثم أنه تعالى لما بين حكمة التكليف قرنه بالتهديد فقال : {ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الأخر} وذلك لأن من حق الوعظ أن يتضمن التحذير من المخالفة كما يتضمن الترغيب في الموافقة ، فكانت الآية تهديداً من هذا الوجه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 ـ 98}
قوله تعالى : {ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما ذكر الأحكام مبيناً لحكمها فكان {ذلك} وعظاً وكان أكثر الناس يظن أن الوعظ مغائر للأحكام أقبل على المختار للكمال فقال : ذلك الأمر العظيم يا أيها الرسول {يوعظ} أي يرقق {به} قلوب {من كان} والوعظ قال الحرالي إهزاز النفس بموعود الجزاء ووعيده - انتهى. فهو تهديد لمن تشق عليه الأحكام وهم الأكثر.
(6/440)
ولما كان من أتباعه صلى الله عليه وسلم من جاهد نفسه حتى صار أهلاً لفهم الدقائق وإدراك الإشارات والرقائق فألقى كليته للسماع لحظه بقوله : {منكم} معلماً أن الخطاب في الحقيقة لكل فاهم ، وإنما قيد بهم لأنهم المنتفعون به الفاهمون له لما لهم من رقة القلوب الناشئة عن الإذعان لأن الخطاب وإن كان بالأحكام فهو وعظ يتضمن الترهيب كما يتضمن الترغيب ولما كان من الحكمة أن من لا ينتفع بشيء لا يقصد به أشار إلى ذلك بقوله : {يؤمن بالله} أي لما له من العظمة {واليوم الآخر} خوفاً من الفضيحة فيه ، وفي تسميته وعظاً إفهام بأن من تجاوز حداً في غيره سلط عليه من يتجاوز فيه حداً.
قال الحرالي : لأن من فعل شيئاً فعل به نحوه كأنه من عضل عن زوج عضل ولي آخر عنه حين يكون هو زوجاً ، ومن زنى زنى به {سيجزيهم وصفهم} [ الأنعام : 139 ].
فلما وقع ما هيجوا إليه من كمال الإصغاء قال مقبلاً عليهم : {ذلكم} أي الأمر العظيم الشأن {أزكى لكم} أي أشد تنمية وتكثيراً وتنقية وتطهيراً بما يحصل منه بينكم من المودة والبركة من الله سبحانه وتعالى {وأطهر} للقلوب. ولما كان وصف المتكلم بالعلم أدعى لقبول من دونه منه قال مظهراً ومعيداً للاسم الأعظم تعظيماً للأمر : {والله} أي أشير إليكم بهذا والحال أن الملك الأعظم {يعلم} أي له هذا الوصف {وأنتم لا تعلمون} أي ليس لكم هذا الوصف بالذات لا في الحال ولا في الاستقبال لما أفهمه النفي بكلمة لا وصيغة الدوام. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 437 ـ 438}
قال أبو حيان : (6/441)
{ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر} ذلك خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقيل : لكل سامع ، ثم رجع إلى خطاب الجماعة فقال : منكم ، وقيل : ذلك بمعنى : ذلكم ، وأشار بذلك إلى ما ذكر في الآية من النهي عن العضل ، و: ذلك ، للبعد ناب عن اسم الإشارة الذي للقرب ، وهو : هذا ، وان كان الحكم قريباً ذكره في الآية ، وذلك يكون لعظمة المشير إلى الشيء ، ومعنى : يوعظ به أي يذكر به ، ويخوّف. و: منكم ، متعلق بكان ، أو : بمحذوف في موضع الحال من الضمير المستكن في : يؤمن ، وذكر الإيمان بالله لأنه تعالى هو المكلف لعباده ، الناهي لهم ، والآمر. و: اليوم الآخر ، لأنه هو الذي يحصل به التخويف ، وتجنى فيه ثمرة مخالفة النهي. وخص المؤمنين لأنه لا ينتفع بالوعظ إلاَّ المؤمن ، إذ نور الإيمان يرشده إلى القبول {إنما يستجيب الذين يسمعون} وسلامة عقله تذهب عنه مداخلة الهوى ، {إنما يتذكر أولوا الألباب}. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 221}
فائدة
قال الفخر :
في الآية سؤالان :
السؤال الأول : لم وحد الكاف في قوله تعالى : {ذلك} مع أنه يخاطب جماعة ؟ .
والجواب : هذا جائز في اللغة ، والتثنية أيضاً جائزة ، والقرآن نزل باللغتين جميعاً ، قال تعالى : {ذلكما مِمَّا عَلَّمَنِى رَبّى} [ يوسف : 37 ] وقال : {فذلكن الذى لُمْتُنَّنِى فِيهِ} [ يوسف : 32 ] وقال : {يُوعَظُ بِهِ} وقال : {أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشجرة} [ الأعراف : 22 ].
السؤال الثاني : لم خصص هذا الوعظ بالمؤمنين دون غيرهم ؟ .
الجواب : لوجوه أحدها : لما كان المؤمن هو المنتفع به حسن تخصيصه به كقوله : {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} وهو هدى للكل ، كما قال : {هُدًى لّلنَّاسِ} وقال : {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها} [ النازعات : 45 ] ، {إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر} [ يس : 11 ] مع أنه كان منذراً للكل كما قال :
{لِيَكُونَ للعالمين نَذِيراً} [ الفرقان : 1 ](6/442)
وثانيها : احتج بعضهم بهذه الآية على أن الكفار ليسوا مخاطبين بفروع الدين ، قالوا : والدليل عليه أن قوله : {ذلك} إشارة إلى ما تقدم ذكره من بيان الأحكام ، فلما خصص ذلك بالمؤمنين دل على أن التكليف بفروع الشرائع غير حاصل إلا في حق المؤمنين وهذا ضعيف ، لأنه ثبت أن ذلك التكليف عام ، قال تعالى : {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [ آل عمران : 97 ] وثالثها : أن بيان الأحكام وإن كان عاماً في حق المكلفين ، إلا أن كون ذلك البيان وعظاً مختص بالمؤمنين ، لأن هذه التكاليف إنما توجب على الكفار على سبيل إثباتها بالدليل القاهر الملزم المعجز ، أما المؤمن الذي يقر بحقيقتها ، فإنها إنما تذكر له وتشرح له على سبيل التنبيه والتحذير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 ـ 98 ـ 99}
قال الزجاج : إنما قال "ذلك" ، ولم يقل : "ذلكم" وهو يخاطب جماعة ، لأن لفظ الجماعة لفظ الواحد ، والمعنى : ذلك أيها القبيل. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 269}
وقال ابن عاشور :
وإفراد الكاف مع اسم الإشارة مع أن المخاطب جماعة ، رعياً لتناسي أصل وضعها من الخطاب إلى ما استعملت فيه من معنى بعد المشار إليه فقط ، فإفرادها في أسماء الإشارة هو الأصل ، وأما جمعها في قوله {ذلكم أزكى لكم} فتجديد لأصل وضعها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 428}
وقال الآلوسى :
الخطاب للجمع على تأويل القبيل أو لكل واحد واحد أو أن الكاف تدل على خطاب قطع فيه النظر عن المخاطب وحدة وتذكيراً وغيرهما. والمقصود الدلالة على حضور المشار إليه عند من خوطب للفرق بين الحاضر والمنقضي الغائب أو للرسول صلى الله عليه وسلم ليطابق ما في سورة الطلاق ، وفيه إيذان بأن المشار إليه أمر لا يكاد يتصوره كل أحد بل لا بد لتصور ذلك من مؤيد من عند الله تعالى. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 145}
سؤال : لم خصه بالذكر ؟
الجواب : خصه بالذكر لأنه المسارع إلى الامتثال إجلالاً لله تعالى وخوفاً من عقابه. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 145}(6/443)
لطيفة
قوله تعالى : "ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر" وفى سورة الطلاق : "ذلكم يوعظ به من كان يؤمن بالله واليوم الآخر" فقال فى آية البقرة"ذلك" فأفرد الخطاب وقال"منكم" وفى آية الطلاق"ذلكم" بأداة خطاب الجميع ولم يقل"منكم".
ووجه ذلك والله أعلم : أن آية البقرة ترتبت على تصنيف المضرين بالزوجات واحتيالهم على أخذ أموالهن بغير حق
ألا ترى إلى ما تقدمها من قوله تعالى"ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا" وقوله بعد ذلك"ولا تمسكوهن ضرارا لتعتدوا" وقد بالغت الآية فى زجرهم حين قال تعالى"ولا تتخذوا آيات الله هزؤا" وهذا من أشد شئ فى تعنيف المضرين بهن ثم نهى سبحانه عن عضل النساء وهو من فعله من الضرار والاعتداء ومناسب لأخذ أموالهن لأنه قطع عن قصد شرعى به قوام دينهن ودنياهن إذا نكحن من يقدرن فيه ذلك فعضلها ظلم لها ، فحصل من مجموع هذا أن المنهى المتوعد عليه فى سورة البقرة أبلغ من التعدى وأسوأ فى المرتكب من الواقع عليه الزجر فى آية الطلاق ، ومن المعلوم أن المطلب إذا اعتاص كانت السلامة فيه أعز وسالك طريق النجاة فيه أقل.
والخطاب وإن عم فأولى المخاطبين بأهليته والذين هم كأنهم هم المعنيون به على الخصوص إنما هم الممتثلون وكأن غير الممتثل غير داخل تحت الخطاب فعلى ذلك روعى هذا
ورد إفراد الخطاب فى البقرة فقيل"ذلك" بحرف الخطاب الذى للواحد إشارة لتقليل المستجيبين المتورعين عن الطمع فى أموال الزوجات والإضرار بهن عضلا أو احتيالا على ما لديهن وعلى هذا الرعى ورد فى هذه الآية"منكم" يشعر أن المستجيبين ليسوا الكل بما يعطيه مفهوم منكم ،
(6/444)
ولما كان الوارد فى سورة الطلاق أخف فى المطلب وأيسر فى التكليف ترى أن الأحكام المتعلقة بالطلاق وهى التى دارت عليها آى هذه السورة كلها فروع ثوان فالسلامة فيها أيسر وسالك طريقها أكثر فناسب ذلك ورود الخطاب بالحرف الذى يخاطب به الجميع ويشملهم فقيل"ذلكم" وقيل"من كان مؤمنا" ولم يرد هنا"من كان منكم". لم يرد هنا إشعار بتبعيض وهو الذى يعطيه المفهوم فروعى فى كل من السورتين ما بنيت عليه القصة فى الأخرى والله سبحانه أعلم. أ هـ {ملاك التأويل صـ 92}(6/445)
كلام نفيس لحجة الإسلام فى النصيحة
قال عليه سحائب الرحمة والرضوان من الرحيم الرحمن :
الفرق بين التوبيخ والنصيحة بالإسرار والإعلان كما أن الفرق بين المداراة والمداهنة بالغرض الباعث على الإغضاء ، فإن أغضيت لسلامة دينك ولما ترى من إصلاح أخيك بالإغضاء فأنت مدار ، وإن أغضيت لحظ نفسك واجتلاب شهواتك وسلامة جاهك فأنت مداهن
وقال ذو النون لا تصحب مع الله إلا بالموافقة ولا مع الخلق إلا بالمناصحة ولا مع النفس إلا بالمخالفة ولا مع الشيطان إلا بالعداوة
فإن قلت فإذا كان في النصح ذكر العيوب ففيه إيحاش القلب فكيف يكون ذلك من حق الأخوة ؟
فاعلم أن الإيحاش إنما يحصل بذكر عيب يعلمه أخوك من نفسه فأما تنبيهه على ما لا يعمله فهو عين الشفقة وهو استمالة القلوب أعني قلوب العقلاء ، وأما الحمقى فلا يلتفت إليهم فإن من ينبهك على فعل مذموم تعاطيته أو صفة مذمومة اتصفت بها لتزكي نفسك عنها كان كمن ينبهك على حية أو عقرب تحت ذيلك وقد همت بإهلاكك فإن كنت تكره ذلك فما أشد حمقك ، والصفات الذميمة عقارب وحيات وهي في الآخرة مهلكات فإنها تلذغ القلوب والأرواح وألمها أشد مما يلدغ الظواهر والأجساد وهي مخلوقة من نار الله الموقدة ولذلك كان عمر رضي الله عنه يستهدي ذلك من إخوانه ويقول : رحم الله امرءا أهدى إلى أخيه عيوبه ، ولذلك قال عمر لسلمان وقد قدم عليه : ما الذي بلغك عني مما تكره ؟
فاستعفى فألح عليه فقال بلغني أن لك حلتين تلبس إحداهما بالنهار والأخرى بالليل ، وبلغني أنك تجمع بين إدامين على مائدة واحدة ، فقال عمر ـ رضي الله عنه ـ أما هذان فقد كفيتهما فهل بلغك غيرهما ؟
فقال لا
وكتب حذيفة المرعشي إلى يوسف بن أسباط بلغني أنك بعت دينك بحبتين وقفت على صاحب لبن فقلت بكم هذا ؟ (6/446)
فقال بسدس فقلت له : لا بثمن فقال : هو لك وكان يعرفك
اكشف عن رأسك قناع الغافلين وانتبه عن رقدة الموتى ، واعلم أن من قرأ القرآن ولم يستغن وآثر الدنيا لم آمن أن يكون بآيات الله من المستهزئين.
وقد وصف الله تعالى الكاذبين ببعضهم للناصحين إذ قال {ولكن لا تحبون الناصحين}
وهذا في عيب هو غافل عنه ، فأما ما علمت أنه يعلمه من نفسه فإنما هو مقهور عليه من طبعه فلا ينبغي أن يكشف فيه ستره إن كان يخفيه ، وإن كان يظهره فلا بد من التلطف في النصح بالتعريض مرة وبالتصريح أخرى إلى حد لا يؤدي إلى الإيحاش فإن علمت أن النصح غير مؤثر فيه وأنه مضطر من طبعه إلى الإصرار عليه فالسكوت عنه أولى وهذا كله فيما يتعلق بمصالح أخيك في دينه أو دنياه.
أما ما يتعلق بتقصيره في حقك فالواجب فيه الاحتمال والعفو والصفح والتعامى عنه والتعرض لذلك ليس من النصح في شيء نعم إن كان بحيث يؤدي استمراره عليه إلى القطيعة فالعتاب في السر خير من القطيعة ، والتعريض به خير من التصريح ، والمكاتبة خير من المشافهة ، والاحتمال خير من الكل إذ ينبغي أن يكون قصدك من أخيك إصلاح نفسك بمراعاتك إياه وقيامك بحقه واحتمالك تقصيره لا الاستعانة به والاسترفاق منه. أ هـ {إحياء علوم الدين حـ 2 صـ 182 ـ 183}
قوله تعالى {ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ}
قال ابن عاشور :
ومعنى أزكى وأطهر أنه أوفر للعرض وأقرب للخير ، فأزكى دال على النماء والوفر ، وذلك أنهم كانوا يعضلونهن حمية وحفاظاً على المروءة من لحاق ما فيه شائبة الحطيطة ، فأعلمهم الله أن عدم العضل أوفر للعرض ؛ لأن فيه سعياً إلى استبقاء الود بين العائلات التي تقاربت بالصهر والنسب ؛ فإذا كان العضل إباية للضيم ، فالإذن لهن بالمراجعة حلم وعفو ورفاء للحال وذلك أنفع من إباية الضيم.
(6/447)
وأما قوله : {وأطهر} فهو معنى أنزه ، أي إنه أقطع لأسباب العداوات والإحن والأحقاد بخلاف العضل الذي قصدتم منه قطع العود إلى الخصومة ، وماذا تضر الخصومة في وقت قليل يعقبها رضا ما تضر الإحن الباقية والعداوات المتأصلة ، والقلوب المحرَّقة.
ولك أن تجعل {أزكى} بالمعنى الأول ، ناظراً لأحوال الدنيا ، وأطهر بمعنى فيه السلامة من الذنوب في الآخرة ، فيكون أطهر مسلوب المفاضلة ، جاء على صيغة التفضيل للمزاوجة مع قوله {أزكى}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 428}
فائدة
قال ابن عطية :
الإِشارة في {ذلكم أزكى} إِلى ترك العَضْل ، و{أزكى... وَأَطْهَرُ} : معناه : أطيبُ للنفْسِ ، وأطهر للعِرْضِ والدِّين ؛ بسبب العلاقاتِ التي تكونُ بين الأزواجِ ، وربَّما لم يعلمها الوليُّ ، فيؤدِّي العَضْلُ إِلى الفسادِ ، والمخالطةِ ؛ على ما لا ينبغِي ، واللَّه تعالى يعلَمُ من ذلك ما لا يعلَمُ البَشَر. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 310}
قوله تعالى {والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}
قال الفخر :
{والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} والمعنى أن المكلف وإن كان يعلم وجه الصلاح في هذه التكاليف على الجملة ، إلا أن التفصيل في هذه الأمور غير معلوم والله تعالى عالم في كل ما أمر ونهى بالكمية والكيفية بحسب الواقع وبحسب التقدير ، لأنه تعالى عالم بما لا نهاية له من المعلومات ، فلما كان كذلك صح أن يقول : {والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} ويجوز أن يراد به والله يعلم من يعمل على وفق هذه التكاليف ومن لا يعمل بها وعلى جميع الوجوه فالمقصود من الآيات تقرير طريقة الوعد والوعيد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 ـ 98 ـ 99}
وقال أبو حيان : (6/448)
{والله يعلم وأنتم لا تعلمون} أي : يعلم ما تنطوي عليه قلوب الزوجين من ميل كل منهما للآخر ، لذلك نهى تعالى عن العضل ، قال معناه ابن عباس ؛ أو : يعلم ما فيه من اكتساب الثواب وإسقاط العقاب. أو : يعلم بواطن الأمور ومآلها. وأنتم لا تعلمون ذلك ، إنما تعلمون ما ظهر. أو : يعلم من يعمل على وفق هذه التكاليف ومن لا يعمل بها. ويكون المقصود بذلك : تقرير الوعد والوعيد. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 221}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} تذييل وإزالة لاستغرابهم حين تلقى هذا الحكم ، لمخالفته لعاداتهم القديمة ، وما اعتقدوا نفعاً وصلاحاً وإباء على أعراضهم ، فعلمهم الله أن ما أمرهم به ونهاهم عنه هو الحق ، لأن الله يعلم النافع ، وهم لا يعلمون إلاّ ظاهراً ، فمفعول {يعلم} محذوف أي والله يعلم ما فيه كمال زكاتكم وطهارتكم ؛ وأنتم لا تعلمون ذلك. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 428}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله : {فَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ} ليس المراد به ( نساءكم ) المطلقات بل المراد لا تعضلوا النّساء بالإطلاق فيقال للرّجل : إذا طلقت امرأتك لا تعضل النّساء ، أي لا تمنعها هي من التزويج ولا تمنع وليّتك من التّزويج. قالوا : وبلوغ الأجل هنا حقيقة وليس المراد مقاربته.
قال ابن عرفة : ليس مرادهم أنّه يجب ( هنا حمله على حقيقته ) وإنّما يريدون أن الأصل في الإطلاق الحقيقة ، اقترن بالأول ما أوجب صرفه عن حقيقته إلى مجازه وبقي هذا على الأصل فيصح حمله على المجاز فإن ( صح بأن ) خوطب الأزواج فظاهر ، وإن خوطب الأولياء فالمراد نهي الأولياء عن عضل المرأة عن التزويج في العدة بقرب فراغها خوف الضرار ، لو فرض جواز ذلك وهم ممنوعون منه شرعا فأحرى أن يُنهوا عن ذلك بعد العدة حيث هم متمكنون من المنع والإباحة.
قوله تعالى : {إِذَا تَرَاضَوْاْ بَيْنَهُمْ بالمعروف...}.
إن قلت : ما أفاد قوله " بينهم " ؟ (6/449)
قلنا : أفاد ذلك قصر ذلك على تراضي الزوجين خشية أن يظن توقفه على تراضي عموم العشيرة وسائر القرابات.
قوله تعالى : {ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر...}.
أي يوعظ به الوعظ النافع المحصل للانزجار.
قوله تعالى : {ذلكم أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ...}.
أي يزكيكم ، فيجعل لكم صعود الدّرجات في الجنات ، ويطهركم من الآثام ويبعدكم عن الدّركات والحلول في النار.
وقوله تعالى : {والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.
إما باعتبار عاقبة الأمر في المستقبل وإما لكون العلم القديم مباينا للعلم الحديث ولا مماثلة فيهما بوجه.
أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 300}
لطيفة بلاغية
قال أبو حيان :
تضمنت هذه الآية ستة أنواع من ضروب الفصاحة ، والبلاغة ، من علم البيان.
الأول : الطباق ، وهو الطلاق والإمساك ، فإنهما ضدان ، والتسريح طباق ثان لأنه ضد الإمساك ، والعلم وعدم العلم ، لأن عدم العلم هو الجهل.
الثاني : المقابلة في {فأمسكوهنّ بمعروف} و{ولا تمسكوهنّ ضراراً} قابل المعروف بالضرار ، والضرار منكر فهذه مقابلة معنوية.
الثالث : التكرار في : {فبلغهن أجلهنّ} كرر اللفظ لتغيير المعنيين ، وهو غاية الفصاحة ، إذ اختلاف معنى الاثنين دليل على اختلاف البلوغين.
الرابع : الالتفات في {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن} ثم التفت إلى الأولياء فقال : {فلا تعضلوهنّ} وفي الآية ، في قوله : ذلك ، إذ كان خطاباً للنبي صلى الله عليه وسلم ، ثم التفت إلى الجمع في قوله : منكم.
الخامس : التقديم والتأخير ، التقدير ، أن ينكحن أزواجهنّ بالمعروف إذا تراضوا.
السادس : مخاطبة الواحد بلفظ الجمع ، لأنه ذكر في أسباب النزول أنها نزلت في معقل بن يسار ، أو في أخت جابر ، وقيل ابنته. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 221 ـ 222}
تم الجزء السادس من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السابع وأوله قوله تعالى :
{وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}(6/450)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء السابع
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{يا قوم لا أسألكم عليه أجرا}(7/3)
الجزء السابع
من الآية {233} من سورة البقرة
وحتى الآية {248} من نفس السورة(7/4)
قوله تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان النكاح قد يكون عنه ولادة فيكون عنها رضاع وقد تكون المرضعة زوجة وقد تكون أجنبية والزوجة قد تكون متصلة وقد تكون منفصلة وكان الفراق بالطلاق أكثر منه بالموت وسّطه بين عدتي الطلاق والوفاة لإدلائه إلى كل بسبب واهتماماً بشأنه وحثاً على الشفقة على الصغير وشدة العناية بأمره لأن الأم ربما كانت مطلقة فاستهانت بالولد إيذاء للزوج إن كان الطلاق عن شقاق أو رغبة في زوج آخر ، وكذا الأب فقال تعالى عاطفاً على ما تقديره مثلاً : فالنساء لهن أحكام كثيرة وقد علمتم منها هنا أصولاً تفهم من بصره الله كثيراً من الفروع ، والمطلقات إن لم يكن بينكم وبينهن علقة بولادة أو نحوها فلا سبيل لكم عليهن.(7/5)
وقال الحرالي : لما ذكر سبحانه وتعالى أحكام الاشتجار بين الأزواج التي عظم متنزل الكتاب لأجلها وكان من حكم تواشج الأزواج وقوع الولد وأحكام الرضاع نظم به عطفاً أيضاً على معاني ما يتجاوزه الإفصاح ويتضمنه الإفهام لما قد علم من أن إفهام القرآن أضعاف إفصاحه بما لا يكاد ينتهي عده فلذلك يكثر فيه الخطاب عطفاً أي على غير مذكور ليكون الإفصاح أبداً مشعراً بإفهام يناله من وهب روح العقل من الفهم كما ينال فقه الإفصاح من وهبه الله نفس العقل الذي هو العلم ؛ انتهى - فقال تعالى : {والوالدات} أي من المطلقات وغيرهن ، وأمرهن بالإرضاع في صيغة الخبر الذي من شأنه أن يكون قد فعل وتم تنبيهاً على تأكيده وإن كان الندب بما أفهمه إيجاب الأجرة لهن هنا وفي سورة الطلاق وما يأتي من الاسترضاع فقال : {يرضعن أولادهن} قال الحرالي : جعل تعالى الأم أرض النسل الذي يغتذي من غذائها في البطن دماً كما يغتذي أعضاؤها من دمها فكان لذلك لبنها أولى بولدها من غيرها ليكون مغذاه وليداً من مغذاه جنيناً فكان الأحق أن يرضعن أولادهن ، وذكره بالأولاد ليعم الذكور والإناث ؛ وقال : الرضاعة التغذية بما يذهب الضراعة وهو الضعف والنحول بالرزق الجامع الذي هو طعام وشراب(7/6)
وهو اللبن الذي مكانه الثدي من المرأة والضرع من ذات الظلف - انتهى.
ولما ذكر الرضاع ذكر مدته ولما كان المقصود مجرد تحول الزمان بفصوله الأربعة ورجوع الشمس بعد قطع البروج الاثني عشر إلى البرج الذي كانت فيه عند الولادة وليس المراد الإشعار بمدح الزمان ولا ذمه ولا وصفه بضيق ولا سعة عبر بما يدل على مطلق التحول فقال : {حولين} والحول تمام القوة في الشيء الذي ينتهي لدورة الشمس وهو العام الذي يجمع كمال النبات الذي يتم فيه قواه - قاله الحرالي. وكأنه مأخوذ مما له قوة التحويل. ولما كان الشيء قد يطلق على معظمه مجازاً فيصح أن يراد حول وبعض الثاني بين أن المراد الحقيقة قطعاً لتنازع الزوجين في مدة الرضاع وإعلاماً بالوقت المقيد للتحريم كما قال صلى الله عليه وسلم " إنما الرضاعة من المجاعة " بقوله : {كاملين} ولما كان ذلك ربما أفهم وجوب الكمال نفاه بقوله : {لمن} أي هذا الحكم لمن {أراد أن يتم الرضاعة} فأفهم أنه يجوز الفطام للمصلحة قبل ذلك وأنه لا رضاع بعد التمام. وقال الحرالي : وهو أي الذي يكتفى به دون التمام هو ما جمعه قوله تعالى : {وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} [ الأحقاف : 15 ] فإذا كان الحمل تسعاً كان الرضاع أحداً وعشرين شهراً ، وإذا كان حولين كان المجموع ثلاثاً وثلاثين شهراً فيكون ثلاثة آحاد وثلاثة عقود فيكون ذلك تمام الحمل والرضاع ليجتمع في الثلاثين تمام الرضاع وكفاية الحمل - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 438 ـ 439}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ}
(7/7)
انتقال من أحكام الطلاق والبينونة ؛ فإنه لما نهى عن العضل ، وكانت بعض المطلقات لهن أولاد في الرضاعة ويتعذر عليهن التزوج وهن مرضعات ؛ لأن ذلك قد يضر بالأولاد ، ويقلل رغبة الأزواج فيهن ، كانت تلك الحالة مثار خلاف بين الآباء والأمهات ، فلذلك ناسب التعرض لوجه الفصل بينهم في ذلك ، فإن أمر الإرضاع مهم ، لأن به حياة النسل ، ولأن تنظيم أمره من أهم شؤون أحكام العائلة.
واعلم أن استخلاص معاني هذه الآية من أعقد ما عرض للمفسرين.
فجملة {والوالدات يرضعن} معطوفة على جملة {وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن} [ البقرة : 232 ] والمناسبة غير خفية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 429}
قال الفخر :
اعلم أن في قوله تعالى : {والوالدات} ثلاثة أقوال
الأول : أن المراد منه ما أشعر ظاهر اللفظ وهو جميع الوالدات ، سواء كن مزوجات أو مطلقات ، والدليل عليه أن اللفظ عام وما قام دليل التخصيص فوجب تركه على عمومه.
والقول الثاني : المراد منه : الوالدات المطلقات ، قالوا : والذي يدل على أن المراد ذلك وجهان
أحدها : أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقيب آية الطلاق ، فكانت هذه الآية تتمة تلك الآيات ظاهراً ، وسبب التعليق بين هذه الآية وبين ما قبلها أنه إذا حصلت الفرقة حصل التباغض والتعادي ، وذلك يحمل المرأة على إيذاء الولد من وجهين
أحدهما : أن إيذاء الولد يتضمن إيذاء الزوج المطلق
والثاني : أنها ربما رغبت في التزوج بزوج آخر ، وذلك يقتضي إقدامها على إهمال أمر الطفل فلما كان هذا الاحتمال قائماً لا جرم ندب الله الوالدات المطلقات إلى رعاية جانب الأطفال والاهتمام بشأنهم ، فقال : {والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن} والمراد المطلقات.
(7/8)
الحجة الثانية لهم : ما ذكره السدي ، قال : المراد بالوالدات المطلقات ، لأن الله تعالى قال بعد هذه الآية : {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} ولو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجية لا لأجل الرضاع ، واعلم أنه يمكن الجواب عن الحجة الأولى أن هذه الآية مشتملة على حكم مستقل بنفسه ، فلم يجب تعلقها بما قبلها ، وعن الحجة الثانية لا يبعد أن تستحق المرأة قدراً من المال لمكان الزوجية وقدراً آخر لمكان الرضاع فإنه لا منافاة بين الأمرين.
القول الثالث : قال الواحدي في "البسيط" : الأولى أن يحمل على الزوجات في حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة.
فإن قيل : إذا كانت الزوجية باقية فهي مستحقة النفقة والكسوة بسبب النكاح سواء أرضعت الولد أو لم ترضع فما وجه تعليق هذا الاستحقاق بالإرضاع.
قلنا : النفقة والكسوة يجبان في مقابلة التمكين ، فإذا أشغلت بالحضانة والإرضاع لم تتفرغ لخدمة الزوج فربما توهم متوهم أن نفقتها وكسوتها تسقط بالخلل الواقع في خدمة الزوج فقطع الله ذلك الوهم بإجاب الرزق والكسوة ، وإن اشتغلت المرأة بالإرضاع ، هذا كله كلام الواحدي رحمه الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 99 ـ 100}
قال ابن عاشور :
(7/9)
والوالدت عام لأنه جمع معرف باللام ، وهو هنا مراد به خصوص الوالدات من المطلقات بقرينة سياق الآي التي قبلها من قوله : {والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء} [ البقرة : 228 ] ولذلك وصلت هذه الجملة بالعطف للدلالة على اتحاد السياق ، فقوله : {والوالدات} معناه : والوالدات منهن ، أي من المطلقات المتقدم الإخبار عنهن في الآي الماضية ، أي المطلقات اللائي لهن أولاد في سن الرضاعة ، ودليل التخصيص أن الخلاف في مدة الإرضاع لا يقع بين الأب والأم إلاّ بعد الفراق ، ولا يقع في حالة العصمة ؛ إذ من العادة المعروفة عند العرب ومعظم الأمم أن الأمهات يرضعن أولادهن في مدة العصمة ، وأنهن لا تمتنع منه من تمتنع إلاّ لسبب طلب التزوج بزوج جديد بعد فراق والد الرضيع ؛ فإن المرأة المرضع لا يرغب الأزواج منها ؛ لأنها تشتغل برضيعها عن زوجها في أحوال كثيرة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 429}
قوله تعالى : {يُرْضِعْنَ أولادهن}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {يُرْضِعْنَ أولادهن} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : هذا الكلام وإن كان في اللفظ خبراً إلا أنه في المعنى أمر وإنما جاز ذلك لوجهين
الأول : تقدير الآية : والوالدات يرضعن أولادهن في حكم الله الذي أوجبه ، إلا أنه حذف لدلالة الكلام عليه
والثاني : أن يكون معنى يرضعن : ليرضعن ، إلا أنه حذف ذلك للتصرف في الكلام مع زوال الإيهام.
المسألة الثانية : هذا الأمر ليس أمر إيجاب ، ويدل عليه وجهان
(7/10)
الأول : قوله تعالى : {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} [ الطلاق : 6 ] ولو وجب عليها الرضاع لما استحقت الأجرة والثاني : أنه تعالى قال بعد ذلك : {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} [ الطلاق : 6 ] وهذا نص صريح ، ومنهم من تمسك في نفي الوجوب عليها بقوله تعالى : {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} [ البقرة : 233 ] والوالدة قد تكون مطلقة فلم يكن وجوب رزقها على الوالد إلا بسبب الإرضاع ، فلو كان الإرضاع واجباً عليها لما وجب ذلك ، وفيه البحث الذي قدمناه ، إذا ثبت أن الإرضاع غير واجب على الأم فهذا الأمر محمول على الندب من حيث أن تربية الطفل بلبن الأم أصلح له من سائر الألبان ، ومن حيث إن شفقة الأم عليه أتم من شفقة غيرها هذا إذا لم يبلغ الحال في الولد إلى حد الاضطرار بأن لا يوجد غير الأم ، أو لا يرضع الطفل إلا منها ، فواجب عليها عند ذلك أن ترضعه كما يجب على كل أحد مواساة المضطر في الطعام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 100 ـ 101}
وقال العلامة الجصاص
قَولَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} الْآيَةَ.
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : ظَاهِرُهُ الْخَبَرُ ، وَلَكِنَّهُ مَعْلُومٌ مِنْ مَفْهُومِ الْخِطَابِ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ ؛ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ خَبَرًا لَوُجِدَ مَخْبَرُهُ ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْوَالِدَاتِ مَنْ لَا يُرْضِعُ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ.
وَلَا خِلَافَ أَيْضًا فِي أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ بِهِ الْخَبَرَ.
(7/11)
وَإِذَا لَمْ يَكُنْ الْمُرَادُ حَقِيقَةَ اللَّفْظِ الَّذِي هُوَ الْخَبَرُ ، لَمْ يَخْلُ مِنْ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ إيجَابُ الرَّضَاعِ عَلَى الْأُمِّ وَأَمْرُهَا بِهِ ؛ إذْ قَدْ يَرِدُ الْأَمْرُ فِي صِيغَةِ الْخَبَرِ ، كَقَوْلِهِ : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} ، وَأَنْ يُرِيدَ بِهِ إثْبَاتَ حَقِّ الرَّضَاعِ لِلْأُمِّ وَإِنْ أَبَى الْأَب ، أَوْ تَقْدِيرُ مَا يَلْزَمُ الْأَبَ مِنْ نَفَقَةِ الرَّضَاعِ فَلَمَّا قَالَ فِي آيَةٍ أُخْرَى : {فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} وَقَالَ تَعَالَى : {وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى} دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ الْمُرَادُ الرَّضَاعَ شَاءَتْ الْأُمُّ أَوْ أَبَتْ ، وَأَنَّهَا مُخَيَّرَةٌ فِي أَنْ تُرْضِعَ أَوْ لَا تُرْضِعَ ؛ فَلَمْ يَبْقَ إلَّا الْوَجْهَانِ الْآخَرَانِ ، وَهُوَ أَنَّ الْأَبَ إذَا أَبَى اسْتِرْضَاعَ الْأُمِّ أُجْبِرَ عَلَيْهِ ، وَأَنَّ أَكْثَرَ مَا يَلْزَمُهُ فِي نَفَقَةِ الرَّضَاعِ لِلْحَوْلَيْنِ ، فَإِنْ أَبَى أَنْ يُنْفِقَ نَفَقَةَ الرَّضَاعِ أَكْثَرَ مِنْهُمَا لَمْ يُجْبَرْ عَلَيْهِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 140}
سؤال : لم صرح بالمفعول فى قوله : {أولادهن} مع كونه معلوماً ؟
الجواب : صرح بالمفعول مع كونه معلوماً ، إيماء إلى أحقية الوالدات بذلك وإلى ترغيبهن فيه ؛ لأن في قوله : {أولادهن} تذكيراً لهن بداعي الحنان والشفقة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 430}
فائدة
قال ابن عاشور :
قال ابن عطية : قوله : {يرضعن} خبر معناه الأمر على الوجوب لبعض الوالدات ، والأمر على الندب والتخيير لبعضهن وتبعه البيضاوي ، وفي هذا استعمال صيغة الأمر في القدر المشترك وهو مطلق الطلب ولا داعي إليه.(7/12)
والظاهر أن حكم إرضاع الأم ولدها في العصمة يستدل له بغير هذه الآية ، ومما يدل على أنه ليس المراد الوالدات اللائي في العصمة قوله تعالى : {وعلى المولود له رزقهن} الآية ، فإن اللائي في العصمة لهن النفقة والكسوة بالأصالة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 430}
قوله تعالى : {حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ}
قال الفخر :
أصل الحول من حال الشيء يحول إذا انقلب فالحول منقلب من الوقت الأول إلى الثاني ، وإنما ذكر الكمال لرفع التوهم من أنه على مثل قولهم أقام فلان بمكان كذا حولين أو شهرين ، وإنما أقام حولاً وبعض الآخر ، ويقولون : اليوم يومان مذ لم أره ، وإنما يعنون يوماً وبعض اليوم الآخر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 101}
وقال ابن عاشور :
ووصف الحولين بكاملين تأكيد لرفع توهم أن يكون المراد حولاً وبعض الثاني ؛ لأن إطلاق التثنية والجمع في الأزمان والأسنان ، على بعض المدلول ، إطلاق شائع عند العرب ، فيقولون : هو ابن سنتين ويريدون سنة وبعض الثانية ، كما مر في قوله : {الحج أشهر معلومات} [ البقرة : 197 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 431}
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه ليس التحديد بالحولين تحديد إيجاب ويدل عليه وجهان الأول : أنه تعالى قال بعد ذلك : {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} فلما علق هذا الإتمام بإرادتنا ثبت أن هذا الإتمام غير واجب الثاني : أنه تعالى قال : {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} فثبت أنه ليس المقصود من ذكر هذا التحديد إيجاب هذا المقدار ، بل فيه وجوه
(7/13)
الأول : وهو الأصح أن المقصود منه قطع التنازع بين الزوجين إذا تنازعا في مدة الرضاع ، فقدر الله ذلك بالحولين حتى يرجعا إليه عند وقوع التنازع بينهما ، فإن أراد الأب أن يفطمه قبل الحولين ولم ترض الأم لم يكن له ذلك ، وكذلك لو كان على عكس هذا فأما إذا اجتمعا على أن يفطما الولد قبل تمام الحولين فلهما ذلك.
الوجه الثاني : في المقصود من هذا التحديد هو أن للرضاع حكماً خاصاً في الشريعة ، وهو قوله صلى الله عليه وسلم : " يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب " والمقصود من ذكر هذا التحديد بيان أن الارتضاع ما لم يقع في هذا الزمان ، لا يفيد هذا الحكم ، هذا هو مذهب الشافعي رضي الله عنه ، وهو قول علي وابن مسعود وابن عباس وابن عمر وعلقمة والشعبي والزهري رضي الله عنهم ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : مدة الرضاع ثلاثون شهراً.
حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه :
الحجة الأولى : أنه ليس المقصود من قوله : {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} هو التمام بحسب حاجة الصبي إلى ذلك ، إذ من المعلوم أن الصبي كما يستغني عن اللبن عند تمام الحولين ، فقد يحتاج إليه بعد الحولين لضعف في تركيبه لأن الأطفال يتفاوتون في ذلك ، وإذا لم يجز أن يكون المراد بالتمام هذا المعنى ، وجب أن يكون المراد هو الحكم المخصوص المتعلق بالرضاع ، وعلى هذا التقدير تصير الآية دالة على أن حكم الرضاع لا يثبت إلا عند حصول الإرضاع في هذه المدة.
الحجة الثانية : روي عن علي رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا رضاع بعد فصال " وقال تعالى : {وَفِصَالُهُ فِى عَامَيْنِ} [ لقمان : 14 ].
الحجة الثالثة : ما روى ابن عباس رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين ".
(7/14)
والوجه الثالث : في المقصود من هذا التحديد ما روى ابن عباس أنه قال للتي تضع لستة أشهر أنها ترضع حولين كاملين ، فإن وضعت لسبعة أشهر أرضعت ثلاثة وعشرين شهراً ، وقال آخرون : الحولان هذا الحد في رضاع كل مولود ، وحجة ابن عباس رضي الله عنهما أنه تعالى قال : {وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً} [ الأحقاف : 15 ] دلت هذه الآية على أن زمان هاتين الحالتين هو هذا القدر من الزمان ، فكما ازداد في مدة إحدى الحالتين انتقص من مدة الحالة الأخرى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 101 ـ 102}
فائدة
قال ابن الجوزى :
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذا القدر من الآية ، فقال بعضهم : هو محكم ، والمقصود منه بيان مدة الرضاع ، ويتعلق به أحكام ، منها أنه كمال الرضاع ، ومنها أنه يلزم الأب نفقة الرضاع مدّة الحولين ، ويجبره الحاكم على ذلك ، ومنها أنه يثبت تحريم الرضاع في مدَّة الحولين ، ولا يثبت فيما زاد ، ونقل عن قتادة ، والربيع بن أنس في آخرين أنه منسوخ بقوله تعالى : {فإن أَرادا فصالاً عن تراضٍ منهما} قال شيخنا عليّ بن عبيد الله : وهذا قول بعيد ، لأن الله تعالى قال في أولها : {لمن أراد أن يُتمّ الرضاعة} فلما قال في الثاني : {فإن أرادا فصالاً عن تراضٍ منهما} خيّر بين الإرادتين ، وذلك لا يعارض المدة المقدرة في التمام. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 271}
سؤال : فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ : قَوْله تَعَالَى : {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ} نَصَّ عَلَى أَنَّ الْحَوْلَيْنِ تَمَامُ الرَّضَاعِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يَكُونَ بَعْدَهُ رَضَاعٌ.(7/15)
قِيلَ لَهُ إطْلَاقُ لَفْظِ الْإِتْمَامِ غَيْرُ مَانِعٍ مِنْ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ ، أَلَا تَرَى أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ جَعَلَ مُدَّةَ الْحَمْلِ سِتَّةَ أَشْهُرٍ فِي قَوْلِهِ {وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا} وقَوْله تَعَالَى : {وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ} ؟ فَجَعَلَ مَجْمُوعُ الْآيَتَيْنِ الْحَمْلَ سِتَّةَ أَشْهُرٍ ، ثُمَّ لَمْ تَمْتَنِعْ الزِّيَادَةُ عَلَيْهَا ، فَكَذَلِكَ ذِكْرُ الْحَوْلَيْنِ لِلرَّضَاعِ غَيْرُ مَانِعٍ جَوَازَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِمَا ؛ وَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مَنْ أَدْرَكَ عَرَفَةَ فَقَدْ تَمَّ حَجُّهُ} وَلَمْ تَمْتَنِعْ زِيَادَةُ الْفَرْضِ عَلَيْهَا.
وَأَيْضًا فَإِنَّ ذَلِكَ تَقْدِيرٌ لِمَا يَلْزَمُ الْأَبَ مِنْ أُجْرَةِ الرَّضَاعِ ، وَأَنَّهُ غَيْرُ مُجْبَرٍ عَلَى أَكْثَرَ مِنْهُمَا ، لِإِثْبَاتِهِ الرَّضَاعَ بِتَرَاضِيهِمَا بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} وَبِقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فَلَمَّا ثَبَتَ الرَّضَاعُ بَعْدَ الْحَوْلَيْنِ دَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ التَّحْرِيمِ بِهِ غَيْرُ مَقْصُورٍ عَلَيْهِمَا. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 117}
لطيفة(7/16)
روي أن رجلاً جاء إلى علي رضي الله عنه فقال : تزوجت جارية بكراً وما رأيت بها ريبة ، ثم ولدت لستة أشهر ، فقال علي رضي الله عنه قال الله : {وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً} وقال تعالى : {والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} فالحمل ستة أشهر الولد ولدك ، وعن عمر أنه جىء بامرأة وضعت لستة أشهر ، فشاور في رجمها ، فقال ابن عباس : إن خاصمتكم بكتاب الله خصمتكم ، ثم ذكر هاتين الآيتين واستخرج منهما أن أقل الحمل ستة أشهر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 102}
فصل
قال الفخر :
في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجهان الأول : أن تقدير الآية : هذا الحكم لمن أراد إتمام الرضاعة ، وعن قتادة أنزل الله حولين كاملين ، ثم أنزل اليسر والتخفيف فقال : {لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} والمعنى أنه تعالى جوز النقصان بذكر هذه الآية والثاني : أن اللام متعلقة بقوله : {يُرْضِعْنَ} كما تقول : أرضعت فلانة لفلان ولده ، أي يرضعن حولين لمن أراد أن يتم الإرضاع من الآباء ، لأن الأب يجب عليه إرضاع الولد دون الأم لما بيناه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 102}
قوله تعالى : {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا}
المناسبة
قال البقاعى :
(7/17)
ولما أوهم أن ذلك يكون مجاناً نفاه بقوله : {وعلى} ولما كانت الوالدية لا تتحقق في الرجل كما تتحقق في المرأة وكان النسب يكتفى فيه بالفراش وكان للرجل دون المرأة فقال : {المولود له} أي على فراشه {رزقهن} أي المرضعات لأجل الرضاع سواء كن متصلات أو منفصلات فلو نشزت المتصلة لم يسقط وإن سقط ما يخص الزوجية. فلما كان اشتغالها بالرضاع عن كل ما يريده الزوج من الاستمتاع ربما أوهم سقوط الكسوة ذكرها فقال : {وكسوتهن} أجرة لهن. قال الحرالي : الكسوة رياش الآدمي الذي يستر ما ينبغي ستره من الذكر والأنثى وقال : فأشعرت إضافة الرزق والكسوة إليهن باعتبار حال المرأة فيه وعادتها بالسنة لا بالبدعة - انتهى.
ولما كان الحال مختلفاً في النفقة والكسوة باختلاف أحوال الرجال والنساء قال : {بالمعروف} أي - من حال كل منهما. قال الحرالي : فأكد ما أفهمته الإضافة وصرح الخطاب بإجماله - انتهى. ثم علله أو فسره بالحنيفية التي منَّ علينا سبحانه وتعالى بها فقال : {لا تكلف} قال الحرالي : من التكليف وهو أن يحمل المرء على أن يكلف بالأمر كلفة بالأشياء التي يدعوه إليها طبعه {نفس} أي لا يقع تكليفها وإن كان له سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء {إلا وسعها} أي ما تسعه وتطيقه لا كما فعل سبحانه بمن قبل ، كان أحدهم يقرض ما أصاب البول من جلده بالمقراض والوسع قال الحرالي ما يتأتى بمنة وكمال قوة. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 439 ـ 440}
قال الفخر :
{المولود لَهُ} هو الوالد ، وإنما عبر عنه بهذا الاسم لوجوه الأول : قال صاحب "الكشاف" : إن السبب فيه أن يعلم أن الوالدات إنما ولدن الأولاد للآباء ، ولذلك ينسبون إليهم لا إلى الأمهات وأنشد للمأمون بن الرشيد :
وإنما أمهات الناس أوعية.. مستودعات وللآباء أبناء
(7/18)
الثاني : أن هذا تنبيه على أن الولد إنما يلتحق بالوالد لكونه مولوداً على فراشه على ما قال صلى الله عليه وسلم : " الولد للفراش " فكأنه قال : إذا ولدت المرأة الولد للرجل وعلى فراشه ، وجب عليه رعاية مصالحه ، فهذا تنبيه على أن سبب النسب واللحاق مجرد هذا القدر الثالث : أنه قيل في تفسير قوله : {قَالَ ابن أُمَّ} [ طه : 94 ] أن المراد منه أن الأم مشفقة على الولد ، فكان الغرض من ذكر الأم تذكير الشفقة ، فكذا ههنا ذكر الوالد بلفظ المولود له تنبيهاً على أن هذا الولد إنما ولد لأجل الأب ، فكان نقصه عائداً إليه ، ورعاية مصالحه لازمة له ، كما قيل : كلمة لك ، وكلمة عليك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 103}
وقال ابن عاشور :
عبر عن الوالد بالمولود له ، إيماء إلى أنه الحقيق بهذا الحكم ؛ لأن منافع الولد منجرة إليه ، وهو لاحق به ومعتز به في القبيلة حسب مصطلح الأمم ، فهو الأجدر بإعاشته ، وتقويم وسائلها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 432}
لطيفة
قال العلامة أبو حيان :
و : المولود له ، هو الوالد ، وهو الأب ، ولم يأت بلفظ الوالد ، ولا بلفظ الأب ، بل جاء بلفظ : المولود له ، لما في ذلك من إعلام الأب ما منح الله له وأعطاه ، إذ اللام في : له ، معناها شبه التمليك كقوله تعالى : {وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة} وهو أحد المعاني التي ذكرناها في اللام في أول الفاتحة ، ولذلك يتصرف الوالد في ولده بما يختار ، وتجد الولد في الغالب مطيعاً لأبيه ، ممتثلاً ما أمر به ، منفذاً ما أوصى به ، فالأولاد في الحقيقة هم للآباء ، وينتسبون إليهم لا إلى أمهاتهم ، كما أنشد المأمون بن الرشيد ، وكانت أمه جارية طباخة تدعى مراجل ، قال :
فإنما أمهات الناس أوعية... مستودعات وللابناء آباء(7/19)
فلما كان لفظ : المولود ، مشعراً بالمنحة وشبه التمليك ، أتى به دون لفظ : الوالد ، ولفظ : الأب ، وحيث لم يرد هذا المعنى أتى بلفظ الوالد ولفظ الأب ، كما قال تعالى : {لا يجزى والد عن ولده} وقال : {لا جناح عليهن في آبائهن}
ولطيفة أخرى في قوله : {وعلى المولود له} وهو أنه لما كلف بمؤن المرضعة لولده من الرزق والكسوة ، ناسب أن يسلى بأن ذلك الولد هو وُلِد لك لا لأمه ، وأنك الذي تنتفع به في التناصر وتكثير العشيرة ، وأن لك عليه الطواعية كما كان عليك لأجله كلفة الرزق ، والكسوة لمرضعته. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 242}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : {وَعلَى المولود لَهُ} أي وعلى الأب. ويجوز في العربية "وعلى المولود لهم" كقوله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ} [ يونس : 42 ] لأن المعنى وعلى الذي ولد له و"الذي" يعبر به عن الواحد والجمع كما تقدّم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 163}
فائدتان
قال الفخر :
إنه تعالى كما وصى الأم برعاية جانب الطفل في قوله تعالى : {والوالدات يُرْضِعْنَ أولادهن حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ} وصى الأب برعاية جانب الأم حتى تكون قادرة على رعاية مصلحة الطفل فأمره برزقها وكسوتها بالمعروف ، والمعرَّف في هذا الباب قد يكون محدوداً بشرط وعقد ، وقد يكون غير محدود إلا من جهة العرف ، لأنه إذا قام بما يكفيها في طعامها وكسوتها ، فقد استغنى عن تقدير الأجرة ، فإنه إن كان ذلك أقل من قدر الكفاية لحقها من الجوع والعري ، فضررها يتعدى إلى الولد.(7/20)
الثانية : إنه تعالى وصى الأم برعاية الطفل أولاً ، ثم وصى الأب برعايته ثانياً ، وهذا يدل على أن احتياج الطفل إلى رعاية الأم أشد من احتياجه إلى رعاية الأب ، لأنه ليس بين الطفل وبين رعاية الأم واسطة ألبتة ، أما رعاية الأب فإنما تصل إلى الطفل بواسطة ، فإنه يستأجر المرأة على إرضاعه وحضانته بالنفقة والكسوة ، وذلك يدل على أن حق الأم أكثر من حق الأب ، والأخبار المطابقة لهذا المعنى كثيرة مشهورة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 102 ـ 103}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ} الرزق في هذا الحكم الطعام الكافي ، وفي هذا دليل على وجوب نفقة الولد على الوالد لضعفه وعجزه. وسماه الله سبحانه للأُمّ ؛ لأن الغذاء يصل إليه بواسطتها في الرّضاع كما قال : {وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ} [ الطلاق : 6 ] لأن الغذاء لا يصل إلا بسببها.
وأجمع العلماء على أن على المرء نفقة ولده الأطفال الذين لا مال لهم. " وقال صلى الله عليه وسلم لهند بنت عتبة وقد قالت له : إن أبا سفيان رجل شحيحٌ وإنه لا يعطيني من النفقة ما يكفيني ويكفي بنيّ إلاّ ما أخذت من ماله بغير علمه فهل عليّ في ذلك جناح ؟ فقال : "خذِي ما يكفيك وولدكِ بالمعروف" "
والكسوة : اللباس. وقوله : "بالمعروف" أي بالمتعارف في عرف الشرع من غير تفريط ولا إفراط. ثم بيّن تعالى أن الإنفاق على قدر غِنَى الزوج ومَنْصِبها من غير تقدير مُدٍّ ولا غيره بقوله تعالى : {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا} على ما يأتي بيانه في الطلاق إن شاء الله تعالى. وقيل المعنى : أي لا تُكلَّف المرأةُ الصبرَ على التقتير في الأُجرة ، ولا يكلف الزوج ما هو إسراف بل يراعي القصد. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 163 ـ 164}
قال العلامة ابن العربى(7/21)
قَوْله تَعَالَى : {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} دَلِيلٌ عَلَى وُجُوبِ نَفَقَةِ الْوَلَدِ عَلَى الْوَالِدِ لِعَجْزِهِ وَضَعْفِهِ ؛ فَجَعَلَ اللَّهُ تَعَالَى ذَلِكَ عَلَى يَدَيْ أَبِيهِ لِقَرَابَتِهِ مِنْهُ وَشَفَقَتِهِ عَلَيْهِ ؛ وَسَمَّى اللَّهُ تَعَالَى الْأُمَّ لِأَنَّ الْغِذَاءَ يَصِلُ إلَيْهِ بِوَسَاطَتِهَا فِي الرَّضَاعَةِ ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : {وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ} لِأَنَّ الْغِذَاءَ لَا يَصِلُ إلَى الْحَمْلِ إلَّا بِوَسَاطَتِهِنَّ فِي الرَّضَاعَةِ ؛ وَهَذَا بَابٌ مِنْ أُصُولِ الْفِقْهِ ، وَهُوَ أَنَّ مَا لَا يَتِمُّ الْوَاجِبُ إلَّا بِهِ وَاجِبٌ مِثْلُهُ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 274}
فائدة
قال ابن عاشور :
المعروف : ما تعارفه أمثالهم وما لا يجحف بالأب.
والمراد بالرزق والكسوة هنا ما تأخذه المرضع أجراً عن إرضاعها ، من طعام ولباس لأنهم كانوا يجعلون للمراضع كسوة ونفقة ، وكذلك غالب إجاراتهم ؛ إذ لم يكن أكثر قبائل العرب أهل ذهب وفضة ، بل كانوا يتعاملون بالأشياء ، وكان الأجراء لا يرغبون في الدرهم والدينار ، وإنما يطلبون كفاية ضروراتهم ، وهي الطعام والكسوة ، ولذلك أحال الله تقديرهما على المعروف عندهم من مراتب الناس وسعتهم ، وعقبه بقوله : {لا تكلف نفس إلا وسعها}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 432}
وقال العلامة الجصاص
وقَوْله تَعَالَى : {بِالْمَعْرُوفِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَاجِبَ مِنْ النَّفَقَةِ وَالْكِسْوَةِ هُوَ عَلَى قَدْرِ حَالِ الرَّجُلِ فِي إعْسَارِهِ وَيَسَارِهِ ؛ إذْ لَيْسَ مِنْ الْمَعْرُوفِ إلْزَامُ الْمُعْسِرِ أَكْثَرَ مِمَّا يَقْدِرُ عَلَيْهِ وَيُمْكِنُهُ ، وَلَا إلْزَامُ الْمُوسِرِ الشَّيْءَ الطَّفِيفَ.(7/22)
وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّهَا عَلَى مِقْدَارِ الْكِفَايَةِ مَعَ اعْتِبَارِ حَالِ الزَّوْجِ ، وَقَدْ بَيَّنَ ذَلِكَ بِقَوْلِهِ عَقِيبَ ذَلِكَ : {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلَّا وُسْعَهَا} ، فَإِذَا اشْتَطَّتْ الْمَرْأَةُ وَطَلَبَتْ مِنْ النَّفَقَةِ أَكْثَرَ مِنْ الْمُعْتَادِ الْمُتَعَارَفِ لِمِثْلِهَا لَمْ تُعْطَ ، وَكَذَلِكَ إذَا قَصَّرَ الزَّوْجُ عَنْ مِقْدَارِ نَفَقَةِ مِثْلِهَا فِي الْعُرْفِ وَالْعَادَةِ لَمْ يَحِلَّ ذَلِكَ وَأُجْبِرَ عَلَى نَفَقَةِ مِثْلِهَا. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 106}
فائدة
قال ابن الجوزى :
وفي الآية دليل على تسويغ اجتهاد الرأي في أحكام الحوادث ، إذ لا يتوصل إلى تقدير النفقة بالمعروف إلا من جهة غالب الظن ، إذ هو معتبر بالعادة. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 273}
فصل
قال القرطبى : (7/23)
في هذه الآية دليل لمالكٍ على أن الحضانة للأُم ؛ فهي في الغلام إلى البلوغ ، وفي الجارية إلى النكاح ؛ وذلك حق لها ، وبه قال أبو حنيفة. وقال الشافعيّ : إذا بلغ الولد ثمان سنين وهو سنّ التمييز ، خُيِّر بين أبويْه ، فإنه في تلك الحالة تتحرّك همته لتعلم القرآن والأدب ووظائف العبادات ، وذلك يستوي فيه الغلام والجارية. وروَى النسائيّ وغيره عن أبي هريرة " أن امرأة جاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت له : زوجي يريد أن يذهب بابني ، فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم : "هذا أبوك وهذه أُمّك فخذ أيهما شئت" فأخذ بيد أُمّه " وفي كتاب أبي داود عن أبي هريرة قال : " جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا قاعد عنده فقالت : يا رسول الله ، إن زوجي يريد أن يذهب بابني ، وقد سقاني من بئر أبي عِنَبَة ، وقد نفعني ، فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : "1649; اسْتَهِما عليه" فقال زوجها : من يحاقّنِي في ولدي! فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : "هذا أبوك وهذه أُمك فخذ بيد أحدهما شئت" فأخذ بيد أُمّه فانطلقت به " ودليلنا ما رواه أبو داود عن الأُوزاعيّ قال : حدّثني عمرو بن شعيب عن أبيه عن جدّه عبد الله بن عمرو " أن امرأة جاءت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله ، إن ابني هذا كان بطني له وِعاءً ، وثديي له سِقاءً ، وحِجري له حِواء ، وإن أباه طلقني وأراد أن ينتزعه مني ؛ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أنت أحق به ما لم تنكحي" " قال ابن المنذر : أجمع كل من يُحفظ عنه من أهل العلم على أن الزوجين إذا افترقا ولهما ولد أن الأُمّ أحق به ما لم تنكح. وكذا قال أبو عمر : لا أعلم خلافاً بين السلف من العلماء في المرأة المطلقة إذا لم تتزوّج أنها أحق بولدها من أبيه ما دام طفلاً صغيراً لا يميز شيئاً إذا كان عندها في حِرز وكفاية ولم يثبت فيها فسق ولا تبرج.
(7/24)
ثم اختلفوا بعد ذلك في تخييره إذا ميز وعقل بين أبيه وأُمه وفيمن هو أولى به ؛ قال ابن المنذر : وثبت أن النبيّ صلى الله عليه وسلم قضى في ابنة حمزة للخالة من غير تخيير. روى أبو داود عن عليّ قال : " خرج زيد بن حارثة إلى مكة فقدِم بابنة حمزة ، فقال جعفر : أنا آخذها أنا أحقّ بها ، ابنة عمي وخالتها عندي والخالة أُمّ. فقال عليّ : أنا أحق بها ، ابنة عمي وعندي ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي أحق بها. فقال زيد : أنا أحق بها ، أنا خرجت إليها وسافرت وقدمت بها. فخرج النبيّ صلى الله عليه وسلم فذكر حديثاً قال : "وأما الجارية فأقضِي بها لجعفر تكون مع خالتها وإنما الخالة أُمّ" ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 164 ـ 165}
قوله تعالى : {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا}
فوائد لغوية
قال ابن عاشور :
الوسع ، بتثليث الواو : الطاقة ، وأصله من وسع الإناء الشيء إذا حواه ولم يبق منه شيء ، وهو ضد ضاق عنه ، والوسع هو ما يسعه الشيء فهو بمعنى المفعول ، وأصله استعارة ؛ لأن الزمخشري في "الأساس" ذكر هذا المعنى في المجاز ، فكأنهم شبهوا تحمل النفس عملاً ذا مشقة باتساع الظرف للمحوي ، لأنهم ما احتاجوا لإفادة ذلك إلاّ عند ما يتوهم الناظر أنه لا يسعه ، فمن هنا استعير للشاق البالغ حد الطاقة.
فالوسع إن كان بكسر الواو فهو فعل بمعنى مفعول كذبح ، وإن كان بضمها فهو مصدر كالصلح والبرء صار بمعنى المفعول ، وإن كان بفتحها فهو مصدر كذلك بمعنى المفعول كالخلق والدرس والتكليف بما فوق الطاقة منفي في الشريعة.(7/25)
وبني فعل تكلف للنائب ليحذف الفاعل ، فيفيد حذفه عموم الفاعلين ، كما يفيد وقوع نفس ، وهو نكرة في سياق النفس ، عموم المفعول الأول لفعل تكلف : وهو الأنفس المكلفة ، وكما يفيد حذف المستثنى في قوله : {إلا وسعها} عموم المفعول الثاني لفعل تكلف ، وهو الأحكام المكلف بها ، أي لا يكلف أحد نفساً إلاّ وسعها ، وذلك تشريع من الله للأمة بأن ليس لأحد أن يكلف أحداً إلاّ بما يستطيعه ، وذلك أيضاً وعد من الله بأنه لا يكلف في التشريع الإسلامي إلاّ بما يستطاع : في العامة والخاصة ، فقد قال في آيات ختام هذه السورة {لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [ البقرة : 286 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 432 ـ 433}
فصل فى المراد من الآية
قال الفخر :
المراد من الآية أن أب هذا الصبي لا يكلف الإنفاق عليه وعلى أمه ، إلا ما تتسع له قدرته ، لأن الوسع في اللغة ما تتسع له القدرة ، ولا يبلغ استغراقها ، وبين أنه لا يلزم الأب إلا ذلك ، وهو نظير قوله في سورة الطلاق : {فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن} ثم قال : {وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى} ثم بين في النفقة أنها على قدر إمكان الرجل بقوله : {لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّا ءاتَاهُ الله لاَ يُكَلّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتاها} [ الطلاق : 6 ، 7 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 103}
فائدة
قال العلامة الجصاص
وقَوْله تَعَالَى : {لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إلَّا وُسْعَهَا} يُوجِبُ بُطْلَانَ قَوْلِ أَهْلِ الْإِجْبَارِ فِي اعْتِقَادِهِمْ أَنَّ اللَّهَ يُكَلِّفُ عِبَادَهُ مَا لَا يُطِيقُونَ ، وَإِكْذَابٌ لَهُمْ فِي نِسْبَتِهِمْ ذَلِكَ إلَى اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يَقُولُونَ وَيَنْسُبُونَ إلَيْهِ مِنْ السَّفَهِ وَالْعَبَثِ عُلُوًّا كَبِيرًا. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 106}(7/26)
قوله تعالى : {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كانت نتيجة ذلك حصول النفع ودفع الضر قال : {لا تضآر والدة بولدها} أي لا تضر المنفق به ولا يضرها ، وضم الراء ابن كثير وأبو عمرو ويعقوب على الخير وهو آكد ، وفتح الباقون على النهي ، ويحتمل فيها البناء للفاعل والمفعول {ولا مولود له بولده} أي المولود على فراشه ليس له أن يضر الوالدة به وليس لها أن تضره به ولا أن تضر الولد بتفريط ونحوه حملاً للمفاعلة على الفعل المجرد ، وكل من أسند سبحانه وتعالى المضارة إليه أضاف إليه الولد استعطافاً له عليه وتحريكاً لطبعه إلى مزيد نفعه. قال الحرالي : ففيه إيذان بأن لا يمنع الوالد الأم أن ترضع ولدها فيضرها في فقدها له ولا يسيء معاملتها في رزقها وكسوتها بسبب ولدها ، فكما لم يصلح أن يمسكها زوجة إلا بمعروف لم يصلح أن يسترضعها إلا بالمعروف ولا يتم المعروف إلا بالبراءة من المضارة. وفي إشعاره تحذير الوالدات من ترك أولادهن لقصد الإضرار مع ميل الطبع إلى القيام بهم وكذلك في إشعاره أن لا تضره في سرف رزق ولا كسوة - انتهى.
ولما تم الأمر بالمعروف وما تبعه من تفسيره وكان ذلك على تقدير وجود الوالد إذ ذاك بين الحال بعده فقال : {وعلى الوارث} أي وارث الوالد وهو الرضيع {مثل ذلك} أي المأمور به من المعروف على ما فسره به في ماله إن مات والده والوارث. قال الحرالي : المتلقى من الأحياء عن الموتى ما كان لهم من حق أو مال - انتهى. وقيل في الوارث غير ذلك لأنه تقدم ذكر الوالدات والولد والمولود له فاحتمل أن يضاف الوارث إلى كل منهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 440}
فائدة
(7/27)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وقتيبة عن الكسائي {لاَ تُضَارَّ} بالرفع والباقون بالفتح ، أما الرفع فقال الكسائي والفراء إنه نسق على قوله : {لاَ تُكَلَّفُ} قال علي بن عيسى : هذا غلط لأن النسق بلا إنما هو إخراج الثاني مما دخل فيه الأول نحو : ضربت زيداً لا عمراً فأما أن يقال : يقوم زيد لا يقعد عمرو ، فهو غير جائز على النسق ، بل الصواب أنه مرفوع على الاستئناف في النهي كما يقال : لا يضرب زيد لا تقتل عمراً وأما النصب فعلى النهي ، والأصل لا تضار فأدغمت الراء الأولى في الثانية وفتحت الثانية لالتقاء الساكنين ، يقال : يضارر رجل زيداً ، وذلك لأن أصل الكلمة التضعيف ، فأدغمت إحدى الراءين في الأخرى ، فصار لا تضار ، كما تقول : لا تردد ثم تدغم فتقول : لا ترد بالفتح قال تعالى : {ياأيها الذين ءَامَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ} [ المائدة : 54 ] وقرأ الحسن : {لاَ تُضَارَّ} بالكسر وهو جائز في اللغة ، وقرأ أبان عن عاصم {لاَ تُضَارر} مطهرة الراء مكسورة على أن الفعل لها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 103}
فائدة أخرى
قال العلامة الجصاص
قَوْله تَعَالَى : {لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ}
فِي الآية دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ الْأُمَّ أَحَقُّ بِإِمْسَاكِ الْوَلَدِ مَا دَامَ صَغِيرًا ، وَإِنْ اسْتَغْنَى عَنْ الرَّضَاعِ بَعْدَمَا يَكُونُ مِمَّنْ يَحْتَاجُ إلَى الْحَضَانَةِ ؛ لِأَنَّ حَاجَتَهُ إلَى الْأُمِّ بَعْدَ الرَّضَاعِ كَهِيَ قَبْلَهُ ، فَإِذَا كَانَتْ فِي حَالِ الرَّضَاعِ أَحَقُّ بِهِ ، وَإِنْ كَانَتْ الْمُرْضِعَةُ غَيْرَهَا عَلِمْنَا أَنَّ فِي كَوْنِهِ عِنْدَ الْأُمِّ حَقًّا لَهَا ؛ وَفِيهِ حَقٌّ لِلْوَلَدِ أَيْضًا ، وَهُوَ أَنَّ الْأُمَّ أَرْفَقُ بِهِ وَأَحْنَى عَلَيْهِ.
(7/28)
وَذَلِكَ فِي الْغُلَامِ عِنْدَنَا إلَى أَنْ يَأْكُلَ وَحْدَهُ وَيَشْرَبَ وَحْدَهُ وَيَتَوَضَّأَ وَحْدَهُ ، وَفِي الْجَارِيَةِ حَتَّى تَحِيضَ ؛ لِأَنَّ الْغُلَامَ إذَا بَلَغَ إلَى الْحَدِّ الَّذِي يَحْتَاجُ فِيهِ إلَى التَّأْدِيبِ وَيَعْقِلُهُ فَفِي كَوْنِهِ عِنْدَ الْأُمِّ دُونَ الْأَبِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ ، وَالْأَبُ مَعَ ذَلِكَ أَقْوَمُ بِتَأْدِيبِهِ ، وَهِيَ الْحَالُ الَّتِي قَالَ فِيهَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ تَعَالَى عَلَيْهِ وَسَلَّمَ { : مُرُوهُمْ بِالصَّلَاةِ لِسَبْعٍ وَاضْرِبُوهُمْ عَلَيْهَا لِعَشْرٍ ، وَفَرِّقُوا بَيْنَهُمْ فِي الْمَضَاجِعِ}.
فَمَنْ كَانَ سِنُّهُ سَبْعًا فَهُوَ مَأْمُورٌ بِالصَّلَاةِ عَلَى وَجْهِ التَّعْلِيمِ وَالتَّأْدِيبِ ؛ لِأَنَّهُ يَعْقِلُهَا ؛ فَكَذَلِكَ سَائِرُ الْأَدَبِ الَّذِي يَحْتَاجُ إلَى تَعَلُّمِهِ.
وَفِي كَوْنِهِ عِنْدَهَا فِي هَذِهِ الْحَالِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ ، وَلَا وِلَايَةَ لِأَحَدٍ عَلَى الصَّغِيرِ فِيمَا يَكُونُ فِيهِ ضَرَرٌ عَلَيْهِ.
وَأَمَّا الْجَارِيَةُ فَلَا ضَرَر عَلَيْهَا فِي كَوْنِهَا عِنْدَ الْأُمِّ إلَى أَنْ تَحِيضَ ، بَلْ كَوْنُهَا عِنْدَهَا أَنْفَعَ لَهَا ؛ لِأَنَّهَا تَحْتَاجُ إلَى آدَابِ النِّسَاءِ ، وَلَا تَزُولُ هَذِهِ الْوِلَايَةُ عَنْهَا إلَّا بِالْبُلُوغِ ؛ لِأَنَّهَا تَسْتَحِقُّهَا عَلَيْهَا بِالْوِلَادَةِ ، وَلَا ضَرَرَ عَلَيْهَا فِي كَوْنِهَا عِنْدَهَا ؛ فَلِذَلِكَ كَانَتْ أَوْلَى إلَى وَقْتِ الْبُلُوغِ ، فَإِذَا بَلَغَتْ احْتَاجَتْ إلَى التَّحْصِينِ وَالْأَبُ أَقُومُ بِتَحْصِينِهَا ، فَلِذَلِكَ كَانَ أَوْلَى بِهَا. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 107}
فائدة ثالثة
قال الفخر : (7/29)
قوله : {لاَ تُضَارَّ} يحتمل وجهين كلاهما جائز في اللغة ، وإنما احتمل الوجهين نظراً لحال الإدغام الواقع في تضار أحدهما : أن يكون أصله لا تضار بكسر الراء الأولى ، وعلى هذا الوجه تكون المرأة هي الفاعلة للضرار والثاني : أن يكون أصله لا تضارر بفتح الراء الأولى فتكون المرأة هي المفعولة بها الضرار ، وعلى الوجه الأول يكون المعنى : لا تفعل الأم الضرار بالأب بسبب إيصال الضرار إلى الولد ، وذلك بأن تمتنع المرأة من إرضاعه مع أن الأب ما امتنع عليها في النفقة من الرزق والكسوة ، فتلقى الولد عليه ، وعلى الوجه الثاني معناه : لا تضارر ، أي لا يفعل الأب الضرار بالأم فينزع الولد منها مع رغبتها في إمساكها وشدة محبتها له ، وقوله : {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} أي : ولا تفعل الأم الضرار بالأب بأن تلقي الولد عليه ، والمعنيان يرجعان إلى شيء واحد ، وهو أن يغيظ أحدهما صاحبه بسبب الولد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 103 ـ 104}
قال ابن عاشور :
جملة {لا تضار والدة بولدها} اعتراض ثان ، ولم تعطف على التي قبلها تنبيهاً على أنها مقصودة لذاتها ، فإنها تشريع مستقل ، وليس فيها معنى التعليل الذي في الجملة قبلها بل هي كالتفريع على جملة {لا تكلف نفس إلا وسعها} ؛ لأن إدخال الضر على أحد بسبب ما هو بضعة منه ، يكاد يخرج عن طاقة الإنسان ؛ لأن الضرار تضيق عنه الطاقة ، وكونه بسبب من يترقب منه أن يكون سبب نفع أشد ألماً على النفس ، فكان ضره أشد.
ولذلك اختير لفظ الوالدة هنا دون الأم كما تقدم في قوله : {يرضعن أولادهن} وكذلك القول في {ولا مولود له بولده} وهذا الحكم عام في جميع الأحوال من فراق أو دوام عصمة ، فهو كالتذييل ، وهو نهي لهما عن أن يكلف أحدهما الآخر ما هو فوق طاقته ، ويستغل ما يعلمه من شفقة الآخر على ولده فيفترص ذلك لإحراجه ، والإشفاق عليه.
(7/30)
وفي "المدونة" : عن ابن وهب عن الليث عن خالد بن يزيد عن زيد بن أسلم في قوله تعالى : {لا تضار والدة بولدها} الآية "يقول ليس لها أن تلقي ولدها عليه ولا يجد من يرضعه ، وليس له أن ينتزع منها ولدها ، وهي تحب أن ترضعه" وهو يؤيد ما ذكرناه.
وقيل : الباء في قوله : {بولدها وبولده} باء الإلصاق وهي لتعدية {تضار} فيكون مدخول الباء مفعولاً في المعنى لفعل {تضار} وهو مسلوب المفاعلة مراد منه أصل الضر ، فيصير المعنى : لا تضر الوالدة ولدها ولا المولود له ولده أي لا يكن أحد الأبويين بتعنته وتحريجه سبباً في إلحاق الضر بولده أي سبباً في إلجاء الآخر إلى الامتناع مما يعين على إرضاع الأم ولدها فيكون في استرضاع غير الأم تعريض المولود إلى الضر ونحو هذا من أنواع التفريط. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 433 ـ 434}
سؤال : فإن قيل : لم قال {تُضَارَّ} والفعل لواحد ؟ .
قلنا لوجوه أحدها : أن معناه المبالغة ، فإن إيذاء من يؤذيك أقوى من إيذاء من لا يؤذيك والثاني : لا يضار الأم والأب بأن لا ترضع الأم أو يمنعها الأب وينزعه منها والثالث : أن المقصود لكل واحد منهما بإضرار الولد إضرار الآخر ، فكان ذلك في الحقيقة مضارة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 104}
فائدة
قوله : {لاَ تُضَارَّ والدة بِوَلَدِهَا} وإن كان خبراً في الظاهر ، لكن المراد منه النهي ، وهو يتناول إساءتها إلى الولد بترك الرضاع ، وترك التعهد والحفظ. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 104}
وقوله : {وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ} يتناول كل المضار ، وذلك بأن يمنع الوالدة أن ترضعه وهي به أرأف وقد يكون بأن يضيق عليها النفقة والكسوة أو بأن يسيء العشرة فيحملها ذلك على إضرارها بالولد ، فكل ذلك داخل في هذا النهي والله أعلم.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 104}
قال العلامة الجصاص
(7/31)
وَأَمَّا قَوْله تَعَالَى : {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} فَإِنَّهُ عَائِدٌ عَلَى الْمَضَارِّ نَهْيُ الرَّجُلِ أَنْ يُضَارَّهَا بِوَلَدِهَا وَنَهْيُ الْمَرْأَةِ أَيْضًا أَنْ تُضَارَّ بِوَلَدِهِ.
وَالْمُضَارَّةُ مِنْ جِهَتِهَا قَدْ تَكُونُ فِي النَّفَقَةِ وَغَيْرِهَا ، فَأَمَّا فِي النَّفَقَةِ فَأَنْ تَشْتَطَّ عَلَيْهِ وَتَطْلُبَ فَوْقَ حَقِّهَا ، وَفِي غَيْرِ النَّفَقَةِ أَنْ تَمْنَعَهُ مِنْ رُؤْيَتِهِ وَالْإِلْمَامِ بِهِ.
وَيَحْتَمِلُ أَنْ تَغْتَرِبَ بِهِ وَتُخْرِجَهُ عَنْ بَلَدِهِ فَتَكُونَ مُضَارَّةً لَهُ بِوَلَدِهِ ، وَيَحْتَمِلُ أَنْ تُرِيدَ أَنْ لَا يُطِيعَهُ وَتَمْتَنِعَ مِنْ تَرْكِهِ عِنْدَهُ.
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا مُحْتَمَلَةٌ يَنْطَوِي عَلَيْهَا قَوْله تَعَالَى : {وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ} فَوَجَبَ حَمْلُ الْآيَةِ عَلَيْهَا. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 108}
لطائف بلاغية
قال أبو حيان :
وفي هذه الجمل الأربع من بلاغة المعنى ونصاعة اللفظ ما لا يخفى على من تعاطى علم البيان.
فالجملة الأولى : أبرزت في صورة المبتدأ والخبر وجعل الخبر فعلاً لأن الإرضاع مما يتجدد دائماً ، ثم أضيف الأولاد إلى الوالدات تنبيهاً على شفقتهن على الأولاد ، وهزالهن وحثاً على الإرضاع ، وقيد الإرضاع بمدة ، وجعل ذلك لمن أراد الإتمام. وجاء الوالدات بلفظ العموم ، وأضيف الأولاد لضمير العام ليعم ، وجمع القلة إذا دخلته الألف واللام ، أو أضيف إلى عام ، عم. وقد تكلمنا على شيء من هذا في كتابنا المسمى ( بالتكميل في شرح التسهيل ).(7/32)
والجملة الثانية : أبرزت أيضاً في صورة المبتدأ والخبر ، وجعل الخبر جاراً ومجروراً بلفظ : على ، الدالة على الاستعلاء المجازي والوجوب. فأكد بذلك مضمون الجملة ، لأن من عادة المرء منع ما في يده من المال ، وإهمال ما يجب عليه من الحقوق ، فأكد ذلك. وقدم الخبر على سبيل الإعتناء به ، وجاء الرزق مقدماً على الكسوة ، لأنه الأهم في بقاء الحياة ، والمتكرر في كل يوم.
والجملة الثالثة : أبرزت في صورة الفعل ومرفوعه ، وأتى بمرفوعه نكرة لأنه في سياق النفي ، فيعم ، ويتناول أولاً ما سيق لأجله : وهو حكم الوالدات في الإرضاع ، وحكم المولود له في الرزق والكسوة اللذين للوالدات.
(7/33)
والجملة الرابعة : كالثالثة ، لأنها في سياق النفي ، فتعم أيضاً ، وهي كالشرح للجملة قبلها ، لأن النفس إذا لم تكلف إلاَّ طاقتها لا يقع ضرر لا للوالدة ولا للمولود له ، ولذلك جاءت غير معطوفة على الجملة قبلها ، فلا يناسب العطف بخلاف الجملتين الأوليين ، فإن كل جملة منهما مغايرة للأخرى ، ومخصصة بحكم ليس في الأخرى ، ولما كان تكليف النفس فوق الطاقة ، ومضارة أحد الزوجين الآخر مما يتجدد كل وقت ، أتى بالجملتين فعليتين ، أدخل عليهما حرف النفي الذي هو : لا ، الموضوع للاستقبال غالباً ، وفي قراءة من جزم : لا تضار ، أدخل حرف النهي المخلص المضارع للاستقبال ، ونبه على محل الشفقة بقوله : بولدها ، فأضاف الولد إليها ، وبقوله : بولده ، فأضاف الولد إليه ، وذلك لطلب الاستعطاف والإشفاق. وقدم ذكر عدم مضارة الوالدة على عدم مضارة الوالد مراعاة للجملتين الأوليين ، إذ بدىء فيهما بحكم الوالدات ، وثنى بحكم الوالد في قوله : لا تضار ، دلالة على أنه إذا اجتمع مؤنث ومذكر معطوفان ، فالحكم في الفعل السابق عليهما للسابق منهما ، تقول : قام زيد وهند وقامت هند وزيد ، ويقوم زيد وهند ، وتقوم هند وزيد ، إلاَّ إن كان المؤنث مجازياً بغير علامة تأنيث فيه فيحسن عدم إلحاق العلامة ، كقوله تعالى : {وجُمع الشمس والقمر}. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 226}
قوله تعالى : {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} فاعلم أنه لما تقدم ذكر الولد وذكر الوالد وذكر الوالدات احتمل في الوارث أن يكون مضافاً إلى واحد من هؤلاء ، والعلماء لم يدعوا وجهاً يمكن القول به إلا وقال به بعضهم.
(7/34)
فالقول الأول : وهو منقول عن ابن عباس رضي الله عنهما : أن المراد وارث الأب ، وذلك لأن قوله : {وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك} معطوف على قوله : {وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف} وما بينهما اعتراض لبيان المعروف ، والمعنى أن المولود له إن مات فعلى وارثه مثل ما وجب عليه من الرزق والكسوة ، يعني إن مات المولود له لزم وارثه أن يقوم مقامه في أن يرزقها ويكسوها بالشرط المذكور ، وهو رعاية المعروف وتجنب الضرار ، قال أبو مسلم الأصفهاني هذا القول ضعيف ، لأنا إذا حملنا اللفظ على وارث الولد والولد أيضاً وارثه ، أدى إلى وجوب نفقته على غيره ، حال ماله مال ينفق منه وإن هذا غير جائز ، ويمكن أن يجاب عنه بأن الصبي إذا ورث من أبيه مالاً فإنه يحتاج إلى من يقوم بتعهده وينفق ذلك المال عليه بالمعروف ، ويدفع الضرار عنه ، وهذه الأشياء يمكن إيجابها على وارث الأب.
القول الثاني : أن المراد وارث الأب يجب عليه عند موت الأب كل ما كان واجباً على الأب وهذا قول الحسن وقتادة وأبي مسلم والقاضي ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا في أنه أي وارث هو ؟ فقيل : هو العصبات دون الأم ، والأخوة من الأم ، وهو قول عمر والحسن ومجاهد وعطاء وسفيان وإبراهيم وقيل : هو وارث الصبي من الرجال والنساء على قدر النصيب من الميراث ، وهو قول قتادة وابن أبي ليلى ، قالوا : النفقة على قدر الميراث ، وقيل : الوارث ممن كان ذا رحم محرم دون غيرهم من ابن العم والمولى وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ،
واعلم أن ظاهر الكلام يقتضي أن لا فضل بين وارث ووارث ، لأنه تعالى أطلق اللفظ فغير ذي الرحم بمنزلة ذي الرحم ، كما أن البعيد كالقريب ، والنساء كالرجال ، ولولا أن الأم خرجت من ذلك من حيث مر ذكرها بإيجاب الحق لها ، لصح أيضاً دخولها تحت الكلام ، لأنها قد تكون وارث كغيرها.
(7/35)
القول الثالث : المراد من الوارث الباقي من الأبوين ، وجاء في الدعاء المشهور : واجعله الوارث منا ، أي الباقي وهو قول سفيان وجماعة.
القول الرابع : أراد بالوارث الصبي نفسه الذي هو وارث أبيه المتوفى فإنه إن كان له مال وجب أجر الرضاعة في ماله ، وإن لم يكن له مال أجبرت أمه على إرضاعه ، ولا يجبر على نفقة الصبي إلا الوالدان ، وهو قول مالك والشافعي.
أما قوله تعالى : {مِثْلُ ذلك} فقيل من النفقة والكسوة عن إبراهيم ، وقيل : من ترك الإضرار عن الشعبي والزهري والضحاك ، وقيل : منهما عن أكثر أهل العلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 104 ـ 105}
قال ابن عاشور :
وحقيقة الوارث هو من يصير إليه مال الميت بعد الموت بحق الإرث.
والإشارة بقوله {ذلك} إلى الحكم المتقدم وهو الرزق والكسوة بقرينة دخول على عليه الدالة على أنه عديل لقوله : {وعلى المولود له رزقهن} وجوز أن يكون {ذلك} إشارة إلى النهي عن الإضرار المستفاد من قوله : {لا تضار والدة بولدها} كما سيأتي ، وهو بعيد عن الاستعمال ؛ لأنه لما كان الفاعل محذوفاً وحكم الفعل في سياق النهي كما هو في سياق النفي علم أن جميع الإضرار منهي عنه أياً ما كان فاعله ، على أن الإضرار منهي عنه فلا يحسن التعبير عنه بلفظ على الذي هو من صيغ الإلزام والإيجاب ، على أن ظاهر المِثل إنما ينصرف لمماثلة الذوات وهي النفقة والكسوة لا لمماثلة الحكم وهو التحريم.
وقد علم من تسمية المفروض عليه الإنفاق والكسوة وارثاً أن الذي كان ذلك عليه مات ، وهذا إيجاز.
والمعنى : فإن مات المولود له فعلى وارثه مثل ما كان عليه فإن على الواقعة بعد حرف العطف هنا ظاهرة في أنها مثل على التي في المعطوف عليه.
(7/36)
فالظاهر أن المراد وارث الأب وتكون أل عوضاً عن المضاف إليه كما هو الشأن في دخول أل على اسم غير معهود ولا مقصود جنسه وكان ذلك الاسم مذكوراً بعد اسم يصلح لأن يضاف إليه كما قال تعالى : {لئن لم ينته لنسفعا بالناصية} [ العلق : 15 ] وكما قال : {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى فإن الجنة هي المأوى} [ النازعات : 40 41 ] أي نهى نفسه ؛ فإن الجنة هي مأواه ، وقول إحدى نساء حديث أم زرع : "زوجي المَسُّ مَسُّ أَرْنَب والرِّيح رِيح زَرْنَب" وما سماه الله تعالى وارثاً إلاّ لأنه وارث بالفعل لا من يصلح لأن يكون وارثاً على تقدير موت غيره ؛ لأن اسم الفاعل إنما يطلق على الحال ما لم تقم قرينة على خلافه فما قال : {وعلى الوارث} إلاّ لأن الكلام على الحق تعليق بهذا الشخص في تركة الميت وإلاّ لقال : وعلى الأقارب أو الأولياء مثل ذلك على أنه يكون كلاماً تأكيداً حينئذٍ ؛ لأن تحريم الإضرار المذكور قبله لم يذكر له متعلق خاص ؛ فإن فاعل {تضار} محذوف. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 434 ـ 435}
قوله تعالى : {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما بين أمد الرضاع وأمر النفقة صرح بما أفهمه الكلام من جواز الفطام قبل التمام فقال مسبباً عما أفهمته العبارة : {فإن أرادا} أي الوالدان {فصالاً} أي فطاماً قبل تمام الحولين للصغير عن الرضاع. قال الحرالي : وهو من الفصل وهو عود المتواصلين إلى بين سابق - انتهى. وهو أعم من الفطم فلذا عبر به. ولما بين ذلك نبه على أنه لا يجوز إلا مع المصلحة فقال : {عن تراض منهما} ثم بين أن الأمر خطر يحتاج إلى تمام النظر بقوله : {وتشاور} أي إدارة للكلام في ذلك ليستخرج الرأي الذي ينبغي أن يعمل به.
(7/37)
قال الحرالي : فأفصح بإشعار ما في قوله : {أن يتم} وأن الكفاية قد تقع بدون الحولين فجعل ذلك لا يكون برياً من المضارة إلا باجتماع إرادتهما وتراضيهما وتشاورهما لمن له تبصرة لئلا تجتمعا على نقص الرأي ، قال عليه الصلاة والسلام " ما خاب من استخار ولا ندم من استشار " والمشورة أن تستخلص حلاوة الرأي وخالصه من خلايا الصدور كما يشور العسل جانيه - انتهى. {فلا جناح عليهما} فيما نقصاه عن الحولين لأنهما غير متهمين في أمره واجتماع رأيهما فيه ورأي من يستشيرانه قلّ ما يخطىء.
قال الحرالي : فيه إشعار بأنها ثلاث رتب : رتبة تمام فيها الخير والبركة ، ورتبة كفاية فيها رفع الجناح ، وحالة مضارة فيها الجناح - انتهى. وقد أفهم تمام هذه العناية أن الإنسان كلما كان أضعف كانت رحمة الله له أكثر وعنايته به أشد. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 440 ـ 441}
قال الفخر :
في الفصال قولان الأول : أنه الفطام لقوله تعالى : {وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً} [ الأحقاف : 15 ] وإنما سمي الفطام بالفصال لأن الولد ينفصل عن الاغتذاء بلبن أمه إلى غيره من الأقوات قال المبرد : يقال فصل الولد عن الأم فصلاً وفصالاً ، وقرىء بهما في قوله : {وَحَمْلُهُ وفصاله} والفصال أحسن ، لأنه إذا انفصل من أمه فقد انفصلت منه ، فبينهما فصال نحو القتال والضراب ، وسمي الفصيل فصيلاً لأنه مفصول عن أمه ، ويقال : فصل من البلد إذا خرج عنه وفارقه قال تعالى : {فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بالجنود} [ البقرة : 249 ] واعلم أن حمل الفصال ههنا على الفطام هو قول أكثر المفسرين.
(7/38)
واعلم أنه تعالى لما بين أن الحولين الكاملين هو تمام مدة الرضاع وجب حمل هذه الآية على غير ذلك حتى لا يلزم التكرار ، ثم اختلفوا فمنهم من قال : المراد من هذه الآية أن الفطام قبل الحولين جائز ومنهم من قال : إنها تدل على أن الفطام قبل الحولين جائز ، وبعده أيضاً جائز وهذا القول مروي عن ابن عباس رضي الله عنهما.
حجة القول الأول أن ما قبل الآية لما دل على جواز الفطام عند تمام الحولين كان أيضاً دليلاً على جواز الزيادة على الحولين وإذا كان كذلك بقيت هذه الآية دالة على جواز الفطام قبل تمام الحولين فقط.
وحجة القول الثاني أن الولد قد يكون ضعيفاً فيحتاج إلى الرضاع ويضر به فطمه كما يضر ذلك قبل الحولين ، وأجاب الأولون أن حصول المضرة في الفطام بعد الحولين نادر وحمل الكلام على المعهود واجب ، والله أعلم.
القول الثاني : في تفسير الفصال ، وهو أن أبا مسلم لما ذكر القول الأول قال : ويحتمل معنى آخر ، وهو أن يكون المراد من الفصال إيقاع المفاصلة بين الأم والولد إذا حصل التراضي والتشاور في ذلك ولم يرجع بسبب ذلك ضرر إلى الولد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 105}
فائدة
قال ابن عاشور :
عن في قوله : {عن تراض} متعلقة بأرادا أي إرادة ناشئة عن التراضي ، إذ قد تكون إرادتهما صورية أو يكون أحدهما في نفس الأمر مرغماً على الإرادة ، بخوف أو اضطرار. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 438}
وقال ابن عرفة :
ينبغي أن تحمل الآية على ( أن ) التراضي والتشاور قبل انقضاء الحولين لأنه جعل التشاور بعدهما غير معتبر.
وتقدم لنا سؤال وهو أن التراضي سبب عن التشاور ( لأن المشورة ) ( تحصّل ) التراضي أو عدمه فكان الأنسب تقديم التشاور على التراضي ).
قال : وتقدم الجواب بأنه أفاد عدم الاقتصار على تراضيهما فإذا تراضيا على الفصال وكانت مشورتهما للغير تنتج أن المصلحة في عدم الفصال فلا عبرة بما تراضيا عليه.
(7/39)
قيل لابن عرفة : أو يجاب بأنّه لو قيل : عن تشاور وتراض ، لأفاد تبعية أحدهما للآخر فإن المستشير أضعف رتبة ( من ) المستشار فقدم الرضى ليفيد اعتبار رضاهما معا من غير تبعية ؟
فقال ابن عرفة : ليس في الآية أن أحدهما يستشير مع الآخر وإنّما يَسْتَشِيرَانِ مع الأجنبي.
قال ابن عرفة : ( وعبر ) بـ ( إنْ ) دون ( إِذَا ) لأن النفوس مجبولة على محبة الولد فإرادتهم الفصال أقل بالنسبة إلى إرادة الرضاع ، فكأنه غير واقع ، أو يكون أفاد أنّه ( غير ) ( مرجوح ) شرعا. وعبر في الثاني بـ ( إذا ) لأن استرضاع الولد للأجنبية ( مرجوح ) بالنسبة إلى إرضاع أمه.
قيل لابن عرفة : ما الفائدة في هذه الآية مع أن معناها مستفاد من قوله : {والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة} فمفهومها أن من لم يرد الإتمام فلا جناح عليه في الفصال.
فقال : هذا جاء احتراسا لأن مفهوم تلك أن من أراد الفصال له ذلك فاقتضت الآية هذه اعتبار رضاهما معا بذلك.
فقيل : قوله لمن أراد أن يتم الرضاعة يفيد هذا لأنه إن أراد أحدهما ( الفصال ) وأراد الآخر الإتمام لم يتراضيا معا بالفصال ؟
فقال : أفادت هذه زيادة الأمر بمشورتهما غيرهما.
قال : وقوله {تَرَاضٍ مِّنْهُمَا} ولم يقل : عن تراضيهما ، ليفيد التفسير بعد الإتمام كما قال الزمخشري في قوله الله تعالى : {وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت} قوله تعالى : {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا...}.
دليل على مرجوحية الفصال لأن اللّفظ غالب استعماله في فعل المرجوح. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 302}
فائدة
قال الفخر :(7/40)
دلت الآية على أن الفطام في أقل من حولين لا يجوز إلا عند رضا الوالدين وعند المشاورة مع أرباب التجارب وذلك لأن الأم قد تمل من الرضاع فتحاول الفطام والأب أيضاً قد يمل من إعطاء الأجرة على الإرضاع ، فقد يحاول الفطام دفعاً لذلك ، لكنهما قلما يتوافقان على الإضرار بالولد لغرض النفس ، ثم بتقدير توافقهما اعتبر المشاورة مع غيرهما ، وعند ذلك يبعد أن تحصل موافقة الكل على ما يكون فيه إضرار بالولد ، فعند اتفاق الكل يدل على أن الفطام قبل الحولين لا يضره ألبتة فانظر إلى إحسان الله تعالى بهذا الطفل الصغير كم شرط في جواز إفطامه من الشرائط دفعاً للمضار عنه ، ثم عند اجتماع كل هذه الشرائط لم يصرح بالإذن بل قال : {لاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وهذا يدل على أن الإنسان كلما كان أكثر ضعفاً كانت رحمة الله معه أكثر وعنايته به أشد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 106}
قال ابن عاشور :
وقوله : {وتشاور} هو مصدر شاور إذا طلب المشورة.
والمشورة قيل مشتقة من الإشارة لأن كل واحد من المتشاورين يشير بما يراه نافعاً فلذلك يقول المستشير لمن يستشيره : بماذا تشير عليَّ كأنَّ أصله أنه يشير للأمر الذي فيه النفع ، مشتق من الإشارة باليد ، لأن الناصح المدبر كالذي يشير إلى الصواب ويعينه له من لم يهتد إليه ، ثم عدي بعلى لما ضمن معنى التدبير ، وقال الراغب : إنها مشتقة من شار العسل إذا استخرجه ، وأياً ما كان اشتقاقها فمعناها إبداء الرأي في عمل يريد أن يعمله من يشاور. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 438}
سؤال : لم عطف التشاور على التراضي ؟
الجواب : عطف التشاور على التراضي تعليماً للزوجين شؤون تدبير العائلة ، فإن التشاور يظهر الصواب ويحصل به التراضي. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 438}
(7/41)
قوله تعالى : {وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آَتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما بين رضاع الوالدات وقدمه دليلاً على أولويته أتبعه ما يدل على جواز غيره فقال : {وإن أردتم} أي أيّها الرجال {أن تسترضعوا} أي أن تطلبوا من يرضع {أولادكم} من غير الأمهات {فلا جناح} أي ميل بإثم {عليكم إذا سلمتم} أي إلى المراضع {ما آتيتم} أي ما جعلتم لهن من العطاء {بالمعروف} موفراً طيبة به أنفسكم من غير تشاحح ولا تعاسر لأن ذلك أقطع لمعاذير لمراضع فهو أجدر بالاجتهاد في النصيحة وعدم التفريط في حق الصغير.
ولما كان التقدير : فافعلوا جميع ما أمرتكم به وانتهوا عن جميع ما نهيتكم عنه فقد جمعت لكم مصالح الدارين في هذا الكتاب الذي هو هدى للمتقين ، عطف عليه قوله : {واتقوا الله} أي الذي له القدرة الشاملة والعلم الكامل ثم خوفهم سطواته بقوله منبهاً على عظم هذه الأحكام {واعلموا} وعلق الأمر بالاسم الأعظم الجامع لجميع الأسماء الحسنى فقال : {أن الله} أي المحيط بصفات الكمال تعظيماً للمقام ولذلك أكد علمه سبحانه وتعالى هنا على نحو ما مضى في {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} [ البقرة : 215 ] بتقديم قوله للإعلام بمزيد الاهتمام {بما تعملون} أي من سر وعلن.
ولما كانت هذه الأحكام أدق مما في الآية التي بعدها وكثير منها منوط بأفعال القلوب ختمها بما يدل على البصر والعلم فقال : {بصير} أي بالغ العلم به فاعملوا بحسب ذلك. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 441 ـ 442}
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما بين حكم الأم وأنها أحق بالرضاع ، بين أنه يجوز العدول في هذا الباب عن الأم إلى غيرها ثم في الآية مسائل :
(7/42)
المسألة الأولى : قال صاحب "الكشاف" : استرضع منقول من أرضع ، يقال : أرضعت المرأة الصبي واسترضعها الصبي ، فتعديه إلى مفعولين ، كما تقول : أنجح الحاجة واستنجحته الحاجة والمعنى : أن تسترضعوا المراضع أولادكم ، فحذف أحد المفعولين للاستغناء عنه ، كما تقول : استنجحت الحاجة ولا تذكر من استنجحته ، وكذلك حكم كل مفعولين لم يكن آخرهما عبارة عن الأول ، وقال الواحدي : {أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم} أي لأولادكم وحذف اللام اجتزاءً بدلالة الاسترضاع ، لأنه لا يكون إلا للأولاد ، ولا يجوز دعوت زيداً وأنت تريد لزيد ، لأنه تلبيس ههنا بخلاف ما قلنا في الاسترضاع ، ونظير حذف اللام قوله تعالى : {وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ} [ المطففين : 3 ] أي كالوا لهم أو وزنوا لهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 106}
قال ابن عاشور :
وقوله : {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم فلا جناح عليكم} انتقال إلى حالة إرضاع الطفل غيرَ والدته إذا تعذر على الوالدة إرضاعه ، لمرضها ، أو تزوجها أو إن أبت ذلك حيث يجوز لها الإباء ، كما تقدم في الآية السابقة ، أي إن أردتم أن تطلبوا الإرضاع لأولادكم فلا إثم في ذلك.
والمخاطب بأردتم : الأبوان باعتبار تعدد الأبوين في الأمة وليس المخاطب خصوص الرجال ، لقوله تعالى فيما سبق {والوالدات يرضعن أولادهن} فعلم السامع أن هذا الحكم خاص بحالة تراضي الأبوين على ذلك لعذر الأم ، وبحالة فقد الأم.
وقد علم من قوله : {فلا جناح عليكم} أن حالة التراضي هي المقصودة أولاً ، لأن نفي الجناح مؤذن بتوقعه ، وإنما يتوقع ذلك إذا كانت الأم موجودة وأريد صرف الابن عنها إلى مرضع أخرى ، لسبب مصطلح عليه ، وهما لا يريدان ذلك إلاّ حيث يتحقق عدم الضر للابن ، فلو علم ضر الولد لم يجز ، وقد كانت العرب تسترضع لأولادها ، لا سيما أهل الشرف. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 438 ـ 439}
فروع مهمة
قال الفخر :
(7/43)
اعلم أنا قد بينا أن الأم أحق بالإرضاع ، فأما إذا حصل مانع عن ذلك فقد يجوز العدول عنها إلى غيرها ، منها ما إذا تزوجت آخر ، فقيامها بحق ذلك الزوج يمنعها عن الرضاع ، ومنها أنه إذا طلقها الزوج الأول فقد تكره الرضاع حتى يتزوج بها زوج آخر ، ومنها أن تأتي المرأة قبول الولد إيذاء للزوج المطلق وإيحاشاً له ، ومنها أن تمرض أو ينقطع لبنها ، فعند أحد هذه الوجوه إذا وجدنا مرضعة أخرى وقبل الطفل لبنها جاز العدول عن الأم إلى غيرها ، فأما إذا لم نجد مرضعة أخرى ، أو وجدناها ولكن الطفل لا يقبل لبنها فههنا الإرضاع واجب على الأم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 106 ـ 107}
فصل
قال الفخر :
قرأ ابن كثير وحده {مَّا ءَاتَيْتُم} مقصورة الألف ، والباقون {مَّا ءَاتَيْتُم} ممدودة الألف ، أما المد فتقديره : ما آتيتموه المرأة أي أردتم إيتاءه وأما القصر فتقديره : ما آتيتم به ، فحذف المفعولان في الأول وحذف لفظة بِه في الثاني لحصول العلم بذلك ، وروى شيبان عن عاصم {مَا أُوتِيتُمْ} أي ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ، ونظيره قوله تعالى : {وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ} [ الحديد : 7 ].
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 107}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف} أي إذا سلمتم إلى المراضع أجورهن.
فالمراد بما آتيتم : الأجر ، ومعنى آتى في الأصل دفع ؛ لأنه معدى أتى بمعنى وصل ، ولما كان أصل إذا أن يكون ظرفاً للمستقبل مضمناً معنى الشرط ، لم يلتئم أن يكون مع فعل {آتيتم} الماضي.
وتأول في "الكشاف" {آتيتم} بمعنى : أردتم إيتاءه ، كقوله تعالى : {إذا قمتم إلى الصلاة} [ المائدة : 6 ] تبعاً لقوله : {وإن أردتم أن تسترضعوا أولادكم} ، والمعنى : إذا سلمتم أجور المراضع بالمعروف ، دون إجحاف ولا مطل.
وقرأ ابن كثير {أتيتم} بترك همزة التعدية.
(7/44)
فالمعنى عليه : إذا سلمتم ما جئتم ، أي ما قصدتم ، فالإتيان حينئذٍ مجاز عن القصد ، كقوله تعالى : {إذ جاء ربه بقلب سليم} [ الصافات : 84 ] وقال زهير :
وما كان من خير أَتوه فإنما
توارثَه آباءُ آبائِهم قَبْلُ...
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 440}
فائدة
قال الفخر :
ليس التسليم شرطاً للجواز والصحة ، وإنما هو ندب إلى الأولى والمقصود منه أن تسليم الأجرة إلى المرضعة يداً بيد حتى تكون طيبة النفس راضية فيصير ذلك سبباً لصلاح حال الصبي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 107}
قال ابن عرفة :
قرىء : " مَّآ أُتِيتُمْ ".
قال ابن عرفة : وفي هذه القراءة تهييج على الأمر بالتّسليم لأن تسليم الإنسان ما لا يملك أهون عليه من تسليم ما يملك. ومعنى قوله " مَّآ آتَيْتُم " بالنّصب أن يعطي الأب ( الأم ) دينارا على الإرضاع ثم يريد أن يسترضع الولد ( عند ) الأجنبية فلا جناح ( عليهما ) إذا سلم الدّينار للأم ولم يسترجعه من عندها. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 302}
قوله تعالى : {واتقوا الله}
قال ابن عاشور :
وقوله : {واتقوا الله} تذييل للتخويف ، والحث على مراقبة ما شرع الله ، من غير محاولة ولا مكابدة ، وقوله : {واعلموا أن الله} تذكير لهم بذلك ، وإلاّ فقد علموه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 440}
وقال ابن عرفة :
قوله تعالى : {واتقوا الله...}.
إشارة إلى مراعاة حق الولد في ذلك لأنه لا يتكلم ولا يخبر بشيء.
قوله تعالى : {واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
ابن عرفة : الوصف بـ ( بصير ) أشدّ في الوعيد والتخويف من الوصف بـ ( عليم ) لأن الإنسان قد يتجرأ على مخالفة سيده الغائب عنه وإن علم أنه يعلم ولا يتجرأ على مخالفته إذا كان حاضرا يشاهده وينظر إليه. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 302}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية(7/45)
قوله جلّ ذكره : {وَالوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ}.
غايةُ الرحمة التي يُضْرب بها المَثَلُ رحمةُ الأمهات ؛ فأَمَرَ الله سبحانه الأمهاتِ بإكمال الرحمة بإرضاع المولود حَوْلَين كاملين ، وقطعُ الرضاعة عنه قبل الحولين إشارةٌ إلى أن رحمة الله بالعبد أتمُّ من رحمة الأمهات.
ثم قال جلّ ذكره : {وَعَلَى المَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالمَعْرُوفِ}.
يعني الأب عليه رزقهن وكسوتهن - أي المرضعات - بالمعروف. لمَّا يَنُبْن عنك وَجَبَ حَقَّهُن عليك ، فإِنَّ مَنْ لك كله فعليك كله.
ثم قال جلّ ذكره : {لاَ تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَهَا}.
ادخارُ المستطاع بُخْلٌ ، والوقوفُ - عند العجز - عذر.
ثم قال جلّ ذكره : {لاَ تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا}.
في الإرضاع وما يجب عليه.
{وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ}.
يعني الوالد بولده يعني فيما يلزم من النفقة والشفقة. فكما يجب حق المولود على الوالدين يجب حق الوالدين على المولود.
ثم قوله جلّ ذكره : {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَنْ تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَن تَسْتَرْضِعُوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَّا آتَيْتُمْ بِالمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
يعني فطاماً قبل الحولين ، فلا جناح بعدما كان القصد الصلاح. اشتملت الآية على تمهيد طريق الصحبة ، وتعليم محاسن الأخلاق في أحكام العسرة وإن من لا يَرْحَم لا يُرْحَم.
وقال صلى الله عليه وسلم لمن ذكر أنه لم يُقَبِّل أولاده : " إن الله لا ينزع الرحمة إلا من قلب شقي ". أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 184}
فوائد ولطائف بلاغية
قال أبو حيان : (7/46)
وفي الآية ضروب من البيان والبديع ، منها : تلوين الخطاب ، ومعدوله في : {والوالدات يرضعن} فإنه خبر معناه الآمر على قول الأكثر ، والتأكيد : بكاملين ، والعدل عن رزق الأولاد إلى رزق أمهاتهنّ ، لأنهنّ سبب توصل ذلك. والإيجاز في : {وعلى الوارث مثل ذلك} وتلوين الخطاب : في {وإن أردتم أن تسترضعوا} فإنه خطاب للآباء والأمهات ثم قال : {إذا سلمتم} وهو خطاب للآباء خاصة ، والحذف في : {أن تسترضعوا} التقدير : مراضع للأولاد ، وفي قوله : {إذا سلمتم ما آتيتم بالمعروف}. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 229}
حكمة تحديد مدة الرضاعة بحولين كاملين من منظور علمي
أ.د. مجاهد محمد أبو المجد
(7/47)
ذكر كتاب نلسون وهو أحد المراجع المشهورة في طب الأطفال في طبعته عام 1994م : أن الأبحاث الحديثة أظهرت وجود علاقة ارتباطية قوية بين عدد ومدة الرضاعة من ثدي الأم وبين ظهور مرض السكري من النوع الأول في عدد من الدراسات على الأطفال في كل من النرويج والسويد والدنمارك. وعلل الباحثون ذلك بأن لبن الأم يمد الطفل بحماية ضد عوامل بيئية تؤدي إلى تدمير خلايا بيتا البنكرياسية في الأطفال الذين لديهم استعداد وراثي لذلك. وأن مكونات الألبن الصناعية وأطعمة الرضع تحتوي على مواد كيميائية سامة لخلايا بيتا البنكرياسية ، وأن ألبان البقر تحتوي على بروتينات يمكن أن تكون ضارة لهذه الخلايا ، كما لوحظ أيضا في بعض البلدان الأخرى أن مدة الرضاعة من الثدي تتناسب عكسيا مع حدوث مرض السكري لذلك ينصح الباحثون الآن بإطالة مدة الرضاعة من ثدي الأم للوقاية من هذا المرض الخطير وللحفاظ على صحة الأطفال في المستقبل. وبناء على هذه الحقائق برزت في السنوات الأخيرة نظرية مفادها أن بروتين لبن البقر يمكن أن يحدث تفاعلاً حيوياً مناعياً يؤدي إلى تحطيم خلايا بيتا البنكرياسية التي تفرز الأنسولين. ويعضد هذه النظرية وجود أجسام مضادة بنسب مرتفة لبروتين لبن البقر في مصل الأطفال المصابين بداء السكري بالمقارنة مع الأطفال غير المصابين بالمرض كمجموعة مقارنة(Borch- Nelson (1994) Text book of pediatric, 15th.ed).
(7/48)
وفي دراسة حديثة منشورة في مجلة السكري في يناير 1998م : استخلص الباحثون أن البروتين الموجود في لبن الأبقار يعتبر عاملاً مستقلاً في إصابة بعض الأطفال بمرض السكري بغض النظر عن الاستعداد الوراثي(Scand J Immunol. 1998 Fed, 47 : 2, 131-5). وفي دراسة حديثة منشورة في فبراير 1998م في جريدة المناعة أشار المؤلفون إلا أن تناول لبن البقر وبعض الألبان الصناعية كبديل للبن الأم يؤدي إلى زيادة نسبة الإصابة بمرض السكري في هؤلاء الأطفال ، وقد أجريت هذه الدراسة على أطفال صغار السن حتى الشهر التاسع من العمر ولهذ نصح المؤلفون بإطالة مدة الرضاعة الطبيعية(Saukkonen et al.,Daiadetologia, 1998 Jan. 4 : 7,72-8).
وفي دراسة مشابهة منشورة في مجلة السكري يناير 1994م : أوضح الباحثون وجود ارتباط قوي بين تناول منتجات الألبان الصناعية (خاصة لبن الأبقار) في السن المبكر حتى العام الأول من العمر وازدياد نسبة الإصابة بمرض السكري(Garstein He, Diabetes, 1994 Jan. 17 : 1,13-9). وفي دؤاسة أجريت بقسم الباطنة سنة 1995م تحت إشرافي وجدنا أن الأجسام المناعية المضادة للبن الأبقار وجدت في مصل الأطفال الذين تناولوا لبن الأبقار حتى نهاية العام الثاني أما الأطفال الذين تناولوا لبن الأبقار بعد عامين من العمر فلم يتضح فيهم وجود هذه الأجسام المناعية مما يظهر جلياً حكمة تحديد القرآن الكريم للرضاعة بعامين كاملين. لكن لماذا يسبب لبن الأبقار هذا الضرر قبل العام الثاني بينما يزول الأثر السيء للبن الأبقار بعد هذه المدة ؟
(7/49)
في دراسة أجريت بفنلندا عام 1994م منشورة في مجلة المناعة الذاتية(Autoimmunity 1994 23 : 165-74) : يقول المؤلفون : أن بروتين لبن الأبقار يمر بحالته الطبيعية من الغشاء المبطن للجهاز الهضمي نتيجة عدم اكتمال نمو هذا الغشاء من خلال ممرات موجودة فيه. حيث إن إنزيمات الجهاز الهضمي لا تستطيع تكسير البروتين إلى أحماض أمينية ولذلك يدخل بروتين لبن الابقار كبروتين مركب مما يحفز على تكوين أجسام مناعية داخل جسم الطفل.
وتشير المراجع الحديثة إلى أن الإنزيمات والغشاء المبطن للجهاز الهضمي وحركية هذا الجهاز وديناميكية الهضم والامتصاص لا يتكل عملها بصورة طبيعية في الأشهر الأولى بعد الولادة وتكتمل تدريجيا حتى نهاية العام الثاني(Lucas et : (1992) Lancet 59722-730).
ومجموع هذه الأبحاث يشير إلى أنه كلما اقتربت مدة الرضاعة الطبيعية من عامين كلما قل تركيز الأجسام المناعية الضارة بخلايا بيتا البنكرياسية التي تفرز الأنسولين وكلما بدأت الرضاعة البديلة وخاصة لبن الأبقار في فترة مبكرة بعد الولادة كلما ازداد تركيز الأجسام المناعية الضارة في مصل الأطفال(Pettitt et;(1997) Lancet : 16-168).
(7/50)
وفي إشارة علمية دقيقة أخرى للقرآن الكريم نراه يحدد مدة الرضاعة بما يقرب من حولين كما جاء في الآية رقم 14 في سورة لقمان {ووصينا الإنسان بوالديه حملته أمه وهناً على وهن وفصاله في عامين} والآية رقم 15 في سورة الأحقاف {حملته أمه كرهاً ووضعته كرهاً وحمله وفصاله ثلاثون شهراً} ويفهم من هذا إن أرضاع الحولين ليس حتماً بل هو التمام ، ويجوز الاقتصار على ما هو دونه ، كما أشارت الأحكام الإسلامية الخاصة بالرضاعة إلى ذلك اعتمادا على قوله تعالى : {فإن أرادا فصالاً عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عيهما..}الآية. يقول بن كثير- رحمه الله- أي فإن اتفق والدا الطفل على فطامه قبل الحولين ورأيا ذلك في مصلحه له وتشاورا في ذلك وأجمعا عليه ، فلا جناح عليهما في ذلك ، فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك بدون الآخر لا يكفي ، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر ، قاله الثوري وغيره. وهذا فيه احتياط للطفل والتزام للنظر في أمره وهو من رحمة الله بعباده حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه(14).
وهكذا يتضح جلياً حكمة تحديد الرضاعة بحولين كاملين في إشارة علمية دقيقة من القرآن الكريم. وجاءت الأبحاث العلمية الحديثة لتؤكد ولتبرهن على صدق إعجاز ما أخبر به القرآن الكريم ، منذ أكثر من ألف وأربعمائة عام قال تعالى : {سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد} فصلت53. أ هـ {بحث للدكتور مجاهد محمد أبو المجد}
الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية
بقلم : الدكتور زغلول النجار
قوله تعالى : {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة... * البقرة : 233}
(7/51)
تثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لينمو الطفل نموا سليما من الجهتين الصحية والنفسية. ولكن نعمة الله علي الجماعة المسلمة لم تنتظر بهم حتي يعلموا هذا من تجاربهم , فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل , والله رحيم بعباده , خاصة بهؤلاء الصغار الضعاف المحتاجين للعطف والرعاية...
من الدلالات الطبية والتشريعية في النص الكريم
يؤكد هذا النص القرآني الكريم أهمية الرضاعة الطبيعية من الأم الوالدة لمدة أقصاها حولين كاملين ( أربعة وعشرون شهرا قمريا ) ولذلك قال ـ تعالي ـ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة ( البقرة : 233) وهذا النص فيه من الدلالات الطبية والتشريعية مايمكن إيجازه فيما يلي :
أولا : من الدلالات الطبية :
(1) أن لبن الوالدة مناسب في تركيبه الكيميائي وصفاته الطبيعية وكمياته لحاجة الرضيع طوال فترة الرضاعة , ومن معجزات الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ أن هذا التركيب الكيميائي وتلك الصفات والكميات للبن الوالدة يتغير تلقائيا مع تغير أحوال الرضيع ووزنه وهل هو مكتمل العمر الرحمي أو مبتسر , ومع إحتياجاته الغذائية وحالته الصحية بل مع مراحل الرضعة الواحدة من أولها إلي آخرها. ففي الأسبوع الأول من عمر الرضيع يحتوي لبن الوالدة علي كميات أعلي من البروتينات , ومن كريات الدم البيضاء والفيتامينات خاصة فيتامين ـ أ , ومادة اللاكتوفرين المثبتة لعنصر الحديد حتي يستفيد منه الرضيع , وعلي كميات أقل من الدهون والمواد الكربوهيدراتية عن اللبن في الأسابيع التالية.(7/52)
(2) أن الدهون في لبن الأم هي دهون ثلاثية بسيطة يسهل هضمها وامتصاصها مع كميات متدرجة من الأحماض الدهنية المشبعة والزيوت الدهنية الطيارة , وكذلك الكربوهيدرات وأغلبها سكر ثنائي بسيط يعرف باسم سكر اللبن أو اللاكتوز (Lactose) يسهل علي معدة الرضيع هضمه وامتصاصه , ويحول بعضه إلي حمض اللبن (Lacticacid) في أمعاء الرضيع مما يساعد علي امتصاص عنصر الكالسيوم اللازم لبناء عظامه. والأملاح في لبن الوالدة محددة بنسب يسهل امتصاصها وتمثيلها في جسد الرضيع , والفيتامينات في هذا اللبن الفطري كافية لتلبية كل احتياجات الرضيع طوال الشهور الستة الأولي من عمره , وفيه من الخمائر الهاضمة مايعين معدته علي امتصاص مافي الرضعة من مركبات كيميائية.
(3) أن لبن الوالدة معقم تعقيما ربانيا , ولذلك فهو خال تماما من الميكروبات والفيروسات ومن غيرها من مسببات الأمراض خاصة إذا كانت الوالدة من صاحبات الأيدي المتوضئة والمحافظات علي طهارة البدن والثياب والمكان , والحريصات علي سلامة فلذات أكبادهن.
هذا بالإضافة الي أن هذا اللبن الفطري جاهز للرضيع في كل زمان ومكان ودائم الطزاجة , والوجود في درجة حرارة توائم المناخ المحيط به صيفا وشتاء.
(4) في لبن الوالدة من المضادات الحيوية النوعية ومن مقويات جهاز المناعة مايحمي الرضيع من كثير من الأمراض خاصة أمراض الحساسية ( التحسس ). والإسهال , والنزيف المعوي , والمغص , وغيرها , وعلي ذلك فهو أفضل غذاء للوليد حتي تمام السنتين من عمره وإن كان بإمكان الأم إضافة قدر ملائم من الطعام المناسب ابتداء من الشهر السادس من عمر الوليد.
(7/53)
(5) أن الرضاعة الطبيعية ليست فقط مفيدة للرضيع بل للوالدة المرضعة أيضا , لأن الرضاعة تساعد في تنشيط إفرازات الغدد المختلفة في جسدها مما يعين علي استقرارها النفسي والجسدي , وعلي وقف نزيف مابعد الولادة برجوع الرحم الي حجمه الطبيعي وانطماره , هذا بالإضافة إلي إن الهرمونات المسئولة عن إدرار اللبن هي هي المسئولة عن عملية تثبيط عملية التبويض ( إنتاج البيوضات ) حتي لاتحمل الأم وهي لاتزال ترضع لما في ذلك من أخطار صحية عليها وعلي رضيعها , كما يريحها ذلك من آلام الطمث وهي في مرحلة الإرضاع , وفوق ذلك كله لوحظ أن الوالدات المرضعات هن أقل إصابة بالأورام السرطانية ـ خاصة في الصدر وفي المبيضين ـ عن كل من غير المرضعات , وغير الوالدات , وغير المتزوجات.
(6) أن نشاط مخ المرضعة أثناء الرضاعة هو من الأمور المتعلقة بنشاط وظائف الأعضاء في جسدها كله حيث تنبعث إشارات عصبية من الهالة الداكنة المحيطة بحلمة الثدي الي الغدة النخامية بالمخ عن طريق العصب الحائر فتفرز هرمون البرولاكتين (Prolactin) اللازم لإنتاج اللبن في الثديين عن طريق الخلايا المختصة بذلك في كل منهما ـ كما أن عملية الرضاعة ذاتها تنبه الغدة النخامية أيضا لإفراز هرمون الأكسيتوسين (Oxytocin) المنشط لعضلات الثدي فتبدأ في الانقباض والانبساط من أجل إفراز اللبن وتوجيهه إلي الحلمة , وعدم استخدام هذه الأجهزة التي وهبها الله ـ تعالي ـ لجسد المرأة قد يكون فيه من الأضرار الصحية لها مالايعلمه إلا الله ـ تعالي ـ.
(7/54)
(7) أن الانعكاسات الإيجابية التي تحققها عملية الرضاعة الطبيعية علي نفسية كل من الرضيع والمرضعة , والتي تتجلي في تقوية الصلة الروحية بينهما علي أساس من التعاطف والحب والحنان والارتباط الوثيق هي من الأمور الفطرية التي أودعها الخالق ـ سبحانه وتعالي ـ في قلب كل من الوالدة والمولود , وبفقدانها يفقد كل منهما مرحلة من مراحل حياته تهبه من أسباب التوازن النفسي والعاطفي مايجعله مخلوقا سويا.
(8) ولما كان للرضاعة في الحولين الأولين من عمر الوليد تأثير علي صفاته الوراثية أعطي القرآن الكريم الأولوية في إرضاع المولود للأم التي ولدته فقال ربنا ـ تبارك وتعالي ـ : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة.... ( البقرة : 233)
والأمر الإلهي بالإرضاع جاء بصيغة المضارع إقرارا لاستمرارية هذا الأمر لكل والدة أن ترضع مولودها تحقيقا لدور الأمومة ولحق مولودها عليها. ولكن في بعض الظروف الخاصة التي لاتستطيع الوالدة أن ترضع فيها وليدها صرح القرآن الكريم بأن ترضع له أخري مع بقاء الأولوية في الرضاعة للأم الوالدة فقال ـ تعالي ـ.. وإن تعاسرتم فسترضع له أخري ( الطلاق : 6).
(7/55)
(9) ويفهم من النص الكريم أن تمام مدة الرضاعة هو حولان كاملان ( أربعة وعشرون شهرا قمريا ) ولكن ترك الأمر لتقدير الوالدين فقال ـ تعالي ـ : فإن أرادا فصالا عن تراض منهما وتشاور فلا جناح عليهما...( البقرة : 233) علي أن تمام الرضاعة هو عامان وذلك في مقام آخر بقوله ـ تعالي ـ : ... وفصاله في عامين..( لقمان : 14) وذلك لتباين مدد الحمل بين ستة وتسعة أشهر قمرية ( بين 117 و266 يوما ) لقوله تعالي : ... وحمله وفصاله ثلاثون شهرا...( الأحقاف : 15). فإذا ولد الحميل لستة أشهر قمرية كان واجبا إتمام مدة الحمل والفصال ثلاثين شهرا قمريا , ولكن إذا اكتملت فترة الحمل إلي تسعة أشهر قمرية كان كافيا لفترة الرضاعة التامة واحد وعشرون شهرا ليكمل فترتي الحمل والرضاعة إلي ثلاثين شهرا.
(10) أثبتت الأبحاث في مجال طب الأطفال ( كما أشار الأستاذ الدكتور مجاهد أبو المجد ) أن هناك ارتباطا وثيقا بين الرضاعة من منتجات الألبان الحيوانية المصنعة وغير المصنعة ـ خاصة لبن الأبقار ـ وبين انتشار مرض الداء السكري بين الأطفال الرضع , وانعدام ذلك في حالات الرضاعة الطبيعية من الوالدة. وكان تعليل ذلك أن البروتين الموجود في لبن الأبقار يؤدي الي تكوين أجسام مناعية مضادة في دم الرضع دون العامين لأن انزيمات الهضم عندهم لاتستطيع تكسير البروتينات المعقدة في ألبان الأبقار , وأن هذه الأجسام المناعية تقوم بتدمير أعداد من الخلايا المهمة في بنكرياس الرضيع من مثل الخلايا التي تقوم بإفراز مادة الإنسولين.(7/56)
ولكن بعد تجاوز العام الثاني من عمر الوليد فإن تناوله للبن الأبقار لايسبب تكون مثل هذه الأجسام المناعية المضادة ويفسر ذلك باكتمال نمو الغشاء المخاطي المبطن للجهاز الهضمي عند الوليد والذي لا يتم اكتماله إلا بعد عامين كاملين من عمره , فتستطيع إنزيمات الهضم عنده تكسير البروتينات المعقدة في ألبان الحيوانات فلا تتكون أجسام مناعية مضادة لها , وهنا تتضح ومضة الإعجاز العلمي والطبي في قول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة...( البقرة : 233).
(11) كذلك أثبتت الدراسات العلمية أخيرا أن ألبان الأنعام ـ خاصة ألبان الأبقار ـ تحتوي علي عدد من الأحماض الأمينية تزيد بثلاثة إلي أربعة الأمثال علي ما في لبن الأم مما قد يؤدي إلي ارتفاع نسبة تلك الأحماض في دم الرضيع فيعرضه للإصابة ببعض الإعاقات الذهنية , ويؤدي إلي رفع نسب وفيات الرضع الذين يتغذون أساسا علي الألبان الحيوانية غير المصنعة والمصنعة.
ثانيا : من الدلالات التشريعية :
(1) في قول ربنا ـ تبارك وتعالي ـ : والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة...( البقرة : 233) دليل علي أن الأولوية في رضاعة المولود هي لأمه التي ولدته , وذلك لأن الدراسات المختبرية أكدت أن تفاصيل التركيب الكيميائي لألبان النساء يختلف من امرأة الي أخري. وهذا له تأثيره علي نمو الوليد واتزانه العاطفي والنفسي , وان الجهاز الهضمي للرضيع مهيأ أفضل تهيئة لهضم وامتصاص لبن أمه التي ولدته.
(2) ويفهم من النص الكريم أن الوالدات لسن فقط اللائي ولدن , ولكن تنزل المرضعة منزلة الوالدة فتصبح كل مرضعة والدة , مع بقاء الأولوية في الرضاعة للأم التي ولدت , ولما كانت المرضعة والدة كانت الحرمة من الرضاعة في الحولين الأولين من عمر الرضيع لقول الرسول ـ صلي الله عليه وسلم : يحرم من الرضاعة مايحرم من النسب ( صحيح مسلم ).(7/57)
ولقوله : الرضاعة ما كان في الحولين ( جامع الترمذي ).
وقوله : لايحرم من الرضاعة إلا مافتق الأمعاء من الثدي وكان قبل الفطام ( جامع الترمذي )
وقوله : لايحرم من الرضاع إلا ماأنبت اللحم وأنشأ العظم )( سنن أبي داود ). أ هـ {الإشارات الكونية في القرآن الكريم ومغزي دلالتها العلمية
بقلم : الدكتور / زغلول النجار}
ماذا يقول أطباء الغرب عن الرضاعة من لبن الأم
الدكتور حسان شمسي باشا
طبيب وباحث إسلامي
لبن الأم منحة السماء.. لزائر جديد أطل على وجه الأرض..
تهيأت لتركيبه مصانع أودعها الله تعالى في جسم الأم ، وفاق بتركيبه كل لبن.. يمر عبره كل ما يحتاج إليه الطفل من وقاية وغذاء.. ويعطي الأم إحساسا يوثق عرى الروابط بينها وبين وليدها.
ورغم ذلك.. وصلت نسبة الإرضاع الطبيعي في أوروبا وأمريكا إلى الحضيض في الخمسينات ، وظن الكثير من الأمهات - بتأثير الدعاية التجارية - أن الإرضاع الاصطناعي أفضل من الإرضاع الطبيعي ، وأن الحليب الاصطناعي يحتوي على عناصر إضافية لا وجود لها في لبن الأم.
واقتدت كثيرات من نسائنا في بلادنا العربية والإسلامية بنساء الغرب ، فانتشر الإرضاع الصناعي ، وأصبح الإرضاع الطبيعي - في وقت من الأوقات - تقليدا من التقاليد القديمة
ومنذ ذلك الحين توالت الأبحاث والدراسات العلمية في أوروبا وأمريكا تؤكد حقيقة واحدة مفادها أن ( لبن الأم هو الأفضل ).
ولا عجب أن نرى كباء خبراء الطب في العالم ينشرون أبحاثهم ، ويكتبون المقالات العديدة عن فوائد لبن الأم. وتوالت الصيحات من مختلف الأوساط الطبية من جامعات غربية تدعو الأمهات إلى العودة إلى لبن الأم.
(7/58)
تقول الأستاذة الدكتورة ( روش لورنس ) أستاذة أمراض الأطفال بجامعة روتشستر في نيويورك بالولايات المتحدة : " ينبغي أن تعلم النساء أن لبن الأم هو أفضل غذاء للطفل ، وأنه يحتوي على حماية مناعة خاصة ، وحماية ضد الالتهابات الجرثومية غير متوفرة في أي نوع آخر من الغذاء. ورغم تقدم العلوم الطبية ، إلا أنها لم تتمكن بحال من الأحوال من إنتاج لبن يشبه لبن الأم ، وأنه ليس هناك على وجه الأرض محلول بيولوجي يستطيع أن يغني تماما عن لبن الأم ".
ويقول البروفسور بورسدن : " إذا كانت الكائنات الثديية تحتاج إلى لبن أمها وإلى صلة جسدية وثيقة مع أمها لعدة سنين ، فمن الأولى أن يتمتع الطفل البشري بلبن أمه بكل ما فيه من خصائص ومزايا لمدة 4 سنوات ".
وتقول نشرة حديثة أصدرها قسم الصحة والأمن الاجتماعي في بريطانيا : " يظل لبن الأم أفضل حليب حتى السنتين من العمر ، وبإمكان الأم إضافة أنواع الطعام الأخرى منذ الشهر الرابع ".
وصدق الله تعالى حيث يقول : {والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين لمن أراد أن يتم الرضاعة} ( البقرة آية 233 )
لقد صحا الغرب إلى هذه الحقيقة حديثا ، وبدأت وسائل الإعلام الطبية في أوروبا وأمريكا تنبه النساء إلى ضرورة العودة إلى الإرضاع الطبيعي.
ولقد نشرت مجلة اللانست الطبية البريطانية مقالة رئيسة تسائل فيها المؤلف ( لماذا لا تزداد العودة إلى الإرضاع الطبيعي بسرعة أكبر مما هي عليه الآن ؟ رغم إجماع كل الآراء الطبية على فائدة لبن الأم ، وسموه على الحليب الاصطناعي ).
ويعزو المؤلف سبب ذلك إلى سيطرة الشركات المنتجة للحليب الاصطناعي على الكثير من المؤسسات التي ترعى شؤون الأطفال ، والدعاية الكبيرة التي تروجها هذه الشركات في إقناع الأمهات - رغم أن ذلك خطأ شنيع وأكذوبة لا حقيقة لها - بأن الحليب الاصطناعي يغني عن لبن الأم.
(7/59)
وفي الوقت الذي يشيع فيه استعمال الحليب الاصطناعي في بلادنا العربية والإسلامية نجد أن الحكومة البريطانية قد أصدرت منذ ثلاث عشرة سنة قرارا بمنع هذه الشركات من ممارسة الدعاية لأصناف الحليب الاصطناعي ، وقد اختفت تماما تلك الدعايات من شاشات التلفزيون ووسائل الإعلام الأخرى في بريطانيا.
ونشرت مجلة اللانست البريطانية مقالا رئيسا جاء فيه :
إن 95 % من الأمهات قادرات إذا رغبت على إرضاع أطفالهن الإرضاع الطبيعي لمدة 4 - 6 شهور ، وأنه يمكن لهؤلاء الأمهات خلال هذه المدة أن يؤمن كميات كافية من اللبن تكفي لنمو أطفالهن نموا طبيعيا.
إنه بإمكان بعض الأمهات أن يرضعن أطفالهن لبن الثدي منفردا لمدة اثني عشر شهرا أو أكثر.
إن الأطفال الذين يتناولون لبن الأم مع الحليب الاصطناعي هم أكثر عرضة لالتهابات المعدة والأمعاء.
وأعرب تقرير منظمة الصحة الدولية عن الأسى لوضع العالم الثالث الذي يقبل استعمال الحليب الاصطناعي في الوقت الذي تتراجع فيه أوروبا وأمريكا عن ذلك.
ويقول المؤلف : " إن استعمال الحليب الاصطناعي في ازدياد مستمر في العالم الثالث مع ما ينطوي عليه ذلك من نتائج خطيرة على صحة الطفل ".
ويتابع المؤلف : " إن الشركات المنتجة للحليب الاصطناعي تتنافس فيما بينها عن طريق ممثلين يمارسون الدعاية لهذه المنتجات بشتى الوسائل ".
ويحذر المؤلف هذه الشركات المنتجة للحليب الاصطناعي بأن العالم سيصحو عاجلا أم آجلا ويعود إلى لبن الأم. وأن على هذه الشركات ألا تتوقع ازديادا من مبيعاتها من الحليب الاصطناعي.
وتقول الأستاذة ( لورنس ) : " على الرغم من أن العلوم الطبية قد خطت خطوات عظيمة في مجال التغذية إلا أنها لم تستطع أن تقلد إلا جزءا بسيطا من لبن الأم. فهناك أكثر من مائة أنزيم ( خميرة ) في لبن الأم ، كلها غير موجودة في الحليب الاصطناعي.(7/60)
إن لبن الأم يحتوي على حماية مناعية خاصة ، وحماية ضد الإنتان غير متوفرة في أي نوع آخر من الغذاء ".
وتختم هذه الأستاذة مقالها بالقول : " ليس هناك على وجه الأرض محلول بيولوجي يستطيع أن يغني تماما عن لبن الأم ، ويقوم بتأمين الخلايا الحية والإنزيمات الفعالة ، والحماية المناعية ضد الالتهابات ، والفوائد النفسية ".
وجاء في كتاب ( لبن الأم هو الأفضل - Breast is best - ) للدكتور ستانوي :
" مما لا شك فيه أن سرطان الثدي - وهو أكثر السرطانات شيوعا عند النساء - قد أصبح أكثر شيوعا خلال القرنين السابقين ، ويقدر العلماء أن امرأة من أصل عشرين امرأة في الغرب تموت بسرطان الثدي ، وأن واحدة من أصل أربعة نساء تشكو من مرض من أمراض الثدي في وقت من الأوقات هناك "
فلم هذه الكثرة ، ولماذا تتعرف أثداء النساء لهذه الأمراض ؟ يقول الدكتور ستانوي مجيبا :
" من المحتمل كثيرا أن النساء يعاملن الثدي معاملة غير طبيعية ويخالفن الوظيفة الطبيعية للثدي ، ألا وهي الرضاعة. فإن النساء - يحرمن أثداءهن من وظيفتها الرئيسة ( وهي الرضاعة ) - إنما يدفعن ثمنا باهظا بالأمراض التي يكسبنها من وراء ذلك. وأن الإرضاع الطبيعي هو أهم وسيلة لتنظيم النسل حول العالم كله ، حيث ينقطع الطمث عند معظم النساء اللواتي يرضعن أطفالهن. ومن المعروف أن لسرطان الرحم علاقة وثيقة بسرطان الثدي. وربما كانت دورات الطمث التي تراها المرأة في حياتها ( وتبلغ 450 دورة ) تلعب دورا يؤثر في الرحم. ففي كل شهر يتعرض الثديان والرحم والمبايض لتغيرات فيزيولوجية وتشريحية.. وتكون هذه الأجهزة جاهزة لحدوث تلقيح للبيضة وتشكل الجنين.
(7/61)
ولكن في حياتنا العصرية.. فإن بيضة واحدة أو اثنتين تلقح فقط ( حيث تنجب المرأة ولدا أو اثنين ) خلال كل فترة العمر التي ترى فيها المرأة 450 دورة طمثية. أما الدورات الطمثية الأخرى فتهدر سدى.. وتشعر تغييرات الجسم بالخيبة والمرارة سنة بعد سنة حينما لا تحمل المرأة في عمرها سوى مرة أو مرتين. وربما كان هذا سببا لانتشار أمراض الجهاز التناسلي ".
هذا ما قاله الدكتور ( ستانوي ) في كتابه. وهو بهذا يشير إلى نساء العصر الحديث - حينما يحرصن على ألا ينجبن أكثر من طفل أو طفلين - إنما يعرضن أعضاءهم التناسلية لتلك الأمراض.
ألم يقل رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تزوجوا الودود الولود ، فإني مكاثر بكم " رواه أبو داوود والنسائي صحيح الجامع الصغير 2940
ويقول الدكتور ستانوي أيضا : " إن سرطان الثدي والرحم شائعان جدا ، فإن امرأة من أصل كل خمسة نساء تنتهي باستئصال رحمها في وقت من الأوقات. وإن على المرأة أن تبدأ بالحمل خلال سنوات قليلة بعد سن البلوغ ، فقد تبين أن إنجاب المرأة لأول طفل من أطفالها في سن مبكرة تحت العشرين هو أحد أهم وسائل الوقاية من سرطان الثدي. وأن الجهاز التناسلي عند المرأة يبقى لفترة 12 - 15 سنة ( حتى تبلغ المرأة سن الطمث غير قادر على إنجاب أول طفل. وإننا إذا ما قررنا الاستمرار في منع هذا الجهاز من الإنجاب ، فإننا سوف نعرض نساءنا لمشكلات كثيرة ) ".
وأما فيما يتعلق بمدة الإرضاع فيقول الدكتور ستانوي : " قد يكفي الرضيع من الناحية الغذائية أن يرضع لمدة ثمانية أشهر في المجتمع الغربي. إلا أنه من حيث الفائدة للأم ، فإن هناك كل الأسباب التي تدعو الأم لأن تستمر في الرضاع المديد حتى ولو بلغ الطفل سنا يستطيع فيه تناول معظم غذائه من الأطعمة الأخرى. فالتمريض المتكرر لحلمة الثدي يحرض الهرمونات عند الأم لتمنع نزول البيضة من المبيض إلى الرحم عند الأم لعدة شهور.
(7/62)
وفي هذا فإن الرضاع لا يعمل مانعا طبيعيا للحمل فسحب ، بل إنه يمنع التغيرات الحاصلة شهريا في فترة الطمث.. مما يريح الجهاز التناسلي من هذا العناء ".
ألم تقض حكمة الله تعالى بأن تكون مدة الرضاعة عامين اثنين.. ينال فيها الرضيع حظه من الغذاء والمناعة الطبيعية والحنان.. وترتاح خلال تلك المدة أعضاء المرأة من رحم ومبايض…!!
يقول الشهيد سيد قطب ( في ظلال القرآن ) : " والله يفرض للمولود على أمه أن ترضعه حولين كاملين ، لأنه سبحانه يعلم أن هذه الفترة هي المثلي من جميع الوجوه الصحية والنفسية للطفل ( لمن أراد أن يتم الرضاعة ) ، وتثبت البحوث الصحية والنفسية اليوم أن فترة عامين ضرورية لنمو الطفل نموا سليما من الوجهة الصحية والنفسية.
ولكن نعمة الله تعالى على الجماعة الإسلامية لم تنتظر بهم حتى يعلموا هذا من تجاربهم ، فالرصيد الإنساني من ذخيرة الطفولة لم يكن ليترك يأكله الجهل كل هذا الأمد الطويل ، والله رحيم بعباده وخاصة هؤلاء الأطفال الصغار المحتاجين للعطف والرعاية. أ هـ (في ظلال القرآن 1/ 248 )
أ هـ {ماذا يقول أطباء الغرب عن الرضاعة من لبن الأم}(7/63)
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
(7/64)
ولما ذكر الرضاع وكان من تقاديره ما إذا مات الأب ذكر عدة الوفاة لذلك وتتميماً لأنواع العدد فقال. وقال الحرالي : لما ذكر عدة الطلاق الذي هو فرقة الحياة انتظم برأس آيته ذكر عدة الوفاة الذي هو فراق الموت واتصل بالآية السابقة لما انجر في ذكر الرضاع من موت الوالد وأمر الوارث وكذلك كل آية تكون رأساً لها متصلان متصل بالرأس النظير لها المنتظمة به ومتصل بالآية السابقة قبلها بوجه ما- انتهى. فقال : {والذين} أي وأزواج الذين {يتوفون منكم} أي يحصل وفاتهم بأن يستوفي أنفسهم التي كانت عارية في أبدانهم الذي أعارهم إياها. قال الحرالي : من الوفاة وهو استخلاص الحق من حيث وضع ، إن الله عز وجل نفخ الروح وأودع النفس ليستوفيها بعد أجل من حيث أودعها فكان ذلك توفياً تفعلاً من الوفاء وهو أداء الحق {ويذرون} من الوذر وهو أن يؤخذ المرء عما شأنه إمساكه {أزواجاً} بعدهم. ولما أريد تأكيد التربص مراعاة لحق الأزواج وحفظاً لقلوب الأقارب واحتياطاً للنكاح أتى به في صيغة الخبر الذي من شأنه أن يكون قد وجد وتمّ فقال : {يتربصن} أي ينتظرن أزواجهن لانقضاء العدة. ولما كان الممنوع إنما هو العقد والتعرض له بالأفعال دون طلبه بالتعريض قال معبراً بالنفس لذلك وللتنبيه على أن العجلة عن ذلك إنما تكون شهوة نفسانية بهيمية ليكون ذلك حاوياً على البعد عنها : {بأنفسهن} فلا يبذلنها لزوج ولا يخرجن من منزل الوفاة ويتركن الزينة وكل ما للنفس فيه شهوة تدعو إلى النكاح كما بينت ذلك السنّة {أربعة أشهر وعشراً} إن كن حرائر ولم يكن حمل سواء كانت صغيرة أو كبيرة تحيض أو لا ، ابتداؤها من حين الوفاة لأنها السبب وغلب الليالي فأسقط التاء لأن أول الشهر الليل {فإذا بلغن أجلهن} ولما كان الله سبحانه وتعالى قد جعل المسلمين كالجسد الواحد وكان الكلام في أزواج الموتى أعلم سبحانه وتعالى بأنه يجب على إخوانهم المسلمين من حفظ حقوقهم ما كانوا يحفظونه لو كانوا(7/65)
أحياء بقوله : {فلا جناح عليكم} أي يا أهل الدين {فيما} ولما كان لا بد من إذن المرأة وقد تأذن للقاضي على رغم الولي عند عضله مثلا أسند الفعل إليهن فقال : {فعلن في أنفسهن} أي من النكاح ومقدماته التي كانت ممنوعة منها بالإحداد ، ولا يحمل هذا على المباشرة ليكون دليلاً على - إنكاح المرأة نفسها لمعارضة آية {ولا تعضلوهن} المتأيدة بالسنّة. ولما كان ذلك قد لا يكون على وجه شرعي قال : {بالمعروف} لينصرف إلى الكامل فلا يكون في ذلك شوب نكارة ، فإن فعلن ما ينكر كان على الناس الجناح بترك الأمر كما عليهن بالفعل ؛ وأجمع الفقهاء غير أبي مسلم الأصفهاني على أن هذه الآية ناسخة لآية العدة بالحول ، والتقدم في التلاوة لا يمنع التأخر في النزول لأن الترتيب ليس على ترتيب النزول - نقل ذلك الشمس الأصفهاني ، ويرد عليه ما سيأتي نقله له عن مجاهد.
ولما كان التقدير : فالله حد لكم هذه الحدود فاحفظوها عطف عليه قوله محذراً من التهاون في شيء منها في أنفسهم أو من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في حق غيرهم : {والله} أي الذي له صفات الكمال {بما تعملون} من سر وعلانية. ولما كان هنا من أمر العدة ما لم تعرفه العرب قبل فربما أنكرته القلوب لكونها لم تفهم سره وكان أمر النكاح إن قيد بالمعروف باطناً ختم بقوله {خبير} أي يعلم خفايا البواطن كما يعلم ظواهرها فاحذروا مخالفته وأطيعوا أمره. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 442 ـ 443}
قال الفخر :
قوله : {والذين} مبتدأ ولا بد له من خبر ، واختلفوا في خبره على أقوال
الأول : أن المضاف محذوف والتقدير ، وأزواج الذين يتوفون منكم يتربصن
والثاني : وهو قول الأخفش التقدير : يتربصن بعدهم إلا أنه أسقط لظهوره كقوله : السمن منوان بدرهم وقوله تعالى : {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور} [ الشورى : 43 ]
(7/66)
والثالث : وهو قول المبرد : والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً ، أزواجهم يتربصن ، قال : وإضمار المبتدأ ليس بغريب قال تعالى : {قُلْ أَفَأُنَبّئُكُم بِشَرّ مّن ذلكم النار} [ الحج : 72 ] يعني هو النار ، وقوله : {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ} [ يوسف : 18 ].
فإن قيل : أنتم أضمرتم ههنا مبتدأ مضافاً ، وليس ذلك شيئاً واحداً بل شيئان ، والأمثلة التي ذكرتم المضمر فيها شيء واحد.
{لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِى البلاد * متاع قَلِيلٌ} [ آل عمران : 196 ، 197 ] والمعنى : تقلبهم متاع قليل الرابع : وهو قول الكسائي والفراء ، أن قوله تعالى : {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ} مبتدأ ، إلا أن الغرض غير متعلق ههنا ببيان حكم عائد إليهم ، بل ببيان حكم عائد إلى أزوجهم ، فلا جرم لم يذكر لذلك المبتدأ خبراً ، وأنكر المبرد والزجاج ذلك ، لأن مجىء المبتدأ بدون الخبر محال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 107 ـ 108}
قال ابن عاشور :
ويتوفون مبني للمجهول ، وهو من الأفعال التي التزمت العرب فيها البناء للمجهول مثل عني واضطر ، وذلك في كل فعل قد عرف فاعله ما هو ، أو لم يعرفوا له فاعلاً معيناً.
وهو من توفاه الله أو توفاه الموت فاستعمال التوفي منه مجاز ، تنزيلاً لعمر الحي منزلة حق للموت ، أو لخالق الموت ، فقالوا : توفى فلان كما يقال : توفى الحق ونظيره قبض فلان ، وقبض الحق فصار المراد من توفى : مات ، كما صار المراد من قبض وشاع هذا المجاز حتى صار حقيقة عرفية وجاء الإسلام فقال الله تعالى : {الله يتوفى الأنفس} [ الزمر : 42 ] وقال : {حتى يتوفاهن الموت} [ النساء : 15 ] وقال : {قل يتوفاكم ملك الموت} [ السجدة : 11 ] فظهر الفاعل المجهول عندهم في مقام التعليم أو الموعظة ، وأبقي استعمال الفعل مبنياً للمجهول فيما عدا ذلك إيجازاً وتبعاً للاستعمال.
(7/67)
وقوله : {يتربصن بأنفسهن} خبر ( الذين ) وقد حصل الربط بين المبتدأ والخبر بضمير {يتربصن} ، العائد إلى الأزواج ، الذي هو مفعول الفعل المعطوف على الصلة ، فهن أزواج المتوفين ؛ لأن الضمير قائم مقام الظاهر ، وهذا الظاهر قائم مقام المضاف إلى ضمير المبتدأ ، بناء على مذهب الأخفش والكسائي من الاكتفاء في الربط بعود الضمير على اسم مضاف إلى مثل العائد ، وخالف الجمهور في ذلك ، كما في "التسهيل" و"شرحه" ، ولذلك قدروا هنا : ( ويذرون أزواجاً يتربصن ) بعدهم كما قالوا : "السَّمْن مَنَوَانِ بِدِرْهَم" أي منه ، وقيل : التقدير : وأزواج الذين يتوفون منكم إلخ يتربصن ، بناء على أنه حذف لمضاف ، وبذلك قدر في "الكشاف" داعي إليه كما قال التفتازاني ، وقيل التقدير : ومما يتلى عليكم حكم الذين يتوفون منكم ، ونقل ذلك عن سيبويه ، فيكون {يتربصن} : استئنافاً ، وكلها تقديرات لا فائدة فيها بعد استقامة المعنى.
وقوله : {يتربصن بأنفسهن} تقدم بيانه عند قوله تعالى : {والمطلقات يتربصن بأنفسهن} [ البقرة : 228 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 441 ـ 442}
لطيفة
قال الخطيب الشربينى
حكي عن أبي الأسود الدؤلي أنه كان يمشي خلف جنازة فقال له رجل : من المتوفِّى ؟ بكسر الفاء فقال الله : وكان أحد الأسباب الباعثة لعلي رضي الله تعالى عنه على أن أمره أن يضع كتاباً في النحو ، لكن يجوز الكسر على معنى أنه مستوف أجله ، ويدل له قوله تعالى : {والذين يتوفون} بفتح الياء على قراءة شاذة نقلت عن علي ، أي : يستوفون آجالهم. أ هـ {السراج المنير حـ 1 صـ 242}
فائدة جليلة
قال الفخر :
قوله : {وَعَشْرًا} مذكور بلفظ التأنيث مع أن المراد عشرة أيام ، وذكروا في العذر عنه وجوهاً(7/68)
الأول : تغليب الليالي على الأيام وذلك أن ابتداء الشهر يكون من الليل ، فلما كانت الليالي هي الأوائل غلبت ، لأن الأوائل أقوى من الثواني ، قال ابن السكيت : يقولون صمنا خمساً من الشهر ، فيغلبون الليالي على الأيام ، إذ لم يذكروا الأيام ، فإذا أظهروا الأيام قالوا صمنا خمسة أيام
الثاني : أن هذه الأيام أيام الحزن والمكروه ، ومثل هذه الأيام تسمى بالليالي على سبيل الاستعارة ، كقولهم : خرجنا ليالي الفتنة ، وجئنا ليالي إمارة الحجاج والثالث : ذكره المبرد ، وهو أنه إنما أنث العشر لأن المراد به المدة ، معناه وعشر مدد ، وتلك المدة كل مدة منها يوم وليلة الرابع : ذهب بعض الفقهاء إلى ظاهر الآية ، فقال : إذا انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليال حلت للأزواج ، فيتأول العشرة بالليالي ، وإليه ذهب الأوزاعي وأبو بكر الأصم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 108}
وقال ابن عاشور :
وتأنيث اسم العدد في قوله : {وعشراً} لمراعاة الليالي ، والمراد : الليالي بأيامها ؛ إذ لا تكون ليلة بلا يوم ولا يوم بلا ليلة ، والعرب تعتبر الليالي في التاريخ والتأجيل ، يقولون : كتب لسبع خلون في شهر كذا ، وربما اعتبروا الأيام كما قال تعالى : {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} [ البقرة : 196 ] وقال : {أياماً معدودات} [ البقرة : 184 ] لأن عمل الصيام إنما يظهر في اليوم لا في الليلة.
قال في "الكشاف" : والعرب تجري أحكام التأنيث والتذكير في أسماء الأيام إذا لم تجر على لفظ مذكور ، بالوجهين قال تعالى : {يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوماً} [ طه : 103 104 ] فأراد بالعشر : الأيام ومع ذلك جردها من علامة تذكير العدد ، لأن اليوم يعتبر مع ليلته.
(7/69)
وقد جعل الله عدة الوفاة منوطة بالأمد الذي يتحرك في مثله الجنين تحركاً بيناً ، محافظة على أنساب الأموات ؛ فإنه جعل عدة الطلاق ما يدل على براءة الرحم دلالة ظنية وهو الأقراء على ما تقدم ؛ لأن المطلق يعلم حال مطلقته من طهر وعدمه ، ومن قربانه إياها قبل الطلاق وعدمه ، وكذلك العلوق لا يخفى فلو أنها ادعت عليه نسباً وهو يوقن بانتفائه ، كان له في اللعان مندوحة ، أما الميت فلا يدافع عن نفسه ، فجعلت عدته أمداً مقطوعاً بانتفاء الحمل في مثله وهو الأربعة الأشهر والعشرة ، فإن الحمل يكون نطفة أربعين يوماً ، ثم علقة أربعين يوماً ، ثم مضغة أربعين يوماً ، ثم ينفخ فيه الروح ، فما بين استقرار النطفة في الرحم إلى نفخ الروح في الجنين أربعة أشهر ، وإذ قد كان الجنين عقب نفخ الروح فيه يقوى تدريجاً ، جعلت العشر الليالي الزائدة على الأربعة الأشهر ، لتحقق تحرك الجنين تحركاً بيناً ، فإذا مضت هذه المدة حصل اليقين بانتفاء الحمل ؛ إذ لو كان ثمة حمل لتحرك لا محالة ، وهو يتحرك لأربعة أشهر ، وزيدت عليها العشر احتياطاً لاختلاف حركات الأجنة قوة وضعفاً ، باختلاف قوى الأمزجة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 442}
وقال القرطبى :
(7/70)
قال الخَطّابيّ : قوله {وَعَشْراً} يريد والله أعلم الأيام بلياليها. وقال المبرد : إنما أنث العشر لأن المراد به المدّة. والمعنى وعشر مدد ، كل مدّة من يوم وليلة ، فالليلة مع يومها مدّة معلومة من الدهر. وقيل : لم يقل عشرة تغليباً لحكم الليالي إذ الليلة أسبق من اليوم والأيام في ضمنها. "وَعَشْراً" أخف في اللفظ ؛ فتغلّب الليالي على الأيام إذا اجتمعت في التاريخ ، لأن ابتداء الشهور بالليل عندالاستهلال ، فلما كان أوّل الشهر الليلة غلب الليلة ؛ تقول : صمنا خمساً من الشهر ؛ فتغلب الليالي وإن كان الصوم بالنهار. وذهب مالك والشافعي والكوفيّون إلى أن المراد بها الأيام والليالي. قال ابن المنذر : فلو عقد عاقد عليها النكاح على هذا القول وقد مضت أربعة أشهر وعشر ليالي كان باطلاً حتى يمضي اليوم العاشر. وذهب بعض الفقهاء إلى أنه إذا انقضى لها أربعة أشهر وعشر ليالي حلت للأزواج ، وذلك لأنه رأى العدّة مبهمة فغلّب التأنيث وتأوّلها على الليالي. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 183}
فائدة
روي عن أبي العالية أن الله سبحانه إنما حد العدة بهذا القدر لأن الولد ينفخ فيه الروح في العشر بعد الأربعة ، وهو أيضاً منقول عن الحسن البصري. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 108}
فصل في ابتداء هذه المدَّة ، فقال بعضهم : ابتداؤها من حين العلم بالوفاة ؛ لقوله تعالى : {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ} والتربص بأنفسهن لا يحصل إلاَّ بقصد التربُّص ، والقصد لا يكون إلا مع العلم.
وقال الأكثرون : ابتداؤها من حيث الموت ؛ لأنَّه سببها ، فلو انقضت المدَّة أو أكثرها ، ثم بلغها خبر الوفاة ، اعتدَّت بما انقضى من المدَّة ، ويدلُّ على ذلك أنَّ الصَّغيرة الَّتي لا علم لها يكفي في انقضاء عدَّتها مضيُّ هذه المدة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 194}
فصل فيمن تستثنى من هذه العدَّة
قال الفخر :
اعلم أن هذه العدة واجبة في كل امرأة مات عنها زوجها إلا في صورتين(7/71)
إحداهما : أن تكون أمة فإنها تعتد عند أكثر الفقهاء نصف عدة الحرة ، وقال أبو بكر الأصم : عدتها عدة الحرائر ، وتمسك بظاهر الآية ، وأيضاً الله تعالى جعل وضع الحمل في حق الحامل بدلاً عن هذه المدة ، ثم وضع الحمل مشترك فيه الحرة والرقيقة ، فكذا الاعتداد بهذه المدة يجب أن يشتركا فيه ، وسائر الفقهاء قالوا : التنصيف في هذه المدة ممكن ، وفي وضع الحمل غير ممكن ، فظهر الفرق.
الصورة الثانية : أن يكون المراد إن كانت حاملاً فإن عدتها تنقضي بوضع الحمل ، فإذا وضعت الحمل حلت ، وإن كان بعد وفاة الزوج بساعة ، وعن علي عليه السلام : تتربص أبعد الأجلين ، والدليل عليه القرآن والسنة.
أما القرآن فقوله تعالى : {وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} [ الطلاق : 4 ] ومن الناس من جعل هذه الآية مخصصة لعموم قوله تعالى : {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا} والشافعي لم يقل بذلك لوجهين الأول : أن كل واحدة من هاتين الآيتين أعم من الأخرى من وجه وأخص منها من وجه ، لأن الحامل قد يتوفى عنها زوجها وقد لا يتوفى ، كما أن التي توفى عنها زوجها قد تكون حاملاً وقد لا تكون ، ولما كان الأمر كذلك امتنع جعل إحدى الآيتين مخصصة للأخرى والثاني : أن قوله : {وأولات الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} إنما ورد عقيب ذكر المطلقات ، فربما يقول قائل : هي في المطلقة لا في المتوفى عنها زوجها.
(7/72)
فلهذين السببين لم يعول الشافعي في الباب على القرآن ، وإنما عول على السنة ، وهي ما روى أبو داود بإسناده أن سبيعة بنت الحرث الأسلمية كانت تحت سعد بن خولة ، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فولدت بعد وفاة زوجها بنصف شهر ، فلما طهرت من دمها تجملت للخطاب ، فقال لها بعض الناس : ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر ، قالت سبيعة : فسألت النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي ، فأمرني بالتزوج إن بدا لي ، إذا عرفت هذا الأصل فههنا تفاريع الأول : لا فرق في عدة الوفاة بين الصغيرة والكبيرة وقال ابن عباس : لا عدة عليها قبل الدخول وهذا قول متروك لأن الآية عامة في حق الكل.
الحكم الثاني : إذا تمت أربعة أشهر وعشر انقضت عدتها ، وإن لم تر عادتها من الحيض فيها وقال مالك : لا تنقضي عدتها حتى ترى عادتها من الحيض في تلك الأيام ، مثلاً إن كانت عادتها أن تحيض في كل شهر مرة فعليها في عدة الوفاة أربع حيض ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل شهرين مرة فعليها حيضتان ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل أربعة أشهر مرة فعليها حيضة واحدة ، وإن كانت عادتها أن تحيض في كل خمسة أشهر مرة فههنا تكفيها الشهور حجة الشافعي رحمه الله أن هذه الآية دلت على أنه تعالى أمر المتوفى عنها زوجها بهذه المدة ولم يزد على هذا القدر فوجب أن يكون هذا القدر كافياً ، ثم قال الشافعي : إنها إن ارتابت استبرأت نفسها من الريبة ، كما أن ذات الإقراء لو ارتابت وجب عليها أن تحتاط.
(7/73)
الحكم الثالث : إذا مات الزوج فإن كان بقي من شهر الوفاة أكثر من عشرة أيام فالشهر الثاني والثالث والرابع يؤخذ بالأهلة سواء خرجت كاملة أو ناقصة ، ثم تكمل الشهر الأول بالخامس ثلاثين يوماً ، ثم تضم إليها عشرة أيام ، وإن مات وقد بقي من الشهر أقل من عشرة أيام اعتبر أربعة أشهر بعد ذلك بالأهلة وكمل العشر من الشهر السادس. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 108 ـ 109}
فائدة
قال الفخر :
المراد من تربصها بنفسها الامتناع عن النكاح ، والامتناع عن الخروج من المنزل الذي توفي زوجها فيه : والامتناع عن التزين وهذا اللفظ كالمجمل لأنه ليس فيه بيان أنها تتربص في أي شيء إلا أنا نقول : الامتناع عن النكاح مجمع عليه ، وأما الامتناع عن الخروج من المنزل فواجب إلا عند الضرورة والحاجة ، وأما ترك التزين فهو واجب ، لما روي عن عائشة وحفصة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث ليال إلا على زوج أربعة أشهر وعشراً " وقال الحسن والشعبي : هو غير واجب لأن الحديث يقتضي حل الإحداد لا وجوبه والله أعلم.
واحتجوا بما روي عن أسماء بنت عميس قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " وتلبثي ثلاثاً ثم اصنعي ما شئت ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 109 ـ 110}
سؤال : ما الحكمة من كون عدة المرأة أربعة أشهر وعشرا عند وفاة زوجها ؟ .
الجواب : الحمد لله
أولا : معرفة الحكمة من أمر الله أو أمر رسوله صلى الله عليه وسلم له طريقان : (7/74)
الأول : أن تكون الحكمة قد ورد النص عليها في الكتاب أو السنة كقوله تعالى : ( وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ ) البقرة/143 ، وقوله تعالى : ( رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً ) النساء/165 . وكقوله صلى الله عليه وسلم : ( فَزُورُوا الْقُبُورَ فَإِنَّهَا تُذَكِّرُ الْمَوْتَ ) رواه مسلم (976) .
فهذا وأمثاله كثير مما جاءت فيه الحكمة منصوصا عليها.
والثاني : أن يستخرجها العلماء عن طريق الاستنباط والاجتهاد ، وهذا قد يكون صوابا ، وقد يكون خطأ ، وقد تخفى الحكمة على كثير من الناس ، والمطلوب من المؤمن التسليم لأمر الله تعالى وامتثاله في جميع الأحوال ، مع الاعتقاد الجازم بأن الله تعالى حكيم ، له الحكمة التامة والحجة البالغة ، لا يُسأل عما يفعل وهم يُسألون .
ثانيا : أمر الله تعالى المرأة أن تعتد لوفاة زوجها أربعة أشهر وعشرا ، فقال : ( وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ) البقرة/234 ، ولم ينص سبحانه على الحكمة من ذلك نصا صريحا ، فاستنبط أهل العلم ما رأوه حكمة تتناسب مع قواعد الشريعة العامة في حفظ الأنساب والأعراض .
(7/75)
قال ابن كثير رحمه الله في تفسيره : " وقد ذكر سعيد بن المسيب ، وأبو العالية وغيرهما ، أن الحكمة في جعل عدة الوفاة أربعة أشهر وعشراً ، لاحتمال اشتمال الرحم على حمل ، فإذا انتُظر به هذه المدة ، ظهر إن كان موجوداً ، كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين وغيرهما : ( إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح ) فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر ، والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور ، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه ، والله أعلم .
قال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة : سألت سعيد بن المسيب : ما بال العشر ؟ قال : فيه ينفخ الروح ، وقال الربيع بن أنس : قلت لأبي العالية : لم صارت هذه العشر مع الأشهر الأربعة ؟ قال : لأنه ينفخ فيه الروح ، رواهما ابن جرير " انتهى .
وقال الشوكاني رحمه الله في "فتح القدير" : " ووجه الحكمة في جعل العدة للوفاة هذا المقدار أن الجنين الذكر يتحرك في الغالب لثلاثة أشهر ، والأنثى لأربعة ، فزاد الله سبحانه على ذلك عشراً ، لأن الجنين ربما يضعف عن الحركة فتتأخر حركته قليلاً ولا تتأخر عن هذا الأجل " انتهى .
وينظر : زاد المسير لابن الجوزي (1/275) ، إعلام الموقعين (2/52).
وينبغي التنبه إلى أنه لا يجوز الخروج عن الحكم الشرعي استنادا للحكمة المستنبطة ، فليس لقائل أن يقول : إذا كانت الحكمة من العدة هي التأكد من وجود الحمل أو عدمه ، فإن الطب الحديث يمكنه معرفة ذلك في بداية الحمل فلا حاجة لاعتداد المرأة هذه المدة . ليس له ذلك ، لأن الحكمة المذكورة أمر أخذه العلماء بالاستنباط والاجتهاد ، وقد يكون خطأ ، أو يكون جزءا من الحكمة لا تمامها ، فلا يجوز ترك الأمر المقطوع به ، المجمع عليه ، لحكمة مستنبطة يعتريها الخطأ. والله أعلم. أ هـ {الإسلام سؤال وجواب}(7/76)
سؤال : هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأزْوَاجِهِم مَتَاعاً إِلَى الْحَولِ غَيرَ إِخْرَاج} [ البقرة : 240 ]
فإن قيل : فهي متقدمة والناسخ يجب أن يكون متأخراً ، قيل هو في التنزيل متأخر ، وفي التلاوة متقدم.
فإن قيل : فَلِمَ قُدِّم في التلاوة مع تأخره في التنزيل ؟ قيل : ليسبق القارىء إلى تلاوته ومعرفة حكمه حتى إن لم يقرأ ما بعده من المنسوخ أجزأه. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 303}
قوله تعالى : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ}
قال ابن عاشور :
وقوله : {فإذا بلغن أجلهن} أي إذا انتهت المدة المعينة بالتربص ، أي إذا بلغن بتربصهن تلك المدة ، وجعل امتداد التربص بلوغاً ، على وجه الإطلاق الشائع في قولهم بلغ الأمد ، وأصله اسم البلوغ وهو الوصول ، استعير لإكمال المدة تشبيهاً للزمان بالطريق الموصلة إلى المقصود.
والأجل مدة من الزمن جعلت ظرفاً لإيقاع فعل في نهايتها أو في أثنائها تارة.
وضمير {أجلهن} للأزواج اللائي توفي عنهن أزواجهن ، وعرف الأجل بالإضافة إلى ضميرهن دون غير الإضافة من طرق التعريف لما يؤذن به إضافة أجل من كونهن قضين ما عليهن ، فلا تضايقوهن بالزيادة عليه.
وأسند البلوغ إليهن وأضيف الأجل إليهن ، تنبيهاً على أن مشقة هذا الأجل عليهن.
ومعنى الجناح هنا : الحرج ، لإزالة ما عسى أن يكون قد بقي في نفوس الناس من استفظاع تسرع النساء إلى التزوج بعد عدة الوفاة وقبل الحول ، فإن أهل الزوج المتوفى قد يتحرجون من ذلك ، فنفى الله هذا الحرج ، وقال : {فيما فعلن في أنفسهن} تغليظاً لمن يتحرج من فعل غيره ، كأنه يقول لو كانت المرأة ذات تعلق شديد بعهد زوجها المتوفى ، لكان داعي زيادة تربصها من نفسها ، فإذا لم يكن لها ذلك الداعي ، فلماذا التحرج مما تفعله في نفسها.(7/77)
ثم بين الله ذلك وقيده بأن يكون من المعروف نهياً للمرأة أن تفعل ما ليس من المعروف شرعاً وعادة ، كالإفراط في الحزن المنكر شرعاً وعادة ، أو التظاهر بترك التزوج بعد زوجها ، وتغليظاً للذين ينكرون على النساء تسرعهن للتزوج بعد العدة ، أو بعد وضع الحمل ، كما فعلت سبيعة أي فإن ذلك من المعروف. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 446}
سؤال : فإن قيل : فما المعنى في رفع الجناح عن الرجال في بلوغ النساء أجلهن ؟
ففيه جوابان :
أحدهما : أن الخطاب تَوَجّه إلى الرجال فيما يلزم النساء من أحكام العِدّة ، فإذا بلغن أجلهن ارتفع الجناح عن الرجال في الإنكار عليهن وأخذهن بأحكام عددهن.
والثاني : أنه لا جناح على الرجال في نكاحهن بعد انقضاء عِدَدِهن. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 303}
وقال الفخر :
وأما قوله تعالى : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ} فالمعنى إذا انقضت هذه المدة التي هي أجل العدة فلا جناح عليكم قيل الخطاب مع الأولياء لأنهم الذين يتولون العقد ، وقيل : الخطاب مع الحكام وصلحاء المسلمين ، وذلك لأنهن إن تزوجن في مدة العدة وجب على كل واحد منعهن عن ذلك إن قدر على المنع ، فإن عجز وجب عليه أن يستعين بالسلطان ، وذلك لأن المقصود من هذه العدة أنه لا يؤمن اشتمال فرجها على ماء زوجها الأول ، وفي الآية وجه ثالث وهو أنه {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} تقديره : لا جناح على النساء وعليكم ، ثم قال : {فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ بالمعروف} أي ما يحسن عقلاً وشرعاً لأنه ضد المنكر الذي لا يحسن ، وذلك هو الحلال من التزوج إذا كان مستجمعاً لشرائط الصحة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 110}
سؤال : فإن قلت : كيف لا تلتفت الشريعة على هذا إلى ما في طباع النساء من الحزن على وفاة أزواجهن ؟ وكيف لا تبقى بعد نسخ حزن الحول الكامل مدة ما يظهر فيها حال المرأة ؟ وكيف تحل الحامل للأزواج لو وضعت حملها وزوجها لما يوضع عن سريره كما وقع في قول عمر ؟ (7/78)
قلت : كان أهل الجاهلية يجعلون إحداد الحول فرضاً على كل متوفى عنها ، والأزواج في هذا الحزن متفاوتات ، وكذلك هن متفاوتات في المقدرة على البقاء في الانتظار لقلة ذات اليد في غالب النساء ، فكن يصبرن على انتظار الحول راضيات أو كارهات ، فلما أبطل الشرع ذلك فيما أبطل من أوهام الجاهلية ، لم يكترث بأن يشرع للنساء حكماً في هذا الشأن ، ووكله إلى ما يحدث في نفوسهن وجِدَتهن ، كما يوكل جميع الجبليات والطبيعيات إلى الوجدان ؛ فإنه لم يعين للناس مقدار الأكلات والأسفار والحديث ونحو هذا ، وإنما اهتم بالمقصد الشرعي وهو حفظ الأنساب ، فإذا قضى حقه فقد بقي للنساء أن يفعلن في أنفسهن ما يشأن من المعروف ، كما قال : {فلا جناح عليكم فيما فعلن} فإذا شاءت المرأة بعد انقضاء العدة أن تحبس نفسها فلتفعل.
أما الأزواج غير المدخول بهن فعليهن عدة الوفاة دون عدة الطلاق لعموم هذه الآية ، ولأن لهن الميراث ، فالعصمة تقررت بوجه معتبر ، حتى كانت سبب إرث ، وعدم الدخول بالزوجة لا ينفي احتمال أن يكون الزوج قد قاربها خفية ، إذ هي حلال له ، فأوجب عليها الاعتداد احتياطاً لحفظ النسب ، ولذلك قال مالك ، وإن كان للنظر فيه مجال ، فقد تقاس المتوفى عنها زوجها الذي لم يدخل بها على التي طلقها زوجها قبل أن يمسها ، التي قال الله تعالى فيها : {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها} [ الأحزاب : 49 ].
وقد ذكروا حديث بروع بنت واشق الأشجعية ، رواه الترمذي عن معقل بن سنان الأشجعي : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في بروع بنت واشق وقد مات زوجها ، ولم يفرض لها صداقاً ، ولم يدخل بها أن لها مثل صداق نسائها ، وعليها العدة ولها الميراث ولم يخالف أحد في وجوب الاعتداد عليها ، وإنما اختلفوا في وجوب مهر المثل لها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 445 ـ 446}
فصل
قال الفخر :
(7/79)
بقي في الآية مسائل :
المسألة الأولى : تمسك بعضهم في وجوب الإحداد على المرأة بقوله تعالى : {فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ} فإن ظاهره يقتضي أن يكون المراد منه ما تنفرد المرأة بفعله ، والنكاح ليس كذلك ، فإنه لا يتم إلا مع الغير فوجب أن يحمل ذلك على ما يتم بالمرأة وحدها من التزين والتطيب وغيرهما.
المسألة الثانية : تمسك أصحاب أبي حنيفة بهذه الآية في جواز النكاح بغير ولي ، قالوا : إنها إذا زوجت نفسها وجب أن يكون ذلك جائزاً لقوله تعالى : {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ} وإضافة الفعل إلى الفاعل محمول على المباشرة ، لأن هذا هو الحقيقة في اللفظة ، وتمسك أصحاب الشافعي رضي الله تعالى عنه في أن هذا النكاح لا يصح إلا من الولي لأن قوله : {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} خطاب مع الأولياء ولولا أن هذا العقد لا يصح إلا من الولي وإلا لما صار مخاطباً بقوله : {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} وبالله التوفيق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 110 ـ 111}
فائدة
قال القرطبى :
في هذه الآية دليل على أن للأولياء منعهن من التبرُّج والتشوّف للزوج في زمان العِدّة. وفيها ردّ على إسحاق في قوله : إن المطلقة إذا طعنت في الحيضة الثالثة بانت وانقطعت رجعة الزوج الأوّل ، إلاَّ أنه لا يحل لها أن تتزوّج حتى تغتسل. وعن شُريك أن لزوجها الرجعة ما لم تغتسل ولو بعد عشرين سنة ؛ قال الله تعالى : {فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ} وبلوغ الأجل هنا انقضاء العدّة بدخولها في الدّم من الحيضة الثالثة ولم يذكر غسلاً ؛ فإذا انقضت عدّتها حلّت للأزواج ولا جناح عليها فيما فعلت من ذلك. والحديث عن ابن عباس لو صَحّ يحتمل أن يكون منه على الاستحباب ، والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 187}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية(7/80)
لمّا كان حق الميت أعظم لأن فراقه لم يكن بالاختيار كانت مدة الوفاء له أطول. وكانت عدة الوفاة في ابتداء الإسلام سَنَةً ، ثم رُدت إلى أربعة أشهر وعشرة أيام لتتحقق براءة الرحم عن ماء الزوج ، ثم إذا انقضت العدة أبيح لها التزوج بزوجٍ آخر. والميت لا يستديم وفاءه إلى آخر العمر أحدٌ كما قيل :
وكما تَبْلى وجوهٌ في الثرى... فكذا يَبْلَى عليهن الحَزَن. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 185}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ...}.
قال ابن عرفة : وتقدم لنا فيه سؤال وهو أن يقال : ما الفائدة في زيادة ( منكم ) ولو أسقط لكان اللَّفظ أعم فائدة ؟ كما تقدم لنا الجواب عنه بقول بعضهم : إن العام إذا قيد بشيء غالب أمره أنه يتخصص به ، وقد يكون تقييده موجبا لتأكيد عمومه كهذه الآية ، فإن توهّم وقوع المخالفة ممن لم يدرك النبي صلى الله عليه وسلم ( من المؤمنين ) أشد من توهّم وقوع المخالفة ممن أدركه منهم فإذا خوطب بذلك من أدركه فأحرى من سواهم ، ف ( منكم ) تأكيد لا تخصيص. وأجيب أيضا بأنّ ( منكم ) تخصيص لا تأكيد.
والمراد من المسلمين الحاضرين والغائبين وغلب فيها ضمير المخاطبين على غيرهم ويكون في الآية على هذا دليل على أنّ الكفار غير مخاطبين بفروع الشريعة.
فإن قلت : ما فائدة قوله : " بِأَنْفُسِهِنَّ " ؟
قلت : فائدته التنبيه على مجاهدة النفس بمنعها شهواتها وتحملها الصبر على النكاح حتى تنقضي العدة.
فإن قلت : ظاهر الآية أن يكون التربص مقصودا لها. والمذهب على أنها إذا لم تعلم بوفاة زوجها إلاّ بعد مضي العدة فإنّها تجزيها تلك ولا تستأنف عدة أخرى بوجه ؟ (7/81)
قلنا : الأغلب في النساء معرفة - وكذلك المذهب - في الأربعة أشهر وعشرا أنها تكفي بشرط أن تحيض فيها حيضة وهو الأعم الأغلب في النساء فإن لم تحض ( واسترابت ) رفعت إلى تسعة أشهر فإن زالت عنها الرّيبة فقد انقضت عدتها وإن ( استرابت ) بحس بطن فإنّها تمكث أقصى أمد الحمل ، ولهذا قال في المدونة : والعدة في الطلاق بعد الرّيبة وفي الوفاة قبل الريبة.
قوله تعالى : {أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً...}.
قيل : أراد عشر ليال بأيامها وغلب اللّيالي لأنها أسبق.
الزمخشري : ولا تراهم فقط يستعملون التّذكير فيه ذاهبين إلى الأيام تقول : صمت عشرا ، ولو ذُكرت خرجت من كلامهم.
قال المبرّد : وعشر مدد كل مدة منها يوم وليلة.
وتعقبه أبو حيان بأنه لا حاجة إلى ذكر اللّيالي والعدد لأنهم مضوا على أن المعدود إذا كان مذكرا أو حذفته فلك في العدد وجهان إما التذكير الفصيح أو التأنيث.
قال ابن عرفة : كان الشيوخ يحكون عن شيوخهم خلافا فيمن يشتري سلعة بعشرة دارهم وفي تونس القديم والجديد فكان سيدى الشيخ الفقيه أبو محمد عبد الله الزواوي يفتي بأن له أن يعطيه عنها ثمانية دراهم جديدة لأن غالب حال الناس التعامل بالجديد وهو الأكثر.
وكان الشيخ الفقيه القاضي أبو القاسم بن زيتون يقول أسماء العدد نصوص فما يعطيه إلا عشرة دراهم قديمة كما وقع العقد بينهما.
قلت : وذكرت هذا بعينه في سورة العنكبوت. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 304}(7/82)
أسئلة وأجوبة
قوله تعالى : "فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن بالمعروف" وفى الآية الأخرى بعد : "والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم" فيهما ثلاث سؤالات.
الأول : ما وجه التعريف فى قوله"بالمعروف" والتنكير فى الثانية فى قوله"من معروف" ؟ والثانى : ما وجه خصوص الأول بالباء والثانى بمن ؟
والثالث : ما وجه تعقيب الأولى بقوله"والله بما تعملون خبير" والثانية بقوله"والله عزيز حكيم" ؟
والجواب عن الأول : أن الواقع فى الآية الأولى من قوله تعالى : " والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن فى أنفسهن أربعة أشهر وعشرا" ثم قال"فإذا بلغن أجلهن" أى باستيفائهن أربعة أشهر والعشر والمراد يخرجن عند ذلك من تمام الأجل المضروب لعدتهن فهذا كله بما تقتضيه"إذا" قد أحرز أمدا محدودا معلوم القدر معروف الغاية يتقيد به خروجهن فناسبه التعريف فى قوله تعالى"فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن بالمعروف" أن المعلوم من موجب الشرع.
وأما قوله تعالى فى الآية الأخرى"فإن خرجن" ولم يذكر بلوغ الأجل وليس التقييد الحاصل من"إن" بلوغ الأمد المضروب قبل وهو الحول مثل التقييد الحاصل من الظرف المستقبل الذى هو"إذا" إذ ليست"إن"كـ"إذا" ، ألا ترى أنك تقول : أقوم إذا قام زيد فيقتضى من قيامك هذا أن قيامك مرتبط بقيامه ولا يتقدم عليه ولا يتأخر عنه بل يعاقبه على الاتصال وأما إذا قلت : أقوم إن قام زيد فأقصى ما يقتضى هذا أن قيامك بعد قيامه وقد يكون عقبه وقد يتأخر عنه فإنما يحصل من"أن" التقييد بالاستقبال دون اقتضاء تعقيب أو مباعدة فحصل فى ظاهر اللفظ إبهام من جهتين :
إحداهما كون الأجل لم يذكر بلوغه والثانية ما تقتضيه"إن" على ما بين فناسبه التنكير فى قوله"من معروف".
(7/83)
فإن قيل : الحول المذكور فى قوله تعالى فى أول الآية"متاعا إلى الحول" معلوم التوقف وهو كأن الأجل المضروب لهن فى العدة قبل أن ينسخ الأربعة أشهر والعشر وقد اتصل بقوله "فإن خرجن" قوله"فلا جناح عليكم فيما فعلن فى أنفسهن" وذلك منبئ أعنى قوله"فلا جناح عليكم" برفع الحرج وأنهن لم يقع منهن معصية فى الخروج وإنما ذلك لخروجهن عند الأمد فقد تقيد خروجهن بوقت معلوم وهو تمام الحول فارتفع الإبهام
قلت : بقى رعى المناسبة مما يتأكد التفاته فوضح ورود كل من العبارتين على مايجب من المناسبة.
وجواب ثان وهو أن قوله فى الآية الأولى"بالمعروف"المراد به الوجه الذى لا ينكره الشرع ولا يمنعه ولهذا وصل الفعل ههنا بالباء والإحالة على متقرر معلوم وهو الشرع فورد معرفا بأداة العهد وعدى "فعلن" بالباء ثم جاءت الآية الثانية لتأخرها فى التلاوة مشيرة إلى تفصيل ما يفعلن فى أنفسهن من التزين والتعرض للخطاب وما يجارى ذلك من معروف مما ليس بمنكر شرعا والتنكير هنا محرز للمعنى المقصود ومن للتبعيض وهو تفسير وكأن قد قيل فى الوجه المباح لهن الذى لا يمنعه الشرع فجووب بتفصيل مشير إلى أنه ليس وجها واحدا لا يتعدينه بل لهن أن يتزين ويتعرض للخطاب ويفصحن بما يطلبنه من صداق وغير ذلك من مصالحهن المباحة لهن شرعا فهذا موضع من وموضع التنكير والأول موضوع الباء والتعريف بحسب ما قصد فى كل من الموضعين على ما تقدم وقد وضح جواب السؤالين.
(7/84)
والجواب عن السؤال الثالث أن تعقيب الأولى بقوله تعالى"والله بما تعملون خبير" مناسب لما قبله من تأمينهن على أنفسهن فيما يلزمهن فى مدة العدة المذكورة من إحداد وما يتعلق به وفيما يفعلن بعده فإن أضمرن أو كتمن شيئا لا يجوز فعلم الله سبحانه محيط بذلك وهو الخبير به ولما وقع فى الآية بعد قوله"فإن خرجن" وقام فيه احتمال أن يخرجن غير طائعات فيستعجلن أو يتعدين ناسبه ذكر قدرته سبحانه عليهن بالمعاقبة بما شاء أو العفو عن مرتكبهن فهو العزيز الذى لا مغالب له والذى لا يفوته هارب ولا يغيب عنه شئ. أ هـ {ملاك التأويل صـ 93 ـ 94}(7/85)
فصل : في حكم عدة المتوفي عنها زوجها والإحداد.
وفيه مسائل
المسألة الأولى : عدة المتوفى عنها زوجها أربعة أشهر وعشر وعدة الأمة على نصف عدة الحرة شهران وخمسة أيام ، وبه قال جمهور العلماء ، وقال أبو بكر الأصم : عدة الأمة كعدة الحرائر وتمسك بظاهر هذه الآية ، وعدة الحامل بوضع الحمل سواء فيه الحرة والأمة ، ولو وضعت بعد وفاة زوجها بلحظة حل لها أن تتزوج ، ويدل على هذا ما روي عن سبيعة الأسلمية أنها كانت تحت سعد بن خولة وهو من بني عامر بن لؤي ، وكان ممن شهد بدراً ، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فلم تلبث أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تعلت من نفاسها تجملت للخطاب فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك رجل من بني عبد الدار فقال : ما لي أراك تجملت للخطاب لعلك ترجين النكاح وإنك والله ما أنت بناكح حتى تمر بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر. قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت وأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي ، أخرجاه في الصحيحين ، وفيه قال ابن شهاب : ولا أرى بأساً أن تتزوج حين وضعت وإن كانت في دمها غير أنه لا يقربها حتى تطهر ، فعلى هذا حكم الآية عام في كل من توفي عنها زوجها بأن تعتد أربعة أشهر وعشراً ، ثم خصص من هذا العموم أولات الأحمال بهذا الحديث وبقوله تعالى : {وأولات الأحمال أجلهن أن يضعن حملهن}.(7/86)
المسألة الثانية : يجب على من توفي عنها زوجها الإحداد ، وهو ترك الزينة والطيب ودهن الرأس بكل دهن والحكل المطيب ، فإن اضطرت إلى كحل فيه زينة فيرخص لها ، وبه قال مالك وأبو حنيفة. وقال الشافعي : تكتحل به بالليل وتمسحه بالنهار. عن أم سلمة قالت : " دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حين توفي أبو سلمة وقد جعلت عليّ صبراً فقال : ما هذا يا أم سلمة ؟ قلت : إنما هو صبر يا رسول الله ليس فيه طيب ، فقال : إنه يشب الوجه فلا تجعليه إلاّ بالليل وتنزعيه بالنهار ولا تمتشطي بالطيب ولا بالحناء فإنه خضاب. قلت : بأي شيء أمتشط يا رسول الله ؟ قال : بالسدر تغلفين به رأسك " أخرجه أبو داود وللنسائي نحوه. قوله " فإنه يشب الوجه " أي يوقده ويحسنه وبنوره من شب النار إذا أوقدها. قوله " تغلفين به رأسك " أي تلطخين به رأسك والتغلف هو الغمرة على وجه المرأة وكذا رأسها إذا لطخته بشيء فأكثرت منه. ولا يجوز لها لبس الديباج والحرير والحلي والمصبوغ للزينة كالأحمر والأصفر ويجوز لها لبس ما صبغ لغير الزينة كالأسود والأزرق ، ويجوز لها أن تلبس البياض من الثياب والصوف والوبر
عن زينب بنت أبي سلمة قالت : دخلت على أم حبيبة زوج النبي صلى الله عليه وسلم حين توفي أبوها أبو سفيان بن حرب فدعت أم حبيبة بطيب فيه صفرة خلوق أو غيره فدهنت به جارية ثم مست بعارضيها ثم قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدَّ على ميت فوق ثلاث إلاّ على زوج أربعة أشهر وعشراً " قالت زينب : ثم دخلت على زينب بنت جحش حين توفي أخوها فدعت بطيب فمست منه ثم قالت : والله ما لي بالطيب من حاجة غير أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول على المنبر : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدّ على ميت فوق ثلاث إلاّ على زوج أربعة عشر شهراً "
(7/87)
عن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحدَّ على ميت فوق ثلاث إلاّ على زوجها أربعة أشهر وعشراً "
ولا نكتحل ولا نتطيب ولا نلبس ثوباً مصبوغاً إلاّ ثوب عصب وقد رخص لنا عند الطهر إذا اغتسلت إحدانا من حيضتها في نبذة من كست أظفار " قولها : إلاّ ثوب عصب العصب بالعين والصاد المهملتين من البرود الذي صبغ غزله قبل النسج. قولها : نبذة من كست. النبذة الشيء اليسير. والكست لغة في القسط وهو شيء معروف يتبخر به. عن أم سلمة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لا تلبس المتوفى عنها زوجها المعصفرة من الثياب ولا الممشقة ولا الحلي ولا تختضب ولا تكتحل ولا تطيب " أخرجه أبو داود. قولها : ولا الممشقة الثياب. الممشقة هي المصبوغة بالمشق وهي المغرة ، عن نافع : " أن صفية بنت عبدالله اشتكت عينها وهي حادٌّ على زوجها ابن عمر فلم تكتحل حتى كادت عيناها ترمضان " أخرجه مالك في الموطأ.
المسألة الثالثة : اختلفوا في أن هذه المدة سببها الوفاة أو العلم بالوفاة ، فقال بعضهم : ما لم تعلم بوفاة زوجها لا تعتد بانقضاء الأيام في العدة ، واحتجوا على ذلك بأن الله تعالى قال : {يتربصن بأنفسهن} وذلك لا يحل إلاّ بالقصد إلى التربص ولا يحل ذلك إلاّ مع العلم. قال الجمهور : السبب هو الموت فلو انقضت المدة أو أكثرها أو بعضها ثم بلغها خبر موت الزوج وجب أن تعتد بما انقضى ويدل على ذلك أن الصغيرة التي لا علم لها يكفي في انقضاء عدتها هذه المدة. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 161 ـ 162}
بحث نفيس للعلامة ابن القيم فى الفرق بين مدة الإحداد على الزوج وغيره
قال رحمه الله : (7/88)
وأما قوله : "ومنع المرأة من الإحداد على أمها وأبيها فوق ثلاث وأوجبه على زوجها أربعة أشهر وعشرا وهو أجنبي" فيقال : هذا من تمام محاسن هذه الشريعة وحكمتها ورعايتها لمصالح العباد على أكمل الوجوه فإن الإحداد على الميت من تعظيم مصيبة الموت التي كان أهل الجاهلية يبالغون فيها أعظم مبالغة ويضيفون إلى ذلك شق الجيوب ولطم الخدود وحلق الشعور والدعاء بالويل والثبور وتمكث المرأة سنة في أضيق بيت وأوحشه لا تمس طيبا ولا تدهن ولا تغتسل إلى غير ذلك مما هو تسخط على الرب تعالى وأقداره فأبطل الله سبحانه برحمته ورأفته سنة الجاهلية وأبدلنا بها الصبر ومحمد والاسترجاع الذي هو أنفع للمصاب في عاجلته وآجلته ولما كانت مصيبة الموت لا بد أن تحدث للمصاب من الجزع والألم والحزن مما تتقاضاه الطباع سمح لها الحكيم الخبير في اليسير من ذلك وهو ثلاثة أيام تجدبها نوع راحة وتقضي بها وطرا من الحزن كما رخص للمهاجر أن يقيم بمكة بعد قضاء نسكه ثلاثا وما زاد على الثلاث فمفسدته راجحة فمنع منه بخلاف مفسدة الثلاث فإنها مرجوحة مغمورة بمصلحتها فإن فطام النفوس على مألوفاتها بالكلية من أشق الأمور عليها فأعطيت بعض الشيء ليسهل عليها ترك الباقي فإن النفس إذا أخذت بعض مرادها قنعت به فإن سئلت ترك الباقي كانت إجابتها إليه أقرب من إجابتها لو حرمت بالكلية.
(7/89)
ومن تأمل أسرار الشريعة وتدبر حكمها رأى ذلك ظاهرا على صفحات أوامرها ونواهيها باديا لمن نظره نافذ فإذا حرم عليهم شيئا عوضهم عنه بما هو خير لهم وأنفع وأباح لهم منه ما تدعو حاجتهم إليه ليسهل عليهم تركه كما حرم عليهم بيع الرطب بالتمر وأباح لهم منه العرايا وحرم عليهم النظر إلى الأجنبية وأباح لهم منه نظر الخاطب والمعامل والطبيب وحرم عليهم أكل المال بالمغالبات الباطلة كالنرد والشطرنج وغيرهما وأباح لهم أكله بالمغالبات النافعة كالمسابقة والنضال وحرم عليهم لباس الحرير وأباح لهم منه اليسير الذي تدعو الحاجة إليه وحرم عليهم كسب المال بربا النسيئة وأباح لهم كسبه بالسلم وحرم عليهم في الصيام وطء نسائهم وعوضهم عن ذلك بأن أباحه لهم ليلا فسهل عليهم تركه بالنهار وحرم عليهم الزنا وعوضهم بأخذ ثانية وثالثة ورابعة ومن الإماء ما شاءوا فسهل عليهم تركه غاية التسهيل وحرم عليهم الاستقسام بالأزلام وعوضهم عنه بالاستخارة ودعائها ويا بعد ما بينهما وحرم عليهم نكاح أقاربهم وأباح لهم منه بنات العم والعمة والخال والخالة وحرم عليهم وطء الحائض وسمح لهم في مباشرتها وأن يصنعوا بها كل شيء إلا الوطء فسهل عليهم تركه غاية السهولة وحرم عليهم الكذب وأباح لهم المعاريض التي لا يحتاج من عرفها إلى الكذب معها البتة وأشار إلى هذا صلى الله عليه وسلم بقوله : "إن في المعاريض مندوحة عن الكذب" وحرم عليهم الخيلاء بالقول والفعل وأباحها لهم في الحرب لما فيها من المصلحة الراجحة الموافقة لمقصود الجهاد وحرم عليهم كل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير وعوضهم عن ذلك بسائر أنواع الوحوش والطير على اختلاف أجناسها وأنواعها وبالجملة فما حرم عليهم خبيثا ولا ضارا إلا أباح لهم طيبا بإزائه أنفع لهم منه ولا أمرهم بأمر إلا وأعانهم عليه فوسعتهم رحمته ووسعهم تكليفه.
(7/90)
والمقصود أنه أباح للنساء لضعف عقولهن وقلة صبرهن الإحداد على موتاهن ثلاثة أيام وأما الإحداد على الزوج فإنه تابع للعدة وهو من مقتضياتها ومكملاتها فإن المرأة إنما تحتاج إلى التزين والتجمل والتعطر لتتحبب إلى زوجها وترد لها نفسه ويحسن ما بينهما من العشرة فإذا مات الزوج واعتدت منه وهي لم تصل إلى زوج آخر فاقتضى تمام حق الأول وتأكيد المنع من الثاني قبل بلوغ الكتاب أجله أن تمنع مما تصنعه النساء لأزواجهن مع ما في ذلك من سد الذريعة إلى طمعها في الرجال وطمعهم فيها بالزينة والخضاب والتطيب فإذا بلغ الكتاب أجله صارت محتاجة إلى ما يرغب في نكاحها فأبيح لها من ذلك ما يباح لذات الزوج فلا شيء أبلغ في الحسن من هذا المنع والإباحة ولو اقترحت عقول العالمين لم تقترح شيئا أحسن منه. أ هـ {إعلام الموقعين حـ 2 صـ 165 ـ 167}(7/91)
قوله تعالى : {وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما حد سبحانه وتعالى هذه المدة لمنعهن عن الرجال بين أن التعريض بالخطبة ليس داخلاً في المنع فقال : {ولا جناح عليكم} أي إثم يميل {فيما عرضتم به} أي قلتموه وأنتم تقصدون ما هو بعيد عنه كأنه في جانب وهو في جانب آخر لا يتأدى إليه إلا بدورة كأنت جميلة أو نافعة ، وأنا عازم على أن أتزوج ، وعسى أن ييسر الله لي قرينة صالحة وقال الحرالي : من التعريض وهو تفعيل من العرض والعرض وهو إلقاء القول عرضاً أي ناحية على غير قصد إليه وصمد نحوه - انتهى. والفرق بينه وبين الكناية أنه كلام ظاهر في معنى يقصد به غير معناه الظاهر فلا يفهم المراد إلا بالقرائن ، كقول المحتاج : جئت لأسلم عليك وأنظر وجهك الكريم ، ويسمى التلويح أيضاً ، والكناية ذكر اللازم وإرادة الملزوم ، وقد أفهم نوط الحل بالتعريض تحريم التصريح المقابل له وللكناية ، والصريح اسم لما هو ظاهر المراد عند السامع بحيث يسبق إلى فهمه المراد ولا يسبق غيره عند الإطلاق {من خطبة} وهي الخطاب في قصد التزوج. وقال الحرالي : هي هيئة الحال فيما بين الخاطب والمخطوبة التي النطق عنها هو الخطبة بالضم {النساء} المتوفى عنهن أزواجهن ومن أشبههن في طلاق بائن بالثلاث أو غيرها.
(7/92)
ولما أحل له التعريض وكان قد يعزم على التصريح إذا حل له ذلك نفى عنه الحرج فيه بقوله {أو أكننتم} أي أضمرتم {في أنفسكم} من تصريح وغيره سواء كان من شهوات النفس أو لا. قال الحرالي : من الكن - بالفتح - وهو الذي من معناه الكن - بالكسر - وهو ما وارى بحيث لا يوصل به إلى شيء. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 434 ـ 444}
قال الفخر :
التعريض في اللغة ضد التصريح ، ومعناه أن يضمن كلامه ما يصلح للدلالة على مقصوده ويصلح للدلالة على غير مقصوده إلا أن إشعاره بجانب المقصود أتم وأرجح وأصله من عرض الشيء وهو جانبه كأنه يحوم حوله ولا يظهره ، ونظيره أن يقول المحتاج للمحتاج إليه : جئتك لأسلم عليك ولأنظر إلى وجهك الكريم ولذلك قالوا :
وحسبك بالتسليم مني تقاضياً.. والتعريض قد يسمى تلويحاً لأنه يلوح منه ما يريد والفرق بين الكناية والتعريض أن الكناية أن تذكر الشيء بذكر لوازمه ، كقولك : فلان طويل النجاد ، كثير الرماد ، والتعريض أن تذكر كلاماً يحتمل مقصودك ويحتمل غير مقصودك إلا أن قرائن أحوالك تؤكد حمله على مقصودك ، وأما الخطبة فقال الفراء : الخطبة مصدر بمنزلة الخطب وهو مثل قولك : أنه لحسن القعدة والجلسة تريد العقود والجلوس وفي اشتقاقه وجهان الأول : أن الخطب هو الأمر ، والشأن يقال : ما خطبك ، أي ما شأنك ، فقولهم : خطب فلان فلانة ، أي سألها أمراً وشأناً في نفسها الثاني : أصل الخطبة من الخطاب الذي هو الكلام ، يقال : خطب المرأة خطبة لأنه خاطب في عقد النكاح ، وخطب خطبة أي خاطب بالزجر والوعظ والخطب : الأمر العظيم ، لأنه يحتاج فيه إلى خطاب كثير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 111}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {ما عرضتم به} ما موصولة ، وما صْدَقها كلام ، أي كلام عرضتم به ، لأن التعريض يطلق على ضرب من ضروب المعاني المستفادة من الكلام ، وقد بينه بقوله : {من خطبة النساء} فدل على أن المراد كلام.
(7/93)
ومادة فعَّل فيه دالة على الجعل مثل صوَّر ، مشتقة من العرض بضم العين وهو الجانب أي جعل كلامه بجانب ، والجانب هو الطرف ، فكأن المتكلم يحيد بكلامه من جادة المعنى إلى جانب.
ونظير هذا قولهم جَنَبَه ، أي جعله في جانب.
فالتعريض أن يريد المتكلم من كلامه شيئاً ، غير المدلول عليه بالتركيب وضعاً ، لمناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود ، مع قرينة على إرادة المعنى التعريضي ، فعلم ألا بد من مناسبة بين مدلول الكلام وبين الشيء المقصود ، وتلك المناسبة : إما ملازمة أو مماثلة ، وذلك كما يقول العافى لرجل كريم : جئت لأسلم عليك ولأنظر وجهك ، وقد عبر عن إرادتهم مثل هذا أمية بن أبي الصلت في قوله :
إذَا أَثَنى عليكَ المرءُ يوماً
كفاهُ عن تَعَرُّضه الثَّنَاء...
وجعل الطيبي منه قوله تعالى : {وإذا قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [ المائدة : 116 ].
فالمعنى التعريضي في مثل هذا حاصل من الملازمة ، وكقول القائل "المسلم من سلم المسلمون من لسانه" في حضرة من عرف بأذى الناس ، فالمعنى التعريضي حاصل من علم الناس بمماثلة حال الشخص المقصود للحالة التي ورد فيها معنى الكلام ، ولما كانت المماثلة شبيهة بالملازمة لأن حضور المماثل في الذهن يقارن حضور مثيله صح أن نقول إن المعنى التعريضي بالنسبة إلى المركبات شبيه بالمعنى الكنائي بالنسبة إلى دلالة الألفاظ المفردة ، وإن شئت قلت : المعنى التعريضي من قبيل الكناية بالمركب فخص باسم التعريض كما أن المعنى الكنائي من قبيل الكناية باللفظ المفرد ، وعلى هذا فالتعريض من مستتبعات التراكيب ، وهذا هو الملاقى لما درج عليه صاحب "الكشاف" في هذا المقام ، فالتعريض عنده مغاير للكناية من هذه الجهة وإن كان شبيهاً بها ، ولذلك احتاج إلى الإشارة إلى الفرق بينهما ، فالنسبة بينهما عنده التباين.
(7/94)
وأما السكاكي فقد جعل بعض التعريض من الكناية وهو الأصوب ، فصارت النسبة بينهما العموم والخصوص الوجهي ، وقد حمل الطيبي والتفتازاني كلام "الكشاف" على هذا ، ولا إخاله يتحمله.
وإذ قد تبين لك معنى التعريض ، وعلمت حد الفرق بينه وبين الصريح فأمثلة التعريض والتصريح لا تخفى. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 450 ـ 451}
فصل
قال الفخر :
النساء في حكم الخطبة على ثلاثة أقسام
أحدها : التي تجوز خطبتها تعريضاً وتصريحاً وهي التي تكون خالية عن الأزواج والعدد لأنه لما جاز نكاحها في هذه الحالة فكيف لا تجوز خطبتها ، بل يستثنى عنه صورة واحدة ، وهي ما روى الشافعي عن مالك عن نافع عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا يخطبن أحدكم على خطبة أخيه " ثم هذا الحديث وإن ورد مطلقاً لكن فيه ثلاثة أحوال.
الحالة الأولى : إذا خطب امرأته فأجيب إليه صريحاً ههنا لا يحل لغيره أن يخطبها لهذا الحديث.
الحالة الثانية : إذا وجد صريح الإباء عن الإجابة فههنا يحل لغيره أن يخطبها.
الحالة الثالثة : إذا لم يوجد صريح الإجابة ولا صريح الرد للشافعي ههنا قولان أحدهما : أنه يجوز للغير خطبتها ، لأن السكوت لا يدل على الرضا والثاني : وهو القديم وقول مالك : أن السكوت وإن لم يدل على الرضا لكنه لا يدل أيضاً على الكراهة ، فربما كانت الرغبة حاصلة من بعض الوجوه فتصير هذه الخطبة الثانية مزيلة لذلك القدر من الرغبة.
القسم الثاني : التي لا تجوز خطبتها لا تصريحاً ولا تعريضاً ، وهي ما إذا كانت منكوحة للغير لأن خطبته إياها ربما صارت سبباً لتشويش الأمر على زوجها من حيث أنها إذا علمت رغبة الخاطب فربما حملها ذلك على الامتناع من تأدية حقوق الزوج ، والتسبب إلى هذا حرام ، وكذا الرجعة فإنها في حكم المنكوحة ، بدليل أنه يصح طلاقها وظاهرها ولعانها ، وتعتد منه عدة الوفاة ، ويتوارثان.
(7/95)
القسم الثالث : أن يفصل في حقها بين التعريض والتصريح وهي المعتدة غير الرجعية وهي أيضاً على ثلاثة أقسام :
القسم الأول : التي تكون في عدة الوفاة فتجوز خطبتها تعريضاً لا تصريحاً ، أما جواز التعريض فلقوله تعالى : {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النساء} وظاهره أنه للمتوفى عنها زوجها ، لأن هذه الآية مذكورة عقيب تلك الآية ، أما أنه لا يجوز التصريح ، فقال الشافعي : لما خصص التعريض بعدم الجناح وجب أن يكون التصريح بخلافه ، ثم المعنى يؤكد ذلك ، وهو أن التصريح لا يحتمل غير النكاح ، فلا يؤمن أن يحملها الحرص على النكاح على الإخبار عن انقضاء العدة قبل أوانها بخلاف التعريض فإنه يحتمل غير ذلك فلا يدعوها ذلك إلى الكذب.
القسم الثاني : المعتدة عن الطلاق الثلاث ، قال الشافعي رحمه الله في "الأم" : ولا أحب التعريض لخطبتها ، وقال في "القديم" و"الإملاء" : يجوز لأنها ليست في النكاح ، فأشبهت المعتدة عن الوفاة وجه المنع هو أن المعتدة عن الوفاة يؤمن عليها بسبب الخطبة الخيانة في أمر العدة فإن عدتها تنقضي بالأشهر أما ههنا تنقضي عدتها بالإقراء فلا يؤمن عليها الخيانة بسبب رغبتها في هذا الخاطب وكيفية الخيانة هي أن تخبر بانقضاء عدتها قبل أن تنقضي.
القسم الثالث : البائن التي يحل لزوجها نكاحها في عدتها ، وهي المختلعة والتي انفسخ نكاحها بعيب أو عنة أو إعسار نفقته فههنا لزوجها التعريض والتصريح ؛ لأنه لما كان له نكاحها في العدة فالتصريح أولى وأما غير الزوج فلا شك في أنه لا يحل له التصريح وفي التعريض قولان أحدهما : يحل كالمتوفى عنها زوجها والمطلقة ثلاثاً والثاني : وهو الأصح أنه لا يحل لأنها معتدة تحل للزوج أن ينكحها في عدتها فلم يحل التعريض لها كالرجعية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 111 ـ 112}
قال ابن عطية :
(7/96)
أجمعت الأمة على أن الكلام مع المعتدة بما هو نص في تزويجها وتنبيه عليه لا يجوز ، وكذلك أجمعت على أن الكلام معها بما هو رفث وذكر جماع أو تحريض عليه لا يجوز . وجوز ما عدا ذلك ، ومن أعظمه قرباً إلى التصريح قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس : " كوني عند أم شريك ولا تسبقيني بنفسك " . ومن المجوز قول الرجل : إنك لإلى خير ، وإنك لمرغوب فيك ، وإني لأرجو أن أتزوجك ، وإن يقدر أمر يكن ، هذا هو تمثيل مالك وابن شهاب وكثير من أهل العلم في هذا ، وجائز أن يمدح نفسه ويذكر مآثره على جهة التعريض بالزواج ، وقد فعله أبو جعفر محمد بن علي بن حسين ، واحتج بأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله مع أم سلمة ، والهدية إلى المعتدة جائزة ، وهي من التعريض ، قاله سحنون وكثير من العلماء .
قال القاضي أبو محمد : وقد كره مجاهد أن يقول لا تسبقيني بنفسك ، ورآه من المواعدة سراً ، وهذا عندي على أن يتأول قول النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس إنه على جهة الرأي لها فيمن يتزوجها لا أنه أرادها لنفسه ، وإلا فهو خلاف لقوله صلى لله عليه وسلم. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 315}
فائدة
قال الشافعي : والتعريض كثير ، وهو كقوله : رب راغب فيك ، أو من يجد مثلك ؟ أو لست بأيم وإذا حللت فأدريني ، وذكر سائر المفسرين من ألفاظ التعريض : إنك لجميلة وإنك لصالحه ، وإنك لنافعة ، وإن من عزمي أن أتزوج ، وإني فيك لراغب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 112}
فائدة
قال القرطبى : (7/97)
استدلت الشافعية بهذه الآية على أن التعريض لا يجب فيه حَدٌّ ؛ وقالوا : لما رفع الله تعالى الحرج في التعريض في النكاح دَلّ على أن التعريض بالقَذْف لا يوجب الحدّ ؛ لأنّ الله سبحانه لم يجعل التعريض في النكاح مقام التصريح. قلنا هذا ساقط لأن الله سبحانه وتعالى لم يأذن في التصريح بالنكاح في الخِطبة ، وأذن في التعريض الذي يفهم منه النكاح ، فهذا دليل على أن التعريض يفهم منه القذف ؛ والأعراض يجب صيانتها ، وذلك يوجب حدّ المعرِّض ؛ لئلا يتطرّق الفَسَقة إلى أخذ الأعراض بالتعريض الذي يفهم منه ما يفهم بالتصريح. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 190}
قوله تعالى : {أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ} فاعلم أن الإكنان الإخفاء والستر قال الفراء : للعرب في أكننت الشيء أي سترته لغتان : كننته وأكننته في الكن وفي النفس بمعنى ، ومنه : {مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ} [ النمل : 74 ] ، و{بَيْضٌ مَّكْنُونٌ} [ الصافات : 49 ] وفرق قوم بينهما ، فقالوا : كننت الشيء إذا صنته حتى لا تصيبه آفة ، وإن لم يكن مستوراً يقال : در مكنون ، وجارية مكنونة ، وبيض مكنون ، مصون عن التدحرج وأما أكننت فمعناه أضمرت ، ويستعمل ذلك في الشيء الذي يخفيه الإنسان ويستره عن غيره ، وهو ضد أعلنت وأظهرت ، والمقصود من الآية أنه لا حرج في التعريض للمرأة في عدة الوفاة ولا فيما يضمره الرجل من الرغبة فيها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 112 ـ 113}
وقال أبو حيان : (7/98)
{أو أكننتم في أنفسكم} أي : أخفيتم في أنفسكم من أمر النكاح فلم تعرضوا به ولم يصرّحوا بذكر ، وكان المعنى رفع الجناح عمن أظهر بالتعريض أو ستر ذلك في نفسه ، وإذا ارتفع الحرج عمن تعرض باللفظ فأحرى أن يرتفع عمن كتم ، ولكنهما حالة ظهور وإخفاء عفى عنهما ، وقيل : المعنى أنه يعقد قلبه على أنه سيصرّح بذلك في المستقبل بعد انقضاء العدة ، فأباح الله التعريض ، وحرم التصريح في الحال ، وأباح عقد القلب على التصريح في المستقبل.
ولا يجوز أن يكون الإكنان في النفس هو الميل إلى المرأة ، لأنه كان يكون من قبيل إيضاح الواضحات ، لأن التعريض بالخطبة أعظم حالاً من ميل القلب.
{علم الله أنكم ستذكرونهن} هذا عذر في التعريض ، لأن الميل متى حصل في القلب عسر دفعه ، فأسقط الله الحرج في ذلك ، وفيه طرف من التوبيخ ، كقوله : " علم الله أنكم كنتم تختانون " وجاء الفعل بالسين التي تدل على تقارب الزمان المستقبل لا تراخيه ، لأنهن يذكرن عندما انفصلت حبالهن من أزواجهن بالموت ، وتتوق إليهن الأنفس ، ويتمنى نكاحهن.
وقال الحسن ، معنى : ستذكرونهن ، كأنه قال : إن لم تنهوا. انتهى.
وقوله : ستذكرونهن ، شامل لذكر اللسان وذكر القلب ، فنفى الحرج عن التعريض وهو كسر اللسان ، وعن الإخفاء في النفس وهو ذكر القلب. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 236}
فائدة
قال ابن عاشور : (7/99)
أخر الإكنان في الذكر للتنبيه على أنه أفضل وأبقى على ما للعدة من حرمة ، مع التنبيه على أنه نادر وقوعه ، لأنه لو قدمه لكان الانتقال من ذكر الإكنان إلى ذكر التعريض جارياً على مقتضى ظاهر نظم الكلام في أن يكون اللاَّحق زائد المعنى على ما يشمله الكلام السابق ، فلم يتفطن السامع لهذه النكتة ، فلما خولف مقتضى الظاهر علم السامع أن هذه المخالفة ترمي إلى غرض ، كما هو شأن البليغ في مخالفة مقتضى الظاهر ، وقد زاد ذلك إيضاحاً بقوله عقبه : {علم الله أنكم ستذكرونهن} أي علم أنكم لا تستطيعون كتمان ما في أنفسكم ، فأباح لكم التعريض تيسيراً عليكم ، فحصل بتأخير ذكر {أو أكنتم} فائدة أخرى وهي التمهيد لقوله : {علم الله أنكم ستذكرونهن} وجاء النظم بديعاً معجزاً ، ولقد أهمل معظم المفسرين التعرض لفائدة هذا العطف ، وحاول الفخر توجيهه بما لا ينثلج له الصدر ووجهه ابن عرفة بما هو أقرب من توجيه الفخر ، ولكنه لا تطمئن له نفس البليغ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 452 ـ 453}
سؤال : فإن قيل : إن التعريض بالخطبة أعظم حالاً من أن يميل قلبه إليها ولا يذكر شيئاً فلما قدم جواز التعريض بالخطبة كان قوله بعد ذلك : {أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ} جارياً مجرى إيضاح الواضحات.
(7/100)
قلنا : ليس المراد ما ذكرتم بل المراد منه أنه أباح التعريض وحرم التصريح في الحال ، ثم قال : {أَوْ أَكْنَنتُمْ فِى أَنفُسِكُمْ} والمراد أنه يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك في المستقبل ، فالآية الأولى إباحة للتعريض في الحال ، وتحريم للتصريح في الحال ، والآية الثانية إباحة لأن يعقد قلبه على أنه سيصرح بذلك بعد انقضاء زمان العدة ، ثم أنه تعالى ذكر الوجه الذي لأجله أباح ذلك ، فقال : {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ} لأن شهوة النفس إذا حصلت في باب النكاح لا يكاد يخلو ذلك المشتهي من العزم والتمني ، فلما كان دفع هذا الخاطر كالشيء الشاق أسقط تعالى عنه هذا الحرج وأباح له ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 113}
قوله تعالى : {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّا}
قال أبو حيان :
{علم الله أنكم ستذكرونهن} هذا عذر في التعريض ، لأن الميل متى حصل في القلب عسر دفعه ، فأسقط الله الحرج في ذلك ، وفيه طرف من التوبيخ ، كقوله : " علم الله أنكم كنتم تختانون " وجاء الفعل بالسين التي تدل على تقارب الزمان المستقبل لا تراخيه ، لأنهن يذكرن عندما انفصلت حبالهن من أزواجهن بالموت ، وتتوق إليهن الأنفس ، ويتمنى نكاحهن.
وقال الحسن ، معنى : ستذكرونهن ، كأنه قال : إن لم تنهوا. انتهى.
وقوله : ستذكرونهن ، شامل لذكر اللسان وذكر القلب ، فنفى الحرج عن التعريض وهو كسر اللسان ، وعن الإخفاء في النفس وهو ذكر القلب.
قال الزمخشري ، فإن قلت ، أين المستدرك بقوله : {ولكن لا تواعدوهن} ؟ .
قلت ، هو محذوف لدلالة : {ستذكرونهن} عليه {علم الله أنكم ستذكرونهن} فاذكروهن {ولكن لا تواعدوهن سرا} انتهى كلامه.
(7/101)
وقد ذكرنا أنه لا يحتاج إلى تقدير محذوف قبل لكن ، بل الاستدراك جاء من قبل قوله : ستذكرونهن ، ولم يأمر الله تعالى بذكر النساء ، لا على طريق الوجوب ، ولا الندب ، فيحتاج إلى تقدير : فاذكروهن ، على ما قررناه قبل قولك : سألقاك ولكن لا تخف مني ، لما كان اللقاء من بعض أحواله أن يخاف من الملقي استدرك فقال : ولكن لا تخف مني. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 236}
سؤال : ما معنى السر ؟ .
والجواب : أن السر ضد الجهر والإعلان ، فيحتمل أن يكون السر ههنا صفة المواعدة على شيء : ولا تواعدوهن مواعدة سرية ويحتمل أن يكون صفة للموعود به على معنى ولا تواعدوهن بالشيء الذي يكون موصوفاً بوصف كونه سراً ، أما على التقدير الأول وهو أظهر التقديرين ، فالمواقعة بين الرجل وبين المرأة على وجه السر لا تنفك ظاهراً عن أن تكون مواعدة بشيء من المنكرات ،
وههنا احتمالات
الأول : أن يواعدها في السر بالنكاح فيكون المعنى أن أول الآية إذن في التعريض بالخطبة وآخر الآية منع عن التصريح بالخطبة
الثاني : أن يواعدها بذكر الجماع والرفث ، لأن ذكر ذلك بين الأجنبي والأجنبية غير جائز ، قال تعالى لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم : {فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول} [ الأحزاب : 32 ] أي لا تقلن من أمر الرفث شيئاً {فَيَطْمَعَ الذى فِى قَلْبِهِ مَرَضٌ} [ الأحزاب : 32 ]
الثالث : قال الحسن : {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} بالزنا طعن القاضي في هذا الوجه ، وقال : إن المواعدة محرمة بالإطلاق فحمل الكلام ما يخص به الخاطب حال العدة أولى.
والجواب : روى الحسن أن الرجل يدخل على المرأة ، وهو يعرض بالنكاح فيقول لها : دعيني أجامعك فإذا أتممت عدتك أظهرت نكاحك ، فالله تعالى نهى عن ذلك
الرابع : أن يكون ذلك نهياً عن أن يسار الرجل المرأة الأجنبية ، لأن ذلك يورث نوع ريبة فيها
الخامس : أن يعاهدها بأن لا يتزوج أحداً سواها.
أما إذا حملنا السر على الموعود به ففيه وجوه(7/102)
الأول : السر الجماع قال امرؤ القيس :
وأن لا يشهد السر أمثالي.. وقال الفرزدق :
موانع للأسرار إلا من أهلها.. ويخلفن ما ظن الغيور المشغف
أي الذي شغفه بهن ، يعني أنهن عفائف يمنعن الجماع إلا من أزواجهن ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : المراد لا يصف نفسه لها فيقول : آتيك الأربعة والخمسة الثاني : أن يكون المراد من السر النكاح ، وذلك لأن الوطء يسمى سراً والنكاح سببه وتسمية الشيء باسم سببه جائز. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 113 ـ 114}
وقال القرطبى :
اختلف العلماء في معنى قوله تعالى : {سِرّاً} فقيل : معناه نكاحاً ، أي لا يقل الرجل لهذا المعتدة تزوّجيني ؛ بل يعرّض إن أراد ، ولا يأخذ ميثاقها وعهدها ألا تنكح غيره في استسرار وخفية ؛ هذا قول ابن عباس وابن جبير ومالك وأصحابه والشعبيّ ومجاهد وعكرمة والسدّيّ وجمهور أهل العلم. "وسِرّاً" على هذا التأويل نصب على الحال ، أي مستسِرين. وقيل : السر الزنا ، أي لا يكونن منكم مواعدة على الزنا في العدّة ثم التزوّج بعدها. قال معناه جابر بن زيد وأبو مِجْلزَ لاحق بن حُميد ، والحسن بن أبي الحسن وقتادة والنخعيّ والضحاك ، وأن السر في هذه الآية الزنا ، أي لا تواعدوهنّ زنا ، واختاره الطبريّ ؛ ومنه قول الأعشى :
فَلاَ تقرَبَنّ جارةً إنّ سرّها ... عليك حرامٌ فانكحن أو تَأَبَّدا
وقال الحُطَيئة :
ويحرم سِرُّ جارتهم عليهم ... ويأكل جارُهم أنفَ القِصاعِ
وقيل : السر الجِماع ، أي لا تصفوا أنفسكم لهن بكثرة الجماع ترغيباً لهن في النكاح فإنّ ذكر الجماع مع غير الزوج فُحْشٌ ؛ هذا قول الشافعيّ. وقال امرؤ القيس :
ألاَ زعمت بَسْباسة اليومَ أنني ... كبِرْتُ وألاَّ يُحِسن السِرّ أمْثَالِي
وقال رؤبة :
فكُفّ عن إسرارها بعد العَسَقْ ... أي كف عن جماعها بعد ملازمته لذلك. وقد يكون السر عقدة النكاح ، سِرّاً كان أو جهراً ، قال الأعشى :
فلن يطلبوا سِرّها للغِنَى ... ولن يُسْلِموها لإزهادها
(7/103)
وأراد أن يطلبوا نكاحها لكثرة مالها ، ولن يسلموها لقِلة مالها. وقال ابن زيد : معنى قوله {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً} أن لا تنكحوهنّ وتكتمون ذلك ؛ فإذا حلّت أظهرتموه ودخلتم بهن ؛ وهذا هو معنى القول الأوّل ؛ فابن زيد على هذا قائل بالقول الأوّل ؛ وإنما شَذّ في أن سمى العقد مُوَاعَدَةً ، وذلك قَلِقٌ. وحكى مكيّ والثعلبي عنه أنه قال : الآية منسوخة بقوله تعالى : {وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح}. (1) أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 191}
قال أبو حيان ـ رحمه الله ـ
وأما تفسير {السر} هنا بالزنا فبعيد ، لأنه حرام على المسلم مع معتدة وغيرها. انتهى كلامه
وإذا كان القرآن نهى عن المواعدة بالنكاح سراً وجهراً
فهل يصح القول بالأوجه السابقة ؟؟!!!
والله أعلم بمراده.
قوله تعالى : {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا} ففيه سؤال ، وهو أنه تعالى بأي شيء علق هذا الاستثناء.
وجوابه : أنه تعالى لما أذن في أول الآية بالتعريض ، ثم نهى عن المسارة معها دفعاً للريبة والغيبة استثنى عنه أن يساررها بالقول المعروف ، وذلك أن يعدها في السر بالإحسان إليها ، والاهتمام بشأنها ، والتكفل بمصالحها ، حتى يصير ذكر هذه الأشياء الجميلة مؤكداً لذلك التعريض والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 114}
_____________
(1) لا يخفى ما فى بعض هذه الوجوه من البعد البعيد كالقول بأن المراد من قوله {سرا} هو الجماع أين هذا من الحياء الذى جمل الله به الدين وزين به المسلم والمقام مقام حزن وألم وفراق وتفجع فهل يقتضى هذا المعنى ؟؟!!!
وأبعد من ذلك القول بأن المراد من {السر} فى الآية الزنا.والله أعلم.(7/104)
فائدة نفيسة
قال العلامة ابن عاشور :
فإن قلتم حظر : صريح الخطبة والمواعدة ، وإباحة التعريض بذلك يلوح بصور التعارض ، فإن مآل التصريح والتعريض واحد ، فإذا كان قد حصل بين الخاطب والمعتدة العلم بأنه يخطبها وبأنها توافقه ، فما فائدة تعلق التحريم والتحليل بالألفاظ والأساليب ، إن كان المفاد واحداً قلت : قصد الشارع من هذا حماية أن يكون التعجل ذريعة إلى الوقوع فيما يعطل حكمة العدة ، إذ لعل الخوض في ذلك يتخطى إلى باعث تعجل الراغب إلى عقد النكاح على المعتدة بالبناء بها ؛ فإن دبيب الرغبة يوقع في الشهوة ، والمكاشفة تزيل ساتر الحياء فإن من الوازع الطبيعي الحياء الموجود في الرجل ، حينما يقصد مكاشفة المرأة بشيء من رغبته فيها ، والحياء في المرأة أشد حينما يواجهها بذلك الرجل ، وحينما تقصد إجابته لما يطلب منها ، فالتعريض أسلوب من أساليب الكلام يؤذن بما لصاحبه من وقار الحياء فهو يقبض عن التدرج إلى ما نهي عنه ، وإيذانه بهذا الاستحياء يزيد ما طبعت عليه المرأة من الحياء فتنقبض نفسها عن صريح الإجابة ، بله المواعدة فيبقى حجاب الحياء مسدولاً بينهما وبرقع المروءة غير منضى وذلك من توفير شأن العدة فلذلك رخص في التعريض تيسيراً على الناس ، ومنع التصريح إبقاء على حرمات العدة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 454}
قوله تعالى : {عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان لله سبحانه وتعالى بهذه الأمة عناية عظيمة في التخفيف عنها أعلمها بذلك بقوله على سبيل التعليل : {علم الله} أي بما له من صفات الكمال {أنكم ستذكرونهن} أي في العدة فأذن لكم في ذلك على ما حد لكم.
قال الحرالي : ففيه إجراء الشرعة على الحيلة الخاص بهذه الأمة انتهى.(7/105)
ولما كان التقدير : فاذكروهن ، استثنى منه قوله : {ولكن لا تواعدوهن} أي في ذكركم إياهن {سراً} ولما كان السر يطلق على ما أسر بالفعل وما هو أهل أن يسر به وإن جهر بين أن المراد الثاني وهو السر بالقوة فقال : {إلا أن تقولوا} أي في الذكر لهن {قولاً معروفاً} لا يستحيي منه عند أحد من الناس ، فآل الأمر إلى أن المعنى لا تواعدوهن إلا ما لا يستحيي من ذكره فيسر وهو التعريض ؛ فنصت هذه الآية على تحريم التصريح بعد إفهام الآية الأولى لذلك اهتماماً به لما للنفس من الداعية إليه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 444}
قوله تعالى : {وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كانت عدة الوفاة طويلة فكان حبس النفس فيها عن النكاح شديداً وكانت إباحة التعريض قريبة من الرتع حول الحمى وكان من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه خصها باتباعها النهي عن العقد قبل الانقضاء حملاً على التحري ومنعاً من التجري فقال : {ولا تعزموا} أي تبتّوا أي تفعلوا فعلاً بتاً مقطوعاً به غير متردد فيه {عقدة النكاح} أي النكاح الذي يصير معقوداً للمعتدة عدة هي فيها بائن فضمن العزم البتة ولذلك أسقط " على " وأوقعه على العقدة التي هي من آثاره ولا تتحقق بدونه فكأنه قال : ولا تعزموا على النكاح باقين عقدته ، وهو أبلغ مما لو قيل : ولا تعقدوا النكاح ، فإن النهي عن العزم الذي هو سبب العقد نهي عن العقد بطريق الأولى. قال الحرالي : والعقدة توثيق جمع الطرفين المفترقين بحيث يشق حلها وهو معنى دون الكتب الذي هو وصلة وخرز {حتى يبلغ الكتاب} أي الذي تقدم فيما أنزلت عليكم منه بيان عدة من زالت عصمتها من رجل بوفاه أو طلاق ، أو ما كتب وفرض من العدة {أجله} أي أخر مدته التي ضربها للعدة.
(7/106)
ولما أباح سبحانه وتعالى التعريض وحظر عزم العقدة وغلظ الأمر بتعليقه بالكتاب وبقي بين الطرفين أمور كانت الشهوة في مثلها غالبة والهوى مميلاً غلظ سبحانه وتعالى الزواجر لتقاوم تلك الدواعي فتولى تلك الأمور تهديد قوله تعالى : {واعلموا} أي أيها الراغبون في شيء من ذلك {أن الله} وله جميع الكمال {يعلم ما في أنفسكم} كله {فاحذروه} ولا تعزموا على شر فإنه يلزم من إحاطة العلم إحاطة القدرة.
(7/107)
ولما هددهم بعلمه وكان ذلك النهاية في التهديد وكان كل أحد يعلم من نفسه في النقائص ما يجل عن الوصف أخبرهم بما أوجب الإمهال على ذلك من منه بغفرانه وحلمه حثاً على التوبة وإقامة بين الرجاء والهيبة فقال : {واعلموا أن الله} أي كما اقتضى جلاله العقوبة اقتضى جماله العفو فهو لذلك {غفور} أي ستور لذنوب الخطائين إن تابوا {حليم} لا يعاجل أحد العقوبة فبادروا بالتوبة رجاء غفرانه ولا تغتروا بإمهاله فإن غضب الحليم لكونه بعد طول الأناة لا يطاق ، ويجوز أن يكون التقدير : ولا تصرحوا للنساء المعتدات بعقدة النكاح في عدة من العدد ؛ والسر في تفاوتها أن عدة الوفاة طولت مراعاة للورثة إلى حد هو أقصى دال على براءة الرحم ، لأن الماء يكون فيه أربعين يوماً نطفة ومثلها علقة ومثلها مضغة ثم ينفخ فيه الروح فتلك أربعة أشهر ، وقد تنقص الأشهر أربعة أيام فزيدت عليها وجبرت بما أتم أقرب العقود إليها ؛ وفي صحيح مسلم رضي الله تعالى عنه تقدير المدة الأولى " باثنين وأربعين يوماً " وفي رواية : " خمس وأربعين " وفي رواية : " بضع وأربعين " فإذا حمل البضع على ست وزيد ما قد تنقصه الأشهر صارت أربعة أشهر وعشراً ؛ ولم تزد على ذلك مراعاة للمرأة لما قيل : إنه يقل صبر النساء بعد ذلك ، واقتصر في الاستبراء على قرء وهو أقل دال على براءة الرحم لأن السيد يكون مخالطاً للأمة غالباً فيشق الصبر ، وثلثت عدة الحرة جرياً على سنة الشارع في الاستظهار بالتثليث مع زوال علة الإسراع من المخالطة ، ولأن أكثر الطلاق رجعي فربما كان عن غيظ فمدت ليزول فيتروى ، وكانت عدة الأمة من الطلاق بين الاستبراء وعدة الحرة لما تنازعها من حق السيد المقتضي للقصر وحق الزوج المقتضي للطول مع عدم إمكان التصنيف - والله سبحانه وتعالى أعلم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 444 ـ 445}
قال الفخر :
اعلم أن في لفظ العزم وجوهاً
(7/108)
الأول : أنه عبارة عن عقد القلب على فعل من الأفعال ، قال تعالى : {فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله} [ آل عمران : 159 ] واعلم أن العزم إنما يكون عزماً على الفعل ، فلا بد في الآية من إضمار فعل ، وهذا اللفظ إنما يعدى إلى الفعل بحرف على فيقال : فلان عزم على كذا إذا ثبت هذا كان تقدير الآية : ولا تعزموا على عقدة النكاح ، قال سيبويه : والحذف في هذه الأشياء لا يقاس ، فعلى هذا تقدير الآية : ولا تعزموا عقدة النكاح أن تقدروها حتى يبلغ الكتاب أجله والمقصود منه المبالغة في النهي عن النكاح في زمان العدة فإن العزم متقدم على المعزوم عليه ، فإذا ورد النهي عن العزم فلأن يكون النهي متأكداً عن الإقدام على المعزوم عليه أولى.
القول الثاني : أن يكون العزم عبارة عن الإيجاب ، يقال : عزمت عليكم ، أي أوجبت عليكم ويقال : هذا من باب العزائم لا من باب الرخص ، وقال عليه الصلاة والسلام : " عزمة من عزمات ربنا " وقال : " إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه " ولذلك فإن العزم بهذا المعنى جائز على الله تعالى ، وبالوجه الأول لا يجوز.
إذا عرفت هذا فنقول : الإيجاب سبب الوجود ظاهراً ، فلا يبعد أن يستفاد لفظ العزم في الوجود وعلى هذا فقوله : {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح} أي لا تحققوا ذلك ولا تنشئوه ، ولا تفرغوا منه فعلاً ، حتى يبلغ الكتاب أجله ، وهذا القول هو اختيار أكثر المحققين.
القول الثالث : قال القفال رحمه الله : إنما لم يقل ولا تعزموا على عقدة النكاح ، لأن المعنى : لا تعزموا عليهن عقدة النكاح ، أي لا تعزموا عليهن أن يعقدن النكاح ، كما تقول : عزمت عليك أن تفعل كذا.
فأما قوله تعالى : {عُقْدَةَ النكاح} فاعلم أن أصل العقد الشد ، والعهود والأنكحة تسمى عقوداً لأنها تعقد كما يعقد الحبل.
(7/109)
وأما قوله تعالى : {حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ} ففي الكتاب وجهان الأول : المراد منه : المكتوب والمعنى : تبلغ العدة المفروضة آخرها ، وصارت منقضية
والثاني : أن يكون الكتاب نفسه في معنى الفرض كقوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [ البقرة : 183 ] فيكون المعنى حتى يبلغ هذا التكليف آخره ونهايته ، وإنما حسن أن يعبر عن معنى : فرض ، بلفظ {كُتِبَ} لأن ما يكتب يقع في النفوس أنه أثبت وآكد وقوله : {حتى} هو غاية فلا بد من أن يفيد ارتفاع الخطر المتقدم ، لأن من حق الغاية ضربت للحظر أن تقتضي زواله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ ـ 115114}
وقال ابن عطية :
عزم العقدة عقدها بالإشهاد والولي ، وحينئذ تسمى {عقدة} ، وقوله تعالى {حتى يبلغ الكتاب أجله} يريد تمام العدة ، و{الكتاب} هنا هو الحد الذي جعل والقدر الذي رسم من المدة ، سماه كتاباً إذ قد حده وفرضه كتاب الله ، كما قال : {كتاب الله عليكم} [ النساء : 24 ] ، وكما قال : {إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً} [ النساء : 103 ] ، ولا يحتاج عندي في الكلام إلى حذف مضاف ، وقد قدر إسحاق في ذلك حذف مضاف أي فرض الكتاب ، وهذا على أن جعل الكتاب القرآن. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 317}
فائدة
قال أبو حيان :
نهوا عن العزم على عقدة النكاح ، وإذا كان العزم منهياً عنه فأحرى أن ينهى عن العقدة.
وانتصاب : عقدة ، على المفعول به لتضمين : تعزموا ، معنى ما يتعدّى بنفسه ، فضمن معنى : تنووا ، أو معنى : تصححوا ، أو معنى : توجبوا ، أو معنى : تباشروا ، أو معنى : تقطعوا ، أي : تبتوا. وقيل : انتصب عقدة على المصدر ، ومعنى تعزموا تعقدوا. وقيل : انتصب على إسقاط حرف الجر ، وهو على هذا التقدير : ولا تعزموا على عقدة النكاح. وحكى سيبويه أن العرب تقول : ضرب زيد الظهر والبطن ، أي على الظهر والبطن وقال الشاعر :
ولقد أبيت على الطوى وأظله... حتى أنال به كريمَ المأكلِ(7/110)
الأصل وأظل عليه ، فحذف : على ، ووصل الفعل إلى الضمير فنصبه ، إذ أصل هذا الفعل أن يتعدّى بعلى ، قال الشاعر :
عزمت على إقامة ذي صباح... لأمر ما يسوّد من يسود. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 239}
قوله تعالى {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فاحذروه}
قال الفخر :
إنه تعالى ختم الآية بالتهديد فقال : {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِى أَنفُسِكُمْ فاحذروه} وهو تنبيه على أنه تعالى لما كان عالماً بالسر والعلانية ، وجب الحذر في كل ما يفعله الإنسان في السر والعلانية ثم ذكر بعد الوعيد الوعد ، فقال : {واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 115}
وقال ابن عطية :
وقوله تعالى {واعلموا} إلى آخر الآية : تحذير من الوقوع فيما نهى عنه ، وتوقيف على غفره وحلمه في هذه الأحكام التي بيَّنَ ووسَّعَ فيها من إباحة التعريض ونحوه. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 318}
وقال أبو حيان :
{واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} قيل : المعنى ما في أنفسكم من هواهنّ ، وقيل : من الوفاء والإخلاف ، قاله ابن عباس : فاحذروه ، الهاء تعود على الله تعالى ، أي : فاحذروا عقابه.(7/111)
وقال الزمخشري : يعلم ما في أنفسكم من العزم على ما لا يجوز فاحذروه ولا تعزموا عليه. انتهى. فيحتمل أن تعود في كلام الزمخشري على ما لا يجوز من العزم ، أي فاحذور ما لا يجوز ولا تعزموا عليه ، فتكون الهاء في : فاحذروه ولا تعزموا عليه ، عائدة على شيء واحد ، ويحتمل في كلامه أن تعود على الله ، والهاء في : عليه ، على ما لا يجوز ، فيختلف ما تعود عليه الهاآن ، ولما هدّدهم بأنه مطلع على ما في أنفسهم ، وحذرهم منه ، أردف ذلك بالصفتين الجليلتين ليزيل عنهم بعض روع التهديد والوعيد ، والتحذير من عقابه ، ليعتدل قلب المؤمن في الرجاء والخوف ، وختم بهاتين الصفتين المقتضيتين المبالغة في الغفران والحلم ، ليقوي رجاء المؤمن في إحسان الله تعالى ، وطمعه في غفرانه وحلمه إن زل وهفا ، وأبرز كل معنى من التحذير والإطماع في جملة مستقلة ، وكرر اسم الله تعالى للتفخيم ، والتعظيم بمن يسند إليه الحكم ، وجاء خبر أن الأولى بالمضارع ، لأن ما يهجس في النفوس يتكرر فيتعلق العلم به ، فكأن العلم يتكرر بتكرر متعلقه ، وجاء خبر إن الثانية بالاسم ليدل على ثبوت الوصف ، وأنه قد صار كأنه من صفات الذات ، وإن كان من صفات الفعل. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 239 ـ 240}
وقال التسترى :
قوله : {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنفُسِكُمْ فاحذروه} [ 235 ] أي علم ما في غيب أنفسكم قبل خلقه لكم من فعل حركة أو سكون بخير أمر به وأعان على فعله ، وفعل ما نهى عنه ، ولم يعصم من نزل به ، وخلى من شاء مع الهوى لإظهار فعل ما نهى عنه ، ولم يعصم عدلاً منه وحكماً ، فكان معنى قوله : {مَا في أَنفُسِكُمْ} [ 235 ] أي ما ستفعلونه ، {فاحذروه} [ 235 ] أي اضرعوا إليه فيه حتى يكون هو الذي يتولى الأمر بالمعونة والتوفيق على الطاعة ، ويعصم عن النهي بالنصر والتأييد .
ألا ترون إلى قول عبدالله بن مسعود رضي الله عنهما : اللهم إن كنا عندك في أم الكتاب أشقياء محرومين فامْحُ ذلك عنا وأثبتنا سعداء مرحومين ، فإنك تمحو ما تشاء ، وتثبت وعندك أم الكتاب. أ هـ {تفسير التسترى صـ 49}
وقال ابن عاشور :
ابتدىء الخطاب باعلموا لما أريد قطع هواجس التساهل والتأول ، في هذا الشأن ، ليأتي الناس ما شرع الله لهم عن صفاء سريرة من كل دخل وحيلة ، وقدم تقدم نظيره في قوله : {واعلموا أنكم ملاقوه} [ البقرة : 223 ].(7/112)
وقوله : {واعلموا أن الله غفور حليم} تذييل ، أي فكما يؤاخذكم على ما تضمرون من المخالفة يغفر لكم ما وعد بالمغفرة عنه كالتعريض لأنه حليم بكم ، وهذا دليل على أن إباحة التعريض رخصة كما قدمنا ، وأن الذريعة تقتضي تحريمه ، لولا أن الله علم مشقة تحريمه على الناس للوجوه التي قدمناها ، فلعل المراد من المغفرة هنا التجاوز لا مغفرة الذنب ؛ لأن التعريض ليس بإثم ، أو يراد به المعنى الأعم الشامل لمغفرة الذنب والتجاوز عن المشاق ، وشأن التذييل التعميم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 456}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النسآء...}.
الزمخشري الكناية : هي أن يذكر الشيء بغير لفظه الموضوع له مثل : فلان جبان ، ( القلب ) عظيم الرماد. والتعريض : أن يذكر شيئا يستدل به على شيء لم يذكره.
ابن عرفة : فلفظه يقتضي أن الكناية ترجع لدلالة المطابقة والتعريض لدلالة الالتزام ولهذا كان بعضهم يقول في قولك : رأيت أسدا يريد به رجلا شجاعا إنه مطابقة ويرد على من كان يقول : إنّه مجاز ولذلك فرقوا بين دلالة اللفظ وبين الدلالة باللفظ لأن المطابقة دلالة اللّفظ على تمام مسماه بالإطلاق وما عرض من جعله مجازا ، إلا أنه ( فسر دلالة المطابقة بأنها دلالة اللّفظ على ) تمام ما وضع له أوّلا.
قلت : قال القزويني في الإيضاح الكناية لفظ أريد به لازم معناه مع جواز إرادة ذلك كقولك فلان : كثير رماد القدر ، كناية عن الكرم. وطويل نجاد السيف كناية عن طول قامة الرجل. ومثله : بَعِيدَةٌ ( مَهْوَى ) القرط كناية عن طول قامة المرأة.
قيل لابن عرفة : هل يجوز لمن عنده أربع نسوة أن يعرض ويواعد خامسة ؟
(7/113)
فقال : الظاهر الجواز وهو أخف من المواعدة في العدة لأن من تزوج في العدة تحرم عليه للأبد ، ومن تزوج خامسة يجبر على تطليق واحدة ونكاحه صحيح ، وأيضا فالمواعد في العدة غير قادر على تنجيز ( العقد عليها في الحال ومتزوج الخامسة ) قادر على تطليق واحدة في الحال ويتزوجها.
فإن قلت : ( ليس ) قادرا على أن يطلقها طلقة بائنة ؟
قلنا : هو قادر على أن يطلقها بالثلاث.
قيل لشيخنا القاضي أبي عبد الله : محمد بن القاضي أبي العباس أحمد بن حيدرة كان يقول : هذا إذا كان التعريض من أحد الجانبين فقط. وأما إذا وقع منهما التعريض فظاهر المذهب أنه كصريح المواعدة.
فان قلت : إذا نفي الجناح في التعريض فأحرى أن ينتفي عما يخطر بالقلب فما فائدة عطفه عليه.
قلت : فائدته الإشعار بالتّسوية بينه وبين ما في النفس من الجواز أي هما سواء في رفع الحرج عن صاحبهما وعلى الحكم بتعريض الرجل للمرأة لأنه الأغلب والأكثر وجودا أن الرجال يخطبون النّساء فهو مفهوم خرج مخرج الغالب فيستفاد منه جواز العكس قياسا عليه.
قوله تعالى : {ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً...}.
الزمخشري : المستدرك مقدر ، أي فاذكروهنّ وَلكِن لاَ تُوَاعدوهنّ سِرّا.
قال ابن عرفة : هذا يتخرج من الخلاف في أنّ ما بعد ( لَكِن ) إن كان مناقضا لما قبلها جاز بلا خلاف وإن وافقه امتنع اتّفاقا فإن خالفه فقولان ، ومفهومه تحريم المواعدة جهرا من باب أحرى.
قوله تعالى : {إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً...}.
جلعها الزمخشري متصلا أمّا مستثنى من مصدر " تُوَاعِدُوهُنَّ " أي إلاّ مواعدة القول المعروف فينتصب على المصدر أو مفرعا من مجرور أي إلاّ بالقول المعروف فينتصب على إسقاط حرف الجر ، ومنع انفصاله على استثنائه من " سِرّا " لعدم تسلّط العامل عليه فلا يجوز : لاَ تُوَعِدُوهُنّ إِلاّ التعريض.
ورده أبو حيان بمنع الحصر لأن المنفصل قسمان ما تسلط عليه العامل.
(7/114)
مثل : مَا رَأَيْتُ أَحَدا ( إِلاّ حِمَارا ) فالحجازيون أوجبوا نصبه والتميميون أجازوا اتباعه لما قبله. وما لم يسلط عليه العامل نحو ما زاد إلا ما نقص.
( قلت : وعبر القرافي عمّا يتسلط عليه العامل بأن يكون الحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه ، وعمّا لا يتسلط عليه بأن يكون الحكم بغير النقيض مثل ما زاد إلا ما نقص ) ، فالزيادة هي نقيض عدم الزيادة وذلك بعد أن قال : الاستثناء المتصل هو أن يكون الحكم على المستثنى بنقيض الحكم على المستثنى منه وأن يكون استثناء من غير الجنس فإن اختل أحدهما أو هما كان منقطعا ومثل الحكم بعدم النقيض فقول الله تعالى : {لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنكُمْ} فظاهره جواز أكل التجارة بالباطل وليس كذلك.
وتعقب ابن عرفة منع الزمخشري الانفصال وتعليله بأنه مشترك الالزام بين المتصل والمنفصل.
وأجيب عن ذلك بأن ( المفرّغ ) أصله مستثنى من شيء محذوف تقديره في الآية : وَلَكِن لاَ تُوَاعِدُوهُنّ سِرّا بشيء من الأشياء بالقول المعروف. ونظيره : ما مررت إلاّ بزيد ، أي ما مررت بأحد فليس ( فيه ) مشترك الإلزام.
وتعقب ابن عرفة قول أبي حيان في : ما رأيت أحدا إلاّ حمارا بأن ذلك إنّما هو في النقيض.
قيل لابن عرفة : قد ذكر القرافي والشلوبين وغيرهما ومثلوه بقول الله تعالى : {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} فقال : هذا منفي ، مع صحة قولك لا يذوقون إلاّ الموتة الأولى.
فقيل له : لايجوز لا يذوقون إلاّ الموتة الأولى ؟
فقال : ( سقط فيها ).
قلت : قال بعضهم : كلام أبي حيان صحيح وما تقدم للقرافي بيّنه.
قوله تعالى : {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ...}.
أبو البقاء : عقدة مصدر مضاف إلى المفعول ، أو على إسقاط حرف الجر كقول عنترة : (7/115)
ولقد أبيت على الطوى وأظلّه... حتى أنال به كريم المأكل
أي وأظل عليه.
قيل لابن عرفة : تقدم النهي عن المواعدة في العدة وهي أدنى من هذا والنهي عن الأدنى يستلزم النهي عما فوقه من باب أحرى ؟
فقال : دلالة المطابقة أقوى.
قيل له : والأول من دلالة المطابقة مثل : {فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ} فقال : الصحيح عنهم أنّه من دلالة الالتزام ؟
قال : والعزم منهم من يفسره هنا بالفعل وهو عقد النكاح. ومنهم من فسره بالنية ، أي لا تنووا عقدة النكاح وهو الصحيح لأن العزم هو الجزم بفعل الشيء فهو أمر قلبي. قال الله تعالى : {فَإِذَا عَزَمَ الأمر} وَمما ( يؤيده ) هنا قوله : {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنفُسِكُمْ فاحذروه}.
فدل على أنّه أمر قلبي.
وحكى ابن عطية عن ابن الجلاب : أن العقد في العدة يوجب حرمتها أبدا. وكان بعضهم يقيده بما إذا تعمد ذلك فإن وقع العقد خطأ لم يتأبد التحريم.
قيل لابن عرفة : الصواب العكس لأن النكاح متى كانت له شبهة تأبد فيه التحريم ومتى لم تكن له شبهة لم يتأبد التحريم ؟
فقال ابن عرفة : ليس كذلك لأن ( عليه ) المعاقبة بنقيض المقصود.
قوله تعالى : {واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنفُسِكُمْ فاحذروه...}.
عبر فيه بِ ( اعْلَمُوا ) وب ( احْذَرُوهُ ) تأكيدا في التنفير عن ذلك والعقوبة من المواطأة هنا على ما في النفس والإصرار عليه. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 305 ـ 306}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
تضمنت هذه الآية ضروباً من البديع
منها : الكناية ، في قوله : {ولكن لا تواعدوهنّ سرًّا} كنى بالسر عن النكاح ، وهي من أبلغ الكنايات. ومنها : التعريض ، في قوله : {يعلم ما في أنفسكم} ومنها : التهديد ، بقوله {فاحذروه} ومنها : الزيادة في الوصف ، بقوله : {غفور حليم}. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 240}(7/116)
فروع مهمة
قال العلامة الجصاص :
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ وَمَنْ بَعْدَهُمْ فِي حُكْمِ مِنْ تَزَوَّجَ امْرَأَةً فِي عِدَّتِهَا مِنْ غَيْرِهِ ، فَرَوَى ابْنُ الْمُبَارَكِ قَالَ : حَدَّثَنَا أَشْعَثُ عَنْ الشَّعْبِيِّ عَنْ مَسْرُوقٍ قَالَ : ( بَلَغَ عُمَرَ أَنَّ امْرَأَةً مِنْ قُرَيْشٍ تَزَوَّجَهَا رَجُلٌ مِنْ ثَقِيفٍ فِي عِدَّتِهَا فَأَرْسَلَ إلَيْهِمَا فَفَرَّقَ بَيْنَهُمَا وَعَاقَبَهُمَا وَقَالَ : لَا يَنْكِحُهَا أَبَدًا ، وَجَعَلَ الصَّدَاقَ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَفَشَا ذَلِكَ بَيْنَ النَّاسِ فَبَلَغَ عَلِيًّا كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ فَقَالَ رَحِمَ اللَّهُ أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ مَا بَالُ الصَّدَاقِ وَبَيْتِ الْمَالِ ؟ إنَّهُمَا جَهِلَا فَيَنْبَغِي لِلْإِمَامِ أَنْ يَرُدَّهُمَا إلَى السُّنَّةِ.
قِيلَ : فَمَا تَقُولُ أَنْتَ فِيهَا ؟ قَالَ : لَهَا الصَّدَاقُ بِمَا اسْتَحَلَّ مِنْ فَرْجِهَا وَيُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَا جَلْدَ عَلَيْهِمَا وَتُكْمِلُ عِدَّتَهَا مِنْ الْأَوَّلِ ثُمَّ تُكْمِلُ الْعِدَّةَ مِنْ الْآخَرِ ثُمَّ يَكُونُ خَاطِبَا.
فَبَلَغَ ذَلِكَ عُمَرَ فَقَالَ : يَا أَيُّهَا النَّاسُ رُدُّوا الْجَهَالَاتِ إلَى السُّنَّةِ ).
وَرَوَى ابْنُ أَبِي زَائِدَةَ عَنْ أَشْعَثَ مِثْلَهُ ، وَقَالَ فِيهِ : ( فَرَجَعَ عُمَرُ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ ).
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ اتَّفَقَ عَلِيٌّ وَعُمَرُ عَلَى قَوْلٍ وَاحِدٍ ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ عُمَرَ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ.
وَاخْتَلَفَ فُقَهَاءُ الْأَمْصَارِ فِي ذَلِكَ أَيْضًا ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ : ( يُفَرَّقُ بَيْنَهُمَا وَلَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ، فَإِذَا انْقَضَتْ عِدَّتُهَا مِنْ الْأَوَّلِ تُزَوَّجَهَا الْآخَرُ إنْ شَاءَ ) وَهُوَ قَوْلُ الثَّوْرِيِّ وَالشَّافِعِيِّ.(7/117)
وَقَالَ مَالِكٌ وَالْأَوْزَاعِيُّ وَاللَّيْثُ بْنُ سَعْدٍ : ( لَا تَحِلُّ لَهُ أَبَدًا ) قَالَ مَالِكٌ وَاللَّيْثُ : ( وَلَا بِمِلْكِ الْيَمِينِ ).
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَا خِلَافَ بَيْنَ مَنْ ذَكَرْنَا قَوْلَهُ مِنْ الْفُقَهَاءِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ زَنَى بِامْرَأَةٍ جَازَ لَهُ أَنْ يَتَزَوَّجَهَا ، وَالزِّنَا أَعْظَمُ مِنْ النِّكَاحِ فِي الْعِدَّةِ ، فَإِذَا كَانَ الزِّنَا لَا يُحَرِّمُهَا عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا فَالْوَطْءُ بِشُبْهَةٍ أَحْرَى أَنْ لَا يُحَرِّمَهَا عَلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ مَنْ تَزَوَّجَ أَمَةً عَلَى حُرَّةٍ أَوْ جَمَعَ بَيْنَ أُخْتَيْنِ وَدَخَلَ بِهِمَا ، لَمْ تُحَرَّمْ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا ، فَكَذَلِكَ الْوَطْءُ عَنْ عَقْدٍ كَانَ فِي الْعِدَّةِ لَا يَخْلُو مِنْ أَنْ يَكُونَ وَطْئًا بِشُبْهَةٍ أَوْ زِنَا ، وَأَيُّهُمَا كَانَ فَالتَّحْرِيمُ غَيْرُ وَاقِعٍ بِهِ.
فَإِنْ قِيلَ : قَدْ يُوجِبُ الزِّنَا وَالْوَطْءُ بِالشُّبْهَةِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا عِنْدَكُمْ كَاَلَّذِي يَطَأُ أُمَّ امْرَأَتِهِ أَوْ ابْنَتَهَا فَتَحْرُمُ عَلَيْهِ تَحْرِيمًا مُؤَبَّدًا قِيلَ لَهُ : لَيْسَ هَذَا مِمَّا نَحْنُ فِيهِ بِسَبِيلٍ ؛ لِأَنَّ كَلَامَنَا إنَّمَا هُوَ فِي وَطْءٍ يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمَوْطُوءَةِ نَفْسِهَا ، فَأَمَّا وَطْءٌ يُوجِبُ تَحْرِيمَ غَيْرِهَا فَإِنَّ ذَلِكَ حُكْمُ كُلِّ وَطْءٍ عِنْدَنَا زِنًا كَانَ أَوْ وَطْئًا بِشُبْهَةٍ أَوْ مُبَاحًا ، وَأَنْتَ لَمْ تَجِدْ فِي الْأُصُولِ وَطْئًا يُوجِبُ تَحْرِيمَ الْمَوْطُوءَةِ ، فَكَانَ قَوْلُك خَارِجًا عَنْ الْأُصُولِ وَعَنْ أَقَاوِيلِ السَّلَفِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ عُمَرَ قَدْ رَجَعَ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ.
(7/118)
وَأَمَّا مَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ أَنَّهُ جَعَلَ الْمَهْرَ فِي بَيْتِ الْمَالِ ، فَإِنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّهُ مَهْرٌ حَصَلَ لَهَا مِنْ وَجْهٍ مَحْظُورٍ فَسَبِيلُهُ أَنْ يُتَصَدَّقَ بِهِ ، فَلِذَلِكَ جَعَلَهُ فِي بَيْتِ الْمَالِ ثُمَّ رَجَعَ فِيهِ إلَى قَوْلِ عَلِيٍّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ.
وَمَذْهَبُ عُمَرَ فِي جَعْلِ مَهْرِهَا لِبَيْتِ الْمَالِ ؛ إذْ قَدْ حَصَلَ لَهَا ذَلِكَ مِنْ وَجْهٍ مَحْظُورٍ ، يُشْبِهُ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الشَّاةِ الْمَأْخُوذَةِ بِغَيْرِ إذْنِ مَالِكِهَا ، قُدِّمَتْ إلَيْهِ مَشْوِيَّةً ، فَلَمْ يَكَدْ يُسِيغُهَا حِينَ أَرَادَ الْأَكْلَ مِنْهَا فَقَالَ : {إنَّ هَذِهِ الشَّاةَ تُخْبِرُنِي أَنَّهَا أُخِذَتْ بِغَيْرِ حَقٍّ فَأَخْبَرُوهُ بِذَلِكَ ، فَقَالَ : أَطْعِمُوهَا الْأُسَارَى}.
وَوَجْهُ ذَلِكَ عِنْدَنَا أَنَّهَا صَارَتْ لَهُمْ بِضَمَانِ الْقِيمَةِ ، فَأَمَرَهُمْ بِالصَّدَقَةِ بِهَا ؛ لِأَنَّهَا حَصَلَتْ لَهُمْ مِنْ وَجْهٍ مَحْظُورٍ وَلَمْ يَكُونُوا قَدْ أَدَّوْا الْقِيمَةَ إلَى أَصْحَابِهَا.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ سُلَيْمَانَ بْنِ يَسَارٍ أَنَّ مَهْرَهَا لِبَيْتِ الْمَالِ.
(7/119)
وَقَالَ سَعِيدُ بْنُ الْمُسَيِّبِ وَإِبْرَاهِيمُ وَالزُّهْرِيُّ : ( الصَّدَاقُ لَهَا عَلَى مَا رُوِيَ عَنْ عَلِيٍّ ) وَفِي اتِّفَاقِ عُمَرَ وَعَلِيٍّ عَلَى أَنْ لَا حَدَّ عَلَيْهِمَا دَلَالَةٌ عَلَى أَنَّ النِّكَاحَ فِي الْعِدَّةِ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ مَعَ الْعِلْمِ بِالتَّحْرِيمِ ، لِأَنَّ الْمَرْأَةَ كَانَتْ عَالِمَةً بِكَوْنِهَا فِي الْعِدَّةِ وَلِذَلِكَ جَلَدَهَا عُمَرُ وَجَعَلَ مَهْرَهَا فِي بَيْتِ الْمَالِ ، وَمَا خَالَفَهُمَا فِي ذَلِكَ أَحَدٌ مِنْ الصَّحَابَةِ ؛ فَصَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي أَنَّ كُلَّ وَطْءٍ عَنْ عَقْدٍ فَاسِدٍ أَنَّهُ لَا يُوجِبُ الْحَدَّ سَوَاءً كَانَا عَالِمَيْنِ بِالتَّحْرِيمِ أَوْ غَيْرَ عَالِمَيْنِ بِهِ ؛ وَهَذَا يَشْهَدُ لِأَبِي حَنِيفَةَ فِيمَنْ وَطِئَ ذَاتَ مَحْرَمٍ مِنْهُ بِنِكَاحٍ أَنَّهُ لَا حَدَّ عَلَيْهِ.
وَقَدْ اخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِي الْعِدَّةِ إذَا وَجَبَتْ مِنْ رَجُلَيْنِ ، فَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَبُو يُوسُفَ وَمُحَمَّدٌ وَزُفَرُ وَمَالِكٌ فِي رِوَايَةِ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْهُ وَالثَّوْرِيُّ وَالْأَوْزَاعِيُّ : ( إذَا وَجَبَتْ عَلَيْهَا الْعِدَّةُ مِنْ رَجُلَيْنِ فَإِنَّ عِدَّةً وَاحِدَةً تَكُونُ لَهُمَا جَمِيعًا ، سَوَاءً كَانَتْ الْعِدَّةُ بِالْحَمْلِ أَوْ بِالْحَيْضِ أَوْ بِالشُّهُورِ ) وَهُوَ قَوْلُ إبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ.
وَقَالَ الْحَسَنُ بْنُ صَالِحٍ وَاللَّيْثُ وَالشَّافِعِيُّ : ( تَعْتَدُّ لِكُلِّ وَاحِدٍ عِدَّةً مُسْتَقْبَلَةً ).
(7/120)
وَاَلَّذِي يَدُلُّ عَلَى صِحَّةِ الْقَوْلِ الْأَوَّلِ قَوْله تَعَالَى : {وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ} يَقْتَضِي كَوْنَ عِدَّتِهَا ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ إذَا طَلَّقَهَا زَوْجُهَا وَوَطِئَهَا رَجُلٌ بِشُبْهَةٍ ؛ لِأَنَّهَا مُطَلَّقَةٌ قَدْ وَجَبَتْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ ؛ وَلَوْ أَوْجَبْنَا عَلَيْهَا أَكْثَرَ مِنْ ثَلَاثَةِ قُرُوءٍ كُنَّا زَائِدِينَ فِي الْآيَةِ مَا لَيْسَ فِيهَا ؛ إذْ لَمْ تُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ وُطِئَتْ بِشُبْهَةٍ مِنْ الْمُطَلَّقَاتِ وَبَيْنَ غَيْرِهَا ".
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى : {وَاَللَّائِي يَئِسْنَ مِنْ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إنْ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاَللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ} وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مُطَلَّقَةٍ قَدْ وَطِئَهَا أَجْنَبِيٌّ بِشُبْهَةٍ وَبَيْنَ مَنْ لَمْ تُوطَأْ ، فَاقْتَضَى ذَلِكَ أَنْ تَكُونَ عِدَّتُهَا ثَلَاثَةَ أَشْهُرٍ فِي الْوَجْهَيْنِ جَمِيعًا.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى : {وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ} وَلَمْ يُفَرِّقْ بَيْنَ مَنْ عَلَيْهَا عِدَّةٌ مِنْ رَجُلٍ أَوْ رَجُلَيْنِ.
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ أَيْضًا قَوْله تَعَالَى {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} لِأَنَّ الْعِدَّةَ إنَّمَا هِيَ بِمُضِيِّ الْأَوْقَاتِ وَالْأَهِلَّةِ وَالشُّهُورِ ، وَقَدْ جَعَلَهَا اللَّهُ وَقْتًا لِجَمِيعِ النَّاسِ ، فَوَجَبَ أَنْ تَكُونَ الشُّهُورُ وَالْأَهِلَّةُ وَقْتًا لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا لِعُمُومِ الْآيَةِ.
(7/121)
وَيَدُلُّ عَلَيْهِ اتِّفَاقُ الْجَمِيعِ عَلَى أَنَّ الْأَوَّلَ لَا يَجُوزُ لَهُ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَيْهَا قَبْلَ انْقِضَاءِ عِدَّتِهَا مِنْهُ ، فَعَلِمْنَا أَنَّهَا فِي عِدَّةٍ مِنْ الثَّانِي ؛ لِأَنَّ الْعِدَّةَ مِنْهُ لَا تَمْنَعُ مِنْ تَزْوِيجِهَا. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 133 ـ 135}(7/122)
قوله تعالى : {لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تمت أحكام العدد وما يتبعها مما حق الرجال فيه أغلب أتبعها أحكام الأصدقة ، ولما كان الكلام قد طال في أحكام الطلاق والموت ولم يذكر الصداق وكان قد ختم تلك الأحكام بصفتي الغفر والحلم وكان الصداق معلوماً عندهم قبل الإسلام اقتضى ذلك السؤال : هل يجب للمفارقة صداق أو هو مما دخل تحت المغفرة والحلم فلا يجب ؟ فقيل : {لا جناح عليكم} أي لا تبعة من مهر ولا غيره إلا ما يأتي من المتعة ، وأصل الجناح الميل من الثقل {إن طلقتم النساء} أي إن طلق أحد منكم ما يملك عصمته منهن {ما لم تمسوهن} أي تجامعوهن.
من المس ومن المماسة في القراءة الأخرى وهو ملاقاة الجرمين بغير حائل بينهما - قاله الحرالي {أو تفرضوا لهن فريضة} أي تسموا لهن مهراً معلوماً.
أي لا جناح عليكم ما لم يقع أحد الأمرين أي مدة انتفائه ولا ينتفي الأحد المبهم إلا بانتفاء الأمرين معاً فإذا انتفيا انتفى الجناح وإن وجدا أو أحدهما وجد ، فإن وجد المسيس وجب المسمى أو مهر المثل.
وإن وجد الفرض وجب نصفه إن خلا عن مسيس.
قال الحرالي : ففي إنبائه صحة عقد النكاح مع إهمال ذكر الصداق لا مع إبطاله ، ففيه صحة نكاح التفويض ونكاح التأخير لذكر الصداق ، فبان به أن الصداق ليس ركناً فيه وأن إبطاله مانع من بنائه ، فيكون له ثلاثة أحوال من رفع الجناح فيه عن المهمل الذي لم يمس فيه كأنه كان يستحق فرضاً ما فرفع عنه جناحه من حيث إن على الماس كلية النحلة وعلى الفارض شطر النحلة فرفع عنه جناح الفرض وجبر موضع الفرض بالإمتاع ، ولذلك ألزمت المتعة طائفة من العلماء - انتهى.
(7/123)
ولما كان التقدير : وطلقوهن إن أردتم وراعوا فيهن ما أوجبت من الحقوق لكم وعليكم عطف عليه قوله : {ومتعوهن} أي جبراً لما وقع من الكسر بالطلاق على حسب حال المطلقين ، والمطلقة من غير مس ولا فرض تستحقه للمتعة بالإجماع - نقله الأصبهاني.
و {على الموسع} منهم أي الذي له في حاله سعة.
وقال الحرالي : هو من الإيساع وهو المكنة في السعة التي هي أكثر من الكفاية {قدره} من القدر وهو الحد المحدود في الشيء حساً أو معنى {وعلى المقتر} أي الذي في حاله ضيق.
قال الحرالي : هو من الإقتار وهو النقص من القدر الكافي - انتهى {قدره} أي ما يقدر عليه ويطيقه ، وقراءة فتح الدال كقراءة إسكانها فإنهما لغتان أو أن الفتح مشير إلى التفضل بتحمل شيء ما فوق القدرة {متاعاً} أي تمتيعاً {بالمعروف} وهو ما ليس فيه في الشرع نكارة {حقاً على المحسنين} أي الذين صار الإحسان لهم وصفاً لازماً ، والإحسان غاية رتب الدين كأنه كما قال الحرالي إسلام ظاهر يقيمه إيمان باطن يكمله إحسان شهودي - انتهى.
فالكلام على هذا النظام إلهاب وتهييج لا قيد ، وإنما كانت إحساناً لأن ملاك القصد فيها كما قال الحرالي ما تطيب به نفس المرأة ويبقى باطنها وباطن أهلها سلماً أو ذا مودة {لعل الله يحدث بعد ذلك أمراً} [ الطلاق : 1 ] انتهى.
ولا شك في أن هذا إحسان. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 446 ـ 447}
قال القرطبى :
(7/124)
قوله تعالى : {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء} هذا أيضاً من أحكام المطلقات ؛ وهو ابتداء إخبار برفع الحرج عن المطلِّق قبل البِناء والجماع ، فرض مهراً أو لم يفرض ؛ ولما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التزوّج لمعنى الذوق وقضاء الشهوة ، وأمر بالتزوّج لطلب العصمة والتماس ثواب الله وقصدِ دوام الصحبة ؛ وقع في نفوس المؤمنين أن من طلق قبل البناء قد واقع جزءاً من هذا المكروه ؛ فنزلت الآية رافعة للجناح في ذلك إذا كان أصل النكاح على المقصد الحسن. وقال قوم : {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} معناه لا طلب لجميع المهر بل عليكم نصف المفروض لمن فرض لها ، والمتعة لمن لم يفرض لها. وقيل : لما كان أمر المهر مؤكداً في الشرع فقد يتوهم أنه لا بدّ من مهر إما مسمى وإما مهر المِثل ؛ فرفع الحرج عن المطلق في وقت التطليق وإن لم يكن في النكاح مهر. وقال قوم : {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} معناه في أن ترسلوا الطلاق في وقت الحيض ، بخلاف المدخول بها ؛ إذْ غير المدخول بها لا عدّة عليها. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 197}
قال الفخر :
حكم المطلقة قبل الدخول
اعلم أن أقسام المطلقات أربعة
أحدها : المطلقة التي تكون مفروضاً لها ومدخولاً بها وقد ذكر الله تعالى فيما تقدم أحكام هذا القسم وهو أنه لا يؤخذ منهن على الفراق شيء على سبيل الظلم ثم أخبر أن لهن كمال المهر ، وأن عدتهن ثلاثة قروء.
والقسم الثاني : من المطلقات ما لا يكون مفروضاً ولا مدخولاً بها وهو الذي ذكره الله تعالى في هذه الآية ، وذكر أنه ليس لها مهر ، وأن لها المتعة بالمعروف.(7/125)
والقسم الثالث : من المطلقات : التي يكون مفروضاً لها ، ولكن لا يكون مدخولاً بها وهي المذكورة في الآية التي بعد هذه الآية ، وهي قوله سبحانه وتعالى : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} [ البقرة : 237 ] واعلم أنه تعالى بين حكم عدة غير المدخول بها وذكر في سورة الأحزاب أنه لا عدة عليها ألبتة ، فقال : {إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتّعُوهُنَّ} [ الأحزاب : 49 ].
القسم الرابع : من المطلقات : التي تكون مدخولاً بها ، ولكن لا يكون مفروضاً لها ، وحكم هذا القسم مذكور في قوله : {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَئَاتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ} [ النساء : 24 ] أيضاً القياس الجلي دال عليه وذلك لأن الأمة مجمعة على أن الموطوءة بالشبهة لها مهر المثل ، فالموطوءة بنكاح صحيح أولى بهذا الحكم ، فهذا التقسيم تنبيه على المقصود من هذه الآية ، ويمكن أن يعبر عن هذا التقسيم بعبارة أخرى ، فيقال : إن عقد النكاح يوجب بدلاً على كل حال ، ثم ذلك البدل إما أن يكون مذكوراً أو غير مذكور ، فإن كان البدل مذكوراً ، فإن حصل الدخول استقر كله ، وهذا هو حكم المطلقات التي ذكرهن الله تعالى قبل هذه الآية ، وإن لم يحصل الدخول سقط نصف المذكور بالطلاق ، وهذا هو حكم المطلقات التي ذكرهن الله تعالى في الآية التي تجىء عقيب هذه الآية.
فإن لم يكن البدل مذكوراً فإن لم يحصل الدخول فهو هذه المطلقة التي ذكر الله تعالى حكمها في هذه الآية ، وحكمها أنه لا مهر لها ، ولا عدة عليها ، ويجب عليه لها المتعة ، وإن حصل الدخول فحكمها غير مذكور في هذه الآيات ، إلا أنهم اتفقوا على أن الواجب فيها مهر المثل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 115 ـ 116}
(7/126)
قوله تعالى : {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النساء}
قال ابن عاشور :
وحقيقة الجناح الإثم كما تقدم في قوله : {فلا جناح عليه أن يطوف بهما} [ البقرة : 158 ].
ولا يعرف إطلاق الجناح على غير معنى الإثم ، ولذلك حمله جمهور المفسرين هنا على نفي الإثم في الطلاق ، ووقع في "الكشاف" تفسير الجناح بالتبعة فقال : {لا جناح عليكم لا تبعة عليكم من إيجاب المهر} ثم قال : والدليل على أن الجناح تبعة المهر ، قوله : {وإن طلقتموهن} إلى قوله : {فنصف ما فرضتم} فقوله : {فنصف ما فرضتم} إثبات للجناح المنفي ثمة" وقال ابن عطية وقال قوم : لا جناح عليكم معناه لا طلب بجميع المهر فعلمنا أن صاحب "الكشاف" مسبوق بهذا التأويل ، وهو لم يذكر في "الأساس" هذا المعنى للجناح حقيقة ولا مجازاً ، فإنما تأوله من تأوله تفسيراً لمعنى الكلام كله لا لكلمة {جناح} وفيه بعد ، ومحمله على أن الجناح كناية بعيدة عن التبعة بدفع المهر.
والوجه ما حمل عليه الجمهور لفظ الجناح ، وهو معناه المتعارف ، وفي "تفسير ابن عطية" عن مكي بن أبي طالب "لا جناح عليكم في الطلاق قبل البناء ؛ لأنه قد يقع الجناح على المطلق بعد أن كان قاصداً للذوق ، وذلك مأمون قبل المسيس" وقريب منه في الطيبي عن الراغب أي في "تفسيره".
فالمقصود من الآية تفصيل أحوال دفع المهر أو بعضه أو سقوطه ، وكأن قوله : {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن} إلى آخره تمهيد لذلك وإدماج لإباحة الطلاق قبل المسيس لأنه بعيد عن قصد التذوق ، وأبعد من الطلاق بعد المسيس عن إثارة البغضاء بين الرجل والمرأة ، فكان أولى أنواع الطلاق بحكم الإباحة الطلاق قبل البناء.
(7/127)
قال ابن عطية وغيره : إنه لكثرة ما حض الرسول عليه الصلاة والسلام المؤمنين على أن يقصدوا من التزوج دوام المعاشرة ، وكان ينهى عن فعل الذواقين الذين يكثرون تزوج النساء وتبديلهن ، ويكثر النهي عن الطلاق حتى قد يظن محرماً ، فأبانت الآية إباحته بنفي الجناح بمعنى الوزر. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 457 ـ 458}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النساء} فهذا نص في أن الطلاق جائز ، واعلم أن كثيراً من أصحابنا يتمسكون بهذه الآية في بيان أن الجمع بين الثلاث ليس بحرام ، قالوا : لأن قوله : {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النساء} يتناول جميع أنواع التطليقات ، بدليل أنه يصح استثناء الثلاث منها فيقال لا جناح عليكم إن طلقتم النساء إلا إذا طلقتموهن ثلاث طلقات فإن هناك يثبت الجناح ، قالوا : وحكم الاستثناء إخراج ما لولاه لدخل ، فثبت أن قوله : {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النساء} يتناول جميع أنواع التطليقات ، أعني حال الإفراد وحال الجمع ، وهذا الاستدلال عندي ضعيف ، وذلك لأن الآية دالة على الإذن في تحصيل هذه الماهية في الوجود ، ويكفي في العمل به إدخاله في الوجود مرة واحدة ، ولهذا قلنا : إن الأمر المطلق لا يفيد التكرار ، ولهذا قلنا : إنه إذا قال لامرأته : إن دخلت الدار فأنت طالق انعقدت اليمين على المرة الواحدة فقط ؛ فثبت أن هذا اللفظ لا يتناول حالة الجمع ، وأما الاستثناء الذي ذكروه فنقول : يشكل هذا بالأمر فإنه لا يفيد التكرار بالاتفاق من المحققين ، مع أنه يصح أن يقال : صل إلا في الوقت الفلاني وصم إلا في اليوم الفلاني ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 116}
قوله تعالى : {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ}
قال الفخر :
(7/128)
قرأ حمزة والكسائي {تماسوهن} بالألف على المفاعلة ، وكذلك في الأحزاب والباقون {تَمَسُّوهُنَّ} بغير ألف ، حجة حمزة والكسائي أن بدن كل واحد يمس بدن صاحبه ويتماسان جميعاً وأيضاً يدل على ذلك قوله تعالى : {مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} [ المجادلة : 3 ] وهو إجماع وحجة الباقين إجماعهم على قوله : {وَلَمْ يَمْسَسْنِى بَشَرٌ} [ آل عمران : 47 ] ولأن أكثر الألفاظ في هذا المعنى جاء على المعنى بفعل دون فاعل كقوله : {لَمْ يَطْمِثْهُنَّ} [ الرحمن : 56 ] وكقوله : {فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ} [ النساء : 25 ] وأيضاً المراد من هذا المس : الغشيان ، وذلك فعل الرجل ، ويدل في الآية الثانية على أن المراد من هذا المس الغشيان ، وأما ما جاء في الظهار من قوله تعالى : {مّن قَبْلِ أَن يَتَمَاسَّا} فالمراد به المماسة التي هي غير الجماع وهي حرام في الظهار ، وبعض من قرأ : {تماسوهن} قال : إنه بمعنى {تَمَسُّوهُنَّ} لأن فاعل قد يراد به فعل ، كقوله : طارقت النعل ، وعاقبت اللص ، وهو كثير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 116}
سؤال : لقائل أن يقول : ظاهر الآية مشعر بأن نفي الجناح عن المطلق مشروط بعدم المسيس وليس كذلك فإنه لا جناح عليه أيضاً بعد المسيس.
وجوابه من وجوه الأول : أن الآية دالة على إباحة الطلاق قبل المسيس مطلقاً ، وهذا الإطلاق غير ثابت بعد المسيس ، فإنه لا يحل الطلاق بعد المسيس في زمان الحيض ، ولا في الطهر الذي جامعها فيه ، فلما كان المذكور في الآية حل الطلاق على الإطلاق ، وحل الطلاق على الإطلاق لا يثبت إلا بشرط عدم المسيس ، صح ظاهر اللفظ.
(7/129)
الوجه الثاني : في الجواب قال بعضهم : إن {مَا} في قوله : {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ} بمعنى الذي والتقدير : لا جناح عليكم إن طلقتم النساء اللاتي لم تمسوهن ، إلا أن {مَا} اسم جامد لا ينصرف ، ولا يبين فيه الإعراب ولا العدد ، وعلى هذا التقدير لا يكون لفظ {مَا} شرطاً ، فزال السؤال.
الوجه الثالث : في الجواب ما يدور حوله القفال رحمه الله ، وحاصله يرجع إلى ما أقوله ، وهو أن المراد من الجناح في هذه الآية لزوم المهر ، فتقدير الآية : لا مهر عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ، بمعنى : لا يجب المهر إلا بأحد هذين الأمرين ، فإذا فقدا جميعاً لم يجب المهر ، وهذا كلام ظاهر إلا أنا نحتاج إلى بيان أن قوله : {لاَّ جُنَاحَ} معناه لا مهر ، فنقول : إطلاق لفظ الجناح على المهر محتمل ، والدليل دل عليه فوجب المصير إليه ، وأما بيان الاحتمال فهو أن أصل الجناح في اللغة هو الثقل ، يقال : أجنحت السفينة إذا مالت لثقلها والذنب يسمى جناحاً لما فيه من الثقل ، قال تعالى : {وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ} [ العنكبوت : 13 ] إذا ثبت أن الجناح هو الثقل ، ولزوم أداء المال ثقل فكان جناحاً ، فثبت أن اللفظ محتمل له ، وإنما قلنا : إن الدليل دل على أنه هو المراد لوجهين الأول : أنه تعالى قال : {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النساء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أنْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} نفى الجناح محدوداً إلى غاية وهي إما المسيس أو الفرض ، والتقدير : فوجب أن يثبت ذلك الجناح عند حصول أحد هذين الأمرين ثم إن الجناح الذي يثبت عند أحد هذين الأمرين هو لزوم المهر ، فوجب القطع بأن الجناح المنفي في أول الآية هو لزوم المهر
الثاني : أن تطليق النساء قبل المسيس على قسمين
أحدهما : الذي يكون قبل المسيس وقبل تقدير المهر ، وهو المذكور في هذه الآية
(7/130)
والثاني : الذي يكون قبل المسيس وبعد تقدير المهر وهو المذكور في الآية التي بعد هذه الآية وهي قوله : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} [ البقرة : 237 ] ثم إنه في هذا القسم أوجب نصف المفروض وهذا القسم كالمقابل لذلك القسم فيلزم أن يكون الجناح المنفي هناك هو المثبت ههنا ، فلما كان المثبت ههنا هو لزوم المهر وجب أن يقال : الجناح المنفي هناك هو لزوم المهر والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 117}
فائدة
قال الفخر :
اعلم أنا قد ذكرنا في أول تفسير هذه الآية أن أقسام المطلقات أربعة ، وهذه الآية تكون مشتملة على بيان حكم ثلاثة أقسام منها ، لأنه لما صار تقدير الآية : لا مهر إلا عند المسيس أو عند التقدير ، عرف منه أن التي لا تكون ممسوسة ولا مفروضاً لها لا يجب لها المهر ، وعرف أن التي تكون ممسوسة ولا تكون مفروضاً لها والتي تكون مفروضاً لها ولا تكون ممسوسة يجب لكل واحدة منهما المهر ، فتكون هذه الآية مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الثلاثة.
وأما القسم الرابع : وهي التي تكون ممسوسة ومفروضاً لها ، فبيان حكمه مذكور في الآية المتقدمة ، وعلى هذا التقدير تكون هذه الآيات مشتملة على بيان حكم هذه الأقسام الأربعة بالتمام وهذا من لطائف الكلمات والحمد لله على ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 117 ـ 118}
فصل
قال أبو بكر الأصم والزجاج : هذه الآية تدل على أن عقد النكاح بغير المهر جائز ، وقال القاضي : إنها لا تدل على الجواز لكنها تدل على الصحة ، أما بيان دلالتها على الصحة ، فلأنه لو لم يكن صحيحاً لم يكن الطلاق مشروعاً ، ولم تكن المتعة لازمة ، وأما أنها لا تدل على الجواز ، فلأنه لا يلزم من الصحة الجواز ، بدليل أن الطلاق في زمان الحيض حرام ومع ذلك واقع وصحيح. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 118}
بحث نفيس للعلامة ابن عاشور :
قال رحمه الله :
(7/131)
الآية دلت على مشروعية أصل الطلاق ، لما أشعرت بنفي الجناح عن الطلاق قبل المسيس وحيث أشعرت بإباحة بعض أنواعه : بالتصدي لبيان أحكامها ، ولما لم يتقدم لنا موضع هو أنسب بذكر مشروعية الطلاق من هذه الآية ، فنحن نبسط القول في ذلك :
إن القانون العام لانتظام المعاشرة هو الوفاق في الطبائع والأخلاق والأهواء والأميال ، وقد وجدنا المعاشرة نوعين : أولهما معاشرة حاصلة بحكم الضرورة ، وهي معاشرة النسب ، المختلفة في القوة والضعف ، بحسب شدة قرب النسب وبعده كمعاشرة الآباء مع الأبناء ، والإخوة بعضهم مع بعض ، وأبناء العم والعشيرة ، واختلافها في القوة والضعف يستتبع اختلافها في استغراق الأزمان ، فنجد في قصر زمن المعاشرة ، عند ضعف الآصرة ، ما فيه دافع للسآمة والتخالف الناشئين عما يتطرق إلى المتعاشرين من تنافر في الأهواء والأميال ، وقد جعل الله في مقدار قرب النسب تأثيراً في مقدار الملاءمة ؛ لأنه بمقدار قرب النسيب ، يكون التئام الذات مع الأخرى أقوى وأتم ، وتكون المحاكة والممارسة والتقارب أطول ، فنشأ من السببين الجبلي ، والاصطحابي ، ما يقوي اتحاد النفوس في الأهواء والأميال بحكم الجبلة ، وحكم التعود والإلف ، وهكذا يذهب ذلك السببان يتباعدان بمقدار ما يتباعد النسيب.
النوع الثاني : معاشرة بحكم الاختيار وهي معاشرة الصحبة والخلة والحاجة والمعاونة ، وما هي إلا معاشرة مؤقتة تطول أو تقصر ، وتستمر أو تغب ، بحسب قوة الداعي وضعفه ، وبحسب استطاعة الوفاء بحقوق تلك المعاشرة ، والتقصير في ذلك ، والتخلص من هذا النوع ممكن إذا لم تتحد الطباع.
(7/132)
ومعاشرة الزوجين في التنويع ، هي من النوع الثاني ، وفي الآثار محتاجة إلى آثار النوع الأول ، وينقصها من النوع الأول سببه الجبلي لأن الزوجين يكثر ألا يكونا قريبين وسببه الاصطحابي ، في أول عقد التزوج حتى تطول المعاشرة ويكتسب كل من الآخر خلقه ، إلا أن الله تعالى جعل في رغبة الرجل في المرأة إلى حد أن خطبها ، وفي ميله إلى التي يراها ، مذ انتسبت به واقترنت ، وفي نيته معاشرتها معاشرة طيبة ، وفي مقابلة المرأة الرجل بمثل ذلك ما يغرز في نفس الزوجين نوايا وخواطر شريفة وثقة بالخير ، تقوم مقام السبب الجبلي ، ثم تعقبها معاشرة وإلف تكمل ما يقوم مقام السبب الاصطحابي ، وقد أشار الله تعالى إلى هذا السر النفساني الجليل ، بقوله : {ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجاً لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة} [ الروم : 21 ].
وقد يعرض من تنافر الأخلاق وتجافيها ما لا يطمع معه في تكوين هذين السببين أو أحدهما ، فاحتيج إلى وضع قانون للتخلص من هذه الصحبة ، لئلا تنقلب سبب شقاق وعداوة فالتخلص قد يكون مرغوباً لكلا الزوجين ، وهذا لا إشكال فيه ، وقد يكون مرغوباً لأحدهما ويمتنع منه الآخر ، فلزم ترجيح أحد الجانبين وهو جانب الزوج لأن رغبته في المرأة أشد ، كيف وهو الذي سعى إليها ورغب في الاقتران بها ؛ ولأن العقل في نوعه أشد ، والنظر منه في العواقب أسد ، ولا أشد احتمالاً لأذى وصبراً على سوء خلق من المرأة ، فجعل الشرع التخلص من هذه الورطة بيد الزوج ، وهذا التخلص هو المسمى : بالطلاق ، فقد يعمد إليه الرجل بعد لأي ، وقد تسأله المرأة من الرجل ، وكان العرب في الجاهلية تسأل المرأة الرجل الطلاق فيطلقها ، قال سعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل يذكر زوجتيه :
تلك عِرساي تنطقان على عمد
إلى اليوم قولَ زور وهَتْر...
سَالَتَانِي الطلاق أَن رأَتا مَا
لي قليلاً قد جئتماني بنُكْر...
وقال عبيد بن الأبرصْ :
تلكَ عِرسي غضبى تريد زيالي
(7/133)
أَلبَيْن تريد أم لِدَلال...
إن يكن طِبُّككِ الفراقَ فلا أح
فِلُ أن تعطفي صُدور الجِمال...
وجعل الشرع للحاكم إذا أبى الزوج الفراق ولحق الزوجة الضرُّ من عشرته ، بعد ثبوت موجباته ، أن يطلقها عليه.
فالطلاق فسخ لعقدة النكاح بمنزلة الإقالة في البيع ، إلا أنه فسخ لم يشترط فيه رضا كلا المتعاقدين بل اكتُفي برضا واحد : وهو الزوج ، تسهيلاً للفراق عند الاضطرار إليه ، ومقتضى هذا الحكم أن يكون الطلاق قبل البناء بالمرأة ممنوعاً ؛ إذ لم تقع تجربة الأخلاق ، لكن لما كان الداعي إلى الطلاق قبل البناء لا يكون إلا لسبب عظيم لأن أفعال العقلاء تصان عن العبث ، كيف يعمد راغب في امرأة ، باذل لها ماله ونفسه إلى طلاقها قبل التعرف بها ، لولا أن قد علم من شأنها ما أزال رجاءه في معاشرتها ، فكان التخلص وقتئذ قبل التعارف ، أسهل منه بعد التعارف. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 459 ـ 461}
لطيفة
قال الفخر :
اتفقوا على أن المراد من المسيس في هذه الآية الدخول ، قال أبو مسلم : وإنما كنى تعالى بقوله : {تَمَسُّوهُنَّ} عن المجامعة تأديباً للعباد في اختيار أحسن الألفاظ فيما يتخاطبون به ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 118}
قوله تعالى : {أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} فالمعنى يقدر لها مقداراً من المهر يوجبه على نفسه ، لأن الفرض في اللغة هو التقدير ، وذكر كثير من المفسرين أن {أَوْ} ههنا بمعنى الواو ، ويريد : ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن فريضة ، كقوله : {أَوْ يَزِيدُونَ} [ الصافات : 147 ] وأنت إذا تأملت فيما لخصناه علمت أن هذا التأويل متكلف ، بل خطأ قطعاً والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 118}
وقال القرطبى :
(7/134)
"أو" في "أَوْ تَفْرِضُوا" قيل هو بمعنى الواو ؛ أي ما لم تمسوهن ولم تفرضوا لهن ؛ كقوله تعالى : {وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ} [ الأعراف : 4 ] أي وهم قائلون. وقولِه : {وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ} [ الصافات : 147 ] أي ويزيدون. وقوله : {وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً} [ الإنسان : 24 ] أي وكفورا. وقوله : {وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط} [ النساء : 43 ] معناه وجاء أحد منكم من الغائط وأنتم مرضى أو مسافرون. وقوله : {إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ} [ الأنعام : 146 ] وما كان مِثله. ويعتضد هذا بأنه تعالى عطف عليها بعد ذلك المفروض لها فقال : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً}. فلو كان الأوّل لبيان طلاق المفروض لها قبل المسِيس لما كرّره. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 199 ـ 200}
مسائل مهمة للعلامة الفخر :(7/135)
المسألة الأولى : المطلقات قسمان ، مطلقة قبل الدخول ، ومطلقة بعد الدخول ، أما المطلقة قبل الدخول ينظر إن لم يكن فرض لها مهر فلها المتعة بهذه الآية التي نحن فيها ، وإن كان قد فرض لها فلا متعة ، لأن الله تعالى أوجب في حقها نصف المهر ولم يذكر المتعة ، ولو كانت واجبة لذكرها وقال ابن عمر : لكل مطلقة متعة إلا التي فرض لها ولم يدخل بها فحسبها نصف المهر ، وأما المطلقة بعد الدخول سواء فرض لها أو لم يفرض ، فهل تستحق المتعة ، فيه قولان : قال في "القديم" وبه قال أبو حنيفة : لا متعة لها ، لأنها تستحق المهر كالمطلقة بعد الفرض قبل الدخول ، وقال في "الجديد" : بل لها المتعة ، وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام ، والحسن بن علي ، وابن عمر ، والدليل عليه قوله تعالى : {وللمطلقات متاع بالمعروف} [ البقرة : 241 ] وقال تعالى : {فَتَعَالَيْنَ أُمَتّعْكُنَّ} [ الأحزاب : 28 ] وكان ذلك في نساء دخل بهن النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس كالمطلقة بعد الفرض قبل المسيس ، لأنها استحقت الصداق لا بمقابلة استباحة عوض فلم تستحق المتعة والمطلقة بعد الدخول استحقت الصداق بمقابلة استباحة البضع فتجب لها المتعة للإيحاش بالفراق.
(7/136)
المسألة الثانية : مذهب الشافعي وأبي حنيفة أن المتعة واجبة ، وهو قول شريح والشعبي والزهري ، وروي عن الفقهاء السبعة من أهل المدينة أنهم كانوا لا يرونها واجبة ، وهو قول مالك لنا قوله تعالى : {وَمَتّعُوهُنَّ} وظاهر الأمر للإيجاب ، وقال : {وللمطلقات متاع} فجعل ملكاً لهن أو في معنى الملك ، وحجة مالك أنه تعالى قال في آخر الآية : {حَقّاً عَلَى المحسنين} فجعل هذا من باب الإحسان وإنما يقال : هذا الفعل إحسان إذا لم يكن واجباً فإن وجب عليه أداء دين فأداه لا يقال إنه أحسن ، وأيضاً قال تعالى : {مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ} [ التوبة : 91 ] وهذا يدل على عدم الوجوب ، والجواب عنه أن الآية التي ذكرتموها تدل على قولنا لأنه تعالى قال : {حَقّاً عَلَى المحسنين} فذكره بكلمة {على} وهي للوجوب ، ولأنه إذا قيل : هذا حق على فلان ، لم يفهم منه الندب بل الوجوب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ ـ 119118}
قوله تعالى : {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ}
قال ابن عاشور :
وقوله : {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره} الموسع من أوسع إذا صار ذا سعة ، والمقتر من أقتر إذا صار ذا قَتر وهو ضيق العيش ، والقدر بسكون الدال وبفتحها ما به تعيين ذات الشيء أو حاله ، فيطلق على ما يساوي الشيء من الأجرام ، ويطلق على ما يساويه في القيمة ، والمراد به هنا الحال التي يقدر بها المرء في مراتب الناس في الثروة ، وهو الطبقة من القوم ، والطاقة من المال ، وقرأه الجمهور بسكون الدال ، وقرأه ابن ذكوان عن ابن عامر ، وحمزة ، والكسائي ، وحفص عن عاصم ، وأبو جعفر بفتح الدال. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 462 ـ 463}
قال الفخر :
(7/137)
قوله تعالى : {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} يدل على أن تقدير المتعة مفوض إلى الاجتهاد ، ولأنها كالنفقة التي أوجبها الله تعالى للزوجات ، وبين أن الموسع يخالف المقتر وقال الشافعي : المستحب على الموسع خادم ، وعلى المتوسط ثلاثون درهماً ، وعلى المقتر مقنعة ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : أكثر المتعة خادم وأقلها مقنعة ، وأي قدر أدى جاز في جانبي الكثرة والقلة ، وقال أبو حنيفة المتعة لا تزاد على نصف مهر المثل ، قال : لأن حال المرأة التي يسمى لها المهر أحسن من حال التي لم يسم لها ، ثم لما لم يجب لها زيادة على نصف المسمى إذا طلقها قبل الدخول ، فلأن لا يجب زيادة على نصف مهر المثل أولى والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 119}
قال القرطبى :
اختلفوا في الضمير المتصل بقوله {وَمَتِّعُوهُنَّ} مَنْ المراد به مِن النساء ؟ فقال ابن عباس وابن عمر وجابر بن زيد والحسن والشافعي وأحمد وعطاء وإسحاق وأصحاب الرأي : المُتْعَة واجبةٌ للمطلِّقة قبل البِناء والفرض ، ومندوبة في حق غيرها. وقال مالك وأصحابه : المتعة مندوب إليها في كل مطلقة وإن دُخل بها ، إلاّ في التي لم يُدخل بها وقد فُرِض لها فحسْبُها ما فُرض لها ولا مُتْعة لها. وقال أبو ثور : لها المُتْعَة ولكل مطلَّقة. وأجمع أهل العلم على أن التي لم يُفرض لها ولم يُدخل بها لا شيء لها غيرُ المتعة. قال الزُّهْري : يقضي لها بها القاضي. وقال جمهور الناس : لا يقضي بها لها.
(7/138)
قلت : هذا الإجماع إنما هو في الحرّة ، فأما الأمة إذا طلقت قبل الفرض والمسِيس فالجمهور على أن لها المُتْعَةَ. وقال الأُوزاعيّ والثوريّ : لا متعة لها لأنها تكون لسيدها وهو لا يستحق مالاً في مقابلة تأذِّي مملوكته بالطلاق. وأما ربط مذهب مالك فقال ابن شعبان : المتعة بإزاء غمّ الطلاق ، ولذلك ليس للمخْتَلِعة والمبارِئة والمُلاعنة متعةٌ قبل البناء ولا بعده ، لأنها هي التي اختارت الطلاق. وقال الترمذيّ وعطاء والنخعيّ : للمختلعة متعة. وقال أصحاب الرأي : للملاعنة متعة. قال ابن القاسم : ولا متعة في نكاح مفسوخ. قال ابن الموّاز : ولا فيما يدخله الفسخ بعد صحة العقد ؛ مثل مِلك أحد الزوجين صاحبه. قال ابن القاسم : وأصل ذلك قوله تعالى : {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف} [ البقرة : 241 ] فكان هذا الحكم مختصاً بالطلاق دون الفسخ. وروى ابن وهب عن مالك أن المخيَّرة لها المتعة بخلاف الأمَة تعتِق تحت العبد فتختار هي نفسها ، فهذه لا متعة لها. وأما الحرّة تُخَير أو تملك أو يتزوّج عليها أمة فتختار هي نفسها في ذلك كله فلها المتعة ؛ لأن الزوج سبب للفراق.
(7/139)
الثامنة : قال مالك : ليس للمتعة عندنا حدّ معروف في قليلها ولا كثيرها. وقد اختلف الناس في هذا ؛ فقال ابن عمر : أدنى ما يجزىء في المتعة ثلاثون درهماً أو شبهها. وقال ابن عباس : أرفع المتعة خادم ثم كسوة ثم نفقة. عطاء : أوسطها الدرع والخِمار والمِلحفة. أبو حنيفة : ذلك أدناها. وقال ابن مَحيْريز : على صاحب الديوان ثلاثة دنانير ، وعلى العبد المتعة. وقال الحسن : يُمَتِّع كل بقدره ، هذا بخادم وهذا بأثواب وهذا بثوب وهذا بنفقة ؛ وكذلك يقول مالك بن أنس ، وهو مقتضى القرآن فإن الله سبحانه لم يقدّرها ولا حدّدها وإنما قال : {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ}. ومتع الحسن ابن عليّ بعشرين ألفاً وزِقاق من عسل. ومتع شريح بخمسمائة درهم. وقد قيل : إن حالة المرأة مُعتَبَرة أيضاً ؛ قاله بعض الشافعية ، قالوا : لو اعتبرنا حال الرجل وحده لزم منه أنه لو تزوّج امرأتين إحداهما شريفة والأُخرى دَنيّة ثم طلقهما قبل المَسِيس ولم يُسمّ لهما أن يكونا متساويتين في المتعة فيجب للدّنية ما يجب للشريفة وهذا خلاف ما قال الله تعالى : {مَتَاعاً بالمعروف} ويلزم منه أن الموسر العظيم اليسار إذا تزوّج امرأة دنية أن يكون مثلها ؛ لأنه إذا طلَّقها قبل الدخول والفَرْض لزمته المتعة على قدر حاله ومهر مثلها ؛ فتكون المتعة على هذا أضعاف مهر مِثلها ؛ فتكون قد استحقّت قبل الدخول أضعاف ما تستحقه بعد الدخول من مهر الْمِثْل الذي فيه غاية الابتذال وهو الوطء.(7/140)
وقال أصحاب الرأي وغيرهم : مُتْعَة التي تطلَّق قبل الدخول والفرض نصف مهر مثلها لا غير ؛ لأن مهر المثل مستَحَقٌّ بالعقد ، والمتعة هي بعض مهر المثل ؛ فيجب لها كما يجب نصف المسمَّى إذا طلَّق قبل الدخول ، وهذا يرده قوله تعالى : {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} وهذا دليل على رفض التحديد ؛ والله بحقائق الأُمور عليم. وقد ذكر الثعلبيّ حديثاً قال : نزلت {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء} الآية ، في رجل من الأنصار تزوّج امرأة من بني حنيفة ولم يسم لها مهراً ثم طلقها قبل أن يمسَّها فنزلت الآية ؛ فقال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " متِّعْها ولو بقَلَنْسُوَتك " وروى الدارقطنيّ عن سُويد بن غَفَلة قال : كانت عائشة الخثْعَمية عند الحسن بن علي بن أبي طالب فلما أُصيب عَليٌّ وبويع الحسن بالخلافة قالت : لِتَهْنِكَ الخلافةُ يا أمير المؤمنين! فقال : يُقتل عَليٌّ وتُظهرين الشماتة! اذهبي فأنت طالق ثلاثاً. قال : فَتَلفّعت بسَاجِها وقعدت حتى انقضت عدّتها ؛ فبعث إليها بعشرة الاف متعةً ، وبقيةِ ما بقي لها من صداقها. فقالت :
مَتاعٌ قليلٌ من حَبِيب مُفارِقِ ... فلما بلغه قولُها بكى وقال : لولا أني سمعت جدّي أو حدثني أبي أنه سمع جدّي يقول : أيّما رجل طلّق امرأته ثلاثاً مبهمة أو ثلاثاً عند الأَقْرَاء لم تحل له حتى تنكح زوجاً غيره لراجعتها. وفي رواية : أخبره الرسول فبكى وقال : لولا أني أَبَنْت الطلاق لها لراجعتها ، ولكني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أيّما رجل طلّق امرأته ثلاثاً عند كل طهر تطليقةً أو عند رأس كل شهر تطليقةً أو طلقها ثلاثاً جميعاً لم تَحِل له حتى تنكح زوجاً غيره ". أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 200 ـ 202}
وقال الطبرى : (7/141)
والصواب من القول في ذلك ما قال ابن عباس ومن قال بقوله : من أن الواجب من ذلك للمرأة المطلقة على الرجل على قدر عسره ويسره ، كما قال الله تعالى ذكره : "على الموسع قدره وعلى المقتر قدره" ، لا على قدر المرأة.
ولو كان ذلك واجبا للمرأة على قدر صداق مثلها إلى قدر نصفه ، لم يكن لقيله تعالى ذكره : "على الموسع قدره وعلى المقتر قدره" ، معنى مفهوم ولكان الكلام : ومتعوهن على قدرهن وقدر نصف صداق أمثالهن.
وفي إعلام الله تعالى ذكره عباده أن ذلك على قدر الرجل في عسره ويسره ، لا على قدرها وقدر نصف صداق مثلها ، ما يبين عن صحة ما قلنا ، وفساد ما خالفه. وذلك أن المرأة قد يكون صداق مثها المال العظيم ، والرجل في حال طلاقه إياها مقتر لا يملك شيئا ، فإن قضي عليه بقدر نصف صداق مثلها ، ألزم ما يعجز عنه بعض من قد وسع عليه ، فكيف المقدور عليه ؟ وإذا فعل ذلك به ، كان الحاكم بذلك عليه قد تعدى حكم قول الله تعالى ذكره : "على الموسع قدره وعلى المقتر قدره" -ولكن ذلك على قدر عسر الرجل ويسره ، لا يجاوز بذلك خادم أو قيمتها ، إن كان الزوج موسعا. وإن كان مقترا ، فأطاق أدنى ما يكون كسوه لها ، وذلك ثلاثة أثواب ونحو ذلك ، قضي عليه بذلك. وإن كان عاجزا عن ذلك ، فعلى قدر طاقته. وذلك على قدر اجتهاد الإمام العادل عند الخصومة إليه فيه. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 5 صـ 124}
كلام نفيس للعلامة الجصاص :
قال رحمه الله :
(7/142)
ذِكْرُ تَقْدِيرِ الْمُتْعَةِ الْوَاجِبَةِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ} وَإِثْبَاتُ الْمِقْدَارِ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِهِ فِي الْإِعْسَارِ وَالْيَسَارِ طَرِيقُهُ الِاجْتِهَادِ وَغَالِبُ الظَّنِّ ، وَيَخْتَلِفُ ذَلِكَ فِي الْأَزْمَانِ أَيْضًا ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى شَرَطَ فِي مِقْدَارِهَا شَيْئَيْنِ : أَحَدُهُمَا : اعْتِبَارُهَا بِيَسَارِ الرَّجُلِ وَإِعْسَارِهِ ، وَالثَّانِي : أَنْ يَكُونَ بِالْمَعْرُوفِ مَعَ ذَلِكَ ؛ فَوَجَبَ اعْتِبَارُ الْمَعْنَيَيْنِ فِي ذَلِكَ.
فَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ وَكَانَ الْمَعْرُوفُ مِنْهُمَا مَوْقُوفًا عَلَى عَادَاتِ النَّاسِ فِيهَا وَالْعَادَاتُ قَدْ تَخْتَلِفُ وَتَتَغَيَّرُ ، وَجَبَ بِذَلِكَ مُرَاعَاةُ الْعَادَاتِ فِي الْأَزْمَانِ وَذَلِكَ أَصْلٌ فِي جَوَازِ الِاجْتِهَادِ فِي أَحْكَامِ الْحَوَادِثِ ؛ إذْ كَانَ ذَلِكَ حُكْمًا مُؤَدِّيًا إلَى اجْتِهَادٍ رَأَيْنَا.
وَقَدْ ذَكَرْنَا أَنَّ شَيْخَنَا أَبَا الْحَسَنِ رَحِمَهُ اللَّهُ يَقُولُ : ( يَجِبُ مَعَ ذَلِكَ اعْتِبَارُ حَالِ الْمَرْأَةِ أَيْضًا ) وَذَكَرَ ذَلِكَ أَيْضًا عَلِيُّ بْنُ مُوسَى الْقُمِّيُّ فِي كِتَابِهِ ، وَاحْتَجَّ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى عَلَّقَ الْحُكْمَ فِي تَقْدِيرِ الْمُتْعَةِ بِشَيْئَيْنِ : حَالِ الرَّجُلِ بِيَسَارِهِ وَإِعْسَارِهِ ، وَأَنْ يَكُونَ مَعَ ذَلِكَ بِالْمَعْرُوفِ.
(7/143)
قَالَ : فَلَوْ اعْتَبَرْنَا حَالَ الرَّجُلِ وَحْدَهُ عَارِيًّا مِنْ اعْتِبَارِ حَالِ الْمَرْأَةِ ، لَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ لَوْ تَزَوَّجَ امْرَأَتَيْنِ إحْدَاهُمَا شَرِيفَةٌ وَالْأُخْرَى دَنِيَّةٌ مَوْلَاةٌ ثُمَّ طَلَّقَهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُسَمِّ لَهُمَا أَنْ تَكُونَا مُتَسَاوِيَتَيْنِ فِي الْمُتْعَةِ ، فَتَجِبُ لِهَذِهِ الدَّنِيَّةِ كَمَا تَجِبُ لِهَذِهِ الشَّرِيفَةِ ؛ وَهَذَا مُنْكَرٌ فِي عَادَاتِ النَّاسِ وَأَخْلَاقِهِمْ غَيْرُ مَعْرُوفٍ.
قَالَ : وَيَفْسُدُ مِنْ وَجْهٍ آخَرَ قَوْلُ مَنْ اعْتَبَرَ حَالَ الرَّجُلِ وَحْدَهُ دُونَهَا ، وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ كَانَ رَجُلًا مُوسِرًا عَظِيمَ الشَّأْنِ فَتَزَوَّجَ امْرَأَةً دَنِيَّةً مَهْرُ مِثْلِهَا دِينَارٌ ، أَنَّهُ لَوْ دَخَلَ بِهَا وَجَبَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا ؛ إذْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا شَيْئًا دِينَارٌ وَاحِدٌ ، وَلَوْ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ لَزِمَتْهُ الْمُتْعَةُ عَلَى قَدْرِ حَالِهِ ، وَقَدْ يَكُونُ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَهْرِ مِثْلِهَا ، فَتَسْتَحِقُّ قَبْلَ الدُّخُولِ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَكْثَرَ مِمَّا تَسْتَحِقُّهُ بَعْدَ الدُّخُولِ.
وَهَذَا خُلْفٌ مِنْ الْقَوْلِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَدْ أَوْجَبَ لِلْمُطْلَقَةِ قَبْلَ الدُّخُولِ نِصْفَ مَا أَوْجَبَهُ لَهَا بَعْدَ الدُّخُولِ ، فَإِذَا كَانَ الْقَوْلُ بِاعْتِبَارِ حَالِ الرَّجُلِ دُونَهَا يُؤَدِّي إلَى مُخَالَفَةِ مَعْنَى.
الْكِتَابِ وَدَلَالَتِهِ وَإِلَى خِلَافِ الْمَعْرُوفِ فِي الْعَادَاتِ سَقَطَ وَوَجَبَ اعْتِبَارُ حَالِهَا مَعَهُ.
(7/144)
وَيَفْسُدُ أَيْضًا مِنْ وَجْهٍ آخَرَ : وَهُوَ أَنَّهُ لَوْ تَزَوَّجَ رَجُلَانِ مُوسِرَانِ أُخْتَيْنِ فَدَخَلَ أَحَدُهُمَا : بِامْرَأَتِهِ كَانَ لَهَا مَهْرُ مِثْلِهَا أَلْفُ دِرْهَمٍ ، إذْ لَمْ يُسَمِّ لَهَا مَهْرًا ؛ وَطَلَّقَ الْآخَرُ امْرَأَتَهُ قَبْلَ الدُّخُولِ مِنْ غَيْرِ تَسْمِيَةٍ أَنْ تَكُونَ الْمُتْعَةُ لَهَا عَلَى قَدْرِ حَالِ الرَّجُلِ ، وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ أَضْعَافُ مَهْرِ أُخْتِهَا فَيَكُونُ مَا تَأْخُذُهُ الْمَدْخُولُ بِهَا أَقَلَّ مِمَّا تَأْخُذُهُ الْمُطَلَّقَةُ ، وَقِيمَةُ الْبُضْعَيْنِ وَاحِدَةٌ وَهُمَا مُتَسَاوِيَتَانِ فِي الْمَهْرِ ، فَيَكُونُ الدُّخُولُ مُدْخِلًا عَلَيْهَا ضَرَرًا وَنُقْصَانًا فِي الْبَدَلِ ؛ وَهَذَا مُنْكَرٌ غَيْرُ مَعْرُوفٍ.
فَهَذِهِ الْوُجُوهُ كُلُّهَا تَدُلُّ عَلَى اعْتِبَارِ حَالِ الْمَرْأَةِ مَعَهُ.
وَقَدْ قَالَ أَصْحَابُنَا : " إنَّهُ إذَا طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَلَمْ يُسَمِّ لَهَا وَكَانَتْ مُتْعَتُهَا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا أَنَّهَا لَا تُجَاوِزُ بِهَا نِصْفَ مَهْرِ مِثْلِهَا فَيَكُونُ لَهَا الْأَقَلُّ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ مِثْلِهَا وَمِنْ الْمُتْعَةِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَمْ يَجْعَلْ الْمُسَمَّى.
لَهَا أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ التَّسْمِيَةِ مَعَ الطَّلَاقِ قَبْلَ الدُّخُولِ ، فَغَيْرُ جَائِزٍ أَنْ يُعْطِيَهَا عِنْدَ عَدَمِ التَّسْمِيَةِ أَكْثَرَ مِنْ نِصْفِ مَهْرِ الْمِثْلِ ؛ وَلَمَّا كَانَ الْمُسَمَّى مَعَ ذَلِكَ أَكْثَرَ مِنْ مَهْرِ الْمِثْلِ فَلَمْ تَسْتَحِقَّ بَعْدَ الطَّلَاقِ أَكْثَرَ مِنْ النِّصْفِ ، فَفِي مَهْرِ الْمِثْلِ أَوْلَى ".
(7/145)
وَلَمْ يُقَدِّرْ أَصْحَابُنَا لَهَا مِقْدَارًا مَعْلُومًا لَا يَتَجَاوَزُ بِهِ وَلَا يَقْصُرُ عَنْهُ ، وَقَالُوا : ( هِيَ عَلَى قَدْرِ الْمُعْتَادِ الْمُتَعَارَفِ عَلَيْهِ فِي كُلِّ وَقْتٍ ) وَقَدْ ذُكِرَ عَنْهُمْ ثَلَاثَةُ أَثْوَابٍ دِرْعٌ وَخِمَارٌ وَإِزَارٌ ، وَالْإِزَارُ هُوَ الَّذِي تَسْتَتِرُ بِهِ بَيْنَ النَّاسِ عِنْدَ الْخُرُوجِ.
وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ السَّلَفِ فِي مِقْدَارِهَا أَقَاوِيلُ مُخْتَلِفَةٌ عَلَى حَسَبِ مَا غَلَبَ فِي رَأْيِ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ.
ثم قال رحمه الله :
وَهَذِهِ الْمَقَادِيرُ كُلُّهَا صَدَرَتْ عَنْ اجْتِهَادِ آرَائِهِمْ وَلَمْ يُنْكِرْ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ مَا صَارَ إلَيْهِ مِنْ مُخَالَفَتِهِ فِيهِ ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا عِنْدَهُمْ مَوْضُوعَةٌ عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ إلَيْهِ اجْتِهَادُهُ ، وَهِيَ بِمَنْزِلَةِ تَقْوِيمِ الْمُتْلَفَاتِ وَأَرْوَشِ الْجِنَايَاتِ الَّتِي لَيْسَ لَهَا مَقَادِيرُ مَعْلُومَةٌ فِي النُّصُوصِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 143 ـ 144}
قوله تعالى : {متاعا بالمعروف حقا عَلَى المحسنين}
سؤال : لم خص المحسنين بالذكر ؟
الجواب : في سبب تخصيصه بالذكر وجوه
أحدها : أن المحسن هو الذي ينتفع بهذا البيان : كقوله : {إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يخشاها} [ النازعات : 45 ]
والثاني : قال أبو مسلم : المعنى أن من أراد أن يكون من المحسنين فهذا شأنه وطريقه ، والمحسن هو المؤمن ، فيكون المعنى أن العمل بما ذكرت هو طريق المؤمنين الثالث : {حَقّاً عَلَى المحسنين} إلى أنفسهم في المسارعة إلى طاعة الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 120}
قال الجصاص : (7/146)
فَإِنْ قِيلَ : لَمَّا خَصَّ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ بِالذِّكْرِ فِي إيجَابِ الْمُتْعَةِ عَلَيْهِمْ ، دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ وَأَنَّهَا نَدْبٌ ؛ لِأَنَّ الْوَاجِبَاتِ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمُتَّقُونَ وَالْمُحْسِنُونَ وَغَيْرُهُمْ.
قِيلَ لَهُ : إنَّمَا ذَكَرَ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ تَأْكِيدًا لِوُجُوبِهَا ، وَلَيْسَ تَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ نَفْيًا لِإِيجَابِهَا عَلَى غَيْرِهِمْ كَمَا قَالَ تَعَالَى : {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} وَهُوَ هُدًى لِلنَّاسِ كَافَّةً ، وقَوْله تَعَالَى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ} فَلَمْ يَكُنْ قَوْله تَعَالَى : {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} مُوجِبًا ؛ لَأَنْ لَا يَكُونَ هُدًى لِغَيْرِهِمْ ؛ كَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} و{حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ} غَيْرُ نَافٍ أَنْ يَكُونَ حَقًّا عَلَى غَيْرِهِمْ.
وَأَيْضًا فَإِنَّا نُوجِبُهَا عَلَى الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ بِالْآيَةِ وَنُوجِبُهَا عَلَى غَيْرِهِمْ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا} وَذَلِكَ عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ بِالِاتِّفَاقِ ؛ لِأَنَّ كُلَّ مَنْ أَوْجَبَهَا مِنْ فُقَهَاءِ الْأَمْصَارِ عَلَى الْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ أَوْجَبَهَا عَلَى غَيْرِهِمْ.
(7/147)
وَيَلْزَمُ هَذَا السَّائِلَ أَنْ لَا يَجْعَلَهَا نَدْبًا أَيْضًا ؛ لِأَنَّ مَا كَانَ نَدْبًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ الْمُتَّقُونَ وَغَيْرُهُمْ ، فَإِذَا جَازَ تَخْصِيصُ الْمُتَّقِينَ وَالْمُحْسِنِينَ بِالذِّكْرِ فِي الْمَنْدُوبِ إلَيْهِ مِنْ الْمُتْعَةِ وَهُمْ وَغَيْرُهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ، فَكَذَلِكَ جَائِزٌ تَخْصِيصُ الْمُحْسِنِينَ وَالْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ فِي الْإِيجَابِ وَيَكُونُونَ هُمْ وَغَيْرُهُمْ فِيهِ سَوَاءً. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 138}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
إنْ ابتلاءَ تَمَّ بوصيلة أشكالكم ثم بدا لكم فلا جناح عليكم في اختيار الفرقة - إذا أردتم - فإن الذي لا يجوز اختيار فرقته - واحد ؛ فأَما صحبة الخَلْق بعضهم مع بعض فليس بواجب ، بل غاية وصفه أنه جائز.
ولمَّا وقع عليهن اسمكم فنصف المسمَّى يجب لهن ، فإِن الفراق - كيفما كان - فهو شديد ، فجعل ما يستحق من العوض كالخَلفِ لها عند تجرع كأس الفرقة.
فإن لم يكن مسمًّى فلا يخلو العقد من متعة ؛ فإن تجرع الفرقة - مجرداً عن الراحة - بلاء عظيم. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 186}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
وقد تضمنت هذه الآية الكريمة أنواعاً من الفصاحة ، وضروباً من علم البيان والبلاغة.
الكناية في : أن تمسوهنّ ، والتجنيس المغاير ، في : فرضتم لهنّ فريضة ، والطباق في : الموسع والمقتر ، والتأكيد بالمصدرين في : متاعاً وحقاً ، والاختصاص : في : حقاً على المحسنين ، ويمكن أن يكون من : التتميم ، لما قال : حقاً ، أفهم الإيجاب ، فلما قال : على المحسنين تمم المعنى ، وبيَّن أنه من باب التفضل والإحسان لا من باب الإيجاب ، فلما قال : على المحسنين تمم التعميم ، وبين أنه من باب التفضل والإحسان ، لا من باب الإيجاب. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 247}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}.(7/148)
وجه الفصل كونها جملة خبرية والأولى طلبية فلذلك لم يعطفها عليها.
قال ابن مالك : وإلا فالقاعدة أن الجملتين إذا كانتا متقاربتين في المعنى لم يعطف.
قوله تعالى : {مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ...}.
ابن عرفة هذا كما ( قال ) غير مرة : إن من أكثر ما وردت ( لَمْ ) في القرآن لنفي الماضي المتصل بزمن الحال قال : و( أو ) هنا بمعنى الواو. كما قال ابن راشد ، وهو الصحيح ، لأنها إذا كانت على بابها أعني ( للتنويع ) لزم نفي الجناح ( عمن طلق بعد الدخول في نكاح التفويض ، وإذا اكانت بمعنى الواو فيكون المراد برفع الجناح ) بسقوط نصف الصداق ) بالطلاق.
قوله تعالى : {وَمَتِّعُوهُنَّ...}.
قال ابن عرفة : إنما عطف هذه وهي أمر على ما قبلها وهي خبر لأن قبلها تضمن حكم الطّلاق وهو سبب في الأمر بالمتعة والسببية ظاهرة فلذلك عطفت ( بالواو ) ولو كانت خفية لعطفت بالفاء.
قال ابن عرفة في مختصره الفقهي : المتعة ما يؤمر الزوج بإعطائه الزوجة لطلاقه إياها ، والمعروف أنّها مستحبة يؤمر بها ولا يقضى بها ولا ( تحاصص ).
قال ابن زرقون في المبسوط عن محمد بن مسلمة هي واجبة ( يقضي بها ) ( لأنه ) لا يأبى أن يكون من المحسنين ولا المتقين إلاّ رجل سوء.
قال ابن عرفة : ولأن رأي المتقدمين أن المؤمن والمتقي متساويان ولأن قوله : {حَقّاً عَلَى المتقين} يقتضي عموم تعلقها بكل مسلم لأنه متق الشرك وقوله " عَلَى الْمُحْسِنِينَ " مفهومه عدم تعقلها بمن ليس بمحسن من المسلمين فيتعارض العموم والمفهوم والأصح عند الأصوليين أن العموم مقدم ونقله اللَّخمي ولم يعزه وعزاه الإمام ابن عبد السلام لابن حبيب.
قال ابن عرفة : قال أبو عمران : إنما يقدر حال المرأة ، وابن عبد البر يقدر حال الرجل وابن رشد ( يقدر ) حالهما.
قال ابن عرفة : وهي لكل مطلقة في عصمة لا رجعة فيها ولا خيار على الزوج.(7/149)
وفي المدونة ما نصّه : لا متعة لمختلعة ولا مصالحة ولا ملاعنة ولا مطلقة قبل البناء.
وقد فرض لها اللخمي. ولا مفتدية ولا متبارية ولا من اختارت نفسها لعتقها ولا من فسخ نكاحها ولم تعارض.
قال الإمام ابن رشد : ظاهر قول ابن القاسم إن طلّق فيما يفسخ بطلاق فسخه ، فلا متعة عليه.
اللخمي : إن فسخ الرضاع بأمر الزوج رأيت عليها المتعة وإن اشترى زوجته لم يمتعها لبقائها معه ولو اشترى بعضها متّعها ، وأما المخيرة والمملكة فقال الإمام ابن رشد : روى ابن وهب : أنّ لهما المتعة.
وقال ابن خويز منداد : لا متعة لهما ، وقال ابن يونس : لمن اختارت نفسها بتزويج أمة عليها المتعة ، انتهى.
قال ابن عرفة : المطلقة لا متعة لها في البائن دون الرجعي فإن ماتت في العدة فالظاهر أن المطلق يرث من تلك المتعة.
قيل لابن عرفة : لا يرث لأنّه إذا كان الطلاق بائنا فلا متعة ولا ميراث ، وإن كانت رجعية فقد ماتت قبل أن تجب لها لأنها إنّما تجب لها بعد انقضاء العدة ؟
فقال إنّما ( أجّلنا ) المتعة بانقضاء العدة رجاء أن يرتجعها قبل تمامها فإذا ماتت ذهبت تلك العدة.
قيل لابن عرفة : إنما هي جبر لقلبها ففي الموت لا متعة ؟
فقال : قد قالوا : إنّها تجب.
وقرىء " عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ ". واستشكلها ابن عرفة بحذف المجرور. وقد انتقد القرافي على الفخر الرازي تسميته كتاب المحصول ، لأن اسم المفعول من الفعل الذي لا يتعدى إلا بحرف الجر لا يجوز أن يحذف مجروره ، وأجابوا : بأن ذلك اسم عَلَمٍ سمّاه بالمحصول كما قال تعالى {عِندَ سِدْرَةِ المنتهى} لكن ذلك الجواب لا يتصور هنا.
وأجيب : بأن هذا يتعدى بنفسه تقول : وسعت المكان والدار والطريق ووسعت الأمر :
- قال الله تعالى : {وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض} _ وقال : {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ.} أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 308 ـ 309}(7/150)
قوله تعالى : {وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما نفي الجناح بانتفاء المسيس والفرض فأفهم أنهما إذا وجدا وجد الجناح بوجوب المفروض كله أتبعه ما إذا انتفى أحدهما فقط فذكر الحكم عند انتفاء المسيس وحده صريحاً في ضد المفوضة السابقة وأفهم بذلك ما إذا انتفى الفرض وحده تلويحاً فقال : {وإن طلقتموهن} أي الزوجات {من قبل أن تمسوهن} أي تجامعوهن سواء كانت هناك خلوة أو لا {وقد} أي والحال أنكم {فرضتم} أي سميتم {لهن فريضة} أي مهراً مقدراً {فنصف} أي فالمأخوذ نصف {ما فرضتم} أي سميتم لهن من الصداق لا غير.
ولما أوجب لها ذلك بعثها على تركه لأن الزوج لم ينتفع منها بشيء بالتعبير بالعفو فقال : {إلا أن يعفون} أي النساء فإن النون ضميرهن والواو لام الفعل فلا يؤخذ منكم شيء {أو يعفوا الذي بيده} أي إليه ولكن لما كان أغلب الأعمال باليد أسندت كلها إليها فصارت كناية عن القدرة {عقدة النكاح} وهو الزوج الذي إن شاء أبقاها وإن شاء حلها فيسمح لها بالجميع كان التعبير بهذا هزاً للزوج إلى العفو في نظير ما جعل إليه من هذا دونها.
قال الحرالي : إذا قرن هذا الإيراد بقوله : {ولا تعزموا عقدة النكاح} خطاباً للأزواج قوي فسر من جعل الذي بيده عقدة النكاح هو الزوج معادلة للزوجات ، ومن خص عفوهن بالمالكات أي الراشدات خص هذا بالأولياء فكان هذا النمط من التهديف للاختلاف ليس عن سعة إيهام وكأنه عن تبقية بوجه ما من نهاية الإفصاح فمنشأ الخلاف فيه دون منشأ الخلاف من خطابات السعة بالإيهام - انتهى.
(7/151)
وجعل الإمام هذا مفهوماً من التعبير بالعقدة لأنها تدل على المفعول كالأكلة واللقمة والذي بيده ذلك الزوج والذي بيد الولي العقد وهو المصدر كالأكل واللقم لا العقدة الحاصلة بعد العقد {وأن تعفوا} أيها الرجال والنساء {أقرب} أي من الحكم بالعدل الذي هو السواء.
ولما كان المقام للترغيب عبر باللام الدالة على مزيد القرب دون إلى فقال : {للتقوى} أما من المرأة فلأجل أن الزوج لم ينل منها شيئاً ولا حظي بطائل فهو أقرب إلى رضاه ، وأما من الرجل فلما أشار إليه بجعل العقدة بيده فإنه كما ربطها باختياره حلها باختياره فدفعه الكل أقرب إلى جبر المرأة ورضاها ، ومن فعل الفضل كان بفعله ذلك أقرب إلى أن يفعل الواجب بمن لم يفضل.
ولما كان العفو فضلاً من العافي وإحساناً لها منه وكانوا إنما يتفاخرون بالفضائل أكده بقوله : {ولا تنسوا} أي تتركوا ترك المنسي ، والتعبير بالنسيان آكد في النهي {الفضل} أي أن تكونوا مفضلين في جميع ما مضى لا مفضلاً عليكم ، فإن اليد العليا خير من اليد السفلى ، وزاده تأكيداً بقوله : {بينكم} أي حال كونه واقعاً فيكم من بعضكم لبعض ليس شيء منه خارجاً عنكم ، ولن ينال الله منه شيء لأنه غني عن كل شيء ، فما أمركم به إلا لنفعكم خاصة ، لئلا يتأذى الزوج ببذل لم ينتفع في مقابله من المرأة بشيء ، ولا المرأة بطلاق لم يحصل لها في نظير ما يلحقها من الكسر بسببه شيء ، وهو يصح أن يكون بالتغليب خطاباً للقبيلين.
وخصه الحرالي بالرجال فقال : فمن حق الزوج الذي له فضل الرجولة أن يكون هو العافي وأن لا يؤاخذ النساء بالعفو ، ولذلك لم يأت في الخطاب أمر لهن ولا تحريض ، فمن أقبح ما يكون حمل الرجل على المرأة في استرجاع ما آتاها بما يصرح به قوله : {أو آتيتم إحداهن قنطاراً فلا تأخذوا منه شيئاً} [ آل عمران : 20 ] فينبغي أن لا تنسوا ذلك الفضل فتجرون عليه حيث لم تلزموا به - انتهى.
(7/152)
ثم علل ذلك مرغباً مرهباً بقوله : {إن الله} أي الذي له الكمال كله {بما تعملون} أي وإن دق {بصير} وأفهم ذلك : وإن طلقتموهن بعد المسيس وقبل الفرض فجميع مهر المثل. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 447 ـ 449}
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما ذكر حكم المطلقة غير الممسوسة إذا لم يفرض لها مهر ، تكلم في المطلقة غير الممسوسة إذا كان قد فرض لها مهر.
وفي الآية مسائل :
المسألة الأولى : مذهب الشافعي أن الخلوة لا تقرر المهر ، وقال أبو حنيفة : الخلوة الصحيحة تقرر المهر ، ويعني بالخلوة الصحيحة : أن يخلوا بها وليس هناك مانع حسي ولا شرعي ، فالحسي نحو : الرتق والقرن والمرض ، أو يكون معهما ثالث وإن كان نائماً ، والشرعي نحو ، الحيض والنفاس وصوم الفرض وصلاة الفرض والإحرام المطلق سواء كان فرضاً أو نفلاً ، حجة الشافعي أن الطلاق قبل المسيس يوجب سقوط نصف المهر وههنا وجد الطلاق قبل المسيس فوجب القول بسقوط نصف المهر.
بيان المقدمة الأولى : قوله تعالى : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فقوله : {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ليس كلاماً تاماً بل لا بد من إضمار آخر ليتم الكلام ، فأما أن يضمر {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ساقط ، أو يضمر {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} ثابت والأول هو المقصود ، والثاني مرجوح لوجوه
(7/153)
أحدها : أن المعلق على الشيء بكلمة إن عدم ذلك الشيء ظاهراً ، فلو حملناه على الوجوب تركنا العمل بقضية التعليق ، لأنه غير منفي قبله ، أما لو حملناه على السقوط ، عملنا بقضية التعليق ، لأنه منفي قبله وثانيها : أن قوله تعالى : {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً} يقتضي وجوب كل المهر عليه ، لأنه لما التزم لزمه الكل لقوله تعالى : {أَوْفُواْ بالعقود} فلم تكن الحاجة إلى بيان ثبوت النصف قائمة لأن المقتضى لوجوب الكل مقتض أيضاً لوجوب النصف إنما المحتاج إليه بيان سقوط النصف ، لأن عند قيام المقتضى لوجوب الكل كان الظاهر هو وجوب الكل ، فكان سقوط البعض في هذا المقام هو المحتاج إلى البيان ، فكان حمل الآية على بيان السقوط أولى من حملها على بيان الوجوب وثالثها : أن الآية الدالة على وجوب إيتاء كل المهر قد تقدمت كقوله : {وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّا ءَاتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا} [ البقرة : 129 ] فحمل الآية على سقوط النصف أولى من حملها على وجوب النصف ورابعها : وهو أن المذكور في الآية هو الطلاق قبل المسيس ، وكون الطلاق واقعاً قبل المسيس يناسب سقوط نصف المهر ، ولا يناسب وجوب شيء ، فلما كان المذكور في الآية ما يناسب السقوط ، لا ما يناسب الوجوب كان إضمار السقوط أولى ، وإنما استقصينا في هذه الوجوه لأن منهم من قال : إن معنى الآية : فنصف ما فرضتم واجب ، وتخصيص النصف بالوجوب لا يدل على سقوط النصف الآخر ، إلا من حيث دليل الخطاب ، وهو عند أبي حنيفة ليس بحجة ، فكان غرضنا من هذا الاستقصاء دفع هذا السؤال.
(7/154)
بيان المقدمة الثانية : وهي أن ههنا وجد الطلاق قبل المسيس ، هو أن المراد بالمسيس إما حقيقة المس باليد أو جعل كناية عن الوقاع ، وأيهما كان فقد وجد الطلاق قبله ، حجة أبي حنيفة قوله تعالى : {وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَءاتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً} [ النساء : 20 ] إلى قوله : {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [ النساء : 21 ] وجه التمسك به من وجهين الأول : هو أنه تعالى نهى عن أخذ المهر ، ولم يفصل بين الطلاق وعدم الطلاق إلا أن توافقنا على أنه خص الطلاق قبل الخلوة ، ومن ادعى التخصيص ههنا فعليه البيان والثاني : أن الله تعالى نهى عن أخذ المهر وعلل بعلة الإفضاء ، وهي الخلوة ، والإفضاء مشتق من الفضاء ، وهو المكان الخالي ، فعلمنا أن الخلوة تقرر المهر.
وجوابنا عن ذلك أن الآية التي تمسكوا بها عامة ، والآية التي تمسكنا بها خاصة والخاص مقدم على العام ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 120 ـ 121}
فصل
قال القرطبى :
اختلف الناس في هذه الآية ؛
فقالت فرقة منها مالك وغيره : إنها مُخْرِجَةٌ المطلَّقةَ بعد الفرض من حكم التَّمتُّع ؛ إذْ يتناولها قوله تعالى : {وَمَتِّعُوهُنَّ}.
وقال ابن المسيب : نسخت هذه الآيةَ الآيةُ التي في "الأحزاب" لأن تلك تضمنت تمتيع كل من لم يدخل بها. وقال قتادة : نسخت هذه الآيةُ الآيةَ التي قبلها.
قلت : قول سعيد وقتادة فيه نظر ؛ إذْ شروط النسخ غير موجودة والجمع ممكنٌ.
وقال ابن القاسم في المدوّنة : كان المتاع لكل مطلقة بقوله تعالى : {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف} [ البقرة : 241 ] ولغير المدخول بها بالآية التي في سورة "الأحزاب" فاستثنى الله تعالى المفروضَ لها قبل الدخول بها بهذه الآية ، وأثبت للمفروض لها نصف ما فُرِض فقط.
(7/155)
وقال فريق من العلماء منهم أبو ثور : المتعة لكل مطلقة عموماً ، وهذه الآية إنما بيَّنتْ أن المفروض لها تأخذ نصفَ ما فُرض لها ، ولم يعن بالآية إسقاط مُتْعتها ، بل لها المتعة ونصف المفروض. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 204}
قوله تعالى : {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً}
قوله تعالى : {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} أي فالواجب نصف ما فرضتم ، أي من المهر فالنصف للزوج والنصف للمرأة بإجماع. والنصف الجزء من اثنين ؛ فيقال : نَصَف الماءُ القدحَ أي بلغ نصفه. ونصَف الإزارُ السّاقَ ؛ وكل شيء بلغ نصف غيره فقد نصَفَه. وقرأ الجمهور "فَنِصْفُ" بالرفع. وقرأت فرقة "فَنِصْفَ" بنصب الفاء ؛ المعنى فادفعوا نصف. وقرأ علي بن أبي طالب وزيد بن ثابت "فَنُصْفُ" بضم النون في جميع القرآن وهي لُغَةٌ. وكذلك رَوى الأصمعيُّ قراءةً عن أبي عمرو بن العلاء يقال : نِصف ونُصف ونِصيف ، لغات ثلاث في النصف ؛ وفي الحديث : " لو أنّ أحدكم أنفق مثل أحدٍ ذهبا ما بلغ مد أحدهم ولا نِصيفه " أي نصفه. والنصيف أيضاً القِناع. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 204 ـ 205}
فائدة
قال الجصاص : (7/156)
وقَوْله تَعَالَى : {فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ إذَا تَزَوَّجَهَا عَلَى أَلْفِ دِرْهَمٍ وَدَفْعَهَا إلَيْهَا ثُمَّ طَلَّقَهَا قَبْلَ الدُّخُولِ وَقَدْ اشْتَرَتْ بِهَا مَتَاعًا ، أَنْ يَكُونَ لَهَا نِصْفُ الْأَلْفِ وَتَضْمَنُ لِلزَّوْجِ النِّصْفَ ؛ وَقَالَ مَالِكٌ : ( يَأْخُذُ الزَّوْجُ نِصْفَ الْمَتَاعِ الَّذِي اشْتَرَتْهُ ) وَاَللَّهُ تَعَالَى إنَّمَا جَعَلَ لَهُ نِصْفَ الْمَفْرُوضِ وَكَذَلِكَ الْمَرْأَةُ ، فَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا مَا لَمْ يَكُنْ مَفْرُوضًا وَلَا هُوَ قِيمَةٌ لَهُ ؟ وَهُوَ أَيْضًا خِلَافُ الْأُصُولِ ؛ لِأَنَّ رَجُلًا لَوْ اشْتَرَى عَبْدًا بِأَلْفِ دِرْهَمٍ وَقَبَضَ الْبَائِعُ الْأَلْفَ وَاشْتَرَى بِهَا مَتَاعًا ثُمَّ وَجَدَ الْمُشْتَرِي بِالْعَبْدِ عَيْبًا فَرَدَّ ، لَمْ يَكُنْ لَهُ عَلَى الْمَتَاعِ الَّذِي اشْتَرَاهُ الْبَائِعُ سَبِيلٌ ، وَكَانَ الْمَتَاعُ كُلُّهُ لِلْبَائِعِ وَعَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ عَلَى الْمُشْتَرِي أَلْفًا مِثْلَهَا.
فَالنِّكَاحُ مِثْلُهُ لَا فَرْقَ بَيْنَهُمَا ؛ إذْ لَمْ يَقَعْ عَقْدُ النِّكَاحِ عَلَى الْمَتَاعِ كَمَا لَمْ يَقَعْ عَقْدُ الْبَيْعِ عَلَيْهِ ، وَإِنَّمَا وَقَعَ عَلَى الْأَلْفِ.
وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 155}
قوله تعالى : {إَّلا أَن يَعْفُونَ}
سؤال : لم لم تسقط النون من {يَعْفُونَ} مع دخول {أن} الناصبة للأفعال عليه ؟ (7/157)
الجواب : إنما لم تسقط النون من {يَعْفُونَ} وإن دخلت عليه {أن} الناصبة للأفعال لأن {يَعْفُونَ} فعل النساء ، فاستوى فيه الرفع والنصب والجزم ، والنون في {يَعْفُونَ} إذا كان الفعل مسنداً إلى النساء ضمير جمع المؤنث ، وإذا كان الفعل مسنداً إلى الرجال فالنون علامة الرفع فلذلك لم تسقط النون التي هي ضمير جمع المؤنث ، كما لم تسقط الواو التي هي ضمير جمع المذكر ، والساقط في {يَعْفُونَ} إذا كان للرجال الواو التي هي لام الفعل في {يَعْفُونَ} لا الواو التي هي ضمير الجمع ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 121}
المعنى : إلا أن يعفون المطلقات عن أزواجهن فلا يطالبنهم بنصف المهر ، وتقول المرأة : ما رآني ولا خدمته ، ولا استمتع بي فكيف آخذ منه شيئاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 121}
قوله تعالى : {أَوْ يَعْفُوَاْ الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح}
قال ابن عاشور :
وقوله : {إلا أن يعفون أو يعفوا الذي بيده عقدة النكاح} استثناء من عموم الأحوال أي إلا في حالة عفوهن أي النساء بأن يسقطن هذا النصف ، وتسمية هذا الإسقاط عفواً ظاهرة ، لأن نصف المهر حق وجب على المطلق للمطلقة قبل البناء بما استخف بها ، أو بما أوحشها ، فهو حق وجب لغرم ضر ، فإسقاطه عفو لا محالة ، أو عند عفو الذي بيده عقدة النكاح.
وأل في النكاح للجنس ، وهو متبادر في عقد نكاح المرأة لا في قبول الزوج ، وإن كان كلاهما سمي عقداً ، فهو غير النساء لا محالة لقوله : {الذي بيده عقدة النكاح} فهو ذَكر ، وهو غير المطلق أيضاً ، لأنه لو كان المطلق ، لقال : أو تعفو بالخطاب ، لأن قبله {وإن طلقتموهن} ولا داعي إلى خلاف مقتضى الظاهر.
(7/158)
وقيل : جيء بالموصول تحريضاً على عفو المطلق ، لأنه كانت بيده عقدة النكاح فأفاتها بالطلاق ، فكان جديراً بأن يعفو عن إمساك النصف ، ويترك لها جميع صداقها ، وهو مردود بأنه لو أريد هذا المعنى ، لقال أو يعفو الذي كان بيده عقدة النكاح ، فتعين أن يكون أريد به ولي المرأة لأن بيده عقدة نكاحها ؛ إذ لا ينعقد نكاحها إلا به ، فإن كان المراد به الولي المجبر وهو الأب في ابنته البكر ، والسيد في أمته ، فكونه بيده عقدة النكاح ظاهر ، إلا أنه جعل ذلك من صفته باعتبار ما كان ، إذ لا يحتمل غير ذلك ، وإن كان المراد مطلق الولي ، فكونه بيده عقدة النكاح ، من حيث توقف عقد المرأة على حضوره ، وكان شأنهم أن يخطبوا الأولياء في ولاياهم فالعفو في الموضعين حقيقة ، والاتصاف بالصلة مجاز. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 464}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {أَوْ يَعْفُوَاْ الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} ففيه مسألتان :
المسألة الأولى : في الآية قولان
الأول : أنه الزوج ، وهو قول علي بن أبي طالب عليه السلام ، وسعيد بن المسيب ، وكثير من الصحابة والتابعين وهو قول أبي حنيفة.
والقول الثاني : أنه الولي ، وهو قول الحسن ، ومجاهد وعلقمة ، وهو قول أصحاب الشافعي.
حجة القول الأول وجوه
الأول : أنه ليس للولي أن يهب مهر موليته صغيرة كانت أو كبيرة فلا يمكن حمل هذه الآية على الولي والثاني : أن الذي بيد الولي هو عقد النكاح ، فإذا عقد حصلت العقدة ، لأن بناء الفعلة يدل على المفعول ، كالأكلة واللقمة ، وأما المصدر فالعقد كالأكل واللقم ، ثم من المعلوم أن العقدة الحاصلة بعد العقد في يد الزوج لا في يد الولي
(7/159)
والثالث : أن قوله تعالى : {الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} معناه الذي بيده عقدة نكاح ثابت له لا لغيره ، كما أن قوله : {وَنَهَى النفس عَنِ الهوى فَإِنَّ الجنة هِىَ المأوى} [ النازعات : 40 ] أي نهى النفس عن الهوى الثابت له لا لغيره ، كانت الجنة ثابتة له ، فتكون مأواه
الرابع : ما روي عن جبير بن مطعم ، أنه تزوج امرأة فطلقها قبل أن يدخل بها فأكمل الصداق ، وقال : أنا أحق بالعفو ، وهذا يدل على أن الصحابة فهموا من الآية العفو الصادر من الزوج.
حجة من قال : المراد هو الولي وجوه
الأول : أن الصادر من الزوج هو أن يعطيها كل المهر ، وذلك يكون هبة ، والهبة لا تسمى عفواً ،
أجاب الأولون عن هذا من وجوه أحدها : أنه كان الغالب عندهم أن يسوق المهر إليها عند التزوج ، فإذا طلقها استحق أن يطالبها بنصف ما ساق إليها ، فإذا ترك المطالبة فقد عفا عنها
وثانيها : سماه عفواً على طريق المشاكلة
وثالثها : أن العفو قد يراد به التسهيل يقال : فلان وجد المال عفواً صفواً ، وقد بينا وجه هذا القول في تفسير قوله تعالى : {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء} وعلى هذا عفو الرجل أن يبعث إليها كل الصداق على وجه السهولة.
أجاب القائلون بأن المراد هو الولي عن السؤال الأول بأن صدور العفو عن الزوج على ذلك الوجه لا يحصل إلا على بعض التقديرات والله تعالى ندب إلى العفو مطلقاً وحمل المطلق على المقيد خلاف الأصل ، وأجابوا عن السؤال الثاني أن العفو الصادر عن المرأة هو الإبراء وهذا عفو في الحقيقة أما الصادر عن الرجل محض الهبة فكيف يسمى عفواً ؟ .
وأجابوا عن السؤال الثالث بأنه لو كان العفو هو التسهيل لكان كل من سهل على إنسان شيئاً يقال إنه عفا عنه ومعلوم أنه ليس كذلك.
(7/160)
الحجة الثانية : للقائلين بأن المراد هو الولي هو أن ذكر الزوج قد تقدم بقوله عز وجل : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} فلو كان المراد بقوله : {أَوْ يَعْفُوَاْ الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} هو الزوج ، لقال : أو تعفو على سبيل المخاطبة ، فلما لم يفعل ذلك بل عبر عنه بلفظ المغايبة ، علمنا أن المراد منه غير الزواج.
وأجاب الأولون بأن سبب العدول عن الخطاب إلى الغيبة التنبيه على المعنى الذي من أجله يرغب الزوج في العفو ، والمعنى : إلا أن يعفو أو يعفو الزوج الذي حبسها بأن ملك عقدة نكاحها عن الأزواج ثم لم يكن منها سبب في الفراق وإنما فارقها الزوج ، فلا جرم كان حقيقاً بأن لا ينقصها من مهرها ويكمل لها صداقها.
الحجة الثالثة : للقائلين بأنه هو الولي هو أن الزوج ليس بيده ألبتة عقدة النكاح ، وذلك لأن قبل النكاح كان الزوج أجنبياً عن المرأة ، ولا قدرة له على التصرف فيها بوجه من الوجوه ، فلا يكون له قدرة على إنكاحها ألبتة وأما بعد النكاح فقد حصل النكاح ولا قدرة على إيجاد الموجود بل له لا قدرة على إزالة النكاح ، والله تعالى أثبت العفو لمن في يده وفي قدرته عقدة النكاح ، فلما ثبت أن الزوج ليس له يد ولا قدرة على عقد النكاح ثبت أنه ليس المراد هو الزوج ، أما الولي فله قدرة على إنكاحها ، فكان المراد من الآية هو الولي لا الزوج ، ثم إن القائلين بهذا القول أجابوا عن دلائل من قال : المراد هو الزوج.
أما الحجة الأولى : فإن الفعل قد يضاف إلى الفاعل تارة عند المباشرة وأخرى عند السبب يقال بنى الأمير داراً ، وضرب ديناراً ، والظاهر أن النساء إنما يرجعن في مهماتهن وفي معرفة مصالحهن إلى أقوال الأولياء والظاهر أن كل ما يتعلق بأمر التزوج فإن المرأة لا تخوض فيه ، بل تفوضه بالكلية إلى رأي الولي ، وعلى هذا التقدير يكون حصول العفو باختيار الولي وبسعيه فلهذا السبب أضيف العفو إلى الأولياء.
(7/161)
وأما الحجة الثانية : وهي قولهم : الذي بيد الولي عقد النكاح لا عقدة النكاح ، قلنا : العقدة قد يراد بها العقد قال تعالى : {وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النكاح} سلمنا أن العقدة هي المعقودة لكن تلك المعقودة إنما حصلت وتكونت بواسطة العقد ، وكان عقد النكاح في يد الولي ابتداءً ، فكانت عقدة النكاح في يد الولي أيضاً بواسطة كونها من نتائج العقد ومن آثاره.
وأما الحجة الثالثة : وهي قوله : إن المراد من الآية الذي بيده عقدة النكاح لنفسه فجوابه : أن هذا التقييد لا يقتضيه اللفظ لأنه إذا قيل : فلان في يده الأمر والنهي والرفع والخفض فلا يراد به أن الذي في يده الأمر نفسه ونهى نفسه بل المراد أن في يده أمر غيره ونهى غيره فكذا ههنا. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 121 ـ 123}
قال العلامة ابن العربى :
وَاَلَّذِي تَحَقَّقَ عِنْدِي بَعْدَ الْبَحْثِ وَالسَّبْرِ أَنَّ الْأَظْهَرَ هُوَ الْوَلِيُّ لِثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ : {ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ} إلَى قَوْله تَعَالَى : {وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ} فَذَكَرَ الْأَزْوَاجَ وَخَاطَبَهُمْ بِهَذَا الْخِطَابِ ، ثُمَّ قَالَ : {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ} فَذَكَرَ النِّسْوَانَ {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} فَهَذَا ثَالِثٌ ؛ فَلَا يُرَدُّ إلَى الزَّوْجِ الْمُتَقَدِّمِ إلَّا لَوْ لَمْ يَكُنْ لِغَيْرِهِ وُجُودٌ ، وَقَدْ وُجِدَ وَهُوَ الْوَلِيُّ ، فَلَا يَجُوزُ بَعْدَ هَذَا إسْقَاطُ التَّقْدِيرِ بِجَعْلِ الثَّلَاثِ اثْنَيْنِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
(7/162)
الثَّانِي : أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} وَلَا إشْكَالَ فِي أَنَّ الزَّوْجَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ لِنَفْسِهِ ، وَالْوَلِيُّ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ لِوَلِيَّتِهِ ، عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ الَّذِي يُبَاشِرُ الْعَقْدَ الْوَلِيُّ ؛ فَهَذِهِ الْمَسْأَلَةُ هِيَ أُصُولُ الْعَفْوِ مَعَ أَبِي حَنِيفَةَ ، وَقَدْ بَيَّنَّاهَا قَبْلُ ، وَشَرَحْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
فَقَدْ ثَبَتَ بِهَذَا أَنَّ الْوَلِيَّ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ، فَهُوَ الْمُرَادُ ؛ لِأَنَّ الزَّوْجَيْنِ يَتَرَاضَيَانِ فَلَا يَنْعَقِدُ لَهُمَا أَمْرٌ إلَّا بِالْوَلِيِّ ، بِخِلَافِ سَائِرِ الْعُقُودِ ، فَإِنَّ الْمُتَعَاقِدَيْنِ يَسْتَقِلَّانِ بِعَقْدِهِمَا.
الثَّالِثُ : إنَّ مَا قُلْنَا أَنْظَمُ فِي الْكَلَامِ ، وَأَقْرَبُ إلَى الْمَرَامِ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ : {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ} وَمَعْلُومٌ أَنَّهُ لَيْسَ كُلُّ امْرَأَةٍ تَعْفُو ، فَإِنَّ الصَّغِيرَةَ أَوْ الْمَحْجُورَةَ لَا عَفْوَ لَهَا ، فَبَيَّنَ اللَّهُ تَعَالَى الْقِسْمَيْنِ ، وَقَالَ : {إلَّا أَنْ يَعْفُونَ} إنْ كُنَّ لِذَلِكَ أَهْلًا ، أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ؛ لِأَنَّ الْأَمْرَ فِيهِ إلَيْهِ.
وَكَذَلِكَ رَوَى ابْنُ وَهْبٍ ، وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ ، وَابْنُ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ الْأَبُ فِي ابْنَتِهِ الْبِكْرِ ، وَالسَّيِّدُ فِي أَمَتِهِ ؛ لِأَنَّ هَذَيْنِ هُمَا اللَّذَانِ يَتَصَرَّفَانِ فِي الْمَالِ وَيَنْفُذُ لَهُمَا الْقَوْلُ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 296}
وهذا كلام نفيس للعلامة الجصاص فى هذا الموضع
قَالَ رحمه الله : (7/163)
قَوْله تَعَالَى : {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} مُتَشَابِهٌ لَاحْتِمَالِهِ الْوَجْهَيْنِ اللَّذَيْنِ تَأَوَّلَهُمَا السَّلَفُ عَلَيْهِمَا ، فَوَجَبَ رَدُّهُ إلَى الْمُحْكَمِ وَهُوَ قَوْله تَعَالَى : {وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا} وَقَالَ تَعَالَى فِي آيَةٍ أُخْرَى : {وَإِنْ أَرَدْتُمْ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا} وَقَالَ تَعَالَى : {وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ} فَهَذِهِ الْآيَاتُ مُحْكَمَةٌ لَا احْتِمَالَ فِيهَا لِغَيْرِ الْمَعْنَى الَّذِي اقْتَضَتْهُ ، فَوَجَبَ رَدُّ الْآيَةِ الْمُتَشَابِهَةِ وَهِيَ قَوْله تَعَالَى : {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} إلَيْهَا ؛ لِأَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى النَّاسَ بِرَدِّ الْمُتَشَابِهِ إلَى الْمُحْكَمِ ، وَذَمِّ مُتَّبِعِي الْمُتَشَابِهِ مِنْ غَيْرِ حَمْلِهِ عَلَى مَعْنَى الْمُحْكَمِ بِقَوْلِهِ تَعَالَى : {فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} وَأَيْضًا لَمَّا كَانَ اللَّفْظُ مُحْتَمِلًا لِلْمَعَانِي ، وَجَبَ حَمْلُهُ عَلَى مُوَافَقَةِ الْأُصُولِ ؛ وَلَا خِلَافَ أَنَّهُ غَيْرُ جَائِزٍ لِلْأَبِ هِبَةُ شَيْءٍ مِنْ مَالِهَا لِلزَّوْجِ وَلَا لِغَيْرِهِ ، فَكَذَلِكَ الْمَهْرُ ؛ لِأَنَّهُ مَالُهَا.
(7/164)
وَقَوْلُ مَنْ حَمَلَهُ عَلَى الْوَلِيِّ خَارِجٌ عَنْ الْأُصُولِ ؛ لِأَنَّ أَحَدًا لَا يَسْتَحِقُّ الْوِلَايَةَ عَلَى غَيْرِهِ فِي هِبَةِ مَالِهِ ؛ فَلَمَّا كَانَ قَوْلُ الْقَائِلِينَ بِذَلِكَ مُخَالِفًا لِلْأُصُولِ خَارِجًا عَنْهَا وَجَبَ حَمْلُ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مُوَافَقَتِهَا ؛ إذْ لَيْسَ ذَلِكَ أَصْلًا بِنَفْسِهِ لَاحْتِمَالِهِ لِلْمَعَانِي ، وَمَا لَيْسَ بِأَصْلِ فِي نَفْسِهِ فَالْوَاجِبُ رَدُّهُ إلَى غَيْرِهِ
مِنْ الْأُصُولِ وَاعْتِبَارُهُ بِهَا.
وَأَيْضًا فَلَوْ كَانَ الْمَعْنَيَانِ جَمِيعًا فِي حَيِّزِ الِاحْتِمَالِ وَوُجِدَ نَظَائِرُهُمَا فِي الْأُصُولِ لَكَانَ فِي مُقْتَضَى اللَّفْظِ مَا يُوجِبُ أَنْ يَكُونَ أَوْلَى بِظَاهِرِ اللَّفْظِ مِنْ الْوَلِيِّ ، وَذَلِكَ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : {أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} لَا يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ الْوَلِيَّ بِحَالٍ لَا حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا ؛ لِأَنَّ قَوْله تَعَالَى : {الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ} يَقْتَضِي أَنْ تَكُونَ الْعُقْدَةُ مَوْجُودَةً وَهِيَ فِي يَدِ مَنْ هِيَ فِي يَدِهِ ، فَأَمَّا عُقْدَةٌ غَيْرُ مَوْجُودَةٍ فَغَيْرُ جَائِزٍ إطْلَاقُ اللَّفْظِ عَلَيْهَا بِأَنَّهَا فِي يَدِ أَحَدٍ ، فَلَمَّا لَمْ تَكُنْ هُنَاكَ عُقْدَةٌ مَوْجُودَةٌ فِي يَدِ الْوَلِيِّ قَبْلَ الْعَقْدِ وَلَا بَعْدَهُ وَقَدْ كَانَتْ الْعُقْدَةُ فِي يَدِ الزَّوْجِ قَبْلَ الطَّلَاقِ فَقَدْ تَنَاوَلَهُ اللَّفْظُ بِحَالٍ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ حَمْلُهُ عَلَى الزَّوْجِ أَوْلَى مِنْهُ عَلَى الْوَلِيِّ.
فَإِنْ قِيلَ : إنَّمَا حَكَمَ اللَّهُ بِذَلِكَ بَعْدَ الطَّلَاقِ ، وَلَيْسَتْ عُقْدَةُ النِّكَاحِ بِيَدِ الزَّوْجِ بَعْدَ الطَّلَاقِ.
(7/165)
قِيلَ لَهُ : يَحْتَمِلُ اللَّفْظُ بِأَنْ يُرِيدَ الَّذِي كَانَ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ، وَالْوَلِيُّ لَمْ يَكُنْ بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ ، وَلَا هِيَ فِي يَدِهِ فِي الْحَالِ ، فَكَانَ الزَّوْجُ أَوْلَى بِمَعْنَى الْآيَةِ مِنْ الْوَلِيِّ.
وَيَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ قَوْله تَعَالَى فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ : {وَلَا تَنْسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} فَنَدَبَهُ إلَى الْفَضْلِ ؛ وَقَالَ تَعَالَى : {وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى} وَلَيْسَ فِي هِبَةِ مَالِ الْغَيْرِ إفْضَالٌ مِنْهُ عَلَى غَيْرِهِ وَالْمَرْأَةُ لَمْ يَكُنْ مِنْهَا إفْضَالٌ.
وَفِي تَجْوِيزِ عَفْوِ الْوَلِيِّ إسْقَاطُ مَعْنَى الْفَضْلِ الْمَذْكُورِ فِي الْآيَة ، وَجَعَلَهُ تَعَالَى بَعْد الْعَفْوِ أَقْرَبَ لِلتَّقْوَى ، وَلَا تَقْوَى لَهُ فِي هِبَةِ مَالِ غَيْرِهِ ، وَذَلِكَ الْغَيْرُ لَمْ يَقْصِدْ إلَى الْعَفْوِ فَلَا يَسْتَحِقُّ بِهِ سِمَةَ التَّقْوَى.
وَأَيْضًا فَلَا خِلَافَ أَنَّ الزَّوْجَ مَنْدُوبٌ إلَى ذَلِكَ ، وَعَفْوُهُ وَتَكْمِيلُ الْمَهْرِ لَهَا جَائِزٌ مِنْهُ ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا بِهَا ؛ وَإِذَا كَانَ الزَّوْجُ مُرَادًا انْتَفَى أَنْ يَكُونَ الْوَلِيُّ مُرَادًا بِهَا ؛ لِأَنَّ السَّلَفَ تَأَوَّلُوهُ عَلَى أَحَدِ مَعْنَيَيْنِ : إمَّا الزَّوْجِ ، وَإِمَّا الْوَلِيِّ ؛ وَإِذْ قَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ الزَّوْجَ مُرَادٌ وَجَبَ أَنْ تَمْتَنِعَ إرَادَةُ الْوَلِيِّ.
(7/166)
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ عَلَى مَا قَدَّمْنَا فِيمَا تَضَمَّنَتْهُ الْآيَةُ مِنْ النَّدْبِ إلَى الْفَضْلِ وَإِلَى مَا يَقْرُبُ مِنْ التَّقْوَى ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ خِطَابًا مَخْصُوصًا بِهِ الْمَالِكُ دُونُ مَنْ يَهَبُ مَالَ الْغَيْرِ ، لَيْسَ يَمْتَنِعُ فِي الْأُصُولِ أَنْ تَلْحَقَ هَذِهِ التَّسْمِيَةُ لِلْوَلِيِّ وَإِنْ فَعَلَ ذَلِكَ فِي مَالِ مَنْ يَلِي عَلَيْهِ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ أَنَّهُ يَسْتَحِقُّ الثَّوَابَ بِإِخْرَاجِ صَدَقَةِ الْفِطْرِ عَنْ الصَّغِيرِ مِنْ مَالِ الصَّغِيرِ ، وَكَذَلِكَ الْأُضْحِيَّةُ وَالْخِتَانُ.
قِيلَ : أَغْفَلْت مَوْضِعَ الْحِجَاجِ مِمَّا قَدَّمْنَاهُ ، وَذَلِكَ أَنَّا قُلْنَا : هُوَ غَيْرُ مُسْتَحِقٍّ لِلثَّوَابِ وَالْفَضْلِ بِالتَّبَرُّعِ بِمَالِ الْغَيْرِ ، فَعَارَضْتنَا بِمَنْ وَجَبَ عَلَيْهِ حَقٌّ فِي مَالِهِ فَأَخْرَجَهُ عَنْهُ وَلِيٌّ وَهُوَ الْأَبُ ، وَنَحْنُ نُجِيزُ لِلْوَصِيِّ وَلِغَيْرِ الْوَصِيِّ أَنْ يُخْرِجَ عَنْهُ هَذِهِ الْحُقُوقَ وَلَا نُجِيزُ عَفْوَهُمْ عَنْهُ ، فَكَيْفَ تَكُونُ الْأُضْحِيَّةُ وَصَدَقَةُ الْفِطْرِ وَالْحُقُوقُ الْوَاجِبَةُ بِمَنْزِلَةِ التَّبَرُّعِ وَإِخْرَاجِ مَا لَا يَلْزَمُ مِنْ مِلْكِهَا.
وَزَعَمَ بَعْضُ مَنْ احْتَجَّ لِمَالِكٍ أَنَّهُ لَوْ أَرَادَ الزَّوْجَ لَقَالَ ( إلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الزَّوْجُ ) لِمَا قَدْ تَقَدَّمَ مِنْ ذِكْرِ الزَّوْجَيْنِ ، فَيَكُونُ الْكَلَامُ رَاجِعًا إلَيْهِمَا جَمِيعًا ، فَلَمَّا عَدَلَ عَنْ ذَلِكَ إلَى ذِكْرِ مَنْ لَا يُعْرَفُ إلَّا بِالصِّفَةِ عُلِمَ أَنَّهُ لَمْ يُرِدْ الزَّوْجَ.
(7/167)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهَذَا الْكَلَامُ فَارِغٌ لَا مَعْنَى تَحْتَهُ ؛ لِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى يَذْكُرُ إيجَابَ الْأَحْكَامِ تَارَةً بِالنُّصُوصِ ، وَتَارَةً بِالدَّلَالَةِ عَلَى الْمَعْنَى الْمُرَادِ مِنْ غَيْرِ نَصٍّ عَلَيْهِ ، وَتَارَةً بِلَفْظٍ يَحْتَمِلُ لِلْمَعَانِي وَهُوَ فِي بَعْضِهَا أَظْهَرُ وَبِهِ أَوْلَى ، وَتَارَةً بِلَفْظٍ مُشْتَرَكٍ يَتَنَاوَلُ مَعَانِيَ مُخْتَلِفَةً يُحْتَاجُ فِي الْوُصُولِ إلَى الْمُرَادِ بِالِاسْتِدْلَالِ عَلَيْهِ مِنْ غَيْرِهِ ؛ وَقَدْ وُجِدَ ذَلِكَ كُلُّهُ فِي الْقُرْآنِ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 2 صـ 152 ـ 153}
فائدة
قال أبو حيان :
سمي ذلك عفواً إما على طريق المشاكلة ، لأن قبله {إلا أن يعفون} أو لأن من عادتهم أن كانوا يسوقون المهر عند التزوج ، ألا ترى إلى قوله صلى الله عليه وسلم لعلي كرم الله وجهه : " فأين درعك الحطيمة " يعني أن يصدقها فاطمة صلى الله على رسول الله وعليها ، فسمى ترك أخذهم النصف مما ساقوه عفوا عنه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 245}
فائدة
قال الفخر :
للشافعي أن يتمسك بهذه الآية في بيان أنه لا يجوز النكاح إلا بالولي ، وذلك لأن جمهور المفسرين أجمعوا على أن المراد من قوله : {أَوْ يَعْفُوَاْ الذى بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} إما الزوج وإما الولي ، وبطل حمله على الزوج لما بينا أن الزوج لا قدرة له ألبتة على عقدة النكاح ، فوجب حمله على الولي.
إذا ثبت هذا فنقول : قوله : {بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح} هذا يفيد الحصر لأنه إذا قيل : بيده الأمر والنهي معناه أنه بيده لا بيد غيره ، قال تعالى : {لَكُمْ دِينَكُمْ} [ الكافرون : 6 ] أي لا لغيركم ، فكذا ههنا بيد الولي عقدة النكاح لا بيد غيره ، وإذا كان كذلك فوجب أن يكون بيد المرأة عقدة النكاح وذلك هو المطلوب والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 123}(7/168)
قوله تعالى : {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى}
قال الفخر :
هذا خطاب للرجال والنساء جميعاً إلا أن الغلبة للذكور إذا اجتمعوا مع الإناث ، وسبب التغليب أن الذكورة أصل والتأنيث فرع في اللفظ وفي المعنى أما في اللفظ فلأنك تقول : قائم.
ثم تريد التأنيث فتقول : قائمة.
فاللفظ الدال على المذكر هو الأصل ، والدال على المؤنث فرع عليه ، وأما في المعنى فلأن الكمال للذكور والنقصان للإناث ، فلهذا السبب متى اجتمع التذكير والتأنيث كان جانب التذكير مغلباً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 123}
وقال أبو حيان :
{وأن تعفوا أقرب للتقوى}. هذا خطاب للزوج والزوجة ، وغلب المذكر ، قاله ابن عباس.
وقال ابن عطية : خاطب تعالى الجميع تأدباً بقوله : {وأن تعفوا أقرب للتقوى} أي : يا جميع الناس. انتهى كلامه.
والذي يظهر أنه خطاب للأزواج فقط ، وقاله الشعبي ، إذ هم المخاطبون في صدر الآية ، فيكون ذلك من الالتفات ، إذ رجع من ضمير الغائب ، وهو الذي بيده عقدة النكاح على ما اخترناه في تفسيره ، إلى الخطاب الذي استفتح به صدر الآية ، وكون عفو الزوج أقرب للتقوى من حيث إنه كسر قلب مطلقته ، فيجبرها بدفع جميع الصداق لها ، إذ كان قد فاتها منه صحبته ، فلا يفوتها منه نحلته ، إذ لا شيء أصعب على النساء من الطلاق ، فإذا بذل لها جميع المهر لم تيأس من ردّها إليه ، واستشعرت من نفسها أنه مرغوب فيها ، فانجبرت بذلك.
وقرأ الشعبي ، وأبو نهيك : وأن يعفوا ، بالياء باثنتين من تحتها ، جعله غائباً ، وجمع على معنى : الذي بيده عقدة النكاح ، لأنه للجنس لا يراد به واحد ، وقيل : هذه القراءة تؤيد أن العفو مسند للأزواج ، قيل : والعفوا أقرب لاتقاء كل واحد منهما ظلم صاحبه.
وقيل : لاتقاء معاصي الله.
(7/169)
و : أقرب ، يتعدّى بالَّلام كهذه ، ويتعدّى بإلى كقوله : {ونحن أقرب إليه} ولا يقال : إن اللام بمعنى إلى ، ولا إن اللام للتعليل ، بل على سبيل التعدية لمعنى المفعول به المتوصل إليه بحرف الجر ، فمعنى اللام ومعنى إلى متقاربان من حيث التعدية ، وقد قيل : بأن اللام بمعنى إلى ، فيكون ذلك من تضمين الحروف ، ولا يقول به البصريون. وقيل أيضاً : إن اللام للتعليل ، فيدل على علة ازدياد قرب العفو على تركه ، والمفضل عليه في القرب محذوف ، وحسن ذلك كون أفعل التفضيل وقع خبراً للمبتدأ ، والتقدير : والعفو منكم أقرب للتقوى من ترك العفو. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 247}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {وأن تعفوا أقرب للتقوى} تذييل أي العفو من حيث هو ، ولذلك حذف المفعول ، والخطاب لجميع الأمة ، وجيء بجمع المذكر للتغليب ، وليس خطاباً للمطلقين ، وإلا لما شمل عفو النساء مع أنه كله مرغوب فيه ، ومن الناس من استظهر بهذه الآية على أن المراد بالذي بيده عقدة النكاح المطلق ، لأنه عبر عنه بعد بقوله : {وأن تعفوا} وهو ظاهر في المذكر ، وقد غفل عن مواقع التذييل في آي القرآن كقوله : {أن يصلحا بينهما صلحا والصلح خير} [ النساء : 128 ].
ومعنى كون العفو أقرب للتقوى : أن العفو أقرب إلى صفة التقوى من التمسك بالحق ؛ لأن التمسك بالحق لا ينافي التقوى لكنه يؤذن بتصلب صاحبه وشدته ، والعفو يؤذن بسماحة صاحبه ورحمته ، والقلب المطبوع على السماحة والرحمة أقرب إلى التقوى من القلب الصلب الشديد ، لأن التقوى تقرب بمقدار قوة الوازع ، والوازع شرعي وطبيعي ، وفي القلب المفطور على الرأفة والسماحة لين يزعه عن المظالم والقساوة ، فتكون التقوى أقرب إليه ، لكثرة أسبابها فيه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 464}
فائدة لغوية
وقال أبو السعود : (7/170)
اللام فى قوله {للتقوى} للتعدية ، ومن قواعدهم التي قلّ من يضبطها أن أفعل التفضيل وكذا فعل التعجب يتعدى بالحرف الذي يتعدى به فعله كأزهد فيه من كذا وإن كان من متعد في الأصل فإن كان الفعل يفهم علماً أو جهلاً تعدى بالباء كأعلم بالفقه وأجهل بالنحو ، وإن كان لا يفهم ذلك تعدى باللام كأنت أضرب لعمرو إلا في باب الحب والبغض فإنه يتعدى إلى المفعول بفي كهو أحب في بكر وأبعض في عمرو وإلى الفاعل المعنوي بإلى كزيد أحب إلى خالد من بشر أو أبغض إليه منه. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 155}
قال السعدى :
رغب الله في العفو ، وأن من عفا ، كان أقرب لتقواه ، لكونه إحسانا موجبا لشرح الصدر ، ولكون الإنسان لا ينبغي أن يهمل نفسه من الإحسان والمعروف ، وينسى الفضل الذي هو أعلى درجات المعاملة ، لأن معاملة الناس فيما بينهم على درجتين : إما عدل وإنصاف واجب ، وهو : أخذ الواجب ، وإعطاء الواجب. وإما فضل وإحسان ، وهو إعطاء ما ليس بواجب والتسامح في الحقوق ، والغض مما في النفس ، فلا ينبغي للإنسان أن ينسى هذه الدرجة ، ولو في بعض الأوقات ، وخصوصا لمن بينك وبينه معاملة ، أو مخالطة ، فإن الله مجاز المحسنين بالفضل والكرم. أ هـ {تفسير السعدى صـ 105}
لطيفة
قال القشيرى :
ذكر أن العفو أتم وأحسن ، إمَّا من جهة المرأة في النصف المستحق لها ، أو من قِبَل الزوج في النصف العائد إليه.
ثم قال جلّ ذكره : {وَلاَ تَنسَوُا الفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
يقال من أخذ بالفضل واقتصر على الفرض فعن قريب يخل بالفرض.
ويقال نسيان الفضل يقرب صاحبه من البخل ، وإن من سُنَّةِ الكرام إذا خفيت عليهم مواضع الكرم أن يشحذوا بصائر الجود لتطالع لطائف الكرم فتتوفر دواعيهم في اقتناء أسباب الفضل. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 186 ـ 187}
لطيفة ثانية
قال فى روح البيان : (7/171)
{وأن تعفوا أقرب للتقوى} اللام فى التقوى تدل على علة قرب العفو تقديره : العفو أقرب من أجل التقوى إذ الأخذ كأنه عوض من غير معوض عنه أو ترك المروءة عند ذلك ترك للتقوى وفى الحديث " كفى بالمرء من الشح أن يقول آخذ حقى لا أترك منه شيئا " وفى حديث الأصمعى : أتى أعرابى قوما فقال لهم : هذا فى الحق أو فيما هو خير منه ؟
قالوا : وما خير من الحق ؟
قال : التفضل والتغافل أفضل من أخذ الحق كله كذا فى المقاصد الحسنة للسخاوى. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 457}
قوله تعالى : {ولا تنسوا الفضل بينكم
قال أبو حيان :
{ولا تنسوا الفضل بينكم} الخطاب فيه من الخلاف ما في قوله : {وأن تعفوا}.
والنسيان هنا الترك مثل : {نسوا الله فنسيهم} والفضل : هو فعل ما ليس بواجب من البر ، فهو من الزوج تكميل المهر ، ومن الزوجة ترك شطره الذي لها ، قاله مجاهد ، وإن كان المراد به الزوج فهو تكميل المهر.
ودخل جبير بن مطعم على سعد بن أبي وقاص ، فعرض عليه بنتاً له ، فتزوّجها ، فلما خرج طلقها وبعث إليها بالصداق كاملاً ، فقيل له : لم تزوّجتها ؟ فقال : عرضها علي فكرهت ردّه ، قيل : فلم بعثت بالصداق كاملاً ؟ قال : فأين الفضل ؟ .
وقرأ علي ، ومجاهد ، وأبو حيوة ، وابن أبي عبلة : ولا تناسوا الفضل. قال ابن عطية وهي قراءة متمكنة المعنى ، لأنه موضع تناسٍ لا نسيان إلاّ على التشبيه. انتهى.
وقرأ يحيى بن يعمر : ولا تنسوا الفضل ، بكسر الواو على أصل التقاء الساكنين ، تشبيهاً للواو التي هي ضمير بواو ولو في قوله تعالى : {لو استطعنا} كما شبهوا : واو : لو ، بواو الضمير ، فضموها ، قرأ {لو استطعنا} بضم الواو.(7/172)
وانتصاب : بينكم ، بالفعل المنهي عنه و: بين ، مشعر بالتخلل والتعارف ، كقوله : {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل} فهو أبلغ من أن يأتي النهي عن شيء لا يكون بينهم ، لأن الفعل المنهي عنه لو وقع لكان ذلك مشتهراً بينهم ، قد تواطأوا عليه وعلموا به ، لأن ما تخلل أقواماً يكون معروفاً عندهم. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 247}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {ولا تنسوا الفضل بينكم} تذييل ثان ، معطوف على التذييل الذي قبله ، لزيادة الترغيب في العفو بما فيه من التفضل الدنيوي ، وفي الطباع السليمة حب الفضل.
فأُمروا في هاته الآية بأن يتعاهدوا الفضل ولا ينسوه ؛ لأن نسيانه يباعد بينهم وبينه ، فيضمحل منهم ، وموشك أن يحتاج إلى عفو غيره عنه في واقعة أخرى ، ففي تعاهده عون كبير على الإلف والتحابب ، وذلك سبيل واضحة إلى الاتحاد والمؤاخاة والانتفاع بهذا الوصف عند حلول التجربة.
والنسيان هنا مستعار للإهمال وقلة الاعتناء كما في قوله تعالى : {فذوقوا بما نسيتم لقاء يومكم هذا} [ السجدة : 14 ] وهو كثير في القرآن ، وفي كلمة {بينكم ، } إشارة إلى هذا العفو ، إذا لم ينس تعامل الناس به بعضهم مع بعض. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 464 ـ 465}
لطيفة
قال سفيان ، عن أبي هارون قال : رأيت عون بن عبد الله في مجلس القرظي ، فكان عون يحدثنا ولحيته تُرَش من البكاء ويقول : صحبت الأغنياء فكنت من أكثرهم هَمًّا ، حين رأيتهم أحسن ثيابًا ، وأطيب ريحًا ، وأحسن مركبًا [منى] (4). وجالست الفقراء فاسترحت بهم ، وقال : {وَلا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ} إذا أتاه السائل وليس عنده شيء فَلْيَدْعُ له : رواه ابن أبي حاتم. أ هـ {تفسيرابن كثير حـ 1 صـ 645}
فصل
معنى الآية : عفو بعضكم عن بعض أقرب إلى حصول معنى التقوى وإنما كان الأمر كذلك لوجهين(7/173)
الأول : أن من سمح بترك حقه فهو محسن ، ومن كان محسناً فقد استحق الثواب ، ومن استحق الثواب نفى بذلك الثواب ما هو دونه من العقاب وأزاله والثاني : أن هذا الصنع يدعوه إلى ترك الظلم الذي هو التقوى في الحقيقة ، لأن من سمح بحقه وهو له معرض تقرباً إلى ربه كان أبعد من أن يظلم غيره يأخذ ما ليس له بحق ، ثم قال تعالى : {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ} وليس المراد منه النهى عن النسيان لأن ذلك ليس في الوسع بل المراد منه الترك ، فقال تعالى : ولا تتركوا الفضل والإفضال فيما بينكم ، وذلك لأن الرجل إذا تزوج بالمرأة فقد تعلق قلبها به ، فإذا طلقها قبل المسيس صار ذلك سبباً لتأذيها منه ، وأيضاً إذا كلف الرجل أن يبذل لها مهراً من غير أن انتفع بها ألبتة صار ذلك سبباً لتأذيه منها ، فندب تعالى كل واحد منهما إلى فعل يزيل ذلك التأذى عن قلب الآخر ، فندب الزوج إلى أن يطيب قلبها بأن يسلم المهر إليها بالكلية ، وندب المرأة إلى ترك المهر بالكلية ، ثم إنه تعالى ختم الآية بما يجرى مجرى التهديد على العادة المعلومة ، فقال : {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 123 ـ 124}
قوله تعالى : {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}
قال القرطبى :
قوله تعالى : {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} خبر في ضمنه الوعد للمحسن والحرمان لغير المحسن ، أي لا يخفى عليه عفوكم واستقضاؤكم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 208}
وقال أبو حيان :
{إن الله بما تعملون بصير} ختم هذه الآية بهذه الصفة الدالة على المبصرات ، لأن ما تقدمه من العفو من المطلقات والمطلقين ، وهو أن يدفع شطر ما قبضن أو يكملون لهنّ الصداق ، هو مشاهد مرئي ، فناسب ذلك المجيء بالصفة المتعلقة بالمبصرات.(7/174)
ولما كان آخر قوله : {والذين يتوفون منكم} الآية قوله : {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهنّ} مما يدرك بلطف وخفاء ، ختم ذلك بقوله : {والله بما تعملون خبير}. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 247}
لطيفة
قال فى روح البيان :
{إن الله بما تعملون بصير} فلا يكاد يضيع ما عملتم من التفضل والإحسان. والبصر فى حقه تعالى عبارة عن الوصف الذى به ينكشف كمال نعوت المبصرات وذلك أوضح وأجلى مما يفهم من إدراك البصر القاصر على ظواهر المرئيات.
والحظ الدينى للعبد من البصر أمران. أحدهما أن يعلم أنه خلق له البصر لينظر إلى الآيات وعجائب الملكوت والسموات فلا يكون نظره إلا عبرة قيل لعيسى ـ عليه السلام ـ
هل أحد من الخلق مثلك ؟
فقال : من كان نظره عبرة وصمته فكرا وكلامه ذكرا فهو مثلى.
والثانى : أن يعلم أنه بمرأى من الله ومسمع فلا يستهين بنظره إليه واطلاعه عليه ، ومن أخفى عن غير الله ما لا يخفيه عن الله فقد استهان بنظر الله والمراقبة إحدى ثمرات الإيمان بهذه الصفة فمن قارف معصية وهو يعلم أن الله يراه فما أجسره وأخسره ومن ظن أنه لا يراه فما أكفره كذا فى شرح الأسماء الحسنى للإمام الغزالى. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 458}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ...}.
قوله تعالى : {وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى...}.
الخطاب للأولياء ، ويحتمل أن يكون الخطاب بالأول للزوجات والأولياء ليعفوا عن نصف الصداق إذا لم ( يمكن ) قبضه ، وذلك حيث تكون ملية والزوج معسر. والخطاب ( بهذه ) للأزواج حيث يكون الزوج مليا والمرأة معسرة فالعفو عما زاد على النصف. ومعنى " أَقْرَبُ للتقوى " أن الصداق أمر دنيوي وقد ورد " حبّ الدّنيا رأس كل خطيئة " فتركه أقرب للتقوى ) ، وإنما عدي باللام التي للاختصاص دون ( إلى ) إشارة إلى خصوص العفو عنه بالتقوى.
قوله تعالى : {وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ...}.(7/175)
المراد إما إنشاء التفضل أو مراعاة الفضل المتقدم ، أي لا تتركوا أيقاع التفضل ولا تتركوا عند الطلاق مراعاة ما وقع بينكم من الفضل عند عقد النكاح ، فإن أريد الأول فيكون تأكيدا لأن ما قبله يغني عنه ، وإن أريد الثاني فهو تهييج على ( العفو عن ) الصداق.
قوله تعالى : {بَيْنَكُمْ...}.
دليل على أن الخطاب للأزواج وللزوجات وغلب فيه ضمير ( المذكر ).
وقوله تعالى : {إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}.
قال ابن عرفة : وعد ووعيد.
قيل له : إنما هو وعد خاصة لأن ما قبله تفضل ومستحب لا واجب ؟
فقال : هو وعيد بالذات ويحتمل أن يتناول الواجب. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 310}
فوائد بلاغية
قال أبو حيان :
تضمنت هذه الآية الكريمة أنواعاً من الفصاحة ، وضروباً من علم البيان والبلاغة.
الالتفات : في : وأن تعفوا ، ولا تنسوا ؛ والعدول عن الحقيقة إلى المجاز في : الذي بيده عقدة النكاح ، عبر عن الإيجاب والقبول بالعقدة التي تعقد حقيقة ، لما في ذلك القول من الارتباط لكل واحد من الزوجين بالآخر. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 248}(7/176)
قوله تعالى : {حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
(7/177)
ولما ذكرت أحكام النساء وشعبت حتى ضاق فسيح العقل بانتشارها وكاد أن يضيع في متسع مضمارها مع ما هناك من مظنة الميل بالعشق والنفرة بالبغض الحامل على الإحن والشغل بالأولاد وغير ذلك من فتن وبلايا ومحن يضيق عنها نطاق الحصر ويكون بعضها مظنة للتهاون بالصلاة بل وبكل عبادة اقتضى الحال أن يقال : يا رب! إن الإنسان ضعيف وفي بعض ذلك له شاغل عن كل مهم فهل بقي له سعة لعبادتك ؟ فقيل : {حافظوا} بصيغة المفاعلة الدالة على غاية العزيمة أي ليسابق بعضكم بعضاً في ذلك ويجوز أن يكون ذلك بالنسبة إلى العبد وربه فيكون المعنى : احفظوا صلاتكم له ليحفظ صلاته عليكم فلا يفعل فيها فعل الناسي فيترك تشريفكم بها ، وأخصر منه أن يقال : لما ذكر سبحانه وتعالى ما بين العباد خاصة ذكر ما بينه وبينهم فقال : - وقال الحرالي : لما كان ما أنزل له الكتاب إقامة ثلاثة أمور : إقامة أمر الدين الذي هو ما بين العبد وربه ، وتمشية حال الدنيا التي هي دار محنة العبد ، وإصلاح حال الآخرة والمعاد الذي هو موضع قرار العبد ، صار ما يجري ذكره من أحكام تمشية الدنيا غلساً نجوم إنارته أحكام أمر الدين فلذلك مطلع نجوم خطابات الدين أثناء خطابات أمر الدنيا فيكون خطاب الأمر نجماً خلال خطابات الحرام والحلال في أمر الدنيا ؛ وإنما كان نجم هذا الخطاب للمحافظة على الصلاة لأن هذا الاشتجار المذكور بين الأزواج فيما يقع من تكره في الأنفس وتشاح في الأموال إنما وقع من تضييع المحافظة على الصلوات لأن الصلاة بركة في الرزق وسلاح على الأعداء وكراهة الشيطان ؛ فهي دافعة للأمور التي منها تتضايق الأنفس وتقبل الوسواس ويطرقها الشح ، فكان في إفهام نجم هذا الخطاب أثناء هذه الأحكام الأمر بالمحافظة على الصلوات لتجري أمورهم على سداد يغنيهم عن الارتباك في جملة هذه الأحكام - انتهى.
(7/178)
فقال تعالى : {حافظوا} قال الحرالي : من المحافظة مفاعلة من الحفظ وهو رعاية العمل علماً وهيئة ووقتاً وإقامة بجميع ما يحصل به أصله ويتم به عمله وينتهي إليه كماله ، وأشار إلى كمال الاستعداد لذلك بأداة الاستعلاء فقال : {على الصلوات} فجمع وعرف حتى يعم جميع أنواعها ، أي افعلوا في حفظها فعل من يناظر آخر فيه فإنه لا مندوحة عنها في حال من الأحوال حتى ولا في حال خوف التلف ، فإن في المحافظة عليها كمال صلاح أمور الدنيا والآخرة لا سيما إدرار الأرزاق وإذلال الأعداء {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها} [ طه : 132 ] و{استعينوا بالصبر والصلاة} [ البقرة : 193 ] " كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة " ولا شك أن اللفظ صالح لدخول صلاة الجنازة فيه ، ويزيده وضوحاً اكتناف آيتي الوفاة لهذه الآية سابقاً ولاحقاً.
(7/179)
وقال الحرالي : إن الله سبحانه وتعالى يعطي الدنيا على نية الآخرة وأبى أن يعطي الآخرة على نية الدنيا ، خلل حال المرء في دنياه ومعاده إنما هو عن خلل حال دينه ، وملاك دينه وأساسه إيمانه وصلاته ، فمن حافظ على الصلوات أصلح الله حال دنياه وأخراه ، وفي المحافظة عليها تجري مقتضيات عملها عملاً إسلامياً وخشوعاً وإخباتاً إيمانياً ورؤية وشهوداً إحسانياً فبذلك تتم المحافظة عليها ، وأول ذلك الطهارة لها باستعمال الطهور على حكم السنة وتتبع معاني الحكمة ، كما في مسح الأذنين مع الرأس ، لأن من فرق بينهما لم يكد يتم له طهور نفسه بما أبدته الحكمة وأقامته السنة وعمل العلماء فصد عنه عامة الخلق الغفلة ؛ ثم التزام التوبة عندها لأن طهور القلب التوبة كما أن طهور البدن والنفس الماء والتراب ، فمن صلى على غير تجديد توبة صلى محدثاً بغير طهارة ؛ ثم حضور القلب في التوحيد عند الأذان والإقامة ، فإن من غفل قلبه عند الأذان والإقامة عن التوحيد نقص من صلاته روحها فلم يكن لها عمود قيام ، من حضر قلبه عند الأذان والإقامة حضر قلبه في صلاته ، ومن غفل قلبه عندهما غفل قلبه في صلاته ؛ ثم هيئتها في تمام ركوعها وسجودها ؛ وإنطاق كل ركن عملي بذكر الله يختص به أدنى ما يكون ثلاثاً فليس في الصلاة عمل لا نطق له ؛ ولا يقبل الله صلاة من لم يقم صلبه في ركوعه وسجوده وقيامه وجلوسه ؛ فبالنقص من تمامها تنقص المحافظة عليها وبتضييع المحافظة عليها يتملك الأعداء النفس ويلحقها الشح فتنتقل عليها الأحكام وتتضاعف عليها مشاق الدنيا ، وما من عامل يعمل عملاً في وقت صلاة أو حال أذان إلا كان وبالاً عليه وعلى من ينتفع به من عمله ، وكان ما يأخذه من أجر فيه شقى خبث لا يثمر له عمل بر ولا راحة نفس في عاجلته ولا آجلته ، وخصوصاً بعد أن أمهل الله الخلق من طلوع شمس يومهم إلى زوالها ست ساعات فلم يكن لدنياهم حق في الست الباقية فكيف إذا طولبوا منها بأويقات الأذان(7/180)
والصلاة وما نقص عمل من صلاة ، فبذلك كانت المحافظة على الصلوات ملاكاً لصلاح أحوال الخلق مع أزواجهم في جميع أحوالهم - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 449 ـ 451}
قال الفخر :
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بين للمكلفين ما بين من معالم دينه ، وأوضح لهم من شرائع شرعه أمرهم بعد ذلك بالمحافظة على الصلوات وذلك لوجوه أحدها : أن الصلاة لما فيها من القراءة والقيام والركوع والسجود والخضوع والخشوع تفيد انكسار القلب من هيبة الله تعالى ، وزوال التمرد عن الطبع ، وحصول الانقياد لأوامر الله تعالى والانتهاء عن مناهيه ، كما قال : {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [ العنكبوت : 45 ] والثاني : أن الصلاة تذكر العبد جلالة الربوبية وذلة العبودية وأمر الثواب والعقاب فعند ذلك يسهل عليه الانقياد للطاعة ولذلك قال : {استعينوا بالصبر والصلاة} [ البقرة : 45 ] والثالث : أن كل ما تقدم من بيان النكاح والطلاق والعدة اشتغال بمصالح الدنيا ، فأتبع ذلك بذكر الصلاة التي هي مصالح الآخرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 124}
وقال أبو حيان :
(7/181)
{حافظوا على الصلوات} قالوا : هذه الآية معترضة بين آيات المتوفى عنها زوجها ، والمطلقات ، وهي متقدّمة عليهنّ في النزول ، متأخرة في التلاوة ورسم المصحف ، وشبهوها بقوله : {إن الله يأمركم أن تذبحوا بقرة} وبقوله : {وإذ قتلتم نفساً} قالوا : فيجوز أن تكون مسوقة على الآيات التي ذكر فيها القتال ، لأنه بين فيها أحوال الصلاة في حال الخوف ، قالوا : وجاء ما هو متعلق بأبعد من هذا ، زعموا أن قوله تعالى : {ليس بأمانيكم ولا أماني أهل الكتاب} رداً لقوله : {وقالوا لن يدخل الجنة إلاَّ من كان هوداً أو نصارى} قالوا : وأبعد منه : {سأل سائل بعذاب واقع} راجع إلى قوله : {وإذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك} الآية قالوا : أو يجوز أن يكون حدث خوف قبل إنزال إتمام أحكام المطلقات ، فبين تعالى أحكام صلاة الخوف عند مسيس الحاجة إلى بيانه ، ثم أنزل إتمام أحكام المطلقات.
قالوا : ويجوز أن تكون متقدمة في التلاوة ورسم المصحف ، متأخرة في النزول قبل هذه الآيات ، على قوله بعد هذه الآية : {وقاتلوا في سبيل الله} وهذه كلها أقوال كما ترى.
(7/182)
والذي يظهر في المناسبة أنه تعالى ، لما ذكر تعالى جملة كثيرة من أحوال الأزواج والزوجات ، وأحكامهم في النكاح والوطء ، والإيلاء والطلاق ، والرجعة ، والإرضاع والنفقة والكسوة ، والعدد والخطبة ، والمتعة والصداق والتشطر ، وغير ذلك ، كانت تكاليف عظيمة تشغل من كلفها أعظم شغل ، بحيث لا يكاد يسع معها شيء من الأعمال ، وكان كل من الزوجين قد أوجب عليه للآخر ما يستفرغ فيه الوقت ، ويبلغ منه الجهد ، وأمر كلا منهما بالإحسان إلى الآخر حتى في حالة الفراق ، وكانت مدعاة إلى التكاسل عن الاشتغال بالعبادة إلاَّ لمن وفقه الله تعالى ، أمر تعالى بالمحافظة على الصلوات التي هي الوسيلة بين الله وبين عبده ، وإذا كان قد أمر بالمحافظة على أداء حقوق الآدميين ، فلأن يؤمر بأداء حقوق الله أولى وأحق ، ولذلك جاء : "فدين الله أحق أن يقضى" فكأنه قيل : لا يشغلنكم التعلق بالنساء وأحوالهنّ عن أداء ما فرض الله عليكم ، فمع تلك الأشغال العظيمة لا بد من المحافظة على الصلاة ، حتى في حالة الخوف ، فلا بد من أدائها رجالاً وركباناً ، وإن كانت حالة الخوف أشد من حالة الاشتغال بالنساء ، فإذا كانت هذه الحالة الشاقة جداً لا بد معها من الصلاة ، فأحرى ما هو دونها من الأشغال المتعلقة بالنساء.
وقيل : مناسبة الأمر بالمحافظة على الصلوات عقيب الأوامر السابقة أن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فيكون ذلك عوناً لهم على امتثالها ، وصوناً لهم عن مخالفتها ، وقيل : وجه ارتباطها بما قبلها وبما بعدها ، أنه لما أمر تعالى بالمحافظة على حقوق الخلق بقوله : {ولا تنسوا الفضل بينكم} ناسب أن يأمر بالمحافظة على حقوق الحق ، ثم لما كانت حقوق الآدميين منها ما يتعلق بالحياة ، وقد ذكره ، ومنها ما يتعلق بالممات ، ذكره بعده ، في قوله : {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية} الآية. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 248}
وقال ابن عاشور :
(7/183)
الانتقال من غرض إلى غرض في آي القرآن لا تلزم له قوة ارتباط ، لأن القرآن ليس كتاب تدريس يرتب بالتبويب وتفريع المسائل بعضها على بعض ، ولكنه كتاب تذكير وموعظة فهو مجموع ما نزل من الوحي في هدى الأمة وتشريعها وموعظتها وتعليمها ، فقد يجمع به الشيء للشيء من غير لزوم ارتباط وتفرع مناسبة ، وربما كفى في ذلك نزول الغرض الثاني عقب الغرض الأول ، أو تكون الآية مأموراً بإلحاقها بموضع معين من إحدى سور القرآن كما تقدم في المقدمة الثامنة ، ولا يخلو ذلك من مناسبة في المعاني ، أو في انسجام نظم الكلام ، فلعل آية {حافظوا على الصلوات} نزلت عقب آيات تشريع العدة والطلاق لسبب اقتضى ذلك من غفلة عن الصلاة الوسطى ، أو استشعار مشقة في المحافظة عليها ، فموقع هذه الآية موقع الجملة المعترضة بين أحكام الطلاق والعدد.
وإذا أبيت ألاّ تطلب الارتباط فالظاهر أنه لما طال تبيان أحكام كثيرة متوالية : ابتداء من قوله : {يسألونك ماذا ينفقون} [ البقرة : 215 ] ، جاءت هذه الآية مرتبطة بالتذييل الذي ذيلت به الآية السابقة وهو قوله : {وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم} [ البقرة : 237 ] فإن الله دعانا إلى خلق حميد ، وهو العفو عن الحقوق ، ولما كان ذلك الخلق قد يعسر على النفس ، لما فيه من ترك ما تحبه من الملائم ، من مال وغيره كالانتقام من الظالم ، وكان في طباع الأنفس الشح ، علمنا الله تعالى دواء هذا الداء بدواءين ، أحدهما دنيوي عقلي ، وهو قوله : {ولا تنسوا الفضل بينكم} ، المذكر بأن العفو يقرب إليك البعيد ، ويصير العدو صديقاً وأنك إن عفوت فيوشك أن تقترف ذنباً فيعفى عنك ، إذا تعارف الناس الفضل بينهم ، بخلاف ما إذا أصبحوا لا يتنازلون عن الحق.
(7/184)
الدواء الثاني أخروي روحاني : وهو الصلاة التي وصفها الله تعالى في آية أخرى بأنها تنهى عن الفحشاء والمنكر ، فلما كانت معينة على التقوى ومكارم الأخلاق ، حث الله على المحافظة عليها.
ولك أن تقول : لما طال تعاقب الآيات المبينة تشريعات تغلب فيها الحظوظ الدنيوية للمكلفين ، عقبت تلك التشريعات بتشريع تغلب فيه الحظوظ الأخروية ، لكي لا يشتغل الناس بدراسة أحد الصنفين من التشريع عن دراسة الصنف الآخر ، قال البيضاوي : "أمر بالمحافظة عليها في تضاعيف أحكام الأولاد والأزواج ، لئلا يلهيهم الاشتغال بشأنهم عنها".
وقال بعضهم : "لما ذكر حقوق الناس دلهم على المحافظة على حقوق الله" وهو في الجملة مع الإشارة إلى أن في العناية بالصلوات أداء حق الشكر لله تعالى على ما وجه إلينا من عنايته بأمورنا التي بها قوام نظامنا وقد أومأ إلى ذلك قوله في آخر الآية {كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} [ البقرة : 239 ] أي من قوانين المعاملات النظامية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 465 ـ 466}
فصل
قال الفخر :
أجمع المسلمون على أن الصلاة المفروضة خمسة ، وهذه الآية التي نحن في تفسيرها دالة على ذلك ، لأن قوله : {حافظوا عَلَى الصلوات} يدل على الثلاثة من حيث أن أقل الجمع ثلاثة ، ثم إن قوله تعالى : {والصلاة الوسطى} يدل على شيء أزيد من الثلاثة ، وإلا لزم التكرار ، والأصل عدمه ، ثم ذلك الزائد يمتنع أن يكون أربعة ، وإلا فليس لها وسطى ، فلا بد وأن ينضم إلى تلك الثلاثة عدد آخر يحصل به للمجموع وسط ، وأقل ذلك أن يكون خمسة ، فهذه الآية دالة على وجوب الصلوات الخمسة بهذا الطريق ، واعلم أن هذا الاستدلال إنما يتم إذا بينا أن المراد من الوسطى ما تكون وسطى في العدد لا ما تكون وسطى بسبب الفضيلة ونبين ذلك بالدليل إن شاء الله تعالى إلا أن هذه الآية وإن دلت على وجوب الصلوات الخمس لكنها لا تدل على أوقاتها ، والآيات الدالة على تفصيل الأوقات أربع : (7/185)
الآية الأولى : قوله : {فسبحان الله حين تمسون وحين تصبحون * وله الحمد في السموات والأرض وعشياً وحين تظهرون} [ الروم : 17 ، 18 ] وهذه الآية أبين آيات المواقيت فقوله : {فَسُبْحَانَ الله} أي سبحوا الله معناه صلوا لله حين تمسون ، أراد به صلاة المغرب والعشاء {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} أراد صلاة الصبح {وَعَشِيّاً} [ مريم : 11 ] أراد به صلاة العصر {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} صلاة الظهر.
الآية الثانية : قوله : {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ اليل} [ الإسراء : 78 ] أراد بالدلوك زوالها فدخل فيه صلاة الظهر ، والعصر ، والمغرب ، والعشاء ، ثم قال : {أَقِمِ الصلاة} أراد صلاة الصبح.
الآية الثالثة : قوله : {وَسَبّحْ بِحَمْدِ رَبّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ ءَانَاء اليل فَسَبّحْ وَأَطْرَافَ النهار} [ طها : 130 ] فمن الناس من قال : هذه الآية تدل على الصلوات الخمس ، لأن الزمان إما أن يكون قبل طلوع الشمس أو قبل غروبها ، فالليل والنهار داخلان في هاتين اللفظتين.
الآية الرابعة : قوله تعالى : {وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل} [ هود : 114 ] فالمراد بطرفي النهار : الصبح ، والعصر ، وقوله : {وَزُلَفاً مِّنَ اليل} المغرب والعشاء ، وكان بعضهم يتمسك به في وجوب الوتر ، لأن لفظ زلفاً جمع فأقله الثلاثة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 124 ـ 125}
قال أبو حيان :
الألف واللام فيها للعهد ، وهي : الصلوات الخمس. قالوا : وكل صلاة في القرآن مقرونة بالمحافظة ، فالمراد بها الصلوات الخمس. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 248}
فصل فى المحافظة على الصلاة
قال الفخر :
(7/186)
اعلم أن الأمر بالمحافظة على الصلاة أمر بالمحافظة على جميع شرائطها ، أعني طهارة البدن ، والثوب ، والمكان ، والمحافظة على ستر العورة ، واستقبال القبلة ، والمحافظة على جميع أركان الصلاة ، والمحافظة على الاحتراز عن جميع مبطلات الصلاة سواء كان ذلك من أعمال القلوب أو من أعمال اللسان ، أو من أعمال الجوارح ، وأهم الأمور في الصلاة ، رعاية النية فإنها هي المقصود الأصلي من الصلاة ، قال تعالى : {وأقم الصلاة لذكري} [ طه : 14 ] فمن أدى الصلاة على هذا الوجه كان محافظاً على الصلاة وإلا فلا.
فإن قيل : المحافظة لا تكون إلا بين اثنين ، كالمخاصمة ، والمقاتلة ، فكيف المعنى ههنا ؟ .
والجواب : من وجهين أحدهما : أن هذه المحافظة تكون بين العبد والرب ، كأنه قيل له : احفظ الصلاة ليحفظك الإله الذي أمرك بالصلاة وهذا كقوله : {فاذكرونى أَذْكُرْكُمْ} [ البقرة : 152 ] وفي الحديث : " احفظ الله يحفظك " الثاني : أن تكون المحافظة بين المصلي والصلاة فكأنه قيل : احفظ الصلاة حتى تحفظك الصلاة ، واعلم أن حفظ الصلاة للمصلي على ثلاثة أوجه
(7/187)
الأول : أن الصلاة تحفظه عن المعاصي ، قال تعالى : {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [ العنكبوت : 45 ] فمن حفظ الصلاة حفظته الصلاة عن الفحشاء والثاني : أن الصلاة تحفظه من البلايا والمحن ، قال تعالى : {واستعينوا بالصبر والصلاة} [ البقرة : 153 ] وقال تعالى : {وَقَالَ الله إِنّى مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَءاتَيْتُمْ الزكواة} [ المائدة : 12 ] ومعناه : إني معكم بالنصرة والحفظ إن كنتم أقمتم الصلاة وآتيتم الزكاة والثالث : أن الصلاة تحفظ صاحبها وتشفع لمصليها ، قال تعالى : {وَأَقِيمُواْ الصلاة وَءَاتُواْ الزكواة وَمَا تُقَدّمُواْ لأَنْفُسِكُم مّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله} [ البقرة : 110 ] ولأن الصلاة فيها القراءة ، والقرآن يشفع لقارئه ، وهو شافع مشفع وفي الخبر : " إنه تجىء البقرة وآل عمران كأنهما عمامتان فيشهدان ويشفعان " وأيضاً في الخبر " سورة الملك تصرف عن المتهجد بها عذاب القبر وتجادل عنه في الحشر وتقف في الصراط عند قدميه وتقول للنار لا سبيل لك عليه " والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 125}
قوله تعالى : {وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى}
قال البقاعى :
{والصلاة الوسطى} أي خصوصاً فإنها أفضل الصلوات لأنها أخصها بهذا النبي الخاتم كما مضى بيانه في أول السورة في قوله : {استعينوا بالصبر والصلاة} [ البقرة : 193 ] فخصها سبحانه وتعالى بمزيد تأكيد وأخفاها لأداء ذلك إلى المحافظة على الكل ولهذا السبب أخفى ليلة القدر في رمضان ، وساعة الإجابة في يوم الجمعة ، والاسم الأعظم في جميع الأسماء ، ووقت الموت حملاً على التوبة في كل لحظة.
(7/188)
وقال الحرالي : وما من جملة إلا ولها زهرة فكان في الصلوات ما هو منها بمنزلة الخيار من الجملة وخيارها وسطاها فلذلك خصص تعالى خيار الصلوات بالذكر ، وذكرها بالوصف إبهاماً ليشمل الوسطى الخاصة بهذه الأمة وهي العصر التي لم تصح لغيرها من الأمم ، ولينتظم الوسطى العامة لجميع الأمم ولهذه الأمة التي هي الصبح ، ولذلك اتسع لموضع أخذها بالوصف مجال العلماء فيها ثم تعدت أنظارهم إلى جميعها لموقع الإبهام في ذكرها حتى تتأكد المحافظة في الجميع بوجه ما ، وفي قراءة عائشة رضي الله تعالى عنها : وصلاة العصر - عطفاً ما يشعر بظاهر العطف باختصاص الوسطى بالصبح على ما رآه بعض العلماء ، وفيه مساغ لمرجعه على {الصلاة الوسطى} بنفسها ليكون عطف أوصاف ، وتكون تسميتها بالعصر مدحة ووصفاً من حيث إن العصر خلاصة الزمان كما أن عصارات الأشياء خلاصاتها
{ثم يأتي من بعد ذلك عام فيه يغاث الناس وفيه يعصرون} [ يوسف : 49 ] فعصر اليوم هو خلاصة لسلامته من وهج الهاجرة وغسق الليل ، ولتوسط الأحوال والأبدان والأنفس بين حاجتي الغداء والعشاء التي هي مشغلتهم بحاجة الغذاء ؛ ومن إفصاح العرب عطف الأوصاف المتكاملة فيقال : فلان كريم وشجاع - إذا تم فيه الوصفان ، فإذا نقصا عن التمام قيل : كريم شجاع - بالاتباع ، فبذلك يقبل معنى هذه القراءة أن تكون الوسطى هي العصر عطفاً لوصفين ثابتين لأمر واحد - انتهى.
(7/189)
ويوضح ما قاله رحمه الله تعالى قولهم في الرمان المز : حلو حامض - من غير عطف ، وبرهانه أنهم قالوا : إن الجمل إذا تتابعت من غير عطف كان ذلك مؤذناً بتمام الاتصال بينها فتكون الثانية إما علة للأولى وإما مستأنفة على تقدير سؤال سائل ونحو ذلك مما قاله البيانيون في باب الفصل والوصل ، ولولا إشعار الكلام الأول بالجملة الثانية لاحتياجه إليها لم يوجد محرك للسؤال بخلاف ما إذا تعاطفت كان ذلك يؤذن بأن كل واحدة منها غنية عما بعدها وذلك مؤذن بالتمام : وأما أسماء الله تعالى فتتابعها دون عطف ، لأن شيئاً منها لا يؤدي جميع مفهوم اسم الذات العلم ولذلك ختم سبحانه وتعالى آيات سورة الحشر بقوله : {له الأسماء الحسنى} [ الحشر : 24 ] أي أن هذه الأسماء التي ذكرت هي مما أفهمه مدلول الاسم العلم المبتدأ به سواء قلنا إنه مشتق أو لا ، ومهما اطلعت على وصف حسن يليق به سبحانه وتعالى فهو مما دل عليه الاسم الأعظم ، لأن من يستحق العبادة لا يكون إلا كذلك جامعاً لأوصاف الكمال ، أو لأنه لما جبلت النفوس وطبعت القلوب على المعرفة بأنه سبحانه وتعالى منزه عن شوائب النقص ومتصف بأوصاف الكمال كان الإعراء من العطف فيها للإيذان بذلك وما عطف منها فلمعنى دعا إليه كما يأتي بيانه إن شاء الله تعالى في مواضعه ، وأنا لا أشك أن المعطل إذا وقع في ضيق أخرجه ودهمه من البلاء ما أعجزه وأحرق قلبه وأجرى دمعه التفت قلبه ضرورة إلى الله سبحانه وتعالى في كشفه وضرع إليه في إزالته لما ركز في جبلته من كماله وعظمته وجلاله ذاهلاً عما تكسبه من قُرناه السوء من سوء الاعتقاد وجر نفسه إليه من العناد - والله سبحانه وتعالى أعلم ؛ فدونك قاعدة نفيسة طال ما تطلبتها وسألت عنها الفضلاء فما وجدتها وضربت بفكري في رياض الفنون ومهامه العلوم حتى تصورتها ثم بعد فراغي من تفسيري رأيت الكشاف أشار إليها في آية " والمستغفرين بالأسحار " في آل عمران - والله سبحانه وتعالى(7/190)
الموفق. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 451 ـ 452}
قال أبو حيان :
{والصلاة الوسطى} الوسطى فعلى مؤنثة الأوسط ، كما قال أعرابي يمدح رسول الله صلى الله عليه وسلم :
يا أوسط الناس طرّاً في مفاخرهم... وأكرم الناس أمَّاً برّة وأبا
وهو خيار الشيء وأعدله ، كما يقال : فلان من واسطة قومه ، أي : من أعيانهم ، وهل سميت : الوسطى ، لكونها بين شيئين من : وسط فلان يسط ، إذا كان وسطاً بين شيئين ؟ أو : من وسط قومه إذا فضلهم ؟ فيه قولان ، والذي تقتضيه العربية أن تكون الوسطى مؤنث الأوسط ، بمعنى الفضلى مؤنث الأفضل ، كالبيت الذي أنشدناه : يا أوسط الناس ، وذكر أن أفعل التفضيل لا يبنى إلاَّ مما يقبل الزيادة والنقص ، وكذلك فعل التعجب ، فكل ما لا يقبل الزيادة والنقص لا يبنيان منه ألا ترى أنك لا تقول زيد أموت الناس ؟ ولا : ما أموت زيداً ؟ لأن الموت شيء لا يقبل الزيادة ولا النقص ، وإذا تقرر هذا فكون الشيء وسطاً بين شيئين لا يقبل الزيادة ولا النقص ، فلا يجوز أن يبنى منه أفعل التفضيل ، لأنه لا تفاضل فيه ، فتعين أن تكون الوسطى بمعنى الأخير والأعدل ، لأن ذلك معنى يقبل التفاوت ، وخصت الصلاة الوسطى بالذكر ، وان كانت قد اندرجت في عموم الصلوات قبلها ، تنبيهاً على فضلها على غيرها من الصلوات ، كما نبه على فضل جبريل وميكال في تجريدهما بالذكر في قوله : {وملائكته ورسله وجبريل وميكال} وعلى فضل من ذكر وجرد من الأنبياء بعد قوله : {وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح} الآية ، وعلى فضل النخل والرمان في قوله : {فيهما فاكهة ونخل ورمان} وقد تكلمنا على هذا النوع من الذكر في قوله : {وملائكته ورسله وجبريل وميكال}. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 248 ـ 249}
فائدة
قال الماوردى :
وفي تسميتها بالوسطى ثلاثة أوجه
أحدها : لأنها أوسط الصلوات الخمس محلاً ، لأنها بين صلاتي ليل وصلاتي نهار.
(7/191)
والثاني : لأنها أوسط الصلاة عدداً ، لأن أكثرهن أربع وأقلهن ركعتان.
والثالث : لأنها أفضل الصلوات ووسط الشيء ووسطاه أفضله ، وتكون الوُسْطَى بمعنى الفُضْلَى. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 309}
فصل فى اختلافهم فى الصلاة الوسطى
قال الفخر :
اختلفوا في الصلاة الوسطى على سبعة مذاهب.(7/192)
فالقول الأول : أن الله تعالى أمر بالمحافظة عليها ، ولم يبين لنا أنها أي صلاة هي ، وإنما قلنا : إنه لم يبين لأنه لو بين ذلك لكان إما أن يقال : إنه تعالى بينها بطريق قطعي ، أو بطريق ظني والأول باطل لأنه بيان إما أن يكون بهذه الآية ، أو بطريق آخر قاطع ، أو خبر متواتر ولا يمكن أن يكون البيان حاصلاً في هذه الآية ، لأن عدد الصلوات خمس ، وليس في الآية ذكر لأولها وآخرها ، وإذا كان كذلك أمكن في كل واحدة من تلك الصلوات أن يقال : إنما هي الوسطى ، وإما أن يقال : بيان حصل في آية أخرى أو في خبر متواتر ، وذلك مفقود ، وأما بيانه بالطريق الظني وهو خبر الواحد والقياس فغير جائز ، لأن الطريق المفيد للظن معتبر في العمليات ، وهذه المسألة ليست كذلك ، فثبت أن الله تعالى لم يبين أن الصلاة الوسطى ما هي ثم قالوا : والحكمة فيه أنه تعالى لما خصها بمزيد التوكيد ، مع أنه تعالى لم يبينها جوز المرء في كل صلاة يؤديها أنها هي الوسطى فيصير ذلك داعياً إلى أداء الكل على نعت الكمال والتمام ، ولهذا السبب أخفى الله تعالى ليلة القدر في رمضان ، وأخفى ساعة الإجابة في يوم الجمعة ، وأخفى اسمه الأعظم في جميع الأسماء ، وأخفى وقت الموت في الأوقات ليكون المكلف خائفاً من الموت في كل الأوقات ، فيكون آتياً بالتوبة في كل الأوقات ، وهذا القول اختاره جمع من العلماء ، قال محمد بن سيرين : إن رجلاً سأل زيد بن ثابت عن الصلاة الوسطى فقال : حافظ على الصلوات كلها تصبها ، وعن الربيع بن خيثم أنه سأله واحد عنها ، فقال : يا ابن عم الوسطى واحدة منهن فحافظ على الكل تكن محافظاً على الوسطى ثم قال الربيع : لو علمتها بعينها لكنت محافظاً لها ومضيعاً لسائرهن ، قال السائل : لا.
قال الربيع : فإن حافظت عليهن فقد حافظت على الوسطى.
(7/193)
القول الثاني : هي مجموع الصلوات الخمس وذلك لأن هذه الخمسة هي الوسطى من الطاعات وتقريره أن الإيمان بضع وسبعون درجة ، أعلاها شهادة أن لا إله إلا الله ، وأدناها إماطة الأذى عن الطريق ، والصلوات المكتوبات دون الإيمان وفوق إماطة الأذى فهي واسطة بين الطرفين.
القول الثالث : أنها صلاة الصبح ، وهذا القول من الصحابة قول علي عليه السلام ، وعمر وابن عباس ، وجابر بن عبد الله ، وأبي أمامة الباهلي ، ومن التابعين قول طاوس ، وعطاء ، وعكرمة ومجاهد ، وهو مذهب الشافعي رحمه الله والذي يدل على صحة هذا القول وجوه الأول : أن هذه الصلاة تصلى في الغلس فأولها يقع في الظلام فأشبهت صلاة الليل ، وآخرها يقع في الضوء فأشبهت صلاة النهار الثاني : أن هذه الصلاة تؤدى بعد طلوع الصبح ، وقبل طلوع الشمس ، وهذا القدر من الزمان لا تكون الظلمة فيه تامة ، ولا يكون الضوء أيضاً تاماً ، فكأنه ليس بليل ولا نهار فهو متوسط بينهما الثالث : أنه حصل في النهار التام صلاتان : الظهر والعصر ، وفي الليل صلاتان : المغرب والعشاء ، وصلاة الصبح كالمتوسط بين صلاتي الليل والنهار.
(7/194)
فإن قيل : فهذه المعاني حاصلة في صلاة المغرب قلنا : إنا نرجح صلاة الصبح على المغرب بكثرة فضائل صلاة الصبح على ما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى الرابع : أن الظهر والعصر يجمعان بعرفة بالاتفاق ، وفي السفر عند الشافعي ، وكذا المغرب والعشاء ، وأما صلاة الفجر فهي منفردة في وقت واحد فكان وقت الظهر والعصر وقتاً واحداً ووقت المغرب والعشاء وقتاً واحداً ، ووقت الفجر متوسطاً بينهما ، قال القفال رحمه الله : وتحقيق هذا الاحتجاج يرجع إلى أن الناس يقولون : فلان وسط ، إذا لم يمل إلى أحد الخصمين ، فكان منفرداً بنفسه عنهما ، والله أعلم الخامس : قوله تعالى : {إن قرآن الفجر كان مشهوداً} [ الإسراء : 78 ] وقد ثبت بالتواتر أن المراد منه صلاة الفجر ، وإنما جعلها مشهوداً لأنها تؤدى بحضرة ملائكة الليل وملائكة النهار.
(7/195)
إذا عرفت هذا فوجه الاستدلال بهذه الآية من وجهين أحدهما : أن الله تعالى أفرد صلاة الفجر بالذكر ، فدل هذا على مزيد فضلها ، ثم إنه تعالى خص الصلاة الوسطى بمزيد التأكيد ، فيغلب على الظن أن صلاة الفجر لما ثبت أنها أفضل بتلك الآية ، وجب أن تكون هي المراد بالتأكيد المذكور في هذه الآية والثاني : أن الملائكة تتعاقب بالليل والنهار ، فلا تجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في وقت واحد إلا صلاة الفجر ، فثبت أن صلاة الفجر قد أخذت بطرفي الليل والنهار من هذا الوجه ، فكانت كالشيء المتوسط السادس : أنه تعالى قال بعد ذكر الصلاة الوسطى : {وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين} قرن هذه الصلاة بذكر القنوت ، وليس في الشرع صلاة ثبت بالأخبار الصحاح القنوت فيها إلا الصبح ، فدل على أن المراد بالصلاة الوسطى هي صلاة الصبح السابع : لا شك أنه تعالى إنما أفردها بالذكر لأجل التأكيد ، ولا شك أن صلاة الصبح أحوج الصلوات إلى التأكيد ، إذ ليس في الصلاة أشق منها ، لأنها تجب على الناس في ألذ أوقات النوم ، حتى إن العرب كانوا يسمون نوم الفجر العسيلة للذتها ، ولا شك أن ترك النوم اللذيذ الطيب في ذلك الوقت ، والعدول إلى استعمال الماء البارد ، والخروج إلى المسجد والتأهب للصلاة شاق صعب على النفس ، فيجب أن تكون هي المراد بالصلاة الوسطى إذ هي أشد الصلوات حاجة إلى التأكيد الثامن : أن صلاة الصبح أفضل الصلوات ، وإذا كان كذلك وجب أن يكون المراد من الصلاة الوسطى صلاة الصبح ، إنما قلنا : إنها أفضل الصلوات لوجوه أحدها : قوله تعالى : {الصابرين والصادقين} إلى قوله تعالى : {والمستغفرين بالأسحار} [ آل عمران : 17 ] فجعل ختم طاعاتهم الشريفة وعباداتهم الكاملة بذكر كونهم مستغفرين بالأسحار ، ثم يجب أن يكون أعظم أنواع الاستغفار هو أداء الفرض ، لقوله عليه الصلاة والسلام حاكياً عن ربه تعالى " لن يتقرب إلي المتقربون بمثل أداء ما افترضت عليهم " وذلك يقتضي(7/196)
أن أفضل الطاعات بعد الإيمان هو صلاة الصبح وثانيها : ما روي فيها أن التكبيرة الأولى منها مع الجماعة خير من الدنيا وما فيها وثالثها : أنه ثبت بالأخبار الصحيحة أن صلاة الصبح مخصوصة بالأذان مرتين : مرة قبل طلوع الفجر ، ومرة أخرى بعده وذلك لأن المقصود من المرة الأولى إيقاظ الناس حتى يقوموا ويتشمروا للوضوء ورابعها : أن الله تعالى سماها بأسماء ، فقال في بني إسرائيل :
(7/197)
{وقرآن الفجر} [ الإسراء : 78 ] وقال في النور : {مّن قَبْلِ صلاة الفجر} [ النور : 58 ] وقال في الروم : {وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [ الروم : 17 ] وقال عمر بن الخطاب : المراد من قوله : {وإدبار النجوم} [ الطور : 49 ] صلاة الفجر وخامسها : أنه تعالى أقسم به فقال : {والفجر * وَلَيالٍ عَشْر} [ الفجر : 1 ، 2 ] ولا يعارض هذا بقوله تعالى : {والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [ العصر : 1 ، 2 ] فإنا إذا سلمنا أن المراد منه القسم بصلاة العصر لكن في صلاة الفجر تأكيد ، وهو قوله : {أَقِمِ الصلاة طَرَفَىِ النهار} [ هود : 114 ] وقد بينا أن هذا التأكيد لم يوجد في العصر وسادسها : أن التثويب في أذان الصبح معتبر ، وهو أن يقول بعد الفراغ من الحيعلتين : الصلاة خير من النوم مرتين ، ومثل هذا التأكيد غير حاصل في سائر الصلوات وسابعها : أن الإنسان إذا قام من منامه فكأنه كان معدوماً ، ثم صار موجوداً ، أو كان ميتاً ، ثم صار حياً ، بل كأن الخلق كانوا في الليل كلهم أمواتاً ، فصاروا أحياء ، فإذا قاموا من منامهم وشاهدوا هذا الأمر العظيم من كمال قدرة الله ورحمته حيث أزال عنهم ظلمة الليل ، وظلمة النوم والغفلة ، وظلمة العجز والخيرة ، وأبدل الكل بالإحسان ، فملأ العالم من النور ، والأبدان من قوة الحياة والعقل والفهم والمعرفة ، فلا شك أن هذا الوقت أليق الأوقات بأن يشتغل العبد بأداء العبودية ، وإظهار الخضوع والذلة والمسكنة ، فثبت بمجموع هذه البيانات أن صلاة الصبح أفضل الصلوات ، فكان حمل الوسطى عليها أولى التاسع : ما روي عن علي بن أبي طالب عليه السلام أنه سئل عن الصلاة الوسطى ، فقال : كنا نرى أنها الفجر ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما أنه صلى صلاة الصبح ثم قال : هذه هي الصلاة الوسطى العاشر : أن سنن الصبح آكد من سائر السنن ففرضها يجب أن يكون أقوى من سائر الفروض فصرف التأكيد إليها أولى ، فهذا جملة ما يستدل به على أن الصلاة(7/198)
الوسطى هي صلاة الصبح.
القول الرابع : قول من قال : إنها صلاة الظهر ، ويروى هذا القول عن عمر وزيد وأبي سعيد الخدري وأسامة بن زيد رضي الله عنهم ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، واحتجوا عليه بوجوه الأول : أن الظهر كان شاقاً عليهم لوقوعه في وقت القيلولة وشدة الحر فصرف المبالغة إليه أولى ، وعن زيد بن ثابت أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلي بالهاجرة ، وكانت أثقل الصلوات على أصحابه ، وربما لم يكن وراءه إلا الصف والصفان ، فقال عليه الصلاة والسلام : " لقد هممت أن أحرق على قوم لا يشهدون الصلاة بيوتهم " فنزلت هذه الآية ، والثاني : صلاة الظهر تقع وسط النهار وليس في المكتوبات صلاة تقع في وسط الليل أو النهار غيرها ، والثالث : أنها بين صلاتين نهاريتين : الفجر والعصر ، الرابع : أنها صلاة بين البردين : برد الغداة وبرد العشي ، الخامس : قال أبو العالية : صليت مع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم الظهر ، فلما فرغوا سألتهم عن الصلاة الوسطى ، فقالوا التي صليتها ، السادس : روي عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت تقرأ "حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر" وجه الاستدلال أنها عطفت صلاة العصر على الصلاة الوسطى ، والمعطوف عليه قبل المعطوف ، والتي قبل العصر هي الظهر السابع : روي أن قوماً كانوا عند زيد بن ثابت ، فأرسلوا إلى أسامة بن زيد وسألوه عن الصلاة الوسطى ، فقال : هي صلاة الظهر كانت تقام في الهاجرة الثامن : روي في الأحاديث الصحيحة أن أول إمامة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم كانت في صلاة الظهر ، فدل هذا على أنها أشرف الصلوات ، فكان صرف التأكيد إليها أولى التاسع : أن صلاة الجمعة هي أشرف الصلوات ، وهي صلاة الظهر ، فصرف المبالغة إليها أولى.
(7/199)
القول الخامس : قول من قال : إنها صلاة العصر ، وهو من الصحابة مروي عن علي عليه السلام وابن مسعود ، وابن عباس ، وأبي هريرة ، ومن الفقهاء : النخعي ، وقتادة ، والضحاك ، وهو مروي عن أبي حنيفة ، واحتجوا عليه بوجوه الأول : ما روي عن علي عليه السلام أن النبي صلى الله عليه وسلم قال يوم الخندق : " شغلونا عن الصلاة الوسطى ملأ الله بيوتهم وقبورهم ناراً " وهذا الحديث رواه البخاري ومسلم وسائر الأئمة ، وهو عظيم الوقع في المسألة ، وفي صحيح مسلم : " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر " ومن الفقهاء من أجاب عنه فقال : العصر وسط ، ولكن ليس هي المذكورة في القرآن ، فههنا صلاتان وسطيان الصبح والعصر ، وأحدهما ثبت بالقرآن والآخر بالسنة ، كما أن الحرم حرمان : حرم مكة بالقرآن ، وحرم المدينة بالسنة ، وهذا الجواب متكلف جداً الثاني : قالوا روي في صلاة العصر من التأكيد ما لم يرو في غيرها قال عليه الصلاة والسلام : " من فاته صلاة العصر فكأنما وتر أهله وماله " وأيضاً أقسم الله تعالى بها فقال : {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ} [ العصر : 1 ، 2 ] فدل على أنها أحب الساعات إلى الله تعالى الثالث : أن العصر بالتأكيد أولى من حيث إن المحافظة على سائر أوقات الصلاة أخف وأسهل من المحافظة على صلاة العصر ، والسبب فيه أمران أحدهما : أن وقت صلاة العصر أخفى الأوقات ، لأن دخول صلاة الفجر بطلوع الفجر المستطير ضوؤه ، ودخول الظهر بظهور الزوال ، ودخول المغرب بغروب القرص ودخول العشاء بغروب الشفق ، أما صلاة العصر فلا يظهر دخول وقتها إلا بنظر دقيق وتأمل عظيم في حال الظل ، فلما كانت معرفته أشق لا جرم كانت الفضيلة فيها أكثر الثاني : أن أكثر الناس عند العصر يكونون مشتغلين بالمهمات ، فكان الإقبال على الصلاة أشق ، فكان صرف التأكيد إلى هذه الصلاة أولى.
(7/200)
الحجة الرابعة : في أن الوسطى هي العصر أشبه بالصلاة الوسطى لوجوه أحدها : أنها متوسطة بين صلاة هي شفع ، وبين صلاة هي وتر ، أما الشفع فالظهر ، وأما الوتر فالمغرب ، إلا أن العشاء أيضاً كذلك ، لأن قبلها المغرب وهي وتر ، وبعدها الصبح وهو شفع وثانيها : العصر متوسطة بين صلاة نهارية وهي الظهر ، وليلية وهي المغرب وثالثها : أن العصر بين صلاتين بالليل وصلاتين بالنهار.
والقول السادس : أنها صلاة المغرب ، وهو قول عبيدة السلماني ، وقبيصة بن ذؤيب ، والحجة فيه من وجهين الأول : أنها بين بياض النهار وسواد الليل ، وهذا المعنى وإن كان حاصلاً في الصبح إلا أن المغرب يرجح بوجه آخر ، وهو أنه أزيد من الركعتين كما في الصبح ، وأقل من الأربع كما في الظهر والعصر والعشاء ، فهي وسط في الطول والقصر.
الحجة الثانية : أن صلاة الظهر تسمى بالصلاة الأولى ، ولذلك ابتدأ جبريل عليه السلام بإمامة فيها ، وإذا كان الظهر أول الصلوات كان الوسطى هي المغرب لا محالة.
القول السابع : أنها صلاة العشاء ، قالوا لأنها متوسطة بين صلاتين لا يقصران ، المغرب والصبح ، وعن عثمان بن عفان رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " من صلى العشاء الآخرة في جماعة كان كقيام نصف ليلة " فهذا مجموع دلائل الناس وأقوالهم في هذه المسألة ، وقد تركت ترجيح بعضها فإنه يستدعي تطويلاً عظيماً ، والله أعلم.
المسألة الرابعة : احتج الشافعي بهذه الآية على أن الوتر ليس بواجب ، قال : الوتر لو كان واجباً لكانت الصلوات الواجبة ستة ، ولو كان كذلك لما حصل لها وسطى ، والآية دلت على حصول الوسطى لها.
(7/201)
فإن قيل : الاستدلال إنما يتم إذا كان المراد هو الوسطى في العدد وهذا ممنوع بل المراد من الوسطى الفضيلة قال تعالى : {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} [ البقرة : 143 ] أي عدولاً وقال تعالى : {قَالَ أَوْسَطُهُمْ} [ القلم : 28 ] أي أعدلهم ، وقد أحكمنا هذا الاشتقاق في تفسير قوله تعالى : {وكذلك جعلناكم أُمَّةً وَسَطًا} وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد الوسطى في المقدار كالمغرب فإنه ثلاث ركعات وهو متوسط بين الإثنين وبين الأربع ، وأيضاً لم لا يجوز أن يكون المراد الوسطى في الصفة وهي صلاة الصبح فإنها تقع في وقت ليس بغاية في الظلمة ولا غاية في الضوء.
الجواب : أن الخلق الفاضل إنما يسمى وسطاً لا من حيث إنه خلق فاضل ، بل من حيث إنه يكون متوسطاً بين رذيلتين هما طرفا الإفراط والتفريط ، مثل الشجاعة فإنها خلق فاضل وهي متوسطة بين الجبن والتهور فيرجع حاصل الأمر إلى أن لفظ الوسط حقيقة فيما يكون وسطاً بحسب العدد ومجاز في الخلق الحسن والفعل الحسن من حيث إن من شأنه أن يكون متوسطاً بين الطرفين اللذين ذكرناهما وحمل اللفظ على الحقيقة أولى من حمله على المجاز.
أما قوله : نحمله على ما يكون وسطاً في الزمان وهو الظهر.
فجوابه : أن الظهر ليست بوسط في الحقيقة ، لأنها تؤدى بعد الزوال ، وهنا قد زال الوسط.
وأما قوله : نحمله على الصبح لكون وقت وجوبه وسطاً بين وقت الظلمة وبين وقت النور ، أو على المغرب لكون عددها متوسطاً بين الإثنين والأربعة.
فجوابه : أن هذا محتمل وما ذكرناه أيضاً محتمل ، فوجب حمل اللفظ على الكل فهذا هو وجه الاستدلال في هذه المسألة بهذه الآية بحسب الإمكان والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 125 ـ 130}
وقد ذكر القرطبى أقوالا أخرى فى المراد بالصلاة الوسطى
(7/202)
منها : صلاة الجمعة ؛ لأنها خُصّت بالجمع لها والخطبة فيها وجُعِلَت عيداً ؛ ذكره ابن حبيب ومكي. وروى مسلم عن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لقوم يتخلَّفون عن الجمعة : " لقد هممت أن آمر رجلاً يصلّي بالناس ثم أحرق على رجال يتخلّفون عن الجمعة بيوتهم".
وقيل : إنها الصبح والعصر معاً. قاله الشيخ أبو بكر الأبهرِيّ ؛ واحتج بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار " الحديث ، رواه أبو هريرة. وروى جرير بن عبد الله قال : كنا جلوساً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ نظر إلى القمر ليلة البدر فقال : " أما أنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته فإن استطعتم ألا تُغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وصلاة قبل غروبها " يعني العصر والفجر : ثم قرأ جرير {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ غُرُوبِهَا} [ طه : 130 ]. وروى عُمارة بن رُؤَيْبة قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لن يلِج النار أحد صلّى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها " يعني الفجر والعصر. وعنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " من صلّى البَرْدَيْن دخل الجنة " كلُّه ثابت في صحيح مسلم وغيره ، وسميتا البَرْدَيْن لأنهما يُفعلان في وقتي البرد.
(7/203)
وقيل : إنها العتمة والصبح. قال أبو الدرداء رضي الله عنه في مرضه الذي مات فيه : اسمعوا وبلِّغوا من خلفكم حافظوا على هاتين الصَّلاتين يعني في جماعة العشاء والصبح ، ولو تعلمون ما فيهما لأتيتموهما ولو حَبْواً على مرافقكم ورُكَبِكم ؛ قاله عمر وعثمان. وروى الأئمّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " ولو يعلمون ما في العَتَمة والصبح لأتوهما ولوحَبْواً وقال إنهما أشدّ الصَّلاة على المنافقين " وجعل لمصلّي الصبح في جماعة قيام ليلة والعَتَمة نصف ليلة ؛ ذكره مالك موقوفاً على عثمان ورفعه مسلم ، وخرّجه أبو داود والترمذي عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من شهد العِشاء في جماعة كان له قيام نصف ليلة ومن صلى العشاء والفجر في جماعة كان له كقيام ليلة " وهذا خلاف ما رواه مالك ومسلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 212}
وقال ابن العربى :
وَأَمَّا مَنْ قَالَ : إنَّهَا غَيْرُ مُعَيَّنَةٍ ، فَلِتَعَارُضِ الْأَدِلَّةِ وَعَدَمِ التَّرْجِيحِ ، وَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ خَبَّأَهَا فِي الصَّلَوَاتِ كَمَا خَبَّأَ لَيْلَةَ الْقَدْرِ فِي رَمَضَانَ ، وَخَبَّأَ السَّاعَةَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ ، وَخَبَّأَ الْكَبَائِرَ فِي السَّيِّئَاتِ ؛ لِيُحَافِظَ الْخَلْقُ عَلَى الصَّلَوَاتِ ، وَيَقُومُوا جَمِيعَ شَهْرِ رَمَضَانَ ، وَيَلْزَمُوا الذِّكْرَ فِي يَوْمِ الْجُمُعَةِ كُلِّهِ ، وَيَجْتَنِبُوا جَمِيعَ الْكَبَائِرِ وَالسَّيِّئَاتِ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 300}
وقال أبو حيان بعد أن ذكر الأقوال السابقة ما نصه :
ورجح كل قول من الأقوال التي عينت فيها : أن الوسطى هي كذا ، بأحاديث وردت في فضل تلك الصلاة ، ورُجح بعضها بأنها وسط بين كذا وكذا ، ولا حجة في شيء من ذلك ، لأن ذكر فضل صلاة معينة لا يدل على أنا التي أراد الله بقوله : {والصلاة الوسطى} ولأن كونها وسطاً بين كذا وكذا لا يصلح أن يبنى منه أفعل التفضيل ، كما بيناه قبل.(7/204)
وقد صنف شيخنا الإمام المحدّث ، أوحد زمانه وحافظ أوانه ، شرف الدين أبو محمد عبد المؤمن بن خلف بن أبي الحسن بن العفيف شرف بن الخضر بن موسى الدمياطي كتاباً في هذا المعنى سماه ( كتاب كشف المغطى في تبيين الصلاة الوسطى ) قرأناه عليه ، ورجح فيه أنها صلاة العصر ، وأن ذلك مروي نصاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، روى ذلك عنه : عليّ بن أبي طالب ، واستفاض ذلك عنه ، وعبد الله بن مسعود ، وحذيفة بن اليمان ، وعبد الله بن عباس ، وسمرة بن جندب ، وعبد الله بن عمر ، وأبو هريرة ، وأبو هاشم بن عتبة بن ربيعة. وذكر فيه بقية الأقاويل العشرة التي سردناها ، وزاد سبعة أقاويل :
أحدها : أنها الجمعة خاصة. الثاني : أنها الجماعة في جميع الصلوات. الثالث : أنها صلاة الخوف. الرابع : أنها الوتر ، واختاره أبو الحسن عليّ بن محمد السخاوي النحوي المقري. الخامس : أنها صلاة عيد الأضحى. السادس : أنها صلاة العيد يوم الفطر. السابع : أنها صلاة الضحى ، حكاه بعضهم وتردد فيه.
فإن ثبت هذا القول فيكون تمام سبعة عشر قولاً ، والذي ينبغي أن نعوّل عليه منها هو قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو : أنها صلاة العصر (1) ، وبه قال شيخنا الحافظ أبو محمد ، رحمه الله. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 250 ـ 251}
روى مسلم في "أفراده" من حديث عليّ رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنه قال يوم الأحزاب : " شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله قبورهم وبيوتهم ناراً " وروى ابن مسعود ، وسمرة ، وعائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، أنها صلاة العصر.
__________
(1) هذا ما تطمئن إليه النفس فينبغى تقديم كلامه صلى الله عليه وسلم على كلام غيره بأبى وأمى هو صلى الله عليه وسلم. والله أعلم وأحكم.(7/205)
روى مسلم في "أفراده" من حديث البراء بن عازب قال : نزلت هذه الآية {حافظوا على الصلوات [ والصلاة الوسطى ] وصلاة العصر} فقرأناها ما شاء الله ، ثم نسخها الله ، فنزلت : {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} وهذا قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وابن مسعود ، وأبيّ أيوب ، وابن عمر في رواية ، وسمرة بن جندب ، وأبي هريرة ، وابن عباس ، في رواية عطية ، وأبي سعيد الخدري ، وعائشة في رواية ، وحفصة ، والحسن ، وسعيد ابن المسيب ، وسعيد بن جبير ، وعطاء في رواية ، وطاووس ، والضحاك ، والنخعي ، وعبيد بن عمير ، وزرّ بن حبيش ، وقتادة ، وأبي حنيفة ، ومقاتل في آخرين ، وهو مذهب أصحابنا. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 282}
قال الإمام أحمد : حدثنا أبو معاوية ، حدثنا الأعمش عن مسلم ، عن شتير بن شكل عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : "شغلونا عن الصلاة الوسطى ، صلاة العصر ، ملأ الله قلوبهم وبيوتهم نارًا". ثم صلاها بين العشاءين : المغرب والعشاء.
وكذا رواه مسلم ، من حديث أبي معاوية محمد بن حازم الضرير ، والنسائي من طريق عيسى بن يونس ، كلاهما عن الأعمش عن مسلم بن صبيح عن أبي الضحى ، عن شتير بن شكل بن حميد ، عن علي بن أبي طالب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثله.
وقد رواه مسلم أيضا ، من طريق شعبة ، عن الحكم بن عتيبة عن يحيى بن الجزار ، عن علي ، به.
وأخرجه الشيخان ، وأبو داود ، والترمذي ، والنسائي ، وغير واحد من أصحاب المساند والسنن ، والصحاح من طرق يطول ذكرها ، عن عبيدة السلماني ، عن علي ، به.
ورواه الترمذي ، والنسائي من طريق الحسن البصري ، عن علي ، به.
قال الترمذي : ولا يعرف سماعه منه.(7/206)
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا أحمد بن سنان ، حدثنا عبد الرحمن بن مهدي ، عن سفيان ، عن عاصم ، عن زر : قال قلت لعبيدة : سل عليًا عن صلاة الوسطى ، فسأله ، فقال : كنا نراها الفجر -أو الصبح -حتى سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يوم الأحزاب : "شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ، ملأ الله قبورهم وأجوافهم -أو بيوتهم -نارًا" ورواه ابن جرير ، عن بندار ، عن ابن مهدي. أ هـ {تفسيرابن كثير حـ 1 صـ 648}
وقال الطبرى :
والصواب من القول في ذلك ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم التي ذكرناها قبل في تأويله : وهو أنها العصر. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 5 صـ 221}
قوله تعالى : {وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما أمر بالمحافظة عليها أتبعه جامع ذلك فقال : {وقوموا لله} أي الذي له الجلال والإكرام {قانتين} أي مطيعين - قاله الحسن وسعيد بن جبير والشعبي وعطاء وقتادة وطاوس.
(7/207)
وروى الطبراني في الأوسط والإمام أحمد وأبو يعلى الموصلي في مسنديهما وابن حبان في صحيحه عن أبي سعيد رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كل حرف ذكر من القنوت في القرآن فهو الطاعة " وقيل : القنوت السكوت ، ففي الصحيحين عن زيد بن أرقم رضي الله تعالى عنه قال : " كنا نتكلم في الصلاة ، يكلم الرجل صاحبه وهو إلى جنبه في حاجته حتى نزلت {وقوموا لله قانتين} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام " وقال مجاهد : خاشعين ، وقيل غير ذلك ؛ وإذا علم أصل معنى هذه الكلمة لغة علم أن المراد : مخلصين ، وإليه يرجع جميع ما قالوه ، وذلك أن مادة قنت بأي ترتيب كان تدور على الضمور من القتين للقليل اللحم والطعم ، وقتن المسك إذا يبس ، فيلزمه الاجتذاب والخلوص ، فإنه لولا تجاذب الأجزاء لزوال ما بينها من المانع لم يضمر ، ومنه امرأة ناتق إذا كانت ولوداً كأنها تجتذب المني كله فتظفر بما يكون منه الولد ، أو أنه لما كان المقصود الأعظم من الجماع الولد كانت كأنها المختصة بجذب المني وكأن اجتذاب غيرها عدم ، أو كأنها تجتذب الولد من رحمها فتخرجه ، وذلك من نتق السقاء وهو نفضه ، حتى يقتلع ما فيه فيخلص ، ومن ذلك : البيت المعمور نتاق الكعبة ، أي مطل عليها من فوق فلو أنه جاذب شيئاً من الأرض لكان إياها لأنه تجاهها ، ومن الضمور : التقن - لرسابة الماء ؛ وهو الكدر الذي يبقى في الحوض فإنه متهيىء لاجتذاب العكولة ؛ ويلزم الضمور الإحكام لجودة التراص في الأجزاء لخلوصها عن مانع ، ومنه : أمر متقن ، أي محكم ، و: رجل تقن - إذا كان حاذقاً بالأشياء ، فهو خالص الرأي ؛ ويلزمه الإخلاص والخشوع والتواضع فتأتي الطاعة بالدعاء وغيره فإنها جمع الهم على المطاع {أمَّن هو قانت آناء الليل} [ الزمر : 9 ] ونحو ذلك ، والتقن أيضاً الطبيعة فإنها سر الشيء وخالصه ، ومنه الفصاحة من : تقن فلان ، أي طبعه ؛ ويلزم الضمور القيام فإنه ضمور بالنسبة إلى(7/208)
بقية الهيئات ؛ ومنه : أفضل الصلاة طول القنوت.
والسكوت ضمور بالنسبة إلى الكلام ؛ ويلزم الضمور اليبس والذبول ومنه التقن للطين الذي يذهب عنه الماء فييبس ويتشقق ؛ والقلة ومنه : قراد قتين ، أي قليل الدم ، فيأتي أيضاً السكوت والإحكام ؛ وإذا راجعت معاني هذه المادة وهي قنت وقتن وتقن ونتق من كتب اللغة ازددت بصيرة في هذا ، وإذا علم ذلك علم أن الآية منطبقة على الحديث محتملة لجميع أقوال العلماء رضي الله تعالى عنهم ، وذلك أن الصلاة إذا أخلصت لم يكن فيها قول ولا فعل ليس منها وذلك محض الطاعة والخشوع.
وقال الحرالي : القنوت الثبات على أمر الخير وفعله ، وذلك أن فعل الخير والبر يسير على الأكثر ولكن الثبات والدوام عسير عليهم ، وكان من القنوت مداومة الحق فيما جاء به في الصلاة حتى لا يقع التفات للخلق ، فلذلك لزم الصمت عن الخلق من معناه ، لأن كلام الناس قطع لدوام المناجاة ، ففي إشعاره أن من قام لله سبحانه وتعالى قانتاً في صلاته أقام الله سبحانه وتعالى في دنياه حاله في إقامته ومع أهله ، كما يشير إليه معنى آية {وأمر أهلك بالصلاة واصطبر عليها لا نسئلك رزقاً نحن نرزقك} [ طه : 32 ] ففيه إيذان بأن الصلاة تصلح الحال مع الأهل وتستدر البركة في الرزق - انتهى.
(7/209)
وحديث زيد هذا صريح في أن الصلاة في أول الأمر لم تكن على الحدود التي صارت إليها آخراً ؛ فيحتمل أن الفعل كان مباحاً فيها كما كان الكلام ، ويؤيده أن الأصل في الأشياء الإباحة حتى يأتي نص بالمنع ، وبهذا يزول ما في حديث ذي اليدين من الإشكال من أنه يقتضي إباحة القول والفعل للمصلي إذا ظن أنه أكمل الصلاة أو نسي أنه فيها ، " لأن النبي صلى الله عليه وسلم صلى إحدى صلاتي العشي فسلم من ركعتين ثم قام إلى خشبة في ناحية المسجد فاتكأ عليها وخرج سرعان الناس ، فلما أعلمه ذو اليدين بالحال سأل الناس فصدقوه ، فرجع فأكمل الصلاة " فإن الحديث غير مؤرخ فيحتمل أنه كان قبل تحريم الأفعال والأقوال بهذه الآية.
ويؤيد احتمال إباحة الأفعال أولاً اتباع الآية بقوله تعالى : {فإن خفتم} أي بحال من أحوال الجهاد الذي تقدم أنه {كتب عليكم} أو نحو ذلك من عدو أو سبع أو غريم يجوز الهرب منه أو غير ذلك {فرجالاً} أي قائمين على الأرجل. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 452 ـ 455}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين} ففيه وجوه أحدها : وهو قول ابن عباس أن القنوت هو الدعاء والذكر ، واحتج عليه بوجهين الأول : أن قوله : {حافظوا عَلَى الصلوات} أمر بما في الصلاة من الفعل ، فوجب أن يحمل القنوت على كل ما في الصلاة من الذكر ، فمعنى الآية : وقوموا لله ذاكرين داعين منقطعين إليه والثاني : أن المفهوم من القنوت هو الذكر والدعاء ، بدليل قوله تعالى : {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ ءَانَاء اليل ساجدا وَقَائِماً} [ الزمر : 9 ] وهو المعني بالقنوت في صلاة الصبح والوتر ، وهو المفهوم من قولهم : قنت على فلان لأن المراد به الدعاء عليه.
(7/210)
والقول الثاني : {قانتين} أي مطيعين ، وهو قول ابن عباس والحسن والشعبي وسعيد بن جبير وطاوس وقتادة والضحاك ومقاتل ، الدليل عليه وجهان الأول : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " كل قنوت في القرآن فهو الطاعة " الثاني : قوله تعالى في أزواج الرسول صلى الله عليه وسلم : {وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ} [ النساء : 34 ] وقال في كل النساء : {فالصالحات قانتات} [ النساء : 34 ] فالقنوت عبارة عن إكمال الطاعة وإتمامها ، والاحتراز عن إيقاع الخلل في أركانها وسننها وآدابها ، وهو زجر لمن لم يبال كيف صلى فخفف واقتصر على ما يجزىء وذهب إلى أنه لا حاجة لله إلى صلاة العباد ، ولو كان كما قال لوجب أن لا يصلي رأساً ، لأنه يقال : كما لا يحتاج إلى الكثير من عبادتنا ، فكذلك لا يحتاج إلى القليل وقد صلى الرسول صلى الله عليه وسلم والرسل والسلف الصالح فأطالوا وأظهروا الخشوع والاستكانة وكانوا أعلم بالله من هؤلاء الجهال.
القول الثالث : {قانتين} ساكتين ، وهو قول ابن مسعود وزيد بن أرقم : كنا نتكلم في الصلاة فيسلم الرجل فيردون عليه ، ويسألهم : كم صليتم ؟ كفعل أهل الكتاب ، فنزل الله تعالى : {وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين} فأمرنا بالسكوت ونهينا عن الكلام.
القول الرابع : وهو قول مجاهد : القنوت عبارة عن الخشوع ، وخفض الجناح وسكون الأطراف وترك الالتفات من هيبة الله تعالى وكان أحدهم إذا قام إلى الصلاة يهاب ربه فلا يلتفت ولا يقلب الحصى ، ولا يعبث بشيء من جسده ، ولا يحدث نفسه بشيء من الدنيا حتى ينصرف.
(7/211)
القول الخامس : القنوت هو القيام ، واحتجوا عليه بحديث جابر قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم : " أي الصلاة أفضل ؟ قال طول القنوت " يريد طول القيام ، وهذا القول عندي ضعيف ، وإلا صار تقدير الآية : وقوموا لله قائمين اللهم إلا أن يقال : وقوموا لله مديمين لذلك القيام فحينئذٍ يصير القنوت مفسراً بالإدامة لا بالقيام.
القول السادس : وهو اختيار علي بن عيسى : أن القنوت عبارة عن الدوام على الشيء والصبر عليه والملازمة له وهو في الشريعة صار مختصاً بالمداومة على طاعة الله تعالى ، والمواظبة على خدمة الله تعالى ، وعلى هذا التقدير يدخل فيه جميع ما قاله المفسرون ، ويحتمل أن يكون المراد : وقوموا لله مديمين على ذلك القيام في أوقات وجوبه واستحبابه والله تعالى أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 130 ـ 131}
قال ابن العربى :
قَوْله تَعَالَى : {قَانِتِينَ} وَالصَّحِيحُ رِوَايَةُ زَيْدِ بْنِ أَرْقَمَ ؛ لِأَنَّهَا نَصٌّ ثَابِتٌ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَا يُلْتَفَتُ إلَى مُحْتَمَلٍ سِوَاهَا. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 302}
لطيفة
قال القشيرى :
المحافظة على الصلاة أن يدخلها بالهيبة ، ويخرج بالتعظيم ، ويستديم بدوام الشهود بنعت الأدب ، والصلاة الواسطى أيهم ذكرها على البيت لتراعي الجميع اعتقاداً منك لكل واحدة أنها هي لئلا يقع منك تقصير في شيء منها. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 187}
فائدة
قال ابن العربى :
قَالَ بَعْضُ عُلَمَائِنَا : فِي هَذِهِ الْآيَةِ فَائِدَةٌ ؛ وَهِيَ الرَّدُّ عَلَى أَبِي حَنِيفَةَ فِي قَوْلِهِ : إنَّ الْوِتْرَ وَاجِبٌ ؛ لِأَنَّ الْوَسَطَ إنَّمَا يُعَدُّ فِي عَدَدٍ وِتْرٍ ؛ لِيَكُونَ الْوَسَطُ شَفْعًا يُحِيطُ بِهِ مِنْ جَانِبَيْهِ ؛ وَإِذَا عُدَّتْ الصَّلَوَاتُ الْوَاجِبَاتُ سِتًّا لَمْ تَكُنْ الْوَاحِدَةُ وَسَطًا ؛ لِأَنَّهَا بَيْنَ صَلَاتَيْنِ مِنْ جِهَةٍ ، وَبَيْنَ ثَلَاثِ صَلَوَاتٍ مِنْ أُخْرَى ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْوَسَطَ مُعْتَبَرٌ بِالْعَدَدِ أَوْ بِالْوَقْتِ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا أَنَّ ذَلِكَ مُحْتَمَلٌ لَا يَدُلُّ عَلَى تَعْيِينِهِ دَلِيلٌ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 301}(7/212)
وقال الثعلبى :
وفي قوله عزّ وجلّ {والصلاة الوسطى} دليل على أن الوتر ليس بواجب وذلك أن المسلمين اتفقوا على أن الصلوات المفروضات تنقص عن سبعة وتزيد على ثلاثة ،
وليس من الثلاثة والسبعة فرد إلاّ خمسة ،
والأزواج لا وسطى لها ،
فثبت أنها خمسة.
قتادة عن أنس قال : قال رجل : يا رسول الله ،
كم افترض الله على عباده الصلوات ؟
قال : خمس صلوات ،
قال : فهل قبلهنّ وبعدهنّ شيء افترض الله على عباده قال : لا ،
فحلف الرجل بالله لا يزيد عليهنّ ولا ينقص ،
فقال النبي {صلى الله عليه وسلم} "إن صدق الرجل دخل الجنة".
وعن طلحة بن عبيد الله قال : جاء رجل إلى رسول الله {صلى الله عليه وسلم} من أهل نجد ثائر الرأس ،
يسمع دوي صوته ولا يفهم ما يقول ،
حتى دنا فإذا هو يسأل عن الإسلام ،
فقال له رسول الله {صلى الله عليه وسلم} "خمس صلوات في اليوم والليلة" قال : هل عليّ غيرهنّ ؟
قال : "لا إلاّ أن تتطوع" قال {صلى الله عليه وسلم} "وصيام شهر رمضان" قال : هل عليّ غيره ؟
قال : "لا ،
إلاّ أن تتطوع" وذكر له عليه الصلاة والسلام الزكاة ،
قال : هل عليّ غيرها ؟
قال : "لا ،
إلاّ أن تتطوع" فأدبر الرجل وهو يقول : والله لا أزيد على هذا ولا أنقص منه ،
قال رسول الله {صلى الله عليه وسلم} "أفلح إن صدق".
عن محمد بن يحيى بن حيان عن ابن جرير أن رجلا من بني كنانة يدعى المحدجي كان يسمع رجلا بالشام يكنى أبا محمد يقول : الوتر واجب ،
قال المحدجي : فرحت إلى عبادة بن الصامت واعترضت له وهو رايح إلى المسجد فأخبرته بالذي قال أبو محمد ،
فقال عبادة : كذب أبو محمد ،
سمعت رسول الله {صلى الله عليه وسلم} يقول : "خمس صلوات كتبهنّ الله على العباد ،
من جاء بهنّ لم يضيّع منهنّ استخفافاً بحقهنّ كان له عند الله عهد أن يدخله الجنة ،
ومن لم يأت بهنّ فليس له عند الله عهد إن شاء عذّبه الله وإن شاء أدخله الجنة".
(7/213)
وعن عاصم بن ضمرة عن علي بن أبي طالب (رضي الله عنه) قال : ليس الوتر بحتم لأنه لا تكبير به ولكنه سنّة سنّها رسول الله {صلى الله عليه وسلم} ،
والدليل على أنّ الوتر ليس بواجب ما روى نافع عن ابن عمر أن النبي {صلى الله عليه وسلم} كان يوتر على راحلته ،
وعن نافع أيضاً أن ابن عمر كان يوتر على بعيره ،
ويذكر أن النبي {صلى الله عليه وسلم} كان يفعل ذلك ،
وأجمع الفقهاء على أن الصلاة المكتوبة على الراحلة في حال الأمن لا تجوز. أ هـ {الكشف والبيان حـ 2 صـ 198 ـ 199}(7/214)
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {حَافِظُواْ عَلَى الصلوات...}.
إن قلت : ما وجه مناسبتها مع أن ما قبلها في شأن الزوجات ؟
قلنا : الجواب عنه بأمرين : إما بأنّه تنبيه الأزواج أن لا يشتغلوا بأمور زوجاتهم عن الصلوات ، وإما بأن بعضهم كان لا يراعي ( المناسبة ولا يشتغل ) بها.
قال ابن عرفة : إنما قال " حَافِظُوا " ولم يقل : احفظوا ، إشارة إلى تأكدها ( وتكرر ) الأمر بها من وجهين :
أحدهما : أن " حَافِظُوا " مفاعلة لا تكون إلاّ من اثنين مثل : قاتلت زيدا ، ووقوعها هنا من الجانبين مستحيل ، فيتعين صرف ذلك إلى تكرر ( الأمر ) بوقوعه وتأكده.
الثاني : إنّ لفظه يقتضي الاستيلاء والإحاطة فهو إشارة إلى تعميم الإحاطة بالصلوات دون ترك شيء ( منها ) وتخصيص الصّلاة الوسطى منها بالذكر : إما لورودها على النّاس في زمن شغلهم أو في زمن راحتهم ونومهم أو لكونهم من بقية الصلوات التي كانت مفروضة على الأمم المتقدمة وهو من عطف الخاص على العام.
قوله تعالى : {وَقُومُواْ لِلَّهِ قَانِتِينَ}.
فسره ابن عطية بالقيام الحسي حقيقة قال : ومعناه في صلاتهم فسره بعضهم بالقيام المعنوي وهو الجد في الطلب والطاعة فيتناول ركوع الصلوات وسجودها مثل : " قمت بالأمر ". أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 311}(7/215)
قوله تعالى : {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)}
قال البقاعى :
{فإن خفتم} أي بحال من أحوال الجهاد الذي تقدم أنه {كتب عليكم} أو نحو ذلك من عدو أو سبع أو غريم يجوز الهرب منه أو غير ذلك {فرجالاً} أي قائمين على الأرجل ، وهو جمع راجل من حيث إنه أقرب إلى صورة الصلاة.
قال البغوي : أي إن لم يمكنكم أن تصلوا قانتين موفين للصلاة حقها لخوف فصلوا مشاة على أرجلكم {أو ركباناً} أي كائنين على ظهور الدواب على هيئة التمكن.
وقال الحرالي : ما من حكم شرعه الله في السعة إلا وأثبته في الضيق والضرورة بحيث لا يفوت في ضيقه بركة من حال سعته ليعلم أن فضل الله لا ينقصه وقت ولا يفقده حال ، وفيه إشعار بأن المحافظة على الصلاة في التحقيق ليس إلا في إقبال القلب بالكلية على الرب ، فما اتسع له الحال ما وراء ذلك فعل وإلا اكتفى بحقيقتها ، ولذلك انتهت الصلاة عند العلماء في شدة الخوف إلى تكبيرة واحدة يجتمع إليها وحدها بركة أربع الركعات التي تقع في السعة ، وفيها على حالها من البركة في اتساع الرزق وصلاح الأهل ما في الواقعة في السعة مع معالجة النصرة لعزيمة إقامتها على الإمكان في المخافة ، وقد وضح باختلاف أحوال صلاة الخوف أن حقيقتها أنها لا صورة لها ، فقد صح فيها عن النبي صلى الله عليه وسلم أربع عشرة صورة وزيادة صور في الأحاديث الحسان - انتهى.
وروى البخاري في التفسير عن عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما كيفية في صلاة الخوف ثم قال : فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالاً قياماً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها.
(7/216)
قال مالك : قال نافع : لا أرى عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنهما ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم - يعني لأن مثل ذلك لا يقال من قبل الرأي {فإذا أمنتم} أي حصل لكم الأمن مما كان أخافكم.
ولما كان المراد الأعظم من الصلاة الذكر وهو دوام حضور القلب قال مشيراً إلى أن صلاة الخوف يصعب فيها ذلك منبهاً بالاسم الأعظم على ما يؤكد الحضور في الصلاة وغيرها من كل ما يسمى ذكراً {فاذكروا الله} أي الذي له الأمر كله.
قال البغوي : أي فصلوا الصلوات الخمس تامة بحقوقها.
وقال الحرالي : أظهر المقصد في عمل الصلاة وأنه إنما هو الذكر الذي هو قيام الأمن والخوف - انتهى : فكأنه سبحانه وتعالى لما منع مما ليس من الصلاة من الأقوال والأفعال استثنى الأفعال حال الخوف فأبقيت على الأصل لكن قد روى الشافعي رضي الله تعالى عنه وصرحه في كتاب اختلاف الحديث من الأم وأبو داود والنسائي من طريق عاصم بن أبي النجود عن أبي وائل عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال : كنا نسلم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في الصلاة - الحديث في أنه لما رجع من الحبشة قال له النبي صلى الله عليه وسلم : " إن الله يحدث من أمره ما شاء وإن مما أحدث أن لا تتكلموا في الصلاة " وحكم بأنه قيل حديث ذي اليدين لما في بعض طرقه مما يقتضي أن رجوعه كان قبل هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة وهو كذلك ، لكن عاصم له أوهام في الحديث وإن كان حجة في القراءة فلا يقوى حديثه لمعارضة ما في الصحيحين من حديث زيد الماضي المغيا بنزول الآية.
(7/217)
ولما أمر سبحانه وتعالى بالذكر عند الأمن علله بقوله : {كما علمكم} أي لأجل إنعامه عليكم بأن خلق فيكم العلم المنقذ من الجهل ، فتكون الكاف للتعليل وقد جوزه أبو حيان في النهر ونقله في موضع آخر منه عن النحاة - والله سبحانه وتعالى أعلم {ما لم تكونوا تعلمون} بما آتاكم على لسان هذا النبي الكريم من الأحكام التي تقدمت في هذه السورة المفصلة ببدائع الأسرار من الأصول ودقائق العلوم كلها.
وقال الحرالي : من أحكام هيئة الصلاة في الأعضاء والبدن وحالها في النفس من الخشوع والإخبات والتخلي من الوسواس وحالها في القلب من التعظيم والحرمة ، وفي إشارته ما وراء ظاهر العلم من أسرار القلوب التي اختصت بها أئمة هذه الأمة - انتهى.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 454 ـ 458} باختصار يسير.
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما أوجب المحافظة على الصلوات والقيام على أدائها بأركانها وشروطها ، بين من بعد أن هذه المحافظة على هذا الحد لا تجب إلا مع الأمن دون الخوف ، فقال : {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 131}
وقال القرطبى :
لمّا أمر الله تعالى بالقيام له في الصلاة بحال قُنوت وهو الوَقار والسّكينة وهدوء الجوارح وهذا على الحالة الغالبة من الأمن والطُّمَأنينة ذكر حالة الخوف الطارئة أحياناً ، وبيّن أن هذه العبادةَ لا تسقط عن العبد في حال ، ورخّص لعبيده في الصلاة رجالاً على الأقدام ورُكباناً على الخيل والإبل ونحوها ، إيماءً وإشارة بالرأس حيثما توجّه ؛ هذا قول العلماء ، وهذه هي صلاة الفَذّ الذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حال المُسَايفة أو من سَبُع يطلبه أو من عدوّ يتبعه أو سَيْل يحمله ، وبالجملة فكل أمر يخاف منه على روحه فهو مبيح ما تضمّنته هذه الآية. أ هـ
ثم قال رحمه الله :
(7/218)
هذه الرخصة في ضمنها إجماع العلماء أن يكون الإنسان حيثما توجّه من السُّموت ويتقلّب ويتصرّف بحسب نظره في نجاة نفسه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 223}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى {وقوموا لله قانتين}
تفريع على قوله : {وقوموا لله قانتين} [ البقرة : 238 ] للتنبيه على أن حالة الخوف لا تكون عذراً في ترك المحافظة على الصلوات ، ولكنها عذر في ترك القيام لله قانتين ، فأفاد هذا التفريع غرضين : أحدهما بصريح لفظه ، والآخر بلازم معناه.
والخوف هنا خوف العدو ، وبذلك سميت صلاة الخوف ، والعرب تسمي الحرب بأسماء الخوف فيقولون الرَّوْع ويقولون الفَزَع ، قال عمرو بن كلثوم :
وتحملنا غداة الروع جرد
البيت.
وقال سبرة بن عمر الفقعسي :
ونسوتكم في الروع باد وجوهها
يُخَلْنَ إماءً والإماء حرائر...
وفي الحديث : " إنكم لتكثرون عند الفزع وتقلون عند الطمع " ولا يعرف إطلاق الخوف على الحرب قبل القرآن قال تعالى : {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع} [ البقرة : 155 ].
والمعنى : فإن حاربتم أو كنتم في حرب ، ومنه سمى الفقهاء صلاة الخوف الصلاة التي يؤديها المسلمون وهم يصافون العدو في ساحة الحرب وإيثار كلمة الخوف في هذه الآية لتشمل خوف العدو وخوف السباع وقطاع الطريق ، وغيرها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 469 ـ 470}
فصل
قال الواحدي رحمه الله معنى الآية : فإن خفتم عدواً فحذف المفعول لإحاطة العلم به ، قال صاحب الكشاف : فإن كان بكم خوف من عدو أو غيره ، وهذا القول أصح لأن هذا الحكم ثابت عند حصول الخوف ، سواء كان الخوف من العدو أو من غيره ، وفيه قول ثالث وهو أن المعنى : فإن خفتم فوات الوقت إن أخرتم الصلاة إلى أن تفرغوا من حربكم فصلوا رجالاً أو ركباناً ، وعلى هذا التقدير الآية تدل على تأكيد فرض الوقت حتى يترخص لأجل المحافظة عليه بترك القيام والركوع والسجود. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 131}
فائدة لغوية
قال الفخر : (7/219)
في الرجال قولان أحدهما : رجالاً جمع راجل مثل تجار وتاجر وصحاب وصاحب والراجل هو الكائن على رجله ماشياً كان أو وافقاً ويقال في جمع راجل : رجل ورجالة ورجالة ورجال ورجال.
والقول الثاني : ما ذكره القفال ، وهو أنه يجوز أن يكون جمع الجمع ، لأن راجلاً يجمع على راجل ، ثم يجمع رجل على رجال ، والركبان جمع راكب ، مثل فرسان وفارس ، قال القفال : ويقال إنه إنما يقال راكب لمن كان على جمل ، فأما من كان على فرس فإنما يقال له فارس ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 131}
فصل
قال الفخر :
صلاة الخوف قسمان
أحدهما : أن تكون في حال القتال وهو المراد بهذه الآية والثاني : في غير حال القتال وهو المذكور في سورة النساء في قوله تعالى : {وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مّنْهُمْ مَّعَكَ} [ النساء : 102 ] وفي سياق الآيتين بيان اختلاف القولين.
إذا عرفت هذا فنقول : إذا التحم القتال ولم يمكن ترك القتال لأحد ، فمذهب الشافعي رحمه الله أنهم يصلون ركباناً على دوابهم ومشاة على أقدامهم إلى القبلة وإلى غير القبلة يومئون بالركوع والسجود ، ويجعلون السجود أخفض من الركوع ويحترزون عن الصيحات لأنه لا ضرورة إليها وقال أبو حنيفة : لا يصلي الماشي بل يؤخر ، واحتج الشافعي رحمه الله بهذه الآية من وجهين الأول : قال ابن عمر : {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} يعني مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها قال نافع : لا أرى ابن عمر ذكر ذلك إلا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(7/220)
الوجه الثاني : وهو أن الخوف الذي تجوز معه الصلاة مع الترجل والمشي ومع الركوب والركض لا يمكن معه المحافظة على الاستقبال ، فصار قوله : {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} يدل على الترخص في ترك التوجه ، وأيضاً يدل على الترخص في ترك الركوع والسجود إلى الإيماء لأن مع الخوف الشديد من العدو لا يأمن الرجل على نفسه إن وقف في مكانه لا يتمكن من الركوع والسجود ، فصح بما ذكرنا دلالة رجالاً أو ركباناً على جواز ترك الاستقبال ، وعلى جواز الاكتفاء بالإيماء في الركوع والسجود.
إذا ثبت هذا فلنتكلم فيما يسقط عنه وفيما لا يسقط ، فنقول : لا شك أن الصلاة إنما تتم بمجموع أمور ثلاثة أحدها : فعل القلب وهو النية ، وذلك لا يسقط لأنه لا يتبدل حال الخوف بسبب ذلك والثاني : فعل اللسان وهي القراءة ، وهي لا تسقط عند الخوف ، ولا يجوز له أيضاً أن يتكلم حال الصلاة بكلام أجنبي ، أو يأتي بصيحات لا ضرورة إليها والثالث : أعمال الجوارح فنقول : أما القيام والقعود فساقطان عنه لا محالة وأما الاستقبال فساقط على ما بيناه ، وأما الركوع والسجود فالإيماء قائم مقامهما ، فيجب أن يجعل الإيماء النائب عن السجود أخفض من الإيماء النائب عن الركوع ، لأن هذا القدر ممكن ، وأما ترك الطهارة فغير جائز لأجل الخوف ، فإنه يمكنه التطهير بالماء أو التراب ، إنما الخلاف في أنه إذا وجد الماء وامتنع عليه التوضي به هل يجوز له أن يتيمم بالغبار الذي يتمكن منه حال ركوبه ، والأصح أنه يجوز ، لأنه إذا كان خوف العطش يرخص التيمم ، فالخوف على النفس أولى أن يرخص في ذلك ، فهذا تفصيل قول الشافعي رحمه الله وبالجملة فاعتماده في هذا الباب على قوله عليه الصلاة والسلام : "إذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم" واحتج أبو حنيفة بأنه عليه السلام أخر الصلاة يوم الخندق فوجب علينا ذلك أيضاً.
(7/221)
والجواب : أن يوم الخندق لم يبلغ الخوف هذا الحد ومع ذلك فإنه صلى الله عليه وسلم أخَّرَ الصلاة فعلمنا كون هذه الآية ناسخة لذلك الفعل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 131 ـ 132}
فصل في اختلافهم فى الخوف الذي يفيد هذه الرخصة
قال الفخر
اختلفوا في الخوف الذي يفيد هذه الرخصة وطريق الضبط أن نقول : الخوف إما أن يكون في القتال ، أو في غير القتال ، أما الخوف في القتال فإما أن يكون في قتال واجب ، أو مباح ، أو محظور ، أما القتال الواجب فهو كالقتال مع الكفار وهو الأصل في صلاة الخوف ، وفيه نزلت الآية ، ويلتحق به قتال أهل البغي ، قال تعالى : {فقاتلوا التى تَبْغِى حتى تَفِىء إلى أَمْرِ الله} [ الحجرات : 9 ] وأما القتال المباح فقد قال القاضي أبو المحاسن الطبري في كتاب شرح المختصر : أن دفع الإنسان عن نفسه مباح غير واجب بخلاف ما إذا قصد الكافر نفسه ، فإنه يجب الدفع لئلا يكون إخلالاً بحق الإسلام.
إذا عرفت هذا فنقول : أما القتال في الدفع عن النفس وفي الدفع عن كل حيوان محترم ، فإنه يجوز فيه صلاة الخوف ، أما قصد أخذ ماله ، أو إتلاف حاله ، فهل له أن يصلي صلاة شدة الخوف ، فيه قولان : الأصح أن يجوز ، واحتج الشافعي بقوله عليه السلام : " من قتل دون ماله فهو شهيد " فدل هذا على أن الدفع عن المال كالدفع عن النفس والثاني : لا يجوز لأن حرمة الزوج أعظم ، أما القتال المحظور فإنه لا تجوز فيه صلاة الخوف ، لأن هذا رخصة والرخصة إعانة والعاصي لا يستحق الإعانة ، أما الخوف الحاصل لا في القتال ، كالهارب من الحرق والغرق والسبع وكذا المطالب بالدين إذا كان معسراً خائفاً من الحبس ، عاجزاً عن بينة الإعسار ، فلهم أن يصلوا هذه الصلاة ، لأن قوله تعالى : {فَإِنْ خِفْتُمْ} مطلق يتناول الكل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 132}
فائدة
قال القرطبى :
(7/222)
فرّق مالك بين خوف العدوّ المقاتل وبين خوف السبع ونحوه من جمل صائل أو سَيْل أو ما الأغلب من شأنه الهلاك ، فإنه استحب من غير خوف العدوّ الإعادةَ في الوقت إن وقع الأمن. وأكثر فقهاء الأمصار على أن الأمر سواء. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 224}
سؤال : فإن قيل : قوله : {فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَانًا} يدل على أن المراد منه الخوف من العدو حال المقاتلة.
قلنا : هب أنه كذلك إلا أنه لما ثبت هناك دفعاً للضرر ، وهذا المعنى قائم ههنا ، فوجب أن يكون ذلك الحكم مشروعاً والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 132}
فائدة لغوية
قال أبو حيان :
و : رجالاً ، منصوب على الحال ، والعامل محذوف ، قالوا تقديره : فصلوا رجالاً ، ويحسن أن يقدر من لفظ الأول ، أي : فحافظوا عليها رجالاً ، ورجالاً جمع راجل ، كقائم وقيام ، قال تعالى : {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً} وقال الشاعر :
وبنو غدانة شاخص أبصارهم... يمشون تحت بطونهنّ رجالاً
والمعنى : ماشين على الأقدام ، يقال منه : رجل يرجل رجلاً ، إذا عدم المركوب ، ومشى على قدميه ، فهو راجل ورجل ورجل ، على وزن رجل مقابل امرأة. وهي لغة أهل الحجاز ، يقولون : مشى فلان إلى بيت الله حافياً رجلاً ، ويقال رجلان ورجيل ورجل ، قال الشاعر :
عليّ إذا لاقيتُ ليلى بخلوة... أن ازدار بيت الله رجلان حافياً
قالوا : ويجمع على : رجال ورجيل ورُجالي ورجالى ورجالة ورجلان ورَجلة ورجلة بفتح الجيم وأرجلة وأراجل وأراجيل ؛ قرأ عكرمة ، وأبو مجلز : فرُجَّالاً ، بضم الراء وتشديد الجيم ، وروي عن عكرمة التخفيف مع ضم الراء ، وقرىء : فرجلاً ، بضم الراء وفتح الجيم مشدودة بغير ألف ؛ وقرىء : فرجلا ، بفتح الراء وسكون الجيم.(7/223)
وقرأ بديل بن ميسرة : فرجالاً فركباناً بالفاء ، وهو جمع راكب. قال الفضل : لا يقال راكب إلاَّ لصاحب الجمل ، وأما صاحب الفرس فيقال له فارس ، ولراكب الحمار حمَّار ، ولراكب البغل بغَّال ، وقيل : الأفصح أن يقال : صاحب بغل ، وصاحب حمار.
وظاهر قوله : {فإن خفتم} حصول مطلق الخوف ، وأنه بمطلق الخوف تباح الصلاة في هاتين الحالتين.
وقالوا : هي صلاة الغداة للذي قد ضايقه الخوف على نفسه في حالة المسايفة أو ما يشبهه ، وأما صلاة الخوف بالإمام ، وانقسام الناس فليس حكمها في هذه الآية.
وقيل : فرجالاً ، مشاة بالجماعة لأنهم يمشون إلى العدو في صلاة الخوف ، أو ركباناً أي : وجداناً بالإيماء.
وظاهر قوله : فرجالاً ، أنهم يوقعون الصلاة وهم ماشون ، فيصلون على كل حال ، والركب يومىء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة ، وهو قول الشافعي ؛ وقال أبو حنيفة : لا يصلون في حال المشي والمسايفة ما لم يمكن الوقوف. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 252}
فصل
قال القرطبى :
لا نقصان في عدد الركعات في الخوف عن صلاة المسافر عند مالك والشافعيّ وجماعة من العلماء ، وقال الحسن بن أبي الحسن وقتادة وغيرهما : : يصلّي ركعة إيماء ؛ روى مسلم عن بُكير بن الأخْنَس عن مجاهد عن ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحَضَر أربعاً وفي السفر ركعتين وفي الخوف ركعة. قال ابن عبد البَرّ : انفرد به بُكير بن الأخْنَس وليس بحجة فيما ينفرد به ، والصلاة أوْلى ما احتيط فيه ، ومن صلّى ركعتين في خوفه وسفره خرج من الاختلاف إلى اليقين. وقال الضحاك بن مزاحم : يصلّي صاحب خوف الموت في المُسَايفة وغيرها ركعة فإن لم يقدر فليكبّر تكبيرتين. وقال إسحاق بن رَاهْوَيْه : فإن لم يقدر إلا على تكبيرة واحدة أجزأت عنه ؛ ذكره ابن المنذر. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 224}
قوله تعالى : {فَإِذَا أَمِنتُمْ}
قال أبو حيان : (7/224)
{فإذا أمنتم} قال مجاهد أي : خرجتم من السفر إلى دار الإقامة ، ورده الطبري ، قيل : ولا ينبغي رده لأنه شرح الأمن بمحل الأمن لأن الإنسان إذا رجع من سفره وحل دار اقامته أمن ، فكان السفر مظنة الخوف ، كما أن دار الإقامة محل الأمن. وقيل : معنى فإذا أمنتم أي : زال خوفكم الذي ألجاكم إلى هذه الصلاة. وقيل : فإذا كنتم آمنين ، أي : متى كنتم على أمن قبل أو بعد..
أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 253}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {فَإِذَا أَمِنتُمْ} فالمعنى بزوال الخوف الذي هو سبب الرخصة {فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم} وفيه قولان الأول : فاذكروا بمعنى فافعلوا الصلاة كما علمكم بقوله : {حافظوا عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ لِلَّهِ قانتين} [ البقرة : 238 ] وكما بينه بشروطه وأركانه ، لأن سبب الرخصة إذا زال عاد الوجوب فيه كما كان من قبل ، والصلاة قد تسمى ذكراً لقوله تعالى : {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} [ الجمعة : 9 ].
والقول الثاني : {فاذكروا الله} أي فاشكروه لأجل إنعامه عليكم بالأمن ، طعن القاضي في هذا القول وقال : إن هذا الذكر لما كان معلقاً بشرط مخصوص ، وهو حصول الأمن بعد الخوف لم يكن حمله على ذكر يلزم مع الخوف والأمن جميعاً على حد واحد ، ومعلوم أن مع الخوف يلزم الشكر ، كما يلزم مع الأمن ، لأن في كلا الحالين نعمة الله تعالى متصلة ، والخوف ههنا من جهة الكفار لا من جهته تعالى ، فالواجب حمل قوله تعالى : {فاذكروا الله} على ذكر يختص بهذه الحالة.
والقول الثالث : أنه دخل تحت قوله : {فاذكروا الله} الصلاة والشكر جميعاً ، لأن الأمن بسبب الشكر محدد يلزم فعله مع فعل الصلاة في أوقاتها.
(7/225)
أما قوله تعالى : {كَمَا عَلَّمَكُم} فبيان إنعامه علينا بالتعليم والتعريف ، وأن ذلك من نعمه تعالى ، ولولا هدايته لم نصل إلى ذلك ، ثم إن إصحابنا فسروا هذا التعليم بخلق العلم والمعتزلة فسروه بوضع الدلائل ، وفعل الألطاف ، وقوله تعالى : {مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} إشارة إلى ما قبل بعثة محمد صلى الله عليه وسلم من زمان الجهالة والضلالة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 133}
فائدة
قال أبو حيان :
وقال أبو حيان
{فاذكروا الله} بالشكر والعبادة {كما علمكم} أي : أحسن إليكم بتعليمكم ما كنتم جاهليه من أمر الشرائع ، وكيف تصلون في حال الخوف وحال الأمَن.
و : ما ، مصدرية ، و: الكاف ، للتشبيه.
أمر أن يذكروا الله تعالى ذكراً يعادل ويوازي نعمة ما علمهم ، بحيث يجتهد الذاكر في تشبيه ذكره بالنعمة في القدر والكفاءة ، وإن لم يقدر على بلوغ ذلك.
ومعنى : كما علمكم ، كما أنعم عليكم فعلمكم ، فعبر بالمسبب عن السبب ، لأن التعليم ناشىء عن إنعام الله على العبد وإحسانه له.
وقد تكون الكاف للتعليل ، أي : فاذكروا الله لأجل تعليمه إياكم أي : يكون الحامل لكم على ذكره وشكره وعبادته تعليمه إياكم ، لأنه لا منحة أعظم من منحة العلم.
{ما لم تكونوا تعلمون} ما : مفعول ثان لعلمكم ، وفيه الامتنان بالتعليم على العبد ، وفي قوله : {ما لم تكونوا تعلمون} إفهام أنكم علمتم شيئاً لم تكونوا لتصلوا لإدراكه بعقولكم لولا أنه تعالى علمكموه ، أي : أنكم لو تركتم دون تعليم لم تكونوا لتعلموه أبدا.
وحكى النقاش وغيره أن معنى : {فاذكروا الله} أي صلوا الصلاة التي قد علمتموها ، أي : صلاة تامة بجميع شروطها وأركانها وتكون : ما ، في : {كما علمكم} موصولة أي : فصلوا الصلاة كالصلاة التي علمكم ، وعبر بالذكر عن الصلاة والكاف إذ ذاك للتشبيه بين هيئتي الصلاتين : الصلاة التي كانت أولاً قبل الخوف ، والصلاة التي كانت بعد الخوف في حالة الأمن.
(7/226)
قال ابن عطية : وعلى هذا التأويل : {ما لم تكونوا} بدل من : ما ، التي في قوله : كما ، وإلاَّ لم يتسق لفظ الآية. انتهى. وهو تخريج يمكن ، وأحسن منه أن يكون بدلاً من الضمير المحذوف في علمكم العائد على ما ، إذ التقدير علمكموه ، أي : علمكم ما لم تكونوا تعلمون.
وقد أجاز النحويون : جاءني الذي ضربت أخاك ، أي ضربته أخاك ، على البدل من الضمير المحذوف. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 253}
لطيفة
قال ابن عاشور :
وجاء في الأمن بإذا وفي الخوف بإن بشارة للمسلمين بأنهم سيكون لهم النصر والأمن. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 470}
فصل
قال القرطبى :
اختلف العلماء من هذا الباب في بناء الخائف إذا أمِن ؛ فقال مالك : إن صلّى ركعة آمنا ثم خاف ركب وبَنَى ، وكذلك إن صلّى ركعة راكباً وهو خائف ثم أمِن نزل وبَنَى ؛ وهو أحد قولي الشافعيّ ، وبه قال المزنِيّ. وقال أبو حنيفة : إذا افتتح الصلاة آمناً ثم خاف استقبل ولم يَبْن ، فإن صلّى خائفاً ثم أمِن بَنَى. وقال الشافعيّ : يَبْني النازلُ ولا يبني الراكب. وقال أبو يوسف : لا يبني في شيء من هذا كله. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 225}
وتدل هذه الآية على عظيم قدر الصلاة وتأكيد طلبها إذا لم تسقط بالخوف ، فلا تسقط بغيره من مرض وشغل ونحوه ، حتى المريض إذا لم يمكنه فعلها لزمه الإشارة بالعين عند أكثر العلماء ، وبهذا تميزت عن سائر العبادات لأنها كلها تسقط بالأعذار ويترخص فيها. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 252 ـ 253}
سؤال : فإن قيل : كيف الجمع بين هذه الآية ، وبين ما روى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه صلى يوم الخندق الظهر والعصر ، والمغرب والعشاء بعد ما غاب الشفق ؟
فالجواب : أن أبا سعيد روى أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى : {فان خفتم فرجالاً أو ركباناً} قال أبو بكر الأثرم : فقد بين الله أن ذلك الفعل الذي كان يوم الخندق منسوخ. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 285}
فائدة(7/227)
قال السعدى فى معنى الآية :
{فَإِنْ خِفْتُمْ} لم يذكر ما يخاف منه ليشمل الخوف من كافر وظالم وسبع ، وغير ذلك من أنواع المخاوف ، أي : إن خفتم بصلاتكم على تلك الصفة فصلوها {رِجَالا} أي : ماشين على أقدامكم ، {أَوْ رُكْبَانًا} على الخيل والإبل وغيرها ، ويلزم على ذلك أن يكونوا مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، وفي هذا زيادة التأكيد على المحافظة على وقتها حيث أمر بذلك ولو مع الإخلال بكثير من الأركان والشروط ، وأنه لا يجوز تأخيرها عن وقتها ولو في هذه الحالة الشديدة ، فصلاتها على تلك الصورة أحسن وأفضل بل أوجب من صلاتها مطمئنا خارج الوقت {فَإِذَا أَمِنْتُمْ} أي : زال الخوف عنكم {فَاذْكُرُوا اللَّهَ} وهذا يشمل جميع أنواع الذكر ومنه الصلاة على كمالها وتمامها {كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} فإنها نعمة عظيمة ومنة جسيمة ، تقتضي مقابلتها بالذكر والشكر ليبقي نعمته عليكم ويزيدكم عليها. أ هـ {تفسير السعدى صـ 106}
فصل
قال القرطبى :
قال علماؤنا رحمة الله عليهم :
(7/228)
الصلاة أصلها الدعاء ، وحالة الخوف أولى بالدعاء ؛ فلهذا لم تسقط الصلاة بالخوف ؛ فإذا لم تسقط الصلاة بالخوف فأحْرَى ألاّ تسقط بغيره من مرض أو نحوه ، فأمر الله سبحانه وتعالى بالمحافظة على الصلوات في كل حال من صحة أو مرض ، وحضر أو سفر ، وقدرة أو عجز وخوف أو أمن ، لا تسقط عن المكلَّف بحال ، ولا يتطرّق إلى فرضيتها اختلال. وسيأتي بيان حكم المريض في آخر "آل عمران" إن شاء الله تعالى. والمقصود من هذا أن تُفعل الصلاةُ كيفما أمكن ، ولا تسقط بحال حتى لو لم يتَّفق فعلها إلا بالإشارة بالعين لزم فعلها ، وبهذا تميَّزت عن سائر العبادات ، كلها تسقطُ بالأعذار ويترخص فيها بالرُّخَص. قال ابن العربيّ : ولهذا قال علماؤنا : وهي مسألة عظمى ، إن تارك الصلاة يقتل ؛ لأنها أشبهت الإيمان الذي لا يسقط بحال ، وقالوا فيها : إحدى دعائم الإسلام لا تجوز النيابة عنها ببدن ولا مال ، فيقتل تاركها ؛ أصله الشهادتان. وسيأتي ما للعلماء في تارك الصلاة في "براءة" إن شاء الله تعالى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 225}
كلام نفيس لابن العربى فى الآية الكريمة
قال رحمه الله :
قَوْله تَعَالَى : {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} أَمَرَ اللَّهُ سُبْحَانَهُ بِالْمُحَافَظَةِ عَلَى الصَّلَوَاتِ فِي كُلِّ حَالٍ مِنْ صِحَّةٍ وَمَرَضٍ ، وَحَضَرٍ وَسَفَرٍ ، وَقُدْرَةٍ وَعَجْزٍ ، وَخَوْفٍ وَأَمْنٍ ، لَا تَسْقُطُ عَنْ الْمُكَلَّفِ بِحَالٍ ، وَلَا يَتَطَرَّقُ إلَى فَرْضِيَّتِهَا اخْتِلَالٌ.
وَقَدْ قَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {صَلِّ قَائِمًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ}.(7/229)
وَقَالَ فِي الصَّحِيحِ مِنْ رِوَايَةِ ابْنِ عُمَرَ فِي حَالِ الْخَوْفِ : {فَإِنْ كَانَ خَوْفٌ أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ صَلُّوا قِيَامًا وَرُكْبَانًا مُسْتَقْبِلِي الْقِبْلَةِ وَغَيْرَ مُسْتَقْبِلِيهَا}.
{وَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ صَلَاةَ الْخَوْفَ مِرَارًا مُتَعَدِّدَةً بِصِفَاتٍ مُخْتَلِفَةٍ} ، وَقَدْ مَهَّدْنَاهَا فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ.
وَالْمَقْصُودُ مِنْ ذَلِكَ أَنْ تَفْعَلَ الصَّلَاةَ كَيْفَمَا أَمْكَنَ ، وَلَا تَسْقُطُ بِحَالٍ حَتَّى لَوْ لَمْ يَتَّفِقْ فِعْلُهَا إلَّا بِالْإِشَارَةِ بِالْعَيْنِ لَلَزِمَ فِعْلُهَا ؛ كَذَلِكَ إذَا لَمْ يَقْدِرْ عَلَى حَرَكَةِ سَائِرِ الْجَوَارِحِ ، وَبِهَذَا الْمَعْنَى تَمَيَّزَتْ عَنْ سَائِرِ الْعِبَادَاتِ ؛ فَإِنَّ الْعِبَادَاتِ كُلَّهَا تَسْقُطُ بِالْأَعْذَارِ ، وَيُتَرَخَّصُ فِيهَا بِالرُّخَصِ الضَّعِيفَةِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ عُلَمَاؤُنَا ، وَهِيَ مَسْأَلَةٌ عُظْمَى : إنَّ تَارِكَ الصَّلَاةِ يُقْتَلُ ؛ لِأَنَّهَا أَشْبَهَتْ الْإِيمَانَ الَّذِي لَا يَسْقُطُ بِحَالٍ.
وَقَالُوا فِيهَا : إحْدَى دَعَائِمِ الْإِسْلَامِ ، لَا تَجُوزُ النِّيَابَةُ فِيهَا بِبَدَنٍ وَلَا مَالٍ ، يُقْتَلُ تَارِكُهَا ، وَأَصْلُهُ الشَّهَادَتَانِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ : إنَّ الْقِتَالَ يُفْسِدُ الصَّلَاةَ ، وَقَدْ قَدَّمْنَا مِنْ طَرِيقِ ابْنِ عُمَرَ الرَّدَّ عَلَيْهِ ، وَظَاهِرُ الْآيَةِ أَقْوَى دَلِيلٍ عَلَيْهِ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 303}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً...}.(7/230)
قال ابن عرفة : الخوف أمر محقق لكونه شرطا في الرخصة والرخصة إنما تكون في الأمر المحقق الثابت لأنها مظنة المبادرة للعمل بمقتضاها لما فيها من التخفيف ، فلو لم يكن شرطها محققا لأدّى إلى التهاون بفعلها من غير استيفاء شروطها ، فحق هذا الشرط أن يكون بـ ( إذا ) الدالة على التحقيق كما كان الشرط وهو " فَإِذَآ أَمِنتُمْ " لكنه روعي في الشرطين شيء آخر وهو الحظ على تشجيع النفس بإحضار الطمأنينة والأمن من العدوّ وعدم الاهتبال به حتى كأن الخوف منه غير واقع في الوجود بوجه ، ولها عبر في آية الخوف بـ ( إن ) وفي آية الأمن بـ ( إذَا ).
وقال الزمخشري : وعند الإمام أبي حنيفة لا يصلون في حال المشي. وعند الإمام الشافعي رضي الله عنه يصلّون في كل حال والراكب يومىء ويسقط عنه التوجه إلى القبلة.
قال ابن عرفة : مذهب الإمام مالك والشافعي رضي الله عنهما في ذلك سواء وينوي بقلبه التوجّه إلى القبلة ( وهذا إذا خاف العدوّ وفوات الوقت المختار ) فإن رَجَا حصول الأمن فيه أخّر الصلاة و( وكذا ) الخائف من لصوص أو سباع لأنّ الفرع في هذا أقوى من أصله كما ( قالوا ) في الجدة للأم مع الجد للأب ، لأن الخائف من العدوّ لا يقضي والخائف من اللصوص أو السباع يقضي.
قوله تعالى : {فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله...}.
قال ابن عطية : قيل فإذا زال خوفكم الذي اضطرّكم إلى هذه الصلاة. وقيل : فإذا كنتم آمنين قبل أو بعد أي فمتى كنتم عل ( أمن ).
ورده ابن عرفة بأن الشرط هنا يقتضي أنه مستقبل لم يقع في الوجود لا أنه ماض. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 312}(7/231)
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
(7/232)
ولما كان ذكر أحكام عشرة النساء على هذا الوجه مظنة سؤال سائل كما تقدم يقول : قد استغرق الاشتغال بهن الزمان وأضر بالفراغ للعبادة وكان هذا السؤال إيماء إلى الاستئذان في الرهبانية والاختصاء الذي سأل فيه من سأل كما سيبين إن شاء الله سبحانه وتعالى في المائدة في قوله : {ولا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم} [ المائدة : 87 ] وكان الإعراض عن جواب السائل بالأمر بالمحافظة على الصلاة ربما أشعر بالإقرار على مضمون السؤال والإذن في الترهّب بقرينة الإعراض عن السؤال وربما كان مشيراً إلى النهي عن الترهب بقرينة السكوت على ما تقدم من الأمر بعشرتهن من غير نهي عنه عقب الأمر بذلك ببعض آيات النساء تأكيداً لما أفهمته تلك الإشارة أي اتركوا الترهب وكونوا رجالاً في الاقتداء بنبيكم صلى الله عليه وسلم في القيام بحقوق الله وحقوق نفسه وغيره من سائر العباد وجعل ما تعقب آية الصلاة من تعلق النكاح آيتين فقط أولاهما في حكم من أحكام الموت وهي منسوخة كما قال الأكثر ليست من دعائم أحكام هذا الباب إشارة إلى أنه ينبغي أن يكون الإقبال على العبادة أكثر وأن يكون الاشتغال بأمر النساء والأولاد إنما هو على وجه التزود للموت وما بعده فقال تعالى : {والذين} وقال الحرالي : لما ذكر سبحانه وتعالى أحكام الأزواج في الطلاق والوفاة وحكم الفرض والمتعة في المطلقات قبل الدخول ختم هذه الأحكام المؤكدة بالفرض والأمر بما هو من نحوها فنظم بالمتعة من النفقة والكسوة والإخدام وما في معناه المتعة بالسكنى للمتوفى عنها زوجها إلى حد ما كانت العدة في الجاهلية ليكون للخير والمعروف بقاء في الإسلام بوجه ما أيما عقد وعهد كان في الجاهلية فلن يزيده الإسلام إلا شدة - انتهى.
(7/233)
فقال تعالى : {يتوفون منكم} أي يقاربون أن يستوفي أرواحهم من أعارها أبدانهم فيخلصها منها كاملة لا يغادر منها شيئاً ولا يأخذ شيئاً من الجسم معها مع ما بينهما من كمال الامتزاج الذي لا يقدر معه على تمييز أحدهما عن الآخر إلا هو سبحانه وتعالى {ويذرون أزواجاً} بعد موتهم ، فليوصوا {وصية} ومن رفع فالتقدير عندهم : فعليهم وصية ، ويجوز أن تحمل الوفاة على حقيقتها ويكون التقدير : وصية من الله لأزواجهم ، أو يوصيكم الله وصية {لأزواجهم} بالسكنى في بيوتهم {متاعاً} لهن {إلى} رأس {الحول} من حين الوفاة.
قال الحرالي : وهو غاية العمر وجامع لجملة الفصول التي بوفائها تظهر أحوال الصبر عن الشيء والحرص عليه وإنما الحول الثاني استدراك - انتهى.
{غير إخراج} أي غير مصاحب ذلك المتاع بنوع إخراج أو غير ذوي إخراج.
قال الحرالي : لتكون الأربعة الأشهر والعشر فرضاً وباقي الحول متاعاً لتلحق أنواع المتعة بأنواع اللازم في الزوجية من نفقة وكسوة وإخدام وسكنى ، ولما كان هذا المتاع الزائد إنما هو تقرير للزوجة في حال ما كانت عليه مع زوجها إشعاراً ببقاء العصمة وإلاحة من الله تعالى بحسن صبر المرأة المتوفى عنها زوجها على زوجها ، لا تتزوج عليه غيره حتى تلقاه فتكون معه على النكاح السابق ليكون للأمة في أزواجهم لمحة حظ من تحريم أزواج نبيهم بعده اللاتي يقمن بعده إلى أن يلقينه أزواجاً بحالهن ، فيكون ذلك لمن يستشرف من خواص أمته إلى اتباعه في أحكامه وأحكام أزواجه لأن الرجال مما يستحسنون ذلك لأزواجهم ، فمن أشد ما يلحق الرجل بعد وفاته تزوج زوجه من بعده لأنها بذلك كأنها هي المطلقة له ، ولذلك ورد أن المرأة إنما تكون لآخر زوج.
(7/234)
لأنها تركت الزوج ولم يتركها هو ، قال صلى الله عليه وسلم : " أنا وسفعاء الخدين حبست نفسها على يتاماها حتى ماتوا - أو : بانوا - كهاتين في الجنة " كأنه صلى الله عليه وسلم أكد ذلك المعنى على من ترك لها المتوفى ذرية لأنه أثبت عهد معه - انتهى.
روى البخاري في التفسير عن مجاهد {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً} [ البقرة : 234 ] قال : كانت هذه العدة تعتد عند أهل زوجها واجب فأنزل الله عزّ وجلّ : {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج} [ البقرة : 240 ] قال : جعل الله سبحانه وتعالى لها تمام السنة سبعة أشهر وعشرين ليلة وصية ، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت وهو قول الله سبحانه وتعالى : {غير إخراج} فالعدة كما هي واجب عليها. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 458 ـ 459}
قال ابن عاشور :
موقع هذه الآية هنا بعد قوله : {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن} [ البقرة : 243 ] إلى آخرها في غاية الإشكال فإن حكمها يخالف في الظاهر حكم نظيرتها التي تقدمت ، وعلى قول الجمهور هاته الآية سابقة في النزول على آية {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن} يزداد موقعها غرابة إذ هي سابقة في النزول متأخرة في الوضع.
والجمهور على أن هذه الآية شرعت حكم تربص المتوفى عنها حولاً في بيت زوجها وذلك في أول الإسلام ، ثم نسخ ذلك بعدة الوفاة وبالميراث ، روي هذا عن ابن عباس ، وقتادة والربيع وجابر بن زيد.
(7/235)
وفي البخاري في كتاب التفسير عن عبد الله بن الزبير قال : "قلت لعثمان هذه الآية ، {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم} قد نسختها الآية الآخرى فلم تكتبها ، قال : لا أغير شيئاً منه عن مكانه بابن أخي" فاقتضى أن هذا هو موضع هذه الآية ، وأن الآية التي قبلها ناسخة لها ، وعليه فيكون وضعها هنا بتوقيف من النبي صلى الله عليه وسلم لقول عثمان "لا أغير شيئاً منه عن مكانه" ويحتمل أن ابن الزبير أراد بالآية الأخرى آية سورة النساء في الميراث.
وفي البخاري قال مجاهد "شرع الله العدة أربعة أشهر وعشراً تعتد عند أهل زوجها واجباً ، ثم نزلت {وصية لأزواجهم} فجعل الله لها تمام السنة وصية ، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت ، ولم يكن لها يومئذ ميراث معين ، فكان ذلك حقها في تركة زوجها ، ثم نسخ ذلك بالميراث" فلا تعرض في هذه الآية للعدة ولكنها في بيان حكم آخر وهو إيجاب الوصية لها بالسكنى حولاً : إن شاءت أن تحتبس عن التزوج حولاً مراعاة لما كانوا عليه ، ويكون الحول تكميلاً لمدة السكنى لا للعدة ، وهذا الذي قاله مجاهد أصرح ما في هذا الباب ، وهو المقبول.
(7/236)
واعلموا أن العرب في الجاهلية كان من عادتهم المتبعة أن المرأة إذا توفي عنها زوجها تمكث في شر بيت لها حولاً ، محدة لابسة شر ثيابها متجنبة الزينة والطيب ، كما تقدم في حاشية تفسير قوله تعالى : {فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} [ البقرة : 234 ] عن "الموطأ" ، فلما جاء الإسلام أبطل ذلك الغلو في سوء الحالة ، وشرع عدة الوفاة والإحداد ، فلما ثقل ذلك على الناس ، في مبدأ أمر تغيير العادة ، أمر الأزواج بالوصية لأزواجهم بسكنى الحول بمنزل الزوج والإنفاق عليها من ماله ، إن شاءت السكنى بمنزل الزوج ، فإن خرجت وأبت السكنى هنالك لم ينفق عليها ، فصار الخيار للمرأة في ذلك بعد أن كان حقاً عليها لا تستطيع تركه ، ثم نسخ الإنفاق والوصية بالميراث ، فاللَّه لما أراد نسخ عدة الجاهلية ، وراعى لطفه بالناس في قطعهم عن معتادهم ، أقر الاعتداد بالحول ، وأقر ما معه من المكث في البيت مدة العدة ، لكنه أوقفه على وصية الزوج عند وفاته لزوجه بالسكنى ، وعلى قبول الزوجة ذلك ، فإن لم يوص لها أو لم تقبل ، فليس عليها السكنى ، ولها الخروج ، وتعتد حيث شاءت ، ونسخ {وصية} السكنى حولاً بالمواريث ، وبقي لها السكنى في محل زوجها مدة العدة مشروعاً بحديث الفُريعة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 471 ـ 472}
قال ابن عادل : (7/237)
قرأ ابن كثير ، ونافع ، والكسائي ، وأبو بكرٍ ، عن عاصم : " وَصِيَّةٌ " بالرفع والباقون : بالنصب. وفي رفع {الذين يُتَوَفَّوْنَ} ثمانية أوجهٍ ، خمسةٌ منها على قراءة من رفع " وَصِيَّةً " ، وثلاثةٌ على قراءة من نصب " وصيةٌ " ؛ فأوّل الخمسة ، أنه مبتدأ ، و" وَصِيَّةٌ " مبتدأ ثانٍ ، وسوَّغ الابتداء بها كونها موصوفة تقديراً ؛ إذ التقدير : " وَصِيَّةٌ مِنَ اللهِ " أو " مِنْهُمْ " ؛ على حسب الخلاف فيها : أهي واجبةٌ من الله تعالى ، أو مندوبةٌ للأزواج ؟ و" لأَزْوَاجِهِمْ " خبر المبتدأ الثاني ، فيتعلَّق بمحذوفٍ ، والمبتدأ الثاني وخبره خبر الأول ، وفي هذه الجملة ضمير الأول ، وهذه نظير قولهم : " السَّمْنُ مَنَوَانِ بِدِرْهَمٍ " تقديره : " مَنَوَانِ مِنْهُ " ، وجعل ابن عطية المسوِّغ للابتداء بها كونها في موضع تخصيص ؛ قال : " كما حَسُنَ أَنْ يرتفع : " سَلاَمٌ عَلَيْكَ " و" خَيْرٌ بَيْنَ يَدَيْكَ " ؛ لأنها موضع دعاءٍ " قال شهاب الدين : وفيه نظرٌ.
الثاني : أن تكون " وَصِيَّةٌ " مبتدأ ، و" لأَزْوَاجِهِمْ " صفتها ، والخبر محذوفٌ ، تقديره : فعليهم وصيةٌ لأزواجهم ، والجملة خبر الأوَّل.
الثالث : أنها مرفوعة بفعل محذوفٍ ، تقديره : كتب عليهم وصيَّةٌ و" لأَزْوَاجِهِمْ " صفةٌ ، والجملة خبر الأول أيضاً ؛ ويؤيِّد هذا قراءة عبدالله : " كُتِبَ عَلَيْهِمْ وَصِيَّةٌ " وهذا من تفسير المعنى ، لا الإعراب ؛ إذ ليس هذا من المواضع التي يضمر فيها الفعل.
الرابع : أن " الَّذِينَ " مبتدأٌ ، على حذف مضافٍ من الأول ، تقديره : ووصيَّةُ الذين.
الخامس : أنه كذلك إلا أنه على حذف مضافٍ من الثاني ، تقديره : " وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ أَهْلُ وَصيَّةٍ " ذكر هذين الوجهين الزمخشريُّ ، قال أبو حيان : " ولا ضرورة تدعونا إلى ذلك ".(7/238)
فهذه الخمسة الأولى التي على رفع " وَصِيَّةٌ ". وأمَّا الثلاثة التي على قراءة النصب في " وَصِيَّةٌ " :
فأحدها : أنه فاعل فعل محذوفٍ ، تقديره : وليوص الذين ، ويكون نصب " وَصِيَّةٌ " على المصدر.
الثاني : أنه مرفوع بفعل مبني للمفعول يتعدَّى لاثنين ، تقديره : " وأُلْزِمَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ " ويكون نصب " وَصِيَّةً " على أنها مفعولٌ ثانٍ لـ " أُلْزِمَ " ، ذكره الزمخشريُّ ، وهو والذي قبله ضعيفان ؛ لأنه ليس من مواضع إضمار الفعل.
الثالث : أنه مبتدأٌ ، وخبره محذوف ، وهو الناصب لوصية ، تقديره : والذين يتوفون يوصون وصيَّة ، وقدره ابن عطية : " لِيُوصُوا " و" وَصِيَّةً " منصوبةٌ على المصدر أيضاً ، وفي حرف عبدالله : " الوَصِيَّةُ " رفعاً بالابتداء ، والخبر الجارُّ بعدها ، أو مضمرٌ أي : فعليهم الوصية ، والجارُّ بعدها حالٌ ، أو خبرٌ ثانٍ ، أو بيانٌ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 239 ـ 240}
قوله تعالى {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {متاعا} ففيه وجوه الأول : أن يكون على معنى : متعوهن متاعاً ، فيكون التقدير : فليوصوا لهن وصية ، وليمتعوهن متاعاً
الثاني : أن يكون التقدير : جعل الله لهن ذلك متاعاً لأن ما قبل الكلام يدل على هذا الثالث : أنه نصب على الحال.
أما قوله : {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} ففيه قولان الأول : أنه نصب بوقوعه موقع الحال كأنه قال : متعوهن مقيمات غير مخرجات والثاني : انتصب بنزع الخافض ، أراد من غير إخراج. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 134}
وقال ابن عاشور :
قوله : {مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ} [ البقرة : 240 ] والمتاع هنا هو السكنى ، وهو منصوب على حذف فعله أي ليمتعوهن متاعاً ، وانتصب متاعاً على نزع الخافض ، فهو متعلق بوصية والتقدير وصية لأزواجهم بمتاع.(7/239)
و ( إلى ) مؤذنة بشيء جعلت غايته الحول ، وتقديره متاعاً بسكنى إلى الحول ، كما دل عليه قوله : {غير إخراج}.
والتعريف في الحول تعريف العهد ، وهو الحول المعروف عند العرب من عهد الجاهلية الذي تعتد به المرأة المتوفى عنها ، فهو كتعريفه في قول لبيد :
إلى الحول ثم اسم السلام عليكما
ومن يَبْككِ حولاً كاملاً فقد اعتذر
وقوله : {غير إخراج} حال من {متاعاً} مؤكدة ، أو بدل من {متاعاً} بدلاً مطابقاً ، والعرب تؤكد الشيء بنفي ضده ، ومنه قول أبي العباس الأعمى يمدح بني أمية :
خباءٌ على المنابر فُرسانٌ
عليها وقالَةٌ غيرُ خُرْس...
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 4736}
فوائد لغوية
قال ابن عادل :
قوله تعالى : {مَّتَاعاً} في نصبه سبعة أوجهٍ :
أحدها : أنَّه منصوبٌ بلفظ " وَصِيَّة " لأنها مصدرٌ منونٌ ، ولا يضرُّ تأنيثها بالتاء ؛ لبنائها عليها ؛ فهي كقوله : [ الطويل ]
1150- فَلَوْلاَ رَجَاءُ النَّضْرِ مِنْكَ وَرَهْبَةٌ... عِقَابَكَ قَدْ كَانُوا لَنَا كَالْمَوَارِدِ
والأصل : وصية بمتاع ، ثم حذف حرف الجرِّ ، اتساعاً ، فنصب ما بعده ، وهذا إذا لم تجعل " الوصيَّة " منصوبةٌ على المصدر ؛ لأن المصدر المؤكَّد لا يعمل ، وإنما يجيء ذلك حال رفعها ، أو نصبها على المفعول ؛ كما تقدَّم تفصيله.
والثاني : أنه منصوبٌ بفعلٍ ، إمَّا من لفظه ، أي : متِّعوهنَّ متاعاً ، أي : تمتيعاً ، أو من غير لفظه ، أي : جعل الله لهنَّ متاعاً.
الثالث : أنه صفةٌ لوصية.
الرابع : أنه بدل منها.
الخامس : أنه منصوبٌ بما نصبها ، أي : يوصون متاعاً ، فهو مصدر أيضاً على غير الصدر ؛ كـ " قَعَدْتُ جُلُوساًَ " ، هذا فيمن نصب " وَصِيَّةٌ ".
السادس : أنه حالٌ من الموصين : أي ممتَّعين أو ذوي متاعٍ.
السابع : أنه حالٌ من أزواجهم ، [ أي ] : ممتَّعاتٍ أو ذوات متاعٍ ، وهي حالٌ مقدَّرة إن كانت الوصية من الأزواج.(7/240)
وقرأ أُبيٌّ : " مَتَاعٌ لأَزْوَاجِهِمْ " بدل " وَصِيَّةٌ " ، وروي عنه " فَمَتَاعٌ " ، ودخول الفاء في خبر الموصول ؛ لشبهه بالشرط ، وينتصب " مَتَاعاً " في هاتين الروايتين على المصدر بهذا المصدر ، فإنه بمعنى التمتيع ؛ نحو : " يُعْجِبُنِي ضَرْبٌ لَكَ ضَرْباً شَدِيداً " ، ونظيره : {قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً} [ الإسراء : 63 ] ، و" إِلَى الحَوْلِ " متعلِّقٌ بـ " مَتَاع " أو بمحذوفٍ ؛ على أنه صفة له.
قوله تعالى : {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} في نصبه ستة أوجهٍ :
أحدها : أنه نعتٌ لـ " مَتَاعاً ".
الثاني : أنه بدلٌ منه.
الثالث : أنه حالٌ من الزوجات ، أي : غير مخرجات.
الرابع : أنه حالٌ من الموصين ، أي : غير مخرجين.
الخامس : أنه منصوب على المصدر ، تقديره : لا إخراجاً ، قاله الأخش.
السادس : أنه على حذف حرف الجرِّ ، تقديره : من غير إخراجٍ ، قاله أبو البقاء ، قال شهاب الدين : وفيه نظر. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 240 ـ 241}
فصل
قال الفخر :(7/241)
في هذه الآية ثلاثة أقوال الأول : وهو اختيار جمهور المفسرين ، أنها منسوخة ، قالوا : كان الحكم في ابتداء الإسلام أنه إذا مات الرجل لم يكن لامرأته من ميراثه شيء إلا النفقة والسكنى سنة ، وكان الحول عزيمة عليها في الصبر عن التزوج ، ولكنها كانت مخيرة في أن تعتد إن شاءت في بيت الزوج ، وإن شاءت خرجت قبل الحول ، لكنها متى خرجت سقطت نفقتها ، هذا جملة ما في هذه الآية ، لأنا إن قرأنا {وَصِيَّة} بالرفع ، كان المعنى : فعليهم وصية ، وإن قرأناها بالنصب ، كان المعنى : فليوصوا وصية ، وعلى القراءتين هذه الوصية واجبة ، ثم إن هذه الوصية صارت مفسرة بأمرين أحدهما : المتاع والنفقة إلى الحول والثاني : السكنى إلى الحول ، ثم أنزل تعالى أنهن إن خرجن فلا جناح عليكم في ذلك ، فثبت أن هذه الآية توجب أمرين أحدهما : وجوب النفقة والسكنى من مال الزوج سنة والثاني : وجوب الاعتداد سنة ، لأن وجوب السكنى والنفقة من مال الميت سنة توجب المنع من التزوج بزوج آخر في هذه السنة ، ثم إن الله تعالى نسخ هذين الحكمين ، أما الوصية بالنفقة والسكنى فلأن القرآن دل على ثبوت الميراث لها ، والسنة دلت على أنه لا وصية لوارث ، فصار مجموع القرآن والسنة ناسخاً للوصية للزوجة بالنفقة والسكنى في الحول ، وأما وجوب العدة في الحول فهو منسوخ بقوله : {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [ البقرة : 234 ] فهذا القول هو الذي اتفق عليه أكثر المتقدمين والمتأخرين من المفسرين.
القول الثاني : وهو قول مجاهد : أن الله تعالى أنزل في عدة المتوفى عنها زوجها آيتين أحدهما : ما تقدم وهو قوله : {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} والأخرى : هذه الآية ، فوجب تنزيل هاتين الآيتين على حالتين.
(7/242)
فنقول : إنها إن لم تختر السكنى في دار زوجها ولم تأخذ النفقة من مال زوجها ، كانت عدتها أربعة أشهر وعشراً على ما في تلك الآية المتقدمة ، وأما إن اختارت السكنى في دار زوجها ، والأخذ من ماله وتركته ، فعدتها هي الحول ، وتنزيل الآيتين على هذين التقديرين أولى ، حتى يكون كل واحد منهما معمولاً به.
القول الثالث : وهو قول أبي مسلم الأصفهاني : أن معنى الآية : من يتوفى منكم ويذرون أزواجاً ، وقد وصوا وصية لأزواجهم بنفقة الحول وسكنى الحول فإن خرجن قبل ذلك وخالفن وصية الزوج بعد أن يقمن المدة التي ضربها الله تعالى لهن فلا حرج فيما فعلن في أنفسهن من معروف أي نكاح صحيح ، لأن إقامتهن بهذه الوصية غير لازمة ، قال : والسبب أنهم كانوا في زمان الجاهلية يوصون بالنفقة والسكنى حولاً كاملاً ، وكان يجب على المرأة الاعتداد بالحول ، فبين الله تعالى في هذه الآية أن ذلك غير واجب ، وعلى هذا التقدير فالنسخ زائل ، واحتج على قوله بوجوه أحدها : أن النسخ خلاف الأصل فوجب المصير إلى عدمه بقدر الإمكان الثاني : أن يكون الناسخ متأخراً عن المنسوخ في النزول ، وإذا كان متأخراً عنه في النزول كان الأحسن أن يكون متأخراً عنه في التلاوة أيضاً ، لأن هذا الترتيب أحسن ، فأما تقدم الناسخ على المنسوخ في التلاوة ، فهو وإن كان جائزاً في الجملة ، إلا أنه يعد من سوء الترتيب وتنزيه كلام الله تعالى عنه واجب بقدر الإمكان ولما كانت هذه الآية متأخرة عن تلك التلاوة ، كان الأولى أن لا يحكم بكونها منسوخة بتلك.
(7/243)
الوجه الثالث : وهو أنه ثبت في علم أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين النسخ وبين التخصيص ، كان التخصيص أولى ، وههنا إن خصصنا هاتين الآيتين بالحالتين على ما هو قول مجاهد اندفع النسخ فكان المصير إلى قول مجاهد أولى من التزام النسخ من غير دليل ، وأما على قول أبي مسلم فالكلام أظهر ، لأنكم تقولون تقدير الآية : فعليهم وصية لأزواجهم ، أو تقديرها : فليوصوا وصية ، فأنتم تضيفون هذا الحكم إلى الله تعالى ، وأبو مسلم يقول : بل تقدير الآية : والذين يتوفون منكم ولهم وصية لأزواجهم ، أو تقديرها : وقد أوصوا وصية لأزواجهم ، فهو يضيف هذا الكلام إلى الزوج ، وإذا كان لا بد من الإضمار فليس إضماركم أولى من إضماره ، ثم على تقدير أن يكون الإضمار ما ذكرتم يلزم تطرق النسخ إلى الآية ، وعند هذا يشهد كل عقل سليم بأن إضمار أبي مسلم أولى من إضماركم ، وأن التزام هذا النسخ التزام له من غير دليل ، مع ما في القول بهذا النسخ من سوء الترتيب الذي يجب تنزيه كلام الله تعالى عنه ، وهذا كلام واضح.
وإذا عرفت هذا فنقول : هذه الآية من أولها إلى آخرها تكون جملة واحدة شرطية ، فالشرط هو قوله : {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أزواجا وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِم متاعا إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ} فهذا كله شرط ، والجزاء هو قوله : {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِى أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ} فهذا تقرير قول أبي مسلم ، وهو في غاية الصحة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 134 ـ 135}
وقال القرطبى :
(7/244)
قوله تعالى : {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} ذهب جماعة من المفسرين في تأويل هذه الآية أنّ المتوفّى عنها زوجها كانت تجلس في بيت المتوفَّى عنها حولاً ، ويُنفق عليها من ماله ما لم تخرج من المنزل ؛ فإن خرجت لم يكن على الورثة جُناح في قطع النفقة عنها ؛ ثم نُسخ الحولُ بالأربعة الأشهر والعشر ، ونُسخت النفقةُ بالرُّبُع والثُّمن في سورة "النساء" قاله ابن عباس وقتادة والضحاك وابن زيد والربيع. وفي السكنى خلاف للعلماء ، روى البخاري عن ابن الزبير قال : قلت لعثمان هذه الآية التي في "البقرة" : {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} إلى قوله {غَيْرَ إِخْرَاجٍ} قد نسختها الآية الأُخرى فلم تكتبها أو تَدَعُها ؟ قال : يابن أخي لا أُغير شيئاً منه من مكانه. وقال الطبري عن مجاهد : إن هذه الآية محكمة لا نسخ فيها ، والعدّة كانت قد ثبتت أربعة أشهر وعشراً ، ثم جعل الله لهن وصِيَّةً منه سُكْنَى سبعة أشهر وعشرين ليلة ، فإن شاءت المرأة سكنت في وصيتها ، وإن شاءت خرجت ، وهو قول الله عز وجل : {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ}. قال ابن عطية : وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتّفق عليه إلا ما قوّله الطبري مجاهداً رحمهما الله تعالى ، وفي ذلك نظر على الطبري. وقال القاضي عِياض : والإجماع منعقد على أن الحول منسوخ وأن عِدّتها أربعةُ أشهر وعشرٌ. قال غيره : معنى قوله "وَصِيَّةً" أي من الله تعالى تجب على النساء بعد وفاة الزوج بلزوم البيوت سنَةً ثم نُسخ.
(7/245)
قلت : ما ذكره الطبري عن مجاهد صحيح ثابت ، خرّج البخاريّ قال : حدّثنا إسحاق قال حدّثنا روح قال حدّثنا شِبْل عن ابن أبي نجِيح عن مجاهد {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً} قال : كانت هذه العدّة تعتدّ عند أهل زوجها واجبة فأنزل الله تعالى : {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً إلى قوله مِن مَّعْرُوفٍ} قال : جعل الله لها تمام السَّنَة سبعةَ أشهر وعشرين ليلةً وصِيَّةً ، إن شاءت سكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت ، وهو قول الله تعالى : {غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} إلا أن القول الأوّل أظهر لقوله عليه السلام : " إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة عند رأس الحول " الحديث. وهذا إخبار منه صلى الله عليه وسلم عن حالة المتوفَّى عنهنّ أزواجهنّ قبل ورود الشرع ، فلما جاء الإسلام أمرهنّ الله تعالى بملازمة البيوت حولا ثم نسخ بالأربعة الأشهر والعشر ، هذا مع وضوحه في السُّنة الثابتة المنقولة بأخبار الآحاد إجماعٌ من علماء المسلمين لا خلاف فيه ؛ قاله أبو عمر ، قال : وكذلك سائر الآية.
فقوله عز وجل : {والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ} منسوخٌ كله عند جمهور العلماء ، ثم نسخ الوصية بالسكنى للزوجات في الحول ، إلا رواية شاذّة مهجورة جاءت عن ابن أبي نَجِيح عن مجاهد لم يُتابع عليها ، ولا قال بها فيما زاد على الأربعة الأشهر والعشر أحدٌ من علماء المسلمين من الصحابة والتابعين ومَن بعدهم فيما علمتُ. وقد رَوى ابن جُرَيْج عن مجاهد مثل ما عليه الناس ، فانعقد الإجماع وارتفع الخلاف ، وبالله التوفيق. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 226 ـ 227}
فصل
قال الفخر : (7/246)
القائلون بأن هذه الوصية كانت واجبة أوردوا على أنفسهم سؤالاً فقالوا : الله تعالى ذكر الوفاة ، ثم أمر بالوصية ، فكيف يوصي المتوفى ؟ وأجابوا عنه بأن المعنى : والذين يقاربون الوفاة ينبغي أن يفعلوا هذا فالوفاة عبارة عن الإشراف عليها وجواب آخر وهو أن هذه الوصية يجوز أن تكون مضافة إلى الله تعالى بمعنى أمره وتكليفه ، كأنه قيل : وصية من الله لأزواجهم ، كقوله : {يُوصِيكُمُ الله فِى أولادكم} [ النساء : 11 ] وإنما يحسن هذا المعنى على قراءة من قرأ بالرفع. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 136}
قوله تعالى : {فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان هذا المتاع الواجب من جهة الزوج جائزاً من جهة المرأة نبه عليه بقوله {فإن خرجن} أي من أنفسهن من غير مزعج ولا مخرج {فلا جناح عليكم} يا أهل الدين الذين يجب عليهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر {فيما فعلن في أنفسهن} من النكاح ومقدماته.
ولما كانت لهن في الجاهلية أحوال منكرة في الشرع قيده بقوله : {من معروف} أي عندكم يا أهل الإسلام.
(7/247)
ولما كان في هذا حكمان حكم من جهة الرجال فضل وآخر من جهة النساء عفو فكان التقدير : فالله غفور حليم ، عطف عليه قوله : {والله} أي الذي لا كفوء له {عزيز حكيم} وفي ضمنه كما قال الحرالي تهديد شديد للأولياء إن لم ينفذوا ويمضوا هذه الوصية بما ألزم الله ، ففي إلاحته أن من أضاع ذلك ناله من عزة الله عقوبات في ذات نفسه وزوجه ومخلفيه من بعده ويجري مأخذ ما تقتضيه العزة على وزن الحكمة جزاء وفاقاً وحكماً قصاصاً ، وهذه الآية مما ذكر فيها بعض الناس النسخ وإنما هي مما لحقها نسيان أوقعه الله تعالى على الخلق حتى لا يكاد أن يكون عمل بها أحد إلا أحداً لم يذكر به ولم يشتهر منه فهي مما أنسى فران عليه النسيان لأمر شاءه الله سبحانه وتعالى والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ، وقد ورد " أن النبي صلى الله عليه وسلم أنفذ لامرأة من تركة زوجها نفقة سنة " وذلك والله سبحانه وتعالى أعلم قبل نزول آية الفرائض حين كانت الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف - انتهى.
وبما قال الحرالي من أنها غير منسوخة قال مجاهد كما تقدم في رواية البخاري عنه أن الزوجة إن اختارت هذا فعدتها الحول وإلا فعدتها الآية الأولى ، ونقله الشمس الأصفهاني عنه في تفسيره ، ونقل عن بلديه أبي مسلم قريباً منه فإنه قال بعد أن نقل عنه أنها غير منسوخة : ليس التقدير ما يفيد الوجوب على الزوج مثل : فليوصوا بل التقدير : وقد وصوا ، أو : ولهم وصية.
(7/248)
وحسن تعقيب آية المحافظة على الصلاة بعدة الوفاة كون الخوف المذكور فيها من أسباب القتل ، ولعل إثباتها في التلاوة مع كونها منسوخة الحكم على ما قال الجمهور تذكيراً للنساء بما كان عدة لهن في أول الأمر لئلا يستطلن العدة الثابتة بأربعة أشهر وعشر فينتهكن شيئاً من حرماتها ، كما أشار إليه ما في الصحيحين وغيرهما عن أم سلمة رضي الله تعالى عنها " " أن امرأة استأذنت النبي صلى الله عليه وسلم أن تكحل ابنتها لوجع أصابها ، فأبى وقال : " قد كانت إحداكن في الجاهلية ترمي بالبعرة على رأس الحول ". أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 459 ـ 460}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ} فالمعنى : لا جناح عليكم يا أولياء الميت فيما فعلن في أنفسهن من التزين ، ومن الإقدام على النكاح ، وفي رفع الجناح وجهان أحدهما : لا جناح في قطع النفقة عنهن إذا خرجن قبل انقضاء الحول
والثاني : لا جناح عليكم في ترك منعهن من الخروج ، لأن مقامها حولاً في بيت زوجها ليس بواجب عليها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 136}
قوله : {فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ}
قال ابن عادل :
قوله : {فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ} هذان الجارَّان يتعلَّقان بما تعلَّق به خبر " لا " وهو " عَلَيْكُمْ " من الاستقرار ، والتقدير : لا جناح مستقرٌّ عليكم فيما فعلن في أنفسهنَّ ، و" مَا " موصولةٌ اسميةٌ ، والعائد محذوف ، تقديره : فعلنه ، و" مِنْ مَعْرُوفٍ " متعلِّقٌ بمحذوفٍ ؛ لأنه حالٌ من ذلك العائد المحذوف ، وتقديره : فيما فعلنه كائناً من معروفٍ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 242}
قوله تعالى {والله عزيز حكيم}
قال أبو حيان(7/249)
{والله عزيز حكيم} ختم الآية بهاتين الصفتين ، فقوله : عزيز ، إظهار للغلبة والقهر لمن منع من إنفاذ الوصية بالتمتيع المذكور ، أو أخرجهن وهنّ لا يخترن الخروج ، ومشعر بالوعيد على ذلك. وقوله : حكيم ، إظهار أن ما شرع من ذلك فهو جارٍ على الحكمة والإتقان ، ووضع الأشياء مواضعها.
قال ابن عطية : وهذا كله قد زال حكمه بالنسخ المتفق عليه إلاَّ ما قاله الطبري عن مجاهد وفي ذلك نظر على الطبري. انتهى كلامه.
وقد تقدّم أوّل الآي ما نقل عن مجاهد من أنها محكمة ، وهو قول ابن عطية في ذلك. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 255}
فصل
المعتدَّة من فرقة الوفاة ، لا نفقة لها ، ولا كسوة حاملاً كانت ، أو حائلاً.
وروي عن عليٍّ ، وابن عمر - رضي الله عنهما - أنَّ لها النَّفقة إذا كانت حاملاً ، وعن جابر ، وابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنهما قالا : لا نفقة لها ، حسبها الميراث ، وهل تستحقُّ السُّكنى ؟ قال عليٌّ ، وابن عباس ، وعائشة - رضي الله عنهم - : لا تستحقُّ السُّكنى ، وهذا مذهب أبي حنيفة والمزنيّ.
وقال عمر ، وابن عمر ، وعثمان ، وابن مسعود ، وأمُّ سلمة : إنها تستحقُّ السُّكنى ، وبه قال مالك ، والثَّوريُّ ، وأحمد.
واحتجَّ كلٌّ من الطائفتين بخبر فريعة بنت مالك ، أخت أبي سعيدٍ الخدريِّ ، قتل زوجها ؛ فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إنّي أرجع إلى أهلي ، فإنَّ زوجي ما تركني في منزل يملكه ؛ فقال - عليه الصَّلاة والسَّلام - : " نَعَمْ " ، فانصرفت حتى إذا كنت في المسجد ، أو في الحجرة دعاني فقال : " امْكُثِي في بَيْتِكِ حَتَّى يَبْلُغَ الكِتَابُ أَجَلَهُ " ، فاختلفوا في تنزيل هذا الحديث.
فقيل : لم يوجب في الابتداء ، ثمَّ أوجب ؛ فصار الأوَّل منسوخاً.
وقيل : أمرها بالمكث في بيتها أجراً على سبيل الاستحباب ، لا على سبيل الوجوب.(7/250)
واحتجَّ المزنيُّ على أنَّه لا سكنى لها فقال : أجمعنا على أنَّه لا نفقة لها ؛ لأنَّ الملك انقطع بالموت ، فكذلك السُّكنى بدليل : أنهم أجمعوا على أنَّ من وجب له نفقةً ، وسكنى عن ولد ووالد على رجلٍ ؛ فمات ؛ انقطعت نفقتهم ، وسكناهم ؛ لأنّ ماله صار ملكاً للوارث ، فكذا ها هنا.
وأجيب بأنَّه لا يمكن قياس السُّكنى على النفقة ؛ لأنَّ المطلقة ثلاثاً تستحقُّ السُّكنى بكلِّ حالٍ ، ولا تستحقُّ النَّفقة لنفسها عند المزنيّ. ولأن النَّفقة وجبت في مقابلة التَّمكين من الاستمتاع ، ولا يمكن ها هنا ، وأمَّا السُّكنى وجبت لتحصين النساء ، وهو موجودٌ ها هنا فافترقا. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 4 صـ 244 ـ 245}(7/251)
قوله تعالى : {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذكر سبحانه وتعالى متاع المتوفى عنهن عقبه متاع المطلقات تأكيداً للحكم بالتكرير وتعميماً بعد تخصيص بعض أفراده فقال تعالى : {وللمطلقات} أي أيّ المدخول بهن بأي طلاق كان {متاع} أي من جهة الزوج يجبر ما حصل لها من الكسر {بالمعروف} أي من حالهما {حقاً على المتقين} قال الحرالي : حيث كان الذي قبل الدخول حقاً على المحسنين كان المحسن يمتع بأيسر وصلة في القول دون الإفضاء والمتقي يحق عليه الإمتاع بمقدار ما وقع له من حرمة الإفضاء ولما وقع بينهم من الإرهاق والضجر فيكون في المتعة إزالة لبعض ذلك وإبقاء بسلام أو مودة - انتهى.
وفيه إشارة إلى أن الطلاق كالموت لانقطاع حبل الوصلة الذي هو كالحياة وأن المتاع كالإرث. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 461}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى : {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ}
عطف على جملة : {والذين يتوفون منكم} [ البقرة : 240 ] جُعل استيفاء لأحكام المتعة للمطلقات ، بعد أن تقدم حكم متعة المطلقات قبل المسيس وقبل الفرض ، فعمم بهذه الآية طلب المتعة للمطلقات كلهن ، فاللام في قوله : {وللمطلقات متاع} لام الاستحقاق.
والتعريف في المطلقات يفيد الاستغراق ، فكانت هذه الآية قد زادت أحكاماً على الآية التي سبقتها.
وعن جابر بن زيد قال : لما نزل قوله تعالى : {ومتعوهن على الموسع قدره} إلى قوله : {حقا على المحسنين} [ البقرة : 236 ] قال رجل : إن أحسنت فعلت وإن لم أرد ذلك لم أفعل ، فنزل قوله تعالى : {وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين} فجعلها بيانا للآية السابقة ، إذ عوض وصف المحسنين بوصف المتقين.(7/252)
والوجه أن اختلاف الوصفين في الآيتين لا يقتضي اختلاف جنس الحكم باختلاف أحوال المطلقات ، وأن جميع المتعة من شأن المحسنين والمتقين ، وأن دلالة صيغة الطلب في الآيتين سواء إن كان استحباباً أو كان إيجاباً.
فالذين حملوا الطلب في الآية السابقة على الاستحباب ، حملوه في هذه الآية على الاستحباب بالأولى ، ومعولهم في محمل الطلب في كلتا الآيتين ليس إلا على استنباط علة مشروعية المتعة وهي جبر خاطر المطلقة استبقاء للمودة ، ولذلك لم يستثن مالك من مشمولات هذه الآية إلا المختلعة ؛ لأنها هي التي دعت إلى الفرقة دون المطلق.
والذين حملوا الطلب في الآية المتقدمة على الوجوب ، اختلفوا في محمل الطلب في هذه الآية فمنهم من طرد قوله بوجوب المتعة لجميع المطلقات ، ومن هؤلاء عطاء وجابر بن زيد وسعيد ابن جبير وابن شهاب والقاسم بن محمد وأبو ثور ، ومنهم من حمل الطلب في هذه الآية على الاستحباب وهو قول الشافعي ، ومرجعه إلى تأويل ظاهر قوله : {وللمطلقات} بما دل عليه مفهوم قوله في الآية الأخرى {ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة} [ البقرة : 236 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 474 ـ 475}
قال الفخر :
يروى أن هذه الآية إنما نزلت ، لأن الله تعالى لما أنزل قوله تعالى : {وَمَتّعُوهُنَّ} إلى قوله : {حَقّاً عَلَى المحسنين} [ البقرة : 236 ] قال رجل من المسلمين : إن أردت فعلت ، وإن لم أرد لم أفعل ، فقال تعالى : {وللمطلقات متاع بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين} يعني على كل من كان متقياً عن الكفر ، واعلم أن المراد من المتاع ههنا فيه قولان
(7/253)
أحدهما : أنه هو المتعة ، فظاهر هذه الآية يقتضي وجوب هذه المتعة لكل المطلقات ، فمن الناس من تمسك بظاهر هذه الآية وأوجب المتعة لجميع المطلقات ، وهو قول سعيد بن جبير وأبي العالية والزهري قال الشافعي رحمه الله تعالى : لكل مطلقة إلا المطلقة التي فرض لها مهر ولم يوجد في حقها المسيس ، وهذه المسألة قد ذكرناها في تفسير قوله تعالى : {وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} [ البقرة : 236 ].
فإن قيل : لم أعيد ههنا ذكر المتعة مع أن ذكرها قد تقدم في قوله : {وَمَتّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ}.
قلنا : هناك ذكر حكماً خاصاً ، وههنا ذكر حكماً عاماً.
والقول الثاني : أن المراد بهذه المتعة النفقة ، والنفقة قد تسمى متاعاً وإذا حملنا هذا المتاع على النفقة اندفع التكرار فكان ذلك أولى ، وههنا آخر الآيات الدالة على الأحكام ، والله أعلم.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 137}
وقال الخازن :
قوله عز وجل : {وللمطلقات متاع بالمعروف} إنما أعاد الله تعالى ذكر المتعة هنا لزيادة معنى وهو أن في تلك الآية بيان حكم غير الممسوسة وفي هذه الآية بيان حكم جميع المطلقات في المتعة وقيل لأنه لما نزل قوله تعالى : {ومتعوهن على الموسع قدره} إلى قوله : {حقاً على المحسنين} قال رجل من المسلمين إن فعلت أحسنت وإن لم أرد أفعل فأنزل الله تعالى : {وللمطلقات متاع بالمعروف} فجعل المتعة لهن بلام التمليك. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 168}
قال القرطبى : (7/254)
اختلف الناس في هذه الآية ؛ فقال أبو ثور : هي مُحكمةٌ ، والمُتْعَة لكل مطلَّقة ؛ وكذلك قال الزُّهريّ. ( قال الزهري ) حتى للأمة يطلقها زوجها.
وكذلك قال سعيد بن جبير : لكل مطلقة متعة وهو أحد قولي الشافعيّ لهذه الآية. وقال مالك لكل مطلقة اثنتين أو واحدة بَنَى بها أم لا ؛ سَمَّى لها صداقاً أم لا المتعةُ ، إلا المطلقة قبل البناء وقد سمي لها صداقاً فحسبُها نصفُه ، ولو لم يكن سمى لها كان لها المتعة أقلّ من صداق المِثل أو أكثر ، وليس لهذه المتعة حدّ ؛ حكاه عنه ابن القاسم. وقال ابن القاسم في إرْخَاء السُّتُور من المدوّنة ، قال : جعل الله تعالى المتعة لكل مطلقة بهذه الآية ، ثم استثنى في الآية الأُخرى التي قد فُرض لها ولم يدخل بها فأخرجها من المتعة ، وزعم ابن زَيْد أنها نسختها. قال ابن عطية : فقرّ ابن القاسم من لفظ النّسْخ إلى لفظ الاستثناء والاستثناء لا يَتّجِه في هذا الموضع ، بل هو نسخ محضٌ كما قال زيد بن أسلم ، وإذا التزم ابن القاسم أن قوله : {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ} يعُمّ كل مطلقة لزمه القول بالنسخ ولا بدّ. وقال عطاء بن أبي رباح وغيره : هذه الآية في الثِّيبات اللواتي قد جُومِعْن ، إذْ تقدّم في غير هذه الآية ذكر المتعة للّواتي لم يُدخَل بهنّ ؛ فهذا قول بأن التي قد فُرض لها قبل المَسِيس لم تدخل قط في العموم. فهذا يجيء على أن قوله تعالى : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} مخصِّصة لهذا الصنف من النِّساء ، ومتى قيل : إن هذا العموم يتناولها فذلك نسخ لا تخصيص. وقال الشافعيّ في القول الآخر : إنه لا متعة إلا للتي طلقت قبل الدخول وليس ثمّ مَسِيسٌ ولا فرض ؛ لأن من استحقت شيئاً من المهر لم تحتج في حقها إلى المتعة. وقول الله عز وجل في زوجات النبيّ صلى الله عليه وسلم : {فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ} [ الأحزاب : 28 ] محمول على أنه تطوّع من النبيّ صلى الله عليه وسلم ، ولا وجوبَ(7/255)
له. وقوله : {فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ} [ الأحزاب : 49 ] محمول على غير المفروضة أيضاً ؛ قال الشافعيّ : والمفروض لها المهر إذا طُلِّقت قبل المسِيس لا مُتْعَةَ لها ؛ لأنها أخذت نصف المهر من غير جريان وطء ، والمدخول بها إذا طلقت فلها المتعة ؛ لأن المهر يقع في مقابلة الوطء والمتعة بسبب الابتذال بالعقد. وأوجب الشافعيّ المتعة للمُخْتَلِعة والمبَارِئة. وقال أصحاب مالك : كيف يكون لِلمفْتدِيَةِ مُتْعَةٌ وهي تعطي ، فكيف تأخذ متاعا! لا متعة لمختارة الفراق من مختلِعة أو مفتدِية أو مبارِئة أو مصالِحة أو ملاعنة أو معتقة تختار الفراق ، دخل بها أم لا ، سمى لها صداقاً أم لا ، وقد مضى هذا مبيناً. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 228 ـ 229}
قوله تعالى {حقا على المتقين}
قال أبو حيان :
وظاهر : المتقين : من يتصف بالتقوى التي هي أخص من اتقاء الشرك ، وخصوا بالذكر تشريفاً لهم ، أو لأنهم أكثر الناس وقوفاً والله أسرعهم لامتثال أمر الله ، وقيل : على المتقين أي : متقي الشرك. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 255}
فائدة
قال العلامة الشنقيطى :
ظاهر هذه الآية الكريمة أن المتعة حق لكل مطلقة على مطلقها المتقي ، سواء أطلقت قبل الدخول أم لا ؟ فرض لها صداق أم لا ؟ ويدل لهذا العموم قوله تعالى : {ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الحياة الدنيا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [ الأحزاب : 28 ] مع قوله : {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [ الأحزاب : 21 ] الآية - وقد تقرر في الأصول أن الخطاب الخاص به صلى الله عليه وسلم يعم حكمه جميع الأمة إلا بدليل على الخصوص كما عقده في مراقي السعود بقوله :
وما به قد خوطب النَّبي... تعميمه في المذهب السني(7/256)
وهو مذهب الأئمة الثلاثة ، خلافاً للشافعي القائل بخصوصه به صلى الله عليه وسلم إلا بدليل على العموم ، كما بيناه في غير هذا الموضع.
وإذا عرفت ذلك فاعلم : أن أزواج النَّبي مفروض لهن ومدخول بهن ، وقد يفهم من موضع آخر أن المتعة لخصوص المطلقة قبل الدخول. وفرض الصداق معاً. لأن المطلقة بعد الدخول تستحق الصداق ، والمطلقة قبل الدخول وبعد فرض الصداق تستحق نصف الصداق. والمطلقة قبلهما لا تستحق شيئاً ، فالمتعة لها خاصة لجبر كسرها وذلك في قوله تعالى : {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ} [ البقرة : 236 ] ثم قال : {وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ} [ البقرة : 237 ] فهذه الآية ظاهرة في هذا التفصيل ، ووجهه ظهر معقول.
وقد ذكر تعالى في موضع آخر ما يدل على الأمر بالمتعة للمطلقة قبل الدخول وإن كان مفروضاً لها ، وذلك في قوله تعالى : {ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً} [ الأحزاب : 49 ]. لأن ظاهر عمومها يشمل المفروض لها الصداق وغيرها ، وبكل واحدة من الآيات الثلاث أخذ جماعة من العلماء. والأحوط الأخذ بالعموم ، وقد تقرر في الأصول أن النص الدال على الأمر مقدم على الدال على الإباحة ، وعقده في مراقي السعود بقوله :
وناقل ومثبت والآمر... بعد النواهي ثم هذا الآخر
على إباحة إلخ.
فقوله ثم هذا الآخر على إباحة ، يعني : أن النص الدال على أمر مقدم على النص الدال على غباحة ، للاحتياط في الخروج من عهدة الطلب.
(7/257)
والتحقيق أن قدر المتعة لا تحديد فيه شرعاً لقوله تعالى : {عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدْرُهُ} [ البقرة : 236 ] فإن توافقا على قدر معين فالأمر واضح ، وإن اختلفا فالحاكم يجتهد في تحقيق المناط ، فيعين القدر على ضوء قوله تعالى : {عَلَى الموسع قَدَرُهُ} [ البقرة : 236 ] الآية هذا هو الظاهر وظاهر قوله : {ومَتِّعُوهُنَّ} [ البقرة : 236 ] وقوله : {وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ} [ البقرة : 241 ] يقتضي وجوب المتعة في الجملة خلافاً لمالك ومن وافقه في عدم وجوب المتعة أصلاً ، واستدل بعض المالكية على عدم وجوب المتعة بأن الله تعالى قال : {حَقّاً عَلَى المحسنين} [ البقرة : 236 ] وقال : {حَقّاً عَلَى المتقين} [ البقرة : 241 ] قالوا : فلو كانت واجبة لكانت حقاً على كل أحد. وبأنها لو كانت واجبة لعين فيها القدر الواجب.
قال مقيده - عفا الله عنه - هذا الاستدلال على عدم وجوبها لا ينهض فيما يظهر. لأن قوله : {عَلَى المحسنين} [ البقرة : 236 ] و{عَلَى المتقين} [ البقرة : 241 ] تأكيد للوجوب وليس لأحد أن يقول لست متقياً مثلاً. لوجوب التقوى على جميع الناس قال القرطبي في تفسير قوله تعالى ومتعوهن الآية ما نصه : وقوله على المتقين تأكيد لإيجابها. لأن كل واحد يجب عليه أن يتقي الله في الإشراك به ومعاصيه وقد قال تعالى في القرآن : {هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ} [ البقرة : 2 ] ، وقولهم لو كانت واجبة لعين القدر الواجب فيها ، ظاهر السقوط. فنفقة الأزواج والأقارب واجبة ولم يعين فيها القدر اللازم ، وذلك النوع من تحقيق المناط مجمع عليه في جميع الشرائع كما هو معلوم. أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 177 ـ 178}
قوله تعالى : {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آَيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
(7/258)
ولما بيّن سبحانه وتعالى هذه الأحكام هذا البيان الشافي كان كأن سائلاً قال : هل يبين غيرها مثلها ؟ فقال : {كذلك} أي مثل هذا البيان {يبين الله} أي الذي له الحكمة البالغة لأنه المحيط بكل شيء {لكم آياته} أي المرئية بما يفصل لكم في آياته المسموعة {لعلكم تعقلون} أي لتكونوا على حال يرجى لكم معها التفكر في الآيات المسموعات والآيات المرئيات كما يفعل العقلاء فيهديكم ذلك إلى سواء السبيل ؛ وقد كرر مثل هذا القول كثيراً وفصلت به الآيات تفصيلاً وكان لعمري يكفي الفطن السالم من مرض القلب وآفة الهوى إيراده مرة واحدة في الوثوق بمضمونه والركون إلى مدلوله ، وإنما كرر تنبيهاً على بلاغة الآيات المختومة به وخروجها عن طوق البشر وقدرة المخلوق ، وذلك أنهم كلما سمعوا شيئاً من ذلك وهم أهل السبق في البلاغة والظفر على جميع أرباب الفصاحة والبراعة فرأوه فائتاً لقواهم وبعيداً من قدرهم خطر لهم السؤال عن مثل ذلك البيان ناسين لما تقدم من صادق الوعد وثابت القول بأن الكل على هذا المنوال البديع المثال البعيد المنال ، لما اعتراهم من دهش العقول وانبهار الألباب والفهوم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 461 ـ 462}
قال ابن الجوزى :
قوله تعالى : {كذلك يبين الله لكم آياته} أي : كما بيّن الذي تقدم من الأحكام {يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون} أي : يثبت لكم وصف العقلاء باستعمال ما بين لكم ، وثمرة العقل استعمال الأشياء المستقيمة.
ألا ترى إلى قوله تعالى : {إنما التوبة على الله للذين يعملون السوء بجهالة} [ النساء : 17 ].
وإنما سموا جهالاً ، لأنهم آثروا أهواءهم على ما علموا أنه الحق. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 287}
وقال أبو حيان :
{كذلك يبين الله لكم آياته} أي مثل هذا التبيين الذي سبق من الأحكام ، يبين لكم في المستقبل ما بقي من الأحكام التي يكلفها العباد.(7/259)
{لعلكم تعقلون} ما يراد منكم من التزام الشرائع والوقوف عندها ، لأن التبيين للأشياء مما يتضح للعقل بأول إدراك ، بخلاف الأشياء المغيبات والمجملات ، فإن العقل يرتبك فيها ، ولا يكاد يحصل منها على طائل. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 255}
من فوائد ابن عرفة فى الآيتين الكريمتين
قال ابن عرفة : عادتهم يقولون إنّ هذا أبلغ من قوله : " فَمَتِّعُوهُنّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ " من وجهين :
أحدهما : لقوله {حَقّاً عَلَى المتقين} ( إذا قلنا إنّ المتّقي مرادف للمؤمن ، فأفاد وجوبها على عموم المؤمنين وتلك اقتضت خصوص وجوبها بالمحسنين فقط ).
الثاني : أن ذلك أمر وهذا خبر في معنى الأمر وورود الأمر عندهم بصيغة الخبر أبلغ لاقتضائه ثبوت الشيء المأمور به ووقوعه في الوجود حتى صار مخبرا عنه بذلك.
قوله تعالى : {كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ...}.
أي مثل هذا البيان في المتعة وفي العدة وجميع ما تقدم يبين الله لكم ءاياته. ( والظاهر ) أن المراد آيات الأحكام ، ويحتمل العموم في المعجزات وغيرها وهو دليل على صحة من منع الوقف على قوله {وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله} وقال لابد من وصله بقوله {والراسخون فِي العلم} قوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ}.
قال ابن عرفة : ليس المراد هنا العقل التكليفي بل أخص منه وهو العقل النافع. وذكر ابن عطية حديثا وقال هو حديث لين.
ابن عرفة أي ضعيف. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 314 ـ 315}
فوائد بلاغية فى الآيات السابقة
قال أبو حيان :
قيل : وفي هذه الآيات من بدائع البديع ، وصنوف الفصاحة : النقل من صيغة : افعلوا ، إلى : فاعلوا ، للمبالغة وذلك في : حافظوا ، والاختصاص بالذكر في : والصلاة الوسطى ، والطباق المعنوي في : فإن خفتم.(7/260)
لأن التقدير في : حافظوا ، وهو مراعاة أوقاتها وهيآتها إذا كنتم آمنين ، والحذف في : فإن خفتم ، العدوّ ، أو ما جرى مجراه. وفي : فرجالاً ، أي : فصلوا رجالاً ، وفي : وصية لأزواجهم ، سواء رفع أم نصب ، وفي : غير إخراج ، أي : لهنّ من مكانهنّ الذي يعتدون فيه ، وفي : فإن خرجن من بيوتهنّ من غير رضا منهنّ ، وفي : فيما فعلن في أنفسهنّ ، أي : من ميلهنّ إلى التزويج أو الزينة بعد انقضاء المدّة وفي : بالمعروف ، أي : عادة أو شرعاً وفي : عزيز ، أي : انتقامه ، وفي : حكيم ، في أحكامه.
وفي قوله : حقاً ، أي : حق ذلك حقاً ، وفي : على المتقين ، أي عذاب الله والتشبيه : في : كما علمكم ، والتجنيس المماثل : وهو أن يكون بفعلين أو باسمين ، وذلك في : علمكم ما لم تكونوا تعلمون ، والتجنيس المغاير : في غير إخراج فان خرجهن ، والمجاز في : يوفون ، أي يقاربون الوفاة ، والتكرار : في متاعاً إلى الحول ، ثم قال : وللمطلقات متاع ، فيكون للتأكيد إن كان إياه ولاختلاف المعنيين إن كان غيره. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 255}(7/261)
قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال الفخر :
اعلم أن عادته تعالى في القرآن أن يذكر بعد بيان الأحكام القصص ليفيد الاعتبار للسامع ، ويحمله ذلك الاعتبار على ترك التمرد والعناد ، ومزيد الخضوع والانقياد فقال : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 137}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ}
استئناف ابتدائي للتحريض على الجهاد والتذكير بأن الحذر لا يؤخر الأجل ، وأن الجبان قد يلقى حتفه في مظنة النجاة.
وقد تقدم أن هذه السورة نزلت في مدة صلح الحديبية وأنها تمهيد لفتح مكة ، فالقتال من أهم أغراضها ، والمقصود من هذا الكلام هو قوله : {وقاتلوا في سبيل الله} الآية.
فالكلام رجوع إلى قوله : {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} [ البقرة : 216 ] وفصلت بين الكلامين الآيات النازلة خلالهما المفتتحة بـ {يسألونك} [ البقرة : 217 ، 219 ، 220 ، 222 ].(7/262)
وموقع {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم} قبل قوله : {وقاتلوا في سبيل الله} موقع ذكر الدليل قبل المقصود ، وهذا طريق من طرق الخطابة أن يقدم الدليل قبل المستدل عليه لمقاصد كقول علي رضي الله عنه في بعض خطبه لما بلغه استيلاء جند الشام على أكثر البلاد ، إذ افتتح الخطبة فقال : "ما هي إلا الكوفة أقبضها وأبسطها أنبئت بُسْراً هو ابن أبي أرطأة من قادة جنود الشام قد اطلع اليمن ، وإني والله لأظن أن هؤلاء القوم سيدالون منكم باجتماعهم على باطلهم ، وتفرقكم عن حقكم" فقوله : "ما هي إلا الكوفة" موقعه موقع الدليل على قوله : "لأظن هؤلاء القوم إلخ" وقال عيسى بن طلحة لما دخل على عروة بن الزبير حين قطعت رجله "ما كنا نعدك للصراع ، والحمد لله الذي أبقى لنا أكثرك : أبقى لنا سمعك ، وبصرك ، ولسانك ، وعقلك ، وإحدى رجليك" فقدم قوله : ما كنا نعدك للصراع ، والمقصود من مثل ذلك الاهتمام والعناية بالحجة قبل ذكر الدعوى تشويقاً للدعوى ، أو حملاً على التعجيل بالامتثال. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 475 ـ 476}
وقال أبو حيان :
مناسبة هذه الآية لما قبلها أنه تعالى متى ذكر شيئاً من الأحكام التكليفية ، أعقب ذلك بشيء من القصص على سبيل الاعتبار للسامع ، فيحمله ذلك على الانقياد وترك العناد ، وكان تعالى قد ذكر أشياء من أحكام الموتى ومن خلفوا ، فأعقب ذلك بذكر هذه القصة العجيبة ، وكيف أمات الله هؤلاء الخارجين من ديارهم ، ثم أحياهم في الدنيا ، فكما كان قادراً على إحيائهم في الدنيا هو قادر على إحياء المتوفين في الآخرة ، فيجازي كلاَّ منهم بما عمل.
ففي هذه القصة تنبيه على المعاد ، وأنه كائن لا محالة ، فيليق بكل عاقل أن يعمل لمعاده : بأن يحافظ على عبادة ربه ، وأن يوفي حقوق عباده.
(7/263)
وقيل : لما بين تعالى حكم النكاح ، بين حكم القتال ، لأن النكاح تحصين للدّين ، والقتال تحصين للدّين والمال والروح ، وقيل : مناسبة هذه الآية لما قبلها : هو أنه لما ذكر : {كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون} ذكر هذه القصة لأنها من عظيم آياته ، وبدائع قدرته. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 258}
وقال البقاعى : (7/264)
ولما انقضى ما لا بد منه مما سيق بعد الإعلام بفرض القتال المكروه للأنفس من تفصيل ما أحمل في ليل الصيام من المشارب والمناكح وما تبعها وكان الطلاق كما سلف كالموت وكانت المراجعة كالإحياء وختم ذلك بالصلاة حال الخوف الذي أغلب صورة الجهاد ثم بتبيين الآيات أعم من أن تكون في الجهاد أو غيره عقب ذلك بقوله دليلاً على آية كتب القتال المحثوث فيها على الإقدام على المكاره لجهل المخلوق بالغايات : {ألم تر} وقال الحرالي : لما كان أمر الدين مقاماً بمعالمه الخمس التي إقامة ظاهرها تمام في الأمة وإنما تتم إقامتها بتقوى القلوب وإخلاص النيات كان القليل من المواعظ والقصص في شأنه كافياً ، ولما كان حظيرة الدين إنما هو الجهاد الذي فيه بذل الأنفس وإنفاق الأموال كثرت فيه مواعظ القرآن وترددت وعرض لهذه الأمة بإعلام بما يقع فيه فذكر ما وقع من الأقاصيص في الأمم السالفة وخصوصاً أهل الكتابين بني إسرائيل ومن لحق بهم من أبناء العيص فكانت وقائعهم مثلاً لوقائع هذه الأمة فلذلك أحيل النبي صلى الله عليه وسلم على استنطاق أحوالهم بما يكشفه الله سبحانه وتعالى له من أمرهم عياناً وبما ينزله من خبرهم بياناً وكان من جامعة معنى ذلك ما تقدم من قوله سبحانه وتعالى : {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} [ البقرة : 211 ] وكان من جملة الآيات التي يحق الإقبال بها على النبي صلى الله عليه وسلم لعلو معناها فأشرف المعاني ما قيل فيه {ألم تر} إقبالاً على النبي صلى الله عليه وسلم وعموم المعاني ما قيل فيه {ألم تروا} [ لقمان : 20 ] إقبالاً على الأمة ليخاطب كل على قدر ما قدم لهم من تمهيد موهبة العقل لتترتب المكسبة من العلم على مقدار الموهبة من العقل فكان من القصص العلي العلم اللطيف الاعتبار ما تضمنته هذه الآيات من قوله : {ألم تر} ليكون ذلك عبرة لهذه الأمة حتى لا يفروا من الموت فرار من قبلهم ، قال عليه الصلاة والسلام : " إذا نزل الوباء(7/265)
بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فراراً منه " وذلك لتظهر مزيتهم على من قبلهم بما يكون من عزمهم كما أظهر الله تعالى مزيتهم على من قبلهم بما آتاهم من فضله ورحمته التي لم ينولها لمن قبلهم - انتهى.
ولما كانت مفارقة الأوطان مما لا يسمح به نبه بذكره على عظيم ما دهمهم فقال : {إلى الذين خرجوا} أي ممن تقدمكم من الأمم {من ديارهم} التي ألفوها وطال ما تعبوا حتى توطنوها لما وقع فيها مما لا طاقة لهم به على الموت {وهم ألوف} أي كثيرة جداً تزيد على العشرة بما أفهمه جمع التكثير.
قال الحرالي : فيه إشعار بأن تخوفهم لم يكن من نقص عدد وإنما كان من جزع أنفس فأعلم سبحانه وتعالى أن الحذر لا ينجي من القدر وإنما ينجى منه كما قال النبي صلى الله عليه وسلم الدعاء " إن الدعاء ليلقي القدر فيعتلجان إلى يوم القيامة " انتهى.
{حذر الموت} فراراً من طاعون وقع في مدينتهم أو فراراً من عدو دعاهم نبيهم إلى قتاله - على اختلاف الرواية - ظناً منهم أن الفرار ينجيهم.
ودل سبحانه وتعالى على أن موتهم كان كنفس واحدة بأن جعلهم كالمأمور الذي لم يمكنه التخلف عن الامتثال بقوله مسبباً عن خروجهم على هذا الوجه : {فقال لهم الله} أي الذي لا يفوته هارب ولا يعجزه طالب لأن له الكمال كله {موتوا} أي فماتوا أجمعون موت نفس واحدة لم ينفعهم حذرهم ولا صد القدر عنهم علمهم بالأمور وبصرهم إعلاماً بأن من هاب القتال حذر الموت لم يغنه حذره مع ما جناه من إغضاب ربه ومن أقدم عليه لم يضره إقدامه مع ما فاز به من مرضاة مولاه.
(7/266)
قال الحرالي : في إشعاره إنباء بأن هذه الإماتة إماتة تكون بالقول حيث لم يقل : فأماتهم الله ، فتكون إماتة حاقة لا مرجع منها ، ففيه إبداء لمعنى تدريج ذات الموت في أسنان متراقية من حد ضعف الأعضاء والقوى بالكسل إلى حد السنة إلى حد النوم إلى حد الغشي إلى حد الصعق إلى حد هذه الإماتة بالقول إلى حد الإماتة الآتية على جملة الحياة التي لا ترجع إلا بعد البعث وكذلك الإماتة التي يكون عنها تبدد الجسم مع بقائه على صورة أشلائه أشد إتياناً على الميت من التي لا تأتي على أعضائه " إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء والشهداء والعلماء والمؤذنين " فكما للحياة أسنان من حد ربو الأرض إلى حد حياة المؤمن إلى ما فوق ذلك من الحياة كذلك للموت أسنان بعدد أسنان الحياة مع كل سن حياة موت إلى أن ينتهي الأمر إلى الحي الذي لا يموت {وأن إلى ربك المنتهى} [ النجم : 42 ] ، فبذلك يعلم ذو الفهم أن ذلك توطئة لقوله : {ثم أحياهم} وفي كلمة {ثم} إمهال إلى ما شاء الله - انتهى.
(7/267)
وجعل سبحانه وتعالى ذلك تقريراً له صلى الله عليه وسلم بالرؤية إما لأنه كشف له عنهم في الحالتين وإما تنبيهاً على أنه في القطع بإخبار الله تعالى له على حالة هي كالرؤية لغيره تدريباً لأمته ؛ ولعل في الآية حضاً على التفضل بالمراجعة من الطلاق كما تفضل الله على هؤلاء بالإحياء بعد أن أدبهم بالإماتة وختم ما قبلها بالإقامة في مقام الترجي للعقل فيه إشارة إلى أن الخارجين من ديارهم لهذا الغرض سفهاء فكأنه قيل : لتعقلوا فلا تكونوا كهؤلاء الذين ظنوا أن فرارهم ينجيهم من الله بل تكونون عالمين بأنكم أينما كنتم ففي قبضته وطوع مشيئته وقدرته فيفيدكم ذلك الإقدام على ما كتب عليكم مما تكرهونه من القتال ، أو يقال : ولما كان المتوفى قد يطلق زوجه في مرض موته فراراً من إرثها وقد يخص بعض وارثيه مما يضار به غيره وقد يحتال على المطلقة ضراراً بما يمنع حقها ختم آية الوفاة عن الأزواج والمطلقات بترجية العقل بمعنى أنكم إذا عقلتم لم تمنعوا أحداً من فضل الله الذي آتاكم علماً منكم بأنه تعالى قادر على أن يمنع المراد إعطاؤه ويمنح المراد منعه بأسباب يقيمها ودواعي يخلقها أو يشفي فاعل ذلك من مرضه ثم يسلبه فضله فيفقره بعد غناه ويضعفه بعد قواه ، فإنه لا ينفع من قدره حذر ، ولا يدفع مراده كيد ولا حيل وإن كثر العدد وجل المدد ، {ألم تر} إلى أن قال : {إن الله} أي الذي له الإحاطة بالجلال والإكرام {لذو فضل} {على الناس} أي عامة فليذكر كل واحد ما له عليه من الفضل ، وليرغبوا في العفو عمن يرون أن منعه عدل لأن ذلك أقرب إلى الشكر وأبعد عن الكفر ، فطلاق الفار إخراج الزوجة عن دائرة عصمته حذراً من إماتة ماله بأخذ ما يخصها منه وخروج الزوج عن دائرة النكاح حذراً من موت مقيد بكونها في عصمته وخروج الألوف من دار الإقامة حذراً من موت مطلق ، ومن المناسبات البديعة أنه لما كانت حقيقة حال العرب أنهم انتقلوا بعد أبيهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام(7/268)
والتابعين له بإحسان من ضيق دار العلم والإيمان حذراً من هلاك الأبدان بتكاليف الأديان إلى قضاء الشهوات والعصيان فوقعوا في موت الجهل والكفران فلما نزل عليهم القرآن وكان أكثر هذه السورة في الرد على أهل الكتاب وكرر فيها هداية العرب من الكفر والجهل بكلمة الإطماع في غير موضع نحو {ولأتم نعمتي عليكم ولعلكم تهتدون} [ البقرة : 150 ] {لعلكم تتقون} [ البقرة : 21 ] {لعلهم يرشدون} [ البقرة : 186 ] {لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة} [ البقرة : 219 ، 220 ] وغير ذلك إلى أن ختم هذه الآيات بترجي العقل وكان أهل الكتاب قد اشتد حسدهم لهم بجعل النبي الذي كانوا ينتظرونه منهم وكان الحاسد يتعلق في استبعاد الخير عن محسوده بأدنى شيء كانوا كأنهم قالوا : أيحيي هؤلاء العرب على كثرتهم وانتشارهم في أقطار هذه الجزيرة من موت الكفر والجهل بالإيمان والعلم بعد أن تمادت بهم فيهما الأزمان وتوالت عليهم الليالي والأيام حتى عتوا فيهما وعسوا ومردوا عليهما وقسوا ؟ فأجيبوا بنعم وما استبعدتموه غير بعيد ، فقالوا : فإن كان لله بهم عناية فلم تركهم يجهلون ويكفرون بعد ما شرع لهم أبوهم إسماعيل عليه الصلاة والسلام دين أبيه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ؟ فأجيبوا بأنه فعل بهم ذلك لذنب استحقوه لحكمة اقتضاها سابق علمه ثم ذكّرهم قدرته في مثل ذلك من العقوبة واللطف بما هم به عالمون فقال تعالى مخاطباً لنبيه صلى الله عليه وسلم والمراد هم - كما يقال : الكلام لك واسمعي يا جارة - {ألم تر} ويجوز أن يكون الخطاب لكل فاهم أي تعلم بقلبك أيها السامع علماً هو كالرؤية ببصرك لما تقدم من الأدلة التي هي أضوأ من الشمس على القدرة على البعث ويؤيد أنه لمح فيه الإبصار تعديته بإلى في قوله : {إلى الذين خرجوا} وقال : {فقال لهم الله} أي الذي له العظمة كلها عقوبة لهم بفرارهم من أمره {موتوا ثم أحياهم} بعد أن تطاول عليهم الأمد وتقادم بهم الزمن كما أفهمه العطف بحرف(7/269)
التراخي تفضلاً منه ، فكما تفضل على أولئك بحياة أشباههم بعد عقوبتهم بالموت فهو يتفضل على هؤلاء بحياة أرواحهم من موت الكفر والجهل إظهاراً لشرف نبيهم صلى الله عليه وسلم ، ثم علل ذلك بقوله : {إن الله} أي الذي له العظمة كلها بما له من الجلال والعظمة والكمال {لذو فضل} أي عظيم {على الناس} أي كافة مطيعهم وعاصيهم.
قال الحرالي : بما ينسبهم تارة إلى أحوال مهوية ثم ينجيهم منها إلى أحوال منجية بحيث لو أبقى هؤلاء على هذه الإماتة ومن لحق بسنتهم من بعدهم لهلكت آخرتهم كما هلكت دنياهم ولكن الله سبحانه وتعالى أحياهم لتجدد فضله عليهم - انتهى.
كما تفضل عليكم يا بني إسرائيل بأن أحياكم من موت العبودية وذلك الذل بعد أن كان ألزمكموه بذنوبكم دهوراً طويلة وكما تفضل عليكم أيها العرب بقص مثل هذه الأخبار عليكم لتعتبروا {ولكن أكثر الناس} كرر الإظهار ولم يضمر ليكون أنص على العموم لئلا يدعي مدع أن المراد بالناس الأول أهل زمان ما فيخص الثاني أكثرهم {لا يشكرون} وذلك تعريض ببني إسرائيل في أنهم لم يشكروه سبحانه وتعالى في الوفاء بمعاهدته لهم في اتباع هذا النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام ، وفي هذا الأسلوب بعد هذه المناسبات إثبات لقدرته سبحانه وتعالى على الإعادة وجرّ لمنكر ذلك إلى الحق من حيث لا يشعر.
قال الحرالي : والشكر ظهور باطن الأمر على ظاهر الخلق بما هو باطن فمن حيث إن الأمر كله لله قسراً فالشكر أن يبدو الخلق كله بالله شكراً ، لأن أصل الشكور الدابة التي يظهر عليها ما تأكله سمناً وصلاحاً ، فمن أودع خلق أمر لم يبد على خلقه فهو كفور.
(7/270)
فلما أودعه سبحانه وتعالى في ذوات الأشياء من معرفته وعلمه وتكبيره كان من لم يبد ذلك على ظاهر خلقه كفوراً ، ومن بدا ما استسر فيه من ذلك شكوراً ، وليس من وصف الناس ذلك لترددهم بين أن يكون البادي عليهم عندهم تارة من الله سبحانه وتعالى وتارة من أنفسهم وممن دون الله ممن اتخذوه أولياء على حد كفر أو هوى أو بدعة أو خطيئة وعلى حد رين كسبهم على قلوبهم ، ففي اعتبار هذه الآية تحذير لهذه الأمة من أن يحذروا الموت.
قال بعض التابعين رضي الله تعالى عنهم : لقد رأينا أقواماً يعنون من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الموت إلى أحدهم أشهى من الحياة عندكم اليوم ؛ وإنما ذلك لما تحققوا من موعود الآخرة حتى كأنهم يشاهدونه فهان عليهم الخروج من خراب الدنيا إلى عمارة آخرتهم - انتهى.
وما أحسن الرجوع إلى قصص الأقدمين والالتفات إلى قوله : {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} [ البقرة : 216 ] على هذا الوجه وهؤلاء الذين أماتهم الله ثم أحياهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 462 ـ 466}
فائدة
قال الفخر :
اعلم أن الرؤية قد تجىء بمعنى رؤية البصيرة والقلب ، وذلك راجع إلى العلم ، كقوله : {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [ البقرة : 128 ] معناه : علمنا ، وقال : {لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَا أَرَاكَ الله} [ النساء : 105 ] أي علمك ، ثم إن هذا اللفظ قد يستعمل فيما تقدم للمخاطب العلم به ، وفيما لا يكون كذلك فقد يقول الرجل لغيره يريد تعريفه ابتداء : ألم تر إلى ما جرى على فلان ، فيكون هذا ابتداء تعريف ، فعلى هذا يجوز أن يكون النبي صلى الله عليه وسلم لم يعرف هذه القصة إلا بهذه الآية ، ويجوز أن نقول : كان العلم بها سابقاً على نزول هذه الآية ، ثم إن الله تعالى أنزل هذه الآية على وفق ذلك العلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 137 ـ 138}
وقال ابن عاشور :
(7/271)
واعلم أن تركيب ( ألم تر إلى كذا ) إذا جاء فعل الرؤية فيه متعدياً إلى ما ليس من شأن السامع أن يكون رآه ، كان كلاماً مقصوداً منه التحريض على علم ما عدي إليه فعل الرؤية ، وهذا مما اتفق عليه المفسرون ولذلك تكون همزة الاستفهام مستعملة في غير معنى الاستفهام بل في معنى مجازي أو كنائي ، من معاني الاستفهام غير الحقيقي ، وكان الخطاب به غالباً موجهاً إلى غير معين ، وربما كان المخاطب مفروضاً متخيلاً.
ولنا في بيان وجه إفادة هذا التحريض من ذلك التركيب وجوه ثلاثة :
الوجه الأول : أن يكون الاستفهام مستعملاً في التعجب أو التعجيب ، من عدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية ، ويكون فعل الرؤية علمياً من أخوات ظن ، على مذهب الفراء وهو صواب ؛ لأن إلى ولام الجر يتعاقبان في الكلام كثيراً ، ومنه قوله تعالى : {والأمر إليك} [ النمل : 33 ] أي لك وقالوا : {أحمد الله إليك} كما يقال : {أحمد لك الله} والمجرور بإلى في محل المفعول الأول ، لأن حرف الجر الزائد لا يطلب متعلقاً ، وجملة {وهم ألوف} في موضع الحال ، سادة مسد المفعول الثاني ، لأن أصل المفعول الثاني لأفعال القلوب أنه حال ، على تقدير : ما كان من حقهم الخروج ، وتفرع على قوله : {وهم ألوف} قوله : {فقال لهم الله موتوا} فهو من تمام معنى المفعول الثاني أو تجعل ( إلى ) تجريداً لاستعارة فعل الرؤية لمعنى العلم ، أو قرينة عليها ، أو لتضمين فعل الرؤية معنى النظر ، ليحصل الادعاء أن هذا الأمر المدرك بالعقل كأنه مدرك بالنظر ، لكونه بين الصدق لمن علمه ، فيكون قولهم : {ألم تر إلى كذا} في قوله : جملتين : ألم تعلم كذا وتنظر إليه.
الوجه الثاني : أن يكون الاستفهام تقريرياً فإنه كثر مجيء الاستفهام التقريري في الأفعال المنفية ، مثل : {ألم نشرح لك صدرك} [ الشرح : 1 ] {ألم تعلم أن الله على كل شيء قدير} [ البقرة : 106 ].
(7/272)
والقول في فعل الرؤية وفي تعدية حرف ( إلى ) نظير القول فيه في الوجه الأول.
الوجه الثالث : أن تجعل الاستفهام إنكارياً ، إنكاراً لعدم علم المخاطب بمفعول فعل الرؤية والرؤية علمية ، والقول في حرف ( إلى ) نظير القول فيه على الوجه الأول ، أو أن تكون الرؤية بصرية ضمن الفعل معنى تنظر على أن أصله أن يخاطب به من غفل عن النظر إلى شيء مبصر ويكون الاستفهام إنكارياً : حقيقة أو تنزيلاً ، ثم نقل المركب إلى استعماله في غير الأمور المبصرة فصار كالمثل ، وقريب منه قول الأعشى :
ترى الجود يجري ظاهراً فوق وجهه
واستفادة التحريض ، على الوجوه الثلاثة إنما هي من طريق الكناية بلازم معنى الاستفهام لأن شأن الأمر المتعجب منه أو المقرر به أو المنكور علمه ، أن يكون شأنه أن تتوافر الدواعي على علمه ، وذلك مما يحرض على علمه.
واعلم أن هذا التركيب جرى مجرى المثل في ملازمته لهذا الأسلوب ، سوى أنهم غيروه باختلاف أدوات الخطاب التي يشتمل عليها من تذكير وضده ، وإفراد وضده ، نحو ألم ترَيْ في خطاب المرأة وألم تريا وألم تروا وألم ترين ، في التثنية والجمع هذا إذا خوطب بهذا المركب في أمر ليس من شأنه أن يكون مبصراً للمخطاب أو مطلقاً. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 476 ـ 477}
قال الفخر :
هذا الكلام ظاهره خطاب مع النبي صلى الله عليه وسلم إلا أنه لا يبعد أن يكون المراد هو وأمته ، إلا أنه وقع الابتداء بالخطاب معه ، كقوله تعالى : {ياأيها النبى إِذَا طَلَّقْتُمُ النساء فَطَلّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ} [ الطلاق : 1 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 138}
فائدة
قال الفخر :
(7/273)
دخول لفظة {إلى} في قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين} يحتمل أن يكون لأجل أن {إلى} عندهم حرف للانتهاء كقولك : من فلان إلى فلان ، فمن علم بتعليم معلم ، فكأن ذلك المعلم أوصل ذلك المتعلم إلى ذلك المعلوم وأنهاه إليه ، فحسن من هذا الوجه دخول حرف {إلى} فيه ، ونظيره قوله تعالى : {أَلَمْ تَرَ إلى رَبّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل} [ الفرقان : 45 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 138}
قوله تعالى : {إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم}
فصل
قال الفخر :
أما قوله : {إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم} ففيه روايات أحدها : قال السدي : كانت قرية وقع فيها الطاعون وهرب عامة أهلها ، والذين بقوا مات أكثرهم ، وبقي قوم منهم في المرض والبلاء ، ثم بعد ارتفاع المرض والطاعون رجع الذين هربوا سالمين ، فقال من بقي من المرضى : هؤلاء أحرص منا ، لو صنعنا ما صنعوا لنجونا من الأمراض والآفات ، ولئن وقع الطاعون ثانياً خرجنا فوقع وهربوا وهم بضعة وثلاثون ألفاً ، فلما خرجوا من ذلك الوادي ، ناداهم ملك من أسفل الوادي وآخر من أعلاه : أن موتوا ، فهلكوا وبليت أجسامهم ، فمر بهم نبي يقال له حزقيل ، فلما رآهما وقف عليهم وتفكر فيهم فأوحى الله تعالى إليه أتريد أن أريك كيف أحييهم ؟ فقال نعم فقيل له : ناد أيتها العظام إن الله يأمرك أن تجتمعي ، فجعلت العظام يطير بعضها إلى بعض حتى تمت العظام ثم أوحى الله إليه : ناد يا أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً ودماً ، فصارت لحماً ودماً ، ثم قيل : ناد إن الله يأمرك أن تقومي فقامت ، فلما صاروا أحياء قاموا ، وكانوا يقولون : "سبحانك ربنا وبحمدك لا إله إلا أنت" ثم رجعوا إلى قريتهم بعد حياتهم ، وكانت أمارات أنهم ماتوا ظاهرة في وجوههم ثم بقوا إلى أن ماتوا بعد ذلك بحسب آجالهم.
(7/274)
الرواية الثانية : قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن ملكاً من ملوك بني إسرائيل أمر عسكره بالقتال ، فخافوا القتال وقالوا لملكهم : إن الأرض التي نذهب إليها فيها الوباء ، فنحن لا نذهب إليها حتى يزول ذلك الوباء ، فأماتهم الله تعالى بأسرهم ، وبقوا ثمانية أيام حتى انتفخوا ، وبلغ بني إسرائيل موتهم ، فخرجوا لدفنهم ، فعجزوا من كثرتهم ، فحظروا عليهم حظائر ، فأحياهم الله بعد الثمانية ، وبقي فيهم شيء من ذلك النتن وبقي ذلك في أولادهم إلى هذا اليوم ، واحتج القائلون بهذا القول بقوله تعالى عقيب هذه الآية {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله} [ البقرة : 244 ].
والرواية الثالثة : أن حزقيل النبي عليه السلام ندب قومه إلى الجهاد فكرهوا وجبنوا ، فأرسل الله عليهم الموت ، فلما كثر فيهم خرجوا من ديارهم فراراً من الموت ، فلما رأى حزقيل ذلك قال : اللهم إله يعقوب وإله موسى ترى معصية عبادك فأرهم آية في أنفسهم تدلهم على نفاذ قدرتك وأنهم لا يخرجون عن قبضتك ، فأرسل الله عليهم الموت ، ثم إنه عليه السلام ضاق صدره بسبب موتهم ، فدعا مرة أخرى فأحياهم الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 138}
وقال ابن عاشور :
وقد اختلف في المراد من هؤلاء الذين خرجوا من ديارهم ، والأظهر أنهم قوم خرجوا خائفين من أعدائهم فتركوا ديارهم جبناً ، وقرينة ذلك عندي قوله تعالى : {وهم ألوف} فإنه جملة حال وهي محل التعجيب ، وإنما تكون كثرة العدد محلاً للتعجيب إذا كان المقصود الخوف من العدو ، فإن شأن القوم الكثيرين ألا يتركوا ديارهم خوفاً وهلعاً والعرب تقول للجيش إذا بلغ الألوف {لا يغلب من قلة.
(7/275)
} فقيل هم من نبي إسرائيل خالفوا على نبي لهم في دعوته إياهم للجهاد ، ففارقوا وطنهم فراراً من الجهاد ، وهذا الأظهر ، فتكون القصة تمثيلاً لحال أهل الجبن في القتال ، بحال الذين خرجوا من ديارهم ، بجامع الجبن وكانت الحالة الشبه بها أظهر في صفة الجبن وأفظع ، مثل تمثيل حال المتردد في شيء بحال من يقدم رجلاً ويؤخر أخرى ، فلا يقال إن ذلك يرجع إلى تشبيه الشيء بمثله ، وهذا أرجح الوجوه لأن أكثر أمثال القرآن أن تكون بأحوال الأمم الشهيرة وبخاصة بني إسرائيل.
أفيح فرماهم الله بداء موت ثمانية أيام ، حتى انتفخوا ونتنت أجسامهم ثم أحياها.
وقيل هم من أهل أذرعات ، بجهات الشام.
واتفقت الروايات كلها على أن الله أحياهم بدعوة النبي حزقيال بن بوزى فتكون القصة استعارة شبه الذين يجبنون عن القتال بالذين يجبنون من الطاعون ، بجامع خوف الموت ، والمشبهون يحتمل أنهم قوم من المسلمين خامرهم الجبن لما دُعوا إلى الجهاد في بعض الغزوات ، ويحتمل أنهم فريق مفروض وقوعه قبل أن يقع ، لقطع الخواطر التي قد تخطر في قلوبهم.
وفي "تفسير ابن كثير" عن ابن جريج عن عطاء أن هذا مثل لا قصة واقعة ، وهذا بعيد يبعده التعبير عنهم بالموصول وقوله : {فقال لهم الله}
وانتصب {حذر الموت} على المفعول لأجله ، وعامله {خرجوا}.
والأظهر أنهم قوم فروا من عدوهم ، مع كثرتهم ، وأخلوا له الديار ، فوقعت لهم في طريقهم مصائب أشرفوا بها على الهلاك ، ثم نجوا ، أو أوبئة وأمراض ، كانت أعراضها تشبه أعراض الموت ، مثل داء السكت ثم برئوا منها فهم في حالهم تلك مثَل قول الراجز :
وخارجٍ أَخرجه حب الطمع
فَرَّ من الموت وفي الموت وقع...
(7/276)
ويؤيد أنها إشارة إلى حادثةٍ وليست مثلاً قولُه : {إن الله لذو فضل على الناس} الآية ويؤيد أن المتحدث عنهم ليسوا من بني إسرائيل قوله تعالى بعد هذه {ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى} [ البقرة : 246 ] والآية تشير إلى معنى قوله تعالى : {أينما تكونوا يدرككم الموت} [ النساء : 78 ] وقوله {قل لو كنتم في بيوتكم لبرز الذين كتب عليهم القتل إلى مضاجعهم} [ آل عمران : 154 ].
فأما الذين قالوا إنهم قوم من بني إسرائيل أحياهم الله بدعوة حزقيال ، والذين قالوا إنما هذا مثَل لا قصةٌ واقعةٌ ، فالظاهر أنهم أرادوا الرؤيا التي ذكرت في كتاب حزقيال في الإصحاح 37 منه إذ قال : "أخرجَني روحُ الرب وأنزلني في وسط بقعة ملآنة عظاماً ومرَّ بي من حولها وإذا هي كثيرة ويابسة فقال لي يابن آدم أتحيا هذه العظام ؟ فقلت يا سيدي أنت تعلم ، فقال لي تنبأْ على هذه العظام وقُل لها أيتها العظام اليابسة اسمعي كلمة الرب ، فتقاربت العظام ، وإذا بالعصَب واللحم كساها وبُسط الجلدُ عليها من فوق وليس فيها روح فقال لي تنبأْ للروح وقل قال الرب هلم يا روح من الرياح الأربععِ وهِبِّ على هؤلاء القتلى فتنبأْتُ كما أمرني فدخل فيهم الروح فحيُوا وقاموا على أقدامهم جيش عظيم جداً جداً" وهذا مثل ضربهُ النبي لاستماتة قومه ، واستسلامهم لأعدائهم ، لأنه قال بعده "هذه العظام وهي كل بيوت إسرائيل هم يقولون يبست عظامنا وهلك رجاؤنا قد انقطعنا فتنبأْ وقل لهم قال السيد الرب هأنذا أفتح قبوركم وأصعدكم منها يا شعبي وآتي بكم إلى أرض إسرائيل وأجعل روحي فيكم فتحيَوْن" فلعل هذا المثل مع الموضع الذي كانت فيه مرائي هذا النبي ، وهو الخابور ، وهو قرب واسط ، هو الذي حدا بعض أهل القصص إلى دعوى أن هؤلاء القوم من أهل دَاوَرْدَان : إذ لعل دَاوَرْدَان كانت بجهات الخابور الذي رأى عنده النبي حزقيال ما رأى. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 477 ـ 479}
(7/277)
قال ابن عطية
وهذا القصص كله لين الأسانيد ، وإنما اللازم من الآية أن الله تعالى أخبر نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أخباراً في عبارة التنبيه والتوقيف ، عن قوم من البشر خرجوا من ديارهم فراراً من الموت ، فأماتهم الله تعالى ثم أحياهم ، ليروا هم وكل من خلف بعدهم أن الإماتة إنما هي بيد الله لا بيد غيره ، فلا معنى لخوف خائف ولاغترار مغتر ، وجعل الله تعالى هذه الآية مقدمة بين يدي أمره المؤمنين من أمة محمد بالجهاد . هذا قول الطبري ، وهو ظاهر رصف الآية ، ولموردي القصص في هذه القصة زيادات اختصرتها لضعفها . أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 328}
وقال أبو حيان :
وقد كثر الاختلاف والزيادة والنقص في هذه القصص ، والله أعلم بصحة ذلك ، ولا تعارض بين هذه القصص ، إلاَّ أن عين أن {الذين خرجوا من ديارهم} هم من ذكر في القصة لا غير ، وإلاَّ فيجوز أن ذكرت كل قصة على سبيل المثال ، إذ لا يمتنع أن يفر ناسٌ من الجهاد ، وناس من الطاعون ، وناس من الحمى ، فيميتهم ثم يحييهم ليعتبروا بذلك ، ويعتبر من يأتي بعدهم ، وليعلموا جميعاً أن الإماتة والإحياء بيد الله ، فلا ينبغي أن يخاف من شيء مقدّر ، ولا يغتر فطن بحيلة أنها تنجيه مما شاء الله. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 259}
قوله تعالى : {وَهُمْ أُلُوفٌ}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَهُمْ أُلُوفٌ} ففيه قولان
الأول : أن المراد منه بيان العدد ، واختلفوا في مبلغ عددهم ، قال الواحدي رحمه الله : ولم يكونوا دون ثلاثة آلاف ، ولا فوق سبعين ألفاً ، والوجه من حيث اللفظ أن يكون عددهم أزيد من عشرة آلاف لأن الألوف جمع الكثرة ، ولا يقال في عشرة فما دونها ألوف.(7/278)
والقول الثاني : أن الألوف جمع آلاف كقعود وقاعد ، وجلوس وجالس ، والمعنى أنهم كانوا مؤتلفي القلوب ، قال القاضي : الوجه الأول أولى ، لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة يفيد مزيد اعتبار بحالهم ، لأن موت جمع عظيم دفعة واحدة لا يتفق وقوعه يفيد اعتباراً عظيماً ، فأما ورود الموت على قوم بينهم ائتلاف ومحبة ، كوروده وبينهم اختلاف في أن وجه الاعتبار لا يتغير ولا يختلف.
ويمكن أن يجاب عن هذا السؤال بأن المراد كون كل واحد منهم آلفاً لحياته ، محباً لهذه الدنيا فيرجع حاصله إلى ما قال تعالى في صفتهم : {وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حياة} [ البقرة : 96 ] ثم إنهم مع غاية حبهم للحياة والفهم بها ، أماتهم الله تعالى وأهلكهم ، ليعلم أن حرص الإنسان على الحياة لا يعصمه من الموت فهذا القول على هذا الوجه ليس في غاية البعد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 138 ـ 139}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {وَهُمْ أُلُوفٌ} قال الجمهور :
هي جمع ألف. قال بعضهم : كانوا ستمائة ألف. وقيل : كانوا ثمانين ألفاً. ابن عباس : أربعين ألفاً. أبو مالك : ثلاثين ألفاً. السدّي : سبعة وثلاثين ألفاً. وقيل : سبعين ألفاً ؛ قاله عطاء ابن أبي رباح. وعن ابن عباس أيضاً أربعين ألفاً ، وثمانية آلاف ؛ رواه عنه ابن جُريج. وعنه أيضاً ثمانية آلاف ، وعنه أيضاً أربعة آلاف ، وقيل : ثلاثة آلاف. والصحيح أنهم زادوا على عشرة آلاف لقوله تعالى : {وَهُمْ أُلُوفٌ} وهو جمع الكثرة ، ولا يقال في عشرة فما دونها أُلوف. (1) أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 231}
____________
(1) الأولى تفويض العلم إلى الله تعالى فى هذه المسألة وما شابهها والمهم الوقوف عند مواطن العبر والعظات فلو كان فى ذكر العدد فائدة هنا لذكره القرآن وحيث لم يذكره يجب التوقف عند إخبار القرآن إلا إذا صحت الأخبار عن الصادق المعصوم صلى الله عليه وسلم. والله أعلم.(7/279)
وقال أبو حيان ـ ولله دره ـ :
{وهم ألوف} في هذا تنبيه على أن الكثرة والتعاضد ، وإن كانا نافعين في دفع الأذيات الدنيوية ، فليسا بمغنيين في الأمور الإلهية.
وهي جملة حالية ، وألوف جمع ألف جمع كثرة ، فناسب أن يفسر بما زاد على عشرة آلاف ، فقيل : ستمائة ألف. وقال عطاء : تسعون ، وقيل : ثمانون ، وقال عطاء أيضاً سبعون وقال ابن عباس : أربعون. وقال أيضاً : بضع وثلاثون. وقال أبو مالك : ثلاثون ، يعنون ألفاً.
وقد فسر بما هو لأدنى العدد استعير لفظ الجمع الكثير للجمع القليل ، فقال أبو روق : عشرة آلاف ، وقال الكلبي ومقاتل : ثمانية ، وقال أبو صالح : سبعة ، وقال ابن عباس ، وابن جبير : أربعة وقال عطاء الخراساني : ثلاثة آلاف.
وقال البغوى : الأَوْلى قول من قال : إنهم كانوا زيادة على عشرة آلاف ، لأن ألوفاً جمع الكثير ، ولا يقال لما دون العشرة الآلاف ألوف. انتهى. وهذا ليس كما ذكر ، فقد يستعار أحد الجمعين للآخر ، وإن كان الأصل استعمال كل واحد منهما في موضوعه.
وهذه التقديرات كلها لا دليل على شيء منها ، ولفظ القرآن : {وهم ألوف} لم ينص على عدد معين ، ويحتمل أن لا يراد ظاهر جمع ألف ، بل يكون ذلك المراد منه التكثير ، كأنه قيل : خرجوا من ديارهم وهم عالم كثيرون ، لا يكادون يحصيهم عادٌّ ، فعبر عن هذا المعنى بقوله : وهم ألوف ، كما يصح أن تقول : جئتك ألف مرة ، لا تريد حقيقة العدد إنما تريد جئتك مراراً كثيرة لا تكاد تحصى من كثرتها ونظير ذلك قول الشاعر : هو المنزل الآلاف من جوّ ناعط... بني أسد حزناً من الأرض أوعرا(7/280)
ولعل من كان معه لم يكن ألوفاً ، فضلاً عن أن يكونوا آلافاً ، ولكنه أراد بذلك التكثير ، لأن العرب تكثر بآلاف وتجمعه ، والجمهور على أن قوله : وهم ألوف ، جمع ألف العدد المعروف الذي هو تكرير مائة عشر مرات ، وقال ابن زيد : ألوف جمع آلف. كقاعد وقعود. أي : خرجوا وهم مؤتلفون لم يخرجهم فرقة قومهم ولا فتنة بينهم ، بل ائتلفوا ، فخالفت هذه الفرقة ، فخرجت فراراً من الموت وابتغاء الحياة ، فأماتهم الله في منجاهم بزعمهم. وقال الزمخشري : وهذا من بدع التفاسير ، وهو كما قال. وقال القاضي : كونه جمع ألف من العدد أولى ، لأن ورود الموت عليهم وهم كثرة عظيمة تفيد مزيد اعتبار ، وأما وروده على قوم بينهم ائتلاف فكوروده وبينهم اختلاف في أن وجه الاعتبار لا يتغير. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 259}
قوله تعالى : {حَذَرَ الموت}
قال الفخر :
أما قوله : {حَذَرَ الموت} فهو منصوب لأنه مفعول له ، أي لحذر الموت ، ومعلوم أن كل أحد يحذر الموت ، فلما خص هذا الموضع بالذكر ، علم أن سبب الموت كان في تلك الواقعة أكثر ، إما لأجل غلبة الطاعون أو لأجل الأمر بالمقاتلة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 139}
فائدة
قال ابن العربى :
الْأَصَحُّ وَالْأَشْهَرُ أَنَّ خُرُوجَهُمْ إنَّمَا كَانَ فِرَارًا مِنْ الطَّاعُونِ ، وَهَذَا حُكْمٌ بَاقٍ فِي مِلَّتِنَا لَمْ يَتَغَيَّرْ.
قَالَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ : سَمِعْت رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : {إذَا سَمِعْتُمْ بِهِ بِأَرْضٍ فَلَا تَقْدَمُوا عَلَيْهِ ، وَإِذَا وَقَعَ بِأَرْضٍ وَأَنْتُمْ بِهَا فَلَا تَخْرُجُوا فِرَارًا مِنْهُ}.
وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِي وَجْهِ الْحُكْمِ فِي ذَلِكَ : أَمَّا الدُّخُولُ فَفِيهِ الْخِلَافُ عَلَى أَرْبَعَةِ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : مَا فِيهِ مِنْ التَّعَرُّضِ لِلْبَلَاءِ ؛ وَذَلِكَ لَا يَجُوزُ فِي حُكْمِ اللَّهِ تَعَالَى فَإِنَّ صِيَانَةَ النَّفْسِ عَنْ كُلِّ مَكْرُوهٍ مَخُوفٍ وَاجِبٌ.
الثَّانِي : إنَّمَا نَهَى عَنْ دُخُولِهِ لِئَلَّا يَشْتَغِلَ عَنْ مُهِمَّاتِ دِينِهِ بِمَا يَكُونُ فِيهِ مِنْ الْكَرْبِ وَالْخَوْفِ ، بِمَا يُرَى مِنْ عُمُومِ الْآلَامِ وَشُمُولِ الْأَسْقَامِ.
الثَّالِثُ : مَا يُخَافُ مِنْ السَّخَطِ عِنْدَ نُزُولِ الْبَلَاءِ بِهِ ، وَذَهَابِ الصَّبْرِ عَلَى مَا يَنْزِلُ مِنْ الْقَضَاءِ.
الرَّابِعُ : مَا يُخَافُ عَلَيْهِ مِنْ سُوءِ الِاعْتِقَادِ ، كَأَنْ يَقُولَ : لَوْلَا دُخُولِي فِي هَذَا الْبَلَدِ لَمَا نَزَلَ بِي مَكْرُوهٌ.
وَأَمَّا الْخُرُوجُ فَإِنَّمَا نُهِيَ عَنْهُ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْمَرْضَى مُهْمَلِينَ مَعَ مَا يَنْتَظِمُ بِهِ مِمَّا تَقَدَّمَ.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 304 ـ 305}
قوله تعالى : {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {فَقَالَ لَهُمُ الله مُوتُواْ} ففي تفسير {قَالَ الله} وجهان
الأول : أنه جار مجرى قوله : {إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَىْء إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ} [ النحل : 40 ] وقد تقدم أنه ليس المراد منه إثبات قول ، بل المراد أنه تعالى متى أراد ذلك وقع من غير منع وتأخير ، ومثل هذا عرف مشهور في اللغة ، ويدل عليه قوله : {ثُمَّ أحياهم} فإذا صح الإحياء بالقول ، فكذا القول في الإماتة.(7/281)