قال ابن عرفة : هذا من باب القلب مثل كسر الزجاج الحجر لأنّ النفس هي الخائنة قال تعالى {إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء} قوله تعالى : {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد... }. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 238}
لطيفة
قال ابن العربي : "وقال علماء الزهد : وكذا فلتكن العناية وشرف المنزلة ، خان نفسه عمر رضي الله عنه فجعلها الله تعالى شريعة ، وخفّف من أجله عن الأمة فرضي الله عنه وأرضاه". أ هـ {أحكام القرآن ـ لابن العربى حـ 1 صـ 129}
قوله تعالى : {فَتَابَ عَلَيْكُمْ }
قال الفخر :
لا بد فيه من إضمار تقديره : تبتم فتاب عليكم فيه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 92}
قوله تعالى : {وَعَفَا عَنكُمْ }
قال البقاعى :
وفي قوله {وعفا عنكم} أي بمحو أثر الذنب إشعار بما كان يستحق ذلك من تطهر منه من نحو كفارة وشبهها. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 352}
قوله تعالى : {فالئن باشروهن }
المناسبة
قال البقاعى : (4/106)
ولما كان ما أعلى إليه خطاب الصوم صوم الشهر على حكم وحدته الآتية على ليلة ونهاره إعلاء عن رتبة الكتب الأول التي هي أيام معدودات مفصول ما بين أيامها بلياليها ليجري النهار على حكم العبادة والليل على حكم الطبع والحاجة فكان في هذا الإعلاء إطعام الضعيف مما يطعمه الله ويسقيه لا لأنّه منه أخذ بطبع بل بأنه حكم عليه حكم بشرع حين جعل الشرعة على حكم طباعهم ، كما قال في الساهي : " إنما أطعمه الله وسقاه " ، وفيه إغناء القوي عن الطعام والشراب كما قال عليه الصلاة والسلام : " إني لست كهيئتكم " ، فكان يواصل ، وأذن في الوصال إلى السحر ، فكما أطعموا وسقوا شرعة مع تمادي حكم الصوم فكذلك أنكحوا شرعة مع تمادي حكمه ، فصار نكاحهم ائتماراً بحكم الله لا إجابة طبع ولا غرض نفس فقال : {فالآن} أي حين أظهر لكم إظهار الشرعة على العلم فيكم وما جبلت عليه طباعكم فسدت عنكم أبواب المخالفة التي فتحت على غيركم {باشروهن} حكماً ، حتى استحب طائفة من العلماء النكاح للصائم ليلاً حيث صار طاعة ، وهو من المباشرة وهي التقاء البشرتين عمداً {وابتغوا} أي اطلبوا بجد ورغبة {ما كتب الله} أي الذي له القدرة الكاملة فلا يخرج شيء عن أمره {لكم} أي من الولد أو المحل الحل ، وفيه إشعار بأن ما قضي من الولد في ليالي رمضان نائل بركة ذرئه على نكاح أمر به حتى كان بعض علماء الصحابة يفطر على النكاح. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 353}
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور :
وقوله تعالى : {فالئن باشروهن} الأمر للإباحة ، وليس معنى قوله {فالئن} إشارة إلى تشريع المباشرة حينئذٍ بل معناه فاللآن اتضح الحكم فباشروهن ولا تختانوا أنفسكم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 183}
قال الفخر :
المباشرة فيها قولان : أحدهما : وهو قول الجمهور : أنها الجماع ، سمي بهذا الاسم لتلاصق البشرتين وإنضمامهما ، ومنها ما روي أنه عليه السلام نهى أن يباشر الرجل الرجل ، والمرأة المرأة(4/107)
الثاني : وهو قول الأصم : أنه الجماع فما دونه وعلى هذا الوجه اختلف المفسرون في معنى قوله : {وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد} فمنهم من حمله على كل المباشرات ولم يقصره على الجماع والأقرب أن لفظ المباشرة لما كان مشتقاً من تلاصق البشرتين لم يكن مختصاً بالجماع بل يدخل فيه الجماع فيما دون الفرج ، وكذا المعانقة والملامسة إلا أنهم إنما اتفقوا في هذه الآية على أن المراد به هو الجماع لأن السبب في هذه الرخصة كان وقوع الجماع من القوم ، ولأن الرفث المتقدم ذكره لا يراد به إلا الجماع إلا أنه لما كان إباحة الجماع تتضمن إباحة ما دونه صارت إباحته دالة على إباحة ما عداه ، فصح ههنا حمل الكلام على الجماع فقط ، ولما كان في الاعتكاف المنع من الجماع لا يدل على المنع مما دونه صلح اختلاف المفسرين فيه ، فهذا هو الذي يجب أن يعتمد عليه ، على ما لخصه القاضي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 92}
قال ابن عادل :
قوله : " فالآنَ بَاشِرُوهُنَّ " قد تقدَّم الكلام على " الآنَ " وفي وقوعه ظرفاً للأمر تأويلٌ ، وذلك أنه للزمن الحاضر ، والأمر مستقبلٌ أبداً ، وتأويله ما قاله أبو البقاء ؛ قال : " وَالآنَ : حقيقته الوقت الذي أنت فيه ، وقد يقع على الماضي القريب منك ، وعلى المستقبل القريب ، تنزيلاً للقريب منزلة الحاضر ، وهو المراد هنا ، لأنَّ قوله : " فَالآنَ بَاشِرُوهِنَّ " ، أي : فالوقتُ الذي كان يُحَرَّمُ عليكُمْ فيه الجماع من اللَّيلِ " ، وقيل : هذا كلامٌ محمولٌ على معناه ، والتقدير : فالآن قد أبَحْنَا لَكُمْ مُبَاشَرَتَهُنَّ ، ودَلَّ على هذا المحذوف لفظ الأمر ، فالآن على حَقِيقَتِهِ. وسمِّي الوِقَاعُ مباشرةً ، لتلاصق البَشَرَتَيْنِ فيه(4/108)
قال ابن العَرَبِيِّ : وهذا يدُلُّ على أنَّ سبب الآية جماعُ عمر ، لا جوع قيس ، لأنه لو كان السَّبب جوع قيسٍن لقال : " فَالآن كُلُوا " ابتداءً به ؛ لأنه المهمُّ الذي نزلت الآية لأجله. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 310}
قوله تعالى : {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ }
قال الفخر :
ذكروا في الآية وجوها
أحدها : وابتغوا ما كتب الله لكم من الولد بالمباشرة أي لا تباشروا لقضاء الشهوة وحدها ، ولكن لابتغاء ما وضع الله له النكاح من التناسل قال عليه السلام : " تناكحوا تناسلوا تكثروا"
وثانيها : أنه نهى عن العزل ، وقد رويت الأخبار في كراهية ذلك وقال الشافعي : لا يعزل الرجل عن الحرة إلا بإذنها ولا بأس أن يعزل عن الأمة وروى عاصم عن زر بن حبيش عن علي رضي الله عنه أنه كان يكره العزل ، وعن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى أن يعزل عن الحرة إلا باذنها وثالثها : أن يكون المعنى : ابتغوا المحل الذي كتب الله لكم وحلله دون ما لم يكتب لكم من المحل المحرم ونظيره قوله تعالى : {فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله} [البقرة : 222] ورابعها : أن هذا التأكيد تقديره : فالآن باشروهن وابتغوا هذه المباشرة التي كتبها لكم بعد أن كانت محرمة عليكم
وخامسها : وهو على قول أبي مسلم : فالآن باشروهن وابتغوا ما كتب الله لكم ، يعني هذه المباشرة التي كان الله تعالى كتبها لكم وإن كنتم تظنوها محرمة عليكم
وسادسها : أن مباشرة الزوجة قد تحرم في بعض الأوقات بسبب الحيض والنفاس والعدة والردة فقوله : {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} يعني لا تباشروهن إلا في الأحوال والأوقات التي أذن لكم في مباشرتهن(4/109)
وسابعها : أن قوله : {فالئن باشروهن} إذن في المباشرة وقوله : {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} يعني لا تبتغوا هذه المباشرة إلا من الزوجة والمملوكة لأن ذلك هو الذي كتب الله لكم بقوله : {إِلاَّ على أزواجهم أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانهم} [المؤمنون : 6] وثامنها : قال معاذ بن جبل وابن عباس في رواية أبي الجوزاء : يعني اطلبوا ليلة القدر وما كتب الله لكم من الثواب فيها إن وجدتموها ، وجمهور المحققين استبعدوا هذا الوجه ، وعندي أنه لا بأس به ، وذلك هو أن الإنسان ما دام قلبه مشتغلا بطلب الشهوة واللذة ، لا يمكنه حينئذ أن يتفرغ للطاعة والعبودية والحضور ، أما إذا قضى وطره وصار فارغاً من طلب الشهوة يمكنه حينئذ أن يتفرغ للعبودية ، فتقدير الآية : فالآن باشروهن حتى تتخلصوا من تلك الخواطر المانعة عن الإخلاص في العبودية ، وإذا تخلصتم منها فابتغوا ما كتب الله من الإخلاص في العبودية في الصلاة والذكر والتسبيح والتهليل وطلب ليلة القدر ، ولا شك أن هذه الرواية على هذا التقدير غير مستبعدة.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 92}
قوله تعالى {كَتَبَ }
قال الفخر :(4/110)
{ كَتَبَ} فيه وجوه أحدها : أن {كَتَبَ} في هذا الموضوع بمعنى جعل ، كقوله : {كَتَبَ فِى قُلُوبِهِمُ الإيمان} [المجادله : 22] أي جعل ، وقوله : {فاكتبنا مَعَ الشاهدين} [آل عمران : 53] {فسأكتبها لّلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف : 156] أي اجعلها وثانيها : معناه قضى الله لكم كقوله : {قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا} [التوبة : 51] أي قضاه ، وقوله : {كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ وَرُسُلِى} [المجادلة : 21] وقوله : {لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل} [آل عمران : 154] أي قضى ، وثالثها : أصله هو ما كتب الله في اللوح المحفوظ مما هو كائن ، وكل حكم حكم به على عباده فقد أثبته في اللوح المحفوظ ورابعها : هو ما كتب الله في القرآن من إباحة هذه الأفعال.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 93}
قوله تعالى : {وَكُلُواْ واشربوا }
قال البقاعى : (4/111)
{ وكلوا واشربوا} كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفطر على رطبات ، " فإن لم يجد فعلى تمرات ، فإن لم يجد حسا حسوات من ماء " وقال : " إن الماء طهور " ، وفي تقديم الأكل إجراء لحكم هذا الشرع على وفق الطبع - انتهى. ولأنه سبب العطش ، ودل على وجوب تبييت النية وجواز تأخير الغسل إلى النهار ، بقوله {حتى} فإن في جعل تبين الفجر غاية لحل المفطرات إيجاباً لمراقبته للكف عنها ، وذلك هو حقيقة النية ، ومن استمر مباشراً إلى الفجر لم يمكنه الاغتسال ليلاً وقال : {يتبين} قال الحرالي : بصيغة يتفعل وهو حيث يتكلف الناظر نظره ، وكأن الطالع ، يتكلف الطلوع ، ولم يقل : يبين ، لأن ذلك يكون بعد الوضوح - انتهى. وفي قوله : {لكم} بيان لأن الأحكام بحسب الظاهر وأن التكليف بما في الوسع {الخيط الأبيض} قال الأصبهاني : وهو أول ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق كالخيط الممدود. وقال الحرالي : فمد إلى غاية انتهاء الليل وتبين حد النهار بأرق ما يكون من مثل الخيط {من الخيط الأسود} قال الأصبهاني : وهو ما يمتد معه من غبش الليل أي البقية من الليل ، وقيل : ظلمة آخر الليل ، شبها بخطين أبيض وأسود. وقال الحرالي : ففيه إنهاض لحسن الاستبصار في ملتقى الليل والنهار حتى يؤتى العبد نور حسن بتبين ذلك على دقته ورقته وقد كان أنزل هذا المثل دون بيان ممثوله حتى أخذ أعرابي ينظر إلى خيطين محسوسين فأنزل {من الفجر} يعني فبين الأبيض ، فأخرجه بذكر المشبه من الاستعارة إلى التشبيه لأن من شرائطها أن يدل عليها الحالة أو الكلام ، وهذه الاستعارة وإن كانت متعارفة عندهم قد نطقت بها شعراؤهم وتفاوضت بها فصحاؤهم وكبراؤهم لم يقتصر عليها ، وزيد في البيان لأنها خفيت على بعض الناس منهم عدي بن حاتم رضي الله تعال عنه ، فلم تكن الآية مجملة ولا تأخر البيان عن وقت الحاجة ، ولو كان الأمر كذلك ما عاب النبي صلى الله عليه وسلم على عدي رضي الله(4/112)
تعالى عنه عدم فهمها.
وقال الحرالي في كتاب له في أصول الفقه بناء على أنها مجملة : والخطاب بالإجمال ممكن الوقوع وليس يلزم العمل به فالإلزام تكليف ما لا يطاق وإلزام العمل يستلزم البيان وإلا عاد ذلك الممتنع ، وتأخير بيان المجمل إلى وقت الإلزام ممكن ، لأن في ذلك تناسب حكمة الوحي المنزل بحكمة العالم المكون ، فإن الإجمال في القرآن بمنزلة نطق الأكوان والبيان فيه بمنزلة تخطيط الصور وذلك ظاهر عند من زاوله ، وحينئذ فلا يقال : خطاب الإجمال عديم الفائدة لأنه يفيد تدريج حكمة التنزيل وتحصيل بركة التلاوة ، وفي الاقتصار على بيانه نمط من فصاحة الخطاب العربي حيث لم يكن فيه ذكر الممثولين اكتفاء بأحدهما عن الآخر ، ففيه تأصيل لأصل البيان من الإفهام حيث لم يقل : من الليل ، كما قال : من الفجر ، اكتفاء بما في الفهم من الذكر ، وفي وقوع المبين إثر غير مثله نمط آخر من فصاحة الخطاب العربي لأن العرب يردون الثالث إلى الأول لا إلى الثاني ليتعلق بالأول في المعنى وينتظم بالثاني في اللفظ فيكون محرز المحل المفهوم راجعاً إلى الأول بالمعنى - انتهى. وأوضح دليل على إيجاب التبييت أمره بالإتمام ، فإنه لما وقع الشروع فيه فالتقدير : فإذا تبين الفجر الذي أمرتم بمراقبته لكونه غاية لما أحل لكم فصوموا أي أمسكوا عن المفطر
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 345}
سؤال : ما الفائدة في ذكرهما {وكلوا واشربوا} ؟
الجواب : الفائدة في ذكرهما أن تحريمهما وتحريم الجماع بالليل بعد النوم ، لما تقدم احتيج في إباحة كل واحد منها إلى دليل خاص يزول به التحريم ، فلو اقتصر تعالى على قوله : {فالئن باشروهن} لم يعلم بذلك زوال تحريم الأكل والشرب ، فقرن إلى ذلك قوله : {وَكُلُواْ واشربوا} لتتم الدلالة على الإباحة.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 93}
قوله تعالى : {حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر }
فائدة
قال الفخر :(4/113)
روي أنه لما نزلت هذه الآية قال عدي بن حاتم أخذت عقالين أبيض وأسود فجعلتهما تحت وسادتي ، وكنت أقوم من الليل فأنظر إليهما ، فلم يتبين لي الأبيض من الأسود ، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته فضحك ، وقال
" إنك لعريض القفا ، إنما ذلك بياض النهار وسواد الليل " ، وإنما قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنك لعريض القفا " لأن ذلك مما يستدل به على بلاهة الرجل ، ونقول : يدل قطعاً على أنه تعالى كنى بذلك عن بياض أول النهار وسواد آخر الليل ، وفيه إشكال وهو أن بياض الصبح المشبه بالخيط الأسود هو بياض الصبح الكاذب ، لأنه بياض مستطيل يشبه الخيط ، فأما بياض الصبح الصادق فهو بياض مستدير في الأفق فكان يلزم بمقتضى هذه الآية أن يكون أول النهار من طلوع الصبح الكاذب وبالإجماع أنه ليس كذلك.
وجوابه : أنه لولا قوله تعالى في آخر هذه الآية : {مِنَ الفجر} لكان السؤال لازماً ، وذلك لأن الفجر إنما يسمى فجراً لأنه ينفجر منه النور ، وذلك إنما يحصل في الصبح الثاني لا في الصبح الأول ، فلما دلت الآية على أن الخيط الأبيض يجب أن يكون من الفجر ، علمنا أنه ليس المراد منه الصبح الكاذب بل الصبح الصادق ، فإن قيل : فكيف يشبه الصبح الصادق بالخيط ، مع أن الصبح الصادق ليس بمستطيل والخيط مستطيل.
وجوابه : أن القدر من البياض الذي يحرم هو أول الصبح الصادق ، وأول الصبح الصادق لا يكون منتشراً بل يكون صغيراً دقيقاً ، بل الفرق بينه وبين الصبح الكاذب أن الصبح الكاذب يطلع دقيقاً ، والصادق يبدو دقيقاً ، ويرتفع مستطيلاً فزال السؤال ، فأما ما حكي عن عدي بن حاتم فبعيد ، لأنه يبعد أن يخفى على مثله هذه الاستعارة مع قوله تعالى : {مِنَ الفجر }. (1) أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 93}
_________________
(1) استبعاد الإمام فخر الدين الرازى لهذه الرواية لا وجه له لأنه مذكور فى البخارى (4509).
أخبرنا موسى بن إسماعيل ، حدثنا أبو عوانة ، عن حُصَين ، عن الشعبي ، عن عَدِيّ قال : أخذ عَدي عقالا أبيض وعقالا أسود ، حتى كان بعض الليل نظر فلم يتبينا. فلما أصبح قال : يا رسول الله ، جعلت تحت وسادتي. قال : "إن وسادك إذًا لعريض ، إنْ كان الخيط الأبيض والأسود تحت وسادتك" والله أعلم(4/114)
وقال الشيخ ابن عاشور :
وقد رويت قصة في فهم بعض الصحابة لهذه الآية وفي نزولها مفرقة ، فروى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم قال : " لما نزلت {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} عمدت إلى عِقال أسود وإلى عقال أبيض فجعلتهما تحت وسادتي فجعلت أنظر في الليل فلا يستبين لي الأبيض من الأسود فغدوت على رسول الله فذكرتُ له ذلك فقال رسول الله : إن وِسادَك لعَرِيض ، وفي رواية : إنك لعَرِيض القفا ، إنما ذلك سواد الليل وبياض النهار ".(4/115)
ورَوَيا عن سهل بن سعد قال نزلت : {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود} ولم ينزل {من الفجر} فكانَ رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجله الخيط الأبيض والخيط الأسود ولم يزل يأْكل حتى تتبين له رؤيتهما فأنزل الله بعدُ {من الفجر} ، فيظهر من حديث سهل بن سعد أن مثل ما عمله عدي بن حاتم قد كان عمله غيره من قبلِه بمدة طويلة ، فإن عَدِياً أَسلَمَ سنة تسع أو سنة عشر ، وصيام رمضان فُرض سنة اثنتين ولا يُعقل أن يبقَى المسلمون سبع أو ثمانيَ سنين في مثل هذا الخطأ ، فمحل حديث سهل بن سعد على أن يكون ما فيه وقع في أول مُدة شرع الصيام ، ومحمل حديث عدي بن حاتم أن عدياً وقع في مثل الخطأ الذي وقع فيه مَن تقدموه ، فإن الذي عند مسلم عن عبد الله بن إدريس عن حصين عن الشعبي عن عدي أنه قال لما نزلت : {حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} الخ فهو قد ذكر الآية مستكملة ، فيتعين أن يكون محمل حديث سهل بن سعد على أن ذلك قد عمله بعض الناس في الصوم المفروض قبلَ فَرْض رمضان أي صومِ عاشوراء أو صوممِ النَّذْر وفي صوم التَّطوع ، فلما نزلت آية فرض رمضان وفيها {من الفجر} علموا أن ما كانوا يعملونه خطأ ، ثم حَدث مثل ذلك لعدي بن حاتم.
وحديث سهل لا شبهة في صحة سنده إلاّ أنه يحتمل أن يكون قوله فيه ولم ينزل {من الفجر} وقوله فأنزل الله بعد ذلك {مِن الفجر} مروياً بالمعنى فجاء راويه بعبارات قلقة غير واضحة ، لأنه لم يقع في "الصحيحين" إلاّ من رواية سعيد بن أبي مريم عن أبي غسان عن أبي حازم عن سهل بن سعد فقال الراوي : "فأنزل بعد أو بعدَ ذلك من الفجر" وكان الأوضح أن يقول فأنزل الله بعدُ : {وكلوا واشربوا} إلى قوله {من الفجر }.(4/116)
وأيّاً ما كان فليس في هذا شيء من تأخير البيان ، لأن معنى الخيط في الآية ظاهر للعرب ، فالتعبير به من قبيل الظاهر لا من قبيل المجمل ، وعدمُ فهم بعضهم المرادَ منه لا يقدح في ظهور الظاهر ، فالذين اشتبه عليهم معنى الخيط الأبيض والخيط الأسود ، فهموا أَشهر معاني الخيط وظَنوا أن قوله : {من الفجر} متعلق بفعل {يتبين} على أن تكون (مِنْ) تعليلية أي يكون تبينه بسبب ضوء الفجر ، فصنعوا ما صنعوا ولذلك قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم "إنّ وسادك لعريض أو إنك لعريض القفا" كناية عن قلة الفِطنة وهي كناية موجهة من جوامع كلمه عليه السلام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 184 ـ 185}
قال ابن عادل :
وقد رُوِيَ أنَّ بعض الصحابة فَعَلَ كَفِعْلِ عَدِيٍّ ، ويروى أن بين قوله {الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود} وبين قوله : {مِنَ الفجر} عاماً كاملاً في النزول.
روي عن سَهْل بْنِ سَعْدٍ ، قال : أُنْزِلَتْ {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود} ولم ينزل قوله : {مِنَ الفجر} وكان رجالٌ إذا أرادوا الصَّوم ، ربط أحدهم في رجليه الخَيْطَ الأبْيَض ، والخَيْط الأَسْود ، ولا يزال يأكل حتى يتبيَّن له رؤيتهما ، فأنزل الله تعالى {مِنَ الفجر} ، فعلموا أنَّه إنما عني اللَّيل والنَّهار. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 313}
فائدة
فصل في صوم الجنب
قال الفخر :
مذهب أبي هريرة والحسن بن صالح بن جني أن الجنب إذا أصبح قبل الاغتسال لم يكن له صوم ، وهذه الآية تدل على بطلان قولهم لأن المباشرة إذا كانت مباحة إلى انفجار الصبح لم يمكنه الاغتسال إلا بعد انفجار الصبح. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 94}
قال ابن عادل :
ويؤيِّده ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم ، أنه كان يدركه الفجر ، وهو جنبٌ من أهله ، ثم يغتسل ويصوم ، والله أعلم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 315}
قال الفخر : (4/117)
زعم الأعمش أنه يحل الأكل والشرب والجماع بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس قياساً لأول النهار على آخره ، فكما أن آخره بغروب القرص ، وجب أن يكون أوله بطلوع القرص ، وقال في الآية أن المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود النهار والليل ، ووجه الشبهة ليس إلا في البياض والسواد ، فإما أن يكون التشبيه في الشكل مراداً فهذا غير جائز لأن ظلمة الأفق حال طلوع الصبح لا يمكن تشبيهها بالخيط الأسود في الشكل ألبتة ، فثبت أن المراد بالخيط الأبيض والخيط الأسود هو النهار والليل ثم لما بحثنا عن حقيقة الليل في قوله : {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل} وجدناها عبارة عن زمان غيبة الشمس بدليل أن الله تعالى سمى ما بعد المغرب ليلاً مع بقاء الضوء فيه فثبت أن يكون الأمر في الطرف الأول من النهار كذلك ، فيكون قبل طلوع الشمس ليلاً ، وأن لا يوجد النهار إلا عند طلوع القرص ، فهذا تقرير قول الأعمش ، ومن الناس من سلم أن أول النهار إنما يكون من طلوع الصبح فقاس عليه آخر النهار ، ومنهم من قال : لا يجوز الإفطار إلا بعد غروب الحمرة ، ومنهم من زاد عليه وقال : بل لا يجوز الإفطار إلا عند طلوع الكواكب ، وهذه المذاهب قد انقرضت ، والفقهاء أجمعوا على بطلانها فلا فائدة في استقصاء الكلام فيها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 94}
فصل
الحنفيَّة تمسَّكوا بهذه الآية الكريمة في أنَّ صوم النَّفل يجب إتمامه بقوله تعالى {أَتِمُّواْ الصيام} والأمر للوجوب فيتناول كُلَّ صيام.
وأجيبوا بأنَّ هذا إنما ورد في بيان أحكام صوم الفرض ؛ بدليل أنَّه - عليه الصَّلاة والسَّلام - قال : " الصائم المتطوِّع أمير نفسه ، إن شاء صام ، وإن شاء أفطر "(4/118)
وعن أمِّ هانىء : أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم دَخَلَ عَلَيْهَا فَدَعَا بِشَرَابِ فَشَرِبَ ، ثُمَّ نَاوَلَهَا ، فَشَرِبَتْ ، فقالت : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَمَا إنِّي كُنْتُ صَائِمَةً ، وَلَكِنْ كَرِهْتُ أن أرُدَّ سُؤْرَكَ ، فقال : " إنْ كَانَ قَضَاءً مِنْ رَمَضَانَ ، فاقْضي مَكَانَهَُ ، وإنْ كَانَ تَطَوُّعاً ، فإن شِئْتِ فاقْضي ، وإنْ شِئْتِ فَلاَ تَقْضِي ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 316 ـ 317}
قوله تعالى : {مِنَ الفجر }
قال الفخر :
وأما {من} قوله تعالى : {مِنَ الفجر} فقيل للتبعيض لأن المعتبر بعض الفجر لا كله ، وقيل للتبيين كأنه قيل : الخيط الأبيض الذي هو الفجر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 94}
قوله تعالى : {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل }
قال الفخر : (4/119)
إن كلمة {إلى} لانتهاء الغاية ، فظاهر الآية أن الصوم ينتهي عند دخول الليل ، وذلك لأن غاية الشيء مقطعه ومنتهاه ، وإنما يكون مقطعاً ومنتهى إذا لم يبق بعد ذلك ، وقد تجيء هذه الكلمة لا للانتهاء كما قوله تعالى : {إِلَى المرافق} [المائدة : 6] إلا أن ذلك على خلاف الدليل ، والفرق بين الصورتين أن الليل ليس من جنس النهار ، فيكون الليل خارجاً عن حكم النهار ، والمرافق من جنس اليد فيكون داخلاً فيه ، وقال أحمد بن يحيى : سبيل إلى الدخول والخروج ، وكلا الأمرين جائز ، تقول : أكلت السمكة إلى رأسها ، وجائز أن يكون الرأس داخلاً في الأكل وخارجاً منه ، إلا أنه لا يشك ذو عقل أن الليل خارج عن الصوم ، إذ لو كان داخلاً فيه لعظمت المشقة ودخلت المرافق في الغسل أخذاً بالأوثق ، ثم سواء قلنا إنه مجمل أو غير مجمل ، فقد ورد الحديث الصحيح فيه ، وهو ما روى عمر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا أقبل الليل من ههنا ، وأدبر النهار من ههنا ، وقد غربت الشمس فقد أفطر الصائم " فهذا الحديث يدل على أن الصوم ينتهي في هذا الوقت. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 95}
وقال البقاعى : (4/120)
{ ثم أتموا} ذلك {الصيام إلى الليل} والتعبير بثم إشارة إلى بعد ما بين طرفي الزمان الذي أحل فيه المفطر. وقال الحرالي : فكان صوم النهار إتماماً لبدء من صوم ليلة فكأنه في الليل صوم ليس بتام لانثلامه للحس وإن كان في المعنى صوماً ، ومن معناه رأى بعض العلماء الشروع في الاعتكاف قبل الغروب لوجه مدخل الليل في الصوم التام بالعكوف وإضافة الليل للنهار في حكم صوم ما وهو في النهار تمام بالمعنى والحس ، وإنما ألزم بإتمام الصوم نهاراً واعتد به ليلاً وجرى فيه الأكل والنكاح بالأمر لأن النهار معاش فكان الأكل فيه أكلاً في وقت انتشار الخلق وتعاطي بعضهم من بعض فيأنف عنه المرتقب ، ولأن الليل سبات ووقت توف وانطماس ، فبدأ فيه من أمر الله ما انحجب ظهوره في النهار ، كأن المُطعم بالليل طاعم من ربه الذي هو وقت تجليه " ينزل ربنا كل ليلة إلى سماء الدنيا " فكأن الطاعم في الليل إنما أطعمه الله وسقاه ، فلم يقدح ذلك في معنى صومه وإن ظهر صورة وقوعه في حسه كالناسي بل المأذون له أشرف رتبة من الناسي - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 355}
وقال العلامة ابن عاشور :
و{ إلى الليل} غاية اختير لها (إلى) للدلالة على تعجيل الفطر عند غروب الشمس لأن إلى لا تمتد معها الغاية بخلاف حتى ، فالمراد هنا مقارنة إتمام الصيام بالليل.
واعلم أن ثم في عطف الجمل للتراخي الرتبي وهو اهتمام بتعيين وقت الإفطار ، لأن ذلك كالبشارة لهم ، ولا التفات إلى ما ذهب إليه أبو جعفر الخباز السمرقندي من قدماء الحنفية من الاستدلال بثم في هاته الآية على صحة تأخير النية عن الفجر احتجاجاً لمذهب أبي حنيفة من جواز تأخير النية إلى الصحوة الكبرى.(4/121)
بناء على أن ثم للتراخي وأن إتمام الصيام يستلزم ابتداءه ، فكأنه قال ثم بعد تبيين الخيطين من الفجر صوموا أو أتموا الصيام إلى الليل فينتج معنى صوموا بعد تراخ عن وقت الفجر وهو على ما فيه من التكلف والمصير إلى دلالة الإشارة الخفيفة غفلة عن معنى التراخي في عطف (ثم) للجمل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 184}
لطيفة
قال القرطبى :
قوله تعالى : {إِلَى الليل} إذا تبيّن الليل سنّ الفطر شرعاً ، أكل أو لم يأكل. قال ابن العربي : وقد سئل الإمام أبو إسحاق الشيرازي عن رجل حلف بالطلاق ثلاثاً أنه لا يُفطر على حار ولا بارد ؛ فأجاب أنه بغروب الشمس مفطرٌ لا شيء عليه ؛ واحتج بقوله صلى الله عليه وسلم : " إذا جاء الليل من ها هنا وأدبر النهار من ها هنا فقد أفطر الصائم " وسئل عنها الإمام أبو نصر بن الصباغ صاحب الشامل فقال : لا بدّ أن يفطر على حار أو بارد. وما أجاب به الإمام أبو إسحاق أوْلى ؛ لأنه مقتضى الكتاب والسُّنة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 328}
بحث نفيس للقرطبى فى النهي عن الوصال
قال رحمه الله : (4/122)
قوله تعالى : {إِلَى الليل} فيه ما يقتضي النهي عن الوصال ؛ إذ الليل غاية الصيام ؛ وقالته عائشة. وهذا موضعٌ اختلف فيه ؛ فمن واصل عبد اللَّه بن الزبير وإبراهيم التَّيْمي وأبو الجوزاء وأبو الحسن الدِّينَوَرِيّ وغيرهم. كان ابن الزبير يواصل سبعاً ، فإذا أفطر شرب السمن والصبر حتى يفتق أمعاءه ، قال : وكانت تيبس أمعاؤه. وكان أبو الجوزاء يواصل سبعة أيام وسبع ليال ولو قَبض على ذراع الرجل الشديد لحطمها. وظاهر القرآن والسُّنة يقتضي المنع ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " إذا غابت الشمس من ها هنا وجاء الليل من ها هنا فقد أفطر الصائم " خرّجه مسلم من حديث عبد اللَّه بن أبي أوْفَى. ونهى عن الوصال ، فلما أَبَوْا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم يوماً ثم يوماً ثم رأوا الهلال فقال : "لو تأخر الهلال لزدتكم" كالمُنَكِّل لهم حين أبَوْا أن ينتهوا. أخرجه مسلم عن أبي هريرة. وفي حديث أنس : "لو مُدّ لنا الشهر لواصلنا وصالاً يَدعُ المتعمِّقون تعمُّقَهم". خرّجه مسلم أيضاً. وقال صلى الله عليه وسلم : " إياكم والوصال إياكم والوصال " تأكيداً في المنع لهم منه ، وأخرجه البخاري. وعلى كراهية الوصال لما ذكرنا ولما فيه من ضعف القُوَى وإنهاك الأبدان جمهور العلماء. وقد حرّمه بعضهم لما فيه من مخالفة الظاهر والتشبه بأهل الكتاب ، قال صلى الله عليه وسلم : " إن فَصلَ ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أَكْلَةُ السَّحَر " خرّجه مسلم وأبو داود. وفي البخاري عن أبي سعيد الخُدْرِيّ أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تواصلوا فأيُّكم أراد أن يواصل فليواصل حتى السَّحَر " قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله ؟ قال : " لست كهيئتكم إني أَبِيتُ لي مُطْعِمٌ يُطعمني وساقٍ يَسقيني " قالوا : وهذا إباحة لتأخير الفطر إلى السحر ، وهو الغاية في الوصال لمن أراده ، ومنعٌ من اتصال يوم بيوم ؛ وبه قال أحمد وإسحاق وابن وهب صاحب مالك.(4/123)
واحتجّ من أجاز الوصال بأن قال : إنما كان النهي عن الوصال لأنهم كانوا حديثي عهد بالإسلام ، فخَشِيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتكلّفوا الوصال وأعلى المقامات فيفتُرُوا أو يضعفوا عما كان أنفع منه من الجهاد والقوّة على العدوّ ، ومع حاجتهم في ذلك الوقت. وكان هو يلتزم في خاصّة نفسه الوصال وأعلى مقامات الطاعات ؛ فلما سألوه عن وصالهم أبدى لهم فارقاً بينه وبينهم ، وأعلمهم أن حالته في ذلك غير حالاتهم فقال : " لستُ مِثلَكم إنّي أَبِيتُ يُطعمني ربّي ويَسقيني " فلما كمل الإيمان في قلوبهم واستحكم في صدورهم ورسخ ، وكثر المسلمون وظهروا على عدوّهم ، واصل أولياء الله وألزموا أنفسهم أعلى المقامات ، والله أعلم.
(4/124)
قلت : ترك الوصال مع ظهور الإسلام وقهر الأعداء أوْلى ، وذلك أرفع الدرجات وأعلى المنازل والمقامات ؛ والدليل على ذلك ما ذكرناه. وأن الليل ليس بزمان صوم شرعي ، حتى لو شرع إنسان فيه الصوم بنيّةٍ ما أثيب عليه ، والنبيّ صلى الله عليه وسلم ما أخبر عن نفسه أنه واصل ، وإنما الصحابة ظنُّوا ذلك فقالوا : إنك تواصل ؛ فأخبر أنه يُطْعَم ويُسْقَى. وظاهر هذه الحقيقة : أنه صلى الله عليه وسلم يُؤتى بطعام الجنَّة وشرابها. وقيل : إن ذلك محمول على ما يرد على قلبه من المعاني واللطائف ، وإذا احتمل اللفظ الحقيقة والمجاز فالأصل الحقيقة حتى يَرِد دليل يزيلها. ثم لما أبَوْا أن ينتهوا عن الوصال واصل بهم وهو على عادته كما أخبر عن نفسه ، وهم على عادتهم حتى يضعفوا ويقلّ صبرهم فلا يواصلوا. وهذه حقيقة التنكيل حتى يدعوا تعمّقهم وما أرادوه من التشديد على أنفسهم. وأيضاً لو تنزّلنا على أن المراد بقوله : "أُطعَم وأُسَقى" المعنى لكان مفطراً حُكماً ؛ كما أن من اغتاب في صومه أو شهد بزور مفطرٌ حُكماً ، ولا فرق بينهما ، قال صلى الله عليه وسلم : " مَن لم يَدَعْ قَولَ الزُّور والعملَ به فليس لله حاجة في أنْ يَدَع طعامَه وشرابَه " وعلى هذا الحدّ ما واصل النبي صلى الله عليه وسلم ولا أمر به ، فكان تركه أولى. وبالله التوفيق.أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 330}
قوله تعالى : {وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد }
المناسبة
قال البقاعى : (4/125)
ولما كان الصوم شديد الملابسة للمساجد والاعتكاف وكانت المساجد مظنة للاعتكاف وكان سبحانه قد أطلق في صدر الآية الإذن في الوطء في جميع الأماكن والأحوال غير حال الصوم خص من سائر الأحوال الاعتكاف ومن الأماكن المساجد فعقب ذلك بأن قال : {ولا تباشروهن} أي في أي مكان كان {وأنتم عاكفون} أي بايتون مقيمون أو معتكفون ، ومدار مادة عكف على الحبس أي وأنتم حابسون أنفسكم لله {في المساجد} عن شهواتها بنية العبادة و{في المساجد} ظرف لعاكفون ، فتحرم المباشرة في الاعتكاف ولو في غير المسجد ، وتقييد الاعتكاف بها لا يفهم صحته في غير مسجد ، فإنه إنما ذكر لبيان الواقع وليفهم حرمة الجماع في المساجد ، لأنه إذا حرم تعظيماً لما هي سبب لحرمته ومصححة له كانت حرمته تعظيماً لها لنفسها أولى ، أو يقال وهو أحسن : لما كان معنى العكوف مطلق الحبس قيده بالمسجد ليفهم خصوص الاعتكاف الذي هو الحبس عبادة ، فصار كأنه قال : وأنتم معتكفون ، هذا معنى المبتدأ والخبر وما تعلق به ، وكأنه جرّد الفعل ليشمل ما إذا كان اللبث في المسجد بغير نية ، والحاصل أنه سبحانه وتعالى سوى بين حال الصوم حال الاعتكاف في المنع من الجماع ، فإن اجتمعا كان آكد ، فإن الاعتكاف من كمال الصوم وذلك على وجه منع من المباشرة في المسجد مطلقاً.
(4/126)
قال الحرالي : وإنما كان العاكف في المسجد مكملاً لصومه لأن حقيقة الصوم التماسك عن كل ما شأن المرء أن يتصرف فيه من بيعه وشرائه وجميع أغراضه فإذا المعتكف المتماسك عن التصرف كله إلاّ ما لا بد له من ضرورته والصائم المكمل صيامه والمتصرف الحافظ للسانه الذي لا ينتصف بالحق ممن اعتدى عليه هو المتمم للصيام ، ومن نقص عن ذلك فانتصف بالحق ممن اعتدى عليه فليس بمتمم للصيام ، فمن أطلق لسانه وأفعاله فليس لله حاجة في أن يدع طعامه وشرابه ، فإذا حقيقة الصوم هو الصوم لا صورته حتى ثبت معناه للأكل ليلاً ونهاراً ، قال صلى الله عليه وسلم : " من صام رمضان وأتبعه بست من شوال فكأنما صام الدهر " وقال صلى الله عليه وسلم : " ثلاثة أيام من كل شهر فذلك صوم الدهر " وكان بعض أهل الوجهة من الصحابة يقول قائلهم : أنا صائم ، ثم يرى يأكل من وقته فيقال له في ذلك فيقول : قد صمت ثلاثة أيام من هذا الشهر ، فأنا صائم في فضل الله مفطر في ضيافة الله ، كل ذلك اعتداد من أهل الأحلام والنُّهى بحقيقة الصوم أكثر من الاعتداد بصورة ظاهرة - انتهى بمعناه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 356 ـ 357}
قال الفخر :
من الأحكام المذكورة في هذه السورة الاعتكاف
قوله تعالى : {وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد}.
اعلم أنه تعالى لما بين الصوم ، وبين أن من حكمه تحريم المباشرة ، كان يجوز أن يظن في الاعتكاف أن حاله كحال الصوم في أن الجماع يحرم فيه نهاراً لا ليلاً ، فبين تعالى تحريم المباشرة فيه نهاراً وليلاً ، فقال : {وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد} ثم في الآية مسائل : (4/127)
المسألة الأولى : قال الشافعي رضي الله عنه : الاعتكاف اللغوي ملازمة المرء للشيء وحبس نفسه عليه ، براً كان أو إثماً ، قال تعالى : {يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ} [الأعراف : 138] والاعتكاف الشرعي : المكث في بيت الله تقرباً إليه ، وحاصله راجع إلى تقييد اسم الجنس بالنوع بسبب العرف ، وهو من الشرائع القديمة ، قال الله تعالى : {أن طَهّرَا بَيْتِىَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين} [البقرة : 125] وقال تعالى : {وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد }.
المسألة الثانية : لو لمس الرجل المرأة بغير شهوة جاز ، لأن عائشة رضي الله عنها كانت ترجل رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو معتكف ، أما إذا لمسها بشهوة ، أو قبلها ، أو باشرها فيما دون الفرج ، فهو حرام على المعتكف ، وهل يبطل بها اعتكافه ؟ للشافعي رحمه الله فيه قولان : الأصح أنه يبطل ، وقال أبو حنيفة ، لا يفسد الاعتكاف إذا لم ينزل ، احتج من قال بالإفساد أن الأصل في لفظ المباشرة ملاقاة البشرتين ، فقوله : {وَلاَ تباشروهن} منع من هذه الحقيقة ، فيدخل فيه الجماع وسائر هذه الأمور ، لأن مسمى المباشرة حاصل في كلها.
فإن قيل : لم حملتم المباشرة في الآية المتقدمة على الجماع ؟
قلنا : لأن ما قبل الآية يدل على أنه هو الجماع ، وهو قوله : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث} وسبب نزول تلك الآية يدل على أنه هو الجماع ، ثم لما أذن في الجماع كان ذلك إذناً فيما دون الجماع بطريق الأولى ، أما ههنا فلم يوجد شيء من هذه القرائن ، فوجب إبقاء لفظ المباشرة على موضعه الأصلي وحجة من قال : إنها لا تبطل الاعتكاف ، أجمعنا على أن هذه المباشرة لا تفسد الصوم والحج ، فوجب أن لا تفسد الاعتكاف لأن الاعتكاف ليس أعلى درجة منهما والجواب : أن النص مقدم على القياس. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 97}
قال ابن عادل : (4/128)
قوله : {وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد} جملةٌ حاليةٌ من فاعل " تُبَاشِرُوهُنَّ " ، والمعنى : " لاَ تُبَاشِرُوهُنَّ " ، وقد نَوَيْتُم الاعتكافَ في المسجد ، وليس المراد النهي عن مباشرتهنَّ في المسجد بقيد الاعتكاف ؛ لأنَّ ذلك ممنوعٌ منه في غير الاعتكاف أيضاً. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 318}
فائدة
قال القرطبيُّ - رحمه الله تعالى - : إذا أتى المعتكف كبيرةً ، بطل اعتكافه ؛ لأنَّ الكبيرة ضدَّ العبادة ، كما أنَّ الحدث ضدَّ الطهارة والصَّلاة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 335}
قوله تعالى : {تِلْكَ حُدُودُ الله }
المناسبة
قال البقاعى :
ولما قدم سبحانه وتعالى ذكر هذه الحرمات ضمن ما قدم في الأحكام أما في المناهي فصريحاً وأما في الأوامر فلزوماً وتقدم فيها لأن حمله سبحانه وتعالى في الأرض محارمه نبه على تعظيمها وتأكيد تحريمها باستئناف قوله مشيراً بأداة البعد : {تلك} أي الأحكام البديعة النظام العالية المرام {حدود الله} وذكر الاسم الأعظم تأكيداً للتعظيم ، وحقيقة الحد الحاجز بين الشيئين المتقابلين ليمنع من دخول أحدهما في الآخر ، فأطلق هنا على الحكم تسمية للشيء باسم جزئه بدلالة التضمن وأعاد الضمير على مفهومه المطابق استخداماً فقال : {فلا تقربوها} معبراً بالقربان ، لأنه في سياق الصوم والورع به أليق ، لأن موضوعه فطام النفس عن الشهوات فهو نهي عن الشبهات من باب " من يرتع حول الحمى يوشك أن يواقعه " فيدخل فيه مقدمات الجماع فالورع تركها. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 357}
فائدة
قال الفخر :
قوله : {تِلْكَ} لا يجوز أن يكون إشارة إلى حكم الاعتكاف لأن الحدود جمع ولم يذكر الله تعالى في الاعتكاف إلا حداً واحداً ، وهو تحريم المباشرة بل هو إشارة إلى كل ما تقدم في أول آية الصوم إلى ههنا على ما سبق شرح مسائلها على التفصيل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 97}
فائدة لغوية(4/129)
قال الليث : حد الشيء مقطعه ومنتهاه قال الأزهري : ومنه يقال للمحروم محدود لأنه ممنوع عن الرزق ويقال للبواب : حداد لأنه يمنع الناس من الدخول وحد الدار ما يمنع غيرها من الدخول فيها ، وحدود الله ما يمنع من مخالفتها والمتكلمون يسمون الكلام الجامع المانع : حداً ، وسمي الحديد : حديداً لما فيه من المنع ، وكذلك إحداد المرأة لأنها تمنع من الزينة إذا عرفت الاشتقاق فنقول : المراد من حدود الله محدوداته أي مقدوراته التي قدرها بمقادير مخصوصة وصفات مضبوطة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 98}
فائدة
قال ابن جزى :
قوله تعالى : {تِلْكَ حُدُودُ الله} أحكامه التي أمر بالوقوف عندها {فلا تقربوها} أي لا تقربوا مخالفتها واستدل بعضهم به على سد الذرائع لأن المقصود النهي عن المخالفة للمحدود لقوله تلك حدود الله فلا تعتدوها ثم نهى هنا عن مقاربة المخالفة سدا للذريعة. أ هـ {التسهيل حـ 1 صـ 72}
إشكالان وجوابهما
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} ففيه إشكالان الأول : أن قوله تعالى : {تِلْكَ حُدُودُ الله} إشارة إلى كل ما تقدم ، والأمور المتقدمة بعضها إباحة وبعضها حظر فكيف قال في الكل {فَلاَ تَقْرَبُوهَا }
والثاني : أنه تعالى قال في آية أخرى : {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة : 229] وقال في آية المواريث {وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} [النساء : 140] وقال ههنا : {فَلاَ تَقْرَبُوهَا} فكيف الجمع بينهما ؟ (4/130)
والجواب عن السؤالين من وجوه : الأول : وهو الأحسن والأقوى أن من كان في طاعة الله والعمل بشرائعه فهو متصرف في حيز الحق ، فنهى أن يتعداه لأن من تعداه وقع في حيز الضلال ، ثم بولغ في ذلك فنهى أن يقرب الحد الذي هو الحاجز بين حيز الحق والباطل ، لئلا يداني الباطل وأن يكون بعيداً عن الطرف فضلاً أن يتخطاه كما قال عليه الصلاة والسلام : " إن لكل ملك حمى وحمى الله محارمه فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه "
الثاني : ما ذكره أبو مسلم الأصفهاني : لا تقربوها أي لا تتعرضوا لها بالتغيير كقوله : {لاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم} [الإسراء : 34 ]
الثالث : أن الأحكام المذكورة فيما قبل وإن كانت كثيرة إلا أن أقربها إلى هذه الآية إنما هو قوله : {وَلاَ تباشروهن وَأَنتُمْ عاكفون فِي المساجد} وقبل هذه الآية قوله : {ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى اليل} وذلك يوجب حرمة الأكل والشرب في النهار ، وقبل هذه الآية قوله : {وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ} وهو يقتضي تحريم مواقعة غير الزوجة والمملوكة وتحريم مواقعتهما في غير المأتي وتحريم مواقعتهما في الحيض والنفاس والعدة والردة ، وليس فيه إلا إباحة الشرب والأكل والوقاع في الليل ، فلما كانت الأحكام المتقدمة أكثرها تحريمات ، لا جرم غلب جانب التحريم فقال : {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا} أي تلك الأشياء التي منعتم عنها إنما منعتم عنها بمنع الله ونهيه عنها فلا تقربوها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 98}
سؤال : لم قال هنا : " فَلاَ تَقْرَبُوهَا " وفي مواضع أُخر : {فَلاَ تَعْتَدُوهَا} [البقرة : 229] ومثله {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} [البقرة : 229] {وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ} [النساء : 14 ](4/131)
الجواب : لأنه غلَّب هنا جهة النهي ؛ إذ هو المعقَّب بقوله : {تِلْكَ حُدُودُ الله} وما كان منهيّاً عن فعله ، كان النهيُّ عن قُرْبِانِهِ أبلغ ، وأمَّا الآياتُ الأُخَرُ ، فجاء " فَلاَ تَعْتَدُوهَا " عَقِيبَ بيان أحكام ذُكِرَتْ قبلُ ؛ كالطلاق ، والعدَّة ، والإيلاء ، والحيض ، والمواريث ؛ فناسب أن ينهى عن التعدِّي فيها ، وهو مجاوزة الحدِّ الذي حدَّه الله تعالى فيها.
أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 322}
وقال ابن عرفة :
قوله تعالى : {فَلاَ تَقْرَبُوهَا...}.
نهى عن القرب لحديث " الراتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه ".
قيل لابن عرفة : تقرر أن اتقاء الشبهات غير واجب بل مستحب ؟
فقال : هي أقسام : مظنون ، ومشكوك فيها ، ومتوهمة ، فالوهم مرجوح ، والظن راجح فينتج وجوب الاجتناب ، والشك فيه خلاف (ومحمل النهي) في الآية على تحريم المظنون والمشكوك فيه وقال في الآية الأخرى : {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} ابن عرفة : يحتمل أن تكون تلك قبل هذه فنهينا أولا عن تعدي الحدود ، ثم نهينا ثانيا عن قربها ؛ أو يكون الأمر الأول للعوام والثاني للخواص. وأجاب أبو جعفر الزبير بأن قرب النساء بالمباشرة يدعو إلى المواقعة فقل من يملك نفسه ، فنهى عن القرب ونظيره : {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ} {وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى} ولذلك منع المحرم من الطيب. فإن قصد البيان العام الفارق بين الحلال والحرام لم ينه عن المقاربة بل عن التعدي فقط ، مثل
{ الطلاق مَرَّتَانِ} إلى قوله {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا} فحرم أموالهم على الأزواج بغير حق ما لم يقع نشوزٌ أو ما يمنع عن القيام بحقوقهم.(4/132)
وأجاب بعضهم بأنّ تلك تقدمها " الطلاق مَرَّتَانِ " وهو أمر مباح ، فناسب النهي عن تعديه لا عن قربه ، وهذه تقدمها النهي عن المباشرة وهو محرم فناسب النهي عن قربه. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 238 ـ 239}
قوله تعالى : {كذلك يبين الله آياته للناس }
المناسبة
قال البقاعى :
ولما علا هذا البيان إلى حد لا يدركه حق إدراكه الإنسان كان كأنه قال دهشاً : هل يحصل بيان مثله لشيء غير هذا ؟ فقيل بياناً للواقع وتشويقاً إلى التلاوة وحثاً على تدبر الكتاب الذي هو الهدى لا ريب فيه : {كذلك} أي مثل هذا البيان العلي الشأن {يبين الله} لما له من العظمة التي لا تحصر بحد ولا تبلغ بعد {آياته} التي يحق لعظمتها أن تضاف إليه وقال : {للناس} إشارة إلى العموم دلالة على تمام قدرته بشمول علمه إلى أن يصل البيان إلى حد لا يحصل فيه تفاوت في أصل الفهم بين غبي وذكي ، وعلل ذلك بقوله : {لعلهم يتقون} أي ليكون حالهم حال من يرجى منه خوف الله تعالى لما علموا من هذا البيان من عظمته ، وأشعر هذا الإبهام أن فيهم من لا يتقي.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 357}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {كذلك يبين الله آياته للناس} ففيه وجوه
أحدها : المراد أنه كما بين ما أمركم به ونهاكم عنه في هذا الموضع ، كذلك يبين سائر أدلته على دينه وشرعه
وثانيها : قال أبو مسلم : المراد بالآيات الفرائض التي بينها كما قال : {سُورَةٌ أنزلناها وفرضناها وَأَنزَلْنَا فِيهَآ ءايات بينات} [النور : 1] ثم فسر الآيات بقوله : {الزانية والزانى} [النور : 2] إلى سائر ما بينه من أحكام الزنا ، فكأنه تعالى قال : كذلك يبين الله للناس ما شرعه لهم ليتقوه بأن يعملوا بما لزم(4/133)
وثالثها : يحتمل أن يكون المراد أنه سبحانه لما بين أحكام الصوم على الاستقصاء في هذه الآية بالألفاظ القليلة بياناً سافياً وافياً ، قال بعده : {كذلك يُبَيّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ} أي مثل هذا البيان الوافي الواضح الكامل هو الذي يذكر للناس ، والغرض منه تعظيم حال البيان وتعظيم رحمته على الخلق في ذكره مثل هذا البيان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 99}
قوله تعالى : {لعلهم يتقون }
قال فى التحرير والتنوير :
وقوله : {لعلهم يتقون} ، أي إرادةً لاتقائهم الوقوع في المخالفة ، لأنه لو لم يبين لهم الأحكام لما اهتدوا لطريق الامتثال ، أو لعلهم يلتبسون بغاية الامتثال والإتيان بالمأمورات على وجهها فتحصل لهم صفة التقوى الشرعية ، إذ لو لم يبين الله لهم لأتوا بعبادات غير مستكملة لما أراد الله منها ؛ وهم وإن كانوا معذورين عند عدم البيان وغير مؤاخذين بإثم التقصير إلاّ أنهم لا يبلغون صفة التقوى أي كمال مصادفة مراد الله تعالى ، فلعل يتقون على هذا منزل منزلة اللازم لا يقدَّر له مفعول مثل {هل يستوى الذين يعلمون} [الزمر : 9] ، وهو على الوجه الأول محذوف المفعول للقرينة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 186 ـ 187}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
أخبر أنه - في الحقيقة - لا يعود إليه عائد من أوصاف الخَلْق ؛ إنْ كُنتَ في العبادة التي هي حق الحق أو في أحكام العادة من صحبة جِنْسِك التي هي غاية النفس والحظ ، فَسِيَّان في حالك إذا أورد فيه الإذن.
نزلت الآية في زَلَّةٍ بَدَرَتْ من الفاروق ، فَجَعَلَ ذلك سببَ رُخْصةٍ لجميع المسلمين إلى القيامة. وهكذا أحكام العناية.(4/134)
ويقال علم أنه لا بُدَّ للعبد عن الحظوظ فقسم الليل والنهار في هذا الشهر بين حقه وحظِّك ، فقال أما حقي {أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ} ، وأما حظك {وَكَلُوا واشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الخَيْطِ الأسْوَدِ مِنَ الفَجْرِ}.
قوله جلّ ذكره : {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِى المَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللهِ فَلاَ تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللهُ آيَاتِهِ للنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ}.
أخبر أن محل القدرة مقدَّس عن اجتلاب الحظوظ ، وقال إذا كنتم مشاغيل بنفوسكم كنتم محجوبين بِكُم فيكم ، وإذا كنتم قائمين بِنَا فلا تعودوا منَّا إليكم.
ويقال غيرة الحق سبحانه على الأوقات أن يُمزَجَ الجدُّ بالهزلِ.
أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 157 ـ 158}
قوله تعالى {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)}
سبب نزول الآية
قال السمرقندى :
هذه الآية نزلت في شأن امرىء القيس بن عباس الكندي وعيدان بن أشوع الحضرمي ، اختصما إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فادعى أحدهما على صاحبه شيئاً ، فأراد الآخر أن يحلف بالكذب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنَّكُمْ تَخْتَصِمُونَ إِلَيَّ وَلَعَلَّ بَعْضَكُمْ أَلْحَنُ بِحُجَّتِهِ مِنْ بَعْضٍ ، فَمَنْ قَضَيْتُ لَهُ بِحَقِّ أَخِيهِ وَأَرَى أَنَّهُ مِنْ حَقِّهِ ، وَأَنَّهُ لا يَرَى أَنَّهُ مِنْ حَقِّهِ فَإِنَّما أَقْضِي لَهُ بِقِطْعَةٍ مِنَ النَّارِ " فنزلت هذه الآية فيهما ، وصارت عامة لجميع الناس. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 152}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى : (4/135)
ولما أذن سبحانه وتعالى فيما كان قد منع منه من المطعم والمنكح للصائم وقدم المنكح لأنه أشهى إذ الطبع إليه أدعى ولأن المنع منه كان في جميع الشهر فالضرر فيه أقوى ، وأتبعه الإذن في الأكل لأنه قوام الجسم وأولاه المنع من النكاح في بعض الأحوال ، فعل كذلك في المال الذي منه الأكل لأنه قد كان مما خان فيه أهل الكتاب عهد كتابهم واشتروا به ثمناً قليلاً كثيراً من أمره لا سيما تحريم الرشوة فإنهم أخفوه واستباحوها حتى صارت بينهم شرعاً متعارفاً وكان طيب المطعم محثوثاً عليه لا سيما في الصوم فنهى عن بعض أسباب تحصيل المال أعم من أن تكون رشوة أو غيرها فقال : {ولا تأكلوا} أي يتناول بعضكم مال بعض ، ولكنه عبر بالأكل لأنه المقصد الأعظم من المال.
ولما كان المال ميالاً يكون في يد هذا اليوم وفي يد غيره غداً فمن صبر وصل إليه ما كتب له مما في يد غيره بالحق ومن استعجل وصل إليه بالباطل فحاز السخط ولم ينل أكثر مما قدر له قال : {أموالكم} وقال : {بينكم} تقبيحاً لهذه المعصية وتهييجاً على الأمر بالمعروف {بالباطل} وهو ما لم يأذن به الله بأي وجه كان سواء كان بأصله أو بوصفه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 358}
وقال فى التحرير والتنوير :
عطف جملة على جملة ، والمناسبة أن قوله : {تلك حدود الله فلا تقربوها} [البقرة : 187] تحذير من الجُرأَة على مخالفة حكم الصيام بالإفطار غير المأذون فيه وهو ضرب من الأكل الحرام فعطف عليه أكل آخر محرم وهو أكل المال بالباطل ، والمشاكلة زادت المناسبةَ قوة ، وهذا من جملة عداد الأحكام المشروعة لإصلاح ما اختل من أحوالهم في الجاهلية ، ولذلك عطف على نظائره وهو مع ذلك أصل تشريع عظيم للأموال في الإسلام.(4/136)
كان أكل المال بالباطل شنشنة معروفة لأهل الجاهلية بل كان أكثر أحوالهم المالية فإن اكتسابهم كان من الإغارة ومن الميسِر ، ومن غصب القوي مال الضعيف ، ومن أكل الأولياء أموال الأيتام واليتامى ، ومن الغرر والمقامرة ، ومن المراباة ونحو ذلك ، وكل ذلك من الباطل الذي ليس عن طيب نفس. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 187}
قال الفخر :
اعلم أنهم مثلوا قوله تعالى : {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم} بقوله : {ولا تلمزوا أَنفُسَكُمْ} [الحجرات : 11] وهذا مخالف لها ، لأن أكله لمال نفسه بالباطل يصح كما يصح أكله مال غيره ، قال الشيخ أبو حامد الغزالي في كتاب الإحياء : المال إنما يحرم لمعنى في عينه أو لحال في جهة اكتسابه.
والقسم الأول : الحرام لصفة في عينه.
واعلم أن الأموال إما أن تكون من المعادن أو من النبات ، أو من الحيوانات ، أما المعادن وهي أجزاء الأرض فلا يحرم شيء منه إلا من حيث يضر بالأكل ، وهو ما يجري مجرى السم ، وأما النبات فلا يحرم منه إلا ما يزيل الحياة والصحة أو العقل ، فمزيل الحياة السموم ، ومزيل الصحة الأدوية في غير وقتها ، ومزيل العقل الخمر والبنج وسائر المسكرات.
وأما الحيوانات فتنقسم إلى ما يؤكل وإلى ما لا يؤكل ، وما يحل إنما يحل إذا ذبح ذبحاً شرعياً ثم إذا ذبحت فلا تحل بجميع أجزائها بل يحرم منها الفرث والدم ، وكل ذلك مذكور في كتب الفقه.(4/137)
القسم الثاني : ما يحرم لخلل من جهة إثبات اليد عليه ، فنقول : أخذ المال إما أن يكون باختيار المتملك ، أو بغير اختياره كالإرث ، والذي باختياره إما أن يكون مأخوذاً من المالك كأخذ المعادن ، وإما أن يكون مأخوذاً من مالك ، وذلك إما أن يؤخذ قهراً أو بالتراضي ، والمأخوذ قهراً إما أن لسقوط عصمة الملك كالغنائم أو لاستحقاق الأخذ كزكوات الممتنعين والنفقات الواجبة عليهم ، والمأخوذ تراضياً إما أن يؤخذ بعوض كالبيع والصداق والأجرة ، وإما أن يؤخذ بغير عوض كالهبة والوصية فيحصل من هذا التقسيم أقسام ستة
الأول : ما يؤخذ من غير مالك كنيل المعادن ، وإحياء الموت ، والاصطياد ، والاحتطاب ، والاستقاء من الأنهار ، والاحتشاش ، فهذا حلال بشرط أن لا يكون المأخوذ مختصاً بذي حرمة من الآدميين
الثاني : المأخوذ قهراً ممن لا حرمة له ، وهو الفيء ، والغنيمة ، وسائر أموال الكفار المحاربين ، وذلك حلال للمسلمين إذا أخرجوا منه الخمس ، وقسموه بين المستحقين بالعدل ، ولم يأخذوه من كافر له حرمة وأمان وعهد
والثالث : ما يؤخذ قهراً باسحقاق عند امتناع من عليه فيؤخذ دون رضاه ، وذلك حلال إذا تم سبب الاستحقاق ، وتم وصف المستحق واقتصر على القدر المستحق
الرابع : ما يؤخذ تراضياً بمعاوضة وذلك حلال إذا روعي شرط العوضين وشرط العاقدين وشرط اللفظين ؛ أعني الإيجاب والقبول مما يعتد الشرع به من اجتناب الشرط المفسد
الخامس : ما يؤخذ بالرضا من غير عوض كما في الهبة والوصية والصدقة إذا روعي شرط المعقود عليه ، وشرط العاقدين ، وشرط العقد ، ولم يؤد إلى ضرر بوارث أو غيره
(4/138)
السادس : ما يحصل بغير اختياره كالميراث ، وهو حلال إذا كان الموروث قد اكتسب المال من بعض الجهات الخمس على وجه حلال ، ثم كان ذلك بعد قضاء الدين ، وتنفيذ الوصايا ، وتعديل القسمة بين الورثة ، وإخراج الزكاة والحج والكفارة إن كانت واجبة ، فهذا مجامع مداخل الحلال ، وكتب الفقه مشتملة على تفاصيلها فكل ما كان كذلك كان مالاً حلالاً ، وكل ما كان بخلافه كان حراماً ، إذا عرفت هذا فنقول : المال إما أن يكون لغيره أو له ، فإن كان لغيره كانت حرمته لأجل الوجوه الستة المذكورة ، وإن كان له فأكله بالحرام أن يصرف إلى شرب الخمر والزنا واللواط والقمار أو إلى السرف المحرم ، وكل هذه الأقسام داخلة تحت قوله : {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُم بالباطل} واعلم أن سبحانه كرر هذا النهي في مواضع من كتابه فقال : {يَأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة} [النساء : 29] وقال : {الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} [النساء : 10] وقال : {يأَيُّهَا الذين ءَامَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِىَ مِنَ الربا إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ} [البقرة : 278] ثم قال : {فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مّنَ الله وَرَسُولِهِ} [البقرة : 279] ثم قال : {وَإِن تُبتُمْ فَلَكُمْ رؤس أموالكم} [البقرة : 279] ثم قال : {وَمَنْ عَادَ فَأُوْلَئِكَ أصحاب النار فِيهَا خالدون} [البقرة : 275] جعل آكل الربا في أول الأمر مؤذناً بمحاربة الله ، وفي آخره متعرضاً للنار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 100 ـ 101}
قال العلامة ابن عاشور : (4/139)
والأكل حقيقته إدخال الطعام إلى المعدة من الفم وهو هنا استعارة للأخذ بقصد الانتفاع دون إرجاع ؛ لأن ذلك الأخذ يشبه الأَكل من جميع جهاته ، ولذلك لا يطلق على إحراق مال الغير اسم الأكل ولا يطلق على القرض والوديعة اسم الأكل ، وليس الأكل هنا استعارة تمثيلية ؛ إذ لا مناسبة بين هيئة آخذ مال غيره لنفسه بقصد عدم إرجاعه وهيئة الأكل كما لا يخفى.
والأموال جمع مال ونُعرِّفه بأنه "ما بقدره يكون قدر إقامة نظام معاش أفراد الناس في تناول الضروريات والحاجيات والتحسينيَّات بحسب مبلغ حضارتهم حاصلاً بكدح" ، فلا يعد الهواء مالاً ، ولا ماء المطر والأودية والبحار مالاً ، ولا التراب مالاً ، ولا كهوف الجبال وظلال الأشجار مالاً ، ويعد الماء المحتفر بالآبار مالاً ، وتراب المقاطع مالاً ، والحشيش والحطب مالاً ، وما ينحته المرء لنفسه في جبللٍ مالاً.
(4/140)
والمالُ ثلاثة أنواع : النوع الأول ما تحصل تلك الإقامة بذاته دون توقف على شيء وهو الأطعمة كالحبوب ، والثمار ، والحيوان لأكله وللانتفاع بصوفه وشعره ولبنه وجلوده ولركوبه قال تعالى : {وجعل لكم من جلود الأنعام بيوتاً تستخفونها يوم ظعنكم ويوم إقامتكم ومن أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين} [النحل : 80] وقال : {لتركبوا منها ومنها تأكلون} [غافر : 79] وقد سمت العرب الإبل مالاً قال زهير : صَحِيحَاتتِ مَاللٍ طَالِعَاتتٍ بمَخْرَم... وقال عمر : " لولا المال الذي أحمل عليه في سبيل الله ما حَمَيْتُ عليهم من بلادهم شبراً " وهذا النوع هو أعلى أنواع الأموال وأثبتها ، لأن المنفعة حاصلة به من غير توقف على أحوال المتعاملين ولا على اصطلاحات المنظمين ، فصاحبه ينتفع به زمن السلم وزمن الحرب وفي وقت الثقة ووقت الخوف وعند رضا الناس عليه وعدمه وعند احتياج الناس وعدمه ، وفي الحديث "يقول ابن آدَمَ مَالِي مَالِي وإنما مالك ما أكلت فأَمريت أو أَعطيتَ فأغنيت" فالحصر هنا للكمال في الاعتبار من حيث النفع المادي والنفع العرضي.
النوع الثاني : ما تحصل تلك الإقامة به وبما يكمله مما يتوقف نفعه عليه كالأرض للزرع وللبناء عليها ، والنار للطبخ والإذابة ، والماء لسقي الأشجار ، وآلات الصناعات لصنع الأشياء من الحطب والصوف ونحو ذلك ، وهذا النوع دون النوع الثاني لتوقفه على أشياء ربما كانت في أيدي الناس فضنت بها وربما حالت دون نوالها موانع من حرب أو خوف أو وعورة طريق.
(4/141)
النوع الثالث : ما تحصل الإقامةُ بعوضه مما اصطلح البشر على جعله عوضاً لما يراد تحصيله من الأشياء ، وهذا هو المعبَّر عنه بالنَّقد أو بالعُمْلة ، وأكثر اصطلاح البشر في هذا النوع على معدني الذهب والفضة وما اصطلح عليه بعض البشر من التعامل بالنحاس والوَدَع والخرزات وما اصطلح عليه المتأخرون من التعامل بالحديد الأبيض وبالأوراق المالية وهي أوراق المصارف المالية المعروفة وهي حجج التزام من المصرف بدفع مقدار ما بالورقة الصادرة منه ، وهذا لا يتم اعتباره إلاّ في أزمنة السلم والأَمن وهو مع ذلك متقارب الأفراد ، والأوراق التي تروجها الحكومات بمقادير مالية يتعامل بها رعايا تلك الحكومات. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 188}
لطيفة
كان شريح القاضي يقول إني لأقضي لك وإني لأظنك ظالماً ولكن لا يسعني إلاّ أن أقضي بما يحضرني من البينة وإن قضائي لا يحل لك حراماً. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 118}
فائدة
المال يشترط فيه أن يكون مكتسباً والاكتساب له ثلاثة طرق :
الطريق الأول : طريق التناول من الأرض قال تعالى : {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة : 29] وقال : {هو الذي جعل لكم الأرض ذلولاً فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه} [الملك : 15] وهذا كالحطب والحشيش والصيد البري والبحري وثمر شجر البادية والعسل ، وهذا قدْ يكون بلا مزاحمة وقد يكون بمزاحمة فيكون تحصيله بالسبق كسكنى الجبال والتقاط الكمأة.
الطريق الثاني : الاستنتاج وذلك بالولادة والزرع والغرس والحلب ، وبالصنعة كصنع الحديد والأواني واللباس والسلاح.(4/142)
الطريق الثالث : التناول من يد الغير فيما لا حاجة له به إما بتعامل بأن يعطيَ المرء ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه غيره ويأخذَ من الغير ما زاد على حاجته مما يحتاج إليه هو ، أو بإعطاء ما جعله الناس علامة على أن مالكه جدير بأن يأخذ به ما قُدِّر بمقداره كدينار ودرهم في شيء مقوَّم بهما ، وإما بقوة وغلبة كالقتال على الأراضي وعلى المياه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 189}
قوله تعالى {بالباطل }
{ الباطل} في اللغة الزائل الذاهب ، يقال : بطل الشيء بطولاً فهو باطل ، وجمع الباطل بواطل ، وأباطيل جمع أبطولة ، ويقال : بطل الأجير يبطل بطالة إذا تعطل واتبع اللهو. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 101}
سؤال : ما معنى أكلها بالباطل ؟
الجواب : معنى أكلها بالباطل أكلُها بدون وجه ، وهذا الأكل مراتب :
المرتبة الأولى : ما علمه جميع السامعين مما هو صريح في كونه باطلاً كالغصب والسرقة والحيلة.
المرتبة الثانية : ما ألحقه الشرع بالباطل فبيَّن أنه من الباطل وقد كان خفياً عنهم وهذا مثل الربا ؛ فإنهم قالوا : {إنَّما البيع مثل الربا} [البقرة : 275] ، ومثل رشوة الحكام ، ومثل بيع الثمرة قبل بدو صلاحها ؛ ففي الحديث : " أرَأَيْتَ إن منع الله الثمرة بم يأخذ أحدكم مال أخيه " والأحاديث في ذلك كثيرة قال ابن العربي : هي خمسون حديثاً.
المرتبة الثالثة : ما استنبطه العلماء من ذلك ، فما يتحقق فيه وصف الباطل بالنظر وهذا مجال للاجتهاد في تحقيق معنى الباطل ، والعلماءُ فيه بين موسع ومضيق مثل ابن القاسم وأشهب مِن المالكية وتفصيله في الفقه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 189}(4/143)
( بصيرة فى الباطل )
وهو مالا ثبات له عند الفحص عنه. وقد يقال ذلك فى الاعتبار إِلى المقال. والفعال ، بطل بُطْلاً ، وبُطُولا وبُطلاناً - بضمّهنّ - : ذهب ضياعاً ، وخَسِرَ ، وأَبطله غيره. وبطل فى حديثه بَطَالة أَى هَزَل (كأَبطل) إِبطالا. وأَبطل أَيضاً : جاءَ بالباطل. والباطل أَيضاً : إِبليس. ومنه قوله : {وَمَا يُبْدِىءُ الْبَاطِلُ}. ورجل بطَّالٌ : ذو باطل بيّن البُطُول. وتبطَّلوا بينهم : تداولوا الباطل. ورجل بَطَل ، وبطَّال ، بيِّن البَطَالة والبُطُولة : شجاع تبطل جراحَته ، فلا يكترث لها ولا يبطلُ نجادته ، أَو تبطل عنده دماءُ الأَقران. والجمع أَبطال. وهى بهاءٍ. وقد بَطُل ككرُمَ ، وتبطَّل. والبُطَّلات : التُرّهات ، وبينهم أُبطولة وإِبطالة : باطل. والبَطَلة : السّحَرة.
والإِبطال يقال فى إِفساد الشئ وإِزالته ، حقّاً كان ذلك الشئ أَو باطلاً. قال تعالى : {لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ}.
وقد جاءَ بمعنى الكذب : {لاَّ يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ} ، {إِذاً لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} ، وبمعنى الإِحباط : {لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى} ، {وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ} وبمعنى الكفر والشّرك : {وَقُلْ جَآءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً} ، وبمعنى الصّنم ، {وَالَّذِينَ آمَنُواْ بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُواْ بِاللَّهِ} أَى بالصّنم ، أَو بإِبليس ، وبمعنى الظُّلم والتعدّى : {وَلاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} أَى بالظُّلم. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 2 صـ 211}
قوله تعالى : {وتدلوا بها إلى الحكام }
المناسبة
قال البقاعى : (4/144)
ولما كان من وجوه أكله بالباطل التوصل بالحاكم بحجة باطلة يعجز الخصم عن دفعها كما قال صلى الله عليه وسلم : " ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على حسب ما أسمع منه ، فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فإنما أقطع له قطعة من النار "
(4/145)
فيكون الإثم خاصاً بالأكل دون الحاكم عطف عليه ما يشاركه فيه الحاكم فقال عاطفاً على {تأكلوا} {وتدلوا} أي ولا تتواصلوا في خفائها {بها إلى الحكام} بالرشوة العمية للبصائر ، من الإدلاء. قال الحرالي وهو من معنى إنزال الدلو خفية في البئر ليستخرج منه ماء فكأن الراشي يدلي دلو رشوته للحاكم خفية ليستخرج جوره ليأكل به مالاً - انتهى. {لتأكلوا فريقاً} أي شيئاً يفرق بينه وبين صاحبه {من أموال الناس} من أي طائفة كانوا {بالإثم} أي الجور العمد ، ومن مدلولاته الذنب وأن يعمل ما لا يحل {وأنتم} أي والحال أنكم {تعلمون} أي من أهل العلم مطلقاً فإن الباطل منهم أشنع ويلزم منه العلم بأن ذلك التوصل لا يفيد الحل ، ولعله إيماء إلى جواز التوصل إلى ماله عند جاحد لم يجد طريقاً إلى خلاصه إلا ذلك. وقال الحرالي في مناسبة هذه الآية لما قبلها : لما كان منزل القرآن لإقامة الأمور الثلاثة التي بها قيام المخاطبين به وهو صلاح دينهم وهو ما بين العبد وربه من عمل أو إلقاء بالسلم إليه وإصلاح دنياهم وهو ما فيه معاش المرء وإصلاح آخرتهم وهو ما إليه معاده كان لذلك منزل القرآن مفصلاً بأحكام تلك الأمور الثلاثة فكان شذرة للدين وشذرة للدنيا وشذرة للآخرة ، فلما كان في صدر هذا الخطاب {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} [البقرة : 168] وهو خطاب للملوك ومن تبعهم من رؤساء القبائل ومن تبعهم انتظم به بعد ذلك حكم من أحكام أهل العلم ومن تبعهم في قوله تعالى : {إن الذين يكتمون} [البقرة : 159] ، ثم انتظم به ذكر الوصية من أهل الجدة ، ثم انتظم به ذكر أحوال الرشى من الراشي والمرتشي ، ليقع نظم التنزيل ما بين أمر في الدين ونهي في الدنيا ليكون ذلك أجمع للقلب في قبول حكم الدنيا عقب حكم الدين ويفهم حال المعاد من عبرة أمر الدنيا ، فلذلك تعتور الآيات هذه المعاني ويعتقب بعضها لبعض ويتفصل بعضها ببعض ، كما هو حال المرء(4/146)
في يومه وفي مدة عمره حيث تعتور عليه أحوال دينه ودنياه ومعاده ، يطابق الأمر الخلق في التنزيل والتطور - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 358 ـ 359}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : الإدلاء مأخوذ من إدلاء الدلو ، وهو إرسالك إياها في البئر للاستقاء يقال.
أدليت دلوي أدليها إدلاء فإذا استخرجتها قلت دلوتها قال تعالى : {فأدلى دَلْوَهُ} [يوسف : 19] ، ثم جعل كل إلقاء قول أو فعل أدلاء ، ومنه يقال للمحتج : أدلى بحجته ، كأنه يرسلها ليصير إلى مراده كإدلاء المستقي الولد ليصل إلى مطلوبه من الماء ، وفلان يدلى إلى الميت بقرابة أو رحم ، إذا كان منتسباً إليه فيطلب الميراث بتلك النسبة ، طلب المستحق بالدلو الماء ، إذا عرفت هذا فنقول : أنه داخل في حكم النهي ، والتقدير : ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل ، ولا تدلوا إلى الحكام ، أي لا ترشوها إليهم لتأكلوا طائفة من أموال الناس بالباطل ، وفي تشبيه الرشوة بالإدلاء وجهان
أحدهما : أن الرشوة رشاء الحاجة ، فكما أن الدلو المملوء من الماء يصل من البعيد إلى القريب بواسطة الرشاء فالمقصود البعيد يصير قريباً بسبب الرشوة
والثاني : أن الحاكم بسبب أخذ الرشوة يمضي في ذلك الحكم من غير تثبت كمضي الدلو في الإرسال ، ثم المفسرون ذكروا وجوهاً
أحدها : قال ابن عباس والحسن وقتادة : المراد منه الودائع وما لا يقوم عليه بينة
وثانيها : أن المراد هو مال اليتيم في الأوصياء يدفعون بعضه إلى الحاكم ليبقى عليهم بعضه
وثالثها : أن المراد من الحاكم شهادة الزور ، وهو قول الكلبي
ورابعها : قال الحسن : المراد هو أن يحلف ليذهب حقه
وخامسها : هو أن يدفع إلى الحاكم رشوة ، وهو أقرب إلى الظاهر ، ولا يبعد أيضاً حمل اللفظ على الكل ، لأنها بأسره أكل بالباطل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 101}
وقال ابن عاشور : (4/147)
وقوله تعالى : {وتدلوا بها إلى الحكام} عطف على {تأكلوا} أي لا تدلوا بها إلى الحكام لتتوسلوا بذلك إلى أكل المال بالباطل. وخص هذه الصورة بالنهي بعد ذكر ما يشملها وهو أَكل الأموال بالباطل ؛ لأن هذه شديدة الشناعة جامعة لمحرمات كثيرة ، وللدلالة على أن معطي الرشوة آثم مع أنه لم يأكل مالاً بل آكلَ غيره ، وجُوز أن تكون الواو للمعية و{تدلوا} منصوباً بأن مضمرة بعدها في جواب النهي فيكون النهي عن مجموع الأمرين أي لا تأكلوها بينكم مُدلين بها إلى الحكام لتأكلوا وهو يفضي إلى أن المنهي عنه في هذه الآية هو الرشوة خاصة فيكون المراد الاعتناء بالنهي عن هذا النوع من أكل الأموال بالباطل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 192}
وقال القرطبى : (4/148)
قوله تعالى : {وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام} الآية. قيل : يعني الوديعة وما لا تقوم فيه بيّنة ؛ عن ابن عباس والحسن. وقيل : هو مال اليتيم الذي في أيدي الأوصياء ، يرفعه إلى الحكام إذا طولب به ليقتطع بعضه وتقوم له في الظاهر حجة. وقال الزجاج : تعملون ما يوجبه ظاهر الأحكام وتتركون ما علمتم أنه الحق. يقال : أدْلَى الرجل بحجّته أو بالأمر الذي يرجو النجاح به ؛ تشبيهاً بالذي يرسل الدَّلو في البئر ؛ يقال : أدْلى دَلْوَه : أرسلها. ودَلاَها : أخرجها. وجمع الدَّلو والدِّلاء : أَدْلٍ ودِلاءٌ ودُليٌّ. والمعنى في الآية : لا تجمعوا بين أكل المال بالباطل وبين الإدلاء إلى الحكام بالحجج الباطلة ؛ وهو كقوله : {وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل وَتَكْتُمُواْ الحق} [البقرة : 42]. وهو من قبيل قولك : لا تأكل السمك وتشرب اللبن. وقيل : المعنى لا تصانعوا بأموالكم الحكامَ وتَرْشوهم ليقضوا لكم على أكثر منها ؛ فالباء إلزاق مجرّد. قال ابن عطية : وهذا القول يترجّح ؛ لأن الحكَام مِظنَّة الرّشاء إلا من عصم وهو الأقل. وأيضاً فإن اللفظين متناسبان : تدلوا من إرسال الدّلو ، والرشوة من الرّشاء ؛ كأنه يمدّ بها ليقضي الحاجة.
قلت : ويقوّى هذا قوله : {وَتُدْلُواْ بِهَا} تدلوا في موضع جزم عطفاً على تأكلوا كما ذكرنا. وفي مصحف أُبَيّ "ولا تدلوا" بتكرار حرف النهي ، وهذه القراءة تؤيّد جزم "تُدْلُوا" في قراءة الجماعة. وقيل : "تدلوا" في موضع نصب على الظرف ، والذي ينصب في مثل هذا عند سيبويه "أنْ" مضمرة. والهاء في قوله "بها" ترجع إلى الأموال ، وعلى القول الأوّل إلى الحجة ولم يجر لها ذكر ؛ فقوى القول الثاني لذكر الأموال ، والله أعلم. في الصحاح : "والرِّشوة معروفة ، والرُّشوة بالضم مثله ، والجمع رُشىً ورِشىً ، وقد رشاه يرشوه. وارتشى : أخذ الرّشوة. واسترشى في حكمه : طلب الرشوة عليه".
(4/149)
قلت : فالحكام اليوم عين الرّشا لا مَظِنّته ، ولا حول ولا قوّة إلا بالله!. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 340}
فائدة لغوية
الضمائر في مثل : {ولا تأكلوا أموالكم} إلى آخر الآية عامة لجميع المسلمين ، وفعل : {ولا تأكلوا} وقع في حَيز النهي فهو عام ، فأفاد ذلك نهياً لِجميع المسلمين عن كُل أَكل وفي جميع الأَمْوال ، قلنا هنا جمعان جمع الآكلين وجمع الأموال المأكولة ، وإذا تقابل جمعان في كلام العرب احتمل أن يكون من مقابلة كل فردٍ من أفراد الجمع بكل فردٍ من أفراد الجمع الآخَر على التوزيع نحو ركب القوم دوابهم وقوله تعالى :
{ وخذوا حذركم} [النساء : 102] {قوا أنفسكم} [التحريم : 6] ، واحتمل أن يكون كذلك لكن على معنى أن كل فرد يقابل بفرد غيره لا بفرد نفسه نحو قوله : {ولا تلمزوا أنفسكم} [الحجرات : 11] وقوله {فإذا دخلتم بيوتاً فسلموا على أنفسكم} [النور : 61] ، واحتمل أن يكون من مقابلة كل فرد بجميع الأفراد نحو قوله : {وقِهم السيئات} [غافر : 9] ، والتعويل في ذلك على القرائن.
وقد علم أن هذين الجمعين هنا من النوع الثاني أي لا يأكل بعضهم مال بعض آخر بالباطل ؛ بقرينة قوله : {بينكم} ؛ لأن بين تقتضي توسطاً خلال طرفين ، فعُلم أن الطرفين آكل ومأكول منه والمال بينهما ، فلزم أن يكون الآكل غيرَ المأكول وإلاّ لما كانت فائدة لقوله : {بينكم }. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 192}
قوله تعالى : {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
قال القرطبى :
{ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ} أي بطلان ذلك وإثمه ، وهذه مبالغة في الجرأة والمعصية. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 340}
وقال ابن عرفة :
قوله تعالى : {وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}.
تنبيها على أنّ الجاهل لايناله ذلك (أو) أنّ ذلك لايقع إلا على هذه الصفة فلا يقع من الجاهل بوجه. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 340}
فائدة
قال الآلوسى : (4/150)
استدل بها على أن حكم القاضي لا ينفذ باطناً فلا يحل به الأخذ في الواقع ، وإلى ذلك ذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه وأبو يوسف ومحمد ، ويؤيده ما أخرجه البخاري ومسلم عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" إنما أنا بشر وإنكم تختصمون إلي ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له على نحو ما أسمع منه فمن قضيت له بشيء من حق أخيه فلا يأخذنه فإنما أقطع له قطعة من النار ". أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 72}
فائدة أخرى
قال القرطبى :
اتفق أهل السُّنة على أن من أخذ ما وقع عليه اسم مالٍ قلّ أو كَثُر أنه يُفَسَّق بذلك ، وأنه محرّم عليه أخذه. خلافاً لبشر بن المعتمر ومن تابعه من المعتزلة حيث قالوا : إن المكلَّف لا يُفَسّق إلا بأخذ مائتي درهم ولا يُفَسَّق بدون ذلك. وخلافاً لابن الجُبّائي حيث قال : إنه يفسّق بأخذ عشرة دراهم ولا يفسّق بدونها. وخلافاً لابن الهذيل حيث قال : يفسّق بأخذ خمسة دراهم. وخلافاً لبعض قدرية البصرة حيث قال : يفسّق بأخذ درهم فما فوق ، ولا يفسّق بما دون ذلك. وهذا كله مردود بالقرآن والسنّة وباتفاق علماء الأمة ، قال صلى الله عليه وسلم : " إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام " الحديث ، متفَق على صحته. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 340 ـ 341}
كلام نفيس للسعدى فى معنى الآية
قال رحمه الله :
أي : ولا تأخذوا أموالكم أي : أموال غيركم ، أضافها إليهم ، لأنه ينبغي للمسلم أن يحب لأخيه ما يحب لنفسه ، ويحترم ماله كما يحترم ماله ؛ ولأن أكله لمال غيره يجرئ غيره على أكل ماله عند القدرة.(4/151)
ولما كان أكلها نوعين : نوعا بحق ، ونوعا بباطل ، وكان المحرم إنما هو أكلها بالباطل ، قيده تعالى بذلك ، ويدخل في ذلك أكلها على وجه الغصب والسرقة والخيانة في وديعة أو عارية ، أو نحو ذلك ، ويدخل فيه أيضا ، أخذها على وجه المعاوضة ، بمعاوضة محرمة ، كعقود الربا ، والقمار كلها ، فإنها من أكل المال بالباطل ، لأنه ليس في مقابلة عوض مباح ، ويدخل في ذلك أخذها بسبب غش في البيع والشراء والإجارة ، ونحوها ، ويدخل في ذلك استعمال الأجراء وأكل أجرتهم ، وكذلك أخذهم أجرة على عمل لم يقوموا بواجبه ، ويدخل في ذلك أخذ الأجرة على العبادات والقربات التي لا تصح حتى يقصد بها وجه الله تعالى ، ويدخل في ذلك الأخذ من الزكوات والصدقات ، والأوقاف ، والوصايا ، لمن ليس له حق منها ، أو فوق حقه.
فكل هذا ونحوه ، من أكل المال بالباطل ، فلا يحل ذلك بوجه من الوجوه ، حتى ولو حصل فيه النزاع وحصل الارتفاع إلى حاكم الشرع ، وأدلى من يريد أكلها بالباطل بحجة ، غلبت حجة المحق ، وحكم له الحاكم بذلك ، فإن حكم الحاكم ، لا يبيح محرما ، ولا يحلل حراما ، إنما يحكم على نحو مما يسمع ، وإلا فحقائق الأمور باقية ، فليس في حكم الحاكم للمبطل راحة ، ولا شبهة ، ولا استراحة.
فمن أدلى إلى الحاكم بحجة باطلة ، وحكم له بذلك ، فإنه لا يحل له ، ويكون آكلا لمال غيره ، بالباطل والإثم ، وهو عالم بذلك. فيكون أبلغ في عقوبته ، وأشد في نكاله.
وعلى هذا فالوكيل إذا علم أن موكله مبطل في دعواه ، لم يحل له أن يخاصم عن الخائن كما قال تعالى : {وَلا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا }.أ هـ {تفسير السعدى صـ 88}
لطيفة
إن الأموال خلقت لمصالح قوام النفس ، وإن النفس خلقت للقيام بمراسم العبودية لقوله {وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون} ليعلموا أن الأموال والأنفس لله فلا يتصرفون فيهما إلا بأمر الله.
أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 376}
لطيفة
يقال الدنيا ثلاثة أشياء حلال وحرام وشبهة فالحرام يوجب العقاب والشبهة توجب العتاب والحلال يوجب الحساب.
روى أن أبا حنيفة كان له على بعض المجوس مال فذهب إلى داره ليطالبه به فلما وصل إلى باب داره وقع نعله على نجاسة فنفض نعله فانقلعت النجاسة عن نعله ووقعت على حائط دار المجوسى فتحير أبو حنيفة رحمه الله وقال إن تركتها كان ذلك شيئا يقبح جدار ذلك المجوسى وإن حككتها أحفر التراب من الحائط فدق الباب فخرجت الجارية فقال لها قولى لمولاك إن أبا حنيفة بالباب فخرج إليه وظن أنه يطالبه بالمال وأخذ يعتذر فقال أبو حنيفة رحمه الله : ههنا ما هو أولى بالاعتذار وذكر قصة الجدار وأنه كيف السبيل إلى التطهير فقال المجوسى فأنا أبدأ بتطهير نفسى فأسلم فى الحال.
والنكتة أن أبا حنيفة لما احترز عن ظلم ذلك المجوسى فى ذلك القدر القليل فلأجل بركة ذلك أسلم المجوسى ونجا من شقاوة الأبد فمن احترز عن الظلم نال سعادة الدارين وإلا فقد وقع فى الخذلان.أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 376}(4/152)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
إذا تحاكمتم إلى المخلوقين فاعلموا أن الله مطلع عليكم ، وعِلْمه محيط بكم ، فراقبوا موضع الاستحياء من الحق سبحانه ، ولئن كان المخلوقون عالمين بالظواهر فالحق - سبحانه وتعالى - متولي بالسرائر. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 158}
قوله تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى
ولما أتم سبحانه وتعالى البيان لما أراده مما شرعه في شهر الصوم ليلاً ونهاراً وبعض ما تبع ذلك وكان كثير من الأحكام يدور على الهلال لا سيما أحد قواعد الإسلام الحج الذي هو أخو الصوم وكانت الأهلة كالحكام توجب أشياء وتنفي غيرها كالصيام والديون والزكوات وتؤكل بها الأموال حقاً أو باطلاً وكان ذكر الشهر وإكمال العدة قد حرك العزم للسؤال عنه بين ذلك بقوله تعالى : {يسئلونك} وجعل ذلك على طريق الاستئناف جواباً لمن كأنه قال : هل سألوا عن الأهلة ؟ فقيل : نعم ، وذلك لتقدم ما يثير العزم إلى السؤال عنها صريحاً فكان سبباً للسؤال عن السؤال عنها ، وكذا ما يأتي من قوله {يسئلونك ماذا ينفقون} [البقرة : 215] {يسئلونك عن الشهر الحرام} [البقرة : 217] {يسئلونك عن الخمر والميسر} [البقرة : 219] بخلاف ما عطف على ما قبله بالواو كما يأتي ، وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة الأنعام ما ينبغي من علم النجوم وما لا ينبغي {عن الأهلة} أي التي تقدم أنه ليس البر تولية الوجه قبل مشارقها ومغاربها : ما سبب زيادتها بعد كونها كالحظ أو الخيط حتى تتكامل وتستوي ونقصها بعد ذلك حتى تدق وتنمحق ؟ قال الحرالي : وهي جمع هلال وهو ما يرفع الصوت عند رؤيته فغلب على رؤية الشهر الذي هو الهلال - انتهى.(4/153)
ولما كان كأنه قيل : ما جوابهم ؟ قيل : {قل} معرضاً عنه لما لهم فيه من الفتنة لأنه ينبني على النظر في حركات الفلك وذلك يجر إلى علم تسيير النجوم وما يتبعه من الآثار التي تقود إلى الكلام في الأحكام المنسوبة إليها فتستدرج إلى الإلحاد وقد ضل بذلك كثير من الأمم السالفة والقرون الماضية فاعتقدوا تأثيرها بذواتها وقد قال عليه الصلاة والسلام ناهياً عن ذلك لذلك : " من اقتبس علماً من النجوم اقتبس باباً من السحر زاد ما زاد " أخرجه أحمد وأبو داود وابن ماجه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ؛ وقال علي رضي الله تعالى عنه : " من طلب علم النجوم تكهن " مرشداً سبحانه وتعالى إلى ما فيه صلاحهم : {هي مواقيت} جمع ميقات من الوقت وهو الحد الواقع بين أمرين أحدهما معلوم سابق والآخر معلوم به لاحق. وقال الأصبهاني : والفرق بين الوقت والمدة والزمان أن المدة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى الزمان ، والزمان مدة مقسومة ، والوقت الزمان المفروض لأمر ما. {للناس} في صومهم كما تقدم ومعاملاتهم ليعلموا عدد السنين والحساب {والحج} صرح به لأنه من أعظم مداخلها. قال الحرالي : وهو حشر العباد إلى الموقف في شهور آخر السنة ، فهو أمر ديني مشعر بختم الزمان وذهابه لما فيه من آية المعاد - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 360}
قال الفخر :
نقل عن ابن عباس أنه قال : ما كان قوم أقل سؤالاً من أمة محمد صلى الله عليه وسلم سألوا عن أربعة عشر حرفاً فأجيبوا.(4/154)
وأقول : ثمانية منها في سورة البقرة أولها : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} [البقرة : 186] وثانيها : هذه الآية ثم الستة الباقية بعد في سورة البقرة ، فالمجموع ثمانية في هذه السورة والتاسع : قوله تعالى في سورة المائدة : {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ} [المائدة : 4] والعاشر : في سورة الأنفال {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} [الأنفال : 1] والحادي عشر : في بني إسرائيل {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح} [الإسراء : 85] والثاني عشر : في الكهف {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين} [الكهف : 83] والثالث عشر : في طه {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال} [طه : 105] والرابع عشر : في النازعات {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة} [النازعات : 42] ولهذه الأسئلة ترتيب عجيب : اثنان منها في الأول في شرح المبدأ فالأول : قوله : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي} [البقرة : 186] وهذا سؤال عن الذات والثاني : قوله : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة} وهذا سؤال عن صفة الخلاقية والحكمة في جعل الهلال على هذا الوجه ، واثنان منها في الآخرة في شرح المعاد أحدهما : قوله : {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال} والثاني : قوله : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مرساها} [الأعراف : 187] ونظير هذا أنه ورد في القرآن سورتان أولهما : {ياأيها الناس} [البقرة : 21] أحدهما : في النصف الأول : وهي السورة الرابعة من سورة النصف الأول ، فإن أولاها الفاتحة وثانيتها البقرة وثالثها آل عمران ورابعتها النساء وثانيتهما : في النصف الثاني من القرآن وهي أيضاً السورة الرابعة من سور النصف الثاني أولاها مريم ، وثانيتها طه ، وثالثتها الأنبياء ، ورابعتها الحج ، ثم {يا أيها الناس} التي في النصف الأول تشتمل على شرح المبدأ فقال {يا أيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} [النساء : 1] و{(4/155)
ياأيها الناس} التي في النصف الثاني تشتمل على شرح المعاد فقال : {ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَىْء عَظِيمٌ} [الحج : 1] فسبحان من له في هذا القرآن أسرار خفية ، وحكم مطوية لا يعرفها إلا الخواص من عبيده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 102}
سؤال : لم جمع الضمير في قوله : {يسألونك} مع أن المروي أن الذي سأله رجلان ؟
الجواب : جمع الضمير في قوله : {يسألونك} مع أن المروي أن الذي سأله رجلان نظراً لأن المسؤول عنه يهم جميع السامعين أثناء تشريع الأحكام ؛ ولأن من تمام ضبط النظام أن يكون المسؤول عنه قد شاع بين الناس واستشرف كثير منهم لمعرفته سواء في ذلك من سأل بالقول ومن سأل في نفسه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 193}
سؤال : لم جمع الأهلة ؟
الجواب : جمع الأهلة إما لتعددها بتعدد الأشهر أو لاختلاف أحواله وإن كان واحدا فهو كالمتعدد. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 341}
فائدة
روي أن معاذ بن جبل وثعلبة بن غنم وكل واحد منهما كان من الأنصار قالا يا رسول الله : ما بال الهلال يبدو دقيقاً مثل الخيط ثم يزيد حتى يمتلىء ويستوي ، ثم لا يزال ينقص حتى يعود كما بدا ، لا يكون على حالة واحدة كالشمس ، فنزلت هذه الآية ويروى أيضاً عن معاذ أن اليهود سألت عن الأهلة.
واعلم أن قوله تعالى : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة} ليس فيه بيان إنهم عن أي شيء سألوا لكن الجواب كالدال على موضع السؤال ، لأن قوله : {قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} يدل على أن سؤالهم كان على وجه الفائدة والحكمة في تغير حال الأهلة في النقصان والزيادة ، فصار القرآن والخبر متطابقين في أن السؤال كان عن هذا المعنى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 102}
فائدة لغوية(4/156)
السؤال : طلب أحدٍ من آخر بذلَ شيء أو إخباراً بخبر ، فإذا كان طلب بذل عُدّي فعل السؤال بنفسه وإذا كان طلب إخبار عدي الفعل بحرف "عن" أو ما ينوب منابه. {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 194}
قال الفخر :
الأهلة جمع هلال وهو أول حال القمر حين يراه الناس ، يقال له : هلال ليلتين من أول الشهر ثم يكون قمراً بعد ذلك ، وقال أبو الهيثم : يسمى القمر ليلتين من أول الشهر هلالاً ، وكذلك ليلتين من آخر الشهر ، ثم يسمى ما بَين ذلك قمراً ، قال الزجاج : فعال يجمع في أقل العدد على أفعلة ، نحو مثال وأمثلة ، وحمار وأحمرة ، وفي أكثر العدد يجمع على فعل مثل حمر لأنهم كرهوا في التضعيف فعل ، نحو هلل وخلل ، فاقتصروا على جمع أدنى العدد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 102}
وقال العلامة الجصاص :
قَوْله تَعَالَى : {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} َإِنَّمَا يُسَمَّى هِلَالًا فِي أَوَّلِ مَا يُرَى وَمَا قَرُبَ مِنْهُ لِظُهُورِهِ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ بَعْدَ خَفَائِهِ ؛ وَمِنْهُ الْإِهْلَالُ بِالْحَجِّ ، وَهُوَ إظْهَارُ التَّلْبِيَةِ ، وَاسْتِهْلَالُ الصَّبِيِّ : ظُهُورُ حَيَاتِهِ بِصَوْتٍ أَوْ حَرَكَةٍ ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : إنَّ الْإِهْلَالَ هُوَ رَفْعُ الصَّوْتِ ، وَإِنَّ إهْلَالَ الْهِلَالِ مِنْ ذَلِكَ لِرَفْعِ الصَّوْتِ بِذِكْرِهِ عِنْدَ رُؤْيَتِهِ ، وَالْأَوَّلُ أَبْيَنُ وَأَظْهَرُ.(4/157)
أَلَا تَرَى أَنَّهُمْ يَقُولُونَ : تَهَلَّلَ وَجْهُهُ : إذَا ظَهَرَ مِنْهُ الْبِشْرُ وَالسُّرُورُ ، وَلَيْسَ هُنَاكَ صَوْتٌ مَرْفُوعٌ ؟ وَقَالَ تَأَبَّطَ شَرًّا وَإِذَا نَظَرْتَ إلَى أَسِرَّةِ وَجْهِهِ بَرَقَتْ كَبَرْقِ الْعَارِضِ الْمُتَهَلِّلِ يَعْنِي الظَّاهِرَ وَقَدْ اخْتَلَفَ أَهْلُ اللُّغَةِ فِي الْوَقْتِ الَّذِي يُسَمَّى هِلَالًا ، فَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُسَمَّى هِلَالًا لِلَيْلَتَيْنِ مِنْ الشَّهْر ، وَمِنْهُمْ مَنْ قَالَ : يُسَمَّى لِثَلَاثِ لَيَالٍ ثُمَّ يُسَمَّى قَمَرًا ، وَقَالَ الْأَصْمَعِيُّ : يُسَمَّى هِلَالًا حَتَّى يَحْجُرَ ، وَتَحْجِيرُهُ أَنْ يَسْتَدِيرَ بِخُطَّةٍ دَقِيقَةٍ ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : يُسَمَّى هِلَالًا حَتَّى يُبْهِرَ ضَوْءُهُ سَوَادَ اللَّيْلِ ، فَإِذَا غَلَبَ ضَوْءُهُ سُمِّيَ قَمَرًا.
قَالُوا : وَهَذَا لَا يَكُونُ إلَّا فِي اللَّيْلَةِ السَّابِعَةِ ، وَقَالَ الزَّجَّاجُ : الْأَكْثَرُ يُسَمُّونَهُ هِلَالًا لِابْنِ لَيْلَتَيْنِ ، وَقِيلَ : إنَّ سُؤَالَهُمْ وَقَعَ عَنْ وَجْهِ الْحِكْمَةِ فِي زِيَادَةِ الْأَهِلَّةِ وَنُقْصَانِهَا ، فَأَجَابَهُمْ : إنَّهَا مَقَادِيرُ لِمَا يَحْتَاجُ إلَيْهِ النَّاسُ فِي صَوْمِهِمْ وَحَجِّهِمْ وَعِدَدِ نِسَائِهِمْ وَمَحَلِّ الدُّيُونِ وَغَيْرِ ذَلِكَ مِنْ الْأُمُورِ ، فَكَانَتْ هَذِهِ مَنَافِعَ عَامَّةً لِجَمِيعِهِمْ وَبِهَا عَرَفُوا الشُّهُورَ وَالسِّنِينَ وَمَا لَا يُحْصِيهِ مِنْ الْمَنَافِعِ وَالْمَصَالِحِ غَيْرُ اللَّهِ تَعَالَى.
أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 1 صـ 316}(4/158)
فائدة
إذَا رَأَى أَحَدٌ الْهِلَالَ كَبِيرًا : قَالَ عُلَمَاؤُنَا : لَا يُعَوَّلُ عَلَى كِبَرِهِ وَلَا عَلَى صِغَرِهِ ، وَإِنَّمَا هُوَ مِنْ لَيْلَتِهِ ، لِمَا رُوِيَ عَنْ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّهُ قَالَ : " إنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ ، فَإِذَا رَأَيْتُمُوهُ بَعْدَ مَا تَزُولُ الشَّمْسُ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ ".
وَقَدْ رَوَى مَالِكٌ : أَنَّ هِلَالَ شَوَّالٍ رُئِيَ بِعَشِيٍّ فَلَمْ يُفْطِرْ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ حَتَّى أَمْسَى.
وَرُوِيَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ قَالَ : قَدِمْنَا حُجَّاجًا حَتَّى إذَا كُنَّا بِالصِّفَاحِ رَأَيْنَا هِلَالَ ذِي الْحِجَّةِ كَأَنَّهُ ابْنُ خَمْسِ لَيَالٍ ، فَلَمَّا قَدِمْنَا عَلَى ابْنِ عَبَّاسٍ سَأَلْنَاهُ فَقَالَ : جَعَلَ اللَّهُ الْأَهِلَّةَ مَوَاقِيتَ يُصَامُ لِرُؤْيَتِهَا وَيُفْطَرُ لِرُؤْيَتِهَا.
إذَا رُئِيَ قَبْلَ الزَّوَالِ فَهُوَ لِلَّيْلَةِ الْمُسْتَقْبَلَةِ : وَقَالَ ابْنُ حَبِيبٍ ، وَابْنُ وَهْبٍ ، وَغَيْرُهُمَا : هُوَ لِلْمَاضِيَةِ.
وَرُوِيَ فِي ذَلِكَ أَثَرٌ ضَعِيفٌ عَنْ عُمَرَ ، وَالصَّحِيحُ عَنْ عُمَرَ : " أَنَّ الْأَهِلَّةَ بَعْضُهَا أَكْبَرُ مِنْ بَعْضٍ ، فَصُومُوا لِرُؤْيَتِهِ وَأَفْطِرُوا لِرُؤْيَتِهِ ". أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 141}(4/159)
قال العلامة ابن عاشور :
السؤال عن الأهلة لا يتعلق بذواتها إذ الذوات لا يسأل إلا عن أحوالها ، فيُعلم هنا تقدير وحذف أي عن أحوال الأهلة ، فعلى تقدير كون السؤال واقعاً بها غير مفروض فهو يحتمل السؤال عن الحكمة ويحتمل السؤال عن السبب ، فإن كان عن الحكمة فالجواب بقوله : {قل هي مواقيت للناس} جار على وفق السؤال ، وإلى هذا ذهب صاحب "الكشاف" ، ولعل المقصود من السؤال حينئذٍ استثبات كون المراد الشرعي منها موافقاً لما اصطلحوا عليه ؛ لأن كونها مواقيت ليس مما يخفى حتى يسأل عنه ، فإنه متعارف لهم ، فيتعين كون المراد من سؤالهم إن كان واقعاً هو تحقق الموافقة للمقصد الشرعي.(4/160)
وإن كان السؤال عن السبب فالجواب بقوله : {قل هي مواقيت} غير مطابق للسؤال ، فيكون إخراجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر بصرف السائل إلى غير ما يتطلب ، تنبيهاً على أن ما صرف إليه هو المهم له ، لأنهم في مبدأ تشريع جديد والمسؤول هو الرسول عليه الصلاة والسلام وكان المهم لهم أن يسألوه عما ينفعهم في صلاح دنياهم وأخراهم ، وهو معرفة كون الأهلة ترتبت عليها آجال المعاملات والعبادات كالحج والصيام والعدة ، ولذلك صرفهم عن بيان مسؤولهم إلى بيان فائدة أخرى ، لا سيما والرسول لم يجيء مبيناً لعلل اختلاف أحوال الأجرام السماوية ، والسائلون ليس لهم من أصول معرفة الهيئة ما يهيئهم إلى فهم ما أرادوا علمه بمجرد البيان اللفظي بل ذلك يستدعى تعليمهم مقدمات لذلك العلم ، على أنه لو تعرض صاحب الشريعة لبيانه لبين أشياء من حقائق العلم لم تكن معروفة عندهم ولا تقبلها عقولهم يومئذٍ ، ولكان ذلك ذريعة إلى طعن المشركين والمنافقين بتكذيبه ، فإنهم قد أسرعوا إلى التكذيب فيما لم يطلعوا على ظواهره كقولهم : {هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد أفترى على الله كذباً أم به جنة} [سبأ : 7 ، 8] وقولهم : {ما سمعنا بهذا في الملة الآخرة إن هذا إلاّ اختلاق} [ص : 7] وعليه فيكون هذا الجواب بقوله : {هي مواقيت للناس والحج} تخريجاً للكلام على خلاف مقتضى الظاهر كقول الشاعر. أنشده في "المفتاح" ولم ينسبه ولم أقف على قائله ولم أره في غيره
.... أتت تشتكي منّي مزاولة القرى
وقد رأت الأضياف يَنْحَوْن منزلي... فقلت لها لمّا سمعت كلامها
هم الضيف جِدِّي في قراهم وعجِّلي... وإلى هذا نحا صاحب "المفتاح" وكأنه بناه على أنهم لا يظن بهم السؤال عن الحكمة في خلق الأهلة لظهورها ، وعلى أن الوارد في قصة معاذ وثعلبة يشعر بأنهما سألا عن السبب إذ قالا : ما بال الهلال يبدو دقيقاً الخ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 195 ـ 196}(4/161)
فائدة
قال القرطبى :
إذا رُؤي الهلال كبيراً فقال علماؤنا : لا يُعَوَّل على كبره ولا على صغره وإنما هو ابن ليلته. روى مسلم " عن أبي البَخْتَرِيّ قال : خرجنا للعُمْرة فلما نزلنا ببطن نَخْلة قال : تراءينا الهلال ؛ فقال بعض القوم : هو ابن ثلاث ، وقال بعض القوم : هو ابن ليلتين. قال : فلقِينا ابن عباس فقلنا : إنا رأينا الهلال فقال بعض القوم هو ابن ثلاث ، وقال بعض القوم هو ابن ليلتين. فقال : أيّ ليلة رأيتموه ؟ قال فقلنا : ليلة كذا وكذا. فقال : "إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : إن الله مدّه للرؤية" فهو لِلَيْلةٍ رأيتموه "
أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 342}
قوله تعالى : {قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج }
قال الفخر :
المواقيت جمع الميقات بمعنى الوقت كالميعاد بمعنى الوعد ، وقال بعضهم الميقات منتهى الوقت ، قال الله تعالى : {فَتَمَّ ميقات رَبّهِ} [الأعراف : 142] والهلال ميقات الشهر ، ومواضع الإحرام مواقيت الحج لأنها مواضع ينتهي إليها ، ولا تصرف مواقيت لأنها غاية الجموع ، فصار كأن الجمع يكرر فيها فإن قيل : لم صرفت قوارير ؟ قيل : لأنها فاصلة وقعت في رأس آية ، فنون ليجري على طريقة الآيات ، كما تنون القوافي ، مثل قوله :
أقل اللوم عاذل والعتابن.. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 103}
قال الشيخ ابن عاشور : (4/162)
وقوله : {مواقيت للناس} أي مواقيت لما يُوقَّت من أعمالهم فاللام للعلة أي لفائدة الناس وهو على تقدير مضاف أي لأعمال الناس ، ولم تذكر الأعمال الموقَّتة بالأهلة ليشمل الكلام كل عمل محتاج إلى التوقيت ، وعطف الحج على الناس مع اعتبار المضاف المحذوف من عطف الخاص على العام للاهتمام به واحتياج الحج للتوقيت ضروري ؛ إذ لو لم يوقّت لجاء الناس للحج متخالفين فلم يحصل المقصود من اجتماعهم ولم يجدوا ما يحتاجون إليه في أسفارهم وحلولهم بمكة وأسواقها ؛ بخلاف الصلاة فليست موقتة بالأهلة ، وبخلاف الصوم فإن توقيته بالهلال تكميلي له ؛ لأنه عبادة مقصورة على الذات فلو جاء بها المنفرد لحصل المقصد الشرعي ولكن شُرع فيه توحيد الوقت ليكون أخف على المكلفين ، فإن الصعب يخف بالاجتماع وليكون حالهم في تلك المدة متماثلاً فلا يشق أحد على آخر في اختلاف أوقات الأكل والنوم ونحوهما.
والمواقيت جمع ميقات والميقات جاء بوزن اسم الآلة من وقَّت وسمى العرب به الوقت ، وكذلك سُمي الشهر شهراً مشتقاً من الشهرة ، لأن الذي يرى هلال الشهر يشهره لدى الناس. وسمى العرب الوقت المعيَّن ميقاتاً كأنه مبالغة وإلاّ فهو الوقت عينه. وقيل : الميقات أخص من الوقت ، لأنه وقت قُدّر فيه عمل من الأعمال ، قلت : فعليه يكون صوغه بصيغة اسم الآلة اعتباراً بأن ذلك العمل المعيَّن يكون وسيلة لتحديد الوقت فكأنه آلة للضبط والاقتصار على الحج دون العمرة لأن العمرة لا وقت لها فلا تكون للأهلة فائدة في فعلها.
ومجيء ذكر الحج في هاته الآية ، وهي من أول ما نزل بالمدينة ، ولم يكن المسلمون يستطيعون الحج حينئذٍ لأن المشركين يمنعونهم إشارة إلى أن وجوب الحج ثابت ولكن المشركين حالوا دون المسلمين ودونه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 196}
فائدة
قال الفخر : (4/163)
اعلم أنه سبحانه وتعالى جعل الزمان مقدراً من أربعة أوجه : السنة والشهر واليوم والساعة ، أما السنة فهي عبارة عن الزمان الحاصل من حركة الشمس من نقطة معينة من الفلك بحركتها الحاصلة عن خلاف حركة الفلك إلى أن تعود إلى تلك النقطة بعينها ، إلا أن القوم اصطلحوا على أن تلك النقطة نقطة الإعتدال الربيعي وهو أول الحمل ، وأما الشهر فهو عبارة عن حركة القمر من نقطة معينة من فلكه الخاص به إلى أن يعود إلى تلك النقطة ، ولما كان أشهر أحوال القمر وضعه مع الشمس ، وأشهر أوضاعه من الشمس هو الهلال العربي ، مع أن القمر في هذا الوقت يشبه الموجود بعد العدم والمولود الخارج من الظلم لا جرم جعلوا هذا الوقت منتهى للشهر ، وأما اليوم بليلته فهو عبارة عن مفارقة نقطة من دائرة معدل النهار نقطة من دائرة الأفق ، أو نقطة من دائرة نصف النهار وعودها إليها ، فالزمان المقدر عبارة عن اليوم بليلته ، ثم أن المنجمين اصطلحوا على تعيين دائرة نصف النهار مبدأ لليوم بليلته ، أما أكثر الأمم فإنهم جعلوا مبادىء الأيام بلياليها من مفارقة الشمس أفق المشرق وعودها إليه من الغداة ، واحتج من نصر مذهبهم بأن الشمس عند طلوعها كالموجود بعد العدم فجعله أولا أولى ، فزمان النهار عبارة عن مدة كون الشمس فوق الأرض ، وزمان الليل عبارة عن كونها تحت الأرض ، وفي شريعة الإسلام يفتتحون النهار من أول وقت طلوع الفجر في وجوب الصلاة والصوم وغيرهما من الأحكام ، وعند المنجمين مدة الصوم في الشرع هي زمان النهار كله مع زيادة من زمان الليل معلومة المقدار محدودة المبدأ ، وأما الساعة فهي على قسمين : مستوية جزء من أربعة وعشرين من يوم وليلة ، فهذا كلام مختصر في تعريف السنة والشهر واليوم والساعة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 104}
فائدة
قال الفخر :
بقي ههنا أن يقال الفاعل المختار لم خصص القمر دون الشمس بهذه الاختلافات ؟ (4/164)
فنقول لعلماء الإسلام في هذا المقام جوابان أحدهما : أن يقال : إن فاعلية الله تعالى لا يمكن تعليلها بغرض ومصلحة ، ويدل عليه وجوه أحدها : أن من فعل فعلاً لغرض فإن قدر على تحصيل ذلك الغرض بدون تلك الواسطة ، فحينئذ يكون فعل تلك الواسطة عبثاً ، وإن لم يقدر فهو عاجز
وثانيها : أن كل من فعل فعلا لغرض ، فإن كان وجود ذلك الغرض أولى له من لا وجوده فهو ناقص بذاته ، مستكمل بغيره ، وإن لم يكن أولى له لم يكن غرضا
وثالثها : أنه لو كان فعله معللا بغرض فذلك الغرض إن كان محدثاً افتقر إحداثه إلى غرض آخر ، وإن كان قديما لزم من قدمه قدم الفعل وهو محال ، فلا جرم قالوا : كل شيء صنعه ولا علة لصنعه ، ولا يجوز تعليل أفعاله وأحكامه ألبتة {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} [الأنبياء : 23].
(4/165)
والجواب الثاني : قول من قال : لا بد في أفعال الله وأحكامه من رعاية المصالح والحكم ، والقائلون بهذا المذهب سلموا أن العقول البشرية قاصرة في أكثر المواضع عن الوصول إلى أسرار حكم الله تعالى في ملكه وملكوته ، وقد دللنا على أن القوم إنما سألوا عن الحكمة في اختلاف أحوال القمر فالله سبحانه وتعالى ذكر وجوه الحكمة فيه وهو قوله : {قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} وذكر هذا المعنى في آية أخرى وهو قوله : {وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [يونس : 5] وقال في آية ثالثة {فَمَحَوْنَا ءايَةَ اليل وَجَعَلْنَا ءايَةَ النهار مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب} [الإسراء : 12] وتفصيل القول فيه أن تقدير الزمان بالشهور فيه منافع بعضها متصل بالدين وبعضها بالدنيا ، أما ما يتصل منها بالدين فكثيرة منها الصوم ، قال الله تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة : 185] وثانيها : الحج ، قال الله تعالى : {الحج أَشْهُرٌ معلومات} [البقرة : 197] وثالثها : عدة المتوفى عنها زوجها قال الله تعالى : {يَتَرَبَّصْنَ بِأَنفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا} [البقرة : 234] ورابعها : النذور التي تتعلق بالأوقات ، ولفضائل الصوم في أيام لا تعلم إلا بالأهلة.
وأما ما يتصل منها بالدنيا فهو كالمداينات والإجارات والمواعيد ولمدة الحمل والرضاع كما قال {وَحَمْلُهُ وفصاله ثَلاَثُونَ شَهْراً} [الأحقاف : 15] وغيرها فكل ذلك مما لا يسهل ضبط أوقاتها إلا عند وقوع الاختلاف في شكل القمر.
(4/166)
فإن قيل : لا نسلم أنا نحتاج في تقدير الأزمنة إلى حصول الشهر ، وذلك لأنه يمكن تقديرها بالسنة التي هي عبارة عن دورة الشمس وبإجرائها مثل أن يقال : كلفتكم بالطاعة الفلانية في أول السنة ، أو في سدسها ، أو نصفها ، وهكذا سائر الأجزاء ، ويمكن تقديرها بالأيام مثل أن يقال : كلفتم بالطاعة الفلانية في اليوم الأول من السنة وبعد خمسين يوماً من أول السنة ، وأيضاً بتقدير أن يساعد على أنه لا بد مع تقدير الزمان بالسنة وباليوم تقديره بالقمر لكن الشهر عبارة عن دورة من اجتماعه مع الشمس إلى أن يجتمع معها مرة أخرى هذا التقدير حاصل سواء حصل الاختلاف في أشكال نوره أو لم يحصل ، ألا ترى أن تقدير السنة بحركة الشمس وإن لم يحصل في نور الشمس اختلافا ، فكذا يمكن تقدير الشمس بحركة القمر ، وإن لم يحصل في نور القمر اختلاف ، وإذا لم يكن لنور القمر مخالفة بحال ولا أثر في هذا الباب لم يجز تقديره به.
والجواب عن السؤال الأول : أن ما ذكرتم وإن كان ممكنا إلا أن إحصاء الأهلة أيسر من إحصاء الأيام لأن الأهلة اثنا عشر شهراً ، والأيام كثيرة ، ومن المعلوم أن تقسيم جملة الزمان إلى السنين ، ثم تقسيم كل سنة إلى الشهور ، ثم تقسيم الشهور إلى الأيام ، ثم تقسيم كل يوم إلى الساعات ، ثم تقسيم كل ساعة إلى الأنفاس أقرب إلى الضبط وأبعد عن الخبط ، ولهذا قال سبحانه : {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً} [التوبة : 36] وهذا كما أن المصنف الذي يراعي حسن الترتيب يقسم تصنيفه إلى الكتب ، ثم كل كتاب إلى الأبواب ، ثم كل باب إلى الفصول ثم كل فصل إلى المسائل فكذا ههنا الجواب عنه.
(4/167)
وأما السؤال الثاني : فجوابه ما ذكرتم ، إلا أنه متى كان القمر مختلف الشكل ، كان معرفة أوائل الشهور وأنصافها وأواخرها أسهل مما إذا لم يكن كذلك ، وأخبر جل جلاله أنه دبر الأهلة هذا التدبير العجيب لمنافع عباده في قوام دنياهم مع ما يستدلون بهذه الأحوال المختلفة على وحدانية الله سبحانه وتعالى وكمال قدرته ، كما قال تعالى : {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأُوْلِى الألباب} [آل عمران : 190] وقال تعالى : {تَبَارَكَ الذى جَعَلَ فِى السماء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً} [الفرقان : 61] وأيضاً لو لم يقع في جرم القمر هذا الاختلاف لتأكدت شبه الفلاسفة في قولهم : أن الأجرام الفلكية لا يمكن تطرق التغيير إلى أحوالها ، فهو سبحانه وتعالى بحكمته القاهرة أبقى الشمس على حالة واحدة ، وأظهر الإختلاف في أحوال القمر ليظهر للعاقل أن بقاء الشمس على أحوالها ليس إلا بإبقاء الله وتغير القمر في أشكاله ليس إلا بتغيير الله فيصير الكل بهذا الطريق شاهداً على افتقارها إلى مدبر حكيم قادر قاهر ، كما قال : {وَإِن مّن شَىْء إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء : 44] إذا عرفت هذه الجملة فنقول : أنه لما ظهر أن الاختلاف في أحوال القمر معونة عظيمة في تعيين الأوقات من الجهات التي ذكرناها نبه تعالى بقوله : {قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} على جميع هذه المنافع ، لأن تعديد جميع هذه الأمور يقضي إلى الإطناب والاقتصار على البعض دون البعض ترجيح من غير مرجح فلم يبق إلا الاقتصار على كونه ميقاتاً فكان هذا الاقتصار دليلاً على الفصاحة العظيمة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 104 ـ 106}
قوله تعالى : {والحج }
قال الفخر : (4/168)
أما قوله تعالى : {والحج} ففيه إضمار تقديره وللحج كقوله تعالى : {وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تَسْتَرْضِعُواْ أولادكم} [البقرة : 233] أي لأولادكم ، واعلم أنا بينا أن الأهلة مواقيت لكثير من العبادات فإفراد الحج بالذكر لا بد فيه من فائدة ولا يمكن أن يقال تلك الفائدة هي أن مواقيت الحج لا تعرف إلا بالأهلة ، قال تعالى : {الحج أَشْهُرٌ معلومات} [البقرة : 197] وذلك لأن وقت الصوم لا يعرف إلا بالأهلة ، قال تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة : 185] وقال عليه السلام : " صوموا لرؤيته وافطروا لرؤيته " وأحسن الوجوه فيه ما ذكره القفال رحمه الله : وهو أن إفراد الحج بالذكر إنما كان لبيان أن الحج مقصور على الأشهر التي عينها الله تعالى لفرضه وأنه لا يجوز نقل الحج من تلك الأشهر إلى أشهر كما كانت العرب تفعل ذلك في النسيء والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 106}
بحث فى التقويم ونظام الحياة
إنّ الحياة الفرديّة والاجتماعية لايمكن لها أن تقوم من دون نظم صحيح ، نظم في التخطيط ، ونظم في المديريّة والإجراء ، فمن خلال نظرة سريعة إلى عالم الخلق من المنظومات الشمسيّة في السماء إلى بدن الإنسان وبناء هيكله وأعضائه المختلفة ندرك جيداً هذا الأصل الشامل والحاكم على جميع المخلوقات.
وعلى هذا الأساس جعل الله سبحانه وتعالى هذا النظم تحت اختيار الإنسان وقرّر أن تكون الحركات المنظّمة للكرة الأرضيّة حول نفسها وحول الشمس
وكذلك دوران القمر حول الأرض بانتظام وسيلة لتنظيم حياة الإنسان الماديّة والمعنويّة وترتيبها وفق برنامج معيّن.(4/169)
ولنفترض أنّ هذا النظم في الكون لم يكن موجوداً ولم يكن لدينا مقياس معيّن لقياس الزّمان ، فماذا سيحصل من اضطراب في حياتنا اليوميّة ؟! ولهذا فإنّ الله تعالى ذكر هذا النظم الزماني في الأجرام السماويّة بعنوان أحد المواهب المهمّة الإلهيّة للإنسان ، ففي سورة يونس في الآية الخامسة يقول {هُو الّذي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ القَمرَ نوراً وقَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَموُا عَدَدَ السّنينَ والحِساب ما خَلَقَ اللهُ ذلِكَ إلاّ بِالحَقّ يُفصّلُ الآياتِ لِقوم يَعْلَمونَ}.
ومثل ذلك ما ورد في سورة الإسراء الآية (12) حول النظام الحاكم على اللّيل والنهار
أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 16 }
فائدة
قال ابن عرفة : وجواب السؤال في القرآن كله بغير " فاء " مثل {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى} ومثل {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ} إلا قوله {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً} قال ابن عرفة : وعادتهم يجيبون بأن الكل أمور دنيوية فالسؤال عنها ثابت واقع في الوجود/ وقوله " وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال " فأمر أخروي والكفار منكرون للبعث فالسؤال غير واقع لكنه مقدر الوقوع في المستقبل أي إِنْ " (يَسْأَلُوكَ) عَنِ الجِبَالِ " ، فهو جواب لشرط مقدر فحسنت فيه الفاء. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 341}
قوله تعالى : {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا }
المناسبة
قال البقاعى :
(4/170)
ولما كانوا قد اعتادوا في الحج فعلاً منكراً وكان ترك المألوفات أشق شيء على النفوس ، ولذلك قال أهل الطريق وسادات أهل التحقيق : ملاك القصد إلى الله تعالى خلع العادات واستجداد قبول الأمور المنزلات من قيوم السماوات والأرض ، وبذلك كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم سادات أهل الإسلام ، قال تعالى عاطفاً على {ليس البر} مقبحاً لذلك الفعل عليهم منبهاً على أنهم عكسوا في سؤالهم كما عكسوا في فعالهم ، ويجوز أن يكون معطوفاً على حال دل عليها السياق تقديرها : والحال أنه ليس البر سؤالكم هذا عنها {وليس البر} وأكد النفي بزيادة الباء في قوله : {بأن تأتوا البيوت} أي لا الحسية ولا المعنوية {من ظهورها} عند القدوم من الحج أو غيره كما أنه ليس البر بأن تعكسوا في مقالكم بترك السؤال عما يعنيكم والسؤال عما لا يعنيكم بل يعنيكم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 360}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} ففيه مسائل : (4/171)
المسألة الأولى : ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوها أحدها : قال الحسن والأصم كان الرجل في الجاهلية إذا هم بشيء فتعسر عليه مطلوبه لم يدخل بيته من بابه بل يأتيه من خلفه ويبقى على هذه الحالة حولاً كاملاً ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك لأنهم كانوا يفعلونه تطيراً ، وعلى هذا تأويل الآية ليس البر أن تأتوا البيوت من ظهورها على وجه التطير ، لكن البر من يتقي الله ولم يتق غيره ولم يخف شيئاً كان يتطير به ، بل توكل على الله تعالى واتقاه وحده ، ثم قال : {واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} أي لتفوزوا بالخير في الدين والدنيا كقوله : {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ} [الطلاق : 2 3] {وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً} [الطلاق : 4] وتمام التحقيق في الآية أن من رجع خائباً يقال : ما أفلح وما أنجح ، فيجوز أن يكون الفلاح المذكور في الآية هو أن الواجب عليكم أن تتقوا الله حتى تصيروا مفلحين منجحين وقد وردت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بالنهي عن التطير ، وقال : " لا عدوى ولا طيرة " وقال من " رده عن سفره تطير فقد أشرك " أو كما قال وأنه كان يكره الطيرة ويحب الفأل الحسن وقد عاب الله تعالى قوماً تطيروا بموسى ومن معه {قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله} [النمل : 47].
الوجه الثاني : في سبب نزول هذه الآية ، روي أنه في أول الإسلام كان إذا أحرم الرجل منهم فإن كان من أهل المدن نقب في ظهر بيته منه يدخل ويخرج ، أو يتخذ سلماً يصعد منه سطح داره ثم ينحدر ، وإن كان من أهل الوبر خرج من خلف الخباء ، فقيل لهم : ليس البر بتحرجكم عن دخول الباب ، ولكن البر من اتقى.
(4/172)
الوجه الثالث : أن أهل الجاهلية إذا أحرم أحدهم نقب خلف بيته أو خيمته نقباً منه يدخل ويخرج إلا الحمس ، وهم قريش وكنانة وخزاعة وثقيف وخيثم وبنو عامر بن صعصعة وبنو نصر بن معاوية ، وهؤلاء سموا حمساً لتشددهم في دينهم ، الحماسة الشدة ، وهؤلاء متى أحرموا لم يدخلوا بيوتهم ألبتة ولا يستظلون الوبر ولا يأكلون السمن والأقط ، ثم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كام محرماً ورجل آخر كان محرماً ، فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم حال كونه محرماً من باب بستان قد خرب فأبصره ذلك الرجل الذي كان محرماً فاتبعه ، فقال عليه السلام : تنح عني ، قال : ولم يا رسول الله ؟ قال : دخلت الباب وأنت محرم فوقف ذلك الرجل فقال : إني رضيت بسنتك وهديك وقد رأيتك دخلت فدخلت فأنزل الله تعالى هذه الآية وأعلمهم أن تشديدهم في أمر الإحرام ليس ببر ولكن البر من اتقى مخالفة الله وأمرهم بترك سنة الجاهلية فقال : {وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها} فهذا ما قيل في سبب نزول هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 107}
وذكر العلامة الماوردى ثلاثة أسباب أخرى هى
عنى بالبيوت النساء ، سُمِّيَتْ بيوتاً للإيواء إليهن ، كالإيواء إلى البيوت ، ومعناه : لا تأتوا النساء من حيث لا يحل من ظهورهن ، وأتوهن من حيث يحل من قُبُلهن ، قاله ابن زيد.(1)
________________
(1) قال ابن عطية : وهذا بعيد مغيّر نَمَط الكلام. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 262}(4/173)
والخامس : معناه ليس البر أن تطلبوا الخير من غير أهله ، وتأتوه من غير بابه ، وهذا قول أبي عبيدة.
والقول السادس : أنه مثلٌ ضَربه الله عز وجل لهم ، بأن يأتوا البر من وجهه ، ولا يأتوه من غير وجهه. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 188 ـ 189}
قال العلامة ابن عاشور :
الصحيح من ذلك ما رواه البخاري ومسلم عن البراء بن عازب قال : كانت الأنصار إذا حجوا فجاءوا لا يدخلون من أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها فجاء رجل فدخل من بابه فكأنَّه عبّر بذلك هذه الآية ، ورواية السدي وهَم ، وليس في الصحيح ما يقتضي أن رسول الله أمر بذلك ولا يظن أن يكون ذلك منه ، وسياق الآية ينافيه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 198}
قال ابن الجوزى :
وفيما كانوا لا يدخلون البيوت من أبوابها لأجله أربعة أقوال. أحدها : أنهم كانوا يفعلون ذلك لأجل الإحرام ، قاله ابن عباس ، وأبو العالية ، والنخعي ، وقتادة ، وقيس النهشلي. والثاني : لأجل دخول الشهر الحرام ، قاله البراء بن عازب. والثالث : أن أهل الجاهلية كانوا إذا همَّ أحدهم بالشيء فاحتبس عنه ؛ لم يأت بيته من بابه حتى يأتي الذي كان هم به ، قاله الحسن. والرابع : أن أهل المدينة كانوا إذا رجعوا من عيدهم فعلوا ذلك ، رواه عثمان بن عطاء عن أبيه. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 196}
قال العلامة الآلوسى : (4/174)
والظاهر أن جملة النفي معطوفة على مقول قل فلا بد من الجامع بينهما فأما أن يقال : إنهم سألوا عن الأمرين كيف ما اتفق ، فجمع بينهما في الجواب بناءاً على الاجتماع الاتفاقي في السؤال ، والأمر الثاني : مقدر إلا أنه ترك ذكره إيجازاً واكتفاءاً بدلالة الجواب عليه ، وإيذاناً بأن هذا الأمر مما لا ينبغي أن يقع فيحتاج إلى السؤال عنه ، أو يقال : إن السؤال واقع عن الأهلة فقط وهذا مستعمل إما على الحقيقة مذكور للاستطراد حيث ذكر مواقيت الحج والمذكور أيضاً من أفعالهم فيه إلا الخمس ، أو للتنبيه على أن اللائق بحالهم أن يسألوا عن أمثال هذا الأمر ، ولا يتعرضوا بما لا يهمهم عن أمر الأهلة وإما على سبيل الاستعارة التمثيلية بأن يكون قد شبه حالهم في سؤالهم عما لا يهم ، وترك المهم بحال من ترك الباب وأتى من غير الطريق للتنبيه على تعكيسهم الأمر في هذا السؤال ، فالمعنى : وليس البر بأن تعكسوا مسائلكم ولكن البر من اتقى ذلك ولم يجبر على مثله ، وجوز أن يكون العطف على قوله سبحانه : {يَسْأَلُونَكَ} والجامع بينهما أن الأول : قول لا ينبغي ، والثاني : فعل لا ينبغي وقعاً من الأنصار على ما تحكيه بعض الروايات. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 74}
سؤال : ما معنى نفي البر فى الآية ؟ (4/175)
الجواب : معنى نفي البر عن هذا نفي أن يكون مشروعاً أو من الحنيفية ، وإنما لم يكن مشروعاً لأنه غلو في أفعال الحج ، فإن الحج وإن اشتمل على أفعال راجعة إلى ترك الترفه عن البدن كترك المخيط وترك تغطية الرأس إلاّ أنه لم يكن المقصد من تشريعه إعنات الناس بل إظهار التجرد وترك الترفه ، ولهذا لم يكن الحمس يفعلون ، ذلك لأنهم أقرب إلى دين إبراهيم ، فالنفي في قوله : {وليس البر} نفي جنس البر عن هذا الفعل بخلاف قوله المتقدم {ليس البر أن تولوا وجوهكم} [البقرة : 177] والقرينة هنا هي قوله : {وأتوا البيوت من أبوابها} ولم يقل هنالك : واستقبلوا أية جهة شئتم ، والمقصود من الآيتين إظهار البر العظيم وهو ما ذكر بعد حرف الاستدراك في الآيتين بقطع النظر عما نفي عنه البر ، وهذا هو مناط الشبه والافتراق بين الآيتين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 199}
فائدة
قال الفخر :
ذكروا في تفسير الآية ثلاثة أوجه(4/176)
الأول : وهو قول أكثر المفسرين حمل الآية على هذه الأحوال التي رويناها في سبب النزول ، إلا أن على هذا التقدير صعب الكلام في نظم الآية ، فإن القوم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحكمة في تغيير نور القمر ، فذكر الله تعالى الحكمة في ذلك ، وهي قوله : {قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} فأي تعلق بين بيان الحكمة في اختلاف نور القمر ، وبين هذه القصة ، ثم القائلون بهذا القول أجابوا عن هذا السؤال من وجوه أحدها : أن الله تعالى لما ذكر أن الحكمة في اختلاف أحوال الأهلة جعلها مواقيت للناس والحج ، وكان هذا الأمر من الأشياء التي اعتبروها في الحج لا جرم تكلم الله تعالى فيه وثانيها : أنه تعالى إنما وصل قوله : {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} بقوله : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة} لأنه إنما اتفق وقوع القصتين في وقت واحد فنزلت الآية فيهما معاً في وقت واحد ووصل أحد الأمرين بالآخر وثالثها : كأنهم سألوا عن الحكمة في اختلاف حال الأهلة فقيل لهم : اتركوا السؤال عن هذا الأمر الذي لا يعنيكم وارجعوا إلى ما البحث عنه أهم لكم فإنكم تظنون أن إتيان البيوت من ظهورها بر وليس الأمر كذلك.
(4/177)
القول الثاني : في تفسير الآية أن قوله تعالى : {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} مثل ضربه الله تعالى لهم ، وليس المراد ظاهره ، وتفسيره أن الطريق المستقيم المعلوم هو أن يستدل بالمعلوم على المظنون ، فأما أن يستدل بالمظنون على المعلوم فذاك عكس الواجب وضد الحق وإذا عرفت هذا فنقول : إنه قد ثبت بالدلائل أن للعالم صانعاً مختاراً حكيماً ، وثبت أن الحكيم لا يفعل إلا الصواب البريء عن العبث والسفه ، ومتى عرفنا ذلك ، وعرفنا أن اختلاف أحوال القمر في النور من فعله علمنا أن فيه حكمة ومصلحة ، وذلك لأن علمنا بهذا الحكيم الذي لا يفعل إلا الحكمة يفيدنا القطع بأن فيه حكمة ، لأنه استدلال بالمعلوم على المجهول ، فأما أن يستدل بعدم علمنا بما فيه من الحكمة على أن فاعله ليس بالحكيم ، فهذا الاستدلال باطل ، لأنه استدلال بالمجهول على القدح في المعلوم إذا عرفت هذا فالمراد من قوله تعالى : {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا} يعني أنكم لما لم تعلموا حكمته في اختلاف نور القمر صرتم شاكين في حكمة الخالق ، فقد أتيتم الشيء لا من البر ولا من كمال العقل إنما البر بأن تأتوا البيوت من أبوابها فتستدلوا بالمعلوم المتيقن وهو حكمة خالقها على هذا المجهول فتقطعوا بأن فيه حكمة بالغة ، وإن كنتم لا تعلمونها ، فجعل إتيان البيوت من ظهورها كناية عن العدول عن الطريق الصحيح ، وإتيانها من أبوابها كناية عن التمسك بالطريق المستقيم ، وهذا طريق مشهور في الكناية فإن من أرشد غيره إلى الوجه الصواب يقول له : ينبغي أن تأتي الأمر من بابه وفي ضده يقال : إنه ذهب إلى الشيء من غير بابه قال تعالى : {فَنَبَذُوهُ وَرَاء ظُهُورِهِمْ} [آل عمران : 187] وقال : {واتخذتموه وَرَاءكُمْ} [هود : 92] فلما كان هذا طريقاً مشهوراً معتاداً في الكنايات ، ذكره الله تعالى ههنا ، وهذا تأويل المتكلمين ولا يصح تفسير(4/178)
هذه الآية فإن تفسيرها بالوجه الأول يطرق إلى الآية سوء الترتيب وكلام الله منزه عنه.
القول الثالث : في تفسير الآية ما ذكره أبو مسلم ، أن المراد من هذه الآية ما كانوا يعلمونه من النسيء ، فإنهم كانوا يخرجون الحج عن وقته الذي عينه الله له فيحرمون الحلال ويحلون الحرام فذكر إتيان البيوت من ظهورها مثل لمخالفة الواجب في الحج وشهوره. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 108}
وقال العلامة الجصاص :
وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى بِهِ جَمِيعَ ذَلِكَ ، فَيَكُونُ فِيهِ بَيَانُ أَنَّ إتْيَانَ الْبُيُوتِ مِنْ ظُهُورِهَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ إلَى اللَّهِ تَعَالَى ، وَلَا هُوَ مِمَّا شَرَعَهُ وَلَا نَدَبَ إلَيْهِ ، وَيَكُونُ مَعَ ذَلِكَ مَثَلًا أَرْشَدَنَا بِهِ إلَى أَنْ نَأْتِيَ الْأُمُورَ مِنْ مَأْتَاهَا الَّذِي أَمَرَ اللَّهُ تَعَالَى بِهِ وَنَدَبَ إلَيْهِ.(4/179)
وَفِيهِ بَيَانُ أَنَّ مَا لَمْ يَشْرَعْهُ قُرْبَةٌ وَلَا نُدِبَ إلَيْهِ لَا يَصِيرُ قُرْبَةً وَلَا دِينًا بِأَنْ يَتَقَرَّبَ بِهِ مُتَقَرِّبٌ وَيَعْتَقِدَهُ دِينًا وَنَظِيرُهُ مِنْ السُّنَّةِ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ {نَهْيِهِ عَنْ صَمْتِ يَوْمٍ إلَى اللَّيْلِ ، } {وَأَنَّهُ رَأَى رَجُلًا فِي الشَّمْسِ فَقَالَ : مَا شَأْنُهُ ؟ فَقِيلَ : إنَّهُ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ ؛ فَأَمَرَهُ بِأَنْ يَتَحَوَّلَ إلَى الْفَيْءِ} ، وَأَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ {نَهَى عَنْ الْوِصَالِ} لِأَنَّ اللَّيْلَ لَا صَوْمَ فِيهِ ، فَنَهَى أَنْ يُعْتَقَدَ صَوْمُهُ وَتَرْكُ الْأَكْلِ فِيهِ قُرْبَةٌ ، وَهَذَا كُلُّهُ أَصْلٌ فِي أَنَّ مَنْ نَذَرَ مَا لَيْسَ بِقُرْبَةٍ لَمْ يَلْزَمْهُ بِالنَّذْرِ وَلَا يَصِيرُ قُرْبَةً بِالْإِيجَابِ وَيَدُلُّ أَيْضًا عَلَى أَنَّ مَا لَيْسَ لَهُ أَصْلٌ فِي الْوُجُوبِ وَإِنْ كَانَ قُرْبَةً لَا يَصِيرُ وَاجِبًا بِالنَّذْرِ ، نَحْوَ عِيَادَةِ الْمَرِيضِ وَإِجَابَةِ الدَّعْوَةِ وَالْمَشْيِ إلَى الْمَسْجِدِ وَالْقُعُودِ فِيهِ ، وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ.
أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 1 صـ 319}
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور :
(4/180)
وقد قيل في تفسير الآية وجوه واحتمالات أخرى كلها بعيدة : فقيل إن قوله {وليس البر} مثل ضربه الله لما كانوا يأتونه من النسيء قاله أبو مسلم وفيه بعد حقيقة ومجازاً ومعنى ؛ لأن الآيات خطاب للمسلمين وهم الذين سألوا عن الأهلة ، والنسيء من أحوال أهل الجاهلية ، ولأنه يئول إلى استعارة غير رشيقة ، وقيل : مثل ضرب لسؤالهم عن الأهلة من لا يعلم وأمرهم بتفويض العلم إلى الله وهو بعيد جداً لحصول الجواب من قبل ، وقيل : كانوا ينذرون إذا تعسر عليهم مطلوبهم ألاّ يدخلوا بيوتهم من أبوابها فنهوا عن ذلك وهذا بعيدٌ معنى ، لأن الكلام مع المسلمين وهم لا يفعلون ذلك ، وسَنَداً ، إذ لم يروِ أحد أن هذا سبب النزول. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 199}
سؤال : ما فائدة الباء الزائدة فى قوله تعالى {بأن تأتوا} ؟
الجواب : لتأكيد النفي بلَيْس ، ومقتضى تأكيد النفي أنهم كانوا يظنون أن هذا المنفي من البر ظناً قوياً فلذلك كانَ مقتضى حالهم أن يؤكَّد نفيُ هذا الظن.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 199}
قوله تعالى : {ولكن البر مَنِ اتقى }
قال البقاعى :
ولما نفي البر عن ذلك كما نفي في الأول استدرك على نهج الأول فقال : ولكن البر} قال الحرالي : بالرفع والتخفيف استدراكاً لما هو البر وإعراضاً عن الأول ، وبالنصب والتشديد مع الالتفات إلى الأول لمقصد طرحه - انتهى. {من اتقى} فجعل المتقي نفس البر إلهاباً له إلى الإقبال على التقوى لما كانت التقوى حاملة على جميع ما مضى من خلال الإيمان الماضية اكتفى بها.
ولما كان التقدير : فاتقوا فلا تسألوا عما لا يهمكم في دينكم عطف عليه : {وأتوا البيوت من أبوابها} حساً في العمل ومعنى في التلقي ، والباب المدخل للشيء المحاط بحائط يحجزه ويحوطه - قاله الحرالي. وتقدم تعريفه له بغير هذ.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 360 ـ 361}
( بصيرة فى البر ، والبر )
وقد ورد فى القرآن على أَربعة عشر وجهاً : (4/181)
الأَوّل : - أَعنى البَرّ - بالفتح - خمس.
الأَوّل : بمعنى الحَقّ - جَلّ اسمه وعلا - {إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ}.
الثَّانى : بمعنى الصّحراءِ ضدّ البَحْر : {ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ}. {وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ} ، {فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ}.
الثالث : فى مدح يحيى بن زكريا {وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ}.
الرّابع : فى المسيح عيسى : {وَبَرّاً بِوَالِدَتِي}.
الخامس : فى ساكنى مَلَكوت السّماءِ : {بِأَيْدِي سَفَرَةٍ كِرَامٍ بَرَرَةٍ}. وأَما البِرّ - بالكسر - فأَربعة :
الأَوّل بمعنى البارّ : {وَلَاكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ} أَى البارّ.
الثانى : بمعنى الخير : {لَن تَنَالُواْ الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ}.
الثَّالث : بمعنى الطَّاعة : {أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ}.
الرّابع : بمعنى تصديق اليمين : {وَلاَ تَجْعَلُواْ اللَّهَ عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ أَن تَبَرُّواْ وَتَتَّقُواْ}.
وقد جاءَ بمعنى صلة الرّحم {لاَّ يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ} أَى تصلوا أَرحامكم.
والأَبرار مذكور فى خمسة مواضع :
الأَوّل : فى صفة الأَخيار ، فى جوار الغفَّار : {كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ}.
الثانى : فى صفة نظارتهم على غُرَف دار القرار : {إِنَّ الأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ عَلَى الأَرَآئِكِ يَنظُرُونَ}.
الثالث : فى مجلس أُنْسهم ، وجاورة المصطفى ، وصحابته الأَخيار : {إِنَّ الأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً}.
الرّابع : فى تقريرهم فى قُبّة القُرْبَة من الله الكريم الستَّار : {وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ}.
الخامس : فى مرافقة بعضم بعضاً يوم الرحيل إِلى دار القرار {وَتَوَفَّنَا مَعَ الأَبْرَارِ}.
(4/182)
وأَصل الكلمة ومادّتها - أَعنى (ب ر ر) - موضوعة (لخلاف البحر) ، وتُصوّر منه التوسّع ، فاشتُقّ منه البِرّ أَى التوسّع فى فعل الخير. وينسب ذلك تارة إِلى الله تعالى فى نحو {إِنَّه هُو البرُّ الرَّحيمُ} ، وإِلى العبد تارة ، فيقال : برّ العبدُ ربّه ، أَى توسّع فى طاعته. فمن الله تعالى الثواب ومن العبد الطاعةُ. وذلك ضربان : ضرب فى الاعتقاد ، وضرب فى الأَعمال. وقد اشتمل عليهما قولُه تعالى {لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ} الآية (وعلى هذا ما روى أَنه صلى الله عليه وسلم سئل عن البرّ فتلا هذه الآية) فإِن الآية متضمّنة للاعتقاد ، ولأَعمال الفرائض ، والنَّوافل. وبِرّ الوالدين : التَّوسُّع فى الإِحسان إِليهما. ويستعمل البِرّ فى الصدق لكونه بعضَ الخير. ويقال : برّ فى قوله ، وفى يمينه ، وحَجّ مبرورُ : مقبول. وجمع البارّ أَبرار ، وبَرَرة. وخصّ الملائكة بالبَرَرة من حيث إِنَّه أَبلغ من الأَبرار ؛ فإِنه جمع بَرّ. والأَبرار جمع بَارٍّ ، وبرٌّ أَبلغ من بارّ ؛ كما أَنَّ عَدْلاً أَبلغ من عادل. والبُرّ معروف وتسميته بذلك لكونه أَوسع ما يُحتاج إِليه فى الغذاءِ. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 2 صـ 201}
قوله تعالى {وأتوا البيوت من أبوابها }
قال ابن عاشور :
وقوله : {وأتوا البيوت من أبوابها} معطوف على جملة {وليس البر} عطف الإنشاء على الخبر الذي هو في معنى الإنشاء ؛ لأن قوله : {ليس البر} في معنى النهي عن ذلك فكان كعطف أمر على نهي. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 198}
قوله تعالى {واتقوا الله }
قال البقاعى : (4/183)
ولما كان الأمر بالتقوى قد تقدم ضمناً وتلويحاً أتى به دالاً على عظيم جدواها ذكراً وتصريحاً دلالة على التأكيد في تركهم تلك العادة لاقتضاء الحال ذلك لأن من اعتاد شيئاً قلّ ما يتركه وإن تركه طرقه خاطره وقتاً ما فقال : {واتقوا الله} أي الملك الأعظم في كل ما تأتون وما تذرون ووطنوا النفوس واربطوا القلوب على أن جميع أفعاله تعالى حكة وصواب من غير اختلاج شبهة ولا اعتراض شك في ذلك حتى لا يسأل عنه لما في السؤال من الإيهام بمفارقة الشك. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 361}
كلام نفيس لصاحب روح البيان فى الآية الكريمة(4/184)
فى قوله {وليس البر} الآية إشارة إلى أن لكل شىء سببا ومدخلا لا يمكن الوصول إليه ولا الدخول إلا باتباع ذلك السبب والمدخل كقوله تعالى {وآتيناه من كل شىء سببا فأتبع سببا} فسبب الوصول إلى حضرة الربوبية والمدخل فيها هو التقوى ، وهى اسم جامع لكل بر من أعمال الظاهر وأحوال الباطن والقيام باتباع الموافقات واجتناب المخالفات وتصفية الضمائر ومراقبة السرائر فبقدر السلوك فى مراتب التقوى يكون الوصول إلى حضرة المولى كقوله تعالى {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} وقال ـ عليه السلام ـ " عليكم بتقوى الله فإنه جماع كل خير " فقوله {وليس البر بان تأتوا البيوت من ظهورها} أى غر مدخلها بمحافظة ظواهر الأعمال من غير رعاية حقوق بواطنها بتقوى الأحوال {ولكن البر من اتقى} أى حق التقوى كقوله تعالى {اتقوا الله حق تقاته} قيل فى معناه أن يطاع فلا يعصى ويذكر فلا ينسى ويشكر فلا يكفر {وائتوا البيوت من أبوابها} أى ادخلوا الأمور من مداخلها ثم ذكر مدخل الوصول وقال {واتقوا الله} أى اتقوا بالله عما سواه يقال فلان اتقى بترسه يعنى : اجعلوا لله محرزكم ومتقاكم ومفركم ومفزعكم ومرجعكم منه إليه كما كان حال النبى ـ عليه السلام ـ يقول " أعوذ بك منك " {لعلكم تفلحون} لكى تنجوا وتتخلصوا من مهالك النفوس باعانة الملك القدوس. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 379}
قوله تعالى {لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ }
قال البقاعى : (4/185)
{ لعلكم تفلحون} أي لتكون حالكم حال من يرجى دوام التجدد لفلاحه وهو ظفره بجميع مطالبه من البر وغيره ، فقد دل سياق الآية على كراهة هذا السؤال ؛ وذكر الحرالي أن أكثر ما يقع فيه سؤال يكون مما ألبس فتنة أو شرب محنة أو أعقب بعقوبة ولذلك قال تعالى : {لا تسألوا عن أشياء} [المائدة : 101] وكره رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل وعابها وقال : " دعوني ما تركتكم فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم " الحديث ومنه كره الرأي وتكلف توليد المسائل لأنه شغل عن علم التأصيل وتعرض لوقوعه كالذي سأل عن الرجل يبتلي في أهله فابتلى به ، ويقال : كثرة توليد مسائل السهو أوقع فيه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 361}
قوله تعالى : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
قال الحرالى : هذه الآية {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} كالجامعة الموطئة لما ذكر بعدها من أمر توقيت القتال الذي كانوا عليه كما كان من أمر الجاهلية حكم التحرج من القتال في الأشهر الحرم والتساهل فيه في أشهر الحل مع كونه عدوى بغير حكم حق فكان فيه عمل بالفساد وسفك الدماء - انتهى وفيه تصرف. فمحا سبحانه ما أصلوه من ذلك بما شرعه من أمر القتال لكونه جهاداً فيه لحظ من حظوظ الدنيا.(4/186)
ولما ذكر سبحانه الحج في هذه السورة المدنية وكان سبيله إذ ذاك ممنوعاً عن أهل الإسلام بأهل الحرب الذين أخرجوهم من بلدهم ومنعوهم من المسجد الذي هم أحق به من غيرهم وكان الحج من الجهاد وكان كل من الصوم والجهاد تخلياً من الدنيا " سياحة أمتي الصوم ، ورهبانية أمتي الجهاد " وكانت أمهات العبادات موقتة وهي الصلاة والزكاة والصوم والحج وغير موقتة وهي الذكر والجهاد وهو قتال أهل الحرب خلافاً لما كان عند أهل الجاهلية من توقيته مكاناً بغير الحرم وزماناً بغير الأشهر الحرم وكان القتال في الأشهر الحرم وفي الحرم في غاية المنع فكيف عند المسجد وكان سبحانه قد ذكر العبادات الموقتة أتبعها بغير الموقتة وهي الجهاد الذي هو حظيرة الموقتة الذي لا سلامة لها بدونه التفاتاً إلى الظالمين بالمنع عن المسجد الحرام والإخراج منه فأمر بأن يفعل معهم مثل ما فعلوا من القتال والإخراج فعل الحكيم الذي يوصي بالشيء العظيم فهو يلقيه بالتدريج في أساليب البلاغة وأفانين البيان تشويقاً إليه وتحريضاً عليه بعد أن أشار لأهل هذا الدين أولاً بأنه يخزي ظالميهم وثانياً بأن المقتول منهم حي يرزق وثالثاً بمدحهم على الصبر في مواطن البأس بأنهم الذين صدقوا وأنهم المتقون فلما شوقهم إلى جهاد أهل البغي والعناد ألزمهم القتال بصيغة الأمر لتيسير باب الحج الذي افترضه وسبيله ممنوع بأهل الحرب فقال تعالى وقيل : إنها أول آية نزلت في القتال ، قاله الأصبهاني : {وقاتلوا في سبيل الله} أي الذي لا كفوء له إشعاراً بذكره على سبيل الإطلاق بعد الموقت بالهلال إلى أنه غير موقت به. قال الحرالي : من حيث إنه حظيرة على دين الإسلام المقيد بالمواقيت من حيث إن الإسلام عمل يقيده الوقت ، والدفع عنه أمر لا يقيده وقت بل أيان طرق الضر لبناء الإسلام دفع عنه كما هو حكم الدفع في الأمور الدينية ، فكانت الصلاة لمواقيت اليوم والليلة ، والصوم والحج لمواقيت الأهلة ، والزكاة(4/187)
لميقات الشمس ، والجهاد لمطلق الميقات حيث ما وقع من مكان وزمان ناظراً بوجه ما لما يقابله من عمود الإسلام الذي هو ذكر كلمة الإخلاص وهي لا إله إلا الله على الدوام {يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكراً كثيراً} [الأحزاب : 41] {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة : 5] انتهى. وقال {الذين يقاتلونكم} أي من شأنهم قتالكم لا من ليس شأنه ذلك كالصبيان ؛ وفيه إشعار بأن القتال عن سبب المقاتلة فهو مما يفعل عن سبب لا مما يفعل لوقت ، وصيغة المضارع لم يقصد بها إلا صدور الفعل من غير نظر إلى زمان مخصوص كما قالوه في أمثاله.
ولما كان الله سبحانه وتعالى قد أوجب العدل في كل شيء حتى في حق أعدائه قال : {ولا تعتدوا} فنظم ذلك ابتداء القتال لمن لم يبح له ابتداءه به إما بعهد أو بغير دعوة لمن لم يبلغه أمر الدين أو بغير ذلك من أنواع الخيانة والغدر وقتل النساء والصبيان والشيوخ الفانين الذين لا منعة فيهم ولا رأي لهم ، ودوام القتال لمن ألقى السلم بعد الابتداء به ، فحذف المتعلق اختصاراً فأفاد زيادة المعنى وهو من غريب أفانين البلاغة وكأنه أفهم بصيغة الافتعال التقييد بالتعمد ، ثم علل ذلك بقوله : {إن الله} أي لما له من صفات الكمال {لا يحب المعتدين} مطلقاً في هذا وغيره ، أي لا يفعل بهم من الخير فعل المحب. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 362}
وقال الفخر : (4/188)
إنه تعالى أمر بالاستقامة في الآية المتقدمة بالتقوى في طريق معرفة الله تعالى فقال : {وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أبوابها} [البقرة : 189] وأمر بالتقوى في طريق طاعة الله ، وهو عبارة عن ترك المحظورات وفعل الواجبات فالاستقامة علم ، والتقوى عمل ، وليس التكليف إلا في هذين ، ثم لما أمر في هذه الآية بأشد أقسام التقوى وأشقها على النفس ، وهو قتل أعداء الله فقال : {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله }.أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 109}
سبب النزول
قال الفخر :
في سبب النزول قولان الأول : قال الربيع وابن زيد : هذه الآية أول آية نزلت في القتال ، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتل ، ويكف عن قتال من تركه ، وبقي على هذه الحالة إلى أن نزل قوله تعالى : {اقتلوا المشركين} [التوبة : 5].
والقول الثاني : أنه عليه الصلاة والسلام خرج بأصحابه لإرادة الحج ونزل الحديبية وهو موضع كثير الشجر والماء فصدهم المشركون عن دخول البيت فأقام شهراً لا يقدر على ذلك ثم صالحوه على أن يرجع ذلك العام ويعود إليهم في العام القابل ، ويتركون له مكة ثلاثة أيام حتى يطوف وينحر الهدي ويفعل ما شاء ، فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك وصالحهم عليه ، ثم عاد إلى المدينة وتجهز في السنة القابلة ، ثم خاف أصحابه من قريش أن لا يفوا بالوعد ويصدوهم عن المسجد الحرام وأن يقاتلوهم ، وكانوا كارهين لمقاتلتهم في الشهر الحرام وفي الحرم ، فأنزل الله تعالى هذه الآيات ، وبين لهم كيفية المقاتلة إن احتاجوا إليها ، فقال : {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 109}
وقال القرطبى : (4/189)
والصحيح أنه خطاب لجميع المسلمين ؛ أمر كلّ أحد أن يقاتل من قاتله إذ لا يمكن سواه. ألا تراه كيف بيّنها في سورة "براءة" بقوله : {قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار} [التوبة : 123] وذلك أن المقصود أوّلاً كان أهل مكة فتعيّنت البداءة بهم ؛ فلما فتح الله مكة كان القتال لمن يلي ممن كان يؤذي حتى تعمّ الدعوة وتبلغ الكلمة جميع الآفاق ولا يبقى أحد من الكفرة ، وذلك باقٍ متمادٍ إلى يوم القيامة ، ممتدٌّ إلى غايةٍ هي قوله عليه السلام : " الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأَجْرُ والمَغْنَم " وقيل : غايته نزول عيسى بن مريم عليه السلام ، وهو موافق للحديث الذي قبله ؛ لأن نزوله من أشراط الساعة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 350}
فائدة لغوية
والمقاتلة مفاعلة وهي حصول الفعل من جانبين ، ولما كان فعلها وهو القتل لا يمكن حصوله من جانبين ؛ لأن أحد الجانبين إذا قتل لم يستطع أن يَقْتل كانت المفاعلة في هذه المادة بمعنى مفاعلة أسباب القتل أي المحاربة ، فقوله {وقاتلوا} بمعنى وحاربوا والقتال الحرب بجميع أحوالها من هجوم ومنع سبل وحصار وإغارة واستيلاء على بلاد أو حصون.
وإذا أسندت المفاعلة إلى أحد فاعلَيْها فالمقصود أنه هو المبتدىء بالفعل ، ولهذا قال تعالى : {وقاتلوا في سبيل الله} فجعل فاعل المفاعلة المسلمين ثم قال : {الذين يقاتلونكم} فجعل فاعله ضمير عدوهم ، فلزم أن يكون المراد دافعوا الذين يبتدئونكم.(4/190)
والمراد بالمبادأة دلائل القصد للحرب بحيث يتبين المسلمون أن الأعداء خرجوا لحربهم وليس المراد حتى يضربوا ويهجموا ؛ لأن تلك الحالة يفوت على المسلمين تداركها ، وهذا الحكم عام في الأشخاص لا محالة ، وعموم الأشخاص يستلزم عموم الأحوال والأمكنة والأزمنة على رأي المحققين ، أو هو مطلق في الأحوال والأزمنة والبقاع ، ولهذا قال تعالى بعد ذلك : {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه} [البقرة : 191] تخصيصاً أو تقييداً ببعض البقاع. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 201}
فائدة
قال العلامة ابن العربى :
إنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ نَبِيَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْبَيَانِ وَالْحُجَّةِ ، وَأَوْعَزَ إلَى عِبَادِهِ عَلَى لِسَانِهِ بِالْمُعْجِزَةِ وَالتَّذْكِرَةِ ، وَفَسَّحَ لَهُمْ فِي الْمَهْلِ ، وَأَرْخَى لَهُمْ فِي الطِّيَلِ مَا شَاءَ مِنْ الْمُدَّةِ بِمَا اقْتَضَتْهُ الْمَقَادِيرُ الَّتِي أَنْفَذهَا ، وَاسْتَمَرَّتْ بِهِ الْحِكْمَةُ ، وَالْكُفَّارُ يُقَابِلُونَهُ بِالْجُحُودِ وَالْإِنْكَارِ ، وَيَتَعَمَّدُونَهُ وَأَصْحَابَهُ بِالْعَدَاوَةِ وَالْإِذَايَةِ ، وَالْبَارِئُ سُبْحَانَهُ يَأْمُرُ نَبِيَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ وَأَصْحَابَهُ بِاحْتِمَالِ الْأَذَى وَالصَّبْرِ عَلَى الْمَكْرُوهِ ، وَيَأْمُرُهُمْ بِالْإِعْرَاضِ تَارَةً وَبِالْعَفْوِ وَالصَّفْحِ أُخْرَى ، حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ، إلَى أَنْ أَذِنَ اللَّهُ تَعَالَى لَهُمْ فِي الْقِتَالِ.(4/191)
فَقِيلَ : إنَّهُ أَنْزَلَ عَلَى رَسُولِهِ : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} وَهِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ أَحَدٌ قَاتَلَ ، وَلَكِنْ مَعْنَاهُ أُذِنَ لِلَّذِينَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الْكُفَّارَ يَعْتَقِدُونَ قِتَالَهُمْ وَقَتْلَهُمْ بِأَنْ يُقَاتِلُوهُمْ عَلَى اخْتِلَافِ الْقِرَاءَتَيْنِ ، ثُمَّ صَارَ بَعْدَ ذَلِكَ فَرْضًا ، فَقَالَ تَعَالَى : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}.
ثُمَّ أَمَرَ بِقِتَالِ الْكُلِّ ، فَقَالَ : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ} الْآيَةَ ، وَقِيلَ : إنَّ هَذِهِ الْآيَةَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ.
وَالصَّحِيحُ مَا رَتَّبْنَاهُ ؛ لِأَنَّ آيَةَ الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ مَكِّيَّةٌ ، وَهَذِهِ الْآيَةُ مَدَنِيَّةٌ مُتَأَخِّرَةٌ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 144}
وقال العلامة الجصاص :
بَابُ فَرْضِ الْجِهَادِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ : لَمْ تَخْتَلِفْ الْأُمَّةُ أَنَّ الْقِتَالَ كَانَ مَحْظُورًا قَبْلَ الْهِجْرَةِ بِقَوْلِهِ : {ادْفَعْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ} وَقَوْلِهِ : {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} وَقَوْلِهِ : {وَجَادِلْهُمْ بِاَلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وَقَوْلِهِ : {فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ} وَقَوْلِهِ : {وَإِذَا خَاطَبَهُمْ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا}.(4/192)
وَرَوَى عَمْرُو بْنُ دِينَارٍ ، عَنْ عِكْرِمَةَ ، عَنْ ابْن عَبَّاسٍ ، أَنَّ {عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنِ عَوْفٍ وَأَصْحَابًا لَهُ كَانَتْ أَمْوَالُهُمْ بِمَكَّةَ فَقَالُوا : يَا رَسُولَ اللَّهِ كُنَّا فِي عِزَّةٍ وَنَحْنُ مُشْرِكُونَ فَلَمَّا آمَنَّا صِرْنَا أَذِلَّاءَ ، فَقَالَ عَلَيْهِ السَّلَامُ : إنِّي أُمِرْتُ بِالْعَفْوِ فَلَا تُقَاتِلُوا الْقَوْمَ} فَلَمَّا حَوَّلَهُ إلَى الْمَدِينَةِ أُمِرُوا بِالْقِتَالِ فَكُفُّوا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ : {أَلَمْ تَرَ إلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمْ الْقِتَالُ إذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ}.
وَحَدَّثَنَا جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ الْوَاسِطِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو الْفَضْلِ جَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ الْيَمَانِ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو عُبَيْدٍ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ صَالِحٍ ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ ، عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قَوْلِهِ عَزَّ وَجَلَّ : {لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ} وَقَوْلِهِ : {وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ} وَقَوْلِهِ : {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ} وَقَوْلِهِ : {قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ} قَالَ : نَسَخَ هَذَا كُلَّهُ قَوْله تَعَالَى : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وقَوْله تَعَالَى : {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاَللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ} إلَى قَوْلِهِ : {صَاغِرُونَ }.
(4/193)
وَقَدْ اخْتَلَفَ السَّلَفُ فِي أَوَّلِ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ ، فَرُوِيَ عَنْ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ وَغَيْرِهِ أَنَّ قَوْلَهُ : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ.
وَرُوِيَ عَنْ جَمَاعَةٍ آخَرِينَ ، مِنْهُمْ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ وَالزُّهْرِيُّ وَسَعِيدُ بْنُ جُبَيْرٍ : أَنَّ أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الْآيَةُ ؛ وَجَائِزٌ أَنْ يَكُونَ {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ} أَوَّلَ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي إبَاحَةِ قِتَالِ مَنْ قَاتَلَهُمْ ، وَالثَّانِيَةُ فِي الْإِذْنِ فِي الْقِتَالِ عَامَّةٌ لِمَنْ قَاتَلَهُمْ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلْهُمْ مِنْ الْمُشْرِكِينَ.
(4/194)
وَقَدْ اُخْتُلِفَ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فَقَالَ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ : " هِيَ أَوَّلُ آيَةٍ نَزَلَتْ فِي الْقِتَالِ بِالْمَدِينَةِ ، {وَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعْدَ ذَلِكَ يُقَاتِلُ مَنْ قَاتَلَهُ مِنْ الْمُشْرِكِينَ وَيَكُفُّ عَمَّنْ كَفَّ عَنْهُ إلَى أَنْ أُمِرَ بِقِتَالِ الْجَمِيعِ} ، قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَهُوَ عِنْدَهُ بِمَنْزِلَةِ قَوْلِهِ : {فَمَنْ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ جَعْفَرِ بْنِ الزُّبَيْرِ أُمِرَ أَبُو بَكْرٍ بِقِتَالِ الشَّمَامِسَةِ لِأَنَّهُمْ يَشْهَدُونَ الْقِتَالَ وَأَنَّ الرُّهْبَانَ مِنْ رَأْيِهِمْ أَنْ لَا يُقَاتِلُوا ، فَأَمَرَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَنْهُ بِأَنْ لَا يُقَاتَلُوا " وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} فَكَانَتْ الْآيَةُ عَلَى تَأْوِيلِهِ ثَابِتَةَ الْحُكْمِ لَيْسَ فِيهَا نَسْخٌ ، وَعَلَى قَوْلِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُسْلِمِينَ كَانُوا مَأْمُورِينَ بَعْدَ نُزُولِ الْآيَةِ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ دُونَ مَنْ كَفَّ ، سَوَاءٌ كَانَ مِمَّنْ يَتَدَيَّنُ بِالْقِتَالِ أَوْ لَا يَتَدَيَّنُ.
(4/195)
وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ فِي قَوْلِهِ : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} أَنَّهُ فِي النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ وَمَنْ لَمْ يَنْصِبْ لَكَ الْحَرْبَ مِنْهُمْ ، كَأَنَّهُ ذَهَبَ إلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ مَنْ لَمْ يَكُنْ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ فِي الْأَغْلَبِ لِضَعْفِهِ وَعَجْزِهِ ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ حَالُ النِّسَاءِ وَالذُّرِّيَّةِ ؛ وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي آثَارٍ شَائِعَةٍ النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ النِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ.
وَرُوِيَ عَنْهُ أَيْضًا النَّهْيُ عَنْ قَتْلِ أَصْحَابِ الصَّوَامِع رَوَاهُ دَاوُد بْنُ الْحُصَيْنِ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ، فَإِنْ كَانَ مَعْنَى الْآيَةِ عَلَى مَا قَالَ الرَّبِيعُ
(4/196)
بْنُ أَنَسٍ أَنَّهُ أُمِرَ فِيهَا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ وَالْكَفِّ عَمَّنْ لَا يُقَاتِلُ ، فَإِنَّ قَوْلَهُ : {قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنْ الْكُفَّارِ} نَاسِخٌ لِمَنْ يَلِي ، وَحُكْمُ الْآيَةِ كَانَ بَاقِيًا فِيمَنْ لَا يَلِيَنَا مِنْهُمْ ، ثُمَّ لَمَّا نَزَلَ قَوْلُهُ : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} إلَى قَوْلِهِ : {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} فَكَانَ ذَلِكَ أَعَمَّ مِنْ الْأَوَّلِ الَّذِي فِيهِ الْأَمْرُ بِقِتَالِ مَنْ يَلِيَنَا دُونَ مَنْ لَا يَلِيَنَا ، إلَّا أَنَّ فِيهِ ضَرْبًا مِنْ التَّخْصِيصِ بِحَظْرِهِ الْقِتَالَ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إلَّا عَلَى شَرْطِ أَنْ يُقَاتِلُونَا فِيهِ بِقَوْلِهِ : {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ} ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ فَرْضَ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً بِقَوْلِهِ : {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً} وَقَوْلُهُ : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ} وقَوْله تَعَالَى : {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} فَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ إنَّ قَوْلَهُ : {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} مَنْسُوخٌ بِقَوْلِهِ : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ : هَذَا الْحُكْمُ ثَابِتٌ ، لَا يُقَاتَلُ فِي الْحَرَمِ إلَّا مَنْ قَاتَلَ ، وَيُؤَيِّدُ ذَلِكَ مَا رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ يَوْمَ فَتْحِ مَكَّةَ : {إنَّ مَكَّةَ حَرَامٌ حَرَّمَهَا اللَّهُ يَوْمَ(4/197)
خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ فَإِنْ تَرَخَّصَ مُتَرَخِّصٌ بِقِتَالِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيهَا ، فَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لَهُ سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ ثُمَّ عَادَتْ حَرَامًا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ} فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّ حُكْمَ الْآيَةِ بَاقٍ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَأَنَّهُ لَا يَحِلُّ أَنْ نَبْتَدِئَ فِيهَا بِالْقِتَالِ لِمَنْ لَمْ يُقَاتِلْ ، وَقَدْ كَانَ الْقِتَالُ مَحْظُورًا فِي الشَّهْرِ الْحَرَامِ بِقَوْلِهِ : {يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ} ، ثُمَّ نَسَخَ بِقَوْلِهِ {فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} ، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ : هُوَ غَيْرُ مَنْسُوخٍ وَالْحَظْرُ بَاقٍ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 1 صـ 321}
قوله تعالى : {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله }
قال الفخر :
{ وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله} أي في طاعته وطلب رضوانه ، روى أبو موسى أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل عمن يقاتل في سبيل الله ، فقال : " هو من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا ، ولا يقاتل رياء ولا سمعة ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 109}
وقال صاحب الميزان :
قوله تعالى : {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} ، القتال محاولة الرجل قتل من يحاول قتله ، وكونه في سبيل الله إنما هو لكون الغرض منه إقامة الدين وإعلاء كلمة التوحيد ، فهو عبادة يقصد بها وجه الله تعالى دون الاستيلاء على أموال الناس وأعراضهم فإنما هو في الإسلام دفاع يحفظ به حق الإنسانية المشروعة عند الفطرة السليمة كما سنبينه ، فإن الدفاع محدود بالذات ، والتعدي خروج عن الحد ، ولذلك عقبه بقوله تعالى : {ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين}. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 61ـ }
وقال العلامة ابن عادل : (4/198)
قوله تعالى : {فِي سَبِيلِ الله} متعلَّقٌ بـ " قاتلوا " على أحد معنيين : إمَّا أن تقدِّر مضافاً ، أي : في نصرةِ سبيلِ الله تعالى ، والمرادُ بالسبيلِ : دينُ الله ، لأنَّ السبيلَ في الأصل هو الطريقُ ، فُتُجوِّزَ به عن الدِّين ، لمَّا كان طريقاً إلى الله تعالى روى أبو موسى : أنَّ النبي - صلى الله عليه وسلم وشَرَّف ، ومجَّد ، وكَرَّم ، وبَجَّل ، وعَظَّم - سُئِلَ عمَّن يُقاتِلُ في سبيل الله تعالى ، فقال : " مَنْ قاتل ؛ لتكون كلمةُ الله هي العُليا ، ولا يُقاتل رياءً ولا سمعةً ؛ وهو في سبيل الله "
وإمَّا أن تُضَمِّن " قَاتِلُوا " معنى بالِغوا في القتالِ في نصرةِ دِينِ اللِه تعالى ، " والَّذِيِنَ يُقَاتِلُونَكُم " مفعول " قاتلوا ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 339 ـ 340}
فائدة
عبارة (فِي سَبِيلِ الله) توضّح الهدف الأساسي من الحرب في المفهوم الإسلامي ، فالحرب ليست للانتقام ولا للعلوّ في الأرض والتزعم ، ولا للاستيلاء على الأراضي ، ولا للحصول على الغنائم... فهذا كلّه مرفوض في نظر الإسلام. حمل السلاح إنّما يصحّ حينما يكون في سبيل الله وفي سبيل نشر أحكام الله ، أي نشر الحقّ والعدالة والتوحيد واقتلاع جذور الظلم والفساد والانحراف.
وهذه هي الميزة التي تميّز الحروب الإسلامية عن سائر الحروب في العالم ، وهذا الهدف المقدّس يضع بصماته على جميع أبعاد الحرب في الإسلام ويصبغ كيفيّة الحرب وكميّتها ونوع السلاح والتعامل مع الاسرى وأمثال ذلك بصبغة "في سبيل الله".(4/199)
والحرب في الإسلام لله وفي سبيل الله ، ولا يجوز أن يكون في سبيل الله اعتداء ولا عدوان. لذلك يوصي الإسلام برعاية كثير من الأُصول الخلقية في الحرب ، وهو ما تفتقر إليه حروب عصرنا أشدّ الإفتقار. يوصي مثلاً بعدم الإعتداء على المستسلمين وعلى من فقدوا القدرة على الحرب ، أوليست لديهم أصلاً قدرة على الحرب كالشيوخ والنساء والأطفال ، وهكذا يجب عدم التعرّض للمزارع والبساتين ، وعدم اللجوء إلى المواد السامة لتسميم مياه شرب العدوّ كالسائد اليوم في الحروب الكيمياوية والجرثوميّة.
وعلى هذا الأساس لا يكون الجهاد في الإسلام لغرض التسلّط على البلدان والفتوحات ، وليس لغرض تحصيل الغنائم ، ولا بهدف تملّك الأسواق للتّجارة أو السيطرة على ثروات ومعادن البلدان الأخرى ، أو من أجل غلبة العنصر القومي على آخر.
فالهدف هو أحد أمور ثلاثة : إزالة الفتن والفوضى الّتي تؤدّي إلى سلب حريّة الناس وأمنهم ، وكذلك محو آثار الشرك وعبادة الأوثان ، وأيضاً التصدّي للظّالمين والمعتدين والدفاع عن المظلومين. أ هـ بتصرف يسير. {الأمثل حـ 2 صـ 16 ـ 25}
قوله تعالى : {الذين يقاتلونكم }
قال الفخر :
اختلفوا في المراد بقوله : {الذين يقاتلونكم} على وجوه أحدها : وهو قول ابن عباس ، المراد منه : قاتلوا الذين يقاتلونكم إما على وجه الدفع عن الحج ، أو على وجه المقاتلة ابتداء ، وهذا الوجه موافق لما رويناه عن ابن عباس في سبب نزول هذه الآية
وثانيها : قاتلوا كل من له قدرة وأهلية على القتال
(4/200)
وثالثها : قاتلوا كل من له قدرة على القتال وأهلية كذلك سوى من جنح للسلم ، قال تعالى : {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} [الأنفال : 61] واعلم أن القول الأول أقرب إلى الظاهر لأن ظاهر قوله تعالى : {الذين يقاتلونكم} يقتضي كونهم فاعلين للقتال ، فأما المستعد للقتال والمتأهل له قبل إقدامه عليه ، فإنه لا يوصف بكونه مقاتلاً إلا على سبيل المجاز. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 109}
قوله تعالى : {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ}
قال ابن كثير :
وقوله : {وَلا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} أي : قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي -كما قاله الحسن البصري -من المَثُلة ، والغُلُول ، وقتل النساء والصبيان والشيوخ الذين لا رأي لهم ولا قتال فيهم ، والرهبان وأصحاب الصوامع ، وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة ، كما قال ذلك ابن عباس ، وعمر بن عبد العزيز ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم. ولهذا جاء في صحيح مسلم ، عن بُرَيدة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : "اغزوا في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تَغُلّوا ، ولا تَغْدروا ، ولا تُمَثِّلُوا ، ولا تقتلوا وليدًا ، ولا أصحاب الصوامع". رواه الإمام أحمد.
وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بَعَث جيوشه قال : "اخرجوا بسم الله ، قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، لا تغدروا ولا تغلوا ، ولا تُمَثلوا ، ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصّوامع". رواه الإمام أحمد.
ولأبي داود ، عن أنس مرفوعًا ، نحوه.
وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وجُدت امرأة في بعض مغازي النبيّ صلى الله عليه وسلم مقتولة ، فأنكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم قتلَ النساء والصبيان.(4/201)
وقال الإمام أحمد : حدثنا مُصعب بن سَلام ، حدثنا الأجلح ، عن قيس بن أبي مسلم ، عن رِبْعي ابن حِرَاش ، قال : سمعت حُذَيفة يقول : ضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أمثالا واحدًا ، وثلاثة ، وخمسة ، وسبعة ، وتسعة ، وأحدَ عشَرَ ، فضرب لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منها مثلا وترك سائرَها ، قال : "إن قومًا كانوا أهلَ ضَعْف ومسكنة ، قاتلهم أهلُ تجبر وعداء ، فأظهر الله أهل الضعف عليهم ، فعمدوا إلى عَدُوهم فاستعملوهم وسلطوهم فأسخطوا الله عليهم إلى يوم يلقونه".
هذا حديث حَسَنُ الإسناد. ومعناه : أن هؤلاء الضعفاء لما قدروا على الأقوياء ، فاعتَدوا عليهم واستعملوهم فيما لا يليق بهم ، أسخطوا الله عليهم بسبب هذا الاعتداء. والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جدًا. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 534}
قال القرطبى :
والقتال لا يكون في النساء ولا في الصبيان ومن أشبههم ، كالرُّهبان والزَّمْنَى والشيوخ والأجراء فلا يُقتلون. وبهذا أوصى أبو بكر الصديق رضي الله عنه يزيد بن أبي سفيان حين أرسله إلى الشام ؛ إلا أن يكون لهؤلاء إذاية ؛ أخرجه مالك وغيره ، وللعلماء فيهم صُوَر ستّ :
الأولى : النساء إن قاتلن قُتِلْن ؛ قال سُحْنون : في حالة المقاتلة وبعدها ، لعموم قوله : {وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله الذين يُقَاتِلُونَكُمْ} ، {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم}
[ البقرة : 191]. وللمرأة آثار عظيمة في القتال ، منها الإمداد بالأموال ، ومنها التحريض على القتال ، وقد يخرجن ناشرات شعورهن نادبات مثيرات معيِّرات بالفرار ، وذلك يبيح قتلهن ؛ غير أنهن إذا حصلن في الأسر فالاسترقاق أنفع لسرعة إسلامهن ورجوعهن عن أديانهن ، وتعذّر فرارهن إلى أوطانهن بخلاف الرجال.
الثانية : الصبيان فلا يُقتلون للنّهي الثابت عن قتل الذرّية ، ولأنه لا تكليف عليهم ؛ فإن قاتل (الصبيُّ) قُتل.(4/202)
الثالثة : الرُّهبان لا يُقتلون ولا يُسترقّون ، بل يُترك لهم ما يعيشون به من أموالهم ، وهذا إذا انفردوا عن أهل الكفر ، لقول أبي بكر ليزيد : "وستَجِد أقواماً زعموا أنهم حَبَسوا أنفسهم لله ، فذرْهم وما زعموا أنهم حَبَسُوا أنفسهم له" فإن كانوا مع الكفار في الكنائس قُتلوا. ولو ترّهبت المرأة فروَى أشهب أنها لا تُهاج. وقال سُحْنون : لا يغيّر الترهُّب حكمها. قال القاضي أبو بكر بن العربي : "والصحيح عندي رواية أشهب ، لأنها داخلة تحت قوله : فذرهم وما حَبَسُوا أنفسهم له".
الرابعة : الزَّمْنَى. قال سُحْنون : يُقتلون. وقال ابن حبيب : لا يُقتلون. والصحيح أن تُعتبر أحوالهم ؛ فإن كانت فيهم إذاية قُتلوا ، وإلا تُركوا وما هم بسبيله من الزَّمانة وصاروا مالا على حالهم وحشوة.
الخامسة : الشيوخ. قال مالك في كتاب محمد : لا يُقتلون. والذي عليه جمهور الفقهاء : إن كان شيخاً كبيراً هرِماً لا يُطيق القتال ، ولا يُنتفع به في رأيٍ ولا مدافعة فإنه لا يُقتل ؛ وبه قال مالك وأبو حنيفة. وللشافعي قولان : أحدهما : مثل قول الجماعة. والثاني : يُقتل هو والراهب. والصحيح الأوّل لقول أبي بكر ليزيد ؛ ولا مخالف له فثبت أنه إجماع. وأيضاً فإنه ممن لا يُقاتِل ولا يعين العدوّ فلا يجوز قتله كالمرأة ، وأمّا إن كان ممن تخشى مضرته بالحرب أو الرأي أو المال فهذا إذا أُسِر يكون الإمام فيه مخيَّراً بين خمسة أشياء : القتل أو المنّ أو الفداء أو الاسترقاق أو عَقْد الذمة على أداء الجِزية.
(4/203)
السادسة : العُسَفاء ، وهم الأُجراء والفلاّحون ؛ فقال مالك في كتاب محمد : لا يُقتلون. وقال الشافعي : يُقتل الفلاحون والأجراء والشيوخ الكبار إلا أن يُسلموا أو يؤدّوا الجِزْية. والأوّل أصحّ ، لقوله عليه السلام في حديث رَباح بن الربيع : " الحقْ بخالد بن الوليد فلا يقتلنّ ذرّية ولا عَسيفاً " وقال عمر بن الخطاب : اتقوا الله في الذرّية والفلاّحين الذين لا يَنْصُبون لكم الحرب.
وكان عمر بن عبد العزيز لا يَقتل حرّاثاً ؛ ذكره ابن المنذر. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 348 ـ 349}
وقوله تعالى : {إن الله لا يحب المعتدين}
قال الشيخ ابن عاشور :
وقوله : {إن الله لا يحب المعتدين} تحذير من الاعتداء ؛ وذلك مسالمة للعدو واستبقاء لهم وإمهال حتى يجيئوا مؤمنين ، وقيل : أراد ولا تعتدوا في القتال إن قاتلتم ففسر الاعتداء بوجوه كثيرة ترجع إلى تجاوز أحكام الحرب والاعتداء الابتداء بالظلم.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 201}
فائدة
قال صاحب الميزان :
وأما أمره تعالى بالاعتداء مع أنه لا يحب المعتدين فإن الاعتداء مذموم إذا لم يكن في مقابله اعتداء ، وأما إذا كان في مقابله الاعتداء فليس إلا تعاليا عن ذل الهوان وارتقاء عن حضيض الاستعباد والظلم والضيم ، كالتكبر مع المتكبر ، والجهر بالسوء لمن ظلم. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 63 }
فائدة أخرى
قال الفخر : (4/204)
من الناس من قال : هذه الآية منسوخة ، وذلك لأن هذه الآية دلت على أن الله تعالى أوجب قتال المقاتلين ، ونهى عن قتال غير المقاتلين ، بدليل أنه قال : {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله الذين يقاتلونكم} ثم بعده : ولا تعتدوا هذا القدر ، ولا تقاتلوا من لا يقاتلكم فثبت أن هذه الآية مانعة من قتال غير المقاتلين ، ثم قال تعالى بعد ذلك : {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} [البقرة : 191] فاقتضي هذا حصول الأول في قتال من لم يقاتل ، فدل على أن هذه الآية منسوخة ، ولقائل أن يقول : نسلم أن هذه الآية دالة على الأمر بقتال من لم يقاتلنا ، لكن هذا الحكم ما صار منسوخاً.
أما قوله : إنها دالة على المنع من قتال من لم يقاتلنا ، فهذا غير مسلم ، وأما قوله تعالى : {وَلاَ تَعْتَدُواْ} فهذا يحتمل وجوها أخر سوى ما ذكرتم ، منها أن يكون المعنى : ولا تبدؤا في الحرم بقتال ، ومنها أن يكون المراد : ولا تعتدوا بقتال من نهيتم عن قتاله من الذين بينكم وبينهم عهد ، أو بالحيلة أو بالمفاجأة من غير تقديم دعوة ، أو بقتل النساء والصبيان والشيخ الفاني ، وعلى جميع هذه التقديرات لا تكون الآية منسوخة.
فإن قيل : هب أنه لا نسخ في الآية ، ولكن ما السبب في أن الله تعالى أمر أولا بقتال من يقاتل ، ثم في آخر الأمر أذن في قتالهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا.
قلنا : لأن في أول الأمر كان المسلمون قليلين ، فكان الصلاح استعمال الرفق واللين والمجاملة ، فلما قوي الإسلام وكثر الجمع ، وأقام من أقام منهم على الشرك ، بعد ظهور المعجزات وتكررها عليهم حالا بعد حال ، حصل اليأس من إسلامهم ، فلا جرم أمر الله تعالى بقتالهم على الإطلاق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 110}
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : {وَلاَ تعتدوا} قيل في تأويله ما قدّمناه (1)
________________
(1) تقدمت الإشارة إليه.(4/205)
، فهي مُحْكَمة. فأما المرتدّون فليس إلا القتل أو التّوبة ، وكذلك أهل الزّيغ والضلال ليس إلا السيف أو التوبة. ومن أَسَرّ الاعتقاد بالباطل ثم ظهر عليه فهو كالزّنديق يُقتل ولا يُستتاب. وأما الخوارج على أئمة العدل فيجب قتالهم حتى يرجعوا إلى الحق. وقال قوم : المعنى لا تعتدوا في القتال لغير وجه الله ، كالحمِيّة وكسب الذِّكر ، بل قاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ؛ يعني دِيناً وإظهاراً للكلمة. وقيل : "لا تعتدوا" أي لا تقاتلوا من لم يقاتل. فعلى هذا تكون الآية منسوخة بالأمر بالقتال لجميع الكفار ، والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 348}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
لتكن نفوسُكم عندكم ودائعَ الحق ؛ إنْ أَمَر بإِمساكها أَمْسِكُوها وصونوها ، وإنْ أَمَرَ بتسليمها إلى القتل فلا تدَّخروها عن أمره ، وهذا معنى قوله : {وَلاَ تَعْتَدُوا} وهو أن تقف حيثما أُوقِفْتَ ، وتفعل ما به أُمِرْتَ. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 159 ـ 160}(4/206)
سؤال وجوابه
قال العلامة الشنقيطى
قوله تعالى : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلا تَعْتَدُوا} الآية, هذه الآية تدل بظاهرها على أنهم لم يؤمروا بقتال الكفار إلا إذا قاتلوهم, وقد جاءت آيات أخر تدل على وجوب قتال الكفار مطلقا ؛ قاتلوا أم لا, كقوله تعالى : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ}, قوله : {فَإِذَا انْسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ}, وقوله تعالى : {تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ}.
والجواب عن هذه بأمور
الأول : - وهو من أحسنها وأقربها - أنّ المراد بقوله : {الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} تهييج المسلمين, وتحريضهم على قتال الكفار, فكأنه يقول لهم : هؤلاء الذين أمرتكم بقتالهم هم خصومكم وأعداؤكم الذين يقاتلونكم, ويدل لهذا المعنى قوله تعالى : {وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}, وخير ما يفسر به القرآن القرآن.(4/207)
الوجه الثاني : أنها منسوخة بقوله تعالى : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ}, وهذا من جهة النظر ظاهر حسن جدا, وإيضاح ذلك أنّ من حكمة الله البالغة في التشريع أنه إذا أراد تشريع أمر عظيم على النفوس ربما يشرعه تدريجيا لتخف صعوبته بالتدريج, فالخمر مثلا لما كان تركها شاقا على النفوس التي اعتادتها ذكر أولا بعض معائبها بقوله : {قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ}, ثم بعد ذلك حرمها في وقت دون وقت كما دل عليه قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى} الآية, ثم لما استأنست النفوس بتحريمها في الجملة حرّمها تحريما باتاً بقوله : {رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}, وكذلك الصوم لما كان شاقا على النفوس شرعه أولا على سبيل التخيير بينه وبين الإطعام, ثم رغب في الصوم مع التخيير بقوله : {وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ}, ثم لما استأنست به النفوس أوجبه إيجابا حتما بقوله تعالى : {فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ}, وكذلك القتال على هذا القول لما كان شاقا على النفوس أذن فيه أولا من غير إيجاب بقوله : {أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا} الآية, ثم أوجب عليهم قتال من قاتلهم بقوله : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ}, ثم لما استأنست نفوسهم بالقتال أوجبه عليهم إيجابا عاما بقوله : {فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ} الآية.
(4/208)
الوجه الثالث : وهو اختيار بن جرير, ويظهر لي أنه الصواب : أن الآية محكمة, وأن معناها : قاتلوا الذين يقاتلونكم أي من شأنهم أن يقاتلوكم, أما الكافر الذي ليس من شأنه القتال كالنساء, والذراري, والشيوخ الفانية, والرهبان, وأصحاب الصوامع, ومن ألقى إليكم السلم, فلا تعتدوا بقتالهم ؛ لأنهم لا يقاتلونكم, ويدل لهذا الأحاديث المصرحة بالنهي عن قتال الصبي, وأصحاب الصوامع, والمرأة, والشيخ الهرم إذا لم يستعن برأيه, أما صاحب الرأي فيقتل كدريد بن الصمة, وقد فسر هذه الآية بهذا المعنى عمر بن العزيز رضي الله عنه وابن عباس والحسن البصري. أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 37 ـ 39}(4/209)
قوله تعالى : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما حرم الاعتداء صرح بإباحة أصل القتال فقال : {واقتلوهم} أي الذين يقاتلونكم {حيث ثقفتموهم} أي وجدتموهم وأنتم تطمعون في أن تغلبوا أو حيث تمكنتم من قتلهم - قاله الأصبهاني ، لأنه من ثقف بالضم ثقافة إذا صلب وثقف أي بالكسر كذلك ، وأيضاً صار حاذقاً فطناً ، وثقفت الشيء ثقفاً إذا أخذته والشيء صادفته - قاله ابن القطاع. وقال الأصبهاني : والثقف وجوده على وجه الأخذ والغلبة ، وأطلق الوجدان فشمل الحل والحرم من الزمان والمكان لأنهم كذلك يفعلون بالمسلمين ، كانوا يؤذونهم ويفتنونهم عند البيت في كل وقت ؛ وفي التعبير بالفعل ما يشعر بالنصر بحزب الله وبشرى بضعف العدو عن مداومة المقاومة للمجاهدين وقد ظهرت التجربة مثل ذلك وأقله أنهم إذا فروا لم يكروا.(4/210)
ولما كانت الآية ناظرة إلى قصاص قال : {وأخرجوهم} أي فإن لم يقاتلوكم {من حيث أخرجوكم} أي مكة التي هي موطن الحج والعمرة ومحل الشعائر المقصودة لأهل الإسلام. ولما كان هذا مشعراً بأنهم لم يكن منهم إليهم قتال في مكة لغير الأذى المحوج إلى الخروج من الديار على أن التقدير : فإن الإخراج من السكن أشد فتنة وقد فتنوكم به ، فعطف عليه قوله : {والفتنة} أي العذاب بالإخراج أو غيره من أنواع الإخافة {أشد} تليينهم للإسلام {من القتل} أعم من أن يكون المراد من قتلكم إياهم في الحرم أو غيره أو قتلهم إياكم أو غير ذلك لما فيه من مواصلة الغم القابض للنفس عن مراداتها ، فلذلك سوغنا لكم قتلهم قصاصاً بسبب إخراجكم ، فكان المراد بالذات إخراجهم لتمكن الحج والاعتمار ولكنه لما لم يمكن إلا بقتالهم وقتلهم أذن فيهما وقد كشف الواقع في أمر : عكرمة بن أبي جهل وصفوان بن أمية وعبد الله بن أبي ربيعة أن الإخراج من مكة لينهم للإسلام أكثر من تليين القتل فإنهم أسلموا لما أشرفوا على فراق مكة بظهور الإسلام فيها ولم يسلم أحد من قريش خوفاً من القتل ، فلكون السياق لإخراجهم عبر هنا أشد. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 363}
قال الفخر :
الثقف وجوده على وجه الأخذ والغلبة ومنه رجل ثقيف سريع الأخذ لأقرانه ، قال :
فأما تثقفوني فاقتلوني.. فمن أثقف فليس إلى خلود(4/211)
ثم نقول قوله تعالى : {اقتلوهم} الخطاب فيه واقع على النبي صلى الله عليه وسلم ومن هاجر معه وإن كان الغرض به لازما لكل مؤمن ، والضمير في قوله : {اقتلوهم} عائد إلى الذين أمر بقتلهم في الآية الأولى وهم الكفار من أهل مكة ، فأمر الله تعالى بقتلهم حيث كانوا في الحل والحرم ، وفي الشهر الحرام ، وتحقيق القول أنه تعالى أمر بالجهاد في الآية الأولى بشرط إقدام الكفار على المقاتلة ، وفي هذه زاد في التكليف فأمر بالجهاد معهم سواء قاتلوا أو لم يقاتلوا ، واستثنى منه المقاتلة عند المسجد الحرام.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 110}
وقال ابن عاشور :
هذا أمر بقتل من يعثر عليه منهم وإن لم يكن في ساحة القتال ، فإنّه بعد أن أمرهم بقتال من يقاتلهم عَمَّمَ المواقع والبقاع زيادة في أحوال القتل وتصريحاً بتعميم الأماكن فإن أهمية هذا الغرض تبعث على عدم الاكتفاء باقتضاء عموم الأشخاص تَعْمِيمَ الأمكنة ليكون المسلمون مأذونين بذلك فكل مكان يحل فيه العدو فهو موضع قتال ، فالمعنى واقتلوهم حيث ثقفتموهم إن قاتلوكم.
وعطفت الجملة على التي قبلها وإن كانت هي مكملة لها باعتبار أن ما تضمنته قتل خاص غير قتال الوغَى فحصلت المغايرة المقتضية العطف ، ولذلك قال هنا {واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} ولم يقل : وقاتلوهم مثل الآية قبلها تنبيهاً على قتل المحارب ولو كان وقت العثور عليه غيرَ مباشر للقتال وأنه من خرج محارباً فهو قاتل وإن لم يَقْتُلْ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 201 ـ 202}
قال الفخر : (4/212)
نقل عن مقاتل أنه قال : إن الآية المتقدمة على هذه الآية ، وهي قوله : {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله الذين يقاتلونكم} [البقرة : 190] منسوخة بقوله تعالى : {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام} ثم تلك الآية منسوخة بقوله تعالى : {وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة : 193] وهذا الكلام ضعيف.
أما قوله : إن قوله تعالى : {وقاتلوا فِي سَبِيلِ الله الذين يقاتلونكم} منسوخ بهذه الآية ، فقد تقدم إبطاله ، وأما قوله : إن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام} فهذا من باب التخصيص لا من باب النسخ ، وأما قوله : {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام} منسوخ بقوله : {وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة : 193] فهو خطأ أيضاً لأنه لا يجوز الابتداء بالقتال في الحرم ، وهذا الحكم ما نسخ بل هو باقٍ فثبت أن قوله ضعيف ولأنه يبعد من الحكيم أن يجمع بين آيات متوالية تكون كل واحدة منها ناسخة للأخرى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 110}
قوله تعالى : {وَأَخْرِجُوهُمْ مّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ }
قال الفخر :
الإخراج يحتمل وجهين أحدهما : أنهم كلفوهم الخروج قهراً
والثاني : أنهم بالغوا في تخويفهم وتشديد الأمر عليهم ، حتى صاروا مضطرين إلى الخروج. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 111}
قال الفخر :
صيغة {حَيْثُ} تحتمل وجهين أحدهما : أخرجوهم من الموضع الذي أخرجوكم وهو مكة
والثاني : أخرجوهم من منازلكم ، إذا عرفت هذا فنقول : إن الله تعالى أمر المؤمنين بأن يخرجوا أولئك الكفار من مكة إن أقاموا على شركهم إن تمكنوا منه ، لكنه كان في المعلوم أنهم يتمكنون منه فيما بعد ، ولهذا السبب أجلى رسول الله صلى الله عليه وسلم كل مشرك من الحرم.
ثم أجلاهم أيضاً من المدينة ، وقال عليه الصلاة والسلام : " لا يجتمع دينان في جزيرة العرب ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 111}
وقال العلامة ابن عاشور : (4/213)
وقوله : {وأخرجوهم من حيث أخرجوكم} أي يحل لكم حينئذٍ أن تخرجوهم من مكة التي أخرجوكم منها ، وفي هذا تهديد للمشركين ووعد بفتح مكة ، فيكون هذا اللقاء لهذه البشرى في نفوس المؤمنين ليسْعوا إليه حتى يدركوه وقد أدركوه بعد سنتين ، وفيه وعد من الله تعالى لهم بالنصر كما قال تعالى : {لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام} [الفتح : 27] الآية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 202}
قوله تعالى : {والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل }
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} ففيه وجوه أحدها : وهو منقول عن ابن عباس : أن المراد من الفتنة الكفر بالله تعالى ، وإنما سمي الكفر بالفتنة لأنه فساد في الأرض يؤدي إلى الظلم والهرج ، وفيه الفتنة ، وإنما جعل الكفر أعظم من القتل ، لأن الكفر ذنب يستحق صاحبه به العقاب الدائم ، والقتل ليس كذلك ، والكفر يخرج صاحبه به عن الأمة ، والقتل ليس كذلك فكان الكفر أعظم من القتل ، وروي في سبب نزول هذه الآية أن بعض الصحابة كان قتل رجلاً من الكفار في الشهر الحرام ، فالمؤمنون عابوه على ذلك ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فكان المعنى ليس لكم أن تستعظموا الإقدام على القتل في الشهر الحرام ، فإن إقدام الكفار على الكفر في الشهر الحرام أعظم من ذلك
وثانيها : أن الفتنة أصلها عرض الذهب على النار لاستخلاصه من الغش ، ثم صار اسماً لكل ما كان سبباً للامتحان تشبيهاً بهذا الأصل ، والمعنى : أن إقدام الكفار على الكفر وعلى تخويف المؤمنين ، وعلى تشديد الأمر عليهم بحيث صاروا ملجئين إلى ترك الأهل والوطن هرباً من إضلالهم في الدين ، وتخليصاً للنفس مما يخافون ويحذرون ، فتنة شديدة بل هي أشد من القتل الذي يقتضي التخليص من غموم الدنيا وآفاتها ، وقال بعض الحكماء : ما أشد من هذا القتل الذي أوجبه عليكم جزاء غير تلك الفتنة.(4/214)
الوجه الثالث : أن يكون المراد من الفتة العذاب الدائم الذي يلزمهم بسبب كفرهم ، فكأنه قيل : اقتلوهم من حيث ثقفتموهم ، واعلم أن وراء ذلك من عذاب الله ما هو أشد منه كقوله : {وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مّنْ عِندِهِ} [التوبة : 52] وإطلاق اسم الفتنة على العذاب جائز ، وذلك من باب إطلاق اسم السبب على المسبب ، قال تعالى : {يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ} [الذاريات : 13] ثم قال عقيبه : {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات : 14] أي عذابكم ، وقال : {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات} [البروج : 10] أي عذبوهم ، وقال : {فَإِذَا أُوذِىَ فِى الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} [العنكبوت : 10] أي عذابهم كعذابه.
الوجه الرابع : أن يكون المراد فتنتهم إياكم بصدكم عن المسجد الحرام ، أشد من قتلكم إياهم في الحرم ، لأنهم يسعون في المنع من العبودية والطاعة التي ما خلقت الجن والإنس إلا لها.
الوجه الخامس : أن ارتداد المؤمن أشد عليه من أن يقتل محقاً والمعنى : وأخرجوهم من حيث أخرجوكم ولو أتى ذلك على أنفسكم فإنكم إن قتلتم وأنتم على الحق كان ذلك أولى بكم وأسهل عليكم من أن ترتدوا عن دينكم أو تتكاسلوا في طاعة ربكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 112}
وقال الماوردى :
وإنما سمي الكفر فتنة ، لأنه يؤدي إلى الهلاك كالفتنة. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 251}
وقال فى التحرير والتنوير : (4/215)
وقوله : {والفتنة أشد من القتل} تذييل و{أل} فيه للجنس تدل على الاستغراق في المقام الخَطَابيِّ ، وهو حجة للمسلمين ونفي للتبعة عنهم في القتال بمكة إن اضطروا إليه. والفتنة إلقاء الخوف واختلال نظام العَيْشِ وقد تقدمت عند قوله تعالى : {حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر} [البقرة : 102] ، إشارة إلى ما لقيه المؤمنون في مكة من الأذى بالشتم والضرب والسخرية إلى أن كان آخره الإخراج من الديار والأموال ، فالمشركون محقوقون من قبل فإذا خفروا العهد استحقوا المؤاخذة بما مضى فيما كان الصلح مانعاً من مؤاخذتهم عليه ؛ وإنما كانت الفتنة أشد من القتل لتكرر إضرارها بخلاف ألم القتل ، ويراد منها أيضاً الفتنة المتوقعة بناء على توقع أن يصدوهم عن البيت أو أن يغدروا بهم إذا حلوا بمكة ، ولهذا اشترط المسلمون في صلح الحديبية أنهم يدخلون العام القابل بالسيوف في قرابها ، والمقصد من هذا إعلان عذر المسلمين في قتالهم المشركين وإلقاء بغض المشركين في قلوبهم حتى يكونوا على أهبة قتالهم والانتقام منهم بصدور حرجة حنقة. وليس المراد من الفتنة خصوص الإخراج من الديار ، لأن التذييل يجب أن يكون أعم من الكلام المذيَّل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 202}
وقال البيضاوى :
{ والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} أي المحنة التي يفتتن بها الإنسان ، كالإخراج من الوطن أصعب من القتل لدوام تعبها وتألم النفس بها. وقيل : معناه شركهم في الحرم وصدهم إياكم عنه أشد من قتلكم إياهم فيه. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 1 صـ 476 ـ 477}
وقال الثعالبى : (4/216)
و{ الفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل} ، أي : الفتنةُ التي حملوكم علَيْها ، ورامُوكم بِهَا على الرُّجوع إِلى الكفر - أشدُّ من القتْل ، ويحتمل أن يكون المعنى : والفتنةُ ، أي : الكفر والضَّلال الذي هم فيه أَشَدُّ في الحَرَمِ ، وأعظم جُرْماً من القتل الَّذي عيَّروكم به في شأن ابْنِ الحَضْرَمِيِّ. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 150}
قوله : {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فِيهِ }
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان الإذن في الإخراج مستلزماً في العادة للقتال وكان قد أذن في الابتداء به حيث ثقفوا خصص ذلك فقال ناظراً إلى المقاصّة أيضاً ومشيراً إلى ما سيقع في غزوة الفتح المشار إليها بقوله بعد {وكفر به والمسجد الحرام} [البقرة : 217] {ولا تقاتلوهم} أي هؤلاء الذين أذن لكم في إخراجهم {عند المسجد الحرام} أي الحرم إذا أردتم إخراجهم فمانعوكم {حتى يقاتلوكم فيه} أي في ذلك الموضع الذي هو عند المسجد ، وكأنه عبر بفيه في الثاني وعند في الأول والمراد الحرم في كل منهما كفاً ، عن القتال فيه مهما وجد إلى الكف سبيل تعظيماً له وإجلالاً لمحله لأنه موضع للصلاة التي أعظم مقاصدها السجود لا لغيره فضلاً عن القتال. {فإن قاتلوكم} أي في ذلك المكان {فاقتلوهم} أي لا تقصروا على مدافعتهم بل اصدقوهم في الضرب المجهز ولا حرج عليكم من جهة المسجد فإن الانتهاك لحرمته منسوب إلى البادىء ، وفي التعبير بالفعل في جواب المفاعلة في قراءة الجمهور أو الفعل في قراءة حمزة والكسائي بشارة بنصرة المبغي عليه وقوة إدالته ، ولما كان هذا مفهماً أنه خاص بهم عمم بقوله : {كذلك} أي مثل هذا الفعل العظيم الجدوى {جزاء الكافرين} كلهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 364}
قال الفخر :
أما قوله : {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فِيهِ }(4/217)
هذا بيان لبقاء هذا الشرط في قتالهم في هذه البقعة خاصة ، وقد كان من قبل شرطاً في كل القتال وفي الأشهر الحرم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 112}
وقال ابن كثير :
وقوله : {وَلا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ} كما جاء في الصحيحين : "إن هذا البلد حرّمه الله يوم خلق السموات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، وإنها ساعتي هذه ، حَرَام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يُعْضَد شجره ، ولا يُخْتَلى خَلاه. فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم".
يعني بذلك -صلوات الله وسلامه عليه -قتالَه أهلها يومَ فتح مكة ، فإنه فتحها عنوة ، وقتلت رجال منهم عند الخَنْدمَة ، وقيل : صلحًا ؛ لقوله : من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن.
[وقد حكى القرطبي : أن النهي عن القتال عند المسجد الحرام منسوخ. قال قتادة : نسخها قوله : {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ} [التوبة : 5]. قال مقاتل بن حيان : نسخها قوله : {فَإِذَا انْسَلَخَ الأشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ} وفي هذا نظر]. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 525}
وقال العلامة الجصاص : (4/218)
وَأَمَّا قَوْلُهُ : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} فَإِنَّهُ أَمْرٌ بِقَتْلِ الْمُشْرِكِينَ إذَا أُظْفِرْنَا بِهِمْ ، وَهِيَ عَامَّةٌ فِي قِتَالِ سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ مَنْ قَاتَلَنَا مِنْهُمْ وَمَنْ لَمْ يُقَاتِلُنَا بَعْدَ أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ ؛ لِأَنَّهُ لَا خِلَافَ أَنَّ قَتْلَ النِّسَاءِ وَالذَّرَارِيِّ مَحْظُورٌ ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَعَنْ قَتْلِ أَهْلِ الصَّوَامِعِ فَإِنْ كَانَ الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} الْأَمْرَ بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَنَا مِمَّنْ هُوَ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ دُونَ مَنْ كَفَّ عَنَّا مِنْهُمْ ، وَكَانَ قَوْلُهُ : {وَلَا تَعْتَدُوا إنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ} نَهْيًا عَنْ قِتَالِ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْنَا ، فَهِيَ لَا مَحَالَةَ مَنْسُوخَةٌ بِقَوْلِهِ : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} لِإِيجَابِهِ قَتْلَ مَنْ حُظِرَ قَتْلُهُ فِي الْآيَةِ الْأُولَى بِقَوْلِهِ : {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا} إذْ كَانَ الِاعْتِدَاءُ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ هُوَ قِتَالَ مَنْ لَمْ يُقَاتِلْ ، وَقَوْلُهُ : {وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ : مِنْ مَكَّةَ إنْ أَمْكَنَكُمْ ذَلِكَ ؛ لِأَنَّهُمْ قَدْ كَانُوا آذَوْا الْمُسْلِمِينَ بِمَكَّةَ حَتَّى اضْطَرُّوهُمْ إلَى الْخُرُوجِ فَكَانُوا مُخْرِجِينَ لَهُمْ ، وَقَدْ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ} ، فَأَمَرَهُمْ اللَّهُ تَعَالَى عِنْدَ فَرْضِهِ الْقِتَالَ(4/219)
بِإِخْرَاجِهِمْ إذَا تَمَكَّنُوا مِنْ ذَلِكَ ؛ إذْ كَانُوا مَنْهِيِّينَ عَنْ الْقِتَالِ فِيهَا إلَّا أَنْ يُقَاتِلُوهُمْ ، فَيَكُونُ قَوْلُهُ : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} عَامًّا فِي سَائِرِ الْمُشْرِكِينَ إلَّا فِيمَنْ كَانَ بِمَكَّةَ ، فَإِنَّهُمْ أُمِرُوا بِإِخْرَاجِهِمْ مِنْهَا إلَّا لِمَنْ قَاتَلَهُمْ ، فَإِنَّهُ أُمِرَ بِقِتَالِهِمْ حِينَئِذٍ ؛ وَالدَّلِيلُ عَلَى ذَلِكَ قَوْلُهُ فِي نَسَقِ التِّلَاوَةِ : {وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فَثَبَتَ أَنَّ قَوْلَهُ : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ} فِيمَنْ كَانَ بِغَيْرِ مَكَّةَ. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 1 صـ 322}
وقال الشيخ ابن عاشور :
الجملة معطوفة على جملة {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} التي أفادت الأمر بتتبع المقاتلين بالتقتيل حيثما حَلُّوا سواء كانوا مشتبكين بقتال المسلمين أم كانوا في حالة تنقل أو تطلع أو نحو ذلك لأن أحوال المحارب لا تنضبط وليست في الوقت سعة للنظر في نواياه والتوسم في أغراضه ، إذ قد يبادره إلى اغتيال عدوه في حال تردده وتفكره ، فخص المكان الذي عند المسجد الحرام من عموم الأمكنة التي شملها قوله : {حيث ثقفتموهم} أي إن ثقفتموهم عند المسجد الحرام غير مشتبكين في قتال معكم فلا تقتلوهم ، والمقصد من هذا حفظ حرمة المسجد الحرام التي جعلها الله له بقوله : {مقام إبراهيم ومن دخله كان ءامناً} [آل عمران : 97] ، فاقتضت الآية منع المسلمين من قتال المشركين عند المسجد الحرام ، وتدل على منعهم من أن يقتلوا أحداً من المشركين دون قتال عند المسجد الحرام بدلالة لحن الخطاب أو فحوى الخطاب.(4/220)
وجعلت غاية النهي بقوله : {حتى يقاتلونكم فيه فإن قاتلوكم فاقتلوهم} أي فإن قاتلوكم عند المسجد فاقتلوهم عند المسجد الحرام ، لأنهم خرقوا حرمة المسجد الحرام فلو تركت معاملتهم بالمثل لكان ذلك ذريعة إلى هزيمة المسلمين. فإن قاتلوا المسلمين عند المسجد الحرام عاد أمر المسلمين بمقاتلتهم إلى ما كان قبل هذا النهي فوجب على المسلمين قتالهم عند المسجد الحرام وقتل من ثقفوا منهم كذلك.
وفي قوله تعالى : {فاقتلوهم} تنبيه على الإذن بقتلهم حينئذٍ ولو في غير اشتباك معهم بقتال ، لأنهم لا يؤمنون من أن يتخذوا حرمة المسجد الحرام وسيلة لهزم المسلمين.
ولأجل ذلك جاء التعبير بقوله : {فاقتلوهم} لأنه يشمل القتل بدون قتال والقتل بقتال.
فقوله تعالى : {فإن قاتلوكم} أي عند المسجد الحرام فاقتلوهم هنالك ، أي فاقتلوا من ثقفتم منهم حين المحاربة ، ولا يصدكم المسجد الحرام عن تقصي آثارهم لئلا يتخذوا المسجد الحرام ملجأ يلجؤون إليه إذا انهزموا.
وقد احتار كثير من المفسرين في انتظام هذه الآيات من قوله : {وقاتلوا في سبيل الله} [البقرة : 190] إلى قوله هنا {كذلك جزاء الكافرين} حتى لجأ بعضهم إلى دعوى نسخ بعضها ببعض فزعم أن آيات متقارنة بعضها نسخ بعضاً ؛ مع أن الأصل أن الآيات المتقارنة في السورة الواحدة نزلت كذلك ومع ما في هاته الآيات من حروف العطف المانعة من دعوى كون بعضها قد نزل مستقلاً عن سابقه وليس هنا ما يلجىء إلى دعوى النسخ ، ومن المفسرين من اقتصر على تفسير المفردات اللغوية والتراكيب البلاغية وأعرض عن بيان المعاني الحاصلة من مجموع هاته الآيات.
(4/221)
وقد أذن الله للمسلمين بالقتال والقتل للمقاتل عند المسجد الحرام ولم يعبأ بما جعله لهذا المسجد من الحرمة ؛ لأن حرمته حرمة نسبته إلى الله تعالى فلما كان قتال الكفار عنده قتالاً لمنع الناس منه ومناوأة لدينه فقد صاروا غير محترمين له ولذلك أمرنا بقتالهم هنالك تأييداً لحرمة المسجد الحرام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 203 ـ 204}
سؤال : لم عدل عن صِيغة المفاعَلة التي بها وردَ النهيُ والشرطُ فى قوله تعالى {فاقتلوهم} ؟
الجواب : في العُدول عن صِيغة المفاعَلة التي بها وردَ النهيُ والشرطُ عِدَةً بالنصر والغلبة. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 204}
فائدة
قرأ الجمهور : (ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه) ثلاثتها بألف بعد القاف ، وقرأ حمزة والكسائي : (ولا تقتلوهم حتى يقتلوكم فإن قتلوكم) بدون ألف بعد القاف ، فقال الأعمش لحمزة أرأيت قراءتك هذه كيف يكون الرجل قاتلاً بعد أن صار مقتولاً ؟ فقال حمزة : إن العرب إذا قتل منهم رجل قالوا قتلنا اه يريد أن الكلام على حذف مضاف من المفعول كقوله
: ... غَضِبت تميم أَنْ تُقتَّل عامر
يوم النسار فأُعْتِبُوا بالصَّيْلَم... والمعنى ولا تقتلوا أحداً منهم حتى يقتلوا بعضكم فإن قتلوا بعضكم فاقتلوا من تقدرون عليه منهم وكذلك إسناد (قتلوا) إلى ضمير جماعة المشركين فهو بمعنى قتل بعضهم بعض المسلمين لأن العرب تسند فعل بعض القبيلة أو الملة أو الفرقة لما يدل على جميعها من ضمير كما هنا أو اسم ظاهر نحو قتلتنا بنو أسد. وهذه القراءة تقتضي أن المنهي عنه القتل فيشمل القتل باشتباك حرب والقتل بدون ملحمة.أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 204}
فوائد فى الآية الكريمة(4/222)
وقد دلت الآية بالنص على إباحة قتل المحارب إذا حارب في الحرم أو استولى عليه لأن الاستيلاء مقاتلة ؛ فالإجماع على أنه لو استولى على مكة عدو وقال : لا أقاتلكم وأمنعكم من الحج ولا أبرح من مكة لوجب قتاله وإن لم يبدأ بالقتال ؛ نقله القرطبي عن ابن خويز منداد من مالكية العراق. قال ابن خويز منداد : وأما قوله : {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه} فيجوز أن يكون منسوخاً بقوله : {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} [البقرة : 193].
واختلفوا في دلالتها على جواز قتل الكافر المحارب إذا لجأ إلى الحرم بدون أن يكون قتال وكذا الجاني إذا لجأ إلى الحرم فاراً من القصاص والعقوبة فقال مالك : بجواز ذلك واحتج على ذلك بأن قوله تعالى : {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} [التوبة : 5] الآية قد نسخ هاته الآية وهو قول قتادة ومقاتل بناء على تأخر نزولها عن وقت العمل بهذه الآية والعام المتأخر عن العمل ينسخ الخاص اتفاقاً.
وبالحديث الذي رواه في "الموطأ" عن أنس بن مالك " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل مكة عام الفتح وعلى رأسه المغفر فلما نزعه جاء أبو برزة فقال : ابن خطل متعلق بأستار الكعبة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم اقتلوه " وابن خطل هذا هو عبد العزى بن خطل التيمي كان ممن أسلم ثم كفر بعد إسلامه وجعل دأبه سب رسول الله صلى الله عليه وسلم والإسلام فأهدر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الفتح دمه فلما علم ذلك عاذ بأستار الكعبة فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله حينئذٍ ، فكان قتل ابن خطل قتل حد لا قتل حرب ؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قد وضع المغفر عن رأسه وقد انقضت الساعة التي أحل الله له فيها مكة.
(4/223)
وبالقياس وهو أن حرمة المسجد الحرام متقررة في الشريعة فلما أذن الله بقتل من قاتل في المسجد الحرام علمنا أن العلة هي أن القتال فيه تعريض بحرمته للاستخفاف ، فكذلك عياذ الجاني به ، وبمثل قوله قال الشافعي ، لكن قال الشافعي إذا التجأ المجرم المسلم إلى المسجد الحرام يضيق عليه حتى يخرج فإن لم يخرج جاز قتله ، وقال أبو حنيفة : لا يقتل الكافر إذا التجأ إلى الحرم إلاّ إذا قاتل فيه لنص هاته الآية وهي محكمة عنده غير منسوخة وهو قول طاووس ومجاهد.
قال ابن العربي في "الأحكام" : حضرت في بيت المقدس بمدرسة أبي عقبة الحنفي والقاضي الزنجاني يلقي علينا الدرس في يوم الجمعة فبينا نحن كذلك إذ دخل رجل عليه أطمار فسلم سلام العلماء وتصدر في المجلس ، فقال القاضي الزنجاني : من السيد ؟ فقال : رجل من طلبة العلم بصاغان سلبه الشطار أمس ، ومقصدي هذا الحرم المقدس فقال القاضي الزنجاني : سلوه عن العادة في مبادرة العلماء بمبادرة أسئلتهم ، ووقعت القرعة على مسألة الكافر إذا التجأ إلى الحرم هل يقتل أم لا ؟ فأجاب بأنه لا يقتل ، فسئل عن الدليل فقال : قوله تعالى : {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فيه فإن قرىء (ولا تقتلوهم) فالآية نص وإن قرىء (ولا تقاتلوهم) فهي تنبيه ، لأنه إذا نهى عن القتال الذي هو سبب القتل كان دليلاً بيناً على النهي عن القتل فاعترض عليه الزنجاني منتصراً لمالك والشافعي وإن لم ير مذهبهما على العادة ، فقال هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} [التوبة : 5] فقال الصاغاني هذا لا يليق بمنصب القاضي ، فإن الآية التي اعترضتَ بها عامة في الأماكن والتي احتججتُ بها خاصة ولا يجوز لأحد أن يقول : إن العام ينسخ الخاص فأُبْهِت القاضي الزنجاني ، وهذا من بديع الكلام اه.
(4/224)
وجواب هذا أن العام المتأخر عن العمل بالخاص ناسخ وحديث ابن خطل دل على أن الآية التي في براءة ناسخة لآية البقرة. وأما قول الحنفية وبعض المالكية : إن قتل ابن خطل كان في اليوم الذي أحل الله له فيه مكة فيدفعه أن تلك الساعة انتهت بالفتح وقد ثبت في ذلك الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نزع حينئذٍ المغفر وذلك أمارة انتهاء ساعة الحرب.
وقال ابن العربي في "الأحكام" : الكافر إذا لم يقاتل ولم يجن جناية ولجأ إلى الحرم فإنه لا يقتل ، يريد أنه لا يقتل القتل الذي اقتضته آية {واقتلوهم حيث ثقفتموهم} وهو مما شمله قوله تعالى : {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام }.أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 205}
قوله تعالى : {كذلك جزاء الكافرين }
قال ابن عاشور :
وقوله : {كذلك جزاء الكافرين} ، الإشارة إلى القتل المأخوذ من قوله : {فاقتلوهم} أي كذلك القتل جزاؤهم على حد ما تقدم في قوله : {وكذلك جعلناكم أمة وسطاً} [البقرة : البقرة : 143] ونكتة الإشارة تهويله أي لا يقل جزاء المشركين عن القتل ولا مصلحة في الإبقاء عليهم ؛ وهذا تهديد لهم ، فقوله {كذلك} خبر مقدم للاهتمام وليست الإشارة إلى {وقاتلوا في سبيل الله} [البقرة : 190] لأن المقاتلة ليست جزاء ؛ إذ لا انتقام فيها بل القتال سجال يوماً بيوم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 205}
وقال الآلوسى "
{ كذلك جَزَاء الكافرين} تذييل لما قبله أي يفعل بهم مثل ما فعلوا ، والكافرين إما من وضع المظهر موضع المضمر نعياً عليهم بالكفر أو المراد منه الجنس ويدخل المذكورون فيه دخولاً أولياً. والجار في المشهور خبر مقدم وما بعده مبتدأ مؤخر ، واختار أبو البقاء أن الكاف بمعنى مثل مبتدأ وجزاء خبره إذ لا وجه للتقديم.
أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 76}
وقال أبو حيان : (4/225)
المعنى : جزاء الكافرين مثل ذلك الجزاء ، وهو القتل ، أي : من كفر بالله تعالى فجزاؤه القتل ، وفي إضافة الجزاء إلى الكافرين إشعار بعلية القتل. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 75}
قوله تعالى : {فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان النزوع بعد الشروع لا سيما حالة الإشراف على الظفر عسراً على الأنفس الأبية والهمم العلية قال : {فإن انتهوا} أي عن القتال ومقدماته ، وفيه إشعار بأن طائفة منهم تنتهي فإن العالم بكل شيء لا يعبر بأداة الشك إلا كذلك. ولما كان التقدير : فكفوا عنهم ولا تعرضوا لهم فإن الله قد غفر لهم علله بأمر عام فقال : {فإن الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {غفور رحيم} أي له هاتان الصفتان أزلاً وأبداً فكل من تاب فهذا شأنه معه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 364}
وقال فى التحرير والتنوير :
الانتهاء : أصله مطاوع نهى يقال : نهاه فانتهى ثم توسع فيه فأطلق على الكف عن عمل أو عن عزم ؛ لأن النهي هو طلب ترك فعل سواء كان الطلب بعد تلبس المطلوب بالفعل أو قبل تلبسه به قال النابغة
: ... لقد نهيت بني ذبيان عن أُقُرٍ
وعن تَرَبُّعهم في كل إصفار... أي عن الوقوع في ذلك. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 207}
وقال الفخر :
أما قوله تعالى : {فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فاعلم أنه تعالى أوجب عليهم القتال على ما تقدم ذكره ، وكان يجوز أن يقدر أن ذلك القتال لا يزول وإن انتهوا وتابوا كما ثبت في كثير من الحدود أن التوبة لا تزيله ، فقال تعالى بعدما أوجب القتل عليهم : {فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} بين بهذا أنهم متى انتهوا عن ذلك سقط وجوب القتل عنهم ، ونظيره قوله تعالى : {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} [الأنفال : 38] وفي الآية مسائل : (4/226)
المسألة الأولى : قال ابن عباس : فإن انتهوا عن القتال وقال الحسن : فإن انتهوا عن الشرك.
حجة القول الأول : أن المقصود من الإذن في القتال منع الكفار عن المقاتلة فكان قوله : {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} محمولاً على ترك المقاتلة.
حجة القول الثاني : أن الكافر لا ينال غفران الله ورحمته بترك القتال ، بل بترك الكفر.
المسألة الثانية : الانتهاء عن الكفر لا يحصل في الحقيقة إلا بأمرين أحدهما : التوبة والآخر التمسك بالإسلام ، وإن كان قد يقال في الظاهر لمن أظهر الشهادتين : إنه انتهى عن الكفر إلا أن ذلك إنما يؤثر في حقن الدم فقط.
أما الذي يؤثر في استحقاق الثواب والغفران والحرمة فليس إلا ما ذكرنا.
المسألة الثالثة : دلت الآية على أن التوبة من كل ذنب مقبولة ، وقول من قال : التوبة عن القتل العمد غير مقبولة خطأ ، لأن الشرك أشد من القتل ، فإذا قبل الله توبة الكافر فقبول توبة القاتل أولى ، وأيضاً فالكافر قد يكون بحيث جمع مع كونه كافراً كونه قاتلاً.
فلما دلت الآية على قبول توبة كل كافر دل على أن توبته إذا كان قاتلاً مقبولاً والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 113}
وقال أبو حيان : (4/227)
{ فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم} أي : عن الكفر ، ودخلوا في الاسلام ، ولذلك علق عليه الغفران والرحمة وهما لا يكونان مع الكفر {قل للذين كفروا إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف} وتقدم ما يدل عليه من اللفظ وهو جزاء الكافرين ، وسياق الكلام إنما هو مع الكفار ، وقيل : فإن انتهوا عن المقاتلة والشرك ، لتقدمهما في الكلام ، وهو حسن ، وقيل : عن القتال دون الكفر ، وليس الغفران لهم على هذا القول ، بل المعنى : فإن الله غفور لكم رحيم بكم حيث أسقط عنكم تكليف قتالهم ، وقيل : الجواب محذوف ، أي : فاغفروا لهم فإن الله غفور رحيم لكم ، وعلى قول : إن الانتهاء عن القتال فقط ، تكون الآية منسوخة ، وعلى القولين قبله تكون محكمة ، ومعنى : انتهى : كف ، وهو افتعل من النهي ، ومعناه فعل الفاعل بنفسه ، وهو نحو قولهم : اضطرب ، وهو أحد المعاني التي جاءت لها : افتعل.
قالوا : وفي قوله : {فإن انتهوا فإن الله غفور رحيم} دلالة على قبول توبة قاتل العمد ، إذ كان الكفر أعظم مأثماً من القتل ، وقد أخبر تعالى أنه يقبل التوبة من الكفر. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 75}
فائدة
قال بعض العلماء : في هذه الآية دليل على أن الباغي على الإمام بخلاف الكافر ؛ فالكافرْ يُقتل إذا قاتل بكل حال ، والباغي إذا قاتل بنية الدفع.
ولا يُتْبَعُ مُدْبِر ولا يُجْهَز على جريح. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 352}
كلام نفيس لابن عرفة فى الآية
قيل لابن عرفة : في ظاهر الآية تناف لأن " اقتلوهم حيث ثقفتموهم " يقتضي الأمر باستِئْصالِهِم وعدم إحياًء أحد (منهم) فلا يبق للاخراج محل.
وقوله : " وَأَخْرِجُوهُم " يقتضي إحياء بعضهم حتى يتناوله الإخراج.(4/228)
فأجاب بوجهين : الأول منهما : أنّ الاستيلاء عليهم تارة يكون عاما بحيث لا تبقى لهم ممانعة بوجه ، فهنا يقتلون وتارة يكون (دون) ذلك بحيث يتولّى المسلمون على وطنهم (ويمتنعون) هم منهم في حصن ونحوه ، حتى لا يكون لهم قوة على المسلمين ولا للمسلمين قدرة على قتلهم فهنا يصالحونهم على أن يخرجوا لينجوا بأنفسهم خاصة. انتهى.
الثاني : أنهم يخرجون أولا ثم يقتلون بعد الإخراج والواو لا تفيد رتبة ففي الآية التقديم والتأخير.
قال ابن عرفة : في الآية عندي إيماء إلى كون فعل الطاعة إذا (وافق) غرضا دنيويا فلا يقدح ذلك فيه ولا ينقص ثوابه لقوله : {مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ}.
قلت : وتقدم لنا في الختمة الأخرى عن ابن عرفة أنه تقرر أن الإمام مخير في الجهاد بين ثلاثة أشياء : إما القتل ، وإما الفدية وإما الأسر ، والآية تقتضي تحتم القتل من غير تخيير. وأجاب بأنه قد يكون تخصيصا.
قوله تعالى : {فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم...}.
وقرىء " فَإِن قَتَلُوكُمْ " أي فإن قتلوا بعضكم أو فإن أرادوا قتلكم ، وقول الله جل جلاله : {كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين} بعد أن قال {وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِندَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ} فظاهره أن الكافرين ليس لهم (جزاء إلا هذا ، مع أن جزاءهم) أن يقاتلوهم حيث (ثقفوهم) حتى يُسلموا ، فيجاب بهذا إما منسوخ أو مخصوص. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 243}(4/229)
قول ضعيف فى الآية
قال ابن العربى :
قَوْله تَعَالَى : {فَإِنْ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} : يَعْنِي انْتَهَوْا بِالْإِيمَانِ فَإِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ لَهُمْ جَمِيعَ مَا تَقَدَّمَ ، وَيَرْحَمُ كُلًّا مِنْهُمْ بِالْعَفْوِ عَمَّا اجْتَرَمَ.
وَهَذَا مَا لَمْ يُؤْسَرْ ، فَإِنْ أُسِرَ مَنَعَهُ الْإِسْلَامُ عَنْ الْقَتْلِ وَبَقِيَ عَلَيْهِ الرِّقُّ ، لِمَا رَوَى مُسْلِمٌ وَغَيْرُهُ عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ ، {أَنَّ ثَقِيفًا كَانَتْ حُلَفَاءَ لِبَنِي عَقِيلٍ فِي الْجَاهِلِيَّةِ ، فَأَصَابَ الْمُسْلِمُونَ رَجُلًا مِنْ بَنِي عَقِيلٍ وَمَعَهُ نَاقَةٌ لَهُ ، فَأَتَوْا بِهِ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ : يَا مُحَمَّدُ ؛ بِمَ أَخَذْتَنِي وَأَخَذْت سَابِقَةَ الْحَاجِّ ؟ قَالَ : أَخَذْتُك بِجَرِيرَةِ حُلَفَائِك ثَقِيفٍ وَقَدْ كَانُوا أَسَرُوا رَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، فَكَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَمُرُّ بِهِ وَهُوَ مَحْبُوسٌ ، فَيَقُولُ : يَا مُحَمَّدُ ، إنِّي مُسْلِمٌ.
قَالَ : لَوْ كُنْت قُلْت ذَلِكَ وَأَنْتَ تَمْلِكُ أَمْرَك أَفْلَحْت كُلَّ الْفَلَاحِ فَفَدَاهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِرَجُلَيْنِ مِنْ الْمُسْلِمِينَ ، وَأَمْسَكَ النَّاقَةَ لِنَفْسِهِ}.أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 153 ـ 154}(4/230)
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلَّ ذكره : {وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ}.
يعني عليكم بنصب العداوة مع أعدائي - كما أن عليكم إثبات الولاية والموالاة مع أوليائي - فلا تُشْفِقُوا عليهم وإن كان بينكم واصد الرحم ووشائج القرابة.
{ وأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ} : أولاً أَخْرِجُوا حبَّهم وموالاتهم من قلوبكم ، ثم أخرجوهم عن أوطان الإسلام ليكون الصغار جارياً عليهم. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 160}
قوله تعالى : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى : (4/231)
ولما كان المراد بما مضى من قتالهم كف أذاهم بأي فعل كان حققه بقوله : {وقاتلوهم} أي هؤلاء الذين نسبناهم إلى قتالكم وإخراجكم وفتنتكم أعم من أن يكونوا كفاراً أو لا {حتى لا تكون فتنة} أي توجد فتنة بأن لا يقدروا أن يؤذوا أحداً من أهل الإسلام ليردوه عن دينه أو يخرجوه من داره أو يخلعوه من ماله أو يغلبوه على حقه ، فقتال كل من وقع منه ذلك كفراً أو بغياً في سبيل الله حتى يفيء إلى أمر الله {ويكون الدين} أي الطاعة والعبادة. ولما كان هذا في أوائل ما بعد الهجرة قبل أن يروا من نصر الله لهم ما يقوي عزائمهم أعراه من التأكيد فقال : {الله} أي الذي لا كفوء له خاصاً به بأن يكون أمر المسلمين ظاهراً ، ليس للشيطان فيه نصيب ، لا يقدر أحد من أهل الكفر ولا أهل البغي على التظاهر بأذى أحد منهم ، وذلك بأن لا يبقى مشرك أصلاً ولا يبقى كتابي إلا ألزم الصغار بالجزية ، والحكمة في إبقائهم دون المشركين أن لهم كتباً أمهلوا لحرمتها ولينظروا فيها فيقفوا على الحق منها فإنها وإن كانت قد وقع فيها التحريف قد بقي فيها ما يهدي الموفق لأنها لم يعمها التحريف ، وأما أهل الأوثان فليس لهم ما يرشدهم إلى الحق فكان إمهالهم زيادة في شركهم مقطوعاً بها من غير فائدة تنتظر. قال الحرالي : ففي طيه إشعار بما وقع وهو واقع وسيقع من قتال طائفة الحق لطائفة البغي سائر اليوم المحمدي بما تخلص من الفتنة ويخلص الدين لله توحيداً ورضى وثباتاً على حال السلف الصالح وزمان الخلافة والنبوة - انتهى. {فإن انتهوا} أي كلفوا أنفسهم الرجوع عما استوجبوا به القتال فقد تركوا الظلم ، والنهي قال الحرالي الحكم المانع من الفعل المترامي إليه بمنزلة أثر العقل المسمى نُهى لمنعه عما تهوي إليه النفس مما يستبصر فيه النهى ، قال عليه الصلاة والسلام : " ليليني منكم أولو الأحلام والنهى " فمن لم يكن من أهل النهى كان نهاه النهى وهو الحكم المذكور - انتهى. {فلا(4/232)
عدوان} أي فلا سبيل يقع فيه العدو الشديد للقتال عليهم ، فإنه لا عدوان {إلا على الظالمين} قال الحرالي : فذكر الظلم الشامل لوجوه إيقاع الأمر في غير موضعه من أعلى الدين إلى أدناه - انتهى. ويجوز أن يكون التقدير : فإن انتهوا عن الشرك فقد انتفى عنهم اسم الظلم فلا تعتدوا عليهم ، فإن اعتديتم عليهم سلطاناً عليكم لظلمكم لهم من يعتدي عليكم ، فإنه لا عدوان إلا على الظالمين الذين دخلتم في مسماهم وخرجوا من مسماهم بالانتهاء ، فلا عدوان إلاّ عليكم لا عليهم ، ومعنى العدوان القتال بغاية العدو والشدة والعزم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 365 ـ 366}
قال الفخر :
قال القوم : هذه الآية ناسخة لقوله تعالى : {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فِيهِ} [البقرة : 191] والصحيح أنه ليس كذلك لأن البداية بالمقاتلة عند المسجد الحرام نفت حرمته أقصى ما في الباب أن هذه الصفة عامة ولكن مذهب الشافعي رضي الله عنه وهو الصحيح أن العام سواء كان مقدماً على المخصص أو متأخراً عنه فإنه يصير مخصوصاً به والله أعلم.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 113}
قال ابن عاشور :
عطف على جملة {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة : 190] وكان مقتضى الظاهر ألا تعطف هذه الجملة ؛ لأنها مبينة لما أجمل من غاية الأمر بقتال المشركين ولكنها عطفت لما وقع من الفصل بينها وبين الجملة المبيَّنة.(4/233)
وقد تضمنت الجمل السابقة من قوله : {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام} [البقرة : 191] إلى هنا تفصيلاً لجملة {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} ؛ لأن عموم {الذين يقاتلونكم} تنشأ عنه احتمالات في الأحوال والأزمنة والبقاع وقد انقضى بيان أحوال البقاع وأفضت التوبة الآن إلى بيان تحديد الأحوال بغاية ألا تكون فتنة. فإذا انتهت الفتنة فتلك غاية القتال ، أي إن خاسوا بالعهد وخفروا الذمة في المدة التي بينكم على ترك القتال فقد أصبحتم في حل من عهدهم فلكم أن تقاتلوهم حتى لا تكون فتنة أخرى من بعد يفتنونكم بها وحتى يدخلوا في الإسلام ، فهذا كله معلق بالشرط المتقدم في قوله : {فإن قاتلوكم فاقتلوهم} [البقرة : 191] ، فإعادة فعل {وقاتلوهم} لتبنى عليه الغاية بقوله : {حتى لا تكون فتنة} وبتلك الغاية حصلت المغايرة بينه وبين {وقاتلوا في سبيل الله} وهي التي باعتبارها ساغ عطفه على مثله. ف (حتى) في قوله : {حتى لا تكون} إما أن تجعل للغاية مرادفة إلى ، وإما أن تجعل بمعنى كي التعليلية وهما متلازمان ؛ لأن القتال لما غيي بذلك تعين أن الغاية هي المقصد ، ومتى كانت الغاية غير حسية نشأ عن (حتى) معنى التعليل ، فإن العلة غاية اعتبارية كقوله تعالى : {ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردونكم عن دينكم} [البقرة : 217]. وأيَّا ما كان فالمضارع منصوب بعد (حتى) بأن مضمرة للدلالة على ترتب الغاية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 207}
سؤال : ما المراد بالفتنة فى الآية ؟ (4/234)
في المراد بالفتنة ههنا وجوه أحدهما : أنها الشرك والفكر ، قالوا : كانت فتنتهم أنهم كانوا يضربون ويؤذون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بمكة حتى ذهبوا إلى الحبشة ثم واظبوا على ذلك الإيذاء حتى ذهبوا إلى المدينة وكان غرضهم من إثارة تلك الفتنة أن يتركوا دينهم ويرجعوا كفاراً ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، والمعنى : قاتلوهم حتى تظهروا عليهم فلا يفتنوكم عن دينكم فلا تقعوا في الشرك وثانيها : قال أبو مسلم : معنى الفتنة ههنا الجرم قال : لأن الله تعالى أمر بقتالهم حتى لا يكون منهم القتال الذي إذا بدؤا به كان فتنة على المؤمنين لما يخافون عنده من أنواع المضار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 113}
وقال فى التحرير والتنوير :
المراد بالفتنة هنا كالمراد بها هنالك {فى الآية السابقة} ، ولما وقعت هنا في سياق النفي عمت جميع الفتن فلذلك ساوت المذكورة هنا المذكورة في قوله تعالى : {والفتنة أشد من القتل} [البقرة : 191] فإعادة الفتنة منكرة هنا لا يدل على المغايرة كما هو الشائع بين المعربين في أن المعرفة إذا أعيدت نكرة فهي غير الأولى ؛ لأن وقوعها في سياق النفي أفاد العموم فشمل جميع أفراد الفتنة مساوياً للفتنة المعرفة بلام الاستغراق إلاّ أنه استغراق عرفي بقرينة السياق فتقيد بثلاثة قيود بالقرينة أي حتى لا تكون فتنة منهم للمسلمين في أمر الدين وإلاّ فقد وقعت فتن بين المسلمين أنفسهم كما في حديث : " ثم فتنة لا يبقى بيت من العرب إلاّ دخلته ".(4/235)
وانتفاء الفتنة يتحقق بأحد أمرين : إما بأن يدخل المشركون في الإسلام فتنزل فتنتهم فيه ، وإما بأن يقتلوا جميعاً فتزول الفتنة بفناء الفاتنين. وقد يُفرض انتفاء الفتنة بظهور المسلمين عليهم ومصير المشركين ضعفاء أمام قوة المسلمين ، بحيث يخشون بأسهم ، إلاّ أن الفتنة لما كانت ناشئة عن التصلب في دينهم وشركهم لم تكن بالتي تضمحل عند ضعفهم ، لأن الإقدام على إرضاء العقيدة يصدر حتى من الضعيف كما صدر من اليهود غير مرة في المدينة في مثل قصة الشاة المسمومة ، وقتلهم عبد الله بن سهل الحارثي في خيبر ، ولذلك فليس المقصود هنا إلاّ أحد أمرين : إما دخولهم في الإسلام وإما إفناؤهم بالقتل ، وقد حصل كلا الأمرين في المشركين ففريق أسلموا ، وفريق قتلوا يوم بدر وغيره من الغزوات ، ومن ثم قال علماؤنا : لا تقبل من مشركي العرب الجزية ، ومن ثم فسر بعض المفسرين الفتنة هنا بالشرك تفسيراً باعتبار المقصود من المعنى لا باعتبار مدلول اللفظ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 208}
سؤال : فإن قيل : كيف يقال : {وقاتلوهم حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ} مع علمنا بأن قتالهم لا يزيل الكفر وليس يلزم من هذا أن خبر الله لا يكون حقاً.
قلنا الجواب من وجهين الأول : أن هذا محمول على الأغلب لأن الأغلب عند قتالهم زوال الكفر والشرك ، لأن من قتل فقد زال كفره ، ومن لا يقتل يخاف منه الثبات على الكفر فإذا كان هذا هو الأغلب جاز أن يقال ذلك.
الجواب الثاني : أن المراد قاتلوهم قصداً منكم إلى زوال الكفر ، لأن الواجب على المقاتل للكفار أن يكون مراده هذا ، ولذلك متى ظن أن من يقاتله يقلع عن الكفر بغير القتال وجب عليه العدول عنه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 113}
قال الشيخ الطاهر بن عاشور :
وقوله : {ويكون الدين لله} عطف على {لا تكون فتنة} فهو معمول لأن المضمرة بعد (حتى) أي وحتى يكون الدين لله ، أي حتى لا يكون دين هنالك إلاّ لله أي وحده.(4/236)
فالتعريف في الدين تعريف الجنس ، لأن الدين من أسماء المواهي التي لا أفراد لها في الخارج فلا يحتمل تعريفه معنى الاستغراق.
واللام الداخلة على اسم الجلالة لام الاختصاص أي حتى يكون جنس الدين مختصاً بالله تعالى على نحو ما قرر في قوله : {الحمد لله} [الفاتحة : 2] ، وذلك يئول إلى معنى الاستغراق ولكنه ليس عينه ، إذ لا نظر في مثل هذا للأفراد ، والمعنى : ويكون دين الذين تقاتلونهم خالصاً لله لاحظ للإشراك فيه.
والمقصود من هذا تخليص بلاد العرب من دين الشرك وعموم الإسلام لها ؛ لأن الله اختارها لأن تكون قلب الإسلام ومنبع معينه فلا يكون القلب صالحاً إذا كان مخلوط العناصر.
وقد أخرج البخاري عن عبد الله بن عمر أثراً جيداً قال : جاءَ رجلان إلى ابن عمر أيام فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج ؟ فقال : يمنعني أن الله حرم دم أخي ، فقالا : ألم يقل الله تعالى : {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين لله} فقال ابن عمر : قاتلنا مع رسول الله حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله ، قال ابن عمر : كان الإسلام قليلاً فكان الرجل يفتن في دينه إما قتلوه وإما عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 209}
قوله تعالى : {وَيَكُونَ الدين للَّهِ }
قال الفخر : (4/237)
أما قوله تعالى : {وَيَكُونَ الدين للَّهِ} فهذا يدل على حمل الفتنة على الشرك ، لأنه ليس بين الشرك وبين أن يكون الدين كله لله واسطة والمراد منه أن يكون تعالى هو المعبود المطاع دون سائر ما يعبد ويطاع غيره ، فصار التقدير كأنه تعالى قال : وقاتلوهم حتى يزول الكفر ويثبت الإسلام ، وحتى يزول ما يؤدي إلى العقاب ويحصل ما يؤدي إلى الثواب ، ونظيره قوله تعالى : {تقاتلونهم أَوْ يُسْلِمُونَ} [الفتح : 16] وفي ذلك بيان أنه تعالى إنما أمر بالقتال لهذا المقصود. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 114}
سؤال : لم لم يجىء هنا كلمة {كله} كما في آية الأنفال ؟
الجواب : لم يجىء هنا كلمة كله كما في آية الأنفال لأن ما هنا في مشركي العرب ، وما هناك في الكفار عموماً فناسب العموم هناك وتركه هنا {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} تصريح بمفهوم الغاية فالمتعلق الشرك والفاء للتعقيب {فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين} علة للجزاء المحذوف أقيمت مقامه والتقدير : فان انتهوا وأسلموا فلا تعتدوا عليهم لأن العدوان على الظالمين والمنتهون ليسوا بظالمين ، والمراد نفي الحسن والجواز لا نفي الوقوع لأن العدوان واقع على غير الظالمين. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 76}
وقال ابن عرفة :
قوله تعالى : {وَيَكُونَ الدين لِلَّهِ...}.
في الأنفال : {وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ} وأجاب بعضهم : بأن هذه في قتال كفار قريش وتلك في قتال جميع الكفار لأن قبلها {قُل لِّلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} فالمراد في آية البقرة ويكون الدّين (الّذي) هم عليه لله ودينهم بعض الدين لا كله بخلاف آية الأنفال.
قال ابن عرفة : هذا (ينتج) له العكس لأن الأمر بقتال جميع الكفار يقتضي أنّ المراد صيرورة جميع الدّين لله فلا يحتاج إلى التأكيد بكل ، والأمر بقتال بعضهم لا يقتضي ذلك فهو أحق أن يؤكد (بكل ). أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 245}(4/238)
كلام نفيس فى هذا الموضع
قال ابن العربى :
قَوْله تَعَالَى {وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ} : قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ {أُمِرْت أَنْ أُقَاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، فَإِذَا قَالُوهَا عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ إلَّا بِحَقِّهَا وَحِسَابُهُمْ عَلَى اللَّهِ فَإِنْ لَمْ يَفْعَلُوا قُوتِلُوا وَهُمْ الظَّالِمُونَ لَا عُدْوَانَ إلَّا عَلَيْهِمْ }.
إنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ هُوَ الْكُفْرِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّهُ تَعَالَى قَالَ { : حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ} ؛ فَجَعَلَ الْغَايَةَ عَدَمَ الْكُفْرِ نَصًّا ، وَأَبَانَ فِيهَا أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ الْمُبِيحَ لِلْقِتَالِ الْكُفْرُ.
وَقَدْ ضَلَّ أَصْحَابُ أَبِي حَنِيفَةَ عَنْ هَذَا ، وَزَعَمُوا أَنَّ سَبَبَ الْقَتْلِ الْمُبِيحَ لِلْقِتَالِ هِيَ الْخَرْبَةُ ، وَتَعَلَّقُوا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى {وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ} وَهَذِهِ الْآيَةُ تَقْضِي عَلَيْهَا الَّتِي بَعْدَهَا ؛ لِأَنَّهُ أَمَرَ أَوَّلًا بِقِتَالِ مَنْ قَاتَلَ ، ثُمَّ بَيَّنَ أَنَّ سَبَبَ قِتَالِهِ وَقَتْلِهِ كُفْرُهُ الْبَاعِثُ لَهُ عَلَى الْقِتَالِ ، وَأَمَرَ بِقِتَالِهِ مُطْلَقًا مِنْ غَيْرِ تَخْصِيصٍ بِابْتِدَاءِ قِتَالٍ مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ : لَوْ كَانَ الْمُبِيحُ لِلْقَتْلِ هُوَ الْكُفْرُ لَقُتِلَ كُلُّ كَافِرٍ وَأَنْتَ تَتْرُكُ مِنْهُمْ النِّسَاءَ وَالرُّهْبَانَ وَمَنْ تَقَدَّمَ ذِكْرُهُ مَعَهُمْ.
(4/239)
فَالْجَوَابُ : أَنَّا إنَّمَا تَرَكْنَاهُمْ مَعَ قِيَامِ الْمُبِيحِ بِهِمْ لِأَجْلِ مَا عَارَضَ الْأَمْرَ مِنْ مَنْفَعَةٍ أَوْ مَصْلَحَةٍ : أَمَّا الْمَنْفَعَةُ فَالِاسْتِرْقَاقُ فِيمَنْ يُسْتَرَقُّ ؛ فَيَكُونُ مَالًا وَخَدَمًا ، وَهِيَ الْغَنِيمَةُ الَّتِي أَحَلَّهَا اللَّهُ تَعَالَى لَنَا مِنْ بَيْنِ الْأُمَمِ.
وَأَمَّا الْمَصْلَحَةُ فَإِنَّ فِي اسْتِبْقَاءِ الرُّهْبَانِ بَاعِثًا عَلَى تَخَلِّي رِجَالِهِمْ عَنْ الْقِتَالِ فَيُضْعِفُ حَرْبَهُمْ وَيُقِلُّ حِزْبَهُمْ فَيَنْتَشِرُ الِاسْتِيلَاءُ عَلَيْهِمْ أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 155}(4/240)
قوله تعالى : {فَإِنِ انْتَهَوْاْ }
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {فَإِنِ انْتَهَوْاْ} فالمراد : فإن انتهوا عن الأمر الذي لأجله وجب قتالهم ، وهو إما كفرهم أو قتالهم ، فعند ذلك لا يجوز قتالهم ، وهو كقوله تعالى : {قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ} [الأنفال : 38 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 114}
قوله تعالى : {فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين }
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {فَلاَ عدوان إِلاَّ عَلَى الظالمين} ففيه وجهان الأول : فإن انتهوا فلا عدوان ، أي فلا قتل إلاعلى الذين لا ينتهون على الكفر فإنهم بإصرارهم على كفرهم ظالمون لأنفسهم على ما قال تعالى : {إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ }.أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 114}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين} ، أي فإن انتهوا عن نقض الصلح أو فإن انتهوا عن الشرك بأن آمنوا فلا عدوان عليهم ، وهذا تصريح بمفهوم قوله : {الذين يقاتلونكم} [البقرة : 190] واحتيج إليه لبعد الصفة بطول الكلام ولاقتضاء المقام التصريحَ بأهم الغايتين من القتال ؛ لئلا يتوهم أن آخر الكلام نسخ أوله وأوجب قتال المشركين في كل حال.
وقوله : {فلا عدوان إلا على الظالمين} قائم مقام جواب الشرط لأنه علة الجواب المحذوف ، والمعنى فإن انتهوا عن قتالكم ولم يقدموا عليه فلا تأخذوهم بالظنة ولا تبدءوهم بالقتال ، لأنهم غير ظالمين ؛ وإذ لا عدوان إلاّ على الظالمين ، وهو مجاز بديع.(4/241)
والعدوان هنا إما مصدر عدا بمعنى وثب وقاتل أي فلا هجوم عليهم ، وإما مصدر عدا بمعنى ظلم كاعتدى فتكون تسميته عدواناً مشاكلة لقوله : {على الظالمين} كما سمي جزاء السيئة بالسوء سيئة. وهذه المشاكلة تقديرية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 209}
سؤال : لم جاء : بـ {على} ؟
الجواب : جاء : بعلى ، تنبيها على استيلاء الجزاء عليهم واستعلائه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 77}
فإن قيل : لم سمي ذلك القتل عدواناً مع أنه في نفسه حق وصواب ؟ .
قلنا : لأن ذلك القتل جزاء العدوان فصح إطلاق اسم العدوان عليه كقوله تعالى : {وَجَزَاء سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} [الشورى : 40] وقوله تعالى : {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُم} [البقرة : 194] {ومكروا ومكر الله} [آل عمران : 54] {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ} [التوبة : 79] والثاني : إن تعرضتم لهم بعد انتهائهم عن الشرك والقتال كنتم أنتم ظالمين فنسلط عليكم من يعتدي عليكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 114}
وقال الرماني ، إنما استعمل لفظ العدوان في الجزاء من غير مزاوجة اللفظ ، لأن مزاوجة اللفظ مزاوجة المعنى ، كأنه يقول : انتهوا عن العدوان فلا عدوان إلاَّ على الظالمين انتهى كلامه. وهذا النفي العام يراد به النهي ، أي : فلا تعتدوا ، وذلك على سبيل المبالغة إذا أرادوا المبالغة في ترك الشيء عدلوا فيه عن النهي إلى النفي المحض العام ، وصار ألزم في المنع ، إذ صار من الأشياء التي لا تقع أصلاً ، ولا يصح حمل ذلك على النفي الصحيح أصلاً لوجود العدوان على غير الظالم. فكأنه يكون إخباراً غير مطابق ، وهو لا يجوز على الله تعالى.
وقيل : معنى لا عدوان ، لا سبيل ، كقوله : {أيما الأجلين قضيت فلا عدوان عليّ} أي لا سبيل عليّ ، وهو مجاز عن التسليط والتعرض ، وهو راجع لمعنى جزاء الظالم الذي شرحنا به العدوان.(4/242)
ورابط الجزاء بالشرط إما بتقدير حذف أي : إلاَّ على الظالمين منهم ، أو بالاندراج في عموم الظالمين ، فكان الربط بالعموم.
أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 77}
وقال ابن عطية
والانتهاء في هذا الموضع يصح مع عموم الآية في الكفار أن يكون الدخول في الإسلام ، ويصح أن يكون أداء الجزية ، وسمى ما يصنع بالظالمين عدواناً من حيث هو جزاء عدوان إذ الظلم يتضمن العدوان ، والعقوبة تسمى باسم الذنب في غير ما موضع ، والظالمون هم على أحد التأويلين : من بدأ بقتال ، وعلى التأويل الآخر : من بقي على كفر وفتنة. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 263}
قال أبو حيان :
وفسر الظالمون هنا بمن بدأ بالقتال ، وقيل : من بقي على كفر وفتنة ، قال عكرمة ، وقتادة : الظالم هنا من أبى أن يقول لا إله إلاَّ الله. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 77}
كلام نفيس فى آيات الجهاد لصاحب الميزان :
قال رحمه الله :
سياق الآيات الشريفة يدل على أنها نازلة دفعة واحدة ، وقد سيق الكلام فيها لبيان غرض واحد وهو تشريع القتال لأول مرة مع مشركي مكة ، فإن فيها تعرضا لإخراجهم من حيث أخرجوا المؤمنين ، وللفتنة ، وللقصاص ، والنهي عن مقاتلتهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلوا عنده ، وكل ذلك أمور مربوطة بمشركي مكة ، على أنه تعالى قيد القتال بالقتال في قوله : {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} ، وليس معناه الاشتراط أي قاتلوهم إن قاتلوكم وهو ظاهر ، ولا قيدا احترازيا ، والمعنى قاتلوا الرجال دون النساء والولدان الذين لا يقاتلونكم كما ذكره بعضهم ، إذ لا معنى لقتال من لا يقدر على القتال حتى ينهى عن مقاتلته ، ويقال : لا تقاتله بل إنما الصحيح النهى عن قتله دون قتاله.
بل الظاهر أن الفعل أعني يقاتلونكم ، للحال والوصف للإشارة ، والمراد به الذين حالهم حال القتال مع المؤمنين وهم مشركوا مكة.(4/243)
فمساق هذه الآيات مساق قوله تعالى : (أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله) الحج - 40 ، إذن ابتدائي للقتال مع المشركين المقاتلين من غير شرط.
على أن الآيات الخمس جميعا متعرضة لبيان حكم واحد بحدوده وأطرافه ولوازمه فقوله تعالى : {وقاتلوا في سبيل الله} ، لأصل الحكم ، وقوله تعالى : {لا تعتدوا }الخ ، تحديد له من حيث الانتظام ، وقوله تعالى : {واقتلوهم} (الخ) تحديد له من حيث التشديد ، وقوله تعالى : {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام} (الخ) ، تحديد له من حيث المكان ، وقوله تعالى : {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة} (الخ) تحديد له من حيث الأمد والزمان ، وقوله تعالى : {الشهر الحرام} (الخ) ، بيان أن هذا الحكم تشريع للقصاص في القتال والقتل ومعاملة بالمثل معهم ، وقوله تعالى : {وأنفقوا} ، إيجاب لمقدمته المالية وهو الإنفاق للتجهيز والتجهز ، فيقرب أن يكون نزول مجموع الآيات الخمس لشأن واحد من غير أن ينسخ بعضها بعضا كما احتمله بعضهم ، ولا أن تكون نازلة في شؤون متفرقة كما ذكره آخرون ، بل الغرض منها واحد وهو تشريع القتال مع مشركي مكة الذين كانوا يقاتلون المؤمنين.أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 60 ـ 61}
بحث قيم فى فرضية الجهاد لابن القيم
قال رحمه الله :
والتحقيق أن جنس الجهاد فرض عين إما بالقلب وإما باللسان وإما بالمال وإما باليد فعلى كل مسلم أن يجاهد بنوع من هذه الأنواع
(4/244)
أما الجهاد بالنفس ففرض كفاية وأما الجهاد بالمال ففي وجوبه قولان والصحيح وجوبه لأن الأمر بالجهاد به وبالنفس في القرآن سواء كما قال تعالى : {انفروا خفافا وثقالا وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون} (التوبة : 41) وعلق النجاة من النار به ومغفرة الذنب ودخول الجنة فقال : {يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله ورسوله وتجاهدون في سبيل الله بأموالكم وأنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم ويدخلكم جنات تجري من تحتها الأنهار ومساكن طيبة في جنات عدن ذلك الفوز العظيم}
( الصف : 10) وأخبر أنهم إن فعلوا ذلك أعطاهم ما يحبون من النصر والفتح القريب فقال : {وأخرى تحبونها} (الصف : 12) أي : ولكم خصلة أخرى تحبونها في الجهاد وهي {نصر من الله وفتح قريب} وأخبر سبحانه أنه {اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة} (التوبة : 110) وأعاضهم عليها الجنة وأن هذا العقد والوعد قد أودعه أفضل كتبه المنزلة من السماء وهي التوارة والإنجيل والقرآن ثم أكد ذلك بإعلامهم أنه لا أحد أوفى بعهده منه تبارك وتعالى ثم أكد ذلك بأن أمرهم بأن يستبشروا ببيعهم الذي عاقدوه عليه ثم أعلمهم أن ذلك هو الفوز العظيم
فليتأمل العاقد مع ربه عقد هذا التبايع ما أعظم خطره وأجله فإن الله عز وجل هو المشتري والثمن جنات النعيم والفوز برضاه والتمتع برؤيته هناك والذي جرى على يده هذا العقد أشرف رسله وأكرمهم عليه من الملائكة والبشر وإن سلعة هذا شأنها لقد هيئت لأمر عظيم وخطب جسيم :
قد هيؤوك لأمر لو فطنت له... فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
(4/245)
مهر المحبة والجنة بذل النفس والمال لمالكهما الذي اشتراهما من المؤمنين فما للجبان المعرض المفلس وسوم هذه السلعة بالله ما هزلت فيستامها المفلسون ولا كسدت فيبيعها بالنسيئة المعسرون لقد أقيمت للعرض في سوق من يريد فلم يرض ربها لها بثمن دون بذل النفوس فتأخر البطالون وقام المحبون ينتظرون أيهم يصلح أن يكون نفسه الثمن فدارت السلعة بينهم ووقعت في يد {أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين} (المائدة : 54)
(4/246)
لما كثر المدعون للمحبة طولبوا بإقامة البينة على صحة الدعوى فلو يعطى الناس بدعواهم لادعى الخلي حرفة الشجي فتنوع المدعون في الشهود فقيل : لا تثبت هذه الدعوى إلا ببينة {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} (آل عمران : 31) فتأخر الخلق كلهم وثبت أتباع الرسول في أفعاله وأقواله وهديه وأخلاقه فطولبوا بعدالة البينة وقيل : لا تقبل العدالة إلا بتزكية {يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} (المائدة : 54) فتأخر أكثر المدعين للمحبة وقام المجاهدون فقيل لهم : إن نفوس المحبين وأموالهم ليست لهم فسلموا ما وقع عليه العقد فإن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة وعقد التبايع يوجب التسليم من الجانبين فلما رأى التجار عظمة المشتري وقدر الثمن وجلالة قدر من جرى عقد التبايع على يديه ومقدار الكتاب الذي أثبت فيه هذا العقد عرفوا أن للسلعة قدرا وشأنا ليس لغيرها من السلع فرأوا من الخسران البين والغبن الفاحش أن يبيعوها بثمن بخس دراهم معدودة تذهب لذتها وشهوتها وتبقى تبعتها وحسرتها فإن فاعل ذلك معدود في جملة السفهاء فعقدوا مع المشتري بيعة الرضوان رضى واختيارا من غير ثبوت خيار وقالوا : والله لا نقيلك ولا نستقيلك فلما تم العقد وسلموا المبيع قيل لهم : قد صارت أنفسكم وأموالكم لنا والآن فقد رددناها عليكم أوفر ما كانت وأضعاف أموالكم معها {ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون} (آل عمران : 69) لم نبتع منكم نفوسكم وأموالكم طلبا للربح عليكم بل ليظهر أثر الجود والكرم في قبول المعيب والإعطاء عليه أجل الأثمان ثم جمعنا لكم بين الثمن والمثمن تأمل قصة جابر بن عبد الله وقد اشترى منه صلى الله عليه وسلم بعيره ثم وفاه الثمن وزاده ورد عليه البعير وكان أبوه قد قتل مع النبي صلى الله عليه وسلم في وقعة أحد فذكره بهذا الفعل حال أبيه مع الله وأخبره أن الله أحياه وكلمه(4/247)
كفاحا وقال : يا عبدي تمن علي فسبحان من عظم جوده وكرمه أن يحيط به علم الخلائق فقد أعطى السلعة وأعطى الثمن ووفق لتكميل العقد وقبل المبيع على عيبه وأعاض عليه أجل الأثمان واشترى عبده من نفسه بماله وجمع له بين الثمن والمثمن وأثنى عليه ومدحه بهذا العقد وهو سبحانه الذي وفقه له وشاءه منه
فحيهلا إن كنت ذا همة فقد... حدا بك حادي الشوق فاطو المراجلا
وقل لمنادي حبهم ورضاهم... إذا ما دعا لبيك ألفا كواملا
ولا تنظر الأطلال من دونهم فإن... نظرت إلى الأطلال عدن حوائلا
ولا تنتظر بالسير رفقة قاعد... ودعه فإن الشوق يكفيك حاملا
وخذ منهم زادا إليهم وسرعلى... طريق الهدى والحب تصبح واصلا
وأحي بذكراهم شراك إذا دنت... ركابك فالذكرى تعيدك عاملا
وأما تخافن الكلال فقل لها... أمامك ورد الوصل فابغي المناهلا
وخذ قبسا من نورهم ثم سر به... فنورهم يهديك ليس المشاعلا
وحى على وادي الأراك فقل به... عساك تراهم ثم إن كنت قائلا
وإلا ففي نعمان عندي معرف الـ... أحبة فاطلبهم إذا كنت سائلا
وإلا ففي جمع بليلته فإن... تفت فمنى يا ويح من كان غافلا
وحي على جنات عدن فإنها... منازلك الأولى بها كنت نازلا
ولكن سباك الكاشحون لأجل ذا... وقفت على الأطلال تبكي المنازلا
وحي على يوم المزيد بجنة الـ... خلود فجد بالنفس إن كنت باذلا
فدعها رسوما دارسات فما بها... مقيل وجاوزها فليست منازلا
رسوماعفت ينتابهاالخلق كم بها... قتيل وكم فيها لذا الخلق قاتلا
وخذ يمنة عنها على المنهج الذي... عليه سرى وفد الأحبة آهلا
وقل ساعدي يانفس بالصبرساعة... فعند اللقا ذا الكد يصبح زائلا
فما هي إلا ساعة ثم تنقضي... ويصبح ذو الأحزان فرحان جاذلا
(4/248)
لقد حرك الداعى إلى الله وإلى دار السلام النفوس الأبية والهمم العالية وأسمع منادي الإيمان من كانت له أذن واعية وأسمع الله من كان حيا فهزه السماع إلى منازل الأبرار وحدا به في طريق سيره فما حطت به رحاله إلا بدار القرار فقال : انتدب الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا إيمان بي وتصديق برسلي أن أرجعه بما نال من أجر أو غنيمة أو أدخله الجنة ولولا أن أشق على أمتي ما قعدت خلف سرية ولوددت أني أقتل في سبيل الله ثم أحيا ثم أقتل ثم أحيا ثم أقتل
وقال : مثل المجاهد في سبيل الله كمثل الصائم القائم القانت بآيات الله لا يفتر من صيام ولا صلاة حتى يرجع المجاهد في سبيل الله وتوكل الله للمجاهد في سبيله بأن يتوفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه سالما مع أجر أو غنيمة
وقال : غدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها
وقال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى : أيما عبد من عبادي خرج مجاهدا في سبيلي وابتغاء مرضاتي ضمنت له أن أرجعه إن أرجعته بما أصاب من أجر أو غنيمة وإن قبضته أن أغفر له وأرحمه وأدخله الجنة
وقال : جاهدوا في سبيل الله فإن الجهاد في سبيل الله باب من أبواب الجنة ينجي الله به من الهم والغم
وقال : أنا زعيم - والزعيم الحميل - لمن آمن بي وأسلم وهاجر ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة وأنا زعيم لمن آمن بي وأسلم وجاهد في سبيل الله ببيت في ربض الجنة وببيت في وسط الجنة وببيت في أعلى غرف الجنة من فعل ذلك لم يدع للخير مطلبا ولا من الشر مهربا يموت حيث شاء أن يموت
وقال : من قاتل في سبيل الله من رجل مسلم فواق ناقة وجبت له الجنة
وقال : إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة
(4/249)
وقال لأبي سعيد : [من رضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا وجبت له الجنة] فعجب لها أبو سعيد فقال : أعدها على يا رسول الله ففعل ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : [وأخرى يرفع الله بها العبد مائة درجة في الجنة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض] قال : وما هي يا رسول الله ؟ قال : [الجهاد في سبيل الله]
وقال : [من أنفق زوجين في سبيل الله دعاه خزنة الجنة كل خزنة باب أي فل هلم فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريان] فقال أبو بكر : بأبى أنت وأمي يا رسول الله ما على من دعي من تلك الأبواب من ضرورة فهل يدعى من تلك الأبواب كلها ؟ قال : [نعم وأرجو أن تكون منهم]
وقال : [من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فبسبعمائة ومن أنفق على نفسه وأهله وعاد مريضا أو أماط الأذى عن طريق فالحسنة بعشر أمثالها والصوم جنة ما لم يخرقها ومن ابتلاه الله في جسده فهو له حطة]
وذكر ابن ماجة عنه : من أرسل بنفقة في سبيل الله وأقام في بيته فله بكل درهم سبعمائة درهم ومن غزا بنفسه في سبيل الله وأنفق في وجهه ذلك فله بكل درهم سبعمائة ألف درهم ثم تلا هذه الآية : {والله يضاعف لمن يشاء} }
( البقرة : 261 )
وقال : [من أعان مجاهدا في سبيل الله أو غارما في غرمه أو مكاتبا في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله]
وقال : [من اغبرت قدماه في سبيل الله حرمه الله على النار]
وقال : [لا يجتمع شح وإيمان في قلب رجل واحد ولا يجتمع غبار فى سبيل الله ودخان جهنم في وجه عبد] وفي لفظ في قلب عبد وفي لفظ فى جوف امرىء وفي لفظ في منخري مسلم
وذكر الإمام أحمد رحمه الله تعالى : من اغبرت قدماه في سبيل الله ساعة من نهار فهما حرام على النار
(4/250)
وذكر عنه أيضا أنه قال : [لا يجمع الله في جوف رجل غبارا فى سبيل الله ودخان جهنم ومن اغبرت قدماه في سبيل الله حرم الله سائر جسده على النار ومن صام يوما في سبيل الله باعد الله عنه النار مسيرة ألف سنة للراكب المستعجل ومن جرح جراحة في سبيل الله ختم له بخاتم الشهداء له نور يوم القيامة لونها لون الزعفران وريحها ريح المسك يعرفه بها الأولون والآخرون ويقولون : فلان عليه طابع الشهداء ومن قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة]
وذكر ابن ماجة عنه : [من راح روحة في سبيل الله كان له بمثل ما أصابه من الغبار مسكا يوم القيامة]
وذكر أحمد - رحمه الله - عنه : [ما خالط قلب امرىء رهج في سبيل الله إلا حرم الله عليه النار]
وقال : [رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها]
وقال : [رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه وإن مات جرى عليه عمله الذى كان يعمله وأجري عليه رزقه وأمن الفتان]
وقال : [كل ميت يختم على عمله إلا الذي مات مرابطا في سبيل الله فإنه ينمو له عمله إلى يوم القيامة ويؤمن من فتنة القبر]
وقال : [رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل]
وذكر ابن ماجة عنه : [من رابط ليلة في سبيل الله كانت له كألف ليلة صيامها وقيامها]
وقال : [مقام أحدكم في سبيل الله خير من عبادة أحدكم في أهله ستين سنة أما تحبون أن يغفر الله لكم وتدخلون الجنة جاهدوا في سبيل الله من قاتل في سبيل الله فواق ناقة وجبت له الجنة]
وذكر أحمد عنه : [من رابط في شئ من سواحل المسلمين ثلاثة أيام أجزأت عنه رباط سنة]
وذكر عنه أيضا : [حرس ليلة في سبيل الله أفضل من ألف ليلة يقام ليلها ويصام نهارها]
وقال : [حرمت النار على عين دمعت أو بكت من خشية الله وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله]
(4/251)
وذكر أحمد عنه : [من حرس من وراء المسلمين في سبيل الله متطوعا لا يأخذه سلطان لم ير النار بعينيه إلا تحلة القسم] فإن الله يقول : {وإن منكم إلا واردها
وقال لرجل حرس المسلمين ليلة في سفرهم من أولها إلى الصباح على ظهر فرسه لم ينزل إلا لصلاة أو قضاء حاجة : [قد أوجبت فلا عليك ألا تعمل بعدها]
وقال : [من بلغ بسهم في سبيل الله فله درجة في الجنة]
وقال : [من رمى بسهم في سبيل الله فهو عدل محرر ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نورا يوم القيامة] وعند النسائي تفسير الدرجة عام
وقال : [إن الله يدخل بالسهم الواحد الجنة : صانعه يحتسب في صنعته الخير والممد به والرامي به وأرموا واركبوا وأن ترموا أحب إلي من أن تركبوا وكل شئ يلهو به الرجل فباطل إلا رميه بقوسه أو تأديبه فرسه وملاعبته امرأته ومن علمه الله الرمي فتركه رغبة عنه فنعمة كفرها] رواه أحمد وأهل السنن وعند ابن ماجة [من تعلم الرمي ثم تركه فقد عصاني] وذكر أحمد عنه أن رجلا قال له : أوصني فقال : [أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شئ وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام وعليك بذكر الله وتلاوة القرآن فإنه روحك في السماء وذكر لك في الأرض ]
وقال : [ذروة سنام الإسلام الجهاد] وقال : [ثلاثة حق على الله عونهم : المجاهد في سييل الله والمكاتب الذي يريد الأداء والناكح الذي يريد العفاف]
وقال : [من مات ولم يغز ولم يحدث به نفسه مات على شعبة من نفاق]
وذكر أبو داود عنه : [من لم يغز أو يجهز غازيا أو يخلف غازيا فى أهله بخير أصابه الله بقارعة قبل يوم القيامة]
وقال : [إذا ضن الناس بالدينار والدرهم وتبايعوا بالعينة واتبعوا أذناب البقر وتركوا الجهاد في سبيل الله أنزل الله بهم بلاء فلم يرفعه عنهم حتى يراجعوا دينهم]
وذكر ابن ماجة عنه : [من لقي الله عز وجل وليس له أثر في سبيل الله لقي الله وفيه ثلمة]
(4/252)
وقال تعالى : {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} (البقرة : 195) وفسر أبو أيوب الأنصاري الالقاء باليد إلى التهلكة بترك الجهاد وصح عنه صلى الله عليه وسلم : إن أبواب الجنة تحت ظلال السيوف] ]
وصح عنه : [من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله]
وصح عنه : [إن النار أول ما تسعر بالعالم والمنفق والمقتول في الجهاد إذا فعلوا ذلك ليقال]
وصح عنه : [أن من جاهد يبتغي عرض الدنيا فلا أجر له]
وصح عنه أنه قال لعبد الله بن عمرو : [إن قاتلت صابرا محتسبا بعثك الله صابرا محتسبا وإن قاتلت مرائيا مكاثرا بعثك الله مرائيا مكاثرا يا عبد الله بن عمرو على أي وجه قاتلت أو قتلت بعثك الله على تلك الحال]. أ هـ {زاد المعاد حـ 3 صـ 72 ـ 78}
قوله تعالى : {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}
مناسبة الآية لما قبلها
ولما أباح تعالى القتال في كل مكان حتى في الحرم وكان فعله في الأشهر الحرم عندهم شديداً جداً ثار - العزم للسؤال عنه فقال معلماً لهم ما يفعلون في عمرة القضاء إن احتاجوا على وجه عام : {الشهر الحرام} وهو ذو القعدة من سنة سبع إن قاتلتموهم فيه لكونهم قاتلوكم في شهر حرام {بالشهر الحرام} الذي قاتلوكم فيه وهو ذو القعدة سنة ست حيث صدوكم فيه عن عمرة الحديبية. ولما أشعر ما مضى بالقصاص أفصح به على وجه أعم فقال : {والحرمات} أي كلها وهي جمع حرمة وهي ما يحفظ ويرعى ولا ينتهك {قصاص} أي تتبع للمساواة والمماثلة. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 366}
وقال صاحب التحرير والتنوير : (4/253)
جملة مستأنفة فصلت عن سوابقها لأنه استئناف بياني ؛ فإنه لما بين تعميم الأمكنة وأخرج منها المسجد الحرام في حالة خاصة كان السامع بحيث يتساءل عما يماثل البقاع الحرام وهو الأزمنة الحرام أعني الأشهر الحرم التي يتوقع حظر القتال فيها. فإن كان هذا تشريعاً نازلاً على غير حادثة فهو استكمال واستفصال لما تدعو الحاجة إلى بيانه في هذا المقام المهم ، وإن كان نازلاً على سبب كما قيل : إن المسلمين في عام القضية لما قصدوا مكة في ذي القعدة سنة سبع معتمرين خشوا ألاَّ يفي لهم المشركون بدخول مكة أو أن يغدروهم ويتعرضوا لهم بالقتال قبل دخول مكة وهم في شهر حرام ، فإن دافعوا عن أنفسهم انتهكوا حرمة الشهر فنزلت هذه الآية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 210}
وقال الفخر : (4/254)
اعلم أن الله تعالى لما أباح القتال وكان ذلك منكراً فيما بينهم ، ذكر في هذه الآية ما يزيل ذلك فقال : {الشهر الحرام بالشهر الحرام} وفيه وجوه أحدها : روي عن ابن عباس ومجاهد والضحاك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج عام الحديبية للعمرة وكان ذلك في ذي القعدة سنة ست من الهجرة فصده أهل مكة عن ذلك ثم صالحوه عن أن ينصرف ويعود في العام القابل حتى يتركوا له مكة ثلاثة أيام ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم في العام القابل وهو في ذي القعدة سنة سبع ودخل مكة واعتمر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية يعني إنك دخلت الحرم في الشهر الحرام ، والقوم كانوا صدوك في السنة الماضية في هذا الشهر فهذا الشهر بذاك الشهر وثانيها : ما روي عن الحسن أن الكفار سمعوا أن الله تعالى نهى الرسول صلى الله عليه وسلم عن أن يقاتلهم في الأشهر الحرم ، فأرادوا مقاتلته وظنوا أنه لا يقاتلهم ، وذلك قوله تعالى : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام} [البقرة : 217] فأنزل الله تعالى هذه الآية لبيان الحكم في هذه الواقعة ، فقال : {الشهر الحرام بالشهر الحرام} أي من استحل دمكم من المشركين في الشهر الحرام فاستحلوه فيه وثالثها : ما ذكره قوم من المتكلمين وهو أن الشهر الحرام لما لم يمنعكم عن الكفر بالله ، فكيف يمنعنا عن مقاتلتكم ، فالشهر الحرام من جانبنا ، مقابل بالشهر الحرام من جانبكم ، والحاصل في الوجوه الثلاثة أن حرمة الشهر الحرام لما لم تمنعهم عن الكفر والأفعال القبيحة ، فكيف جعلوه سبباً في أن يمنع للقتال من شرهم وفسادهم.
أما قوله تعالى : {والحرمات قِصَاصٌ} فالحرمات جمع حرمة والحرمة ما منع من انتهاكه والقصاص المساواة وإذا عرفت هذا ففي هذه الآية تعود تلك الوجوه.
(4/255)
أما على الوجه الأول : فهو أن المراد بالحرمات : الشهر الحرام ، والبلد الحرام ، وحرمة الإحرام فقوله : {والحرمات قِصَاصٌ} معناه أنهم لما أضاعوا هذه الحرمات في سنة ست فقد وقفتم حتى قضيتموه على زعمكم في سنة سبع.
وأما على الوجه الثاني : فهو أن المراد : إن أقدموا على مقاتلتكم فقاتلوهم أنتم أيضاً ، قال الزجاج : وعلم الله تعالى بهذه الآية أنه ليس للمسلمين أن ينتهكوا هذه الحرمات على سبيل الإبتداء بل على سبيل القصاص ، وهذا القول أشبه بما قبل هذه الآية ، وهو قوله : {وَلاَ تقاتلوهم عِندَ المسجد الحرام حتى يقاتلوكم فِيهِ} [البقرة : 191] وبما بعدها وهو قوله : {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ}.
أما على القول الثالث : فقوله : {والحرمات قِصَاصٌ} يعني حرمة كل واحد من الشهرين كحرمة الآخر فهما مثلان ، والقصاص هو المثل فلما لم يمنعكم حرمة الشهر من الكفر والفتنة والقتال فكيف يمنعنا عن القتال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 115}
وقال القرطبى تبعا لابن عطية :
والقول الأوّل أشهر وعليه الأكثر.
أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 354}
وقال الآلوسى :
{ الشهر الحرام بالشهر الحرام} قاتلهم المشركون عام الحديبية في ذي القعدة قتالاً خفيفاً بالرمي بالسهام والحجارة ، فاتفق خروجهم لعمرة القضاء فيه فكرهوا أن يقاتلوهم لحرمته. فقيل : هذا الشهر الحرام بذلك ، وهتكه بهتكه فلا تبالوا به {والحرمات قِصَاصٌ} أي الأمور التي يجب أن يحافظ عليها ذوات قصاص أو مقاصة ، وهو متضمن لإقامة الحجة على الحكم السابق ، كأنه قيل : لا تبالوا بدخولكم عليه عنوة ، وهتك حرمة هذا الشهر ابتداءاً بالغلبة ، فإن الحرمات يجري فيها القصاص فالصد قصاصه العنوة فإن قاتلوكم فاقتلوهم. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 77}(4/256)
ومعنى كونها قصاصاً أي مماثلة في المجازاة والانتصاف ، فمن انتهكها بجناية يعاقب فيها جزاء جنايته ، وذلك أن الله جعل الحرمة للأشهر الحرم لقصد الأمن فإذا أراد أحد أن يتخذ ذلك ذريعة إلى غدر الأمن أو الإضرار به فعلى الآخر الدفاع عن نفسه ، لأن حرمة الناس مقدمة على حرمة الأزمنة ، ويشمل ذلك حرمة المكان كما تقدم في قوله تعالى : {ولا تقاتلوهم عند المسجد الحرام حتى يقاتلونكم فيه} [البقرة : 191] ، والإخبار عن الحرمات بلفظ (قصاص) إخبار بالمصدر للمبالغة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 211}
فائدة
قال ابن عرفة
قوله تعالى : {الشهر الحرام بالشهر الحرام...}.
ابن عطية : عن ابن عباس رضي الله عنه وجماعة (صد) النبي عن البيت سنة ست ودخلها سنة سبع فنزلت آية : " الشهر الحرام " الذي دخلتم فيه الحرم " بالشهر الحرام " الذي صدوكم فيه عنه.
وقال الحسن بن أبي الحسن البصري : سأله الكفار هل يقاتل في الشهر الحرام ؟ .
فقال : لا ، فهمُّوا بالهجوم عليه فيه فنزلت ، أي هو عليكم كما هو عليهم إن تركوا فيه القتال فاتركوه وإلا فلا.
قال ابن عرفة : الأول : بناء على أنهما شهران من سنتين ، والثاني : على أنه شهر واحد من سنة واحدة وتعدده لأجل تعدد حالاته. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 246}
قال القرطبى :
{ والحرمات قِصَاصٌ} الحُرُمات جمع حُرْمة ، كالظُّلُمات جمع ظُلْمة ، والحُجُرات جمع حُجرة. وإنما جُمعت الحُرُمات لأنه أراد (حُرْمة) الشهر الحرام (وحُرْمة) البلد الحرام ، وحُرْمة الإحرام. والحُرْمة : ما مُنِعتَ من انتهاكه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 355}
فائدة(4/257)
إطلاق الشهر هنا على حذف مضاف واضح التقدير من المقام ومن وصفه بالحرام ، والتقدير حرمة الشهر الحرام ، وتكرير لفظ الشهر على هذا الوجه غير مقصود منه التعدد بل التكرير باعتبار اختلاف جهة إبطال حرمته أي انتهاكهم حرمته تسوغ لكم انتهاك حرمته. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 211}
فائدة
الباء في قوله : {بالشهر الحرام} للتعويض كقولهم : صاعاً بصاع وليس ثمة شهران بل المراد انتهاك الحرمة منهم ومنكم وهما انتهاكان.
والتعريف في الشهر هنا في الموضعين يجوز أن يكون تعريف الجنس وهو الأظهر ، لأنه يفيد حكماً عاماً ويشمل كل شهر خاص من الأشهر الحرم على فرض كون المقصود شهر عمرة القضية ، ويجوز أن يكون التعريف للعهد إن كان المراد شهر عمرة القضية.
والأشهر الحرم أربعة : ثلاثة متتابعة هي ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، وحرمتها لوقوع الحج فيها ذهاباً ورجوعاً وأداء ، وشهر واحد مفرد وهو رجب وكان في الجاهلية شهر العمرة وقد حرَّمته مضر كلها ولذلك يقال له : رَجبُ مضر ، وقد أشير إليها في قوله تعالى : {منها أربعة حرم} [التوبة : 36 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 211}
قوله تعالى {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ}
قال البقاعى :
{ فمن} أي فتسبب عن هذا أنه من {اعتدى عليكم} أي تعمد أذاكم في شيء من الأشياء في أي زمان أو مكان كان {فاعتدوا عليه} أي فجاوزوه ، سمي اعتداء مشاكلة تقوية لعزائمهم وتوطيناً لهممهم أي افعلوا وإن سماه المتعنت بغير ما يحق له {بمثل ما اعتدى} أي عدوانه {عليكم} أي بمثل الذي اعتدى عليكم به ، ولعله أعاد الظرف وإن أفهمه الأول لدفع تعنت من لعله يقول : الكلام شامل لاعتدائه علي وعلى غيري فلي أن أقابله بأعلى ما وقع له من ذلك ، لأن المراد ردعه ولو لم يرد الحكم هذا لقيد بما ينفيه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 366}
وقال ابن عاشور : (4/258)
وقوله : {فمن اعتدى عليكم فاعتدوا عليه} تفريع عن قوله : {والحرمات قصاص} ونتيجة له ، وهذا وجه قول "الكشاف" : إنه فذلكة ، وسُمي جزاء الاعتداء اعتداء مشاكلة على نحو ما تقدم آنفاً في قوله : {فلا عدوان إلا على الظالمين} [البقرة : 193].
وقوله : {بمثل ما اعتدى عليكم} يشمل المماثلة في المقدار وفي الأحوال ككونه في الشهر الحرام أو البلد الحرام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 211}
وقال الآلوسى :
{ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} فذلكة لما تقدمه ، وهو أخص مفاداً منه لأن الأول : يشمل ما إذا هتك حرمة الإحرام والصيد والحشيش مثلاً بخلاف هذا ، وفيه تأكيد لقوله تعالى : {الشهر الحرام بالشهر الحرام} ولا ينافي ذلك فذلكيته معطوفاً بالفاء والأمر للإباحة إذا العفو جائز ومَنْ تحتمل الشرطية والموصولية ، وعلى الثاني : تكون الفاء صلة في الخبر والباء تحتمل الزيادة وعدمها ، واستدل الشافعي بالآية على أن القاتل يقتل بمثل ما قتل به من محدد ، أو خنق ، أو حرق ، أو تجويع ، أو تغريق ، حتى لو ألقاه في ماء عذب لم يلق في ماء ملح ؛ واستدل بها أيضاً على أن من غصب شيئاً وأتلفه يلزمه رد مثله ، ثم إن المثل قد يكون من طريق الصورة كما في ذوات الأمثال وقد يكون من طريق المعنى كالقيم فيما لا مثل له. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 77}(4/259)
كلام نفيس لابن العربى :
قال رحمه الله :
قَوْله تَعَالَى : {فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} : هَذِهِ مَسْأَلَةٌ بِكْرٌ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ : إنَّمَا سُمِّيَ الْفِعْلُ الثَّانِي اعْتِدَاءً ، وَهُوَ مَفْعُولٌ بِحَقٍّ ، حَمْلًا لِلثَّانِي عَلَى الْأَوَّلِ عَلَى عَادَةِ الْعَرَبِ.
قَالُوا : وَعَلَى هَذَا جَاءَ قَوْله تَعَالَى : {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}.
وَاَلَّذِي أَقُولُ فِيهِ : إنَّ الثَّانِيَ كَالْأَوَّلِ فِي الْمَعْنَى وَاللَّفْظِ ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الِاعْتِدَاءِ فِي اللُّغَةِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ، وَكِلَا الْمَعْنَيَيْنِ مَوْجُودٌ فِي الْأَوَّلِ وَالثَّانِي ؛ وَإِنَّمَا اخْتَلَفَ الْمُتَعَلِّقُ مِنْ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ ؛ فَالْأَوَّلُ مَنْهِيٌّ عَنْهُ ، وَالثَّانِي مَأْمُورٌ بِهِ ، وَتَعَلُّقُ الْأَمْرِ وَالنَّهْيِ لَا يُغَيِّرُ الْحَقَائِقَ وَلَا يَقْلِبُ الْمَعَانِيَ ؛ بَلْ إنَّهُ يُكْسِبُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ الْأَمْرُ وَصْفَ الطَّاعَةِ وَالْحُسْنِ ، وَيُكْسِبُ مَا تَعَلَّقَ بِهِ النَّهْيُ وَصْفَ الْمَعْصِيَةِ وَالْقُبْحِ ؛ وَكِلَا الْفِعْلَيْنِ مُجَاوَزَةُ الْحَدِّ ، وَكِلَا الْفِعْلَيْنِ يَسُوءُ الْوَاقِعُ بِهِ : وَأَحَدُهُمَا حَقٌّ وَالْآخَرُ بَاطِلٌ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 161}(4/260)
سؤال وجوابه
قال العلامة الشنقيطى :
قوله تعالى : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} الآية, هذه الآية تدل على طلب الانتقام, وقد أذن الله في الانتقام في آيات كثيرة كقوله تعالى : {وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ, إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ} الآية, وكقوله : {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ}, وكقوله : {ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ} الآية, وقوله : {وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ}, وقوله : {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا}, وقد جاءت آيات أخر تدل على العفو وترك الانتقام كقوله : {فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ}, وقوله : {وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ}, وقوله : {وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}, وقوله : {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ}, وكقوله : {وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلاماً}. والجواب عن هذا بأمرين :
أحدهما : أن الله بيّن مشروعية الانتقام ثم أرشد إلى أفضلية العفو, ويدل لهذا قوله تعالى : {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ}, وقوله : {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلا مَنْ ظُلِمَ}, أذن في الانتقام بقوله : {إِلا مَنْ ظُلِمَ}, ثم أرشد إلى العفو بقوله : {إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً}
(4/261)
الوجه الثاني : أنّ الانتقام له موضع يحسن فيه, والعفو له موضع كذلك, وإيضاحه أن من المظالم ما يكون في الصبر عليه انتهاك حرمة الله, ألا ترى أنّ من غصبت منه جاريته مثلا إذا كان الغاصب يزني بها فسكوته وعفوه عن هذه المظلمة قبيح وضعف وخور, تنتهك به حرمات الله, فالانتقام في مثل هذه الحالة واجب, وعليه يحمل الأمر{فَاعْتَدُوا} الآية, أي كما بدأ الكفار بالقتال فقتالهم واجب, بخلاف من أساء إليه بعض إخوانه من المسلمين بكلام قبيح, ونحو ذلك فعفوه أحسن وأفضل, وقد قال أبو الطيب المتنبي :
إذا قيل حلم قل فللحلم موضع
وحلم الفتى في غير موضعه جهل.
أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 39 ـ 41}(4/262)
فائدة
قال القرطبى :
قوله تعالى : {فَمَنِ اعتدى} الاعتداء هو التجاوز ؛ قال الله تعالى : {وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله} [الطلاق : 1] أي يتجاوزها ؛ فمن ظلمك فخذ حقّك منه بقدر مظلمتك ، ومن شتمك فردّ عليه مثلَ قوله ، ومن أخذ عِرْضَك فخذ عِرضه ؛ لا تتعدّى إلى أبويه ولا إلى ابنه أو قريبه ، وليس لك أن تَكذِب عليه وإن كذب عليك ، فإن المعصية لا تُقابل بالمعصية ؛ فلو قال لك مثلاً : يا كافر ، جاز لك أن تقول له : أنت الكافر. وإن قال لك : يا زان ، فقصاصك أن تقول له : يا كذّاب يا شاهد زُور. ولو قلت له يا زانٍ ، كنت كاذباً وأثِمَت في الكذب. وإن مَطَلك وهو غنيّ دون عُذر فقل : يا ظالم ، يا آكل أموال الناس ؛ قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لَيُّ الواجِدِ يُحِلّ عِرْضَه وعقوبَتَه " أمّا عِرْضه فبما فسّرناه ، وأمّا عقوبته فالسجن يُحبس فيه. وقال ابن عباس : نزل هذا قبل أن يقوَى الإسلام ؛ فأمَرَ مَن أُوذِيَ من المسلمين أن يُجازِي بمثل ما أوذِيَ به ، أو يَصبر أو يعفو ؛ ثم نسخ ذلك بقوله : {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} [التوبة : 36]. وقيل : نسخ ذلك بتصييره إلى السلطان. ولا يَحِلّ لأحد أن يقتصّ من أحد إلا بإذن السلطان.
أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 360}
وقوله : {فاعتدوا} ليس أمراً على التحتم إذ يجوز العفو ، وسمي ذلك اعتداءً على سبيل المقابلة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 78}
فائدة
قال ابن عرفة : فاعتدوا اعتداء جائزا شرعيا فلا يجوز لمن زني بأخته أو ابنته أن يزني بأخت الزاني أو ابنته. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 246}
فائدة أخرى
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية وما بمعناها بمكة ، والإسلام لم يعز ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وعز دينه ، أُمرالمسلمون برفع أمورهم إلى حكامهم ، وأُمروا بقتال الكفار.(4/263)
وقال مجاهد : بل نزلت هذه الآية بالمدينة بعد عمرة القضاء ، وهو من التدريج في الأمر بالقتال. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 78}
فائدة ثالثة
قال القرطبى :
لا خلاف بين العلماء أن هذه الآية أصل في المماثلة في القصاص ؛ فمن قَتل بشيء قُتِل بمثل ما قَتل به ؛ وهو قول الجمهور ، ما لم يقتله بفسق كاللُّوطية وإسقاء الخمر فيُقتل بالسيف. وللشافعية قول : إنه يُقتل بذلك ؛ فيُتّخذ عود على تلك الصفة ويُطعن به في دُبُره حتى يموت ، ويُسقى عن الخمر ماء حتى يموت. وقال ابن الماشجون : إن من قتل بالنار أو بالسمّ لا يُقتل به ؛ لقول النبيّ صلى الله عليه وسلم : " لا يعذِّب بالنار إلا الله " والسمّ نار باطنة. وذهب الجمهور إلى أنه يُقتل بذلك ؛ لعموم الآية. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 358}
قوله تعالى {وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)}}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما جعل المماثلة حداً وكان أمرها خفياً والوقوف عنده بعد استرسال النفس بإرسالها صعباً حذر من تعديه بعد الإذن في القصاص الذي جر أغلبه بتسميته اعتداء على وجه نادب إلى العفو للمستبصر فقال : {واتقوا الله} أي المحيط علماً بكل شيء بالتحري في القصاص حتى لا تتجاوزوا {واعلموا} وأظهر ولم يضمر لئلا يقيد بالتقوى في باب الاعتداء مثلاً فقال : {أن الله} أي الذي له جميع صفات الكمال معكم إن اتقيتم بالتحري فيه أو بالعفو فإن الله {مع المتقين} ومن كان الله معه أفلح كل الفلاح " وما زاد الله عبداً بعفو إلاّ عزاً ". قال الحرالي : ففي ضمنه إشعار وتطريق لمقصد السماح الذي هو خير الفضائل من وصل القاطع والفعو عن الظالم ، ولما كان في هذه التقوى خروج عن حظ النفس أعلمهم أنه تعالى يكون عوضاً لهم من أنفسهم بما اتقوا وداوموا على التقوى حتى كانت وصفاً لهم فأعلمهم بصحبته لهم - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 366}(4/264)
وقوله : {واتقوا الله} أمر بالاتقاء في الاعتداء أي بألا يتجاوز الحد ، لأن شأن المنتقم أن يكون عن غضب فهو مظنة الإفراط.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 211}
فائدة
المعية هنا مجاز في الإعانة بالنصر والوقاية ، ويجوز أن يكون المعنى : واتقوا الله في حرماته في غير أحوال الاضطرار : واعلموا أن الله مع المتقين فهو يجعلهم بمحل عنايته. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 211}
وقال فى روح البيان :
{ واتقوا الله} إذا انتصرتم ممن ظلمكم فلا تظلموهم بأخذ أكثر من حقكم ولا تعتدوا إلى ما لم يرخص لكم {واعلموا أن الله مع المتقين} والمعية وهى القرب المعنوى تدل على أنه تعالى يحرسهم ويصلح شؤونهم بالنصر والتمكين روى أنه ـ عليه السلام ـ وأصحابه دخلوا ذلك العام مكة وطافوا بالبيت ونحروا الهدى وكان المشركون شرطوا له بعد قضاء العمرة الإقامة بمكة ثلاثا وكان النبى ـ عليه السلام ـ تزوج ميمونة بنت الحارث فأحب المقام بمكة ليولم عليها فطالبوه بالخروج منها والوفاء بما عاهد ففعل وأولم على ميمونة وبنى بها بسرف
واعلم أن الله تعالى أمرنا بالغزو فى سبيله ليظهر من يدعى بذل الوجود فى سبيل الله وأمرنا بالزكاة ببذل المال ليتبين من يدعى محبة الله فالغزو معيار المحبة الآلهية لأن كل إنسان جبل على حب الحياة والمال فامتحن بالغزو والزكاة فى سبيل الله قطعا لدعوى المدعين لأن الكل يدعى محبة الله وهذا هو السر فى الجهاد ولهذا قال سيدنا على ـ رضى الله تعالى عنه ـ خير الخصال فى الفتى الشجاعة والسخاوة وهما توأمان فكل شجيع سخى وعن عبد الله بن عمر عن أبيه رضى الله تعالى عنهما قال سئل رسول الله صلى الله تعالى عليه وسلم ما الإسلام قال " طيب الكلام وإطعام الطعام وإفشاء السلام " قيل فأى المسلمون أفضل قال " من سلم الناس من لسانه ويده "(4/265)
قيل فأى الصلاة أفضل قال " طول القيام " قيل فأى الصدقة أفضل قال " جهد من مقل " قيل فأى الإيمان أفضل قال " الصبر والسماحة " قيل فأى الجهاد أفضل قال " من عقر جواده وأهريق دمه " قيل فأى الرقاب أفضل قال " أغلاها ثمنا "
والجهاد جهادان ظاهر وباطن فالظاهر مع الكفار والباطن مع النفس والشيطان وهذا أصعب لأن الكافر ربما يرجع إما بالمحاربة أو بالصلح أو ببذل النفس والمال بوجه من الوجوه والشيطان لا يرجع عنك دون أن يسلب الدين. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 382}
كلام نفيس للسعدى فى الآية الكريمة
يقول تعالى : {الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ} يحتمل أن يكون المراد به ما وقع من صد المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية ، عن الدخول لمكة ، وقاضوهم على دخولها من قابل ، وكان الصد والقضاء في شهر حرام ، وهو ذو القعدة ، فيكون هذا بهذا ، فيكون فيه ، تطييب لقلوب الصحابة ، بتمام نسكهم ، وكماله.
ويحتمل أن يكون المعنى : إنكم إن قاتلتموهم في الشهر الحرام فقد قاتلوكم فيه ، وهم المعتدون ، فليس عليكم في ذلك حرج ، وعلى هذا فيكون قوله : {وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ} من باب عطف العام على الخاص ، أي : كل شيء يحترم من شهر حرام ، أو بلد حرام ، أو إحرام ، أو ما هو أعم من ذلك ، جميع ما أمر الشرع باحترامه ، فمن تجرأ عليها فإنه يقتص منه ، فمن قاتل في الشهر الحرام ، قوتل ، ومن هتك البلد الحرام ، أخذ منه الحد ، ولم يكن له حرمة ، ومن قتل مكافئا له قتل به ، ومن جرحه أو قطع عضوا ، منه ، اقتص منه ، ومن أخذ مال غيره المحترم ، أخذ منه بدله ، ولكن هل لصاحب الحق أن يأخذ من ماله بقدر حقه أم لا ؟ خلاف بين العلماء ، الراجح من ذلك ، أنه إن كان سبب الحق ظاهرا كالضيف ، إذا لم يقره غيره ، والزوجة ، والقريب إذا امتنع من تجب عليه النفقة [من الإنفاق عليه] فإنه يجوز أخذه من ماله.(4/266)
وإن كان السبب خفيا ، كمن جحد دين غيره ، أو خانه في وديعة ، أو سرق منه ونحو ذلك ، فإنه لا يجوز له أن يأخذ من ماله مقابلة له ، جمعا بين الأدلة ، ولهذا قال تعالى ، تأكيدا وتقوية لما تقدم : {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ} هذا تفسير لصفة المقاصة ، وأنها هي المماثلة في مقابلة المعتدي.
ولما كانت النفوس - في الغالب - لا تقف على حدها إذا رخص لها في المعاقبة لطلبها التشفي ، أمر تعالى بلزوم تقواه ، التي هي الوقوف عند حدوده ، وعدم تجاوزها ، وأخبر تعالى أنه {مَعَ الْمُتَّقِينَ} أي : بالعون ، والنصر ، والتأييد ، والتوفيق.
ومن كان الله معه ، حصل له السعادة الأبدية ، ومن لم يلزم التقوى تخلى عنه وليه ، وخذله ، فوكله إلى نفسه فصار هلاكه أقرب إليه من حبل الوريد. أ هـ {تفسير السعدى صـ 89}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
إذا تقابل حقان كلاهما لله فَسَلِّم الوقت بحكم الوقت ، ودَلْ مع إشارات الوقت ، وإياك أن ترجح أحدهما على الآخر بمالَكَ من حظ - وإنْ قَلَّ - فتُحَجَب عن شهود الحق ، وتَعْمَى بصيرةُ قلبك. وكلُّ ما كان إلى خلاف هواكَ أقرب ، وعن استجلابِكَ وسكونكَ إليه أبعد - كان ذلك في نفسه أصوبَ.
{ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ} : الذين اتقوا إيثار هواهم على ما فيه رضاه ، فإذا قاموا لله - فيما يأتون - لا لَهُم فإن الله تعالى بالنصرة معهم ، قال تعالى : {إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ} [محمد : 7]. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 162}
قوله تعالى : {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى : (4/267)
ولما كانت النفقة من أعظم دعائم الجهاد وكان العيش في أول الإسلام ضيقاً والمال قليلاً فكان ذلك موجباً لكل أحد أن يتمسك بما في يده ظناً أن في التمسك به النجاة وفي إنفاقه الهلاك أخبرهم أن الأمر على غير ما يسول به الشيطان من ذلك {الشيطان يعدكم الفقر} [البقرة : 268] وقال الحرالي : ولمكان ما لزم العفو من العز الذي جاء على خلاف غرض النفس نظم به تعالى ما يجيء على خلاف مدرك الحس في الإنفاق الذي يحصل به الزكاء والنماء ، وأيضاً لما أسس تعالى حكم الجهاد الذي هو أشق الأعمال على النفس نظم به أمر الجود والإنفاق الذي هو أشق منه على الأنفس ، ومن حيث إن القتال مدافعة يشتمل على عدة وزاد لم يكن أمره يتم إلاّ بأعمال الغريزتين : الشجاعة والجود ، ولذلك كان أشد الآفات في الدين البخل والجبن ، انتهى - فقال تعالى : {وأنفقوا} وأظهر ولم يضمر إظهاراً للاعتناء بأمر النفقة ولئلا يقيد بحيثية من الحيثيات فقال : {في سبيل الله} أي الملك الذي كل شيء تحت قهره كما قال : {وقاتلوا في سبيل الله} [البقرة : 190] وهو كل ما أمر به الله وإن كان استعماله في الجهاد أكثر ، أي ولا تخافوا العيلة والضيعة فإن الله ربّكم هو الذي أمركم بذلك {والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً} [البقرة : 265] قال الحرالي : فالنظر للأموال بإنفاقها لا بإصلاحها وإثباتها فانتظم الخطابان ما في العفو من العز وما في الإنفاق من النماء ، وأكد ذلك بالإعلام بما لا تصل إليه مدارك الأنفس من أن إصلاح الأموال وإمساكها تهلكة - انتهى. فقال تعالى : {ولا تلقوا بأيديكم} أي تسرعوا بوضعها إسراع من يلقي الشيء بعدم الإنفاق {إلى التهلكة} من الهلاك وهو تداعي الشيء إلى أن يبطل ويفنى فإن في ذلك الإخلاد إلى الدعة والتواكل فيجترىء عليكم العدو فلا يقوم لكم قائمة فإنّ البخل أسرع شيء إلى الهلاك ، وهي تفعلة بضم العين مصدر هلك ، وقيل : إنه لا ثاني له في كلامهم ، (4/268)
وحقيقة أوقع الإلقاء لما ينفعه من نفسه وغيرها بيده أي بنفسه فجعل التهلكة آخذة بها مالكة لصاحبها. وقال الحرالي : إحاطة الخطاب تقتضي أن التهلكة تضييع القتال والإنفاق اللذين بتركهما تقع الاستطالة على مبنى الإسلام فيتطرق إلى هدمه ، ولما كان أمر الإنفاق أخص بالأنصار الذين كانوا أهل الأموال لتجرد المهاجرين عنها كان في ضمنه أن أكثر فصل الخطاب فيه للأنصار - انتهى. وقد روى أبو داود والترمذي - وهذا لفظه وقال : حسن صحيح - والنسائي عن أبي أيوب رضي الله تعالى عنه : " إنما نزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه وقال بعضنا لبعض سراً دون رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن أموالنا قد ضاعت ، فلو أقمنا في أموالنا! فأنزل الله هذه الآية ، فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو " وروى البخاري في التفسير عن حذيفة رضي الله تعالى عنه {وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} قال : نزلت في النفقة ".
ولما كانت التوسعة في أمر القتال قد تجر إلى الاعتداء فختمه بالنهي عنه وبأن الله لا يحب المعتدين وكانت التوسعة في الإنفاق في سبيل الله من أعلى خلال الإيمان قال تعالى : {وأحسنوا} أي أوقعوا الإحسان على العموم بما أفهمه قصر الفعل وترك المتعلق بالإكثار من الإنفاق وظنوا بالله الحسن الجميل ، وأظهر من غير إضمار لطول الفصل ولنحو ما تقدم {إن الله} الملك العظيم {يحب المحسنين} أي يفعل معهم كل ما يفعله المحب مع من يحبه من الإكرام والإعلاء والنصر والإغناء وغير ذلك من جميع ما يحتاجه كما أنه لا يحب المعتدين.
(4/269)
قال الحرالي : فانتظم ختم الخطابين بأن لا يقع الاعتداء في القتل وأن يقع الإحسان في المال ، وفي إشعاره حض الأنصار على إنفاق أموالهم يتلون به حال المهاجرين في التجرد عنها ، فكما كان أمر المهاجرين أن لا ينقضوا الهجرة كان أمر الأنصار أن لا يلتفتوا إلى الدنيا ، فما خرج المهاجرون عن أصله خرج الأنصار عند التمسك به عن وصفه ، فكان إعراضهم تابعاً لترك المهاجرين أموالهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 367}
وقال العلامة ابن عاشور :
هذه الجملة معطوفة على جملة {وقاتلوا في سبيل الله} [البقرة : 190] الخ فإنهم لما أمروا بقتال عدوهم وكان العدو أوفر منهم عدة حرب أيقظهم إلى الاستعداد بإنفاق الأموال في سبيل الله ، فالمخاطبون بالأمر بالإنفاق جميع المسلمين لا خصوص المقاتلين.(4/270)
ووجه الحاجة إلى هذا الأمر. مع أن الاستعداد للحرب مركوز في الطباع تنبيه المسلمين فإنهم قد يقصرون في الإتيان على منتهى الاستعداد لعدو قوي ، لأنهم قد ملئت قلوبهم إيماناً بالله وثقة به ، وملئت أسماعهم بوعد الله إياهم النصر وأخيراً بقوله : {واعلموا أن الله مع المتقين} نبهوا على أن تعهد الله لهم بالتأييد والنصر لا يسقط عنهم أخذ العدة المعروفة فلا يحسبوا أنهم غير مأمورين ببذل الوسع لوسائل النصر التي هي أسباب ناط الله تعالى بها مسبباتها على حسب الحكمة التي اقتضاها النظام الذي سنه الله في الأسباب ومسبباتها ، فتطلب المسببات دون أسبابها غلط وسوء أدب مع خالق الأسباب ومسبباتها كي لا يكونوا كالذين قالوا لموسى {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} [المائدة : 24] فالمسلمون إذا بذلوا وسعهم ، ولم يفرطوا في شيء ثم ارتبكوا في أمر بعد ذلك فالله ناصرهم ، ومؤيدهم فيما لا قبل لهم بتحصيله ولقد نصرهم الله ببدر هم أذلة ، إذ هم يؤمئذٍ جملة المسلمين وإذ لم يقصروا في شيء ، فأما أقوام يتلفون أموال المسلمين في شهواتهم ، ويفوتون الفرص وقت الأمن فلا يستعدون لشيء ثم يطلبون بعد ذلك من الله النصر والظفر فأولئك قوم مغرورون ، ولذلك يسلط الله عليهم أعداءهم بتفريطهم ، ولعله يتداركهم في خلال ذلك بلطفه فيما يرجع إلى استبقاء الدين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 212}
وقال الفخر : (4/271)
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجهين الأول : أنه تعالى لما أمر بالقتال والاشتغال بالقتال لا يتيسر إلا بالآلات وأدوات يحتاج فيها إلى المال ، وربما كان ذو المال عاجزاً عن القتال وكان الشجاع القادر على القتال فقيراً عديم المال ، فلهذا أمر الله تعالى الأغنياء بأن ينفقوا على الفقراء الذين يقدرون على القتال والثاني : يروى أنه لما نزل قوله تعالى : {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ} [البقرة : 194] قال رجل من الحاضرين : والله يا رسول الله ما لنا زاد وليس أحد يطعمنا فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينفقوا في سبيل الله وأن يتصدقوا وأن لا يكفوا أيديهم عن الصدقة ولو بشق تمرة تحمل في سبيل الله فيهلكوا ، فنزلت هذه الآية على وفق رسول الله صلى الله عليه وسلم.
واعلم أن الإنفاق هو صرف المال إلى وجوه المصالح ، فلذلك لا يقال في المضيع : إنه منفق فإذا قيد الإنفاق بذكر سبيل الله ، فالمراد به في طريق الدين ، لا السبيل هو الطريق ، وسبيل الله هو دينه.
(4/272)
فكل ما أمر الله به في دينه من الإنفاق فهو داخل في الآية سواء كان إنفاقاً في حج أو عمرة أو كان جهاداً بالنفس ، أو تجهيزاً للغير ، أو كان إنفاقاً في صلة الرحم ، أو في الصدقات أو على العيال ، أو في الزكوات والكفارات ، أو عمارة السبيل وغير ذلك ، إلا أن الأقرب في هذه الآية وقد تقدم ذكر الجهاد أنه يراد به الإنفاق في الجهاد ، بل قال : {وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله} لوجهين الأول : أن هذا كالتنبيه على العلة في وجوب هذا الإنفاق ، وذلك لأن المال مال الله فيجب إنفاقه في سبيل الله ، ولأن المؤمن إذا سمع ذكر الله اهتز ونشط فيسهل عليه إنفاق المال الثاني : أن هذه الآية إنما نزلت وقت ذهاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة لقضاء العمرة ، وكانت تلك العمرة لا بد من أن تفضى إلى القتال إن منعهم المشركون ، فكانت عمرة وجهاداً ، واجتمع فيه المعنيان ، فلما كان الأمر كذلك ، لا جرم قال تعالى : {وَأَنفِقُواْ فِى سَبِيلِ الله} ولم يقل : وأنفقوا في الجهاد والعمرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 116}(4/273)
قال ابن العربى :
فِي تَفْسِيرِ النَّفَقَةِ : فِيهَا ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَنَّهُ نَدَبَهُمْ إلَى النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ.
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {مَنْ أَنْفَقَ زَوْجَيْنِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ نُودِيَ مِنْ أَبْوَابِ الْجَنَّةِ الثَّمَانِيَةِ أَيْ هَلُمَّ}.
الثَّانِي : أَنَّهَا وَاجِبَةٌ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ}.
الثَّالِثُ : أَنَّ مَعْنَاهُ لَا تَخْرُجُوا بِغَيْرِ زَادٍ تَوَكُّلًا وَاتِّكَالًا.
وَحَقِيقَةُ التَّوَكُّلِ قَدْ بَيَّنَّاهَا فِي مَوْضِعِهَا ، وَالِاتِّكَالُ عَلَى أَمْوَالِ النَّاسِ لَا يَجُوزُ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ صَحِيحٌ ؛ لِأَنَّهُ دَائِمٌ ، وَالثَّانِي : قَدْ يُتَصَوَّرُ إذَا وَجَبَ الْجِهَادُ ، وَالثَّالِثُ صَحِيحٌ لِأَنَّ إعْدَادَ الزَّادِ فَرْضٌ.أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 165}(4/274)
قال ابن عاشور :
( سبيل الله) طريقه ، والطريق إذا أضيف إلى شيء فإنما يضاف إلى ما يوصل إليه ، ولما علم أن الله لا يصل إليه الناس تعيَّن أن يكون المراد من الطريق العمل الموصل إلى مرضاة الله وثوابه ، فهو مجاز في اللفظ ومجاز في الإسناد ، وقد غلب (سبيل الله) في اصطلاح الشرع في الجهاد. أي القتال للذب عن دينه وإعلاء كلمته ، و(في) للظرفية لأن النفقة تكون بإعطاء العَتاد ، والخيل ، والزاد ، وكل ذلك مظروف للجهاد على وجه المجاز وليست (في) هنا مستعملة للتعليل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 213}
قوله تعالى : {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة }
قال الفخر :
قال أبو عبيدة والزجاج {التهلكة} الهلاك يقال : هلك يهلك هلاكاً وهلكاً وتهلكة : قال الخارزنجي : لا أعلم في كلام العرب مصدراً على تفعلة بضم العين إلا هذا ، قال أبو علي : قد حكى سيبويه : التنصرة والتسترة ، وقد جاء هذا المثال اسماً غير مصدر ، قال : ولا نعلمه جاء صفة قال صاحب "الكشاف" : ويجوز أن يقال أصله التهلكة ، كالتجربة والتبصرة على أنها مصدر هكذا فأبدلت الضمة بالكسرة ، كما جاء الجوار في الجوار.
وأقول : إني لأتعجب كثيراً من تكلفات هؤلاء النحويين في أمثال هذه المواضع ، وذلك أنهم لو وجدوا شعراً مجهولاً يشهد لما أرادوه فرحوا به ، واتخذوه حجة قوية ، فورود هذا اللفظ في كلام الله تعالى المشهود له من الموافق والمخالف بالفصاحة ، أولى بأن يدل على صحة هذه اللفظة واستقامتها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 116}
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور :
وقوله تعالى : {ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة} عطف غرض على غرض ، عُقِّب الأمر بالإنفاق في سبيل الله بالنهي عن الأعمال التي لها عواقب ضارة إبلاغاً للنصيحة والإرشاد لئلا يدفع بهم يقينهم بتأييد الله إياهم إلى التفريط في وسائل الحذر من غلبَة العدو ، فالنهي عن الإلقاء بالنفوس إلى التهلكة يجمع معنى الأمر بالإنفاق وغيره من تصاريف الحرب وحفظ النفوس ، ولذلك فالجملة فيها معنى التذييل وإنما عطفت ولم تفصل باعتبار أنها غرض آخر من أغراض الإرشاد.
والإلقاء رمي الشيء من اليد وهو يتعدى إلى مفعول واحد بنفسه وإلى المرمى إليه بإلى وإلى المرمى فيه بفي.
والظاهر أن الأيدي هي المفعول إذ لم يذكر غيره ، وأن الباء زائدة لتوكيد اتصال الفِعل بالمفعول كما قالوا للمنقاد "أَعطى بيده" أي أعطى يده لأن المستسلم في الحرب ونحوه يُشَد بيده ، فزيادة الباء كزيادتها في {وهُزى إليك بجِذْع النخلة} [مريم : 25] وقول النابغة
: ... لَك الخَيْرُ إِنْ وارتْ بك الأرضُ وَاحِدا(4/275)
والمعنى ولا تعطوا الهلاكَ أيديَكم فيأخذكم أخذ الموثَقِ ، وجعل التهلكة كالآخِذِ والآسِرِ استعارة بجامع الإحاطة بالملقى ، ويجوز أن تُجعل اليد مع هذا مجازاً عن الذات بعلاقة البعضية لأن اليد أَهم شيء في النفس في هذا المعنى ، وهذا في الأمرين كقول لبيد
: ... حَتَّى إذَا أَلْقَتْ يَداً في كَافِرٍ
أي ألقت الشمس نفسها. وقيل الباء سببية والأيدي مستعملة في معنى الذات كناية عن الاختيار والمفعول محذوف أي لا تلقوا أنفسكم إلى التهلكة باختياركم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 214}
سؤال : لم عدى الفعل بـ {إلى} ؟
الجواب : عدى بـ {إلى} لتضمنه معنى الإفضاء أو الإنهاء والباء مزيدة في المفعول تأكيد معنى النهي ، لأن ألقى يتعدى كما في {فألقى موسى عصاه} [الشعراء : 5 4] وزيادتها في المفعول لا تنقاس ، والمراد بالأيدي الأنفس مجازاً ، وعبر بها عنها لأن أكثر ظهور أفعالها بها ، وقيل : يحتمل أن تكون زائدة والأيدي بمعناها ، والمعنى لا تجعلوا التهلكة آخذة بأيديكم قابضة إياها ، وأن تكون غير مزيدة والأيدي أيضاً على حقيقتها ويكون المفعول محذوفاً أي : لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إلى التهلكة وفائدة ذكر الأيدي حينئذ التصريح بالنهي عن الإلقاء إليها بالقصد والاختيار. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 78}
قال الفخر :
اتفقوا على أن الباء في قوله : {بِأَيْدِيكُمْ} تقتضي إما زيادة أو نقصاناً فقال قوم : الباء زائدة والتقدير : ولا تلقوا أيديكم إلى التهلكة.
وهو كقوله : جذبت الثوب بالثوب ، وأخذت القلم بالقلم فهما لغتان مستعملتان مشهورتان ، أو المراد بالأيدي الأنفس كقوله : {بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ} [الحج : 10] أو {بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُم} [الشورى : 30] فالتقدير : ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ، وقال آخرون : بل ههنا حذف.
والتقدير : ولا تلقوا أنفسكم بأيديكم إلى التهلكة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 116}
فائدة لغوية(4/276)
قال الشيخ ابن عاشور :
التهلكة بضم اللام اسم مصدر بمعنى الهلاك ، وإنما كان اسم مصدر لأنه لم يعهد في المصادر وزن التَّفْعلة بضم العين وإنما في المصادر التفعلة بكسر العين لكِنَّه مصدرُ مضاعفِ العين المعتل اللام كزكَّى وغطَّى ، أو المهموز اللام كَجزَّأَ وهيأ ، وحكى سيبويه له نظيرين في المشتقات التَّضُرَّة والتَّسُرَّة بضم العين من أضر وأَسر بمعنى الضُّر والسُّرور ، وفي الأسماء الجامدة التَّنْضُبة والتَّتْفُلة (الأول اسم شجر ، والثاني ولَدُ الثعلب).
وفي "تاج العروس" أن الخليل قرأها (التهلِكة) بكسر اللام ولا أحسب الخليل قرأ كذلك ؛ فإن هذا لم يرو عن أحد من القراء في المشهور ولا الشاذ فإن صح هذا النقل فلعل الخليل نطق به على وجه المثال فلم يضبط من رواه عنه حق الضبط ، فإن الخليل أجل من أن يقرأ القرآن بحرف غير مأثور.
ومعنى النهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة النهي عن التسبب في إتلاف النفس أو القومِ عن تحقق الهلاك بدون أن يجتنَى منه المقصودُ.
وعُطِف على الأمر بالإنفاق للإشارة إلى علة مشروعية الإنفاق وإلى سبب الْامر به فإنَّ ترك الإنفاق في سبيل الله والخروجَ بدون عُدة إلقاءٌ باليد للهلاك كما قيل
: ... كساعٍ إلى الهَيْجَا بغير سِلاَح
فلذلك وجب الإنفاق ، ولأن اعتقاد كفاية الإيمان بالله ونصر دينه في هزم الأعداء اعتقادٌ غير صحيح ، لأنه كالذي يلقي بنفسه للهلاك ويقول سينجيني الله تعالى ، فهذا النهي قد أفاد المعنيين جميعاً وهذا من أبدع الإيجاز. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 214}
قال الفخر :
قوله : {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} اختلف المفسرون فيه ، فمنهم من قال : إنه راجع إلى نفس النفقة ، ومنهم من قال : إنه راجع إلى غيرها ، أما الأولون فذكروا فيه وجوه(4/277)
الأول : أن لا ينفقوا في مهمات الجهاد أموالهم ، فيستولي العدو عليهم ويهلكهم ، وكأنه قيل : إن كنت من رجال الدين فأنفق مالك في سبيل الله وفي طلب مرضاته ، وإن كنت من رجال الدنيا فأنفق مالك في دفع الهلاك والضرر عن نفسك الوجه الثاني : أنه تعالى لما أمره بالإنفاق نهاه عن أن ينفق كل ماله ، فإن إنفاق كل المال يفضي إلى التهلكة عند الحاجة الشديدة إلى المأكول والمشروب والملبوس فكان المراد منه ما ذكره في قوله : {والذين إِذَا أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً} [الشورى : 67] وفي قوله : {وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط} [الإسراء : 29] وأما الذين قالوا : المراد منه غير النفقة فذكروا فيه وجوهاً أحدها : أن يخلوا بالجهاد فيتعرضوا للهلاك الذي هو عذاب النار فحثهم بذلك على التمسك بالجهاد وهو كقوله : {لّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيّنَةٍ} [الأنفال : 42] وثانيها : المراد من قوله : {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} أي لا تقتحموا في الحرب بحيث لا ترجون النفع ، ولا يكون لكم فيه إلا قتل أنفسكم فإن ذلك لا يحل ، وإنما يجب أن يقتحم إذا طمع في النكاية وإن خاف القتل ، فأما إذا كان آيساً من النكاية وكان الأغلب أنه مقتول فليس له أن يقدم عليه ، وهذا الوجه منقول عن البراء بن عازب ، ونقل عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال في هذه الآية : هو الرجل يستقل بين الصفين ، ومن الناس من طعن في هذا التأويل وقال : هذا القتل غير محرم واحتج عليه بوجوه الأول : روي أن رجلاً من المهاجرين حمل على صف العدو فصاح به الناس فألقى بيده إلى التهلكة فقال أبو أيوب الأنصاري نحن أعلم بهذه الآية وإنما نزلت فينا : صحبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرناه وشهدنا معه المشاهد فلما قوي الإسلام وكثر أهله رجعنا إلى أهالينا وأموالنا(4/278)
وتصالحنا ، فكانت التهلكة الإقامة في الأهل والمال وترك الجهاد والثاني : روى الشافعي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر الجنة ، فقال له رجل من الأنصار : أرأيت يا رسول الله إن قتلت صابراً محتسباً ؟ قال عليه الصلاة والسلام :
(4/279)
" لك الجنة " فانغمس في جماعة العدو فقتلوه بين يدي رسول الله ، وأن رجلاً من الأنصار ألقى درعاً كانت عليه حين ذكر النبي عليه الصلاة والسلام الجنة ثم انغمس في العدو فقتلوه والثالث : روي أن رجلاً من الأنصار تخلف عن بني معاوية فرأى الطير عكوفاً على من قتل من أصحابه ، فقال لبعض من معه سأتقدم إلى العدو فيقتلونني ولا أتخلف عن مشهد قتل فيه أصحابي ، ففعل ذلك فذكروا ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال فيه قولا حسناً الرابع : روي أن قوماً حاصروا حصناً ، فقاتل رجل حتى قتل فقيل ألقى بيده إلى التهلكة فبلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ذلك فقال : كذبوا أليس يقول الله تعالى {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابتغاء مَرْضَاتِ الله} [البقرة : 207] ولمن نصر ذلك التأويل أن يجيب عن هذه الوجوه فيقول : إنا إنما حرمنا إلقاء النفس في صف العدو إذا لم يتوقع إيقاع نكاية منهم ، فإما إذا توقع فنحن نجوز ذلك ، فلم قلتم أنه يوجد هذا المعنى في هذه الوقائع الوجه الثالث : في تأويل الآية أن يكون هذا متصلاً بقوله : {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ} [البقرة : 194] أي فإن قاتلوكم في الشهر الحرام فقاتلوهم فيه فإن الحرمات قصاص ، فجازوا اعتداءهم عليكم ولا تحملنكم حرمة الشهر على أن تستسلموا لمن قاتلكم فتهلكوا بترككم القتال فإنكم بذلك تكونون ملقين بأيديكم إلى التهلكة الوجه الرابع : في التأويل أن يكون المعنى : أنفقوا في سبيل الله ولا تقولوا إنا نخاف الفقر إن أنفقنا فنهلك ولا يبقى معنا شيء ، فنهوا أن يجعلوا أنفسهم هالكين بالإنفاق ، والمراد من هذا الجعل والإلقاء الحكم بذلك كما يقال جعل فلان فلاناً هالكاً وألقاه في الهلاك إذا حكم عليه بذلك الوجه الخامس : ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة هو الرجل يصيب الذنب الذي يرى أنه لا ينفعه معه عمل فذاك هو إلقاء النفس إلى التهلكة فالحاصل أن معناه النهي عن القنوط عن رحمة(4/280)
الله لأن ذلك يحمل الإنسان على ترك العبودية والإصرار على الذنب الوجه السادس : يحتمل أن يكون المراد وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا ذلك الإنفاق في التهلكة والإحباط ، وذلك بأن تفعلوا بعد ذلك الإنفاق فعلاً يحبط ثوابه إما بتذكير المنة أو بذكر وجوه الرياء والسمعة ، ونظيره قوله تعالى : {وَلاَ تُبْطِلُواْ أعمالكم} [محمد : 33 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 117}
فائدة
وقوع فعل {تلقوا} في سياق النهي يقتضي عموم كل إلقاء باليد للتهلكة أي كل تسبب في الهلاك عن عمد فيكون منهياً عنه محرماً ما لم يوجد مقتض لإزالة ذلك التحريم وهو ما يكون حفظه مقدماً على حفظ النفس مع تحقق حصول حفظه بسبب الإلقاء بالنفس إلى الهلاك أو حفظ بعضه بسبب ذلك. فالتفريط في الاستعداد للجهاد حرام لا محالة لأنه إلقاء باليد إلى التهلكة ، وإلقاء بالأمة والدين إليها بإتلاف نفوس المسلمين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 215}
قوله تعالى : {وَأَحْسِنُواْ إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين }
قال الفخر :
قوله : {وَأَحْسِنُواْ} فيه وجوه أحدها : قال الأصم : أحسنوا في فرائض الله وثانيها : وأحسنوا في الإنفاق على من تلزمكم مؤنته ونفقته ، والمقصود منه أن يكون ذلك الإنفاق وسطاً فلا تسرفوا ولا تقتروا ، وهذا هو الأقرب لاتصاله بما قبله ويمكن حمل الآية على جميع الوجوه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 117}
وقال ابن عاشور :
الإحسان فعل النافع الملائم ، فإذا فعل فعلاً نافعاً مؤلماً لا يكون محسناً فلا تقول إذا ضربت رجلاً تأديباً : أحسنت إليه ولا إذا جاريته في ملذات مضرة أَحسنت إليه ، وكذا إذا فعل فعلاً مضراً ملائماً لا يسمى محسناً.
وفي حذف متعلق {أحسنوا} تنبيه على أن الإحسان مطلوب في كل حال ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : " إن الله كتب الإحسان على كل شيء ".(4/281)
وفي الأمر بالإحسان بعد ذكر الأمر بالاعتداء على المعتدي والإنفاق في سبيل الله والنهي عن الإلقاء باليد إلى التهلكة إشارة إلى أنّ كلّ هاته الأحوال يلابسها الإحسان ويحفّ بها ، ففي الاعتداء يكون الإحسان بالوقوف عند الحدود والاقتصاد في الاعتداء والاقتناع بما يحصل به الصلاح المطلوب ، وفي الجهاد في سبيل الله يكون الإحسان بالرفق بالأسير والمغلوب وبحفظ أموال المغلوبين وديارهم من التخريب والتحريق ، والعرب تقول : "ملكت فأسجح" ، والحذر من الإلقاء باليد إلى التهلكة إحسان.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 216}
وقال ابن العربى :
قَوْله تَعَالَى : {وَأَحْسِنُوا}.
فِيهِ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ : الْأَوَّلُ : أَحْسِنُوا الظَّنَّ بِاَللَّهِ ؛ قَالَهُ عِكْرِمَةُ.
الثَّانِي : فِي أَدَاءِ الْفَرَائِضِ ، قَالَهُ الضَّحَّاكُ.
الثَّالِثُ : أَحْسِنُوا إلَى مَنْ لَيْسَ عِنْدَهُ شَيْءٌ.
قَالَ الْقَاضِي : الْإِحْسَانُ مَأْخُوذٌ مِنْ الْحُسْنِ ، وَهُوَ كُلُّ مَا مُدِحَ فَاعِلُهُ.
وَلَيْسَ الْحُسْنُ صِفَةً لِلشَّيْءِ ؛ وَإِنَّمَا الْحُسْنُ خَبَرٌ مِنْ اللَّهِ تَعَالَى عَنْهُ بِمَدْحِ فَاعِلِهِ.
وَقَدْ بَيَّنَ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَصْلَهُ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ قَالَ لَهُ : {مَا الْإِحْسَانُ ؟ قَالَ : أَنْ تَعْبُدَ اللَّهَ كَأَنَّك تَرَاهُ ، فَإِنْ لَمْ تَكُنْ تَرَاهُ فَإِنَّهُ يَرَاك}.أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 167}
لطيفة
قال فضيل بن عياض : من كانت تحت يده دجاجة فلم يحسن إليها لم يكن من المحسنين. أ هـ {تفسير السمعانى حـ 1 صـ 195}
قوله تعالى : {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين }
قال فى التحرير والتنوير :
وقوله : {إن الله يحب المحسنين} تذييل للترغيب في الإحسان ، لأن محبة الله عبده غاية ما يطلبه الناس إذ محبة الله العبد سبب الصلاح والخير دنيا وآخرة ، واللام للاستغراق العرفي والمراد المحسنون من المؤمنين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 216}
وقال ابن عرفة :
وقوله {إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين} أبلغ من قوله إن الله (مع) ، لأن قولك : زيد يحب بني فلان أبلغ من قولك زيد مع بني فلان لأنه قد يكون معهم ولا يحبهم ، قال الله تعالى {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ.} أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 247}
فائدة
قال السعدى :
{ وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
يأمر تعالى عباده بالنفقة في سبيله ، وهو إخراج الأموال في الطرق الموصلة إلى الله ، وهي كل طرق الخير ، من صدقة على مسكين ، أو قريب ، أو إنفاق على من تجب مؤنته.(4/282)
وأعظم ذلك وأول ما دخل في ذلك الإنفاق في الجهاد في سبيل الله ، فإن النفقة فيه جهاد بالمال ، وهو فرض كالجهاد بالبدن ، وفيها من المصالح العظيمة ، الإعانة على تقوية المسلمين ، وعلى توهية الشرك وأهله ، وعلى إقامة دين الله وإعزازه ، فالجهاد في سبيل الله لا يقوم إلا على ساق النفقة ، فالنفقة له كالروح ، لا يمكن وجوده بدونها ، وفي ترك الإنفاق في سبيل الله ، إبطال للجهاد ، وتسليط للأعداء ، وشدة تكالبهم ، فيكون قوله تعالى : {وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} كالتعليل لذلك ، والإلقاء باليد إلى التهلكة يرجع إلى أمرين : ترك ما أمر به العبد ، إذا كان تركه موجبا أو مقاربا لهلاك البدن أو الروح ، وفعل ما هو سبب موصل إلى تلف النفس أو الروح ، فيدخل تحت ذلك أمور كثيرة ، فمن ذلك ، ترك الجهاد في سبيل الله ، أو النفقة فيه ، الموجب لتسلط الأعداء ، ومن ذلك تغرير الإنسان بنفسه في مقاتلة أو سفر مخوف ، أو محل مسبعة أو حيات ، أو يصعد شجرا أو بنيانا خطرا ، أو يدخل تحت شيء فيه خطر ونحو ذلك ، فهذا ونحوه ، ممن ألقى بيده إلى التهلكة.
ومن الإلقاء باليد إلى التهلكة الإقامة على معاصي الله ، واليأس من التوبة ، ومنها ترك ما أمر الله به من الفرائض ، التي في تركها هلاك للروح والدين.
ولما كانت النفقة في سبيل الله نوعا من أنواع الإحسان ، أمر بالإحسان عموما فقال : {وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} وهذا يشمل جميع أنواع الإحسان ، لأنه لم يقيده بشيء دون شيء ، فيدخل فيه الإحسان بالمال كما تقدم.
ويدخل فيه الإحسان بالجاه ، بالشفاعات ونحو ذلك ، ويدخل في ذلك ، الإحسان بالأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر ، وتعليم العلم النافع ، ويدخل في ذلك قضاء حوائج الناس ، من تفريج كرباتهم وإزالة شداتهم ، وعيادة مرضاهم ، وتشييع جنائزهم ، وإرشاد ضالهم ، وإعانة من يعمل عملا والعمل لمن لا يحسن العمل ونحو ذلك ، مما هو من الإحسان الذي أمر الله به ، ويدخل في الإحسان أيضا ، الإحسان في عبادة الله تعالى ، وهو كما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم : "أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه ، فإنه يراك "
فمن اتصف بهذه الصفات ، كان من الذين قال الله فيهم : {لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ} وكان الله معه يسدده ويرشده ويعينه على كل أموره. أ هـ {تفسير السعدى صـ 90}(4/283)
سؤال طال حوله الجدل
هل الأعمال الحربية ضد الصهاينة اليهود والأمريكان فى أراضى الإسلام المغتصبة (المحتلة) استشهادية أو انتحارية ؟
أجاب عن هذا السؤال العلامة الجصاص فى كلام نفيس له
قال رحمه الله :
قَوْله تَعَالَى : {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} قَالَ أَبُو بَكْرٍ : قَدْ قِيلَ فِيهِ وُجُوهٌ : أَحَدُهَا مَا حَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا أَحْمَدُ بْنُ عَمْرِو بْنِ السَّرْحِ : قَالَ حَدَّثَنَا ابْنُ وَهْبٍ عَنْ حَيْوَةَ بْنِ شُرَيْحٍ ، وَابْنِ لَهِيعَةَ عَنْ يَزِيدَ بْنِ أَبِي حَبِيبٍ ، عَنْ أَسْلَمَ أَبِي عِمْرَانَ قَالَ : غَزَوْنَا بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ وَعَلَى الْجَمَاعَةِ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ الْوَلِيدِ وَالرُّومُ مُلْصِقُو ظُهُورِهِمْ بِحَائِطِ الْمَدِينَةِ ، فَحَمَلَ رَجُلٌ عَلَى الْعَدُوِّ ، فَقَالَ النَّاسُ : مَهْ مَهْ ، لَا إلَهَ إلَّا اللَّهُ ، يُلْقِي بِيَدَيْهِ إلَى التَّهْلُكَةِ ، فَقَالَ أَبُو أَيُّوبَ : إنَّمَا نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَةُ فِينَا مَعْشَرَ الْأَنْصَارِ ، لَمَّا نَصَرَ اللَّهُ نَبِيَّهُ وَأَظْهَرَ دِينَهُ الْإِسْلَامَ قُلْنَا : هَلُمَّ نُقِيمُ فِي أَمْوَالِنَا وَنُصْلِحُهَا ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إلَى التَّهْلُكَةِ} فَالْإِلْقَاءُ بِالْأَيْدِي إلَى التَّهْلُكَةِ أَنْ نُقِيمَ فِي أَمْوَالِنَا فَنُصْلِحَهَا وَنَدَعَ الْجِهَادَ ؛ قَالَ أَبُو عِمْرَانَ : فَلَمْ يَزَلْ أَبُو أَيُّوبَ يُجَاهِدُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ حَتَّى دُفِنَ بِالْقُسْطَنْطِينِيَّةِ.(4/284)
فَأَخْبَرَ أَبُو أَيُّوبَ أَنَّ الْإِلْقَاءَ بِالْأَيْدِي إلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ تَرْكُ الْجِهَادِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ، وَأَنَّ الْآيَةَ فِي ذَلِكَ نَزَلَتْ.
وَرُوِيَ مِثْلُهُ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ وَحُذَيْفَةَ وَالْحَسَنِ وَقَتَادَةَ وَمُجَاهِدٍ وَالضَّحَّاكِ.
وَرُوِيَ عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ وَعُبَيْدَةَ السَّلْمَانِيِّ : " الْإِلْقَاءُ بِالْأَيْدِي إلَى التَّهْلُكَةِ هُوَ الْيَأْسُ مِنْ الْمَغْفِرَةِ بِارْتِكَابِ الْمَعَاصِي ".
وَقِيلَ : " هُوَ الْإِسْرَافُ فِي الْإِنْفَاقِ حَتَّى لَا يَجِدَ مَا يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ فَيَتْلَفُ ".
وَقِيلَ : " هُوَ أَنْ يَقْتَحِمَ الْحَرْبَ مِنْ غَيْرِ نِكَايَةٍ فِي الْعَدُوِّ " وَهُوَ الَّذِي تَأَوَّلَهُ الْقَوْمُ الَّذِي أَنْكَرَ عَلَيْهِمْ أَبُو أَيُّوبَ وَأَخْبَرَ فِيهِ بِالسَّبَبِ.
وَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يَكُونَ جَمِيعُ هَذِهِ الْمَعَانِي مُرَادَةً بِالْآيَةِ لِاحْتِمَالِ اللَّفْظِ لَهَا وَجَوَازُ اجْتِمَاعِهَا مِنْ غَيْرِ تَضَادٍّ وَلَا تَنَافٍ فَأَمَّا حَمْلُهُ عَلَى الرَّجُلِ الْوَاحِدِ يَحْمِلُ عَلَى حَلْبَةِ الْعَدُوِّ ، فَإِنَّ مُحَمَّدَ بْنَ الْحَسَنِ ذَكَرَ فِي السِّيَرِ الْكَبِيرِ أَنَّ رَجُلًا لَوْ حَمَلَ عَلَى أَلْفِ رَجُلٍ وَهُوَ وَحْدَهُ لَمْ يَكُنْ بِذَلِكَ بَأْسٌ إذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ أَوْ نِكَايَةٍ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ وَلَا نِكَايَةٍ فَإِنِّي أَكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ لِأَنَّهُ عَرَّضَ نَفْسَهُ لِلتَّلَفِ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ.
(4/285)
وَإِنَّمَا يَنْبَغِي لِلرَّجُلِ أَنْ يَفْعَلَ هَذَا إذَا كَانَ يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ أَوْ مَنْفَعَةٍ لِلْمُسْلِمِينَ ، فَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ وَلَا نِكَايَةٍ وَلَكِنَّهُ يُجْزِئُ الْمُسْلِمِينَ بِذَلِكَ حَتَّى يَفْعَلُوا مِثْلَ مَا فَعَلَ فَيُقْتَلُونَ وَيُنْكُونَ فِي الْعَدُوِّ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ إنْ شَاءَ اللَّهُ لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ عَلَى طَمَعٍ مِنْ النِّكَايَةِ فِي الْعَدُوِّ وَلَا يَطْمَعُ فِي النَّجَاةِ لَمْ أَرَ بَأْسًا أَنْ يَحْمِلَ عَلَيْهِمْ ، فَكَذَلِكَ إذَا طَمِعَ أَنْ يُنْكَى غَيْرُهُ فِيهِمْ بِحَمْلَتِهِ عَلَيْهِمْ فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ ، وَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ فِيهِ مَأْجُورًا ؛ وَإِنَّمَا يُكْرَهُ لَهُ ذَلِكَ إذَا كَانَ لَا مَنْفَعَةَ فِيهِ عَلَى وَجْهٍ مِنْ الْوُجُوهِ وَإِنْ كَانَ لَا يَطْمَعُ فِي نَجَاةٍ وَلَا نِكَايَةٍ ، وَلَكِنَّهُ مِمَّا يُرْهِبُ الْعَدُوَّ ، فَلَا بَأْسَ بِذَلِكَ لِأَنَّ هَذَا أَفْضَلُ النِّكَايَةِ وَفِيهِ مَنْفَعَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ.
وَاَلَّذِي قَالَ مُحَمَّدٌ مِنْ هَذِهِ الْوُجُوهِ صَحِيحٌ لَا يَجُوزُ غَيْرُهُ ؛ وَعَلَى هَذِهِ الْمَعَانِي يُحْمَلُ تَأْوِيلُ مَنْ تَأَوَّلَ فِي حَدِيثِ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّهُ أَلْقَى بِيَدِهِ إلَى التَّهْلُكَةِ بِحَمْلِهِ عَلَى الْعَدُوِّ ؛ إذْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ فِي ذَلِكَ مَنْفَعَةٌ ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُتْلِفَ نَفْسَهُ مِنْ غَيْرِ مَنْفَعَةٍ عَائِدَةٍ عَلَى الدِّينِ وَلَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ.
(4/286)
فَأَمَّا إذَا كَانَ فِي تَلَفِ نَفْسِهِ مَنْفَعَةٌ عَائِدَةٌ عَلَى الدِّينِ فَهَذَا مَقَامٌ شَرِيفٌ مَدَحَ اللَّهُ بِهِ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قَوْلِهِ : {إنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنْ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمْ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ} وَقَالَ : {وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ} وَقَالَ : {وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ} فِي نَظَائِرِ ذَلِكَ مِنْ الْآيِ الَّتِي مَدَحَ اللَّهُ فِيهَا مَنْ بَذَلَ نَفْسَهُ لِلَّهِ.
وَعَلَى ذَلِكَ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ حُكْمُ الْأَمْرِ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّهْيِ عَنْ الْمُنْكَرِ أَنَّهُ مَتَى رَجَا نَفْعًا فِي الدِّينِ فَبَذَلَ نَفْسَهُ فِيهِ حَتَّى قُتِلَ كَانَ فِي أَعْلَى دَرَجَاتِ الشُّهَدَاءِ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ}.
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ عِكْرِمَةَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {أَفْضَلُ الشُّهَدَاءِ حَمْزَةُ بْنُ عَبْدِ الْمُطَّلَبِ وَرَجُلٌ تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ فَقَتَلَهُ}.
وَرَوَى أَبُو سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ : {أَفْضَلُ الْجِهَادِ كَلِمَةُ حَقٍّ عِنْدَ سُلْطَانٍ جَائِرٍ}.
(4/287)
وَحَدَّثَنَا مُحَمَّدُ بْنُ بَكْرٍ قَالَ : حَدَّثَنَا أَبُو دَاوُد قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ الْجَرَّاحِ ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ يَزِيدَ ، عَنْ مُوسَى بْنِ عَلِيِّ بْنِ رَبَاحٍ ، عَنْ أَبِيهِ ، عَنْ عَبْدِ الْعَزِيزِ بْنِ مَرْوَانَ قَالَ : سَمِعْتُ أَبَا هُرَيْرَةَ يَقُولُ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ : {شَرُّ مَا فِي الرَّجُلِ شُحٌّ هَالِعٌ وَجُبْنٌ خَالِعٌ} وَذَمُّ الْجُبْنِ يُوجِبُ مَدْحَ الْإِقْدَامِ وَالشَّجَاعَةِ فِيمَا يَعُودُ نَفْعُهُ عَلَى الدِّينِ وَإِنْ أَيْقَنَ فِيهِ بِالتَّلَفِ ؛ وَاَللَّهُ تَعَالَى أَعْلَمُ بِالصَّوَابِ.أحكام القرآن للجصاص حـ 1 صـ 328}(4/288)
أبحاث تتعلق بالإنفاق
الإنفاق والخلاص من المآزق
هذه الآية تكمّل ما مرّ من آيات الجهاد فكما أنّ الجهاد بحاجة إلى الرجال المخلصين والمجرّبين كذلك بحاجة إلى المال والثروة أي بحاجة إلى الاستعداد البدني والمعنوي والمعدّات الحربيّة ، صحيح أن العامل الحاسم في تقرير مصير الحرب هو الرجال بالدّرجة الأولى ، ولكنّ الجندي بحاجة إلى أدوات الحرب (أعمّ من السلاح والأدوات ووسائل النقل والغذاء والوسائل الصحيّة) فإنّه بدونها لا يمكنه أن يفعل شيئاً.
من هنا أوجب الإسلام تأمين وسائل الجهاد مع الأعداء ، ومن ذلك ما ورد في الآية أعلاه حيث تأمر بصراحة (وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة).
وهذا المعنى يتأكّد خاصّة في عصر نزول هذه الآيات حيث كان المسلمون في شوق شديد إلى الجهاد كما يحدّثنا القرآن عن أولئك الّذين أتوا النبي يطلبون منه السلاح ليشاركوا في ساحة الجهاد وإذ لم يجدوا ذلك عادوا مهمومين محزونين {تولّوا وأعينهم تفيض من الدّمع حزناً ألاّ يجدوا ما ينفقون}.(4/289)
فعبارة (ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة) بالرّغم من أنّها واردة في ترك الإنفاق في الجهاد الإسلامي ، ولكنّ مفهومها واسع يشمل موارد أخرى كثيرة ، منها أنّ الإنسان ليس له الحقّ في اتّخاذ الطرق الخطرة للسّفر (سواء من الناحية الأمنيّة أو بسبب العوامل الجويّة أو غير ذلك) دون أن يتّخذ لنفسه الاحتياطات اللاّزمة لذلك ، كما لايجوز له تناول الغذاء الّذي يحتمل قويّاً أن يكون مسموماً وحتّى أن يرد ميدان القتال والجهاد دون تخطيط مدروس ، ففي جميع هذه الموارد الإنسان مسؤول عن نفسه في ما لو ألقى بها في الخطر بدون عذر مقبول. أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 34 ـ 35 }
بحوث نفيسة فى الآية
1 ـ الإنفاق مانع عن انهيار المجتمع
هناك ارتباط معنوي بين جملة {وأنفقوا في سبيل الله} و{لا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة} بملاحظة أنّ عبارات الآيات القرآنية مترابطة ومتلازمة ، والظّاهر أنّ الرّابطة بين هاتين العبارتين هو أنّكم لو لم تنفقوا في سبيل الله وفي مسار الجهاد فقد ألقيتم أنفسكم في التّهلكة.
ويمكن أن يكون الارتباط أكثر من ذلك وهو أن نقول : إنّ هذه الآية بالرّغم من أنّها وردت في ذيل آيات الجهاد ، ولكنّها تبيّن حقيقة كليّة واجتماعيّة ، وهي أنّ الإنفاق بشكل عام سبب لنزاهة المجتمع من المفاسد المدمّرة ، لأنه حينما يترك أفراد المجتمع الإنفاق وتتراكم الثروة في أحد أقطاب المجتمع تنشأ طبقة محرومة بائسة ، ولا يلبث أن يحدث انفجار عظيم فيه يحرق الأثرياء وثروتهم ويتّضح من ذلك إرتباط الإنفاق بابعاد التهلكة.
ومن هنا فالإنفاق يعود بالخير على الأثرياء قبل أن يصيب خيره المحرومين ، لأنّ تعديل الثروة يصون الثروة.
وبتعبير بعض المفسّرين أنّ الامتناع من الإنفاق في سبيل الله يؤدّي إلى موت الرّوح الإنسانيّة في الفرد بسبب البخل ، وكذلك يؤدّي إلى موت المجتمع بسبب الضعف الاقتصادي وخاصّةً في النظام الإسلامي المبتني على أساس الإحسان والخير.
(4/290)
2 ـ سوء الاستفادة من مضمون الآية
تقدّم أنّ بعض أهل الدنيا من طلاّب العافية تمسّكوا في هذه الجملة من هذه الآية {ولا تلقوا بأيديكم إلى التّهلكة} للفرار من الجهاد في سبيل الله.
وهناك تباين بين مفهومي التهلكة والشّهادة ، فالتّهلكة تعني الموت بدون دليل موجّه ، في حين أنّ الشهادة تعني تضحية الفرد في سبيل هدف مقدّس ونيل الحياة الأبديّة الخالدة.
ويجب الالتفات إلى هذه الحقيقة ، وهي أنّ نفس الإنسان ليست أثمن شيء في وجوده ، فهناك حقائق أثمن للنفس مثل الإيمان بالله والاعتقاد بالإسلام وحفظ القرآن وأهدافه المقدّسة ، بل حفظ حيثيّة وعزّة المجتمع الإسلامي ، فهذه أهداف أسمى من التّهلكة ، ولم ينهَ عنها الشرع المقدّس إطلاقاً. أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 36 ـ 39}
3 ـ ما هو المنظور من الإحسان
المراد من الإحسان عادةً هو الإنفاق وبذل الخير إلى الآخرين ولكن تارةً يأتي بمعنىً أوسع ويشمل بذلك كلّ عمل صالح بل حتّى الدوافع في العلم الصالح أيضاً كما ورد في الحديث النبوي الشريف في تفسير الإحسان (أن تعبد الله كأنّك تراه فإن لم تكن تراه فإنّه يراك).
ومن البديهي أنّه لو كان إيمان الفرد بحيث كأنّه يرى الله سبحانه تعالى ويعتقد بأنّه حاضرٌ وناظرٌ في كلّ الأحوال فسوف يهتم بالإتيان بالأعمال الصالحة ويتجنّب كلّ ذنب ومعصية. أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 39 }
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
إنفاق الأغنياء من أموالهم ، وإنفاق العابدين بنفوسهم لا يدخرونها عن العبادات والوظائف ، وإنفاق العارفين بقلوبهم لا يدخرونها عن أحكامه ، وإنفاق المحبين بأرواحهم لا يدخرونها عن حُبِّه.
إنفاق الأغنياء من النِّعم وإنفاق الفقراء من الهِمَم.
إنفاق الأغنياء إخراج المال من الكيس ، وإنفاق الفقراء إخراج الروح عن أنفس النفيس ، وإنفاق الموحِّدين إخراج الخَلْق من السِّر. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 162}(4/291)
بحث نفيس وقيم وجامع فى باب الجهاد لصاحب الميزان
ردا على شبه أعداء الإسلام وأدعياء المدنية
قال رحمه الله :
ختم سبحانه وتعالى الكلام بالإحسان فقال : {وأحسنوا إن الله يحب المحسنين} ، وليس المراد بالإحسان الكف عن القتال أو الرأفة في قتل أعداء الدين وما يشبههما بل الإحسان هو الإتيان بالفعل على وجه حسن بالقتال في مورد القتال ، والكف في مورد الكف ، والشدة في مورد الشدة ، والعفو في مورد العفو ، فدفع الظالم بما يستحقه إحسان على الإنسانية باستيفاء حقها المشروع لها ، ودفاع عن الدين المصلح لشأنها كما أن الكف عن التجاوز في استيفاء الحق المشروع بما لا ينبغي إحسان آخر ومحبة الله سبحانه وتعالى هو الغرض الأقصى من الدين ، وهو الواجب على كل متدين بالدين أن يجلبها من ربه بالاتباع ، قال تعالى : {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله} آل عمران - 31 ، وقد بدأت الآيات الشريفة - وهي آيات القتال - بالنهي عن الاعتداء وأن الله لا يحب المعتدين وختمت بالأمر بالإحسان وأن الله يحب المحسنين ، وفي ذلك من وجوه الحلاوة ما لا يخفى الجهاد الذى يأمر به القرآن كان القرآن يأمر المسلمين بالكف عن القتال والصبر على كل أذى في سبيل الله
سبحانه وتعالى ، كما قال سبحانه وتعالى : {قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد ، إلى قوله : لكم دينكم ولي دين} الكافرون - 6 ، وقال تعالى : {واصبر على ما يقولون} المزمل - 10 ، وقال تعالى : {ألم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة فلما كتب عليهم القتال} النساء - 77 ، كأن هذة الآية تشير إلى قوله سبحانه وتعالى : {ود كثير من أهل الكتاب لو يردونكم من بعد إيمانكم كفارا حسدا من عند أنفسهم من بعد ما تبين لهم الحق فاعفوا واصفحوا حتى يأتي الله بأمره إن الله على كل شئ قدير وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة} البقرة - 110.(4/292)
ثم نزلت آيات القتال فمنها آيات القتال مع مشركي مكة ومن معهم بالخصوص كقوله تعالى : {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا وإن الله على نصرهم لقدير الذين أخرجوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله} الحج - 40 ، ومن الممكن أن تكون هذه الآية نزلت في الدفاع الذي أمر به في بدر وغيرها ، وكذا قوله : {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله فإن انتهوا فإن الله بما تعملون بصير وإن تولوا فاعلموا أن الله مولاكم نعم المولى ونعم النصير} الأنفال - 40 ، وكذا قوله تعالى : {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين} البقرة - 190.
ومنها آيات القتال مع أهل الكتاب ، قال تعالى : {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون} التوبة - 29.
ومنها آيات القتال مع المشركين عامة ، وهم غير أهل الكتاب كقوله تعالى : {فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم} التوبة - 5 ، وكقوله تعالى : {قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} التوبة - 36.
ومنها ما يأمر بقتال مطلق الكفار كقوله تعالى : {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة} التوبة - 123.
وجملة الأمر أن القرآن يذكر أن الإسلام ودين التوحيد مبني على أساس الفطرة وهو القيم على إصلاح الإنسانية في حيوتها كما قال تعالى : {فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة
(4/293)
الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون} الروم - 30 ، فإقامته والتحفظ عليه أهم حقوق الإنسانية المشروعة كما قال تعالى : {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه} الشورى - 13 ، ثم يذكر أن الدفاع عن هذا الحق الفطري المشروع حق آخر فطري ، قال تعالى : {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم الله كثيرا ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز} الحج - 40 ، فبين أن قيام دين التوحيد على ساقه وحياة ذكره منوط بالدفاع ، ونظيره قوله تعالى : {ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} البقرة - 251 ، وقال تعالى في ضمن آيات القتال من سورة الأنفال : {ليحق الحق ويبطل الباطل ولو كره المجرمون} الأنفال - 8 ، ثم قال تعالى : بعد عدة آيات : {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم} الأنفال - 24 ، فسمى الجهاد والقتال الذي يدعى له المؤمنون محييا لهم ، ومعناه أن القتال سواء كان بعنوان الدفاع عن المسلمين أو عن بيضة الإسلام أو كان قتالا ابتدائيا كل ذلك بالحقيقة دفاع عن حق الإنسانية في حياتها ففي الشرك بالله سبحانه هلاك الإنسانية وموت الفطرة ، وفي القتال وهو دفاع عن حقها إعادة لحياتها وإحيائها بعد الموت.
(4/294)
ومن هناك يستشعر الفطن اللبيب : أنه ينبغي أن يكون للإسلام حكم دفاعي في تطهير الأرض من لوث مطلق الشرك وإخلاص الإيمان لله سبحانه وتعالى فإن هذا القتال الذى تذكره الآيات المذكورة إنما هو لإماتة الشرك الظاهر من الوثنية ، أو لإعلاء كلمة الحق على كلمة أهل الكتاب بحملهم على إعطاء الجزية ، مع أن آية القتال معهم تتضمن أنهم لا يؤمنون بالله ورسوله ولا يدينون دين الحق فهم وإن كانوا على التوحيد لكنهم مشركون بالحقيقة مستبطنون ذلك ، والدفاع عن حق الإنسانية الفطري يوجب حملهم على الدين الحق.
والقرآن وإن لم يشتمل من هذا الحكم على أمر صريح لكنه يبوح بالوعد بيوم للمؤمنين على أعدائهم لا يتم أمره إلا بإنجاز الأمر بهذه المرتبة ، من القتال وهوالقتال لإقامة الإخلاص في التوحيد ، قال تعالى : {هو الذي أرسل رسوله بالهدى ودين الحق
ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} الصف - 9 ، وأظهر منه قوله تعالى : {ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون} الأنبياء - 105 ، وأصرح منه قوله تعالى : {وعد الله الذين آمنوا وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا} ، النور - 55 ، فقوله تعالى : {يعبدونني} يعني به عبادة الإخلاص بحقيقة الإيمان بقرينة قوله تعالى : {لا يشركون بي شيئا} ، مع أنه تعالى يعد بعض الإيمان شركا ، قال تعالى : {وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون} يوسف - 106 ، فهذا ما وعده تعالى من تصفية الأرض وتخليتها للمؤمنين يوم لا يعبد فيه غير الله حقا.
وربما يتوهم المتوهم : أن ذلك وعد بنصر إلهي بمصلح غيبي من غير توسل بالأسباب الظاهرة لكن ينافيه قوله : {ليستخلفنهم في الأرض} ، فإن الاستخلاف إنما هو بذهاب بعض وإزالتهم عن مكانهم ووضع آخرين مقامهم ففيه إيماء إلى القتال.
(4/295)
على أن قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم يحبهم ويحبونه أذله على المؤمنين اعزة على الكافرين ، يجاهدون في سبيل الله ولا يخافون لومة لائم} المائدة - 54 ، - على ما سيجئ في محله - يشير إلى دعوة حقة ، ونهضة دينية ستقع عن أمر إلهي ويؤيد أن هذه الواقعة الموعودة إنما تقع عن دعوة جهاد.
وبما مر من البيان يظهر الجواب عما ربما يورد على الإسلام في تشريعه الجهاد بأنه خروج عن طور النهضات الدينية المأثورة عن الأنبياء السالفين فان دينهم إنما كان يعتمد في سيره وتقدمه على الدعوة والهداية ، دون الإكراه على الإيمان بالقتال المستتبع للقتل والسبي والغارات ، ولذلك ربما سماه بعضهم كالمبلغين من النصارى بدين السيف والدم وآخرون بدين الإجبار والإكراه !.
وذلك أن القرآن يبين أن الإسلام مبني على قضاء الفطرة الإنسانية التي لا ينبغي أن يرتاب أن كمال الإنسان في حياته هو ما قضت به وحكمت ودعت إليه ، وهي تقضى بأن التوحيد هو الأساس الذي يجب بناء القوانين الفردية والاجتماعية عليه ، وأن الدفاع عن هذا الأصل بنشره بين الناس وحفظه من الهلاك والفساد حق مشروع للإنسانية يجب استيفائه بأى وسيلة ممكنة ، وقد روعي في ذلك طريق الاعتدال ، فبدأ بالدعوة المجردة والصبر على الأذى في جنب الله ، ثم الدفاع عن بيضة الإسلام ونفوس المسلمين وأعراضهم وأموالهم ، ثم القتال الابتدائي الذي هو دفاع عن حق الإنسانية وكلمة التوحيد ولم يبدأ بشئ من القتال إلا بعد إتمام الحجة بالدعوة الحسنة كما جرت عليه السنة النبوية ، قال تعالى : {ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن} النحل - 125 ، والآية مطلقة ، وقال تعالى : {ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حي عن بينة} الأنفال - 42.
(4/296)
وأما ما ذكروه من استلزامه الإكراه عند الغلبة فلا ضير فيه بعد توقف إحياء الإنسانية على تحميل الحق المشروع على عدة من الأفراد بعد البيان وإقامة الحجة البالغة عليهم ، وهذه طريقة دائرة بين الملل والدول فإن المتمرد المتخلف عن القوانين المدنية يدعى إلى تبعيتها ثم يحمل عليه بأي وسيلة أمكنت ولو انجر إلى القتال حتى يطيع وينقاد طوعا أو كرها.
على أن الكره إنما يعيش ويدوم في طبقة واحدة من النسل ، ثم التعليم والتربية الدينيان يصلحان الطبقات الآتية بإنشائها على الدين الفطري وكلمة التوحيد طوعا.
وأما ما ذكروه : أن سائر الأنبياء جروا على مجرد الدعوة والهداية فقط فالتاريخ الموجود من حياتهم يدل على عدم اتساع نطاقهم بحيث يجوز لهم القيام بالقتال كنوح وهود وصالح (عليهم السلام) فقد كان أحاط بهم القهر والسلطنة من كل جانب ، وكذلك كان عيسى (عليه السلام) أيام إقامته بين الناس واشتغاله بالدعوة وإنما انتشرت دعوته وقبلت حجته في زمان طرو النسخ على شريعته وكان ذلك أيام طلوع الإسلام.
على أن جمعا من الأنبياء قاتلوا في سبيل الله تعالى كما تقصه التوراة ، والقرآن يذكر طرفا منه ، قال تعالى : {وكأين من نبي قاتل معه ربيون كثير فما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا وما استكانوا والله يحب الصابرين وما كان قولهم إلا أن قالوا ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين} آل عمران - 147 ، وقال تعالى - يقص دعوة موسى قومه إلى قتال العمالقة - :
(4/297)
{وإذ قال موسى لقومه ، إلى أن قال : يا قوم ادخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين} إلى أن قال تعالى : {قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ماداموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا ههنا قاعدون} المائدة - 24 ، وقال تعالى : {ألم تر إلى الملا من بني إسرائيل إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله} البقرة - 246 ، إلى آخر قصة طالوت وجالوت.
وقال تعالى في قصة سليمان وملكة سبأ : {ألا تعلوا على وأتوني مسلمين} - إلى أن قال تعالى - : {ارجع إليهم فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها ولنخرجنهم منها أذلة وهم صاغرون} النمل - 37 ، ولم يكن هذا الذي كان يهددهم بها بقوله : {فلنأتينهم بجنود لا قبل لهم بها} (الخ) إلا قتالا ابتدائيا عن دعوة ابتدائية. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 64 ـ 69}
مجموعة أخرى من الأبحاث القيمة والنفيسة فى أمور الجهاد
1 ـ مسألة الجهاد في الإسلام
نلاحظ في الكثير من المذاهب الوضعيّة المنحرفة أنّه لا وجود للجهاد لديهم إطلاقاً ، فكلّ ما فيه يدور حول محور النصائح والمواعظ الأخلاقية ، حتّى أنّ البعض عندما يسمع بوجود مقالة الجهاد واستعمال القوّة كأحد الأركان المهمّة في التعاليم الإسلاميّة يتعجّب كثيراً على اقتران الدين بالحرب.
ولكن مع ملاحظة أنّ الحكّام الطواغيت والفراعنة وأمثالهم من النمروديّين والقارونييّن الّذين يعترضون دائماً على دعوة الأنبياء الإصلاحيّة ويقفون بوجهها ولا يرضون إلاّ بإزالة الدين الإلهي من الوجود يتّضح أنّ على المؤمنين والمتديّنين في الوقت الّذي يعتمدون على العقل والمنطق والأخلاق في تفاعلهم الاجتماعي مع الآخرين عليهم أن يتصدّوا لهؤلاء الظالمين والطّواغيت ويشقّوا طريقهم بالجهاد وتحطيم هذه الموانع والعوائق الّتي يقيمها حكّام الجور في طريقهم.
(4/298)
وأساساً فإنّ الجهاد هو من علامات الحياة لكلّ موجود ويمثّل قانوناً عامّاً في عالم الأحياء ، فجميع الكائنات الحيّة أعم من الإنسان والحيوان والنبات تجاهد عوامل الفناء من أجل بقائها ،
وعلى كلّ حال فإنّ من افتخاراتنا نحن المسلمين أنّ ديننا يقرن المسائل الدينيّة بالحكومة ويعتمد على الجهاد كأحد أركان المنظومة العقائديّة لهذا الدين ، غاية الأمر يجب ملاحظة أهداف هذا الجهاد الإسلامي ، وهذا هو الّذي يفصل بيننا وبين الآخرين.
2 ـ أهداف الجهاد في الإسلام
يصرّ البعض من المتغرّبين أنّ الجهاد الإسلامي منحصر في الجهاد الدفاعي ويحاولون توجيه جميع غزوات النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) أو الحروب الّتي حدثت بعده في هذه الدائرة ، في حين أنّه لا يوجد دليل على هذه المسألة ، ولم تكن جميع غزوات رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) دفاعيّة ، فمن الأفضل العودة إلى القرآن الكريم بدل هذه الاستنباطات الخاطئة لاستجلاء أهداف الجهاد من القرآن الكريم ، تلك الأهداف المنطقيّة القابلة للعرض على الصّديق والعدو.
وكما تقدّم في الآيات أعلاه أنّ الجهاد في الإسلام يتعقّب عدّة أهداف مباحة :
الف ـ الجهاد من أجل إطفاء الفتن
وبعبارة أخرى الجهاد الابتدائي من أجل التحرير ، فنحن نعلم أنّ الله عزّوجلّ قد أنزل على البشريّة شرائع وبرامج لسعادة البشر وتحريرهم وتكاملهم وإيصالهم إلى السعادة والرفاهية ، وأوجب على الأنبياء (عليهم السلام) أن يبلّغوا هذه الشرائع والإرشادات إلى الناس ، فلو تصوّر أحد الأفراد أو طائفة من الناس أنّ إبلاغ هذه
الشرائع للناس سوف يعيقه عن نيل منافعه الشخصيّة وسعى لإيجاد الموانع ووضع العصي في عجلات الدعوة الإلهيّة ، فللأنبياء الحقّ في إزالة هذه الموانع بطريقة المسالمة أوّلاً وإلاّ فعليهم استخدام القوّة في إزالة هذه الموانع عن طريق الدّعوة لنيل الحريّة في التبليغ.
(4/299)
وبعبارة أخرى : أنّ الناس في جميع المجتمعات البشريّة لهم الحقّ في أن يسمعوا مقالة منادي الحقّ وهم أحرار في قبول دعوة الأنبياء ، فلو تصدّى فرد أو جماعة لسلب هذا الحقّ المشروع للناس وحرمانهم منه ومنعوا صوت الحقّ من الوصول إلى الناس ليحرّرهم من قيود الأسر والعبوديّة الفكريّة والاجتماعيّة ، فلأتباع الدين الحقّ في الاستفادة من جميع الوسائل لتهيئة هذه الحريّة ، ومن هنا كان (الجهاد الابتدائي) في الإسلام وسائر الأديان السماويّة ضروريّاً.
وكذلك إذا استخدم البعض القوّة والإرهاب في حمل جماعة من المؤمنين على ترك دينهم والعودة إلى الدين السابق لهم ، فللمؤمنين الحقّ في الاستفادة من جميع الوسائل لرفع هذا الإكراه والإرهاب.
ب ـ الجهاد الدفاعي
هل من الصحيح أن يواجه الإنسان هجوماً وعدواناً عليه ولا يدافع عن نفسه ؟ أو أن يقوم جيش معتدي بالهجوم على بعض الشعوب الأخرى ولا تقوم تلك الشعوب بالدفاع عن نفسها وعن بلدها بل تقف موقف المتفرّج ؟
هنا نجد أنّ جميع القوانين السماويّة والبشريّة تبيح للفرد أو الجماعة الدّفاع عن النفس والاستفادة ممّا وسعهم من قوّة في هذا السبيل ، ويسمّى مثل هذا الجهاد بـ (الجهاد الدفاعي) ومن ذلك غزوة الأحزاب واُحد ومؤتة وتبوك وحنين ونظائرها من الحروب الإسلاميّة الّتي لها جنبة دفاعيّة.
وفي هذا الزمان نجد أنّ الكثير من أعداء الإسلام يعتدون على المسلمين
ويشعلون نيران الحروب للسّيطرة على البلاد الإسلاميّة ونهب ثرواتها ، فكيف يُبيح الإسلام السكوت أمام هذا العدوان ؟
ج ـ الجهاد لحماية المظلومين
(4/300)
ونلاحظ فرعاً آخر من فروع الجهاد في الآيات القرآنية الكريمة ، وهو الجهاد لحماية المظلومين ، فتقرأ في الآية (75) من سورة النساء {وَ ما لكم لا تُقاتلوُنَ في سَبيلِ اللهِ وَالمُسْتَضْعَفينَ مِنَ الرّجالِ والنّساء والوِلْدان الّذين يقولون ربَّنا أخْرِجْنا مِنْ هذه الْقَريَة الظّالمِ أهلها وأجْعَلْ لَّنا مِن لّدُنك وَليّاً وأجْعَلْ لّنا مِنْ لَدُنك نَصيراً}.
وعلى هذا الأساس فالقرآن يطلب من المسلمين الجهاد في سبيل الله وكذلك في سبيل المستضعفين المظلومين ، وأساساً إنّ هاتين الغايتين متحدّتان ، ومع الأخذ بنظر الاعتبار عدم وجود قيد أو شرط في الآية أعلاه نفهم من ذلك وجوب الدفاع عن جميع المظلومين والمستضعفين في كلّ نقطة من العالم القريبة منها أو البعيدة ، وفي الداخل أو الخارج.
وبعبارة أخرى : أنّ حماية المظلومين في مقابل عدوان الظّالمين هو أصل في الإسلام يجب مراعاته ، حتّى لو أدّى الأمر إلى الجهاد واستخدام القوّة ، فالإسلام لا يرضى للمسلمين الوقوف متفرّجين على ما يرد على المظلومين في العالم ، وهذا الأمر من الأوامر المهمّة في الشريعة الإسلاميّة المقدّسة الّتي تحكي عن حقانيّة هذا الدّين.
د ـ الجهاد من أجل دحر الشرك وعبادة الأوثان
الإسلام يدعوا البشريّة إلى اعتناق الدّين الخاتم الأكمل وهو يحترم مع ذلك حريّة العقيدة ، وبذلك يُعطي أهل الكتاب الفرصة الكافية للتّفكير في أمر اعتناق الرّسالة الخاتمة ، فإن لم يقبلوا بذلك فإنّه يعاملهم معاملة الأقليّة المعاهدة (أهل الذّمة) ويتعايش معهم تعايشاً سلميّاً ضمن شروط خاصّة بسيطة وميسورة ، لكنّ الشرك والوثنيّة ليسا بدين ولا عقيدة ولا يستحقّان الاحترام ، بل هما نوع من الخرافة والحمق والإنحراف ونوع من المرض الفكري والأخلاقي الّذي ينبغي أن يستأصل مهما كلّف الثمن.
(4/301)
كلمة حريّة العقيدة واحترام أفكار الآخرين تصدق في مواقع يكون لهذه العقيدة والأفكار على أقلّ تقدير أساس من الصحّة ، أما الانحراف والخرافة والضلال فليست بأشياء تستحق الاحترام ، ولذلك يأمر الإسلام بضرورة إقتلاع جذور الوثنيّة من المجتمع ولو كلّف ذلك خوض الحرب ، وضرورة هدم آثار الشرك والوثنيّة بالطرق السلميّة أوّلاً ، فإن تعذّرت الطرق السلميّة فبالقوّة.
أجل فالإسلام يرى ضرورة تطهير الأرض من أدران الشرك والوثنيّة ويعد المسلمين بمستقبل مشرق للبشريّة في العالم تحت ظل حكومة التوحيد وزوال كلّ أنواع الشرك والوثنيّة.
وممّا تقدّم من ذكر أهداف الجهاد يتّضح أنّ الإسلام أقام الجهاد على أسس منطقية وعقلية ، فلم يجعله وسيلة للتّسلّط والسيطرة على البلدان الأخرى وغصب حقوق الآخرين وتحميل العقيدة واستعمار واستثمار الشعوب الأخرى ، ولكنّنا نعلم أنّ أعداء الإسلام وخاصّة القائمون على الكنيسة والمستشرقين المغرضين سعوا كثيراً لتحريف الحقائق ضد مسألة الجهاد الإسلامي ، واتّهموا الإسلام باستعمال الشدّة والقوّة والسيف من أجل تحميل الإيمان به وتهجمّوا كثيراً على هذا القانون الإسلامي.
والظّاهر أنّ خوفهم وهلعهم إنّما هو من تقدّم الإسلام المضطرد في العالم بسبب معارفه السّاميّة وبرنامجه السّليم ، ولهذا سعوا لإعطاء الإسلام صبغة موحشة كيما يتمكنّوا من الوقوف أمام انتشار الإسلام.
3 ـ لماذا شرّع الجهاد في المدينة
نعلم أنّ الجهاد وجب على المسلمين في السنّة الثانية بعد الهجرة ، ولم يكن قد شُرّع قبلها ، والسبب واضح فهو يعود من جهة إلى قلّة عدد المسلمين في مكّة بحيث يكون الأمر بالكفاح المسلّح في مثل هذه الحالة هو الانتحار بعينه ، ومن جهة أخرى كان العدو في مكّة قويّاً جدّاً ، فمكّة في الواقع كانت مركز القوى المعادية للإسلام ، ولم يكن بالإمكان حمل السّلاح فيها.
(4/302)
أمّا حين قدم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة ازداد عدد المؤمنين واتسع نطاق الدّعوة داخل المدينة وخارجها ، وتأسّست الحكومة الإسلاميّة الصالحة ، وتهيّأت وسائل الجهاد ضدّ العدو على صعيد العدّة والعدد ، وبما أنّ المدينة المنوّرة كانت بعيدة عن مكّة استطاع المسلمون في حالة من الأمن والطمأنينة أن يبنوا وجودهم ويعدّوا أنفسهم لمواجهة العدو والدفاع عن رسالتهم. أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 25 ـ 30 }(4/303)
قوله تعالى : {وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ختم آيات القتال بالنفقة في سبيل الله لشدة حاجة الجهاد إليها وكان سبيل الله اسماً يقع على الحج كما يقع على الجهاد كما ورد في الحديث " الحج من سبيل الله " رجع إلى الحج والعمرة المشير إليهما {مثابة للناس} [البقرة : 125] و{إن الصفا والمروة} [البقرة : 158] الآية ، و{مواقيت للناس والحج} ولا سيما وآيات القتال هذه إنما نظمت ههنا بسببهما توصيلاً إليهما وبعضها سببه عمرة الحديبية التي صدّ المشركون عنها ، فكان كأنه قيل : مواقيت للناس والحج فحجوا واعتمروا أي تلبسوا بذلك وإن صددتم عنه وقاتلوا في سبيل الله من قاتلكم في وجهكم ذلك لينفتح لكم السبيل ، ولما كان ذلك بعد الفتح ممكناً لا صاد عنه عبر بالإتمام فقال : {وأتموا} أي بعد فتح السبيل بالفتح {الحج والعمرة} بمناسكهما وحدودهما وشرائطهما وسننهما. ولما تقدم الإنفاق في سبيل الله والقتال في سبيل الله نبه هنا على أن ذلك كلّه إنما هو لتقام العبادات التي هي مبنى الإسلام له سبحانه وتعالى فقال : {لله} الملك الذي لا كفوء له أي لذاته ، ولم يضمر لئلا يتقيد بقيد.
(4/304)
ولما كان سبحانه وتعالى قد أعز هذه الأمة إكراماً لنبيها صلى الله عليه وسلم فلا يهلكها بعامة ولا يسلط عليها عدواً من غيرها بل جعل كفارة ذنوبها في إلقاء بأسها بينها أومأ إلى أنه ربما يقطعها عن الإتمام قاطع من ذلك بقوله بانياً للمفعول لأن الحكم دائر مع وجود الفعل من غير نظر إلى فاعل معين معبراً بأداة الشك إشارة إلى أن هذا مما يقل وقوعه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 369}
قال الفخر :
قوله تعالى : {وَأَتِمُّواْ} أمر بالإتمام ، وهل هذا الأمر مطلق أو مشروط بالدخول فيه ، ذهب أصحابنا إلى أنه مطلق ، والمعنى : افعلوا الحج والعمرة على نعت الكمال والتمام والقول الثاني : وهو قول أبي حنيفة رضي الله عنه : إن هذا الأمر مشروط ، والمعنى أن من شرع فيه فليتمه قالوا : ومن الجائز أن لا يكون الدخول في الشيء واجباً إلا أن بعد الدخول فيه يكون إتمامه واجباً ، وفائدة هذا الخلاف أن العمرة واجبة عند أصحابنا ، وغير واجبة عند أبي حنيفة رحمه الله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 118 ـ 119}
قال ابن عاشور :
واللام في (الحج والعمرة) لتعريف الجنس ، وهما عبادتان مشهورتان عند المخاطبين متميزتان عن بقية الأجناس ، فالحج هو زيارة الكعبة في موسم معين في وقت واحد ، للجماعة وفيه وقوف عرفة ، والعمرة زيارة الكعبة في غير موسم معين وهي لكل فرد بخصوصه.
وأصل الحج في اللغة بفتح الحاء وكسرها تكرر القصد إلى الشيء أو كثرة قاصديه. وعن ابن السكيت : الحج كثرة الاختلاف والتردد يقال حج بنو فلان فلاناً أطالوا الاختلاف إليه وفي "الأساس" : فلان تحجه الرفاق أي تقصده اه. فجعله مفيداً بقصد من جماعة كقول المخبل السعدي واسمه الربيع :
وأَشْهَدُ من عَوْفٍ حُلولاً كثِيرةً... يَحُجُّون سِبَّ الزّبْرَقَانِ المزعفرا(4/305)
والحج من أشهر العبادات عند العرب وهو مما ورثوه عن شريعة إبراهيم عليه السلام كما حكى الله ذلك بقوله : {وأذن في الناس بالحج} [الحج : 27] الآية حتى قيل : إن العرب هم أقدم أمة عرفت عندها عادة الحج ، وهم يعتقدون أن زيارة الكعبة سعي لله تعالى قال النابغة يصف الحجيج ورواحلهم :
عَلَيْهِنَّ شُعْثٌ عامدونَ لرَبِّهمِ... فهن كأطراف الحَنيِّ خَوَاشِع
وكانوا يتجردون عند الإحرام من مخيط الثياب ولا يمسون الطيب ولا يقربون النساء ولا يصطادون ، وكان الحج طوافاً بالبيت وسعياً بين الصفا والمروة ووقوفاً بعرفة ونحراً بمنى. وربما كان بعض العرب لا يأكل مدة الحج أقطاً ولا سمناً أي لأنه أكل المترفهين ولا يستظل بسقف ، ومنهم من يحج متجرداً من الثياب ، ومنهم من لا يستظل من الشمس ، ومنهم من يحج صامتاً لا يتكلم ، ولا يشربون الخمر في أشهر الحج ، ولهم في الحج مناسك وأحكام ذكرناها في "تاريخ العرب".
وكان للأمم المعاصرة للعرب حجوج كثيرة ، وأشهر الأمم في ذلك اليهود فقد كانوا يحجون إلى الموضع الذي فيه تابوت العهد أي إلى هيكل (أورشليم) وهو المسجد الأقصى ثلاث مرات في السنة ليذبحوا هناك فإن القرابين لا تصح إلاّ هناك ومن هذه المرات مرة في عيد الفصح.
واتخذت النصارى زيارات كثيرة ، حجاً ، أشهرها زياراتهم لمنازل ولادة عيسى عليه السلام وزيارة (أورشليم) ، وكذا زيارة قبر (ماربولس) وقبر (ماربطرْس) برومة ، ومن حج النصارى الذي لا يعرفه كثير من الناس وهو أقدم حجهم أنهم كانوا قبل الإسلام يحجون إلى مدينة (عسقلان) من بلاد السواحل الشامية ، والمظنون أن الذين ابتدعوا حجها هم نصارى الشام من الغساسنة لقصد صرف الناس عن زيارة الكعبة وقد ذكره سحيم عبدُ بني الحسحاس وهو من المخضرمين في قوله يصف وحوشاً جرفها السيل
: ... كأَنَّ الوُحُوشَ به عَسقَلاَ
(4/306)
نُ صادفْنَ في قَرْن حَجِّ ذِيَافا... أي أصابهن سم فقتلهن وقد ذكر ذلك أئمة اللغة.
وقد كان للمصريين والكلدان حج إلى البلدان المقدسة عندهم ، ولليونان زيارات كثيرة لمواقع مقدسة مثل أولمبيا وهيكل (زفس) وللهنود حجوج كثيرة.
والمقصود من هذه الآية إتمام العمرة التي خرجوا لقضائها ، وذِكُر الحج معها إدماج ، لأن الحج لم يكن قد وجب يومئذٍ ، إذ كان الحج بيد المشركين ففي ذكره بشارة بأنه يوشك أن يصير في قبضة المسلمين.
وأما العمرة فهي مشتقة من التعمير وهو شغل المكان ضد الإخلاء ولكنها بهذا الوزن لا تطلق إلاّ على زيارة الكعبة في غير أشهر الحج ، وهي معروفة عند العرب وكانوا يجعلون ميقاتها ما عدا أشهر ذي الحجة والمحرم وصفر ، فكانوا يقولون " إذا برىء الدبر ، وعفا الأثر ، وخرج صفر ، حلت العمرة لمن اعتمر " ولعلهم جعلوا ذلك لتكون العمرة بعد الرجوع من الحج وإراحة الرواحل.
واصطلح المضَريُّون على جعل رجب هو شهر العمرة ولذلك حرمته مضر فلقب برجب مضر ، وتبعهم بقية العرب ، ليكون المسافر للعمرة آمناً من عدوه ؛ ولذلك لقبوا رجباً (منصل الأسنة) ويرون العمرة في أشهر الحج فجوراً.
وقوله {لله} أي لأجل الله وعبادته والعرب من عهد الجاهلية لا ينوون الحج إلاّ لله ولا العمرة إلاّ له ، لأن الكعبة بيت الله وحرمه ، فالتقييد هنا بقوله {لله} تلويح إلى أن الحج والعمرة ليسا لأجل المشركين وإن كان لهم فيهما منفعة وكانوا هم سدنة الحرم ، وهم الذين منعوا المسلمين منه ، كي لا يسأم المسلمون من الحج الذي لاقوا فيه أذى المشركين ، فقيل لهم إن ذلك لا يصد عن الرغبة في الحج والعمرة لأنكم إنما تحجون لله لا لأجل المشركين ولأن الشيء الصالح المرغوب فيه إذا حف به ما يكدره لا ينبغي أن يكون ذلك صارفاً عنه ، بل يجب إزالة ذلك العارض عنه ، ومن طرق إزالته القتال المشار إليه بالآيات السابقة.
(4/307)
ويجوز أن يكون التقييد بقوله : {لله} لتجريد النية مما كان يخامر نوايا الناس في الجاهلية من التقرب إلى الأصنام ، فإن المشركين لما وضعوا هبلاً على الكعبة ووضعوا إسافاً ونائلة على الصفا والمروة قد أشركوا بطوافهم وسعيهم الأصنام مع الله تعالى. وقد يكون القصد من هذا التقييد كلتا الفائدتين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 217}
سؤال : ما المراد بالإتمام فى الآية الكريمة ؟ (4/308)
الجواب : في تفسير الإتمام في قوله : {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ} وفيه وجوه أحدها : روي عن علي وابن مسعود أن إتمامهما أن يحرم من دويرة أهله وثانيها : قال أبو مسلم : المعنى أن من نوى الحج والعمرة لله وجب عليه الإتمام ، قال : ويدل على صحة هذا التأويل أن هذه الآية إنما نزلت بعد أن منع الكفار النبي صلى الله عليه وسلم في السنة الماضية عن الحج والعمرة فالله تعالى أمر رسوله في هذه الآية أن لا يرجع حتى يتم هذا الفرض ، ويحصل من هذا التأويل فائدة فقهية وهي أن تطوع الحج والعمرة كفرضيهما في وجوب الاتمام وثالثها : قال الأصم : إن الله تعالى فرض الحج والعمرة ثم أمر عباده أن يتموا الآداب المعتبرة ، وذكر الشيخ الإمام أبو حامد الغزالي رحمه الله في كتاب الاحياء ما يتعلق بهذا الباب فقال : الأمور المعتبرة قبل الخروج إلى الإحرام ثمانية الأول : في المال فينبغي أن يبدأ بالتوبة ، ورد المظالم ، وقضاء الديون ، وإعداد النفقة لكل من تلزمه نفقته إلى وقت الرجوع ، ويرد ما عنده من الودائع ، ويستصحب من المال الطيب الحلال ما يكفيه لذهابه وإيابه من غير تقتير بل على وجه يمكنه من التوسع في الزاد والرفق بالفقراء ، ويتصدق بشيء قبل خروجه ، ويشتري لنفسه دابة قوية على الحمل أو يكتريها ، فإن اكتراها فليظهر للمكاري كل ما يحصل رضاه فيه الثاني : في الرفيق فينبغي أن يلتمس رفيقاً صالحاً محباً للخير ، معينا عليه ، إن نسي ذكره ، وإن ذكر ساعده ، وإن جبن شجعه ، وإن عجز قواه وإن ضاق صدره صبره ، وأما الاخوان والرفقاء المقيمون فيودعهم ، ويلتمس أدعيتهم ، فإن الله تعالى جعل في دعائهم خيراً ، والسنة في الوداع أن يقول : أستودع الله دينك وأمانتك وخواتيم عملك الثالث : في الخروج من الدار ، فإذا هم بالخروج صلى ركعتين يقرأ في الأولى بعد الفاتحة
(4/309)
{ قُلْ ياأيها الكافرون} [الكافرون : 1] وفي الثانية (الإخلاص) وبعد الفراغ يتضرع إلى الله بالاخلاص ، الرابع : إذا حصل على باب الدار قال : بسم الله توكلت على الله لا حول ولا قوة إلا بالله ، وكلما كانت الدعوات أزيد كانت أولى الخامس : في الركوب ، فإذا ركب الراحلة قال : بسم الله وبالله والله أكبر ، توكلت على الله ، لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ، ما شاء الله كان ، وما لم يشأ لم يكن ، سبحان الله الذي سخر لنا هذا وما كنا له مقرنين ، وإنا إلى ربنا لمنقلبون السادس : في النزول ، والسنة أن يكون أكثر سيره بالليل ، ولا ينزل حتى يحمى النهار ، وإذا نزل صلى ركعتين ودعا الله كثيراً السابع : إن قصده عدو أو سبع في ليل أو نهار ، فليقرأ آية الكرسي ، وشهد الله ، والاخلاص ، والمعوذتين ، ويقول : تحصنت بالله العظيم ، واستعنت بالحي الذي لا يموت ، الثامنة : مهما علا شرفا من الأرض في الطريق ، فيستحب أن يكبر ثلاثاً التاسع : أن لا يكون هذا السفر مشوبا بشيء من أثر الأغراض العاجلة كالتجارة وغيرها العاشر : أن يصون الإنسان لسانه عن الرفث والفسوق والجدال ، ثم بعد الاتيان بهذه المقدمات ، يأتي بجميع أركان الحج على الوجه الأصح الأقرب إلى موافقة الكتاب والسنة ، ويكون غرضه في كل هذه الأمور ابتغاء مرضاة الله تعالى ، فقوله : {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة} كلمة شاملة جامعة لهذه المعاني ، فإذا أتى العبد بالحج على هذا الوجه كان متبعاً ملة إبراهيم حيث قال تعالى {وَإِذ ابتلى إبراهيم رَبُّهُ بكلمات فَأَتَمَّهُنَّ} [البقرة : 124].(4/310)
الوجه الرابع : في تفسير قوله تعالى : {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ} أن المراد : أفردوا كل واحد منهما بسفر وهذا تأويل من قال بالإفراد ، وقد بيناه بالدليل ، وهذا التأويل يروى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، وقد يروى مرفوعاً عن أبي هريرة ، وكان عمر يترك القران والتمتع ، ويذكر أن ذلك أتم للحج والعمرة وأن يعتمر في غير شهور الحج ، فإن الله تعالى يقول : {الحج أَشْهُرٌ معلومات} [البقرة : 197] وروى نافع عن ابن عمر أنه قال : فرقوا بين حجكم وعمرتكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ122ـ 123}
وقال الخازن :
قوله عز وجل : {وأتموا الحج والعمرة لله} قال ابن عباس وهو أن يتمهما بمناسكهما وحدودهما وسننهما وقيل إتمامهما أن تحرم بهما من دويرة أهلك وقيل هو أن تنفرد لكل واحد منهما سفراً وقيل إتمامهما أن تكون النفقة حلالاً وتنتهي عما نهى الله عنه. وقيل إتمامها أن تخرج من أهلك لهما لا للتجارة ولا لحاجة. وقيل إذا شرع فيهما وجب عليه الإتمام. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 121}
فائدة
قال ابن عرفة :
( نقل ابن عطية فيه أقوالا منها) قيل : إِتْمَامُهَا أن يحرم بهما قارنا.
قال ابن عرفة : فالواو بمعنى " مع " والظاهر أن الإتمام الإتيان بالحج مستوفى الشرائط على كل قول. فإن فرعنا على أنّ الإحرام من الميقات أفضل فإتمامه أن لا يتعدى الميقات إلا محرما وكذلك في كل أفعاله. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 248}
فصل(4/311)
واتفقت الأمة على وجوب الحج على من استطاع إليه سبيلاً عن أبي هريرة قال خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : " أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا ، فقال رجل أفي كل عام يا رسول الله ؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لو قلت نعم لوجب ولما استطعتم " وفي وجوب العمرة قولان للشافعي أصحهما إنها واجبة وهو قول علي وابن عباس والحسن وابن سيرين وعطاء وطاوس وسعيد بن جبير ومجاهد وإليه ذهب أحمد بن حنبل والقول الثاني إنها سنة ويروى ذلك عن ابن مسعود وجابر وإبراهيم والشعبي وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة. حجة من أوجب العمرة ما روي في حديث الضبي بن معبد أنه قال لعمر بن الخطاب إني وجدت الحج والعمرة مكتوبين عليّ وإني أهلك بهما فقال أهديت لسنة نبيك محمد صلى الله عليه وسلم أخرجه أبو داود والنسائي بأطول من هذا وجه الدليل أنه أخبر عن وجوبهما عليه وصوبه عمر وبين أنه مهتد بما رآه في وجوبهما عليه لسنة النبي صلى الله عليه وسلم.
(4/312)
وروي عن ابن عباس أنها كقرينها في كتاب الله : {وأتموا الحج والعمرة لله} وعن ابن عمر قال : " الحج والعمرة فريضتان " وعنه : " ليس أحد من خلق الله إلاّ وعليه حجة وعمرة واجبتان من استطاع إلى ذلك سبيلاً " وعن ابن عباس قال : " العمرة واجبة كوجوب الحج " وعن ابن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " تابعوا بين الحج والعمرة فإنهما ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الحديد والذهب والفضة وليس لحجة مبرورة ثواب إلاّ الجنة " أخرجه النسائي والترمذي وزاد : " وما من مؤمن يظل يومه محرماً إلاّ غابت الشمس بذنوبه " وقال حديث حسن صحيح. وجه الدليل أنه أمر بالمتابعة بين الحج والعمرة والأمر للوجوب ولأنها قد نظمت مع الحج في الأمر بالإتمام فكانت واجبه كالحج ، وحجة من قال بأنها سنة ما روي عن جابر قال : " سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العمرة أواجبة هي ؟ قال : " لا وأن تعتمروا خير لكم " أخرجه الترمذي. وأجيب عنه بأن هذا الحديث يرويه حجاج بن أرطأة وحجاج ليس ممن يقبل منه ما تفرد به لسوء حفظه وقلة مراعاته لما يحدث به واجتمعت الأمة على جواز أداء الحج والعمرة على ثلاثة أنواع إفراد وتمتع وقران فصورة الإفراد أن يحج ثم بعد فراغه منه يعتمر من أدنى الحل أو يعتمر قبل أشهر الحج ثم يحج في تلك السنة.
(4/313)
وصورة التمتع أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج ويأتي بأعمالها فإذا فرغ من أعمالها أحرم بالحج من مكة في تلك السنة وإنما سمي تمتعاً لأنه يستمتع بمحظورات الإحرام بعد التحلل من العمرة إلى أن يحرم بالحج. وصورة القرآن أن يحرم بالحج والعمرة معاً في أشهر الحج فينويهما بقلبه وكذلك لو أحرم بالعمرة في أشهر الحج ثم أدخل عليها الحج قبل أن يفتتح الطواف فيصير قارناً. واختلفوا في الأفضل فذهب مالك والشافعي إلى أن الإفراد أفضل ثم التمتع ثم القرآن يدل عليه ما روي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله أفرد الحج ، أخرجه مسلم وله عن ابن عمر قال : أهللنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج مفرداً ، وفي رواية إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل بالحج مفرداً ، وله عن جابر قال : قدمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن نصرخ بالحج صراخاً. وعن ابن عمر قال : افصلوا بين حجكم وعمرتكم فإن ذلك أتم لحج أحدكم وأتم لعمرته أن يعتمر في غير أشهر الحج. أخرجه مالك في الموطأ وذهب الثوري وأبو حنيفة إلى أن القرآن أفضل يدل عليه ما روي عن أنس قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبي بالحج والعمرة جميعاً وفي رواية سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لبيك عمرة وحجاً ، أخرجاه في الصحيحين. وذهب أحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه إلى أن التمتع أفضل ، يدل عليه ما روي عن ابن عباس قال : " تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان فأول من نهى عنهما معاوية " أخرجه الترمذي عن ابن عمر قال تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم فأهل بالعمرة ثم أهل بالحج وتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج وكان من الناس من أهدى ومنهم لم يهد فلما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس من كان منكم أهدى فإنه لا(4/314)
يحل من شيء حرم منه حتى يقضي حجة ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت والصفا والمروة وليقصر وليتحلل ثم ليهل بالحج وليهد فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وطاف رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم مكة فاستلم الركن أول شيء ثم خب ثلاثة أطواف من السبع ومشى أربعة أطواف ثم ركع حين قضى طوافه بالبيت عند المقام ركعتين ثم سلم فانصرف فأتى الصفا فطاف بالصفا والمروة سبعة أشواط ثم لم يحل من شيء حرم منه حتى قضى حجة ونحر هديه يوم النحر وأفاض وطاف بالبيت ثم حل من كل شيء حرم منه وفعل مثل ما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهدى فساق الهدي من الناس.
(4/315)
اختلفت الروايات في حجة النبي صلى الله عليه وسلم هل كان مفرداً أو متمتعاً أو قارناً ؟ وهي ثلاثة أقوال للعلماء بحسب مذاهبهم السابقة ورجحت كل طائفة نوعاً وادّعت أن حجة النبي صلى الله عليه وسلم كذلك وطريق الجمع بين روايات الصحابة واختلافهم في حجته صلى الله عليه وسلم أنه كان أولاً مفرداً ثم إنه صلى الله عليه وسلم أحرم بالعمرة بعد ذلك وأدخلها على الحج فصار قارناً فمن روى أنه كان مفرداً فهو الأصل ومن روي القرآن اعتمد آخر الأمر ومن روي التمتع أراد التمتع اللغوي وهو الانتفاع والارتفاق وقد ارتفق بالقرآن كارتفاق التمتع وزيادة وهو الاقتصار على فعل واحد ، وبهذا أمكن الجمع بين الأحاديث المختلفة في صفة حجة الوداع وهو الصحيح وذكر الشافعي في كتاب اختلاف الحديث كلاماً موجزاً في ذلك فقال إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان منهم المفرد والقارن والمتمتع وكل كان يأخذ منه أمر نسكه ويصدر عن تعليمه فأضيف الكل إليه على معنى أنه أمر وأذن فيه ويجوز في لغة العرب إضافة الفعل إلى الأمر به كما تجوز إضافته إلى فاعله كما يقال بني فلان داره وأريد به أنه أمر ببنائها وكما يروى : " أن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً " وإنما أمر برجمه ، واختار الشافعي الإفراد واحتج في ترجيحه بأنه صح ذلك من رواية جابر وابن عباس وعائشة وهؤلاء لهم مزية في حجة الوداع على غيرهم ، فأما جابر فهو أحسن الصحابة سياقة لرواية حديث حجة الوداع فإنه ذكرها من حين خرج النبي صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى آخرها فهو أضبط لها من غيره ، وأما ابن عمر فصح عنه أنه كان آخذاً بخطام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وإنما سمعه يلبي بالحج. وأما ابن عباس فمحله من العلم والفقه والدين معروف مع كثرة بحثه عن أحوال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأما عائشة فقربها من رسول الله معروف وإطلاعها على باطن أمره وظاهره مع كثرة فقهها وعلمها ، ومن(4/316)
دلائل ترجيح الإفراد أن الخلفاء الراشدين أفردوا الحج بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم وواظبوا عليه.
وأركان الحج خمسة الإحرام والوقوف بعرفة والطواف والسعي بين الصفا والمروة وحلق الرأس أو التقصير في أصح القولين. وأركان العمرة أربعة : الإحرام والطواف والسعي والحلق أو التقصير ، وبهذه الأركان تمام الحج والعمرة. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 123}
وقال العلامة الآلوسى بعد أن ذكر اختلاف الأئمة فى القول بوجوب العمرة :
وقد أخذ كل من الأئمة بما صح عنده والمسألة من الفروع ، والاختلاف في أمثالها رحمة. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 80}
فائدة
أجمع أهل العلم على أن من أحرم قبل أن يأتي الميقات أنه مُحْرِم ، وإنما منع من ذلك من رأى الإحرام عند الميقات أفضل ؛ كراهية أن يضيّق المرء على نفسه ما قد وسّع الله عليه ، وأن يتعرّض بما لا يؤمن أن يحدث في إحرامه ، وكلهم ألزمه الإحرام إذا فعل ذلك ، لأنه زاد ولم ينقص. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 367}
قوله تعالى : {فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ }
قال ابن عاشور :
وقوله : {فإن أحصرتم فما استيسر من الهدى} عطف على {أتموا} ، والفاء للتفريع الذكري فإنه لما أمر بإتمام الحج والعمرة ذكر حكم ما يمنع من ذلك الإتمام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 222}
وقال الخازن : (4/317)
اختلف أهل اللغة في الحصر والإحصار فقيل إذا رد الرجل عن وجه يريده فقد أحصر ، وإذا حبس فقد حصر وقال ابن السكيت أحصره المرض إذا منعه من السفر أو حاجة يريدها وحصره العدو إذا ضيق عليه. وقال الزجاج : الرواية عن أهل اللغة يقال للذي يمنعه الخوف أو المرض أحصر والمجوس حصر ، وقال ابن قتيبة في قوله : {فإن أحصرتم} هو أن يعرض للرجل ما يحول بينه وبين الحج من مرض أو كسر أو عد ويقال أحصر فهو محصر فإن حبس في دار أو سجن قيل حصر فهو محصور وذهب قوم إلى أنهما بمعنى واحد. قال الزجاج : يقال الرجل من حصرك هنا ومن أحصرك وقال أحمد بن يحيى أصل الحصر والإحصار الحبس وحصر في الحبس أقوى من أحصر وقيل الإحصار يقال في المنع الظاهر كالعدو والمنع الباطن كالمرض والحصر لا يقال إلاّ في المنع الباطن وأما قوله {فإن أحصرتم} فمحمول على الأمرين وبحسب اختلاف أهل اللغة في معناها اختلف الفقهاء في حكمها فذهب قوم إلى أن كل مانع من عدو أو مرض أو ذهاب نفقة فإنه يبيح له التحلل من إحرامه وهو قول عطاء ومجاهد وقتادة وهو مذهب أبي حنيفة ويدل عليه ما روي عن عكرمة قال حدّثني الحجاج بن عمرو قال قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من كسر أو عرج فقد حلَّ وعليه حجة أخرى " قال عكرمة : فذكرت ذلك لأبي هريرة وابن عباس فقالا : صدق ، أخرجه أبو داود والنسائي والترمذي وقال حديث حسن وذهب قوم إلى أنه لا يباح له التحلل إلاّ بحبس العدو وهو قول ابن عمر وابن عباس وأنس وبه قال مالك والليث والشافعي وأحمد وقالوا الحصر والإحصار بمعنى واحد واحتجوا بأن نزول الآية كان في قصة الحديبية في سنة ست وكان ذلك حبساً من جهة العدو لأن كفار مكة منعوا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الطواف بالبيت فنزلت هذه الآية فحل النبي صلى الله عليه وسلم من عمرته ونحر هدية وقضاها من قابل ويدل عليه أيضاً سياق الآية وهو قوله : {فإذا أمنتم} والأمن لا يكون إلاّ من خوف(4/318)
وثبت عن ابن عباس أنه قال لا حصر إلاّ حصر العدو فثبت بذلك أن المراد من الإحصار هو حصر العدو دون المرض وغيره. وأجيب عن حديث الحجاج بن عمرو بأنه محمول على من شرط التحلل بالمرض ونحوه أحرامه ويدل على جواز الاشتراط في الإحرام ما روي عن ابن عباس أن ضباعة بنت الزبير أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله إني أريد الحج أفأشترط ؟
" قال نعم قالت كيف أقول ؟ قال قولي لبيك اللهم لبيك محلي من الأرض حيث تحبسني " أخرجه الترمذي وقال حديث حسن صحيح. ولغيره أن ضباعة بنت الزبير كانت وجعة فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : " حجي واشترطي وقولي اللهم محلي حيث حبستني " فذهب الشافعي وأحمد وإسحاق إذا اشترط في الحج فعرض له مرض أو عذر أن يتحلل ويخرج من إحرامه ثم المحصر يتحلل بذبح الهدي وحلق الرأس وهو المراد من قوله تعالى : {فما استيسر من الهدي} ومعنى الآية فإن أحصرتم دون تمام الحج أو العمرة فحللتم فعليكم ما استيسر من الهدي الهدي ما يهدي إلى البيت وأعلاه بدنة وأوسطه بقرة وأدناه شاة. قال ابن عباس : شاة لأنه أقرب إلى اليسر ، ومحل ذبح هدي المحصر حيث أحصر وإليه ذهب الشافعي لأن النبي صلى الله عليه وسلم ذبح الهدي عام الحديبية بها ، وذهب أبو حنيفة إلى أنه يقيم على إحرامه ويبعث بهديه إلى الحرم ويواعد من يذبحه هناك ثم يحل في ذلك الوقت. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 123}
وفي محل هدي المحصر ، ثلاثة أقاويل :
أحدها : حيث أُحْصِر من حِلٍ أو حَرَم ، وهذا قول ابن عمر ، والمِسْوَر بن مخرمة ، وهارون بن الحكم ، وبه قال الشافعي.
والقول الثاني : أنه الحَرَم ، وهو قول عليّ ، وابن مسعود ومجاهد ، وبه قال أبو حنيفة.(4/319)
والقول الثالث : أن مَحِلّهُ أن يتحلل من إحرامه بادئاً نسكه ، والمقام على إحرامه إلى زوال إحصاره ، وليس للمحرم أن يتحلل بالاحصار بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن كان إحرامُه بعمرة لم يَفُتْ وإن كان بحج قضاه بالفوات بعد الإحلال منه ، وهذا مروي عن ابن عباس ، وعائشة ، وبه قال مالك. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 255}
سؤال : لم جاء الشرط بحرف (إن) ؟
الجواب : جاء الشرط بحرف (إن) لأن مضمون الشرط كريه لهم فألقى إليهم الكلام إلقاء الخبر الذي يشك في وقوعه ، والمقصود إشعارهم بأن المشركين سيمنعونهم من العمرة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 222}
قوله تعالى : {مِنَ الهدي} الْهَدْيُ والهَدِيّ لغتان. وهو ما يُهْدَى إلى بيت الله من بَدَنة أو غيرها. والعرب تقول : كم هَدِيّ بني فلان ؛ أي كم إبلهم. وقال أبو بكر : سُمّيت هَدِيا لأن منها ما يُهْدَى إلى بيت الله ؛ فسمّيت بما يلحق بعضها ، كما قال تعالى : {فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب} [النساء : 25]. أراد فإن زنى الإماء فعلى الأَمَة منهن إذا زَنَت نصف ما على الحُرّة البكر إذا زَنَت ؛ فذَكر الله المحصنات وهو يريد الأبكار ؛ لأن الإحصان يكون في أكثرهن فسمّين بأمر يوجد في بعضهن. والمُحْصَنة من الحرائر هي ذات الزوج ، يجب عليها الرَّجْم إذا زنت ، والرجم لا يتبعّض ، فيكون على الأَمَة نصفه ؛ فانكشف بهذا أن المُحْصَنات يراد بهن الأبكار لا أُولات الأزواج. وقال الفَرّاء : أهل الحجاز وبنو أسد يخفّفون الهَدْي ؛ قال : وتميم وسُفْلَى قيس يثقّلون فيقولون : هَدِيّ.
قال الشاعر :
حَلفْتُ بربّ مكة والمُصَلَّى... وأعناقِ الهَدِيِّ مُقَلَّداتِ
قال : وواحد الهَدْي هدية. ويقال في جمع الهدي : أهداء. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 378}(4/320)
قوله تعالى : {فَمَن تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلى الْحَجِّ فَمَا استَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ }
اختلفوا في هذا المتمتع على ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنه المُحْصَرُ بالحج ، إذا حَلَّ منه بالإحصار ، ثم عاد إلى بلده متمتعاً بعد إحلاله ، فإذا قضى حجَّه في العام الثاني ، صار متمتعاً بإحلالٍ بيْن الإحْرَامَين ، وهذا قول الزبير.
والثاني : فمن نسخ حَجَّهُ بعمرة ، فاستمتع بعمرة بعد فسخ حَجِّهِ ، وهذا قول السدي.
والثالث : فمن قَدِمَ الحرم معتمراً في أشهر الحج ، ثم أقام بمكة حتى أحرم منها بالحج في عامِهِ ، وهذا قول ابن عباس ، وابن عمر ، ومجاهد ، وعطاء ، والشافعي. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 256}
قوله تعالى : {فَمَا استيسر مِنَ الهدى }
قال ابن عاشور :
وقوله : {فما استيسر من الهدى} جواب الشرط وهو مشتمل على أحد ركني الإسناد وهو المسند إليه دون المسند فلا بد من تقدير دل عليه قوله : {من الهدي} وقدره في "الكشاف" فعليكم ، والأظهر أن يقدر فعل أمر أي فاهدوا ما استيسر من الهدي ، وكلا التقديرين دال على وجوب الهدي. ووجوبه في الحج ظاهر وفي العمرة كذلك ؛ بأنها مما يجب إتمامه بعد الإحرام باتفاق الجمهور.
و (استيسر) هنا بمعنى يسر فالسين والتاء للتأكيد كاستعصب عليه بمعنى صعب أي ما أمكن من الهدي بإمكان تحصيله وإمكان توجيهه ، فاستيسر هنا مراد جميع وجوه التيسر.(4/321)
والهدي اسم الحيوان المتقرب به لله في الحج فهو فَعْل من أهدى ، وقيل هو جمع هدية كما جمعت جدية السرج على جدي ، فإن كان اسماً فمن بيانية ، وإن كان جمعاً فمن تبعيضية ، وأقل ما هو معروف عندهم من الهدي الغنم ، ولذلك لم يبينه الله تعالى هنا ، وهذا الهدي إن كان قد ساقه قاصد الحج والعمرة معه ثم أحصر فالبعث به إن أمكن واجب ، وإن لم يكن ساقه معه فعليه توجيهه على الخلاف في حكمه من وجوبه وعدمه ، والمقصود من هذا تحصيل بعض مصالح الحج بقدر الإمكان ، فإذا فاتت المناسك لا يفوت ما ينفع فقراء مكة ومن حولها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 224}
قوله تعالى : {ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله}
قال الخازن :
{ ولا تحلقوا رؤوسكم حتى يبلغ الهدي محله} أي مكانه الذي يجب أن يذبح فيه ، وفيه قولان أحدهما أنه الحرم فإن كان حاجاً فمحله يوم النحر وإن كان معتمراً فمحله يوم يبلغ هديه إلى الحرم وهو قول أبي حنيفة والقول الثاني محل ذبحه حيث أحصر سواء كان في الحل أو في الحرم ، ومعنى محله يعني حيث يحل ذبحه وأكله وهو قول مالك والشافعي وأحمد ويدل عليه ما روي عن ابن عمر قال : خرجنا مع رسول الله صلىلله عليه وسلم معتمرين فحال كفار قريش دون البيت فنحر رسول الله صلى الله عليه وسلم وحلق رأسه ، أخرجه البخاري. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 124}
وقال القرطبى : (4/322)
قوله تعالى : {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ} الخطاب لجميع الأمة : مُحْصَر ومُخَلًّي. ومن العلماء من يراها للمحصَرين خاصّةً ؛ أي لا تتحلّلوا من الإحرام حتى يُنْحَر الهَدْي. والمَحِلُّ : الموضع الذي يحلّ فيه ذبحه. فالمحِلّ في حصر العدوّ عند مالك والشافعي : موضع الحصر ، اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم زمن الحُدَيْبِيَة ؛ قال الله تعالى : {والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ} [الفتح : 25] قيل : محبوساً إذا كان محصَراً ممنوعاً من الوصول إلى البيت العَتِيق. وعند أبي حنيفة مَحِلّ الهَدْي في الإحصار : الحَرَم ؛ لقوله تعالى : {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} [الحج : 33]. وأجيب عن هذا بأن المخاطَب به الآمنُ الذي يجد الوصول إلى البيت. فأمّا المُحْصَر فخارج من قول الله تعالى : {ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق} بدليل نحر النبيّ صلى الله عليه وسلم وأصحابه هَدْيَهم بالحديبية وليست من الحَرَم. واحتجوا من السُّنة بحديث " ناجية بن جُندب صاحب النبيّ صلى الله عليه وسلم أنه قال للنبيّ صلى الله عليه وسلم : ابعث معي الهَدْيَ فانحره بالحرم. قال : "فكيف تصنع به" قال : أخرجه في الأوْدية لا يقدرون عليه ، فانطلق به حتى أنحره في الحرم. وأجيب بأن هذا لا يصح ، وإنما يُنحر حيث حلّ ؛ اقتداء بفعله عليه السلام بالحديبية " ؛ وهو الصحيح الذي رواه الأئمة ، ولأن الهَدْيَ تابع للمُهْدِي ، والمهدِي حلّ بموضعه ؛ فالمُهْدَى أيضاً يحل معه.
أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 379}
سؤال : لم خص النهي عن الحلق دون غيره من منافيات الإحرام كالطيب ؟ (4/323)
الجواب : إنما خص النهي عن الحلق دون غيره من منافيات الإحرام كالطيب تمهيداً لقوله : {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه} ويعلم استمرار حكم الإحرام في البقية بدلالة القياس والسياق وهذا من مستتبعات التراكيب وليس بكناية عن الإحلال لعدم وضوح الملازمة. والمقصود من هذا تحصيل بعض ما أمكن من أحوال المناسك وهو استبقاء الشعث المقصود في المناسك. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 224}
سؤال : هل يجوز للمحصَر أن يَحلق أو يَحِلّ بشيء من الحِلّ قبل أن يَنحر ما استيسر من الهَدْي ؟ (4/324)
الجواب : العلماء على ما قرّرناه في المحصَر هل له أن يَحلق أو يَحِلّ بشيء من الحِلّ قبل أن يَنحر ما استيسر من الهَدْي ؛ فقال مالك : السُّنة الثابتة التي لا اختلاف فيها عندنا أنه لا يجوز لأحد أن يأخذ من شعره حتى ينحر هديه ، قال الله تعالى : {وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ}. وقال أبو حنيفة وأصحابه : إذا حلّ المحصَر قبل أن يَنحر هَدْيه فعليه دَمٌ ، ويعود حراماً كما كان حتى يَنحر هَدْيه. وإن أصاب صيداً قبل أن يَنْحر الهَدْيَ فعليه الجزاء. وسواء في ذلك الموسر والمعسر لا يحلّ أبداً حتى يَنحر أو يُنحر عنه. قالوا : وأقلّ ما يُهديه شاة ، لا عمياء ولا مقطوعة الأذنين ؛ وليس هذا عندهم موضع صيام. قال أبو عمر : قول الكوفيين فيه ضعف وتناقض ؛ لأنهم لا يجيزون لمُحْصر بعدوّ ولا مرض أن يحلّ حتى يَنحر هديه في الحَرَم. وإذا أجازوا للمحصر بمرض أن يبعث بهدْي ويواعد حامله يوماً ينحره فيه فيحلّ ويحلِق فقد أجازوا له أن يحلّ على غير يقين من نحر الهدي وبلوغه ، وحملوه على الإحلال بالظنون. والعلماء متفقون على أنه لا يجوز لمن لزمه شيء من فرائضه أن يخرج منه بالظن ؛ والدليل على أن ذلك ظنّ قولهم : لو عَطِب ذلك الهَدْيُ أو ضَلّ أو سُرِق فحلّ مُرْسله وأصاب النساء وصاد أنه يعود حراماً وعليه جزاء ما صاد ؛ فأباحوا له فساد الحج وألزموه ما يلزم مَن لم يحلّ من إحرامه.
وهذا ما لا خفاء فيه من التناقض وضعف المذاهب (1)
_________________
(1) الاختلاف فى الفروع رحمة من الله تعالى بهذه الأمة ولا يجوز لمذهب أن يحتج على مذهب ، والاجتهاد لا ينقض بالاجتهاد وكلهم من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ملتمس.والله أعلم.(4/325)
، وإنما بَنَوْا مذهبهم هذا كله على قول ابن مسعود ولم ينظروا في خلاف غيره له. وقال الشافعي في المحصر إذا أعسر بالهدي : فيه قولان : لا يحلّ أبداً إلا بهَدْي. والقول الآخر : أنه مأمور أن يأتي بما قدر عليه ؛ فإن لم يقدر على شيء كان عليه أن يأتي به إذا قَدَر عليه. قال الشافعي : ومن قال هذا قال : يحلّ مكانه ويذبح إذا قَدر ؛ فإن قدر على أن يكون الذبح بمكة لم يُجْزه أن يذبح إلا بها ، وإن لم يقدر ذبح حيث قدر. قال ويقال : لا يَجزيه إلا هَدْي. ويقال : إذا لم يَجد هدياً كان عليه الإطعام أو الصيام. وإن لم يجد واحداً من هذه الثلاثة أتى بواحد منها إذا قدر. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 380}
وقوله : {فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه} الآية ، المراد مرض يقتضي الحلق سواء كان المرض بالجسد أم بالرأس ، وقوله : {أو به أذى من رأسه} كناية عن الوسخ الشديد والقمل ، لكراهية التصريح بالقمل. وكلمة (من) للابتداء أي أذى ناشىء عن رأسه.
وفي البخاري عن كعب بن عجرة قال : " حملت إلى النبي والقمل يتناثر على وجهي ، فقال ما كنت أرى الجهد قد بلغ بك هذا ، أما تجد شاة ؟ قلت : لا ، قال : صم ثلاثة أيام أو أطعم ستة مساكين لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك ، فنزلت هذه الآية فيَّ خاصة وهي لكم عامة اهـ " ومن لطائف القرآن ترك التصريح بما هو مرذول من الألفاظ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 224 ـ 225}
وقوله : {ففدية من صيام} محذوف المسند إليه لظهوره أي عليه ، والمعنى فليحلق رأسه وعليه فدية ، وقرينة المحذوف قوله : {ولا تحلقوا رؤوسكم} وقد أجمل الله الفدية ومقدارها وبينه حديث كعب بن عجرة.(4/326)
والنسك بضمتين وبسكون السين مع تثليث النون العبادة ويطلق على الذبيحة المقصود منها التعبد وهو المراد هنا مشتق من نَسك كنصر وكرم إذا عبد وذبح لله وسمي العابد ناسكاً ، وأغلب إطلاقه على الذبيحة المتقرب بها إلى معبود وفي الحديث : " والآخر يوم تأكلون فيه من نسككم " يعني الضحية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 225}
قوله تعالى {فإذا أمنتم }
الأمن ضد الخوف ، وهو أيضاً السلامة من كل ما يخاف منه أمن كفرح أمناً ، أماناً ، وأمناً ، وآمنة وإمناً بكسر الهمزة وهو قاصر بالنسبة إلى المأمون منه فيتعدى بمن تقول : أمنت من العدو ، ويتعدى إلى المأمون تقول : أمنت فلاناً إذا جعلته آمناً منك ، والأظهر أن الأمن ضد الخوف من العدو ما لم يصرح بمتعلقه وفي القرآن {ثم أبلغه مأمنه} [التوبة : 6] فإن لم يذكر له متعلق نزل منزلة اللازم فدل على عدم الخوف من القتال وقد تقدم في قوله تعالى : {رب اجعل هذا بلداً آمناً} [البقرة : 126].
وهذا دليل على أن المراد بالإحصار فيما تقدم ما يشمل منع العدو ولذلك قيل (إذا أمنتم) ويؤيده أن الآيات نزلت في شأن عمرة الحديبية كما تقدم فلا مفهوم للشرط هنا ؛ لأنه خرج لأجل حادثة معينة ، فالآية دلت على حكم العمرة ، لأنها لا تكون إلاّ مع الأمن ، وذلك أن المسلمين جاءوا في عام عمرة القضاء معتمرين وناوين إن مكنوا من الحج أن يحجوا ، ويعلم حكم المريض ونحوه إذا زال عنه المانع بالقياس على حكم الخائف. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 225}
سؤال : لم جيء بـ {إذا} ؟
الجواب : جيء بـ {إذا} لأن فعل الشرط مرغوب فيه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 225}
قوله تعالى : {فمن تمنع بالعمرة إلى الحج }
قال الفخر : (4/327)
معنى التمتع التلذذ ، يقال : تمتع بالشيء أي تلذذ به ، والمتاع : كل شيء يتمتع به ، وأصله من قولهم : حبل ماتع أي طويل ، وكل من طالت صحبته مع الشيء فهو متمتع به ، والمتمتع بالعمرة إلى الحج هو أن يقدم مكة فيعتمر في أشهر الحج ، ثم يقيم بمكة حلالاً ينشىء منها الحج ، فيحج من عامه ذلك ، وإنما سمي متمتعاً لأنه يكون مستمتعاً بمحظورات الإحرام فيما بين تحلله من العمرة إلى إحرامه بالحج ، والتمتع على هذا الوجه صحيح لا كراهة فيه ، وههنا نوع آخر من التمتع مكروه ، وهو الذي حذر عنه عمر رضي الله عنه وقال : متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أنهي عنهما وأعاقب عليهما : متعة النساء ومتعة الحج ، والمراد من هذه المتعة أن يجمع بين الإحرامين ثم يفسخ الحج إلى العمرة ويتمتع بها إلى الحج ، وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذن لأصحابه في ذلك ثم نسخ ، روي عن أبي ذر أنه قال : ما كانت متعة الحج إلا لي خاصة ، فكان السبب فيه أنهم كانوا لا يرون العمرة في أشهر الحج ويعدونها من أفجر الفجور فلما أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم إبطال ذلك الاعتقاد عليهم بالغ فيه بأن نقلهم في أشهر الحج من الحج إلى العمرة وهذا سبب لا يشاركهم فيه غيرهم ، فلهذا المعنى كان فسخ الحج خاصاً بهم.أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 130}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {فمن تمنع} جواب (إذا) والتقدير فإذا أمنتم بعد الإحصار وفاتكم وقت الحج وأمكنكم أن تعتمروا فاعتمروا وانتظروا الحج إلى عام قابل ، واغتنموا خير العمرة فمن تمتع بالعمرة فعليه هدي عوضاً عن هدي الحج ، فالظاهر أن صدر الآية أريد به الإحصار الذي لا يتمكن معه المحصر من حج ولا عمرة ، وأن قوله {فإذا آمنتم} أريد به حصول الأمن مع إمكان الإتيان بعمرة وقد فات وقت الحج ، أي أنه فاته الوقت ولم يفته مكان الحج ، ويعلم أن من أمن وقد بقي ما يسعه بأن يحج عليه أن يحج.(4/328)
ومعنى {تمتع بالعمرة إلى الحج} انتفع بالعمرة عاجلاً ، والانتفاع بها إما بمعنى الانتفاع بثوابها ، أو بسقوط وجوبها إن قيل إنها واجبة مع إسقاط السفر لها إذ هو قد أداها في سفر الحج ، وإما بمعنى الانتفاع بالحل منها ثم إعادة الإحرام بالحج فانتفع بألا يبقى في كلفة الإحرام مدة طويلة ، وهذا رخصة من الله تعالى ، إذ أباح العمرة في مدة الحج بعد أن كان ذلك محظوراً في عهد الجاهلية إذ كانوا يرون العمرة في أشهر الحج من أعظم الفجور.
فالباء في قوله : {بالعمرة} صلة فعل {تمتع} ، وقوله {إلى الحج} متعلق بمحذوف دل عليه معنى (إلى) تقديره متربصاً إلى وقت الحج أو بالغاً إلى وقت الحج أي أيامه وهي عشر ذي الحجة وقد فهم من كلمة (إلى) أن بين العمرة والحج زمناً لا يكون فيه المعتمر محرماً وهو الإحلال الذي بين العمرة والحج في التمتع والقران ، فعليه ما استيسر من الهدي لأجل الإحلال الذي بين الإحرامين ، وهذا حيث لم يهد وقت الإحصار فيما أراه والله أعلم.
والآية جاءت بلفظ التمتع على المعنى اللغوي أي الانتفاع وأشارت إلى ما سماه المسلمون بالتمتع وبالقران وهو من شرائع الإسلام التي أبطل بها شريعة الجاهلية ، واسم التمتع يشملها لكنه خص التمتع بأن يحرم الحاج بعمرة في أشهر الحج ثم يحل منها ثم يحج من عامه ذلك قبل الرجوع إلى أفقه ، وخص القران بأن يقرن الحج والعمرة في إهلال واحد ويبدأ في فعله بالعمرة ثم يحل منها ويجوز له أن يردف الحج على العمرة كل ذلك شرعه الله رخصة للناس ، وإبطالاً لما كانت عليه الجاهلية من منع العمرة في أشهر الحج ، وفرض الله عليه الهدي جبراً لما كان يتجشمه من مشقة الرجوع إلى مكة لأداء العمرة كما كانوا في الجاهلية ولذلك سماه تمتعاً. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 226}
فائدة
قال الخازن : (4/329)
ولوجوب دم التمتع خمس شرائط : أحدها : أن يقدم العمرة على الحج. الثاني : أن يحرم بالعمرة في أشهر الحج. الثالث : أن يحج بعد الفراغ من العمرة في هذه السنة. الرابع : أن يحرم من مكة ولا يعود إلى ميقات بلده ، فإن رجع إلى الميقات بلده ، فإن رجع إلى الميقات وأحرم منه لم يكن متمتعاً. الخامس : أن لا يكون من حاضري المسجد الحرام فهذه الشروط معتبرة في وجوب دم التمتع ومتى فقد شيء منها لم يكن متمتعاً ودم التمتع دم جبران عند الشافعي فلا يجوز أن يأكل منه.
وقال أبو حنيفة : هو دم نسك فيجوز أن يأكل منه وقوله {فمن لم يجد} يعني الهدي {فصيام ثلاثة أيام في الحج} أي فعليه صيام ثلاثة أيام في وقت اشتغاله بالحج. قيل : يصوم يوماً قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة وقيل بل المستحب أن يصوم في أيام الحج بحيث يكون يوم عرفة مفطراً فإن لم يصم قبل يوم النحر فقيل يصوم أيام التشريق وبه قال مالك وأحمد وهو أحد قولي الشافعي. وقيل : بل يصوم بعد أيام التشريق وهو رواية عن أحمد والقول الآخر للشافعي. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 125}
قوله تعالى : {فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّمٍ فِي الْحَجِّ }
اختلفوا في زمانها من الحج على قولين :
أحدهما : بعد إحرامه وقبل يوم النحر ، وهذا قول علي ، وابن عباس ، والحسن ، ومجاهد ، وقتادة ، وطاوس ، والسدي ، وسعيد بن جبير ، وعطاء ، والشافعي في الجديد.
والثاني : أنها أيام التشريق ، وهذا قول عائشة ، وعروة ، وابن عُمر في رواية سالم عنه ، والشافعي في القديم.
واختلفوا في جواز تقديمها قبل الإحرام بالحج على قولين :
أحدهما : لا يجوز ، وهذا قول ابن عمر ، وابن عباس.
والثاني : يجوز.
واختلف قائلو ذلك في زمان تقديمه قبل الحج على قولين : (4/330)
أحدهما : عشر ذي الحجة ، ولا يجوز قبلها ، وهو قول مجاهد ، وعطاء. والثاني : في أشهر الحج ، ولا يجوز قبلها ، وهو قول طاوس. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 257}
قال الخازن :
{ وسبعة إذا رجعتم} يعني وصوموا سبعة أيام إذا رجعتم إلى أوطانكم وأهليكم قاله ابن عباس وبه قال الشافعي ، فلو صام قبل الرجوع إلى أهله لم يجزه عنده وقيل المراد من الرجوع هو الفراغ من أعمال الحج والأخذ في الرجوع فعلى هذا يجزئه أن يصوم السبعة أيام بعد الفراغ من أعمال الحج هو الفراغ من أعمال الحج وقبل الرجوع إلى أهله وبه قال أبو حنيفة. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 125}
وقال ابن عاشور :
وجعل الله الصيام بدلاً عن الهدى زيادة في الرخصة والرحمة ولذلك شرع الصوم مفرقاً فجعله عشرة أيام ثلاثة منها في أيام الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 228}
فائدة لغوية
قال السمين :
وفي قوله : {رَجَعْتُمْ} شيئان : أحدُهما التفاتٌ ، والآخرُ الحَمْلُ على المعنى ، أمَّا الالتفاتُ : فإنَّ قبلَه "فَمَنْ تَمَتَّعَ فَمَنْ لَم يَجِدُ" فجاء بضمير الغَيْبَةِ عائداً على "مَنْ" ، فلو سيق هذا على نظم الأولِ لقيل : "إذا رجع" بضميرِ الغَيْبَةِ. وأمَّا الحملُ : فلأنه أتى بضميرِ جمعٍ اعتباراً بمعنى "منْ" ، ولو راعى اللفظَ لأفردَ ، فقال : "رَجَعَ". أ هـ {الدر المصون ـ للسمين حـ 2 صـ 319}.(4/331)
قوله تعالى : {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ }
من أنفس ما قيل فى هذه الآية
قال الإمام الفخر ـ رحمه الله ـ :
أما قوله تعالى : {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فقد طعن الملحدون لعنهم الله فيه من وجهين أحدهما : أن المعلوم بالضرورة أن الثلاثة والسبعة عشرة فذكره يكون إيضاحاً للواضح والثاني : أن قوله : {كَامِلَةٌ} يوهم وجود عشرة غير كاملة في كونها عشرة وذلك محال ، والعلماء ذكروا أنواعاً من الفوائد في هذا الكلام الأول : أن الواو في قوله : {وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} ليس نصاً قاطعاً في الجمع بل قد تكون بمعنى أو كما في قوله : {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} [النساء : 3] وكما في قولهم : جالس الحسن وابن سيرين أي جالس هذا أو هذا ، فالله تعالى ذكر قوله : {عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} إزالة لهذا الوهم النوع الثاني : أن المعتاد أن يكون البدل أضعف حالاً من المبدل كما في التيمم مع الماء فالله تعالى بين أن هذا البدل ليس كذلك ، بل هو كامل في كونه قائماً مقام المبدل ليكون الفاقد للهدي المتحمل لكلفة الصوم ساكن النفس إلى ما حصل له من الأجر الكامل من عند الله ، وذكر العشرة إنما هو لصحة التوصل به إلى قوله : {كَامِلَةٌ} كأنه لو قال : تلك كاملة ، جوز أن يراد به الثلاثة المفردة عن السبعة ، أو السبعة المفردة عن الثلاثة ، فلا بد في هذا من ذكر العشرة ، ثم اعلم أن قوله : {كَامِلَةٌ} يحتمل بيان الكمال من ثلاثة أوجه أحدها : أنها كاملة في البدل عن الهدي قائمة مقامه وثانيها : أنها كاملة في أن ثواب صاحبه كامل مثل ثواب من يأتي بالهدي من القادرين عليه وثالثها : أنها كاملة في أن حج المتمتع إذا أتى بهذا الصيام يكون كاملاً ، مثل حج من لم يأت بهذا التمتع.(4/332)
النوع الثالث : أن الله تعالى إذا قال : أوجبت عليكم الصيام عشرة أيام ، لم يبعد أن يكون هناك دليل يقتضي خروج بعض هذه الأيام عن هذا اللفظ ، فإن تخصيص العام كثير في الشرع والعرف ، فلو قال : ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ، بقي احتمال أن يكون مخصوصاً بحسب بعض الدلائل المخصصة ، فإذا قال بعده : تلك عشرة كاملة فهذا يكون تنصيصاً على أن هذا المخصص لم يوجد ألبتة ، فتكون دلالته أقوى واحتماله للتخصيص والنسخ أبعد.
النوع الرابع : أن مراتب الأعداد أربعة : آحاد ، وعشرات ، ومئين ، وألوف ، وما وراء ذلك فأما أن يكون مركباً أو مكسوراً ، وكون العشرة عدداً موصوفاً بالكمال بهذا التفسير أمر يحتاج إلى التعريف ، فصار تقدير الكلام : إنما أوجبت هذا العدد لكونه عدداً موصوفاً بصفة الكمال خالياً عن الكسر والتركيب.
النوع الخامس : أن التوكيد طريقة مشهورة في كلام العرب ، كقوله : {ولكن تعمى القلوب التى فِى الصدور} [الحج : 46] وقال : {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام : 38] والفائدة فيه أن الكلام الذي يعبر عنه بالعبارات الكثيرة ويعرف بالصفات الكثيرة ، أبعد عن السهو والنسيان من الكلام الذي يعبر عنه بالعبارة الواحدة ، فالتعبير بالعبادات الكثيرة يدل على كونه في نفسه مشتملاً على مصالح كثيرة ولا يجوز الإخلال بها ، أما ما عبر عنه بعبارة واحدة فإنه لا يعلم منه كونه مصلحة مهمة لا يجوز الإخلال بها ، وإذا كان التوكيد مشتملاً على هذه الحكمة كان ذكره في هذا الموضع دلالة على أن رعاية العدد في هذا الصوم من المهمات التي لا يجوز إهمالها ألبتة.
(4/333)
النوع السادس : في بيان فائدة هذا الكلام أن هذا الخطاب مع العرب ، ولم يكونوا أهل حساب ، فبين الله تعالى ذلك بياناً قاطعاً للشك والريب ، وهذا كما روي أنه قال في الشهر : هكذا وهكذا وأشار بيديه ثلاثاً ، وأشار مرة أخرى وأمسك إبهامه في الثالثة منبهاً بالإشارة الأولى على ثلاثين ، وبالثانية على تسعة وعشرين.
النوع السابع : أن هذا الكلام يزيل الإبهام المتولد من تصحيف الخط ، وذلك لأن سبعة وتسعة متشابهتان في الخط ، فإذا قال بعده تلك عشرة كاملة زال هذا الاشتباه.
النوع الثامن : أن قوله : {فَصِيَامُ ثلاثة أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ} يحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع أن يكمل سبعة أيام ، على أنه يحسب من هذه السبعة تلك الثلاثة المتقدمة ، حتى يكون الباقي عليه بعد من الحج أربعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة ، ويحتمل أن يكون المراد منه أن يكون الواجب بعد الرجوع سبعة سوى تلك الثلاثة المتقدمة ، فهذا الكلام محتمل لهذين الوجهين ، فإذا قال بعده تلك عشة كاملة زال هذا الإشكال ، وبين أن الواجب بعد الرجوع سبعة سوى الثلاثة المتقدمة.
النوع التاسع : أن اللفظ وإن كان خبراً لكن المعنى أمر والتقدير : فلتكن تلك الصيامات صيامات كاملة لأن الحج المأمور به حج تام على ما قال : {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ} وهذه الصيامات جبرانات للخلل الواقع في ذلك الحج ، فلتكن هذه الصيامات صيامات كاملة حتى يكون جابراً للخلل الواقع في ذلك الحج ، الذي يجب أن يكون تاماً كاملاً ، والمراد بكون هذه الصيامات كاملة ما ذكرنا في بيان كون الحج تاماً ، وإنما عدل عن لفظ الأمر إلى لفظ الخبر لأن التكليف بالشيء إذا كان متأكداً جداً فالظاهر دخول المكلف به في الوجود ، فلهذا السبب جاز أن يجعل الإخبار عن الشيء بالوقوع كناية عن تأكد الأمر به ، ومبالغة الشرع في إيجابه.
(4/334)
النوع العاشر : أنه سبحانه وتعالى لما أمر بصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة بعد الرجوع من الحج ، فليس في هذا القدر بيان أنه طاعة عظيمة كاملة عند الله سبحانه وتعالى ، فلما قال بعده : {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} دل ذلك على أن هذه الطاعة في غاية الكمال ، وذلك لأن الصوم مضاف إلى الله تعالى بلام الاختصاص على ما قال تعالى : {الصوم لي} والحج أيضاً مضاف إلى الله تعالى بلام الإختصاص ، على ما قال : {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ} وكما دل النص على مزيد اختصاص لهاتين العبادتين بالله سبحانه وتعالى ، فالعقل دل أيضاً على ذلك ، أما في حق الصوم فلأنه عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجه الحكمة فيها ، وهو مع ذلك شاق على النفس جداً ، فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاة الله تعالى ، والحج أيضاً عبادة لا يطلع العقل ألبتة على وجه الحكمة فيها ، وهو مع ذلك شاق جداً لأنه يوجب مفارقة الأهل والوطن ، ويوجب التباعد عن أكثر اللذات ، فلا جرم لا يؤتى به إلا لمحض مرضاته ، ثم إن هذه الأيام العشرة بعضه واقع في زمان الحج فيكون جمعاً بين شيئين شاقين جداً ، وبعضه واقع بعد الفراغ من الحج وهو انتقال من شاق إلى شاق ، ومعلوم أن ذلك سبب لكثرة الثواب وعلو الدرجة فلا جرم أوجب الله تعالى صيام هذه الأيام العشرة ، وشهد سبحانه على أنه عبادة في غاية الكمال والعلو ، فقال : {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فإن التنكير في هذا الموضع يدل على تعظيم الحال ، فكأنه قال : عشرة وأية عشرة ، عشرة كاملة ، فقد ظهر بهذه الوجوه العشرة اشتمال هذه الكلمة على هذه الفوائد النفيسة ، وسقط بهذا البيان طعن الملحدين في هذه الآية والحمد لله رب العالمين. (1) أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 134 ـ 135}
________________
(1) رحم الله الإمام الفخر فكلها وجوه مستحسنة فى أعلى درجات البيان ما عدا الوجه السابع ففيه نظر فالقرآن محفوظ فى الصدور قبل السطور فلا تشتبه السبعة مع التسعة. والله أعلم وأحكم.(4/335)
وقال الخازن :
{ تلك عشرة كاملة} يعني في الثواب والأجر وقيل كاملة في قيامها مقام الهدي لأنه قد يحتمل أن يظن ظان أن الثلاثة قد قامت مقام الهدي فاعلم الله أن العشرة بكمالها هي القائمة مقام الهدي وقيل فائدة التكرار كقول الفرزدق :
ثلاث واثنتان فهن خمس... وسادسة تميل إلى سهام
ولأن القرآن أنزل بلغة العرب والعرب تكرر الشيء تريد به التوكيد وقيل فائدة ذلك الفذلكمة في علم الحساب وهو أن يعلم العدد مفصلاً ثم يعلمه جملة ليحتاط به من جهتين فكذلك قوله تعالى : {فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة} وقيل إن العرب لما كانوا لا يعلمون الحساب وكانوا يحتاجون إلى زيادة بيان وإيضاح فلذلك قال تلك عشرة كاملة وقيل لفظه خبر ومعناه أمر أي أكملوها ولا تنقصوها. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 125}
وقال فى التحرير والتنوير :
وقوله : {تلك عشرة كاملة} فذلكة الحساب أي جامعته فالحاسب إذا ذكر عددين فصاعداً قال عند إرادة جمع الأعداد فذلك أي المعدود كذا فصيغت لهذا القول صيغة نحت مثل بسمل إذا قال باسم الله وحوقل إذا قال لا حول ولا قوة إلاّ بالله فحروف فذلكة متجمعة من حروف فذلك كما قال الأعشى : ثلاثٌ بالغداة فهُنَّ حَسبي... وستُّ حين يدْركني العِشاء
فذلك تسعة في اليوم رَيِّي... وشُرْب المرء فوق الرَّيِّ داء
فلفظ فذلكة كلمة مولدة لم تسمع من كلام العرب غلب إطلاق اسم الفذلكة على خلاصة جمع الأعداد ، وإن كان اللفظ المحكي جرى بغير كلمة "ذلك" كما نقول في قوله : {تلك عشرة كاملة} إنها فذلكة مع كون الواقع في المحكي لفظ "تلك" لا لفظ ذلك ومثله قول الفرزدق :
ثلاث واثنتان فتلك خمس... وسادسة تَميل إلى الشِّمام(4/336)
( أي إلى الشم والتقبيل )
وفي وجه الحاجة إلى الفذلكة في الآية وجوه ، فقيل هو مجرد توكيد كما تقول كتبت بيدي يعني أنه جاء على طريقة ما وقع في شعر الأعشى أي أنه جاء على أسلوب عربي ولا يفيد إلاّ تقرير الحكم في الذهن مرتين ولذلك قال صاحب "الكشاف" لما ذكر مثله كقول العرب علمان خير من علم. وعن المبرد أنه تأكيد لدفع توهم أن يكون بقي شيء مما يجب صومه.
وقال الزجاج قد يتوهم متوهم أن المراد التخيير بين صوم ثلاثة أيام في الحج أو سبعة أيام إذا رجع إلى بلده بدلاً من الثلاثة أزيل ذلك بجلية المراد بقوله : {تلك عشرة} وتبعه صاحب "الكشاف" فقال "الواو قد تجيء للإِباحة في نحو قولك : جالس الحسن وابن سيرين ففذلكت نفياً لتوهم الإباحة اهـ" وهو يريد من الإباحة أنها للتخيير الذي يجوز معه الجمع ولا يتعين.
وفي كلا الكلامين حاجة إلى بيان منشأ توهم معنى التخيير فأقول : إن هذا المعنى وإن كان خلاف الأصل في الواو حتى زعم ابن هشام أن الواو لا ترد له ، وأن التخيير يستفاد من صيغة الأمر لا أنه قد يتوهم من حيث إن الله ذكر عددين في حالتين مختلفتين وجعل أقل العددين لأشق الحالتين وأكثرهما لأخفهما ، فلا جرم طرأ توهم أن الله أوجب صوم ثلاثة أيام فقط وأن السبعة رخصة لمن أراد التخيير ، فبين الله ما يدفع هذا التوهم ، بل الإشارة إلى أن مراد الله تعالى إيجاب صوم عشرة أيام ، وإنما تفريقها رخصة ورحمة منه سبحانه ، فحصلت فائدة التنبيه على الرحمة الإلهية.
ونظيره قوله تعالى : {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة وأتممناها بعشرٍ فتم ميقات ربه أربعين ليلة} [الأعراف : 142] إذ دل على أنه أراد من موسى عليه السلام مناجاة أربعين ليلة ولكنه أبلغها إليه موزعة تيسيراً.
(4/337)
وقد سئلت عن حكمة كون الأيام عشرة فأجبت بأنه لعله نشأ من جمع سبعة وثلاثة ؛ لأنهما عددان مباركان ، ولكن فائدة التوزيع ظاهرة ، وحكمة كون التوزيع كان إلى عددين متفاوتين لا متساويين ظاهرة ؛ لاختلاف حالة الاشتغال بالحج ففيها مشقة ، وحالة الاستقرار بالمنزل. وفائدة جعل بعض الصوم في مدة الحج جعل بعض العبادة عند سببها ، وفائدة التوزيع إلى ثلاثة وسبعة أن كليهما عدد مبارك ضبطت بمثله الأعمال دينية وقضائية.
وأما قوله : {كاملة} فيفيد التحريض على الإتيان بصيام الأيام كلها لا ينقص منها شيء ، مع التنويه بذلك الصوم وأنه طريق كمال لصائمه ، فالكمال مستعمل في حقيقته ومجازه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 228 ـ 229}
وقال الآلوسى : (4/338)
المراد بالسبعة العدد دون الكثرة فإنها تستعمل بهذين المعنيين ، فإن قلت : ما الحكمة في كونها كذلك حتى يحتاج إلى تفريقها المستدعي لما ذكر ؟ أجيب بأنها لما كانت بدلاً عن الهدى والبدل يكون في محل المبدل منه غالباً جعل الثلاثة بدلاً عنه في زمن الحج وزيد عليها السبعة علاوة لتعادله من غير نقص في الثواب لأن الفدية مبنية على التيسير ، / ولم يجعل السبعة فيه لمشقة الصوم في الحج ، وللإشارة إلى هذا التعادل وصفت العشرة بأنها كاملة فكأنه قيل : تلك عشرة كاملة في وقوعها بدلا من الهدى وقيل : إنها صفة مؤكدة تفيد زيادة التوصية بصيامها وأن لا يتهاون بها ولا ينقص من عددها كأنه قيل تلك عشرة كاملة فراعوا كمالها ولا تنقصوها ، وقيل : إنها صفة مبينة كمال العشرة فإنها عدد كمل فيه خواص الأعداد ، فإن الواحد مبتدأ العدد ، والاثنين أول العدد ، والثلاثة أول عدد فرد ، والأربعة أول عدد مجذور ، والخمس أول عدد دائر ، والستة أول عدد تام ، والسبعة عدد أول ، والثمانية أول عدد زوج الزوج ، والتسعة أول عدد مثلث ، والعشرة نفسها ينتهي إليها العدد فإن كل عدد بعدها مركب منها ومما قبلها قاله بعض المحققين. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 84}
وقيل : "جيء بعشرة توطئةً للخبرِ بعدها ، لا أنها هي الخبرُ المستقلُّ بفائدةِ الإِسناد كما تقول : "زيدٌ رجل صالح" يعني أن المقصودَ الإِخبارُ بالصلاح ، وجيء برجلٍ توطئةً ، إذ معلومٌ أنه رجل. أ هـ {الدر المصون ـ للسمين حـ 2 صـ 320 ـ 321}(4/339)
واعترض ابن الأثير على بعض هذه الوجوه فقال :
قوله تعالى (تلك عشرة كاملة) بعد ثلاثة وسبعة تنوب مناب قوله ثلاثة وسبعة مرتين لأن عشرة هي ثلاثة وسبعة ثم قال " كاملة " وذلك توكيد
ثالث والمراد به إيجاب صوم الأيام السبعة عند الرجوع في الطريق على الفور لا عند الوصول إلى البلد كما ذهب إليه بعض الفقهاء وبيانه أني أقول إذا صدر الأمر من الآمر على المأمور بلفظ التكرير مجردا من قرينه تخرجه عن وصفه ولم يكن موقتا بوقت معين كان ذلك حثا على المبادرة إلى امتثال الأمر على الفور فإنك إذا قلت لمن تأمره بالقيام قم قم قم فإنما تريد بهذا اللفظ المكرر أن يبادر إلى القيام في تلك الحال الحاضرة
فإن قلت الغرض بتكرير الأمر أن يتكرر في نفس المأمور أنه مراد منه وليس الغرض الحث على المبادرة إلى امتثال الأمر
قلت في الجواب إن المرة الواحدة كافية في معرفة المأمور أن الذي أمر به مراد منه والزيادة على المرة الواحدة لا تخلو إما أن تكون دالة على ما دلت عليه المرة الواحدة أو دالة على زيادة معنى لم تكن في المرة الواحدة فإن كانت دالة على ما دلت عليه المرة الواحدة كان ذلك تطويلا في الكلام لا حاجة إليه وقد ورد مثله في القرآن الكريم كهذه الآية المشار إليها وغيرها من الآيات والتطويل في الكلام عيب فاحش عند البلغاء والفصحاء والقرآن معجز ببلاغته وفصاحته فكيف يكون فيه تطويل لا حاجة إليه فينبغي أن تكون تلك الزيادة دالة على معنى زائد على ما دلت عليه المرة الواحدة وإذا ثبت هذا فتلك الزيادة هي الحث على المبادرة إلى امتثال الأمر فإن سلمت لي ذلك وإلا فبين معنى تلك الزيادة ببيان غير ما ذكرته أنا ولا أراك تستطيع ذلك
(4/340)
فإن قلت إن الواو في قوله تعالى (وسبعة إذا رجعتم) لولا أن تؤكد بقوله (تلك عشرة) لظن أنها وردت بمعنى أو أي فثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجعتم فلما قيل (تلك عشرة) زال هذا الظن وتحققت الواو أنها عاطفة وليست بمعنى أو
قلت في الجواب هذا باطل من أربعة أوجه الوجه الأول أن الواو العاطفة لا تجعل بمعنى أو أين وردت من الكلام وإنما تجعل بمعنى أو حال ضرورة
ترجيح جانبها على جانب جعلها عاطفة لأن الأصل فيها أن تكون عاطفة فإذا عدل بها عن أصلها احتاج إلى ترجيح ولا ترجيح ههنا الوجه الثاني بلاغي وذاك أن القرآن الكريم منتهى البلاغة والفصاحة لمكان إعجازه فلو كان معنى الواو في هذه الآية بمعنى أو لقيل فثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم ولم يحتج إلى هذا التطويل في قوله (فثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم تلك عشرة كاملة) الوجه الثالث أن هذا الصوم حكم من أحكام العبادات والعبادات يجب فيها الاحتياط أن تؤدى على أكمل صورة لئلا يدخلها النقص وإذا كان الأمر على ذلك فكيف يظن أن الواو في هذه الآية بمعنى أو ؟ الوجه الرابع أن السبعة ليست مماثلة للثلاثة حتى تجعل في قبالتها لأن معنى الآية إذا كانت الواو فيها بمعنى أو إما أن تصوموا ثلاثة أيام في الحج أو سبعة إذا رجعتم
فإن قلت هذا تعبد لا يعقل معناه كغيره من التعبدات التي لا يعقل معناها
(4/341)
قلت في الجواب إن لنا من التعبدات ما لا يعقل معناه كعدد ركعات الصلوات وعدد الطواف والسعي وأشباه ذلك ولنا ما يعقل معناه كهذه الآية فإنا نعقل التفاوت بين الصوم في الحضر والسفر ونعقل التفاوت بين العدد الكثير والعدد القليل وعلى هذا فلا يخلو إما أن يكون صوم الأيام السبعة عند الرجوع في الطريق أو عند الوصول إلى البلد فإذا كان في الطريق فإنه أشق من الصوم بمكة لأن الصوم في السفر أشق من الصوم في الحضر فكيف يجعل صوم سبعة أيام في السفر في مقابلة صوم ثلاثة أيام بمكة ؟ وإن كان الصوم عند الوصول إلى البلد فلا فرق بين الصوم بمكة والصوم عند الوصول إلى البلد لأن كليهما صوم في المقام ببلد من البلاد لا تفاوت بينهما حتى يجعل الصوم ثلاثة أيام في مقابلة سبعة أيام على غير مثال ولا تساو فعلى كلا التقديرين لا يجوز أن تكون الواو في (وسبعة إذا رجعتم) بمعنى أو فتحقق إذا أنها للعطف خاصةِ وإذا كانت للعطف خاصة فتأكيدها بعشرة كاملة دليل على أن المراد وجود صوم الأيام السبعة في الطريق قبل الوصول إلى البلد.(1) أ هـ {المثل السائر فى أدب الكاتب والشاعر ـ لابن الأثير ـ صـ 162 ـ 163}
______________
(1) المسألة خلافية بين الفقهاء ومن قلد واحدا منهم فهو مصيب ، ولفظ الآية يحتمل أكثر من معنى لهذا ساغ اختلافهم فيه. والله أعلم.(4/342)
قال الماوردى :
{ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ} فيه أربعة تأويلات :
أحدها : أنها عشرة كاملة في الثواب كمن أهدى ، وهو قول الحسن.
والثاني : عشرة كَمَّلَت لكم أجر من أقام على إحرامه فلم يحل منه ولم يتمتع.
والثالث : أنه خارج مخرج الخبر ، ومعناه معنى الأمر ، أي تلك عشرة ، فأكملوا صيامها ولا تفطروا فيها.
والرابع : تأكيد في الكلام ، وهو قول ابن عباس. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 257}
فائدة
قال ابن عرفة
قوله تعالى : {تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ...}.
قال ابن عرفة : (أحدُ تفسيري) ابن عطية بناء على أنّ أسماء الأعداد نصوص ، والآخر على أنّها ليست كذلك.
وأورد الزمخشري هنا سؤالين : أحدهما عن الإتيان بالفذلكة وهي لفظ " تِلْكَ " وأجاب بثلاثة أوجه.
قال بعض الطلبة : فيبقى السؤال لأيّ شيء لم يقل : فهي عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ؟
فقال ابن عرفة : " تِلْكَ " القصد بها التعظيم.
قال ابن عرفة : وعادتهم يجيبون بأن القاعدة أنّ الصوم المتتابع أعظم ثوابا من المفرّق ، فقد يتوهّم بتفريقها أن ثوابها أقل من ثوابها لو كانت مجموعة (فأشار بقوله " عشرة " إلى أن ثوابها على هذه الصفة أعْظَمُ من ثوابها لو كانت مجموعة فرعا عن أن) يكون مثله ولذلك قال : " كاملة ".أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 249}
سؤال : لم عبر بقوله : تلك عشرة كاملة ولم يقل : تامة ؟
الجواب : الإتمام لإزالة نقصان الأصل والإكمال لإزالة نقصان العوارض بعد تمام الأصل ولهذا كان قوله {تلك عشرة كاملة }أحسن من تامة ، فإن التمام من العدد قد علم ، وإنما نفى احتمال نقص في صفاتها وقيل : تم يشعر بحصول نقص قبله وكمل لا يشعر بذلك
وقال العسكري الكمال اسم لاجتماع أبعاض الموصوف به والتمام اسم للجزء الذي يتم به الموصوف ولهذا يقال القافية تمام البيت ولا يقال كماله ويقولون البيت بكماله أي باجتماعه. أ هـ {الإتقان حـ 1 صـ 571}
لطيفة
قال الحجاّج لرجلٍ من ولد ابن مسعود : لم قرأ أبوك تسعٌ وتسعون نعجةً أنثى ؟ أترى لا يعلم الناس أن النعجة أنثى ؟ فقال : قد قرئ قبله " ثلاثة أيّامٍ في الحجّ وسبعةٍ إذا رجعتم تلك عشرةٌ كاملةٌ " ألا يعلم أن سبعةً وثلاثةً عشرةٌ ؟ فما أحار الحجّاج جواباً. أ هـ {البصائر والذخائر ـ صـ 369}(4/343)
قال الخازن :
{ ذلك} أي هذا الحكم الذي تقدم {لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} قيل حاضرو المسجد الحرام هم أهل مكة وهو وقول مالك. وقيل : هم أهل الحرم وبه قال طاوس : وقال ابن جريج : هم أهل عرفة والرجيع وضجنان ونخلة. وقال الشافعي : كل من كان وطنه من مكة على أقل من مسافة القصر فهو من حاضري المسجد الحرام وقيل هم من دون الميقات وقال أبو حنيفة حاضرو المسجد الحرام أهل الميقات والمواقيت ذو الحليفة والجحفة وقرن ويلملم وذات عرق فمن كان من أهل هذه المواضع فما دونها إلى مكة فهو من حاضري المسجد الحرام. وقيل حاضرو المسجد الحرام من تلزمه الجمعة فيه ومعنى الآية أن المشار إليه في قوله : {ذلك} يرجع إلى أقرب مذكور وهو لزوم الهدي أو بدله على المتمتع وهو الآفاقي فأما المكي إذا تمتع أو قرن فلا هدي عليه ولا بد له لأنه لا يجب عليه أن يحرم من الميقات فإقدامه على التمتع لا يوجب خللاً في حجة فلا يجب عليه الهدي ويدل على ذلك ما أخرجه البخاري تعليقاً من حديث عكرمة قال سئل ابن عباس عن متعة الحج فقال : " أهلَّ المهاجرون والأنصار وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع وأهللنا فما قدمنا مكة قال رسول الله صلى الله عليه وسلم اجعلوا إهلالكم بالحج عمرة إلاّ من قلد الهدي فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وأتينا النساء ولبسنا الثياب وقال : من قلد الهدي فإنه لا يحل من شيء حتى يبلغ الهدي محله ثم أمرنا عشية التروية أن نهل بالحج فإذا فرغنا من المناسك جئنا فطفنا بالبيت وبالصفا والمروة وقد تم حجنا وعلينا الهدي كما قال تعالى {فما استيسر من الهدي فمن لم يجد فصيام ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجعتم} إلى أمصاركم والشاة تجزئ فجمعوا بين النسكين في عام بين الحج والعمرة فإن الله أنزله في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وأباحه للناس من غير أهل مكة قال الله تعالى : {ذلك لمن لم يكن أهله حاضري المسجد الحرام} وفي الحديث زيادة(4/344)
قال الحميدي قال أبو مسعود الدمشقي هذا حديث غريب ولم أجده إلاّ عند مسلم بن الحجاج ولم يخرجه في صحيحه ، من أجل عكرمة فإنه لم يرو عنه في صحيحه وعندي أن البخاري إنما أخذه من مسلم. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 125}
فائدة
الله تعالى ذكر حضور الأهل والمراد حضور المحرم لا حضور الأهل ، لأن الغالب على الرجل أنه يسكن حيث أهله ساكنون.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 136}
سؤال : لماذا وصف المسجد الحرام بهذا الوصف ؟
الجواب : المسجد الحرام إنما وصف بهذا الوصف لأن أصل الحرام والمحروم الممنوع عن المكاسب والشيء المنهي عنه حرام لأنه منع من إتيانه ، والمسجد الحرام الممنوع من أن يفعل فيه ما منع عن فعله قال الفراء : ويقال حرام وحرم مثل زمان وزمن. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 136}
{ واتقوا الله} في كل ما يأمركم به وينهاكم عنه كما يستفاد من ترك المفعول ويدخل فيه الحج دخولاً أولياً وبه يتم الانتظام. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 84}
قوله تعالى {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
{ واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب} لمن لم يتقه كي يصدكم للعلم به عن العصيان. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 1 صـ 479}
وقال العلامة ابن عاشور :
وقوله : {واعلموا أن الله شديد العقاب} افتتح بقوله : {واعلموا} اهتماماً بالخبر فلم يقتصر بأن يقال : {واتقوا الله إن الله شديد العقاب} فإنه لو اقتصر عليه لحصل العلم المطلوب ، لأن العلم يحصل من الخبر ، لكن لما أريد تحقيق الخبر افتتح بالأمر بالعلم ، لأنه في معنى تحقيق الخبر ، كأنه يقول : لا تشكوا في ذلك ، فأفاد مفاد إن ، وتقدم آنفاً عند قوله تعالى : {واتقوا الله واعلموا أن الله مع المتقين} [البقرة : 194 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 230}
سؤال : لم أظهر الاسم الجليل في موضع الإضمار ؟ (4/345)
الجواب : إظهار الاسم الجليل في موضع الإضمار لتربية المهابة وإدخال الروعة ؛ وإضافة شديد من إضافة الصفة المشبهة إلى مرفوعها. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 100}
قوله تعالى {الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذكر سبحانه وتعالى أن الحج موقت بالأهلة ولم يعين له وقتاً من شهور السنة وختم ذلك بالتفرقة في بعض أحكام الحج بسبب الأماكن تشوفت النفس إلى تعيين وقته وأنه هل هو كالمكان أو عام الحكم فقال {الحج} أي وقته {أشهر} فذكره بصيغة من جموع القلة الذي أدناه ثلاث وهي ثلاث بجر المنكسر : شوال وذو القعدة وتسع من ذي الحجة وليلة العيد بدليل أنه يفوت بطلوع الفجر يوم النحر ؛ ولما أبهم عين فقال : {معلومات} أي قبل نزول الشرع فأذن هذا أن الأمر بعد الشرع على ما كان عليه ولا شك أن في الإبهام ثم التعيين إجلالاً وإعظاماً للمحدث عنه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 373}
قال الفخر :
من المعلوم بالضرورة أن الحج ليس نفس الأشهر فلا بد ههنا من تأويل وفيه وجوه أحدها : التقدير : أشهر الحج أشهر معلومات ، فحذف المضاف وهو كقولهم : البرد شهران ، أي وقت البرد شهران
والثاني : التقدير الحج حج أشهر معلومات ، أي لا حج إلا في هذه الأشهر ، ولا يجوز في غيرها كما كان أهل الجاهلية يستجيزونها في غيرها من الأشهر ، فحذف المصدر المضاف إلى الأشهر الثالث : يمكن تصحيح الآية من غير إضمار وهو أنه جعل الأشهر نفس الحج لما كان الحج فيها كقولهم : ليل قائم ، ونهار صائم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 137}
قال الشيخ ابن عاشور : (4/346)
المقصود من قوله : {الحج أشهر} يحتمل أن يكون تمهيداً لقوله : {فلا رفث ولا فسوق} تهويناً لمدة ترك الرفث والفسوق والجدال ، لصعوبة ترك ذلك على الناس ، ولذلك قُللت بجمع القلة ، فهو نظير ما روى مالك في "الموطأ" : أن عائشة قالت لعروة بن الزبير يا ابن أختي إنما هي عشر ليال فإن تخلج في نفسك شيء فدعه ، تعني أكل لحم الصيد ، ويحتمل أن يكون تقريراً لما كانوا عليه في الجاهلية من تعيين أشهر الحج فهو نظير قوله : {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً} [التوبة : 36] الآية ، وقيل : المقصود بيان وقت الحج ولا أَنثلج له. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 231 ـ 232}
وقال الخازن :(4/347)
قوله عز وجل : {الحج أشهر معلومات} يعني أشهر الحج أشهر معلومات وقيل وقت الحج أشهر معلومات وهي شوال وذو القعدة وعشر ليال من ذي الحجة إلى طلوع الفجر من يوم النحر وبه قال عبدالله بن مسعود جابر بن عبدالله بن الزبير ومن التابعين الحسن وابن سيرين والشعبي وهو قول الشافعي والثوري وأبي ثور وحجة الشافعي ومن وافقه أن الحج يفوت بطلوع الفجر الثاني من يوم النحر والعبادة لا تفوت مع بقاء وقتها فدل على أن يوم النحر ليس من أشهر الحج وأيضاً فإن الإحرام بالحج فيه لا يجوز فدل على أنه وما بعده ليس من أشهر الحج. وقال ابن عباس أشهر الحج شوال وذو القعدة وعشرة أيام من ذي الحجة آخرها يوم النحر وبه قال ابن عمر وعروة بن الزبير وطاوس وعطاء والنخعي وقتادة ومكحول والضحاك والسدي وأبو حنيفة وأحمد بن حنبل وهي إحدى الروايتين عن مالك وحجة هذا القول أن يوم النحر وهو يوم الحج الأكبر لأن فيه يقع طواف الإفاضة وهو تمام أركان الحج ، وقيل إن أشهر الحج شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله ، وهو رواية عن ابن عمر وبه قال الزهري : وهي الرواية الأخرى عن مالك وحجة هذا القول إن الله تعالى ذكر أشهر الحج بلفظ الجمع وأقل الجمع المطلق ثلاث ، ولأن كل شهر كان أوله من أشهر الحج كان آخره كذلك.
فإن قلت هنا إشكال. وهو أن الله تعالى قال قبل هذه الآية : {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} فجعل الأهلة كلها مواقيت للحج. قلت قوله {هي مواقيت للناس والحج} عام وهذه الآية وهي قوله تعالى : {الحج أشهر معلومات} خاص والخاص مقدم على العام.
وقيل : إن الآية الأولى مجملة وهذه الآية مفسرة لها.
فإن قلت إنما قال الحج أشهر بلفظ الجمع وعند الشافعي أشهر الحج شهران وعشر ليال وعند أبي حنيفة وعشرة أيام فما وجه هذا ؟
(4/348)
قلت : إن لفظ الجمع يشترك فيه ما وراء الواحد بدليل قوله تعالى : {فقد صغت قلوبكما} وقيل إنه نزل بعض الشهر منزلة كله كما يقال رأيتك سنة كذا وإنما رآه في ساعة منها ولا إشكال فيه على القول الثالث وهو قول من قال إن أشهر الحج ثلاث شوال وذو القعدة وذو الحجة بكماله. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 126}
قال الفخر :
ههنا إشكالان الأول : أنه تعالى قال من قبل : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِىَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج} [البقرة : 189] فجعل كل الأهلة مواقيت للحج
الثاني : أنه اشتهر عن أكابر الصحابة أنهم قالوا : من إتمام الحج أن يحرم المرء من دويرة أهله ، ومن بعد داره البعد الشديد لا يجوز أن يحرم من دويرة أهله بالحج إلا قبل أشهر الحج ، وهذا يدل على أن أشهر الحج غير مقيدة بزمان مخصوص والجواب من الأول : أن تلك الآية عامة ، وهذه الآية وهي قوله : {الحج أَشْهُرٌ معلومات} خاصة والخاص مقدم على العام وعن الثاني : أن النص لا يعارضه الأثر المروي عن الصحابة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 137}
سؤال : لم لم يسمّ الله تعالى أشهر الحج في كتابه ؟
الجواب : لم يسمّ الله تعالى أشهر الحج في كتابه ؛ لأنها كانت معلومة عندهم. ولفظ الأشهر قد يقع على شهرين وبعض الثالث ، لأن بعض الشهر يتنزّل منزلة كله ، كما يقال : رأيتك سنة كذا ، أو على عهد فلان. ولعله إنما رآه في ساعة منها ؛ فالوقت يُذكر بعضه بكله ، كما قال النبيّ صلى الله عليه وسلم : " أيامُ مِنىً ثلاثة " وإنما هي يومان وبعض الثالث. ويقولون : رأيتك اليوم ، وجئتك العام.
وقيل : لما كان الاثنان وما فوقهما جَمْعٌ قال أشهر ؛ والله أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 405}
قوله تعالى : {معلومات }
قال الإمام فخر الدين الرازى : (4/349)
قوله تعالى : {معلومات} فيه وجوه أحدها : أن الحج إنما يكون في السنة مرة واحدة في أشهر معلومات من شهورها ، ليس كالعمرة التي يؤتى بها في السنة مراراً ، وأحالهم في معرفة تلك الأشهر على ما كانوا علموه قبل نزول هذا الشرع وعلى هذا القول فالشرع لم يأت على خلاف ما عرفوا وإنما جاء مقرراً له الثاني : أن المراد بها معلومات ببيان الرسول عليه الصلاة والسلام
الثالث : المراد بها أنها مؤقتة في أوقات معينة لا يجوز تقديمها ولا تأخيرها ، لا كما يفعله الذين نزل فيهم {إِنَّمَا النسىء زِيَادَةٌ فِى الكفر} [التوبة : 37 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 137}
قوله تعالى {فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما ختم الآية التي قبلها بالتحذير من سطواته أمر بإخلاص الحج عن الشوائب ناهياً بصيغة النفي تفخيماً له وتأكيداً للنهي ولما كان الحج لا يقع إلا فرضاً قال : {فمن فرض} أي أوجب بالإحرام ، وهو من الفرض وهو الحز في الشيء لينزل فيه ما يسد فرضته حساً أو معنى فمن تعظيمه سبحانه وتعالى له أنه جعله دون سائر العبادات لا نفل فيه بعد التلبس به. قال الحرالي : لأن الفرائض من لم يقمها تساقط عضواً عضواً قائم دينه كما أن النوافل من لم يأت بها عري نم زينتها فكانت الفروض صحة والنوافل زينة. وفي قوله : {فيهن} إشعار بصحة وقوع الحج في بعضهن وأن الحج ليس كالصوم طبق زمانه ، فكان من العبادات ما هو طبق زمانه كالصوم ، وما يتسع فيه كالصلاة ، وما لا بد أن ينتهي إلى خاتمته كالحج وتقع التوسعة في الشروع - انتهى {الحج} أي تلبس به كيف كان.(4/350)
ولما كان في الإنسان قوى أربع : شهوانية بهيمية ، وغضبية سَبُعية ووهمية شيطانية تبعث مع مساعدة القوتين الأخريين على المنازعة والمغالبة في كل شيء ، وعقلية ملكية ؛ وكان المقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاث لأن منشأ الشرور كلها محصور فيها بالعقلية قال دالاً عليها محذراً منها مرتبة : {فلا رفث} أي مواجهة للنساء بشيء من أمور النكاح. ولما كان الرفث هو داعياً إلى الوقاع الذي هو فسق بالخروج عن الإحرام الصحيح قال ضاماً إليه كل ما دخل في هذا الاسم : {ولا فسوق} قال الحرالي : هو الخروج عن إحاطة العلم والعقل والطبع - انتهى. ولما كان المراء قد يجر إلى الفسق بما يثير من الإحن وتوعير الصدور فكان فسقاً خاصاً عظيماً ضرره قال : {ولا جدال} أي مدافعة بالقول بفتل عن القصد كمدافعة الجلاد باليد أو السيف ولعله عبر بهذا المصدر الذي شأنه أن يكون مزيداً دون الجدل الذي معناه الدرء في الخصومة لأن ينصب النفي على المبالغة فيفهم العفو عن أصله لأنه لا يكاد يسلم منه أحد ، وكذا الحال في الفسوق {في الحج} فصار الفسق واسطة بين أمرين جارين إليه والجدال لكونه قد يفسد ذات البين أعظمها خطراً ويجمع ما في الرفث من الشهوة وقد يكون فسقاً فقد اشتمل على قبائح الكل ؛ فلذلك أجمع القراء السبعة على بنائه مع لا على الفتح دون ما قبله لأن البناء دال على نفي الماهية ونفيها موجب لنفي جميع أفرادها ، وأما الرفع فإنما يدل على نفي فرد منكر من تلك الماهية وهو لا يوجب نفي جميع الأفراد ، ولأن العرب كانوا يبنون الحج على النسيء ويتخالفون فيه في الموقف ، فزال الجدال فيه بعد البيان بكل اعتبار من جهة الخدم والعيال وغيرهم والنسيء والموقف وغيرهما من حيث إنه قد علمت مشاعره وتقررت شرائعه وأحكمت شعائره وأوضحت جميع معالمه فارتفع النزاع أصلاً في أمره.
(4/351)
قال الحرالي : فمنع في الحج من الإقبال على الخلق بما فيه كره من رفث ومسابّة وجدال حتى لا يقبل الخلق على الخلق في الحج إلا بما الإقبال فيه إقبال على الحق بالحقيقة فما ينزه الحق تعالى عن مواجهته بما يتحامى مع الخلق في زمن الحج كما تحومي ما يختص بالنفس من الأحداث في عمل الصلاة ؛ وفي وروده نفياً لا نهياً إعلام بأنه مناقض لحال الحج حين نفى لأن شأن ما يناقض أن ينفى وشأن ما لا يناقض ويخالف أن ينهى عنه ، كما قال فيما هو قابل للجدال {ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن} [العنكبوت : 46] وبين خطاب النهي والنفي فوت في الأحكام الشرعية ينبني الفقه في الأحكام على تحقيقه في تأصيلها والتفريع عليها - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 373}
معنى {فَرَضَ} في اللغة ألزم وأوجب ، يقال : فرضت عليك كذا أي أوجبته وأصل معنى الفرض في اللغة الحز والقطع ، قال ابن الأعرابي : الفرض الحز في القدح وفي الوتد وفي غيره ، وفرضة القوس ، الحز الذي يقع فيه الوتر ، وفرضة الوتد الحز الذي فيه ، ومنه فرض الصلاة وغيرها ، لأنها لازمة للعبد ، كلزوم الحز للقدح ، ففرض ههنا بمعنى أوجب ، وقد جاء في القرآن : فرض بمعنى أبان ، وهو قوله : {سُورَةٌ أنزلناها وفرضناها} [النور : 1] بالتخفيف ، وقوله : {قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أيمانكم} [التحريم : 2] وهذا أيضاً راجع إلى معنى القطع ، لأن من قطع شيئاً فقد أبانه من غيره والله تعالى إذا فرض شيئاً أبانه عن غيره ، ففرض بمعنى أوجب ، وفرض بمعنى أبان ، كلاهما يرجع إلى أصل واحد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 138}
قوله تعالى {فى الحج}
سؤال : لم وضع المظهر موضع المضمر ؟ (4/352)
الجواب : الإظهار في مقام الإضمار لإظهار كمال الاعتناء بشأنه والإشعار بعلة الحكم فإنّ زيارة البيت المعظم والتقرّب بها إلى الله تعالى من موجبات ترك الأمور المذكورة المدنسة لمن قصد السير والسلوك إلى ملك الملوك. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 126}
فائدة
قال الفخر :
اعلم أن في هذه الآية حذفا ، والتقدير : فمن ألزم نفسه فيهن الحج ، والمراد بهذا الفرض ما به يصير المحرم محرماً إذ لا خلاف أنه لا يصير حاجاً إلا بفعل يفعله ، فيخرج عن أن يكون حلالاً ويحرم عليه الصيد واللبس والطيب والنساء والتغطية للرأس إلى غير ذلك ولأجل تحريم هذه الأمور عليه سمي محرماً ، لأنه فعل ما حرم به هذه الأشياء على نفسه ولهذا السبب أيضاً سميت البقعة حرماً لأنه يحرم ما يكون فيها مما لولاه كان لا يحرم فقوله تعالى : {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} يدل على أنه لا بد للمحرم من فعل يفعله لأجله يصير حاجاً ومحرماً ، ثم اختلف الفقهاء في أن ذلك الفعل ما هو ؟ قال الشافعي رضي الله عنه : أنه ينعقد الإحرام بمجرد النية من غير حاجة إلى التلبية وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : لا يصح الشروع في الإحرام بمجرد النية حتى ينضم إليها التلبية أو سوق الهدى ، قال القفال رحمه الله في "تفسيره" : يروى عن جماعة أن من أشعر هديه أو قلده فقد أحرم ، وروى نافع عن ابن عمر أنه قال : إذا قلد أو أشعر فقد أحرم ، وعن ابن عباس : إذا قلد الهدي وصاحبه يريد العمرة والحج فقد أحرم.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 138}
سؤال : قال ابن عرفة : فإن قلت لم أعيد لفظ الحجّ مظهرا ، وهلا قيل : فمن فرضه فيهن ؟
فأجاب عن ذلك بأنه لو قيل كذلك لكان فيه عود الضمير على اللفظ لا على المعنى مثل : عندي درهم ونصفه لأن الحج الأول مطلق يصدق بصورة فيتناول حج زيد وعمرو بالتعيين الواقع منهما وحجمها القابل لأن يفعلاه.(4/353)
وقول الله جل جلاله : {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} مقيد بحج كل واحدٍ واحدٍ بعينه ، والشخص المعين (حجه مقيد لا) مطلق ، فلذلك أعيد لفظ الحج مظهرا فيتناول الفرض والتطوع.
أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 251}
فوائد لغوية
قال الإمام الفخر :
وأما قوله تعالى : {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ ابن كثير وأبو عمرو {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} بالرفع والتنوين {وَلاَ جِدَالَ} بالنصب ، والباقون قرؤا الكل بالنصب.
واعلم أن الكلام في الفرق بين القراءتين في المعنى يجب أن يكون مسبوقاً بمقدمتين الأولى : أن كل شيء له اسم ، فجوهر الاسم دليل على جوهر المسمى ، وحركات الاسم وسائر أحواله دليل على أحوال المسمى ، فقولك : رجل يفيد الماهية المخصوصة ، وحركات هذه اللفظة ، أعني كونها منصوبة ومرفوعة ومجرورة ، دال على أحوال تلك الماهية وهي المفعولية والفاعلية والمضافية ، وهذا هو الترتيب العقلي حتى يكون الأصل بإزاء الأصل ، والصفة بإزاء الصفة ، فعلى هذا الأسماء الدالة على الماهيات ينبغي أن يتلفظ بها ساكنة الأواخر فيقال : رحل جدار حجر ، وذلك لأن تلك الحركات لما وضعت لتعريف أحوال مختلفة في ذات المسمى فحيث أريد تعريف المسمى من غير التفات إلى تعريف شيء من أحواله وجب جعل اللفظ خالياً عن الحركات ، فإن أريد في بعض الأوقات تحريكه وجب أن يقال بالنصب ، لأنه أخف الحركات وأقربها إلى السكون.
المقدمة الثانية : إذا قلت : لا رجل بالنصب ، فقد نفيت الماهية ، وانتفاء الماهية يوجب انتفاء جميع أفرادها قطعاً ، أما إذا قلت : لا رجل بالرفع والتنوين ، فقد نفيت رجلاً منكراً مبهماً ، وهذا بوصفه لا يوجب انتفاء جميع أفراد هذه الماهية إلا بدليل منفصل ، فثبت أن قولك : لا رجل بالنصب أدل على عموم النفي من قولك : لا رجل بالرفع والتنوين.
(4/354)
إذا عرفت هاتين المقدمتين فلنرجع إلى الفرق بين القراءتين فنقول : أما الذين قرؤا ثلاثة : بالنصب فلا إشكال وأما الذين قرؤا الأولين بالرفع مع التنوين ، والثالث بالنصب فذلك يدل على أن الاهتمام بنفي الجدال أشد من الإهتمام بنفي الرفث والفسوق وذلك لأن الرفث عبارة عن قضاء الشهوة والجدال مشتمل على ذلك ، لأن المجادل يشتهي تمشية قوله ، والفسوق عبارة عن مخالفة أمر الله ، والمجادل لا ينقاد للحق ، وكثيراً ما يقدم على الإيذاء والإيحاش المؤدي إلى العداوة والبغضاء فلما كان الجدال مشتملاً على جميع أنواع القبح لا جرم خصه الله تعالى في هذه القراءة بمزيد الزجر والمبالغة في النفي ، أما المفسرون فإنهم قالوا : من قرأ الأولين بالرفث والثالث بالنصب فقد حمل الأولين على معنى النهي ، كأنه قيل : فلا يكون رفث ولا فسوق وحمل الثالث على الإخبار بانتفاء الجدال ، هذا ما قالوه إلا أنه ليس بيان أنه لم خص الأولان بالنهي وخص الثالث بالنفي.
المسألة الثانية : أما الرفث فقد فسرناه في قوله : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَائِكُمْ} [البقرة : 187] والمراد : الجماع ، وقال الحسن : المراد منه كل ما يتعلق بالجماع فالرفث باللسان ذكر المجامعة وما يتعلق بها ، والرفث باليد اللمس والغمز ، والرفث بالفرج الجماع ، وهؤلاء قالوا : التلفظ به في غيبة النساء لا يكون رفثاً ، واحتجوا بأن ابن عباس كان يحدو بعيره وهو محرم ويقول :
وهن يمشين بنا هميسا.. إن تصدق الطير ننك لميسا
(4/355)
فقال له أبو العالية أترفث وأنت محرم ؟ قال : إنما الرفث ما قيل عند النساء ، وقال آخرون : الرفث هو قول الخنا والفحش ، واحتج هؤلاء بالخبر واللغة أما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : " إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل فإن امرؤ شاتمه فليقل إني صائم " ومعلوم أن الرفث ههنا لا يحتمل إلا قول الخنا والفحش ، وأما اللغة فهو أنه روى عن أبي عبيد أنه قال : الرفث الإفحاش في المنطق ، يقال أرفث الرجل إرفاثاً ، وقال أبو عبيدة : الرفث اللغو من الكلام.
أما الفسوق فاعلم أن الفسق والفسوق واحد وهما مصدران لفسق يفسق ، وقد ذكرنا فيما قبل أن الفسوق هو الخروج عن الطاعة ، واختلف المفسرون فكثير من المحققين حملوه على كل المعاصي قالوا : لأن اللفظ صالح للكل ومتناول له ، والنهي عن الشيء يوجب الانتهاء عن جميع أنواعه فحمل اللفظ على بعض أنواع الفسوق تحكم من غير دليل ، وهذا متأكد بقوله تعالى : {فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبّهِ} [الكهف : 50] وبقوله : {وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان} [الحجرات : 7].
وذهب بعضهم إلى أن المراد منه بعض الأنواع ثم ذكروا وجوها :
(4/356)
الأول : المراد منه السباب واحتجوا عليه بالقرآن والخبر ، أما القرآن فقوله تعالى : {وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان} [الحجرات : 11] وأما الخبر فقوله عليه الصلاة والسلام : " سباب المسلم فسوق وقتاله كفر " والثاني : المراد منه الإيذاء والإفحاش ، قال تعالى : {لا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ} [البقرة : 282] والثالث : قال ابن زيد : هو الذبح للأصنام فإنهم كانوا في حجهم يذبحون لأجل الحج ، ولأجل الأصنام ، وقال تعالى : {وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ} [الأنعام : 121] وقوله : {أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ} [الأنعام : 145] والرابع : قال ابن عمر : إنه العاصي في قتل الصيد وغيره مما يمنع الإحرام منه والخامس : أن الرفث هو الجماع ومقدماته مع الحليلة ، والفسوق هو الجماع ومقدماته على سبيل الزنا والسادس : قال محمد بن الطبري : الفسوق ، هو العزم على الحج إذا لم يعزم على ترك محظوراته.
وأما الجدال فهو فعال من المجادلة ، وأصله من الجدل الذي من القتل ، يقال : زمام مجدول وجديل ، أي مفتول ، والجديل اسم الزمام لأنه لا يكون إلا مفتولاً ، وسميت المخاصمة مجادلة لأن كل واحد من الخصمين يروم أن يفتل صاحبه عن رأيه ، وذكر المفسرون وجوها في هذا الجدال.
فالأول : قال الحسن : هو الجدال الذي يخاف منه الخروج إلى السباب والتكذيب والتجهيل.
والثاني : قال محمد بن كعب القرظي : إن قريشاً كانوا إذا اجتمعوا بمنى ، قال بعضهم : حجنا أتم ، وقال آخرون : بل حجنا أتم ، فنهاهم الله تعالى عن ذلك.
(4/357)
والثالث : قال مالك في "الموطأ" الجدال في الحج أن قريشاً كانوا يقفون عند المشعر الحرام في المزدلفة بقزح وكان غيرهم يقفون بعرفات وكانوا يتجادلون يقول هؤلاء : نحن أصوب ، ويقول هؤلاء : نحن أصوب ، قال الله تعالى : {لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً هُمْ نَاسِكُوهُ فَلاَ ينازعنك فِى الأمر وادع إلى رَبّكَ إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ وَإِن جادلوك فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ} الحج : 67 68) قال مالك هذا هو الجدال فيما يروى والله أعلم.
والرابع : قال القاسم بن محمد : الجدال في الحج أن يقول بعضهم : الحج اليوم ، وآخرون يقولون : بل غداً ، وذلك أنهم أمروا أن يجعلوا حساب الشهور على رؤية الأهلة ، وأخرون كانوا يجعلونه على العدد فبهذا السبب كانوا يختلفون فبعضهم يقول : هذا اليوم يوم العيد وبعضهم يقول : بل غدا ، فالله تعالى نهاهم عن ذلك ، فكأنه قيل لهم : قد بينا لكم أن الأهلة مواقيت للناس والحج ، فاستقيموا على ذلك ولا تجادلوا فيه من غير هذه الجهة.
الخامس : قال القفال رحمه الله تعالى : يدخل في هذا النهي ما جادلوا فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمرهم بفسخ الحج إلى العمرة فشق عليهم ذلك وقالوا : نروح إلى منى ومذاكيرنا تقطر منيا ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما سقت الهدي ولجعلتها عمرة " وتركوا الجدال حينئذ.
السادس : قال عبد الرحمن بن زيد : جدالهم في الحج بسبب اختلافهم في أيهم المصيب في الحج لوقت إبراهيم عليه الصلاة والسلام.
السابع : أنهم كانوا مختلفين في السنين فقيل لهم : لا جدال في الحج فإن الزمان استدار وعاد إلى ما كان عليه الحج في وقت إبراهيم عليه السلام ، وهو المراد بقوله عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع : " ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض " فهذا مجموع ما قاله المفسرون في هذا الباب.
(4/358)
وذكر القاضي كلاما حسناً في هذا الموضع فقال : قوله تعالى : {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} يحتمل أن يكون خبراً وأن يكون نهياً كقوله :
(4/359)
{ لاَ رَيْبَ فِيهِ} [السجدة : 2] أي لا ترتابوا فيه ، وظاهر اللفظ للخبر فإذا حملناه على الخبر كان معناه أن الحج لا يثبت مع واحدة من هذه الخلال بل يفسد لأنه كالضد لها وهي مانعة من صحته ، وعلى هذا الوجه لا يستقيم المعنى ، إلا أن يراد بالرفث الجماع المفسد للحج ، ويحمل الفسوق على الزنا لأنه يفسد الحج ، ويحمل الجدال على الشك في الحج ووجوبه لأن ذلك يكون كفراً فلا يصح معه الحج وإنما حملنا هذه الألفاظ الثلاثة على هذه المعاني حتى يصح خبر الله بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج ، فإن قيل : أليس أن مع هذه الأشياء يصير الحج فاسداً ويجب على صاحبه المضي فيه ، وإذا كان الحج باقياً معها لم يصدق الخبر بأن هذه الأشياء لا توجد مع الحج ، قلنا : المراد من الآية حصول المضادة بين هذه الأشياء وبين الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء وتلك الحجة الصحيحة لا تبقى مع هذه الأشياء بدليل أنه يجب قضاؤها ، والحجة الفاسدة التي يجب عليه المضي فيها شيء آخر سوى تلك الحجة التي أمر الله تعالى بها ابتداء ، وأما الجدال الحاصل بسبب الشك في وجوب الحج فظاهر أنه لا يبقى معه عمل الحج لأن ذلك كفر وعمل الحج مشروط بالإسلام فثبت أنا إذا حملنا اللفظ على الخبر وجب حمل الرفث والفسوق والجدال على ما ذكرناه ، أما إذا حملناه على النهي وهو في الحقيقة عدول عن ظاهر اللفظ فقد يصح أن يراد بالرفث الجماع ومقدماته وقول الفحش ، وأن يراد بالفسوق جميع أنواعه ، وبالجدال جميع أنواعه ، لأن اللفظ مطلق ومتناول لكل هذه الأقسام فيكون النهي عنها نهياً عن جميع أقسامها ، وعلى هذا الوجه تكون هذه الآية كالحث على الأخلاق الجميلة ، والتمسك بالآداب الحسنة ، والاحتراز عما يحبط ثواب الطاعات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 141 ـ 142}
وقال ابن عاشور : (4/360)
وقوله : {فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} جواب من الشرطية ، والرابط بين جملة الشرط والجواب ما في معنى {لا رفث} من ضمير يعود على (من) ؛ لأن التقدير فلا يرفث.
وقد نفى الرفث والفسوق والجدال نفي الجنس مبالغة في النهي عنها وإبعادها عن الحاج ، حتى جعلت كأنها قد نهي الحاج عنها فانتهى فانتفت أجناسها ، ونظير هذا كثير في القرآن كقوله تعالى :
{ والمطلقات يتربصن} [البقرة : 228] وهو من قبيل التمثيل بأن شبهت حالة المأمور وقت الأمر بالحالة الحاصلة بعد امتثاله فكأنه امتثل وفعل المأمور به فصار بحيث يخبر عنه بأنه فَعَل كما قرره في "الكشاف" في قوله : {والمطلقات يتربصن} ، فأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 233}
سؤال : ما الحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص ، وهو قوله : {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} ؟ (4/361)
الجواب : الحكمة في أن الله تعالى ذكر هذه الألفاظ الثلاثة لا أزيد ولا أنقص ، وهو قوله : {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} هي أنه قد ثبت في العلوم العقلية أن الإنسان فيه قوى أربعة : قوة شهوانية بهيمية ، وقوة غضبية سبعية ، وقوة وهمية شيطانية ، وقوة عقلية ملكية ، والمقصود من جميع العبادات قهر القوى الثلاثة ، أعني الشهوانية ، والغضبية ، والوهمية ، فقوله {فَلاَ رَفَثَ} إشارة إلى قهر الشهوانية ، وقوله : {وَلاَ فُسُوقَ} إشارة إلى قهر القوة الغضبية التي توجب التمرد والغضب ، وقوله : {وَلاَ جِدَالَ} إشارة إلى القوة الوهمية التي تحمل الإنسان على الجدال في ذات الله ، وصفاته ، وأفعاله ، وأحكامه ، وأسمائه ، وهي الباعثة للإنسان على منازعة الناس ومماراتهم ، والمخاصمة معهم في كل شيء ، فلما كان منشأ الشر محصوراً في هذه الأمور الثلاثة لا جرم قال : {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} أي فمن قصد معرفة الله ومحبته والاطلاع على نور جلاله ، والانخراط في سلك الخواص من عباده ، فلا يكون فيه هذه الأمور ، وهذه أسرار نفسية هي المقصد الأقصى من هذه الآيات ، فلا ينبغي أن يكون العاقل غافلاً عنها ، ومن الله التوفيق في كل الأمور. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 142}
سؤال : لم قرن الفسوق بالرفث ؟
الجواب : قرن الفسوق بالرفث الذي هو مفسد للحج يقتضي أن إتيان الفسوق في مدة الإحرام مفسد للحج كذلك ، ولم أر لأحد من الفقهاء أن الفسوق مفسد للحج ، ولا أنه غير مفسد سوى ابن حزم فقال في "المحلَّى" : إن مذهب الظاهرية أن المعاصي كلها مفسدة للحج ، والذي يظهر أن غير الكبائر لا يفسد الحج وأن تعمد الكبائر مفسد للحج وهو أحرى بإفساده من قربان النساء الذي هو التذاذ مباح والله أعلم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 234 ـ 235}
فائدة(4/362)
قال ابن العربي : المراد بقوله "فلا رفث" نفيه مشروعاً لا موجوداً ، فإنّا نجد الرّفث فيه ونشاهده ، وخبر الله سبحانه لا يجوز أن يقع بخلاف مخبره ، وإنما يرجع النفي إلى وجوده مشروعاً لا إلى وجوده محسوساً ؛ كقوله تعالى : {والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء} [البقرة : 228] معناه : شرعاً لا حِسًّا ؛ فإنا نجد المطلّقات لا يتربّصن ؛ فعاد النّفي إلى الحكم الشرعيّ لا إلى الوجود الحِسّي. وهذا كقوله تعالى : {لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون }
[ الواقعة : 79] إذا قلنا : إنه وارد في الآدميين وهو الصحيح أن معناه لا يمسّه أحد منهم شرعاً ، فإن وُجد المسّ فعلى خلاف حكم الشرع ؛ وهذه الدقيقة هي التي فاتت العلماء فقالوا : إن الخبر يكون بمعنى النّهي ، وما وُجد ذلك قَطُّ ، ولا يصحّ أن يوجد ، فإنهما مختلفان حقيقة ومتضادّان وَصْفاً".أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 189}
سؤال : قيل لابن عرفة : ما الفرق بين (جواز تقديم) إحرام الحجّ على أشهر الحج ومنع تقديم إحرام الصلاة على وقتها ؟
فقال : الإحرام قسمان منقطع ومستصحب ، فالمنقطع كتكبيرة الإحرام والمستصحب النية ، فالنية يصح تقديمها على الوقت لأنها لايزال حكمها منسحبا على المصلي في جميع أجزاء صلاته ولا يصح تقديم تكبيرة الإحرام لانقطاعها بالفراغ منها ، ونظيره هنا السعي ، لا يجوز تقديمه على أشهر الحج. وأما نية الإحرام والتوجه فهو مستصحب فيصح تقديمه على أشهر الحج. وفرقوا بين إحرام الصلاة وإحرام الحج بأنّ إحرام الصلاة متيسر (لا مشقة) فيه فامتنع تقديمه وأمر المقدم له بإعادته واعتقاد وجوبه بخلاف إحرام الحج. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 252}
فصل(4/363)
من الناس من عاب الاستدلال والبحث والنظر والجدال واحتج بوجوه أحدها : أنه تعالى قال : {وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} وهذا يقتضي نفي جميع أنواع الجدال ، ولو كان الجدال في الدين طاعة وسبيلاً إلى معرفة الله تعالى لما نهى عنه في الحج ، بل على ذلك التقدير كان الاشتغال بالجدال في الحج ضم طاعة إلى طاعة فكان أولى بالترغيب فيه
وثانيها : قوله تعالى : {مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاَ بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} [الزخرف : 58] عابهم بكونهم من أهل الجدل ، وذلك يدل على أن الجدل مذموم ،
وثالثها : قوله : {وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} [الأنفال : 46] نهى عن المنازعة.
وأما جمهور المتكلمين فإنهم قالوا : الجدال في الدين طاعة عظيمة ، واحتجوا عليه بقوله تعالى : {ادع إلى سَبِيلِ رَبّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتى هِىَ أَحْسَنُ} [النحل : 125] وبقوله تعالى حكاية عن الكفار إنهم قالوا لنوح عليه السلام : {يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا} [هود : 32] ومعلوم أنه ما كان ذلك الجدال إلا لتقرير أصول الدين.
إذا ثبت هذا فنقول : لا بد من التوفيق بين هذه النصوص ، فنحمل الجدل المذموم على الجدل في تقرير الباطل ، وطلب المال والجاه ، والجدل الممدوح على الجدل في تقرير الحق ودعوة الخلق إلى سبيل الله ، والذب عن دين الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 142}
وقال ابن عاشور : (4/364)
اتفق العلماء على أن مدارسة العلم والمناظرة فيه ليست من الجدال المنهي عنه ، وقد سمعت من شيخنا العلامة الوزير أن الزمخشري لما أتم تفسير الكشاف} وضعه في الكعبة في مدة الحج بقصد أن يطالعه العلماء يحضرون الموسم وقال : من بدا له أن يجادل في شيء فليفعل ، فزعموا أن بعض أهل العلم اعترض عليه قائلاً : بماذا فسرت قوله تعالى : {ولا جدال في الحج} وأنه وجم لها ، وأنا أحسب إن صحت هذه الحكاية أن الزمخشري أعرض عن مجاوبته ، لأنه رآه لا يفرق بين الجدال الممنوع في الحج وبين الجدال في العلم.
واتفقوا على أن المجادلة في إنكار المنكر وإقامة حدود الدين ليست من المنهي عنه فالمنهي عنه هو ما يجر إلى المغاضبة والمشاتمة وينافي حرمة الحج ولأجل ما في أحوال الجدال من التفصيل كانت الآية مجملة فيما يفسد الحج من أنواع الجدال فيرجع في بيان ذلك إلى أدلة أخرى. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 235}
قوله تعالى {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ }
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كانت هذه المنفيات شراً وكان التقدير : فما فعلتم من هذه المنهيات على هذا الوجه الأبلغ عوقبتم عليه عطف عليه : {وما} وقال الحرالي : ولما حمي من سوء معاملة الخلق مع الخلق عرض بأن يوضع موضع ذلك الإحسان فيقع في محل إخراج الأنفس أن يتودد إليها بإسداء الخير وهو الإحسان من خير الدنيا ، ففي إعلامه تحريض على إحسان الحج بعضهم لبعض لما يجمع وفده من الضعيف والمنقطع فقال : وما {تفعلوا} انتهى. أي يوجد لكم فعله في وقت من الأوقات {من خير} في الحج أو غيره بتوكل في تجرد أو تزود في تزهد أو غير ذلك من القول الحسن عوض الرفث ، والبر والتقوى مكان الفسق ، والأخلاق الجميلة واليسر والوفاق مكان الجدال {يعلمه الله} الذي له جميع صفات الكمال فيجازيكم عليه فهو أشد ترغيب وترهيب.أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 375}
من لطائف العلامة الفخر :
قال رحمه الله : (4/365)
أما قوله تعالى : {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} [البقرة : 197] فاعلم أن الله تعالى قبل هذه الآية أمر بفعل ما هو خير وطاعة ، فقال : {وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة لِلَّهِ} [البقرة : 196] وقال : {فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج} ونهى عما هو شر ومعصية فقال : {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ وَلاَ جِدَالَ فِي الحج} ثم عقب الكل بقوله : {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله} وقد كان الأولى في الظاهر أن يقال : وما تفعلوا من شيء يعلمه الله ، حتى يتناول كل ما تقدم من الخير والشر ، إلا أنه تعالى خص الخير بأنه يعلمه الله لفوائد ولطائف أحدها : إذا علمت منك الخير ذكرته وشهرته ، وإذا علمت منك الشر سترته وأخفيته لتعلم أنه إذا كانت رحمتي بك في الدنيا هكذا ، فكيف في العقبى
وثانيها : أن من المفسرين من قال في تفسير قوله : {إِنَّ الساعة ءاتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا} [طه : 15] معناه : لو أمكنني أن أخفيها عن نفسي لفعلت فكذا هذه الآية ، كأنه قيل للعبد : ما تفعله من خير علمته ، وأما الذي تفعله من الشر فلو أمكن أن أخفيه عن نفسي لفعلت ذلك
وثالثها أن السلطان العظيم إذا قال لعبده المطيع : كل ما تتحمله من أنواع المشقة والخدمة في حقي فأنا عالم به ومطلع عليه ، كان هذا وعداً له بالثواب العظيم ، ولو قال ذلك لعبده المذنب المتمرد كان توعداً بالعقاب الشديد ، ولما كان الحق سبحانه أكرم الأكرمين لا جرم ذكر ما يدل على الوعد بالثواب ، ولم يذكر ما يدل على الوعيد بالعقاب
ورابعها : أن جبريل عليه السلام لما قال : ما الإحسان ؟ فقال الرسول عليه الصلاة والسلام :
(4/366)
" الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك " فههنا بين للعبد أنه يراه ويعلم جميع ما يفعله من الخيرات لتكون طاعة العبد للرب من الإحسان الذي هو أعلى درجات العبادة ، فإن الخادم متى علم أن مخدومه مطلع عليه ليس بغافل عن أحواله كان أحرص على العمل وأكثر التذاذاً به وأقل نفرة عنه وخامسها : أن الخادم إذا علم اطلاع المخدوم على جميع أحواله وما يفعله كان جده واجتهاده في أداء الطاعات وفي الاحتراز عن المحظورات أشد مما إذا لم يكن كذلك ، فلهذه الوجوه أتبع تعالى الأمر بالحج والنهي عن الرفث والفسوق والجدال بقوله : {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله }.أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 143}
وقال فى التحرير والتنوير :
سؤال : قوله : {وما تفعلوا خير يعلمه الله} لم عُقب به النهي عن المنهيات ؟
الجواب : عُقب به النهي عن المنهيات لقصد الاتصاف بأضداد تلك المنهيات فكأنه قال : لا تفعلوا ما نهيتم عنه وافعلوا الخير فما تفعلوا يعلمه الله ، وأطلق علم الله وأريد لازمه وهو المجازاة على المعلوم بطريق الكناية فهو معطوف على قوله : {فلا رفث} الخ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 235}
فائدة
قال ابن عرفة
قوله تعالى : {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله...}.
إن قلت : المتقدم نهي وامتثاله بالترك كما أنّ امتثال الأمر بالفعل ، فهلا عقب بأن يقال : وما تتركوا من شيء يَعْلَمَهُ اللهُ ؟
قيل لابن عرفة : نقول إن الترك فعل ؟ فقال : البحث على أنّه غير فعل.(4/367)
قال : وإنّما الجواب بما قال ابن الحاجب من أنّ نقيض الجلي (جلي) ، ونقيض الخفي خفي فالإخبار بأن الله تعالى يعلم الفعل يستلزم معرفته نقيض ذلك وهو الترك وإنّما عدل على التنصيص على ذلك بالمطابقة إلى دلالة الالتزام ليفيد الكلام أمرين ، وهو الحض على عدم الاقتصار على ترك ذلك فقط فيتضمن طلب تركه وطلب تعويضه بفعل الخير المحصل للثواب فإنه تعالى عالم بمن يترك ذلك ويفعل الخير فنبه على الترك والفعل. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 252}
قوله تعالى {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى }
المناسبة
(4/368)
ولما عمم في الحث على الخير على وجه شامل للتزود وتركه بعد التخصيص أشار إلى أن الخير هو الزاد على وجه يعم الحسي والمعنوي زيادة في الحث عليه إذ لا أضر من إعواز الزاد لأكثر - العباد فقال : {وتزودوا} أي التقوى لمعادكم الحاملة على التزود الحسي لمعاشكم الحامل على الزهد فيما في أيدي الناس ، والمواساة لمحتاجهم الواقية للعبد من عذاب الله " اتقوا النار ولو بشق تمرة " وذلك هو ثمرة التقوى ؛ والزاد هو متعة المسافر. ثم علل ذلك بما أنتجه بقوله {فإن خير} ، ويجوز أن يكون التقدير : وتزودوا واتقوا الله في تزودكم {فإن خير الزاد التقوى} وفي التجرد مداخل خلل في بعض نيات الملتبسين بالمتوكلين من الاتكال على الخلق ، فأمر الكل بالتزود ستراً للصنفين ، إذ كل جمع لا بد فيه من كلا الطرفين - قاله الحرالي وقال : وفي ضمنه تصنيفهم ثلاثة أصناف : متكل لا زاد معه فمعه خير الزادين ، ومتمتع لم يتحقق تقواه فلا زاد له في الحقيقة ، وجامع بين التقوى والمتعة فذلك على كمال السنة ؛ كما قال عليه الصلاة والسلام : " قيّدها وتوكل " لأن ذلك أستر للطرفين ؛ وحقيقة التقوى في أمر التزود النظر إلى الله تعالى في إقامة خلقه وأمره ، قال بعض أهل المعرفة : من عوده الله سبحانه وتعالى دوام النظر إليه بالغيبة عما سواه فقد ملك الزاد فليذهب حيث شاء فقد استطاع سبيلاً - انتهى.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 375 ـ 376}
من أنفس وألطف ما قيل فى هذا الموضع
قال الإمام الفخر عليه سحائب الرحمة والرضوان من الرحيم الرحمن(4/369)
أما قوله تعالى : {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} ففيه قولان أحدهما : أن المراد : وتزودوا من التقوى ، والدليل عليه قوله بعد ذلك : {فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} وتحقيق الكلام فيه أن الإنسان له سفران : سفر في الدنيا وسفر من الدنيا ، فالسفر في الدنيا لا بد له من زاد ، وهو الطعام والشراب والمركب والمال ، والسفر من الدنيا لا بد فيه أيضاً من زاد ، وهو معرفة الله ومحبته والإعراض عما سواه ، وهذا الزاد خير من الزاد الأول لوجوه
الأول : أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب موهوم وزاد الآخرة يخلصك من عذاب متيقن
وثانيها : أن زاد الدنيا يخلصك من عذاب منقطع ، وزاد الآخرة يخلصك من عذاب دائم
وثالثها : أن زاد الدنيا يوصلك إلى لذة ممزوجة بالآلام والأسقام والبليات ، وزاد الآخرة يوصلك إلى لذات باقية خالصة عن شوائب المضرة ، آمنة من الانقطاع والزوال
ورابعها : أن زاد الدنيا وهي كل ساعة في الإدبار والانقضاء ، وزاد الآخرة يوصلك إلى الآخرة ، وهي كل ساعة في الإقبال والقرب والوصول
وخامسها : أن زاد الدنيا يوصلك إلى منصة الشهوة والنفس ، وزاد الآخرة يوصلك إلى عتبة الجلال والقدس ، فثبت بمجموع ما ذكرنا أن خير الزاد التقوى.
إذا عرفت هذا فلنرجع إلى تفسير الآية ، فكأنه تعالى قال : لما ثبت أن خير الزاد التقوى فاشتغلوا بتقواي يا أولي الألباب ، يعني إن كنتم من أرباب الألباب الذين يعلمون حقائق الأمور وجب عليكم بحكم عقلكم ولبكم أن تشتغلوا بتحصيل هذا الزاد لما فيه كثرة المنافع ، وقال الأعشى في تقرير هذا المعنى :
إذا أنت لم ترحل بزاد من التقى.. ولا قيت بعد الموت من قد تزودا
ندمت على أن لا تكون كمثله.. وأنك لم ترصد كما كان أرصدا
(4/370)
والقول الثاني : أن هذه الآية نزلت في أناس من أهل اليمن كانوا يحجون بغير زاد ويقولون : إنا متوكلون ، ثم كانوا يسألون الناس وربما ظلموا الناس وغصبوهم ، فأمرهم الله تعالى أن يتزودوا فقال : وتزودوا ما تبلغون به فإن خير الزاد ما تكفون به وجوهكم عن السؤال وأنفسكم عن الظلم وعن ابن زيد : أن قبائل من العرب كانوا يحرمون الزاد في الحج والعمرة فنزلت.
وروى محمد ابن جرير الطبري عن ابن عمر قال : كانوا إذا أحرموا ومعهم أزودة رموا بها فنهوا عن ذلك بهذه الآية قال القاضي : وهذا بعيد لأن قوله : {فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} راجع إلى قوله : {وَتَزَوَّدُواْ} فكان تقديره : وتزودوا من التقوى والتقوى في عرف الشرع والقرآن عبارة عن فعل الواجبات وترك المحظورات قال : فإن أردنا تصحيح هذا القول ففيه وجهان أحدهما : أن القادر على أن يستصحب الزاد في السفر إذا لم يستصحبه عصى الله في ذلك ، فعلى هذا الطريق صح دخوله تحت الآية والثاني : أن يكون في الكلام حذف ويكون المراد : وتزودوا لعاجل سفركم وللآجل فإن خير الزاد التقوى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 143 ـ 144}
قال التسترى :
قوله : {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} [197] قال : هو الرفيق إلى ذكر الله تعالى خوفاً ، إذ لا زاد للمحب سوى محبوبه ، وللعارف سوى معروفه..
أ هـ {تفسير التسترى ـ صـ 42}
وقال القرطبى :
{ وَتَزَوَّدُواْ} أَمْرٌ باتخاذ الزاد. قال ابن عمر وعكرمة ومجاهد وقتادة وابن زيد : نزلت الآية في طائفة من العرب كانت تجيء إلى الحج بلا زاد ، ويقول بعضهم : كيف نحجّ بيت الله ولا يطعمنا ؛ فكانوا يبقون عالةً على الناس ، فنُهوا عن ذلك ، وأمِروا بالزاد. وقال عبد اللَّه بن الزبير : كان الناس يتّكل بعضهم على بعض بالزاد ؛ فأمروا بالزاد. " وكان للنبيّ صلى الله عليه وسلم في مسيره راحلةٌ عليها زاد ، وقدم عليه ثلثمائة رجل من مُزَينة ، فلما أرادوا أن ينصرفوا قال : "يا عمر زوّد القوم" " وقال بعض الناس : "تزوّدوا" الرفيق الصالح. وقال ابن عطية : وهذا تخصيص ضعيف ، والأولى في معنى الآية : وتزوّدوا لمعادكم من الأعمال الصالحة.
قلت : القول الأوّل أصح ، فإن المراد الزاد المتَخَذ في سفر الحج المأكول حقيقة كما ذكرنا ؛ كما روى البخاريّ عن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجّون ولا يتزوّدون ويقولون : نحن المتوكلون ؛ فإذا قدموا مكة سألوا الناس ، فأنزل الله تعالى : {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى} وهذا نص فيما ذكرنا ، وعليه أكثر المفسرين.(1) أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 411}
________________
(1) ما ذكره الإمام الفخر أعم وأشمل وأنفس ويتفق مع الغرض الأسمى للحج ، والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. والله أعلم.(4/371)
لطيفة
قال التسترى :
الدنيا هي التي قطعت المنقطعين إلى الله عن الله عزَّ وجلَّ. وقال : عيش الملائكة في الطاعة ، وعيش الأنبياء بالعلم وانتظار الفرج ، وعيش الصديقين بالاقتداء ، وعيش سائر الناس [عالماً كان أو جاهلاً ، زاهداً كان أو عابداً] في الأكل والشرب. أ هـ {تفسير التسترى ـ صـ 42}
قوله تعالى{ وما تفعلوا من خير يعلمه الله }
قال الخازن :
{ وما تفعلوا من خير يعلمه الله} أي لا يخفى عليه شيء من أعمالكم ، وهو الذي يجازيكم عليها ، حث الله على فعل الخير عقيب النهي عن الشر وهو أن يستعملوا مكان الرفث الكلام الحسن ومكان الفسوق البر والتقوى ومكان الجمال الوفاق والأخلاق الجملية ، وقيل : جعل فعل الخير عبارة عن ربط الأنفس عن الشر حتى لا يوجد منهم ما نهوا عنه. وقيل : إنما ذكر الخير وإن كان عالماً بجميع أفعال العباد من الخير والشر لفائدة ، وهي أنه تعالى إذا علم من العبد الخير ذكره وشهره وإذا علم منه الشر ستره وأخفاه فإذا كان هذا فعله مع عبده في الدنيا فكيف يكون في العقبى وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 127}
قوله تعالى {وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ }
المناسبة(4/372)
ولما علم من ذلك أن التقدير : فأكثروا من الزاد مصحوباً بالتقوى وكان الإنسان محل النقصان فكان الإكثار حاملاً له في العادة على الطغيان إلاّ من عصم الله وقليل ما هم قال سبحانه وتعالى مؤكداً لأمر التقوى مشرفاً لها بالإضافة إلى نفسه الشريفة تنبيهاً على الإخلاص لأجل ذاته السنية لا بالنظر إلى شيء من رجاء أو خوف أو اتصاف بحج أو غيره عاطفاً على ما أرشد إلى تقديره السياق : {واتقون} أي في تقواكم بالتزود ، وزاد الترغيب فيها بقوله : {يا أولي الألباب} أي العقول الصافية والأفهام النيرة الخالصة التي تجردت عن جميع العلائق الجسمانية فأبصرت جلالة التقوى فلزمتها. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 376}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {يا أُوْلِي الألباب} فاعلم أن لباب الشيء ولبه هو الخالص منه ، ثم اختلفوا بعد ذلك ، فقال بعضهم : إنه اسم للعقل لأنه أشرف ما في الإنسان ، والذي تميز به الإنسان عن البهائم وقرب من درجة الملائكة ، واستعد به للتمييز بين خير الخيرين ، وشر الشرين ، وقال آخرون : أنه في الأصل اسم للقلب الذي هو محل العقل ، والقلب قد يجعل كناية عن العقل قال تعالى : {إِنَّ فِى ذلك لذكرى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ} [ق : 37] فكذا ههنا جعل اللب كناية عن العقل ، فقوله : {يا أُوْلِي الألباب} معناه : يا أولي العقول ، وإطلاق اسم المحل على الحال مجاز مشهور ، فإنه يقال لمن له غيرة وحمية : فلان له نفس ، ولمن ليس له حمية : فلان لا نفس له فكذا ههنا.
فإن قيل : إذا كان لا يصح إلا خطاب العقلاء فما الفائدة في قوله : {يا أُوْلِي الألباب}.
قلنا : معناه : إنكم لما كنتم من أولي الألباب كنتم متمكنين من معرفة هذه الأشياء والعمل بها فكان وجوبها عليكم أثبت وإعراضكم عنها أقبح ، ولهذا قال الشاعر :
ولم أر في عيوب الناس شيئا.. كنقص القادرين على التمام(4/373)
ولهذا قال تعالى : {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف : 179] يعني الأنعام معذورة بسبب العجز ، أما هؤلاء القادرون فكان إعراضهم أفحش ، فلا جرم كانوا أضل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 144 ـ 145}
سؤال : لم خصّ أولي الألباب بالخطاب مع أن الأمر يعم الكل ؟
الجواب : خصّ أولي الألباب بالخطاب وإن كان الأمر يعم الكل لأنهم الذين قامت عليهم حجة الله ، وهم قابلو أوامره والناهضون بها. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 412}
فائدة
وفي تكرارلفظ الحج ثلاث مرات في الآية على أنه من قبيل وضع الظاهر موضع المضمر لطف الإيجاز فإن المراد بالحج الأول زمان الحج وبالحج الثاني نفس العمل وبالثالث زمانه ومكانه ، ولولا الإظهار لم يكن بد من إطناب غير لازم كما قيل. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 79}(4/374)
قوله تعالى : {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما فهم من هذا الحث على الإكثار من الزاد تحركت نفوس أولي الهمم الزاكية القابلة للتجرد عن الأعراض الفانية إلى السؤال عن المتجر لإنفاقه في وجوه الخير هل يكره في زمان أو مكان لا سيما عند تذكر أن أناساً كانوا في الجاهلية يكرهون التجارة للحاج فأجيب بقوله معلماً أن قطع العلائق لمن صدق عزمه وشرفت همته أولى : {ليس عليكم جناح} أي إثم في {أن تبتغوا} أي تطلبوا بجد واجتهاد {فضلاً} أي إفادة بالمتجر في مواسم الحج وغيرها {من ربكم} المحسن إليكم في كل حال فلا تعتمدوا في الفضل إلا عليه ، وروى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : " كانت عكاظُ وَمَجِنَّةُ وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فتأثموا أن يتَّجروا في المواسم فنزلت {ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم} في مواسم الحج ".
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 376}
قال فى التحرير والتنوير :
قوله تعالى : {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ}(4/375)
جملة معترضة بين المتعاطفين بمناسبة النهي عن أعمال في الحج تنافي المقصد منه فنقل الكلام إلى إباحة ما كانوا يتحرجون منه في الحج وهو التجارة ببيان أنها لا تنافي المقصد الشرعي إبطالاً لما كان عليه المشركون ، إذ كانوا يرون التجارة للمُحْرم بالحج حراماً. فالفضل هنا هو المال ، وابتغاء الفضل التجارة لأجل الربح كما هو في قوله تعالى : {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ} [المزمل : 20]. وقد كان أهل الجاهلية إذا خرجوا من سوق ذي المجاز إلى مكة حرم عندهم البيع والشراء قال النابغة :
كادَتْ تُسَاقِطُني رَحْلي ومِيثَرَتِي... بذِي المجاز ولم تُحسس به نَغَما
من صَوْتتِ حِرْمِيَّةٍ قالتْ وقد ظعنوا... هل في مُخِفِّيكُمُ مَنْ يشتري أَدَما
قلتُ لهَا وهي تَسْعَى تحتَ لَبَّتِها... لا تَحْطِمنَّككِ إن البيعَ قد زَرِما
أي انقطع البيع وحَرُم ، وعن ابن عباس : كانت عكاظ ومَجَنَّة ، وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية فتأَثَّمُوا أنْ يَتَّجِرُوا في المواسم فنزلت : (ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في موسم الحج) اه. أي قرأها ابن عباس بزيادة في مواسم الحج.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 237}
قال الفخر :
اعلم أن الشبهة كانت حاصلة في حرمة التجارة في الحج من وجوه : (4/376)
أحدها : أنه تعالى منع عن الجدال فيما قبل هذه الآية ، والتجارة كثيرة الإفضاء إلى المنازعة بسبب المنازعة في قلة القيمة وكثرتها ، فوجب أن تكون التجارة محرمة وقت الحج وثانيها : أن التجارة كانت محرمة وقت الحج في دين أهل الجاهلية ، فظاهر ذلك شيء مستحسن لأن المشتغل بالحج مشتغل بخدمة الله تعالى ، فوجب أن لا يتلطخ هذا العمل منه بالأطماع الدنيوية وثالثها : أن المسلمين لما علموا أنه صار كثير من المباحات محرمة عليهم في وقت الحج ، كاللبس والطيب والاصطياد والمباشرة مع الأهل غلب على ظنهم أن الحج لما صار سبباً لحرمة اللبس مع مساس الحاجة إليه فبأن يصير سبباً لحرمة التجارة مع قلة الحاجة إليها كان أولى ورابعها : عند الاشتغال بالصلاة يحرم الاشتغال بسائر الطاعات فضلاً عن المباحات فوجب أن يكون الأمر كذلك في الحج فهذه الوجوه تصلح أن تصير شبهة في تحريم الاشتغال بالتجارة عند الاشتغال بالحج ، فلهذا السبب بين الله تعالى ههنا أن التجارة جائزة غير محرمة ، فإذا عرفت هذا فنقول : المفسرون ذكروا في تفسير قوله : {أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ} وجهين الأول : أن المراد هو التجارة ، ونظيره قوله تعالى : {وآخرون يضربون في الأرض يبتغون من فضل الله} [المزمل : 20] وقوله : {جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} [القصص : 73] ثم الذي يدل على صحة هذا التفسير وجهان الأول : ما روى عطاء عن ابن مسعود وابن الزبير أنهما قرآ : (أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ فِى مواسم الحج) والثاني : الروايات المذكورة في سبب النزول.
(4/377)
فالرواية الأولى : قال ابن عباس : كان ناس من العرب يحترزون من التجارة في أيام الحج وإذا دخل العشر بالغوا في ترك البيع والشراء بالكلية ، وكانوا يسمون التاجر في الحج : الداج ويقولون : هؤلاء الداج ، وليسوا بالحاج ، ومعنى الداج : المكتسب الملتقط ، وهو مشتق من الدجاجة ، وبالغوا في الإحتراز عن الأعمال ، إلى أن امتنعوا عن إغاثة الملهوف ، وإغاثة الضعيف وإطعام الجائع ، فأزال الله تعالى هذا الوهم ، وبين أنه لا جناح في التجارة ، ثم أنه لما كان ما قبل هذه الآية في أحكام الحج ، وما بعدها أيضاً في الحج ، وهو قوله : {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات} دل ذلك على أن هذا الحكم واقع في زمان الحج ، فلهذا السبب استغنى عن ذكره.
والرواية الثانية : ما روي عن ابن عمر أن رجلاً قال له إنا قوم نكري وإن قوماً يزعمون أنه لا حج لنا ، فقال : سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم عما سألت ولم يرد عليه حتى نزل قوله : {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ} فدعاه وقال : أنتم حجاج وبالجملة فهذه الآية نزلت رداً على من يقول : لا حج للتجار والأجراء والجمالين.
والرواية الثالثة : أن عكاظ ومجنة وذا المجاز كانوا بتجرون في أيام الموسم فيها ، وكانت معايشهم منها ، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يتجرون في الحج بغير إذن ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية.
والرواية الرابعة : قال مجاهد : إنهم كانوا لا يتبايعون في الجاهلية بعرفة ولامنى ، فنزلت هذه الآية.
(4/378)
إذا ثبت صحة هذا القول فنقول : أكثر الذاهبين إلى هذا القول حملوا الآية على التجارة في أيام الحج ، وأما أبو مسلم فإنه حمل الآية على ما بعد الحج ، قال والتقدير : فاتقون في كل أفعال الحج ، ثم بعد ذلك {لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ} ونظيره قوله تعالى : {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِى الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله} [الجمعة : 10].
واعلم أن هذا القول ضعيف من وجوه أحدها : الفاء في قوله : {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات} يدل على أن هذه الإفاضة حصلت بعد انتفاء الفضل ، وذلك يدل على وقوع التجارة في زمان الحج وثانيها : أن حمل الآية على موضع الشبهة أولى من حملها لاعلى موضع الشبهة ومعلوم أن محل الشهبة هو التجارة في زمن الحج ، فأما بعد الفراغ من الحج فكل أحد يعلم حل التجارة.
أما ما ذكره أبو مسلم من قياس الحج على الصلاة فجوابه : أن الصلاة أعمالها متصلة فلا يصح في أثنائها التشاغل بغيرها ، وأما أعمال الحج فهي متفرقة بعضها عن بعض ، ففي خلالها يبقى المرء على الحكم الأول حيث لم يكن حاجاً لا يقال : بل حكم الحج باق في كل تلك الأوقات ، بدليل أن حرمة التطيب واللبس وأمثالهما باقية ، لأنا نقول : هذا قياس في مقابلة النص فيكون ساقطاً.
القول الثالث : أن المراد بقوله تعالى : {أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مّن رَّبّكُمْ} هو أن يبتغي الإنسان حال كونه حاجاً أعمالاً أخرى تكون موجبة لاستحقاق فضل الله ورحمته مثل إعانة الضعيف ، وإغاثة الملهوف ، وإطعام الجائع ، وهذا القول منسوب إلى أبي جعفر محمد بن علي الباقر عليهم السلام ، واعترض القاضي عليه بأن هذا واجب أو مندوب ، ولا يقال في مثله : لا جناح عليكم فيه ، وإنما يذكر هذا اللفظ في المباحات.
(4/379)
والجواب : لا نسلم أن هذا اللفظ لا يذكر إلا في المباحات والدليل عليه قوله تعالى : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة} [النساء : 101] والقصر بالاتفاق من المندوبات ، وأيضاً فأهل الجاهلية كانوا يعتقدون أن ضم سائر الطاعات إلى الحج يوقع خللاً في الحج ونقصاً فيه ، فبين الله تعالى أن الأمر ليس كذلك بقوله : {لا جناح عَلَيْكُمْ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 146 ـ 147}
كلام نفيس فى هذا الموضع لصاحب البحر المديد
قال رحمه الله :
{ ليس عليكم جناح} أي : إثم أو ميل عن الصواب ، في {أن تبتغوا فضلاً من ربكم} أي : عطاء ورزقاً تستفيدونه من التجارة في مواسم حجكم ، إذا خلَصَتْ نيتكم ، وغلب قصدُ الحج على التجارة.
وها هنا قاعدةٌ ذكرها الغزالي في الإحياء وحاصلها : أن العمل إذا تمحَّض لغير الله فهو سبب المقت والعقاب ، وإذا تمحض الله خالصاً فهو سبب القرب والثواب ، وإذا امتزج بشوْب من الرياء أو حظوظ النفس فينظر إلى الغالب وقوة الباعث ؛ فإن كان باعث الحظ أغلب ، سقط ، وكان إلى العقوبة أقرب ، لكن عقوبته أخف ممن تجرد لغير الله ، وإن كان باعث التقرب أغلب ، حُط منه بقدر ما فيه من باعث الحظ ، وإن تساوي تقاوماً وتساقطاً وصار العمل لا له ولا عليه.
ثم قال : ويشهد لهذا إجماعُ الأمة على أن مَنْ خرج حاجّاً ومعه تجارة صحَّ حجه وأُثيب عليه. ثم قال : والصواب أنْ يقال : مهما كان الحج هو المحرّك الأصلي ، وكان غرضُ التجارة كالتابع ، فلا ينفك نفس السفر عن ثواب ، ثم طُرِّد هذا الاعتبار في الجهاد باعتبار الغنيمة ، يعني : يُنْظر لغالب الباعث وخُلوص القصد ، وكذلك الصوم للحِمْية والثواب ، ينظر لغالب الباعث.
قلت : وتطَّرد هذه القاعدة في المعاملات كلها ، وجميع الحركات والسكنات والحِرَف وسائر الأسباب ، فالخالص من الحظوظ مقبول ، والمتمحض للحظوظ مردود ، والمَشُوب يُنظر للغالب كما تقدم.(4/380)
وقد ذكر شيخ المشايخ سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه قاعدة أخرى أدقّ من هذه فقال : إذا أكرم الله عبداً في حركاته وسكناته ، نصَب له العبودية لله وستر عنه حظوظ نفسه ، وجعله يتقلّب في عبوديته ، والحظوظ عنه مستورة ، مع جَرْي ما قُدِّر له ، ولا يلتفت إليها ؛ لأنها في معزل عنه ، وإذا أهان الله عبداً في حركاته وسكناته ، نصب له حظوظ نفسه ، وستر عنه عبوديته ، فهو يتقلّب في شهواته ، وعبودية الله عنه بمعزلِ ، وإن كان يجري عليه شيء منها في الظاهر ، قال : وهذا باب من الولاية والإهانة. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 160}
فائدة
اتفقوا على أن التجارة إذا أوقعت نقصاناً في الطاعة لم تكن مباحة ، أما إن لم توقع نقصاناً ألبتة فيها فهي من المباحات التي الأولى تركها ، لقوله تعالى : {وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [البينه : 5] والإخلاص أن لا يكون له حامل على الفعل سوى كونه عبادة ، وقال عليه السلام حكاية عن الله تعالى : " أنا أغنى الأغنياء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه " والحاصل أن الإذن في هذه التجارة جار مجرى الرخص. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 147}
فائدة
قوله " مِّن رَّبِّكُمْ " دليل على أنّ المراد التجارة بالمال الحلال أما الحرام فلا.
قيل لابن عرفة : كله من الله ؟ فقال : أما باعتبار القدرة فنعم ، وأمّا باعتبار الإذن فلا ، والآية خرجت مخرج الإذن ورفع الحرج. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 253}
قوله تعالى : {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ}
المناسبة
قال البقاعى : (4/381)
ولما كان الاستكثار من المال إنما يكره للشغل عن ذكر الله سبب عنه الآمر بالذكر في قوله {فإذا} أي فاطلبوا الفضل من ربكم بالمتجر {أفضتم} أي أوقعتم الإفاضة ، ترك مفعوله للعلم به أي دفعتم ركابكم عند غروب الشمس ففاضت في تلك الوهاد كما يفيض الماء المنساب في منحدر الشعاب ، وأصل الإفاضة الدفع بكثرة {من عرفات} الجبل الذي وقفتم فيه بباب ربكم الموقف الأعظم الذي لا يدرك الحج إلا به من معنى التعرف لما تقدمته نكرة ، وليست تاؤه للتأنيث فتمنعه الصرف بل هي علامة جمع المؤنث ، قاصدي المبيت بالمزدلفة ، وهو علم على الموقف سمي بجمع {فاذكروا الله} ذا الجلال لذاته بأنواع الذكر {عند} أي قريباً من {المشعر} أي المعلم ولما كان بالحرم ، قال : {الحرام} وهو الجبل المسمى قزح ، وهو من الشعور وهو خفي الإدراك الباطن فالموقف الأول آية على نغوض الدنيا ومحوها وزوالها ، والثاني دال بفجره وشمسه على البعث لمجازاة الخلائق بأعمالها ؛ والتعبير بعند للإعلام بأن مزدلفة كلها موقف غير محسر فإنها كلها تقاربه ، ويفهم ذلك صحة الوقوف عليه بطريق الأولى. قال الحرالي : وذلك حظ من الوقوف هنيهة وقت في البلد الحرام عند إقبال النهار معادلة للوقوف بعرفة من الحل إلى إقبال الليل ليتثنى الوقوف في الحل والحرم. فكان فيه موقف نهار ينتهي إلى الليل في عرفة وموقف ليل ينتهي إلى النهار في المشعر ؛ فوقف فيه صلى الله عليه وسلم بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس ، وهو ذكره عنده ، لأن الذكر بحسب الذاكر ، فذكر اللسان القول ، وذكر البدن العمل ، وذكر النفس الحال والانفعال ، وذكر القلب المعرفة والعلم واليقين ونحو ذلك ، ولكل شيء ذكر بحسبه ؛ وفي جمع الموقفين في الحل والحرم في معلم الحج الذي هو آية الحشر إيذان وبشرى بأن أهل الموقف صنفان : صنف يقفون في موطن روع ومخافة وقوفاً طويلاً اعتباراً بوقوف الواقفين بعرفة من حين زوال الشمس إلى غروبها ست(4/382)
ساعات ، وصنف حظهم من الوقوف قرار في أمنة ظل العرش الذي هو حرم يوم القيامة وكعبته فتشعر خفة الوقوف بالمشعر الحرام أن أمد طول ذلك اليوم يمر على المستظلين بظل العرش فيه كأيسر مدة كما قال عليه الصلاة والسلام بمقدار صلاة مكتوبة ، فكان في ذلك فضل ما بين موقف الحرم على موقف الحل - انتهى.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 377}
فائدة لغوية
الإفاضة هنا : الخروج بسرعة وأصلها من فاض الماء إذا كثر على ما يحويه فبرز منه وسالَ ؛ ولذلك سموا إحالة القِداح في المَيْسر إفَاضَةً والمجيلَ مُفيضاً ، لأنه يُخْرِج القِدَاح من الرِّبَابَة بقوة وسرعة أي بدون تَخَيُّر ولا جَسَ لينظر القدح الذي يخرج ، وسمَّوا الخروج من عرفة إفاضة لأنهم يخرجون في وقت واحد وهم عدد كثير فتكون لخروجهم شدة ، والإفاضة أطلقت في هاته الآية على الخروج من عرفة والخروج من مزدلفة.
والعرب كانوا يسمون الخروج من عرفة الدَّفْع ، ويسمون الخروج من مزدلفة إفاضة ، وكلا الإطلاقين مجاز ؛ لأن الدفع هو إبعاد الجسم بقوة ، ومن بلاغة القرآن إطلاق الإفاضة على الخروجين ؛ لما في أفاض من قرب المشابهة من حيث معنى الكثرة دون الشدة. ولأن في تجنُّب دَفَعْتُم تجنباً لتوهم السامعين أن السير مشتمل على دفععِ بعض الناس بعضاً ؛ لأنهم كانوا يجعلون في دفعهم ضَوْضَاء وجلبة وسرعةَ سير فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في حجة الوداع وقال : " ليس البِرُّ بالإيضَاع فإذا أفضتم فعليكم بالسَّكينة والوَقَار ".أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 238}
قال الفخر : (4/383)
اعلم أن اليوم الثامن من ذي الحجة يسمى بيوم التروية ، واليوم التاسع منه يسمى بيوم عرفة ، وذلك الموضع المخصوص سمي بعرفات ، وذكروا في تعليل هذه الأسماء وجوهاً أما يوم التروية ففيه قولان أحدهما : من روي يروي تروية ، إذا تفكر وأعمل فكره ورويته والثاني : من رواه من الماء يرويه إذا سقاه من عطش أما الأول : ففيه ثلاثة أقوال أحدها : أن آدم عليه السلام أمر ببناء البيت ، فلما بناه تفكر فقال : رب إن لكل عامل أجراً فما أجري على هذا العمل ؟ قال : إذا طفت به غفرت لك ذنوبك بأول شوط من طوافك ، قال : يا رب زدني قال : أغفر لأولادك إذا طافوا به ، قال : زدني قال : أغفر لكل من استغفر له الطائفون من موحدي أولادك ، قال : حسبي يا رب حسبي وثانيها : أن إبراهيم عليه السلام رأى في منامه ليلة التروية كأنه يذبح ابنه فأصبح مفكراً هل هذا من الله تعالى أو من الشيطان ؟ فلما رآه ليلة عرفة يؤمر به أصبح فقال : عرفت يا رب أنه من عندك وثالثها : أن أهل مكة يخرجون يوم التروية إلى منى فيروون في الأدعية التي يريدون أن يذكروها في غدهم بعرفات.
أما القول الثاني : وهو اشتقاقه من تروية الماء ، ففيه ثلاثة أقوال : أحدها : أن أهل مكة كانوا يخفون الماء للحجيج الذين يقصدونهم من الآفاق ، وكان الحجاج يستريحون في هذا اليوم من مشاق السفر ، ويتسعون في الماء ، ويروون بهائمهم بعد مقاساتهم قلة الماء في طريقهم والثاني : أنهم يتزودون الماء إلى عرفة والثالث : أن المذنبين كالعطاش الذي وردوا بحار رحمة الله فشربوا منها حتى رووا
وأما يوم عرفة فله عشرة أسماء ، خمسة منها مختصة به ، وخمسة مشتركة بينه وبين غيره ، أما الخمسة الأولى فأحدها : عرفة ، وفي اشتقاقه ثلاثة أقوال : (4/384)
أحدها : أنه مشتق من المعرفة ، وفيه ثمانية أقوال الأول : قول ابن عباس : إن آدم وحواء التقيا بعرفة فعرف أحدهما صاحبه فسمى اليوم عرفة ، والموضع عرفات ، وذلك أنهما لما أهبطا من الجنة وقع آدم بسرنديب ، وحواء بجدة ، وإبليس بنيسان ، والحية بأصفهان ، فلما أمر الله تعالى آدم بالحج لقي حواء بعرفات فتعارفا
وثانيها : أن آدم علمه جبريل مناسك الحج ، فلما وقف بعرفات قال له : أعرفت ؟ قال نعم ، فسمى عرفات
وثالثها : قول علي وابن عباس وعطاء والسدي : سمي الموضع عرفات لأن إبراهيم عليه السلام عرفها حين رآها بما تقدم من النعت والصفة
ورابعها : أن جبريل كان علم إبراهيم عليه السلام المناسك ، وأوصله إلى عرفات ، وقال له : أعرفت كيف تطوف وفي أي موضع تقف ؟ قال نعم
وخامسها : أن إبراهيم عليه السلام وضع ابنه إسماعيل وأمه هاجر بمكة ورجع إلى الشام ولم يلتقيا سنين ، ثم التقيا يوم عرفة بعرفات
وسادسها : ما ذكرناه من أمر منام إبراهيم عليه السلام
وسابعها : أن الحجاج يتعارفون فيه بعرفات إذا وقفوا
وثامنها : أنه تعالى يتعرف فيه إلى الحاج بالمغفرة والرحمة.
القول الثاني : في اشتقاق عرفة أنه من الاعتراف لأن الحجاج إذا وقفوا في عرفة اعترفوا للحق بالربوبية والجلال والصمدية والاستغناء ولأنفسهم بالفقر والذلة والمسكنة والحاجة ويقال : إن آدم وحواء عليهما السلام لما وقفا بعرفات قالا : ربنا ظلمنا أنفسنا ، فقال الله سبحانه وتعالى الآن عرفتما أنفسكما.(4/385)
والقول الثالث : أنه من العرف وهو الرائحة الطيبة قال تعالى : {يُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد : 6] أي طيبها لهم ، ومعنى ذلك أن المذنبين لما تابوا في عرفات فقد تخلصوا عن نجاسات الذنوب ، ويكتسبون به عند الله تعالى رائحة طيبة ، قال عليه الصلاة والسلام : " خلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك " الثاني : يوم إياس الكفار من دين الإسلام الثالث : يوم إكمال الدين الرابع : يوم إتمام النعمة الخامس : يوم الرضوان ، وقد جمع الله تعالى هذه الأشياء في أربع آيات ، في قوله : {اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ} [المائدة : 3] الآية ، قال عمر وابن عباس : نزلت هذه الآية عشية عرفة ، وكان يوم الجمعة والنبي صلى الله عليه وسلم واقف بعرفة في موقف إبراهيم عليه السلام ، وذلك في حجة الوداع ، وقد اضمحل الكفر ، وهدم بنيان الجاهلية ، فقال عليه الصلاة والسلام : " لو يعلم الناس ما لهم في هذه الآية لقرت أعينهم " فقال يهودي لعمر : لو أن هذه الآية نزلت علينا لاتخذنا ذلك اليوم عيداً فقال عمر : أما نحن فجعلناه عيدين ، كان يوم عرفة ويوم الجمعة فأما معنى : إياس المشركين : فهو أنهم يئسوا من قوم محمد عليه الصلاة والسلام أن يرتدوا راجعين إلى دينهم ، فأما معنى إكمال الدين فهو أنه تعالى ما أمرهم بعد ذلك بشيء من الشرائع ، وأما إتمام النعمة فأعظم النعم نعمة الدين ، لأن بها يستحق الفوز بالجنة والخلاص من النار ، وقد تمت في ذلك اليوم وكذلك قال في آية الوضوء {وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرونَ} [المائدة : 6] ولما جاء البشير وقدم على يعقوب ، قال : على أي دين تركت يوسف ؟ قال : على دين الإسلام قال : الآن تمت النعمة ، وأما معنى الرضوان فهو أنه تعالى رضي بدينهم الذي تمسكوا به وهو الإسلام فهي بشارة بشرهم بها في ذلك اليوم فلا يوم أكمل من اليوم الذي بشرهم فيه بإكمال الدين ، (4/386)
وقيل : هذا اليوم يوم صلة الواصلين {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} [المائدة : 3] ويوم قطيعة القاطعين {أَنَّ الله بَرِىء مّنَ المشركين وَرَسُولُهُ} [التوبة : 3] ويوم إقالة عثر النادمين وقبول توبة التائبين {رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا} [الأعراف : 23] فكما تاب برحمته على آدم فيه فكذلك يتوب على أولاده {وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ} [الشورى : 25] وهو أيضاً يوم وفد الوافدين {وَأَذّن فِى الناس بالحج يَأْتُوكَ رِجَالاً} [الحج : 27] وفي الخبر " الحجاج وفد الله ، والحجاج زوار الله وحق على المزور الكريم أن يكرم زائره "
وأما الأسماء الخمسة الأخرى ليوم عرفة فأحدها : يوم الحج الأكبر قال الله تعالى : {وَأَذَانٌ مّنَ الله وَرَسُولِهِ إِلَى الناس يَوْمَ الحج الأكبر} [التوبة : 3] وهذا الاسم مشترك بين عرفة والنحر ، واختلف الصدر الأول من الصحابة والتابعين فيه ، فمنهم من قال : إنه عرفة ، وسمي بذلك لأنه يحصل فيه الوقوف بعرفات والحج عرفة إذا لو أدركه وفاته سائر مناسك الحج أجزأ عنها الدم ، فلهذا السبب سمي بالحج الأكبر قال الحسن : سمي به لأنه اجتمع فيه الكفار والمسلمون ، ونودي فيه أن لا يحج بعده مشرك ، وقال ابن سيرين : إنما سمي به لأنه اجتمع فيه أعياد أهل الملل كلها من اليهود والنصارى وحج المسلمون ولم يجتمع قبله ولا بعده ، ومنهم من قال : إنه يوم النحر لأنه يقع فيه أكثر مناسك الحج ، فأما الوقوف فلا يجب في اليوم بل يجزىء في الليل وروى القولان جميعاً عن علي وابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وثانيها : الشفع وثالثها : الوتر ورابعها : الشاهد وخامسها : المشهود في قوله : {وشاهد وَمَشْهُودٍ} [البروج : 3] وهذه الأسماء فسرناها في هذه الآية. (1)
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 148 ـ 149}
__________________
(1) بعض الأقوال فى سبب تسمية عرفة بهذا الاسم يحتاج إلى سند كالذى نسب إلى آدم وحواء وإبراهيم ـ عليهم السلام جميعا من الله تعالى ـ والله أعلم.(4/387)
فائدة
ذِكر (عرفات) باسمه تنويه به يدل على أن الوقوف به ركن فلم يُذكر من المناسك باسمه غير عرفة والصفا والمروة ، وفي ذلك دلالة على أنهما من الأركان ، خلافاً لأبي حنيفة في الصفا والمروة ، ويؤخذ ركن الإحرام من قوله : {فمن فرض فيهن الحج} [البقرة : 197] ، وأما طواف الإفاضة فثبت بالسنة وإجماع الفقهاء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 239}
سؤال : فإن قيل : هلا منعت الصرف وفيها السببان : العلمية والتأنيث أجيب : بأن التأنيث لا يخلو : إما أن يكون بالتاء التي في لفظها وأما بتاء مقدرة كما في سعاد فالتي في لفظها ليست للتأنيث ، وإنما هي مع الألف التي قبلها علامة جمع التأنيث ولا يصح تقدير التاء فيها لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنث مانعة من تقديرها كما ، لا تقدر تاء التأنيث في بنت لأن التاء التي فيها هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنث كتاء التأنيث فأبت تقديرها ، وفي الآية دليل على وجوب الوقوف بعرفة لأنّ إذا تدل على أنّ المذكور بعدها محقق لا بدّ منه ، فكأنه قيل بعد إفاضتكم من عرفات التي لا بدّ منها اذكروا الله ، والإفاضة من عرفات لا تكون إلا بعد الوقوف بها ، فوجب أن يكون الوقوف بها واجباً ، وعن النبيّ صلى الله عليه وسلم "الحج عرفة فمن أدرك عرفة فقد أدرك الحج". أ هـ {السراج المنير حـ 1 صـ 208}
{ المشعر} المعلم وأصله من قولك : شعرت بالشيء إذا علمته ، وليت شعري ما فعل فلان ، أي ليت علمي بلغه وأحاط به ، وشعار الشيء أعلامه ، فسمى الله تعالى ذلك الموضع بالمشعر الحرام ، لأنه معلم من معالم الحج ، ثم اختلفوا فقال قائلون : المشعر الحرام هو المزدلفة ، وسماها الله تعالى بذلك لأن الصلاة والمقام والمبيت به والدعاء عنده ، هكذا قاله الواحدي في "البسيط" قال صاحب "الكشاف" : الأصح أنه قزح ، وهو آخر حد المزدلفة والأول أقرب لأن الفاء في قوله : {فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} تدل على أن الذكر عند المشعر الحرام يحصل عقيب الإفاضة من عرفات ، وما ذاك إلا بالبيتوتة بالمزدلفة.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 152}
فائدة
( المشعر) اسم مشتق من الشعور أي العِلْم ، أو من الشِّعَار أي العَلاَمة ، لأنه أقيمت فيه علامة كالمنار من عهد الجاهلية ، ولعلهم فعلوا ذلك لأنهم يدفعون من عرفات آخر المساء فيدركهم غبسُ ما بعد الغروب وهم جماعات كثيرة فخشوا أن يضلوا الطريق فيضيق عليهم الوقت.
أو وصف المشعر بوصف (الحَرام) لأنه من أرض الحرم بخلاف عرفات.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 240}
قال الثعالبى :
وقوله تعالى : {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات} : أجمع أهْل العْلمِ على تمامِ حجِّ من وقف بعرفاتٍ بعد الزوال ، وأفاض نهاراً قبل الليل إِلا مالك بن أنس ، فإِنه قال : لا بدَّ أن يأخذ من الليل شيئاً ، وأمَّا من وقف بعرفة ليلاً ، فلا خلافَ بيْن الأمَّة في تمام حَجِّه.(4/388)
وأفاض القومُ أو الجيشُ ، إِذا اندفعوا جملةً ، واختلف في تسميتها عرفةَ ، والظاهر أنه اسم مرتجلٌ ؛ كسائر أسماء البقاع ، وعرفةُ هي نَعْمَانُ الأَرَاكِ ، والمَشْعَر الحَرَامُ جمعٌ كله ، وهو ما بين جبلَيِ المزدَلِفَةِ من حَدِّ مفضى مَأْزِمَي عرفَةَ إِلى بطن مُحَسِّرٍ ، قاله ابن عبَّاس وغيره ، فهي كلُّها مشعر إِلا بطن مُحَسِّرٍ ؛ كما أن عرفة كلُّها موقف إِلا بطن عُرَنَةَ بفتح الراء وضمها ، وروي عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أنَّهُ قَالَ : " عَرَفَةُ كُلُّهَا مَوْقِفٌ إِلاَّ بَطْنَ عُرَنَةَ ، والمُزْدَلِفَةُ كُلُّهَا مَشْعرٌ ، أَلاَ وارتفعوا عَنْ بَطْنِ مُحَسِّرٍ " ، وذكر هذا عبد اللَّه بن الزُّبَيْرِ في خطبته ، وذِكْرُ اللَّه تعالى عند المشعر الحرام ندْبٌ عند أهل العلْم ، قال مالك : ومن مَرَّ به ، ولم ينزلْ ، فعليه دَمٌ. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 157}
فائدة
وفي تسمية المزدلفة أقوال :
أحدها : أنهم يقربون فيها من منى والازدلاف القرب
والثاني : أن الناس يجتمعون فيها والاجتماع الازدلاف
والثالث : أنهم يزدلفون إلى الله تعالى أي يتقربون بالوقوف ويقال للمزدلفة : جمع لأنه يجمع فيها بين صلاة العشاء والمغرب ، وهذا قول قتادة ، وقيل إن آدم عليه السلام اجتمع فيها مع حواء ، وازدلف إليها أي دنا منها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 152}
فصل فى في فضل يوم عرفة
قال القرطبى :
يوم عرفة فضله عظيم وثوابه جسيم ، يكفّر الله فيه الذنوب العظام ، ويضاعف فيه الصالح من الأعمال ؛ قال صلى الله عليه وسلم : " صوم يوم عرفة يكفر السنة الماضية والباقية " أخرجه في الصحيح. وقال صلى الله عليه وسلم : " أفضل الدعاء دعاء يوم عرفة وأفضل ما قلت أنا والنبيّون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له "(4/389)
وروى الدّارَقُطْنِيّ عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما من يوم أكثرَ أن يُعتق الله فيه عدداً من النار من يوم عرفة وإنه ليدنو عز وجل ثم يُباهِي بهم الملائكة يقول ما أراد هؤلاء " وفي الموطأ عن عبيد الله بن كَرِيز أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما رؤي الشيطان يوماً هو فيه أصغر ولا أَحْقَر ولا أَدْحَر ولا أغيظ منه في يوم عرفة وما ذاك إلا لما رأى من تنزُّل الرحمة وتجاوز الله عن الذنوب العظام إلا ما رأى يوم بدر". قيل : وما رأى (يوم بدر) يا رسول الله ؟ قال : "أمَا إنه قد رأى جبريل يَزَع الملائكة " قال أبو عمر : روى هذا الحديث أبو النضر إسماعيل بن إبراهيم العجلي عن مالك عن إبراهيم بن أبي عَبْلَة عن طلحة بن عبيد الله بن كَرِيز عن أبيه ، ولم يقل في هذا الحديث عن أبيه غيره وليس بشيء ، والصواب ما في الموطأ. وذكر الترمذي الحكيم في نوادر الأصول : حدّثنا حاتم بن نعيم التميمي أبو روح قال حدّثنا هشام بن عبد الملك أبو الوليد الطيالسي قال حدّثنا عبد القاهر بن السري السّلمي قال حدّثني ابن لكنانة بن عباس بن مرداس عن أبيه عن جدّه عباس بن مرداس " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لأمته عشيّةَ عرفة بالمغفرة والرحمة ، وأكثر الدعاء فأجابه : إني قد فعلت إلا ظلم بعضهم بعضاً فأما ذنوبهم فيما بيني وبينهم فقد غفرتها. قال : "يا رب إنك قادر أن تثيب هذا المظلوم خيراً من مظلمته وتغفر لهذا الظالم" فلم يجبه تلك العشِيّة ؛ فلما كان الغداة غداة المزدلفة اجتهد في الدعاء فأجابه : إني قد غفرت لهم ، فتبسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ فقيل له : تبسمْتَ يا رسول الله في ساعة لم تكن تتبسم فيها ؟ فقال : "تبسمت من عدوّ الله إبليس إنه لما علم أن الله قد استجاب لي في أمتي أهوى يدعو بالويل والثُّبور وَيحْثي التراب على رأسه وَيفِرّ" " وذكر أبو عبد الغني الحسن بن علي حدثنا عبد الرزاق حدّثنا(4/390)
مالك عن أبي الزناد عن الأعرج عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا كان يوم عرفة غفر الله للحاج الخالص وإذا كان ليلة المزدلفة غفر الله للتجار وإذا كان يوم منىً غفر الله للجمالين وإذا كان يوم جمرة العقبة غفر الله للسُّؤّال ولا يشهد ذلك الموقف خلق ممن قال لا إله إلا الله إلا غفر له " قال أبو عمر : هذا حديث غريب من حديث مالك ، وليس محفوظاً عنه إلا من هذا الوجه ؛ وأبو عبد الغني لا أعرفه ، وأهل العلم ما زالوا يسامحون أنفسهم في روايات الرغائب والفضائل عن كل أحد ، وإنما كانوا يتشدّدون في أحاديث الأحكام. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 420}
فصل
اعلم أن أهل الجاهلية كانوا قد غيروا مناسك الحج عن سنة إبراهيم عليه السلام ، وذلك أن قريشاً وقوماً آخرين سموا أنفسهم بالحمس ، وهم أهل الشدة في دينهم ، والحماسة الشدة يقال : رجل أحمس وقوم حمس ، ثم إن هؤلاء كانوا لا يقفون في عرفات ، ويقولون لا نخرج من الحرم ولا نتركه في وقت الطاعة وكان غيرهم يقفون بعرفة والذين كانوا يقفون بعرفة يفيضون قبل أن تغرب الشمس ، والذي يقفون بمزدلفة يفيضون إذا طلعت الشمس ، ويقولون : أشرق ثبير كيما نغير ، ومعناه : أشرق يا ثبير بالشمس كيما نندفع من مزدلفة فيدخلون في غور من الأرض ، وهو المنخفض منها ، وذلك أنهم جاوزوا المزدلفة وصاروا في غور من الأرض ، فأمر الله تعالى محمداً عليه الصلاة والسلام بمخالفة القوم في الدفعتين ، وأمره بأن يفيض من عرفة بعد غروب الشمس ، وبأن يفيض من المزدلفة قبل طلوع الشمس ، والآية لا دلالة فيها على ذلك ، بل السنة دلت على هذه الأحكام.أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 151}
فصل
اختلفوا في الذكر المأمور به عند المشعر الحرام فقال بعضهم : المراد منه الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك والصلاة تسمى ذكراً قال الله تعالى : {وأقم الصلاة لذكري} [طه : 14] والدليل عليه أن قوله : {فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} أمر وهو للوجوب ، ولا ذكر هناك يجب إلا هذا ، وأما الجمهور فقالوا : المراد منه ذكر الله بالتسبيح والتحميد والتهليل ، وعن ابن عباس أنه نظر إلى الناس في هذه الليلة وقال : كان الناس إذا أدركوا هذه الليلة لا ينامون. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 151}(4/391)
فائدة
قال السعدى :
وفي قوله : {فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ} دلالة على أمور :
أحدها : الوقوف بعرفة ، وأنه كان معروفا أنه ركن من أركان الحج ، فالإفاضة من عرفات ، لا تكون إلا بعد الوقوف.
الثاني : الأمر بذكر الله عند المشعر الحرام ، وهو المزدلفة ، وذلك أيضا معروف ، يكون ليلة النحر بائتا بها ، وبعد صلاة الفجر ، يقف في المزدلفة داعيا ، حتى يسفر جدا ، ويدخل في ذكر الله عنده ، إيقاع الفرائض والنوافل فيه.
الثالث : أن الوقوف بمزدلفة ، متأخر عن الوقوف بعرفة ، كما تدل عليه الفاء والترتيب.
الرابع ، والخامس : أن عرفات ومزدلفة ، كلاهما من مشاعر الحج المقصود فعلها ، وإظهارها.
السادس : أن مزدلفة في الحرم ، كما قيده بالحرام.
السابع : أن عرفة في الحل ، كما هو مفهوم التقييد بـ "مزدلفة "أ هـ {تفسير السعدى صـ 92}
قوله تعالى : {وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما - علم من ذكر الاسم الأعظم أن التقدير : كما هو مستحق للذكر لذاته ، عطف عليه قوله {واذكروه} أي عند المشعر وغيره {كما} أي على ما ولأجل ما {هداكم} أيها الناس كافة للإسلام وأيها الخمس خاصة لترك الوقوف به والوقوف مع الناس في موقف أبيكم إبراهيم عليه الصلاة والسلام. ولما كان التقدير : فإنه بين لكم بياناً لم يبينه لأحد كان قبلكم ووفقكم للعمل عطف عليه قوله : {وإن} أي فإنكم {كنتم} ولما كانوا قبل عمرو بن لُحَيّ على هدى فكان منهم بعد ذلك المهتدي كزيد ابن عمرو وورقة بن نوفل فلم يستغرق زمانهم بالضلال أثبت الجار فقال : {من قبله} أي الهدى الذي جاءكم به محمد صلى الله عليه وسلم {لمن الضآلين} عن سنن الهدى ومواقف الأنبياء علماً وعملاً حيث كنتم تفيضون من المشعر الحرام. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 377 ـ 378}
أسئلة وأجوبة للعلامة الفخر
قال رحمه الله :
أما قوله تعالى : {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} ففيه سؤالات :
السؤال الأول : لما قال : {اذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} فلم قال مرة أخرى {واذكروه} وما الفائدة في هذا التكرير ؟ .(4/392)
والجواب من وجوه أحدها : أن مذهبنا أن أسماء الله تعالى توقيفية لا قياسية فقوله أولاً : {اذكروا الله} أمر بالذكر ، وقوله ثانياً : {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} أمر لنا بأن نذكره سبحانه بالأسماء والصفات التي بينها لنا وأمرنا أن نذكره بها ، لا بالأسماء التي نذكرها بحسب الرأي والقياس وثانيها : أنه تعالى أمر بالذكر أولاً ، ثم قال ثانياً : {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} أي وافعلوا ما أمرناكم به من الذكر كما هداكم الله لدين الإسلام ، فكأنه تعالى قال : إنما أمرتكم بهذا الذكر لتكونوا شاكرين لتلك النعمة ، ونظيره ما أمرهم به من التكبير إذا أكملوا شهر رمضان ، فقال : {وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [البقرة : 185] وقال في "الأضاحي" : {كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ }
(4/393)
[ الحج : 37] وثالثها : أن قوله أولاً : {فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} أمر بالذكر باللسان وقوله ثانياً : {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} أمر بالذكر بالقلب ، وتقريره أن الذكر في كلام العرب ضربان أحدهما : ذكر هو ضد النسيان والثاني : الذكر بالقول ، فما هو خلاف النسيان قوله : {وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ} [الكهف : 63] وأما الذكر الذي هو القول فهو كقوله : {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة : 200] {واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات} [البقرة : 203] فثبت أن الذكر وارد بالمعنيين فالأول : محمول على الذكر باللسان والثاني : على الذكر بالقلب ، فإن بهما يحصل تمام العبودية ورابعها : قال ابن الأنباري : معنى قوله : {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} يعني اذكروه بتوحيده كما ذكركم بهدايته وخامسها : يحتمل أن يكون المراد من الذكر مواصلة الذكر ، كأنه قيل لهم : اذكروا الله واذكروه أي اذكروه ذكراً بعد ذكر ، كما هداكم هداية بعد هداية ، ويرجع حاصله إلى قوله : {ياأيها الذين ءامَنُواْ اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} [الأحزاب : 41] وسادسها : أنه تعالى أمر بالذكر عند المشعر الحرام ، وذلك إشارة إلى القيام بوظائف الشريعة ، ثم قال بعده : {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} والمعنى أن توقيف الذكر على المشعر الحرام فيه إقامة لوظائف الشريعة ، فإذا عرفت هذا قربت إلى مراتب الحقيقة ، وهو أن ينقطع قلبك عن المشعر الحرام ، بل عن من سواه فيصير مستغرقاً في نور جلاله وصمديته ، ويذكره لأنه هو الذي يستحق لهذا الذكر ولأن هذا الذكر يعطيك نسبة شريفة إليه بكونك في هذه الحالة تكون في مقام العروج ذاكراً له ومشتغلاً بالثناء عليه ، وإنما بدأ بالأول وثنى بالثاني لأن العبد في هذه الحالة يكون في مقام العروج فيصعد من الأدنى إلى الأعلى وهذا مقام شريف لا يشرحه المقال ولا يعبر(4/394)
عنه الخيال ، ومن أراد أن يصل إليه ، فليكن من الواصلين إلى العين ، دون السامعين للأثر ورابعها : أن يكون المراد بالأول هو ذكر أسماء الله تعالى وصفاته الحسنى ، والمراد بالذكر الثاني : الاشتغال بشكر نعمائه ، والشكر مشتمل أيضاً على الذكر ، فصح أن يسمى الشكر ذكراً ، والدليل على أن الذكر الثاني هو الشكر أنه علقه بالهداية ، فقال : {كَمَا هَدَاكُمْ} والذكر المرتب على النعمة ليس إلا الشكر وثامنها : أنه تعالى لما قال {فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} جاز أن يظن أن الذكر مختص بهذه البقعة وبهذه العبادة ، يعني الحج فأزال الله تعالى هذه الشبهة فقال {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} يعني اذكروه على كل حال ، وفي كل مكان ، لأن هذا الذكر إنما وجب شكراً على هدايته ، فلما كانت نعمة الهداية متواصلة غير منقطعة ، فكذلك الشكر يجب أن يكون مستمراً غير منقطع وتاسعها : أن قوله : {فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام} المراد منه الجمع بين صلاتي المغرب والعشاء هناك ، ثم قوله : {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} والمراد منه التهليل والتسبيح.
السؤال الثاني : ما المراد من الهداية في قوله : {كَمَا هَدَاكُمْ} ؟ .
الجواب : منهم من قال : إنها خاصة ، والمراد منه كما هداكم بأن ردكم في مناسك حجكم إلى سنة إبراهيم عليه السلام ، ومنهم من قال لا بل هي عامة متناولة لكل أنواع الهداية في معرفة الله تعالى ، ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه.
السؤال الثالث : الضمير في قوله : {مِن قَبْلِهِ} إلى ماذا يعود ؟ .
الجواب : يحتمل أن يكون راجعاً إلى {الهدى} والتقدير : وإن كنتم من قبل أن هداكم من الضالين ، وقال بعضهم : إنه راجع إلى القرآن ، والتقدير : واذكروه كما هداكم بكتابه الذي بين لكم معالم دينه ، وإن كنتم من قبل إنزاله ذلك عليكم من الضالين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 153}(4/395)
وقوله : {كما هداكم} تشبيه للذكر بالهدى وما مصدرية. ومعنى التشبيه في مثل هذا المشابهةُ في التساوي أي اذكروه ذكراً مساوياً لهدايته إياكم فيفيد معنى المجازاة والمكافأَة فلذلك يقولون إن الكاف في مثله للتعليل وقد تقدم الفرق بينها وبين كاف المجازاة عند قوله تعالى : {فنتبرأ منهم كما تبرؤوا منا} [البقرة : 167] وكثر ذلك في الكاف التي اقترنت بها (ما) كيف كانت ، وقيل ذلك خاص بما الكافة والحق أنه وارد في الكاف المقترنة بما وفي غيرها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 242}
قال أبو حيان :
والهداية هنا خاصة ، أي : بأن ردكم في مناسك حجكم إلى سنة إبراهيم صلى الله على نبينا وعليه ، فما عامة تتناول أنواع الهدايات من معرفة الله ، ومعرفة ملائكته وكتبه ورسله وشرائعه.
أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 107}
قال ابن عرفة
قوله تعالى : {واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ...}.
الأول : ذكرُ الحَجّ ، والثاني : ذِكْرٌ مُطْلَقٌ ، فهو تأسيس لا تأكيد وقوله : " كَمَا هَدَاكُمْ " الكاف إمّا للتعليل مثل : {وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ} قوله تعالى : {وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين...}.
قال ابن عرفة : إن قلت هذا تأكيد لأن الهداية تستلزم تقدم الضّلال لها.
فالجواب أنّه إنما (كان) يكون تأكيدا (أن) لو قيل : وَإِن كُنتُمْ مِنْ قَبْلِهِ ضَالِّينَ. وهذا أخص لأن قولك : زيد من الصالحين أخصّ من قولك : زيد صالح.
قاله الزمخشري في قول الله تعالى {والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين. }. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 253}
فائدة لغوية
قوله : " كَمَا هَدَاكُمْ " فيه خمسة أقوال :
أحدها : أن تكون " الكَافُ " في محلّ نصبٍ نعتاً لمصدر محذوفٍ.
والثاني : أن تكون في محلِّ نصبٍ على الحال من ضمير المقدَّر ، وهو مذهب سيبويه.(4/396)
والثالث : أن يكون في محلِّ نصب على الحال من فاعل " اذْكُرثوا " تقديره : مشبهين لكم حين هداكم ، قال أبو البقاء : " ولا بُدَّ من حذفِ مضافٍ ؛ لأنَّ الجُثَّة لا تشبه الحدث ".
ومثله : " كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ " الكاف نعت لمصدر محذوف.
قال القرطبيّ : والمعنى : " اذْكُرُوه ذكْراً حسناً كما هَدَاكُمْ هَدَاية حَسنَة ".
الثالث : أن يكون حالاً ، تقديره : فاذكروا الله مبالغين.
والرابع : للتعليل بمعنى اللام ، أي : اذكروه لأجل هدايته إيَّاكم ، حكى سيبويه رحمه الله : " كَمَا أنَّهُ لاَ يَعْلَمُ ، فتَجَاوَزَ اللَّهُ عَنْهُ ". وممَّن قال بكونها للعلِّيَّة الأخفش وجماعةٌ.
و " مَا " في " كَمَا " يجوز فيها وجهان :
أحدهما : أن تكون مصدريةً ، فتكون مع ما بعدها في محلِّ جر بالكاف ، أي : كهدايته.
والثاني - وبه قال الزمخشريُّ وابن عطية - أن تكون كافَّةً للكاف عن العمل ، فلا يكون للجملة التي بعدها محلٌّ من الإعراب ، بل إن وقع بعدها اسم ، رفع على الابتداء كقول القائل : [الطويل ]
1002 - وَنَنْصًرُ مَوْلاَنَا ونَعْلَمُ أَنَّهُ... كَمَا النَّاسُ مَجْرُومٌ عَلَيْهِ وَجَارِمُ
وقال آخر : [الوافر ]
1003 - لَعَمْرُكَش إنَّنِي وَأَبَا حُمَيْدٍ... كَمَا النَّشْوَانُ والرَّجُلُ الْحَلِيمُ
أُرِيدُ هِجَاءَهُ وَأَخَافُ رَبِّي... وَأَعْلَمُ أَنَّهُ عَبْدٌ لَئِيمٌ
وقد منع صاحب " المُسْتَوْفى " كون " مَا " كافةً للكاف ، وهو محجوجٌ بما تقدّم.
والخامس : أن تكون الكاف بمعنى " عَلَى " ؛ كقوله : {وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ} [البقرة : 185 ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 424 ـ 425}
قوله تعالى {وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ}
قال ابن عادل : (4/397)
قوله : {وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين} : " إنْ " هذه هي المخفَّفة من الثقيلة ، واللام بعدها للفرق بينهما وبين النافية ، وجاز دخول " إنْ " على الفعل ؛ لأنه ناسخٌ ، وهل هذه اللام لام الابتداء التي كانت تصحب " إنَّ " ، أو لامٌ أخرى غيرها ؛ اجتلبت للفرق ؟ قولان هذا رأيُ البصريِّين.
وأمَّا الكوفيون فعندهم فيها خلاف : فزعم الفرّاء أنها بمعنى " إنْ " النافية ، واللام بمعنى " لاَّ " ، أي : ما كنتم من قبله إلاَّ من الضالِّين ، ومذهب الكسائيِّ التفصيل : بين أن تدخل على جملةٍ فعليَّة ، فتكون " إنْ " بمعنى " قَدْ " ، واللاَّم زائدةً للتوكيد ؛ كقوله : {وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين} [الشعراء : 186] ، وبين أن تدخل على جملةٍ ، كقوله : {إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ} [الطارق : 4] ؛ فتكون كقول الفرَّاء. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 426 ـ 427}
قال أبو حيان :
ومن قبله ، يتعلق بمحذوف ، ويبينه قوله : لمن الضالين ، التقدير : وإن كنتم ضالين من قبله لمن الضالين ، ومن تسمح من النحويين في تقديم الظرف والمجرور على العامل الواقع صلة للألف واللام ، فيتعلق على مذهبه من قبله بقوله : من الضالين ، وقد تقدّم نظير هذا.
والهاء في قبله ، عائدة على الهدى المفهوم من قوله : هداكم ، أي : وإن كنتم من قبل الهدى لمن الضالين ، ذكرهم تعالى بنعمة الهداية التي هي أتم النعم ليوالوا ذكره والثناء عليه تعالى ، والشكر الذي هو سبب لمزيد الإنعام ، وقيل : تعود الهاء على القرآن ، وقيل : على النبي صلى الله عليه وسلم.
والظاهر في الضلال أنه ضلال الكفر ، كما أن الظاهر في الهداية هداية الإيمان ، وقيل : من الضالين عن مناسك الحج ، أو عن تفصيل شعائره. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 107}(4/398)
فائدة
قد يتساءل أحد عن الرّابطة بين قوله تعالى {أن تبتغوا فضلا من ربكم) ومسألة الوقوف بعرفات والإفاضة منها إلى المشعر الحرام وثمّ إلى مِنى الّتي وردت الآية الشريفة منضمّة بعضها إلى بعض.
يمكن أن تكون الرّابطة هي الإشارة إلى هذه الحقيقة وهي أنّ السعي المادي والاقتصادي إذا كان لله ومن أجل الحياة الشريفة فيكون هذا نوع من العبادة حال مناسك الحجّ ، أو أنّ حركة وانتقال الحجّاج من مكّة إلى عرفات ومنها إلى المواقف الأخرى يستلزم عادةً نفقات وخدمات كبيرة ، فلو كان كلّ نوع من العلم والكسب في هذه الأيّام محرّم على الحجّاج فمن الواضح أنّهم سيقعون في حرج ومشقّة ، فلهذا ذكرت الآية الشريفة هذه العبارات منضمّة ومتتالية.
أو يقال : إن المفهوم منها هو أنّ الآية تحذّر الحجّاج أن لا يُنسيكم العمل والكسب وسائر الفعاليّات الاقتصادية ذكر الله والتوجّه إليه وإدراك عظمته في هذه المواقف الشريفة.أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 58}(4/399)
قوله تعالى : {ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199) }
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما قبح عليهم ما كانوا عليه من المخالفة في الوقوف بالنسبة إلى الضلال بالجملة الاسمية مؤكدة بأنواع التأكيد وكان ما مضى من ذكر الإفاضة ليس بقاطع في الوجوب أشار لهم إلى تعظيم ما هداهم له من الموافقة بأداة التراخي فقال عاطفاً على ما تقديره : فلا تفيضوا من المشعر الحرام الإفاضة التي كنتم تخالفون فيها الناس دالاً على تفاوت الإفاضتين وبعد ما بينهما على وجه معلم بالوجوب : {ثم} أي بعد طول تلبسكم بالضلال أنزلت عليكم في هذا الذكر الحكيم الذي أبيتموه وهو عزكم وشرفكم لا ما ظننتم أنه شرف لكم بالتعظم على الناس بمخالفة الهدى في الوقوف بالمزدلفة والإفاضة منها {أفيضوا} أي إذا قضيتم الوقوف. وقال الحرالي : لما كان للخطاب ترتيب للأهم فالأهم كما كان للكيان ترتيب للأسبق فالأسبق كان حرف المهلة الذي هو {ثم} ، يقع تارة لترتيب الكيان وتارة لترتيب الإخبار فيقول القائل مثلاً : امش إلى حاجة كذا - تقديماً في الخبر الأهم - ثم ليكن خروجك من موضع كذا ، فيكون السابق في الكيان متأخراً بالمهلة في الإخبار ، فمن معنى ذلك قوله - انتهى. ثم أفيضوا أيها الحمس! {من حيث أفاض الناس} أي معظمهم وهو عرفات ، إلى المشعر الحرام لتبيتوا به ، وروى البخاري في التفسير عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : " كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة وكانوا يسمعون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفات فلما جاء الإسلام أمر الله تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله سبحانه وتعالى {ثم أفيضوا} " الآية.أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 378}
قال الفخر : (4/400)
فيه قولان الأول : المراد به الإفاضة من عرفات ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا فالأكثرون منهم ذهبوا إلى أن هذه الآية أمر لقريش وحلفائها وهم الحمس ، وذلك أنهم كانوا لا يتجاوزون المزدلفة ويحتجون بوجوه أحدها : أن الحرم أشرف من غيره فوجب أن يكون الوقوف به أولى وثانيها : أنهم كانوا يترفعون على الناس ويقولون : نحن أهل الله فلا نحل حرم الله وثالثها : أنهم كانوا لو سلموا أن الموقف هو عرفات لا الحرم ، لكان ذلك يوهم نقصاً في الحرم ثم ذلك النقص كان يعود إليهم ، ولهذا كان الحمس لا يقفون إلا في المزدلفة ، فأنزل الله تعالى هذه الآية أمراً لهم بأن يقفوا في عرفات ، وأن يفيضوا منها كما تفعله سائر الناس ، وروي أن النبي عليه الصلاة والسلام لما جعل أبا بكر أميراً في الحج أمره بإخراج الناس إلى عرفات ، فلما ذهب مر على الحمس وتركهم فقالوا له : إلى أين وهذا مقام آبائك وقومك فلا تذهب ، فلم يلتفت إليهم ومضى بأمر الله إلى عرفات ووقف بها ، وأمر سائر الناس بالوقوف بها ، وعلى هذا التأويل فقوله : {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} يعني لتكن إفاضتكم من حيث أفاض سائر الناس الذين هم واقفون بعرفات ، ومن القائلين بأن المراد بهذه الآية الإفاضة من عرفات من يقول قوله : {ثُمَّ أَفِيضُواْ} أمر عام لكل الناس ، وقوله : {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} المراد إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام ، فإن سنتهما كانت الإفاضة من عرفات ، وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقف في الجاهلية بعرفة كسائر الناس ، ويخالف الحمس ، وإيقاع اسم الجمع على الواحد جائز إذا كان رئيساً يقتدي به ، وهو كقوله تعالى : {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران : 173] يعني نعيم بن مسعود {إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ} [آل عمران : 173] يعني أبا سفيان ، وإيقاع اسم الجمع على الواحد المعظم مجاز مشهور ، ومنه قوله : {إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر }(4/401)
[ القدر : 1 ]
وفي الآية وجه ثالث ذكره القفال رحمه الله ، وهو أن يكون قوله : {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} عبارة عن تقادم الإفاضة من عرفة وأنه هو الأمر القديم وما سواه فهو مبتدع محدث كما يقال : هذا مما فعله الناس قديماً ، فهذا جملة الوجوه في تقرير مذهب من قال : المراد من هذه الإفاضة من عرفات.
القول الثاني : وهو اختيار الضحاك : أن المراد من هذه الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي والنحر وقوله : {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ} المراد بالناس إبراهيم وإسماعيل وأتباعهما ، وذلك أنه كانت طريقتهم الإفاضة من المزدلفة قبل طلوع الشمس على ما جاء به الرسول عليه الصلاة والسلام ، والعرب الذين كانوا واقفين بالمزدلفة كانوا يفيضون بعد طلوع الشمس ، فالله تعالى أمرهم بأن تكون إفاضتهم من المزدلفة في الوقت الذي كان يحصل فيه إفاضة إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام واعلم أن على كل واحد من القولين إشكالاً :
أما الإشكال على القول الأول : فهو أن قوله تعالى : {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} يقتضي ظاهره أن هذه الإفاضة غير ما دل عليه قوله : {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات} [البقرة : 198] لمكان {ثُمَّ} فإنها توجب الترتيب ، ولو كان المراد من هذه الآية : الإفاضة من عرفات ، مع أنه معطوف على قوله {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات} كان هذا عطفاً للشيء على نفسه وأنه غير جائز ولأنه يصير تقدير الآية : فإذا أفضتم من عرفات ، ثم أفيضوا من عرفات وإنه غير جائز.
فإن قيل : لم لا يجوز أن يقال : هذه الآية متقدمة على ما قبلها ، والتقدير : فاتقون يا أولي الألباب ، ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ، فإذا أفضتم من عرفات فذكروا الله ، وعلى هذا التريتب يصح في هذه الإفاضة أن تكون تلك بعينها.
(4/402)
قلنا : هذا وإن كان محتملاً إلا أن الأصل عدمه ، وإذا أمكن حمل الكلام على القول الثاني من غير التزام إلى ما ذكرتم فأي حاجة بنا إلى التزامه.
وأما الإشكال على القول الثاني : فهو أن القول لا يتمشى إلا إذا حملنا لفظ {من حيث} في قوله : {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} على الزمان ، وذلك غير جائز ، فإنه مختص بالمكان لا بالزمان.
أجاب القائلون بالقول الأول : عن ذلك السؤال بأن {ثُمَّ} ههنا على مثال ما في قوله تعالى : {وَمَا أَدْرَاكَ مَا العقبة فَكُّ رَقَبَةٍ} [البلد : 12 ، 13] إلى قوله : {ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين ءامَنُواْ} [البلد : 17] أي كان مع هذا من المؤمنين ، ويقول الرجل لغيره : قد أعطيتك اليوم كذا وكذا ، ثم أعطيتك أمس كذا فإن فائدة كلمة {ثُمَّ} ههنا تأخر أحد الخبرين عن الآخر ، لا تأخر هذا المخبر عنه عن ذلك المخبر عنه.
وأجاب القائلون بالقول الثاني : بأن التوقيت بالزمان والمكان يتشابهان جداً فلا يبعد جعل اللفظ المستعمل في أحدهما مستعملاً في الآخر على سبيل المجاز.
وأما قوله : {مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} فقد ذكرنا أن المراد من {الناس} إما الواقفون بعرفات وإما إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام وأتباعهما ، وفيه قول ثالث وهو قول الزهري.
أن المراد بالناس في هذه الآية : آدم عليه السلام ، واحتج بقراءة سعيد بن جبير {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} وقال : هو آدم نسي ما عهد إليه ، ويروى أنه قرأ {الناس} بكسر السين اكتفاء بالكسرة عن الياء ، والمعنى : أن الإفاضة من عرفات شرع قديم فلا تتركوه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 154 ـ 155}
وقال ابن عاشور :
الذي عليه جمهور المفسرين أن ثم للتراخي الإخباري للترقى في الخبر وأن الإفاضة المأمور بها هنا هي عين الإفاضة المذكورة في قوله تعالى : {فإذا أفضتم من عرفات} [البقرة : 198] وأن العطف بثم للعودة إلى الكلام على تلك الإفاضة.(4/403)
فالمقصود من الأمر هو متعلق {أفيضوا} أي قوله : {من حيث أفاض الناس} إشارة إلى عرفات فيكون متضمناً الأمر بالوقوف بعرفة لا بغيرها إبطالاً لعمل قريش الذين كانوا يقفون يوم الحج الأكبر على (قُزَح) المسمى بجمع وبالمشعر الحرام فهو من المزدلفة وكان سائر العرب وغيرهم يقف بعرفات فيكون المراد بالناس في جمهورهم من عدا قريشاً.
عن عائشة أنها قالت : كانت قريش ومن دَان دينها يقفون بيوم عرفة في المزدلفة وكانوا يسمون الحمس وكان سائر العرب يقفون بعرفة فلما جاء الإسلام أمر الله نبيه أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله تعالى : {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس} اه فالمخاطب بقوله : {أفيضوا} جميع المسلمين والمراد بالناس عموم الناس يعني من عدا قريشاً ومن كان من الحمس الذين كانوا يفيضون من المزدلفة وهم قريش ومن ولدوا وكنانة وأحلافهم.
وقيل : المراد بقوله : {ثم أفيضوا} الإفاضة من مزدلفة إلى منى ، فتكون (ثم) للتراخي والترتيب في الزمن أي بعد أن تذكروا الله عند المشعر الحرام وهي من السنة القديمة من عهد إبراهيم عليه السلام فيما يقال ، وكان عليها العرب في الجاهلية.
فقوله : {من حيث أفاض الناس} أي من المكان الذي يفيض منه سائر الناس وهو مزدلفة. وعبر عنه بذلك لأن العرب كلهم يجتمعون في مزدلفة ، ولولا ما جاء من الحديث لكان هذا التفسير أظهر لتكون الآية ذكرت الإفاضتين بالصراحة وليناسب قوله بعد : {فإذا قضيتم مناسككم} [البقرة : 200 ].أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 243 ـ 244}
وقد رجح القرطبى القول الأول أيضا فقال : (4/404)
والصحيح في تأويل هذه الآية من القولين القول الأوّل. روى الترمذيّ عن عائشة قالت : كانت قريش ومن كان على دينها وهم الحُمْس يقفون بالمزدلفة يقولون : نحن قَطِين الله ، وكان من سواهم يقفون بعرفة ؛ فأنزل الله تعالى : {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس}. هذا حديث حسن صحيح. وفي صحيح مسلم عن عائشة قالت : الحُمْس هم الذين أنزل الله فيهم : {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} قالت : كان الناس يُفيضون من عرفات ، وكان الحُمْس يُفيضون من المزدلفة ، يقولون : لا نُفيض إلا من الحَرَم ؛ فلما نزلت : {أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس} رجعوا إلى عرفات. وهذا نصٌّ صريح ، ومثله كثير صحيح ، فلا معوّل على غيره من الأقوال. والله المستعان.أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 428}
وقال الآلوسى : (4/405)
جعل الضمير عبارة عن الحمس يلزم منه بتر النظم إذ الضمائر السابقة واللاحقة كلها عامة ؛ والجملة معطوفة على قوله تعالى : {فَإِذَا أَفَضْتُم} ولما كان المقصود من هذه التعريض كانت في قوة ثم لا تفيضوا من المزدلفة ؛ وأتى بِـ "ثُم" إيذاناً بالتفاوت بين الإفاضتين في الرتبة بأن إحداهما صواب ، والأخرى خطأ ، ولا يقدح في ذلك أن التفاوت إنما يعتبر بين المتعاطفين لا بين المعطوف عليه وما دخله حرف النفي من المعطوف لأن الحصر ممنوع ، وكذا لا يضر انفهام التفاوت من كون أحدهما مأموراً به ، والآخر منهياً عنه كيفما كان العطف لأن المراد أن كلمة (ثم) تؤذن بذلك مع قطع النظر عن تعلق الأمر والنهي ، وجوز أن يكون العطف على فاذكروا ويعتبر التفاوت بين الإفاضتين أيضاً كما في السابق بلا تفاوت ، وبعضهم جعله معطوفاً على محذوف أي : أفيضوا إلى منى ثم أفيضوا الخ وليس بشيء كالقول بأن في الآية تقديماً وتأخيراً والتقدير : ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس فإذا أفضتم من عرفات فاذكروا الله عند المشعر الحرام واستغفروا وإذا أريد بالمفاض منه المزدلفة وبالمفاض إليه منى كما قال الجبائي بقيت كلمة (ثم) على ظاهرها لأن الإفاضة إلى منى بعيدة عن الإفاضة من عرفات لأن الحجاج إذا أفاضوا منها عند غروب الشمس يوم عرفة يجيئون إلى المزدلفة ليلة النحر ويبيتون بها فإذا طلع الفجر وصلوا بغلس ذهبوا إلى قزح فيرقون فوقه أو يقفون بالقرب منه ثم يذهبون إلى وادي محسر ثم منه إلى منى ، والخطاب على هذا عام بلا شبهة ، والمراد من الناس الجنس كما هو الظاهر أي من حيث أفاض الناس كلهم قديماً وحديثاً ، وقيل : المراد بهم إبراهيم عليه السلام وسمي ناساً لأنه كان إماماً للناس ، وقيل : المراد هو وبنوه ، وقرىء (الناس) بالكسر أي الناسي والمراد به آدم عليه السلام لقوله تعالى في حقه : {فَنَسِىَ} [طه : 115 ]. (1)
________________
(1) لا يخفى ما فى هذا الوجه من تكلف وبعد بعيد فالمقام
مقام اقتداء فلا يليق به التعبير بالناسى {فى حق آدم أبى البشر عليه السلام} والله أعلم بالصواب.(4/406)
وكلمة ثم على هذه القراءة للإشارة إلى بعد ما بين الإفاضة من عرفات والمخالفة عنها بناءاً على أن معنى ثم أفيضوا عليها ثم لا تخالفوا عنها لكونها شرعاً قديماً كذا قيل فليتدبر.أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 89}
وقال العلامة السمين
قوله تعالى : {ثُمَّ أَفِيضُواْ مِنْ حَيْثُ} استشكل الناسُ مجيءَ "ثم" هنا من حيث إنَّ الإِفاضة الثانية هي الإِفاضةُ الأولى ؛ لأنَّ قريشاً كانت تَقِفُ بمزدلفة وسائرُ الناسِ بعرفة ، فأُمروا أن يَفيضوا من عرفةَ كسائرِ الناس أجوبةٌ :
أحدُها : أنَّ الترتيبَ في الذِّكر لا في الزمانِ الواقعِ فيه الأفعالُ ، وحَسَّنَ ذلك أن الإِفاضةَ الأولى غيرُ مأمورٍ بها ، إنما المأمورُ به ذكرُ اللهِ إذا فُعِلَت الإِفاضةَ.
والثاني : أن تكونَ هذه الجملة معطوفةً على قولِه : {واتقون يا أولي} ففي الكلام تقديمٌ وتأخيرٌ وهو بعيدٌ.
الثالث : أن تكونَ "ثم" بمعنى الواو ، وقد قال به بعضُ النحويين ، فهي لعطفِ كلامٍ على كلامٍ منقطعٍ من الأول.(4/407)
الرابع : أن الإِفاضة الثانيةَ هي من جمعٍ إلى منى ، والمخاطبون بها جميعُ الناس ، وبهذا قال جماعةٌ كالضحاك ورجَّحه الطبري ، وهو الذي يقتضيه ظاهرُ القرآنِ وعلى هذا فـ"ثم" على بابها ، قال الزمخشري : "فإنْ قلت : كيف موقعُ "ثم" ؟ قلت : نحوُ موقِعها في قولك : "أحْسِنَ إلى الناس ثم لا تُحْسِن إلى غير كريم" تأتي بـ"ثم" لتفاوتِ ما بين الإِحسانِ إلى الكريمِ والإِحسان إلى غيرِه وبُعْدِ ما بينهما ، فكذلك حين أمرَهم بالذكر عند الإِفاضةِ من عرفات قال : "ثم أفيضوا" لتفاوتِ ما بين الإِفاضَتَيْنِ وأنَّ إحداهما صوابٌ والثانيةَ خطأٌ". قال الشيخ : "وليست الآية نظيرَ المثال الذي مثَّله ، وحاصلُ ما ذَكَرَ أن "ثم" تَسْلُب الترتيبَ وأنَّ لها معنىً غيرَه سَمَّاه بالتفاوتِ والبُعْدِ لما بعدها مِمَّا قبلها ، ولم يَذْكُر في الآية إفاضة الخطأ حتى تجيء "ثم" لتفاوتِ ما بينها ، ولا نعلمُ أحداً سبقه إلى إثبات هذا المعنى لـ "ثم". وهذا الذي ناقشَ الشيخُ به الزمخشري تحاملٌ عليه ، فإنه يعني بالتفاوتِ والبُعْد التراخيَ الواقعَ بين الرتبتين. وسيأتي له نظائرُ ، وبمثلِ هذه الأشياءِ لا يُرَدُّ كَلامُ مثلِ هذا الرجل. أ هـ {الدر المصون حـ 2 صـ 334 ـ 335}
وقال ابن عرفة : وعادتهم يقولون : إنّها {ثم} للتراخي والمهلة فهي على بابها ، والمهلة فيها بين الذي يليها فقط والذي يليها هو معطوف على ما قبله بالواو والمشهور في الواو أنّها للجمع من غير ترتيب ولا مهلة ، فتكون الجملة الموالية لـ " ثم " مراد بها التقديم. والتقدير : " فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُواْ اللّهَ كَمَا هَدَاكُمْ " " ثم أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ " و{واذْكُرُا اللّه عِند المَشْعَرِ الحَرَامِ}.
قال ابن عرفة : وهذا معنى سادس لم يذكروه ، وهو الذي (ينبغي) حمل الآية عليه. والله أعلم. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 254}
فائدة
قال ابن عرفة :(4/408)
وعادتهم يقولون : لم عدل في الآية عن دلالة المطابقة وهي حقيقة إلى دلالة الالتزام ، وهي مجاز ، فعبر بالإفاضة المستلزمة للوقوف ، وهلا عبر بالوقوف نفسه فيقول : ثم قفوا من حيث وقف الناس ، فما السر في ذلك ؟
قال : وعادتهم يجيبون عن ذلك بأنّ قريشا كانوا لا يخرجون من الحرم لشرفه ويرون الخروج عنه موجبا للوقوع في الإثم ، (ويقفون بالمشعر الحرام ، فأتت الآية ردا عليهم وتنبيها على أن الخروج هنا لاينقص أجرا ولا يوقع في الإثم) ثم إنّ الإتيان إلى المحل الشريف من المحل البعيد مُشْعِر بنهاية تعظيمه وكمال تشريفه ، فقصد التنبيه على الحكم مقرونا بعلته ، وهذا هو المذهب الكلامي عند البيانيين.
ولو قيل : ثم قفوا ، لما أشعر بالانتقال والرجوع من الحل إلى الحرم بعد الخروج منه ، فعبر بالإفاضة التي من شأنها أن لاتكون (إلا بعد) وقوف لإشعارها بالانتقال من المحل البعيد وهو عرفة لأنه في الحل إلى هذا الحرم الشريف تكريما له وإجلالا ، فالإفاضة مستلزمة للرجوع إلى الحرم ، ومشعرة بالوقوف المستلزم للخروج من الحرمِ إلى الحل.
قيل لابن عرفة : أو يجاب بأنه عبر بالإفاضة للمناسبة بينه وبين لفظه في أول الآية والله أعلم.أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 255}
قوله تعالى {وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}
قال البقاعى :
(4/409)
{ واستغفروا الله} أي اطلبوا من ذي الجلال والإكرام أن يغفر لكم ما كنتم تفعلونه أيام جاهليتكم من مخالفة الهدى في الوقوف وما يبقى في الأنفس من آثار تلك العادة ومن غير ذلك من النقائص التي يعلمها الله منكم. قال الحرالي : والعادات أشد ما على المتعبدين والطريق إلى الله تعالى بخلعها ، وقد كان جدالهم أي في وقوفهم في الحرم بغير علم لأن العلم يقتضي أن الواقف خائف والخائف لا يخاف في الحرم لأن الله سبحانه وتعالى جعل الحرم آمناً ، فمن حق الوقوف أن يكون في الحل فإذا أمن دخل الحرم وإذا دخل الحرم أمن - انتهى. وأظهر الاسم الشريف تعريفاً للمقام وإعلاماً بأنه موصوف بما يصفه به على وجه العموم من غير نظر إلى قيد ولا حيثية فقال : {إن الله} ذا الكمال {غفور} أي ستور ذنب من استغفره {رحيم} أي بليغ الرحمة يدخل المستغفر في جملة المرحومين الذين لم يبد منهم ذنب فهو يفعل بهم من الإكرام فعل الراحم بالمرحوم ليكون التائب من الذنب كمن لا ذنب له.أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 378 ـ 379}
وقال الثعالبى :
وأمر عز وجل بالاستغفار ؛ لأنها مواطنه ، ومظَانُّ القبولِ ، ومساقطُ الرحْمَةِ ، وفي الحديث أنَّ رسولَ اللَّه صلى الله عليه وسلم خَطَب عشيَّة عَرَفَةَ ، فقال : "أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ فِي مَقَامِكُمْ هَذَا ، فَقَبِلَ مِنْ مُحْسِنِكُمْ وَوَهَبَ مُسِيئَكُمْ لِمُحْسِنِكُمْ ، إِلاَّ التَّبِعَاتِ فِيمَا بَيْنَكُمْ ، أَفِيضُوا عَلَى اسم اللَّهِ" ، فَلَمَّا كَانَ غَدَاةَ جَمْعٍ ، خَطَبَ ، فَقَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ ، إِنَّ اللَّهَ تَطَاوَلَ عَلَيْكُمْ ، فَعَوَّضَ التَّبِعَاتِ مِنْ عِنْدِهِ ". أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 158}(4/410)
قال السمين :
فائدة
قوله : {وَاسْتَغْفِرُواْ اللَّهَ} "استغفر" يتعدَّى لاثنين أولُهما بنفسِه ، والثاني "بـ"مِنْ" ، نحو : استغفرتُ الله من ذنبي ، وقد يُحْذَفُ حرفُ الجر كقولِه :
أستغفرُ اللهَ ذنباً لستُ مُحْصِيَه ربُّ العبادِ إليه الوجهُ والعَمَلُ
هذا مذهبُ سيبويه وجمهورِ الناس. وقال ابن الطراوة : إنه لا يتعدَّى إليهما بنفسِه أصالةً ، وإنما يتعدَّى بـ"من" لتضمُّنه معنى ما يتعدَّى بها ، فعنده "استغفرت الله من كذا" بمعنى تُبْت إليه من كذا ، ولم يَجِىءْ "استغفر" في القرآن متعدِّياً إلاَّ للأولِ فقط ، فأمَّا قولُه تعالى : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} {وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ}{فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} فالظاهرُ أنَّ هذه اللامَ لامُ العلةِ لا لامُ التعديةِ ، ومجرورُها مفعولٌ من أجلِه لا مفعولٌ به. وأمّا "غَفَر" فَذُكِرَ مفعولُه في القرآنِ تارةً : {وَمَن يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ} ، وحُذِف أخرى : {وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ}. والسين في "استغفر" للطلبِ على بابها. والمفعولُ الثاني هنا محذوفٌ للعلم به ، أي : مِنْ ذنوبكم التي فَرَطَتْ منكم.أ هـ {الدر المصون حـ 2 صـ 336 ـ 337}
كلام نفيس للعلامة الفخر :
أما قوله تعالى : {واستغفروا الله} فالمراد منه الاستغفار باللسان مع التوبة بالقلب ، وهو أن يندم على كل تقصير منه في طاعة الله ويعزم على أن لا يقصر فيما بعد ، ويكون غرضه في ذلك تحصيل مرضات الله تعالى لا لمنافعه العاجلة كما أن ذكر الشهادتين لا ينفع إلا والقلب حاضر مستقر على معناهما ، وأما الاستغفار باللسان من غير حصول التوبة بالقلب فهو إلى الضرر أقرب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 155}
موعظة
قال العلامة ابن القيم :
ومن أنصف نفسه وعرف أعماله استحى من الله أن يواجهه بعمله أو يرضاه لربه وهو يعلم من نفسه أنه لو عمل لمحبوب له من الناس لبذل فيه نصحه ولم يدع من حسنه شيئا إلا فعله(4/411)
وبالجملة فهذا حال هذا العبد مع ربه في جميع أعماله فهو يعلم أنه لا يوفي هذا المقام حقه فهو أبدا إذا سلم من الصلاة استغفر الله ثلاثا وقال تعالى {وبالأسحار هم يستغفرون} قال الحسن : مدوا الصلاة إلى السحر ثم جلسوا يستغفرون ربهم وقال تعالى {ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم} فأمر سبحانه بالاستغفار بعد الوقوف بعرفة والمزدلفة وشرع للمتوضىء أن يقول بعد وضوئه : اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين ، فهذه توبة بعد الوضوء وتوبة بعد الحج وتوبة بعد الصلاة وتوبة بعد قيام الليل ، فصاحب هذا المقام مضطر إلى التوبة والاستغفار كما تبين فهو لا يزال مستغفرا تائبا وكلما كثرت طاعاته كثرت توبته واستغفاره.أ هـ {طريق الهجرتين صـ 333 ـ 334}
فائدة
قال السعدى :
ينبغي للعبد ، كلما فرغ من عبادة ، أن يستغفر الله عن التقصير ، ويشكره على التوفيق ، لا كمن يرى أنه قد أكمل العبادة ، ومن بها على ربه ، وجعلت له محلا ومنزلة رفيعة ، فهذا حقيق بالمقت ، ورد الفعل ، كما أن [ص 93] الأول ، حقيق بالقبول والتوفيق لأعمال أخر.أ هـ {تفسير السعدى صـ 92}
سؤال : فإن قيل : كيف أمر بالاستغفار مطلقاً ، وربما كان فيهم من لم يذنب فحينئذ لا يحتاج إلى الاستغفار ؟ .(4/412)
والجواب : أنه إن كان مذنباً فالاستغفار واجب ، وإن لم يذنب إلا أنه يجوز من نفسه أنه قد صدر عنه تقصير في أداء الواجبات ، والاحتراز عن المحظورات ، وجب عليه الاستغفار أيضاً تداركاً لذلك الخلل المجوز ، وإن قطع بأنه لم يصدر عنه ألبتة خلل في شيء من الطاعات ، فهذا كالممتنع في حق البشر ، فمن أين يمكنه هذا القطع في عمل واحد ، فكيف في أعمال كل العمر ، إلا أن بتقدير إمكانه فالإستغفار أيضاً واجب ، وذلك لأن طاعة المخلوق لا تليق بحضرة الخالق ، ولهذا قالت الملائكة : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك ، فكان الإستغفار لازماً من هذه الجهة ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " إنه ليغان على قلبي وإني لأستغفر الله في اليوم والليلة سبعين مرة ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 155 ـ 156}
بحث نفيس للعلامة ابن القيم يتعلق بهذا الموضوع
قال رحمه الله :
فإن قيل فما وجه خوف الملائكة وهم معصومون من الذنوب التي هي أسباب المخافة وشدة خوف النبي مع علمه بأن الله قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر وأنه أقرب الخلق إلى الله قيل عن هذا أربعة أجوبه(4/413)
الجواب الأول أن هذا الخوف على حسب القرب من الله والمنزلة عنده وكلما كان العبد أقرب إلى الله كان خوفه منه أشد لأنه يطالب بما لا يطالب به غيره ويجب عليه من رعاية تلك المنزلة وحقوقها ما لا يجب على غيره ونظير هذا في المشاهد أن الماثل بين يدي أحد الملوك المشاهد له أشد خوفا منه من البعد عنه بحسب قربه منه ومنزلته عنده ومعرفته به وبحقوقه وأنه يطالب من حقوق الخدمة وأدائها بما لا يطالب به غيره فهو أحق بالخوف من البعيد ومن تصور هذا حق تصوره فهم قوله إني أعلمكم بالله وأشدكم له خشية وفهم قوله في الحديث الذي رواه أبو داود وغيره من حديث زيد بن ثابت عن النبي أنه قال إن الله تعالى لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم ولو رحمهم كانت رحمته لهم خيرا من أعمالهم وليس المراد به لو عذبهم لتصرف في ملكه والمتصرف في ملكه غير ظالم كما يظنه كثير من الناس فإن هذا يتضمن مدحا والحديث إنما سيق للمدح بغير استحقاق فإن حقه سبحانه عليهم أضعاف أضعاف ما أتوا ولهذا قال بعده ولو رحمهم كانت رحمته خيرا لهم من أعمالهم يعني أن رحمته لهم ليست على قدر أعمالهم إذ أعمالهم لا تستقبل باقتضاء الرحمة وحقوق عبوديته وشكره التي يستحقها عليهم لم يقوموا بها فلو عذبهم والحالة هذه لكان تعذيبا لحقه وهو غير ظالم لهم فيه ولا سيما فإن أعمالهم لا توازي القليل من نعمه عليهم فتبقى نعمه الكثيرة لا مقابل لها من شكرهم فإذا عذبهم على ترك شكرهم وأداء حقه الذي ينبغي له سبحانه عذبهم ولم يكن ظالما لهم
فإن قيل فهم إذا فعلوا مقدورهم من شكره وعبوديته لم يكن ما عداه مما ينبغي له مقدورا لهم فكيف يحسن العذاب عليه قيل الجواب من وجهين
(4/414)
أحدهما أن المقدور للعبد لا يأتي به كله بل لا بد من فتور وإعراض وغفلة وتوان وأيضا ففي نفس قيامه بالعبودية لا يوفيها حقها الواجب لها من كمال المراقبة والإجلال والتعظيم والنصيحة التامة لله فيها بحيث يبذل مقدوره كله في تحسينها وتكميلها ظاهرا وباطنا فالتقصير لازم في حال الترك وفي حال الفعل ولهذا سأل الصديق النبي دعاء يدعو به في صلاته فقال له قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلما كثيرا ولا يغفر الذنوب إلا أنت فاغفر لي مغفرة من عندك وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم فأخبر عن ظلمه لنفسه مؤكدا له بأن المقتضية ثبوت الخبر وتحققه ثم أكده بالمصدر النافي للتجوز والاستعارة ثم وصفه بالكثرة المقتضية لتعدده وتكثره ثم قال فاغفر لي مغفرة من عندك أي لا ينالها عملي ولا سعيي بل عملي يقصر عنها وإنما هي من فضلك وإحسانك لا بكسبي ولا باستغفاري وتوبتي ثم قال وارحمني أي ليس معولي إلا على مجرد رحمتك فإن رحمتني وإلا فالهلاك لازم لي فليتدبر اللبيب هذا الدعاء وما فيه من المعارف والعبودية وفي ضمنه أنه لو عذبتني لعدلت في ولم تظلمني وإني لا أنجو إلا برحمتك ومغفرتك ومن هذا قوله لن ينجي أحدا منكم عمله قالوا ولا أنت يا رسول الله قال ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل فإذا كان عمل العبد لا يستقل بالنجاة فلو لم ينجه الله فلم يكن قد بخسه شيئا من حقه ولا ظلمه فإنه ليس معه ما يقتضي نجاته وعمله ليس وافيا بشكر القليل من نعمه فهل يكون ظالما لو عذبه وهل تكون رحمته له جزاء لعمله ويكون العمل ثمنا لها مع تقصيره فيه وعدم توفيته ما ينبغي له من بذل النصيحة فيه وكمال العبودية من الحياء والمراقبة والمحبة والخشوع وحضور القلب بين يدي الله في العمل له ومن علم هذا علم السر في كون أعمال الطاعات تختم بالاستغفار ففي صحيح مسلم عن ثوبان قال كان رسول الله إذا سلم من صلاته استغفر ثلاثا وقال اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال(4/415)
والإكرام قال تعالى كانوا قليلا من الليل ما يهجعون وبالأسحار هم يستغفرون فأخبر عن استغفارهم عقيب صلاة الليل قال الحسن مدوا الصلاة إلى السحر فلما كان السحر جلسوا يستغفرون الله وأمر الله تعالى عباده بالاستغفار عقيب الإفاضة في الحج فقال ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس واستغفروا الله إن الله غفور رحيم وشرع رسول الله للمتوضىء أن يختم وضوءه بالتوحيد والاستغفار فيقول أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا عبده ورسوله اللهم اجعلني من التوابين واجعلني من المتطهرين فهذا ونحوه مما يبين حقيقة الأمر وأن كل أحد محتاج إلى مغفرة الله ورحمته وأنه لا سبيل إلى النجاة بدون مغفرته ورحمته أصلا
الجواب الثاني أنه لو فرض أن العبد يأتي بمقدوره كله من الطاعة ظاهرا وباطنا فالذي ينبغي لربه فوق ذلك وأضعاف أضعافه فإذا عجز العبد عنه لم يستحق ما يترتب عليه من الجزاء والذي أتى به لا يقابل أقل النعم فإذا حرم جزاء العمل الذي ينبغي للرب من عبده كان ذلك تعذيبا له ولم يكن الرب ظالما له في هذا الحرمان ولو كان عاجزا عن أسبابه فإنه لم يمنعه حقا يستحقه عليه فيكون ظالما بمنعه فإذا أعطاه الثواب كان مجرد صدقة منه وفضل تصدق بها عليه لا ينالها عمله بل هي خير من عمله وأفضل وأكثر ليست معوضة عليه والله أعلم
(4/416)
الجواب الثالث عن السؤال الأول أن العبد إذا علم أن الله سبحانه وتعالى هو مقلب القلوب وأنه يحول بين المرءوقلبه وأنه تعالى كل يوم هو في شأن يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد وأنه يهدي من يشاء ويضل من يشاء ويرفع من يشاء ويخفض من يشاء فما يؤمنه أن يقلب الله قلبه ويحول بينه وبينه ويزيغه بعد إقامته وقد أثنى الله على عباده المؤمنين بقولهم بنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا فلولا خوف الإزاغة لما سألوه أن لا يزيغ قلوبهم وكان من داء النبي اللهم مصرف القلوب صرف قلوبنا على طاعتك ومثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك وفي الترمذي عنه أنه يدعو أعوذ بعزتك أن تضلني أنت الحي الذي لا تموت وكان من دعائه اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك وأعوذ بمعافاتك من عقوبتك وأعوذ بك منك فاستعاذ بصفة الرضا من صفة الغضب وبفعل العافية من فعل العقوبة واستعاذ به منه باعتبارين وكأن في استعاذته منه جمعا لما فصله في الجملتين قبله فإن الاستعاذة به منه ترجع إلى معنى الكلام قبلها مع تضمنها فائدة شريفة وهي كمال التوحيد وأن الذي يستعيذ به العائذ ويهرب منه إنما هو فعل الله ومشيئته وقدره فهو وحده المنفرد بالحكم فإذا أراد بعبده سوءا لم يعذه منه إلا هو فهو الذي يريد به ما يسوؤه وهو الذي يريد دفعه عنه فصار سبحانه مستعاذا به منه باعتبار الإرادتين وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو فهو الذي يمس بالضر وهو الذي يكشفه لاإله إلا هو فالمهرب منه إليه والفرار منه إليه واللجأ منه إليه كما أن الاستعاذة منه فإنه لا رب غيره ولا مدبر للعبد سواه فهو الذي يحركه ويقلبه ويصرفه كيف يشاء
(4/417)
الجواب الرابع أن الله سبحانه وتعالى هو الذي خلق أفعال العبد الظاهرة والباطنة فهو الذي يجعل الإيمان والهدى في القلب ويجعل التوبة والإنابة والإقبال والمحبة والتفويض وأضدادها والعبد في كل لحظة مفتقر إلى هداية يجعلها الله في قلبه وحركات يحركها بها في طاعته وهذا إلى الله سبحانه وتعالى فهو خلقه وقدره وكان من دعاء النبي اللهم آت نفسي تقواها وزكها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها وعلم حصين بن المنذر أن يقول اللهم الهمني رشدي وقني شر نفسي /وعامة أدعيته متضمنة لطلب توفيق ربه وتزكيته له واستعماله في محابه فمن هداه وصلاحه وأسباب نجاته بيد غيره وهو المالك له ولها المتصرف فيه بما يشاء ليس من أمره شيء من أحق بالخوف منه وهب أنه قد خلق له في الحال الهداية فهل هو على يقين وعلم أن الله سبحانه وتعالى يخلقها له في المستقبل ويلهمه رشده أبدا فعلم أن خوف المقربين عند ربهم أعظم من خوف غيرهم والله المستعان.أ هـ {طريق الهجرتين صـ 430 ـ 433}
قوله تعالى : {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ }
قال العلامة الفخر :
وأما قوله تعالى : {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} قد علمت أن غفوراً يفيد المبالغة ، وكذا الرحيم ، ثم في الآية مسألتان :
المسألة الأولى : هذه الآية تدل على أنه تعالى يقبل التوبة من التائب ، لأنه تعالى لما أمر المذنب بالاستغفار ، ثم وصف نفسه بأنه كثير الغفران كثير الرحمة ، فهذا يدل قطعاً على أنه تعالى يغفر لذلك المستغفر ، ويرحم ذلك الذي تمسك بحبل رحمته وكرمه.
(4/418)
المسألة الثانية : اختلف أهل العلم في المغفرة الموعودة في هذه الآية فقال قائلون : إنها عند الدفع من عرفات إلى الجمع ، وقال آخرون : إنها عند الدفع من الجمع إلى منى ، وهذا الاختلاف مفرع على ما ذكرنا أن قوله : {ثُمَّ أَفِيضُواْ} على أي الأمرين يحمل ؟ قال القفال رحمه الله : ويتأكد القول الثاني بما روى نافع عن ابن عمر ، قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عشية يوم عرفة فقال : " يا أيها الناس إن الله عز وجل يطلع عليكم في مقامكم هذا ، فقبل من محسنكم ووهب مسيئكم لمحسنكم ، والتبعات عوضها من عنده أفيضوا على اسم الله " فقال أصحابه : يا رسول الله أفضت بنا بالأمس كئيباً حزيناً وأفضت بنا اليوم فرحاً مسروراً ، فقال عليه الصلاة والسلام : " إني سألت ربي عز وجل بالأمس شيئاً لم يجد لي به : سألته التبعات فأبى علي به فلما كان اليوم أتاني جبريل عليه السلام فقال : إن ربك يقرئك السلام ويقول لك : التبعات ضمنت عوضها من عندي " اللهم اجعلنا من أهله بفضلك يا أكرم الأكرمين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 156}
( بصيرة فى الاستغفار )
وقد ورد على ثلاثة أَوجهٍ :
الأَوّل : بمعنى الرّجوع عن الشرك ، والكفر : {فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً} ، {وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ}.
الثَّانى : بمعنى الصّلاة : {وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} أَى المصلِّين.
الثالث : بمعنى طلب غفران الذنوب : {وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ} ، {اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ} ، {فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ}. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 2 صـ 117}
تم الجزء الرابع من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الخامس وأوله قوله تعالى : {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)}(4/419)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء الخامس
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{ يا قوم لا أسألكم عليه أجرا }(5/3)
الجزء الخامس
من الآية {200} من سورة البقرة
وحتى الآية {219} من نفس السورة(5/4)
قوله تعالى : {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آَبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أمرهم بالذكر في المناسك وكان الإنسان فيها بصدد الذكر أمرهم بالذكر بعد قضائها لأن من فرغ من العبادة كان بصدد أن يستريح فيفتر عن الذكر إلى غيره وكانت عادتهم أن يذكروا بعد فراغهم مفاخر آبائهم فقال : {فإذا قضيتم} أي أنهيتم إنهاء بيناً لا شبهة فيه {مناسككم} أي أركان الحج ، وأعاد الاسم الأعظم بمثل ما مضى من التعظيم وتعميم الذكر في جميع الوجوه فقال : {فاذكروا الله} الذي لا نعمة عليكم إلا منه وهو الذي هداكم ، ذكراً {كذكركم آباءكم} لكونهم أحسنوا إليكم بالتربية التي هي في الحقيقة من فضل الله تعالى ، على أنهم فعلوا بكم كل محنة لا توازيها نعمة فإنهم أضلوكم ، فسبحان من رضي وهو المنعم المطلق الهادي بأن يذكر مثل ذكر من كان سبباً لنعمة خاصة هو سبحان الذي أفاضها عليه مع أنه كان سبباً في الضلال!
قال الحرالي : فانتظم ذكر إخراجهم عن قولهم المعهود بإخراجهم عن موقفهم المعهود إخراجاً لهم عن معتادهم في أعمالهم وأحوالهم ، وفي إعلامه أخذ للخلق بأن يعاملوا الحق معاملة من يجلونه من الخلق وذلك عن بلية ما غلب عليهم من التقيد بما يرون وضعف الإيمان بما سمعوا أو علموا.
(5/5)
ولما كان في هذه التربية بخس جرى عليه هذا الخطاب كما ورد "استحي من الله كما تستحيي رجلاً جليلاً من قومك "قال تعالى : {أو أشد ذكراً} انتهى. أي اذكروا الله ذكراً أعلى من ذلك بأن تذكروه ذكراً أشد من ذكركم لآبائكم لما له من الفضل العام ، ومما يدخل تحت هذا الذكر أن يأنف من أن يكون لله في عبادته أو شيء من أموره شريك كما يستنكف ابن أن يكون لأبيه فيه شريك بل يكون في أمر الشرك أشد أنفة. قال الحرالي : فرفع الخطاب إلى ما هو أليق بالحق من إيثار ما يرجع إليه على ما يرجع إلى الخلق انتهى.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 379}
قال الفخر :
روى ابن عباس أن العرب كانوا عند الفراغ من حجتهم بعد أيام التشريق يقفون بين مسجد منى وبين الجبل ، ويذكر كل واحد منهم فضائل آبائه في السماحة والحماسة وصلة الرحم ، ويتناشدون فيها الأشعار ، ويتكلمون بالمنثور من الكلام ، ويريد كل واحد منهم من ذلك الفعل حصول الشهرة والترفع بمآثر سلفه ، فلما أنعم الله عليهم بالإسلام أمرهم أن يكون ذكرهم لربهم كذكرهم لآبائهم ، وروى القفال في "تفسيره" عن ابن عمر قال : طاف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ على راحلته القصوى يوم الفتح يستلم الركن بمحجنه ثم حمد الله وأثنى عليه ثم قال : "أما بعد أيها الناس إن الله قد أذهب عنكم حمية الجاهلية وتفككها ، يا أيها الناس إنما الناس رجلان بر تقي كريم على الله أو فاجر شقي هين على الله ثم تلا {يا أَيُّهَا الناس إِنَّا خلقناكم مّن ذَكَرٍ وأنثى} {الحجرات : 13 ] أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم "وعن السدي أن العرب بمنى بعد فراغهم من الحج كان أحدهم يقول : اللهم إن أبي كان عظيم الجفنة ، عظيم القدر ، كثير المال ، فأعطني مثل ما أعطيته ، فأنزل الله تعالى هذه الآية.أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 156}
فائدة لغوية(5/6)
المناسك جمع مَنْسَك مشتق من نسك نَسْكاً من باب نصر إذا تعبد وقد تقدم في قوله تعالى : {وأرنا مناسكنا} {البقرة : 128 ] فهو هنا مصدر ميمي أو هو اسم مكان والأول هو المناسب لقوله : {قضيتم} ؛ لئلا نحتاج إلى تقدير مضاف أي عبادات مناسككم.أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 244}
فائدة
قال الفخر :
اعلم أن القضاء إذا علق بفعل النفس ، فالمراد به الإتمام والفراغ ، وإذا علق على فعل الغير فالمراد به الإلزام ، نظير الأول قوله تعالى : {فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سموات فِى يَوْمَيْنِ} {فصلت : 12 ] {فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة} {الجمعة : 10 ] وقال عليه الصلاة والسلام : "وما فاتكم فاقضوا "ويقال في الحاكم عند فصل الخصومة قضى بينهما ، ونظير الثاني قوله تعالى : {وقضى رَبُّكَ} {الإسراء : 23 ] وإذا استعمل في الإعلام ، فالمراد أيضاً ذلك كقوله : {وَقَضَيْنَا إلى بَنِى إسرائيل فِى الكتاب} {الإسراء : 4 ] يعني أعلمناهم.
إذا ثبت هذا فنقول : قوله تعالى : {فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم} لا يحتمل إلا الفراغ من جميعه خصوصاً وذكر كثير منه قد تقدم من قبل ، وقال بعضهم : يحتمل أن يكون المراد : اذكروا الله عند المناسك ويكون المراد من هذا الذكر ما أمروا به من الدعاء بعرفات والمشعر الحرام والطواف والسعي ويكون قوله : {فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم فاذكروا الله} كقول القائل إذا حججت فطف وقف بعرفة ولا يعني به الفراغ من الحج بل الدخول فيه ، وهذا القول ضعيف لأنا بينا أن قوله : {فَإِذَا قَضَيْتُم مناسككم} مشعر بالفراغ والإتمام من الكل ، وهذا مفارق لقول القائل : إذا حججت فقف بعرفات ، لأن مراده هناك الدخول في الحج لا الفراغ ، وأما هذه الآية فلا يجوز أن يكون المراد منها إلا الفراغ من الحج.أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 156}
قوله تعالى {فاذكروا الله }
قال العلامة الفخر :(5/7)
الفاء في قوله : {فاذكروا الله} يدل على أن الفراغ من المناسك يوجب هذا الذكر ، فلهذا اختلفوا في أن هذا الذكر أي ذكر هو ؟ فمنهم من حمله على الذكر على الذبيحة ، ومنهم من حمله على الذكر الذي هو التكبيرات بعد الصلاة في يوم النحر وأيام التشريق ، على حسب اختلافهم في وقته أولاً وآخراً ، لأن بعد الفراغ من الحج لا ذكر مخصوص إلا هذه التكبيرات ، ومنهم من قال : بل المراد تحويل القوم عما اعتادوه بعد الحج من ذكر التفاخر بأحوال الآباء لأنه تعالى لو لم ينه عن ذلك بإنزال هذه الآية لم يكونوا ليعدلوا عن هذه الطريقة الذميمة ، فكأنه تعالى قال : فإذا قضيتم وفرغتم من واجبات الحج وحللتم فتوفروا على ذكر الله دون ذكر الآباء ، ومنهم من قال : بل المراد منه أن الفراغ من الحج يوجب الإقبال على الدعاء والاستغفار ، وذلك لأن من تحمل مفارقة الأهل والوطن وإنفاق الأموال ، والتزام المشاق في سفر الحج فحقيق به بعد الفراغ منه أن يقبل على الدعاء والتضرع وكثرة الاستغفار والانقطاع إلى الله تعالى ، وعلى هذا جرت السنة بعد الفراغ من الصلاة بالدعوات الكثيرة وفيه وجه خامس وهو أن المقصود من الاشتغال بهذه العبادة : قهر النفس ومحو آثار النفس والطبيعة ثم هذا العزم ليس مقصوداً بالذات بل المقصود منه أن تزول النقوش الباطلة عن لوح الروح حتى يتجلى فيه نور جلال الله ، والتقدير : فإذا قضيتم مناسككم وأزلتم آثار البشرية ، وأمطتم الأذى عن طريق السلوك فاشتغلوا بعد ذلك بتنوير القلب بذكر الله ، فالأول نفي والثاني إثبات والأول إزالة ما دون الحق من سنن الآثار والثاني استنارة القلب بذكر الملك الجبار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 156}
وقال العلامة الطبرى بعد أن ذكر هذه الأقوال فى المراد بالذكر : (5/8)
والصواب من القول عندي في تأويل ذلك أن يقال : إن الله جل ثناؤه أمرَ عباده المؤمنين بذكره بالطاعة له في الخضوع لأمره والعبادة له ، بعد قَضاء مَناسكهم. وذلك"الذكر" جائز أن يكون هو التكبير الذي أمرَ به جل ثناؤه بقوله : ( وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ ) {سورة البقرة : 203 ] الذي أوجبه على من قضى نُسكه بعد قضائه نُسكه ، فألزمه حينئذ مِنْ ذِكْره ما لم يكن له لازمًا قبل ذلك ، وحثَّ على المحافظة عليه مُحافظة الأبناء على ذكر الآباء في الآثار منه بالاستكانة له والتضرع إليه بالرغبة منهم إليه في حوائجهم كتضرُّع الولد لوالده ، والصبي لأمه وأبيه ، أو أشد من ذلك ، إذ كان ما كان بهم وبآبائهم من نعمة فمنه ، وهو وليه.
وإنما قلنا : "الذكر" الذي أمر الله جل ثناؤه به الحاجَّ بعد قضاء مَناسكه بقوله : " فإذا قضيتم مناسككم فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكرًا" : "جائزٌ أن يكون هو التكبير الذي وَصفنا" ، من أجل أنه لا ذكر لله أمرَ العباد به بعد قَضاء مَناسكهم لم يكن عليهم من فرضه قبل قضائهم مناسكهم ، سوى التكبير الذي خصَّ الله به أيام منى.
فإذ كان ذلك كذلك ، وكان معلومًا أنه جل ثناؤه قد أوجبَ على خلقه بعد قَضائهم مناسكهم من ذكره ما لم يكن واجبًا عليهم قبل ذلك ، وكان لا شيء من ذكره خَصّ به ذلك الوقت سوى التكبير الذي ذكرناه
كانت بَيِّنةً صحةُ ما قلنا من تأويل ذلك على ما وصفنا.
أ هـ {تفسير الطبرى حـ 4 صـ 200}
فائدة
(5/9)
قال النوويُّ في "حليته" : والمرادُ من الذِّكْر حضورُ القَلْب ، فينبغي أن يكون هو مقصودَ الذاكر ، فيحرص على تحصيله ، ويتدبَّر ما يذكر ، ويتعقَّل معناه ، فالتدبُّر في الذكْر مطلوبٌ ؛ كما هو مطلوب في القراءة ؛ لاشتراكهما في المعنَى المقصود ، ولهذا كان المذهبُ الصحيحُ المختارُ استحبابَ مَدِّ الذاكرِ قوله : "لاَ إِلَهَ إِلاَّ اللَّهُ" ، لما فيه من التدبُّر ، وأقوالُ السلفِ ، وأئمةِ الخَلَف في هذا مشهورةٌ. انتهى.
قال الشيخُ العارفُ أبو عبد اللَّه محمَّد بن أحمد الأنصاريُّ الساحليُّ المَالقِيُّ : ومنفعةُ الذكْرِ أبداً إِنما هي تَتْبع معناه بالفكْرِ ؛ ليقتبس الذاكِرُ من ذُكْرِهِ أنوار المعرفة ، ويحصل على اللُّبِّ المراد ، ولا خير في ذِكْرٍ مع قَلْبٍ غافلٍ ساهٍ ، ولا مع تضْييعِ شيءٍ من رسوم الشرعِ ، وقال في موضعٍ آخر من هذا الكتاب الذي ألَّفه في "السُّلوك" : ولا مَطْمع للذَّاكر في دَرْكِ حقائقِ الذِّكْرِ إِلا بإِعمال الفكْر فيما تحْت ألفاظ الذكْر من المعانِي ، وليدفع خَطَرات نفْسه عن باطنه راجِعاً إِلى مقتضى ذكْره ؛ حتى يغلب معنى الذكْر على قلبه ، وقد آن له أنْ يدخل في دائرة أهْل المحاضَرَات. انتهى. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 159}
سؤال : لم أعاد الأمر بالذكر فى قوله {فاذكروا الله} ؟
الجواب : أعاد الأمر بالذكر بعد أن أمر به وبالاستغفار تحضيضاً عليه وإبطالاً لما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال بفضول القول والتفاخر ، فإنه يجر إلى المراء والجدال ، والمقصد أن يكون الحاج منغمساً في العبادة فعلاً وقولاً واعتقاداً. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 245}
قوله تعالى : {كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ }
قال الإمام الفخر : (5/10)
أما قوله تعالى : {كَذِكْرِكُمْ ءَابَاءَكُمْ} ففيه وجوه أحدها : وهو قول جمهور المفسرين : أنا ذكرنا أن القوم كانوا بعد الفراغ من الحج يبالغون في الثناء على آبائهم في ذكر مناقبهم وفضائلهم فقال الله سبحانه وتعالى : {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءَأَبَاءَكُمْ} يعني توفروا على ذكر الله كما كنتم تتوفرون على ذكر الآباء وابذلوا جهدكم في الثناء على الله وشرح آلائه ونعمائه كما بذلتم جهدكم في الثناء على آبائكم لأن هذا أولى وأقرب إلى العقل من الثناء على الآباء ، فإن ذكر مفاخر الآباء إن كان كذباً فذلك يوجب الدناءة في الدنيا والعقوبة في الآخرة وإن كان صدقاً فذلك يوجب العجب والكبر وكثرة الغرور ، وكل ذلك من أمهات المهلكات ، فثبت أن اشتغالكم بذكر الله أولى من اشتغالكم بمفاخر آبائكم ، فإن لم تحصل الأولوية فلا أقل من التساوي
وثانيها : قال الضحاك والربيع : اذكروا الله كذكركم آباءكم وأمهاتكم ، واكتفى بذكر الآباء عن الأمهات كقوله : {سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر} {النحل : 81 ] قالوا وهو قول الصبي أول ما يفصح الكلام أبه أبه ، أمه أمه ، أي كونوا مواظبين على ذكر الله كما يكون الصبي في صغره مواظباً على ذكر أبيه وأمه
وثالثها : قال أبو مسلم : جرى ذكر الآباء مثلاً لدوام الذكر ، والمعنى أن الرجل كما لا ينسى ذكر أبيه فكذلك يجب أن لا يغفل عن ذكر الله
ورابعها : قال ابن الأنباري في هذه الآية : إن العرب كان أكثر أقسامها في الجاهلية بالآباء كقوله وأبي وأبيكم وجدي وجدكم ، فقال تعالى : عظموا الله كتعظيمكم آبائكم
(5/11)
وخامسها : قال بعض المذكورين : المعنى اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية فإن الواحد منهم لو نسب إلى والدين لتأذى واستنكف منه ثم كان يثبت لنفسه آلهة فقيل لهم : اذكروا الله بالوحدانية كذكركم آبائكم بالوحدانية ، بل المبالغة في التوحيد ههنا أولى من هناك ، وهذا هو المراد بقوله : {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }
وسادسها : أن الطفل كما يرجع إلى أبيه في طلب جميع المهمات ويكون ذاكراً له بالتعظيم ، فكونوا أنتم في ذكر الله كذلك
وسابعها : يحتمل أنهم كانوا يذكرون آباءهم ليتوسلوا بذكرهم إلى إجابة الدعاء عند الله فعرفهم الله تعالى أن آباءهم ليسوا في هذه الدرجة إذ أفعالهم الحسنة صارت غير معتبرة بسبب شركهم وأمروا أن يجعلوا بدل ذلك تعديد آلاء الله ونعمائه وتكثير الثناء عليه ليكون ذلك وسيلة إلى تواتر النعم في الزمان المستقبل ، وقد نهى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أن يحلفوا بآبائهم فقال : "من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت "إذا كل ما سوى الله فإنما هو لله وبالله فالأولى تعظيم الله تعالى ولا إله غيره
وثامنها : روي عن ابن عباس أنه قال في تفسير هذه الآية : هو أن تغضب لله إذا عصى أشد من غضبك لوالدك إذا ذكر بسوء.
واعلم أن هذه الوجوه وإن كانت محتملة إلا أن الوجه الأول هو المتعين وجميع الوجوه مشتركة في شيء واحد ، وهو أنه يجب على العبد أن يكون دائم الذكر لربه دائم التعظيم له دائم الرجوع إليه في طلب مهماته دائم الانقطاع عمن سواه ، اللهم اجعلنا بهذه الصفة يا أكرم الأكرمين.أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 156}
قال ابن عاشور :
عن السدي : كان الرجل يقوم فيقول : اللهم إن أبي كان عظيم القبة عظيم الجفنة كثير المال فأعطني مثل ما أعطيته ، فلا يذكر غير أبيه وذكر أقوالاً نحواً من ذلك.(5/12)
والمراد تشبيه ذكر الله بذكر آبائهم في الكثرة والتكرير وتعمير أوقات الفراغ به وليس فيه ما يؤذن بالجمع بين ذكر الله وذكر الآباء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 245}
لطيفة
سئل أبو يعقوب المكى كيف تذكر الحق كذكر الأب ؟
فقال : اعلم أنه إذا ضربك فإنه أدبك لحبه لك ، وإذا سلبك فاعلم أنه أعطاك بقربه منك ، وليس يسعك سوء الظن به لشفقته عليك. أ هـ {عرائس البيان صـ 71}.
قوله تعالى : {أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا }
قال ابن عاشور :
وقوله : {أو أشد ذكرا} أصل أو أنها للتخيير ولما كان المعطوف بها في مثل ما هنا أولى بمضمون الفعل العامل في المعطوف عليه أفادت ( أو ) معنى من التدرج إلى أعلى ، فالمقصود أن يذكروا الله كثيراً ، وشبه أولاً بذكر آبائهم تعريضاً بأنهم يشتغلون في ذلك المناسك بذكر لا ينفع وأن الأجدر بهم أن يعوضوه بذكر الله فهذا تعريض بإبطال ذكر الآباء بالتفاخر. ولهذا قال أبو علي الفارسي وابن جنى : إن ( أو ) في مثل هذا للإضراب الانتقالي ونفَيَا اشتراط تقدم نفي أو شبهه واشتراط إعادة العامل. وعليه خُرج قوله تعالى :
{ وأرسلناه إلى مائة ألف أو يزيدون} {الصافات : 147 ] ، وعلى هذا فالمراد من التشبيه أولاً إظهار أن الله حقيق بالذكر هنالك مثل آبائِهم ثم بين بأن ذكر الله يكون أشد لأنه أحق بالذكر.(5/13)
و ( أشد ) لا يخلو عن أن يكون معطوفاً على مصدر مقدر منصوب على أنه مفعول مطلق بعد قوله {كذكركم آباءكم} تقديره : {كذكركم آباءكم} فتكون فتحة {أشد} التي في آخره فتحة نصب ، فنصبه بالعطف على المصدر المحذوف الذي دل عليه قوله {كذكركم} والتقدير : ذكراً كذكركم آباءكم ، وعلى هذا الوجه فنصب {ذكراً} يظهر أنه تمييز لأشد ، وإذ قد كان ( أشد ) وصفاً لذكر المقدر صار مآل التمييز إلى أنه تمييز الشيء بمرادفه وذلك ينافي القصد من التمييز الذي هو لإزالة الإبهام ، إلاّ أن مثل ذلك يقع في الكلام الفصيح وإن كان قليلاً قلة لا تنافي الفصاحة اكتفاء باختلاف صورة اللفظين المترادفين ، مع إفادة التمييز حينئذٍ توكيد المميز كما حكى سيبويه أنهم يقولون : هو أشح الناس رجلاً ، وهما خير الناس اثنين ، وهذا ما درج عليه الزجاج في "تفسيره" ، قلت : وقريب منه استعمال تمييز ( نعم ) توكيداً في قوله جرير
: ... تَزَوَّدْ مثلَ زاد أبيك فينا
(5/14)
فنِعْم الزاد زادُ أبيك زَادا... ويجوز أن يكون نصب {أشد} على الحال من ( ذكر ) الموالي له وأن أصل أشد نعت له وكان نظم الكلام : أو ذكراً أشد ، فقدم النعت فصار حالاً ، والداعي إلى تقديم النعت حينئذٍ هو الاهتمام بوصف كونه أشد ، وليتأتى إشباع حرف الفاصلة عند الوقف عليه ، وليباعد ما بين كلمات الذكر المتكررة ثلاث مرات بقدر الإمكان. أو أن يكون ( أشد ) معطوفاً على ( ذكر ) المجرور بالكاف من قوله : {كذكركم} ولا يمنع من ذلك ما قيل من امتناع العطف على المجرور بدون إعادة الجار لأن ذلك غير متفق عليه بين أئمة النحو ، فالكوفيون لا يمنعونه ووافقهم بعض المتأخرين مثل ابن مالك وعليه قراءة حمزة {واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام} {النساء : 1 ] بجر الأرحام وقد أجاز الزمخشري هنا وفي قوله تعالى : {كخشية الله أو أشد خشية} في {سورة النساء : 77 ] أن يكون العطف على المجرور بالحرف بدون إعادة الجار ، وبعض النحويين جوزه فيما إذا كان الجر بالإضافة لا بالحرف كما قاله ابن الحاجب في إيضاح المفصل} ، وعليه ففتحة {أشد} نائبة عن الكسرة ، لأن أشد ممنوع من الصرف وعلى هذا الوجه فانتصاب {ذكرا} على التمييز على نحو ما تقدم في الوجه الأول عن سيبويه والزجاج.
ولصاحب "الكشاف" تخريجان آخران لإعراب {أو أشد ذكراً} فيهما تعسف دعاه إليهما الفرار من ترادف التمييز والمميز ، ولابن جني تبعاً لشيخه أبي علي تخريج آخر ، دعاه إليه مثل الذي دعا الزمخشري وكان تخريجه أشد تعسفاً ذكره عنه ابن المنير في "الانتصاف" ، وسلكه الزمخشري في تفسير آية سورة النساء.
(5/15)
وهذه الآية من غرائب الاستعمال العربي ، ونظيرتها آية سورة النساء ، قال الشيخ ابن عرفة في "تفسيره" "وهذه مسألة طويلة عويصة ما رأيت من يفهمها من الشيوخ إلاّ ابن عبد السلام وابن الحباب وما قصر الطيبي فيها وهو الذي كشف القناع عنها هنا وفي قوله تعالى في {سورة النساء : 77 ]
{ يخشون الناس كخشية الله أو أشد خشية} وكلامه في تلك الآية هو الذي حمل التونسيين على نسخه ؛ لأني كنت عند ابن عبد السلام لما قدم الواصل بكتاب الطيبي فقلت له : ننظر ما قال : في أشد خشية} فنظرناه فوجدنا فيه زيادة على ما قال الناس فحض الشيخ إذ ذاك على نسخها اهـ ". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 246 ـ 247}
فائدة
قال ابن عرفة : هذه الآية نص في ( أنّ ) الأمر بالشيء نهي عن ضده لأنّهم قالوا : سبب نزولها أنّ قريشا الحمس كانوا يجتمعون بعد الإفاضة من عرفات فيفتخرون بأنسابهم فنزلت الآية ردا عليهم فكان الأصل أن يقال : فإذا قضيتم مناسككم لا تفتخروا بآبائكم. لكنه لو قيل ذلك لاحتمل أن يسكتوا ولا يتكلّموا بشيء ويتحدّثوا في أخبار الأوائل فيما ليس بذكر ولا فخر فأمرهم الله تعالى بذكر حتى يتناول النهي عن الاشتغال بجميع أضداده المنافية له. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 257}
لطيفة
قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ عن الذكر :
كما ختم به عمل الصيام بقوله : {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} {البقرة : 185 ] وختم به الحج في قوله : {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً} {البقرة : 200 ] وختم به الصلاة كقوله : {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِكُمْ} {النساء : 103 ](5/16)
وختم به الجمعة كقوله : {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} {الجمعة : 10 ] ولهذا كان خاتمة الحياة الدنيا وإذا كان آخر كلام العبد : أدخله الله الجنة وأما اختصاص الذاكرين بالانتفاع بآياته وهم أولو الألباب والعقول فكقوله تعالى : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَاماً وَقُعُوداً وَعَلَى جُنُوبِهِمْ} {آل عمران : 190191 ] وأما مصاحبته لجميع الأعمال واقترانه بها وأنه روحها : فإنه سبحانه قرنه بالصلاة كقوله : {وَأَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي} {طه : 14 ] وقرنه بالصيام وبالحج ومناسكه بل هو روح الحج ولبه ومقصوده كما قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : إنما جعل الطواف بالبيت والسعي بين الصفا والمروة ورمي الجمار : لإقامة ذكر الله. أ هـ {مدارج السالكين حـ 2 صـ 426 ـ 427}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
{ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} قيامٌ له بالقلب على استدامة الوقت واستغراق العمر.
ويقال كما أنَّ الأغيار يفتخرون بآبائهم ، ويستبشرون بأسلافهم فَلْيَكُنْ افتخاركم بنا واستبشاركم بنا.
ويقال إن كان لآبائكم عليكم حقُّ التربية فحقُّنا عليكم أوجب ، وأفضالنا عليكم أتم.
ويقال إن كان لأسلافكم مآثر ومناقب ، فاستحقاقنا لنعوت الجلال فوق ما لآبائكم من حسن الحال.
ويقال إنك لا تملُّ ذكر أبيك ولا تنساه على غالب أحوالك ، فاسْتَدِمْ ذِكرنا ، ولا تَعْترِضَنَّكَ ملالة أو سآمة أو نسيان.
ويقال إنْ طَعَنَ في نَسَبِكَ طاعِنٌ لم ترضَ فكذلك ما تسمع من أقاويل أهل الضلال والبِدَعِ فَذُبَّ عنَّا.
ويقال الأبُ يُذكَرُ بالحرمة والحشمة فكذلك اذكرنا بالهيبة مع ذكر لطيف القربة بحسن التربية.
(5/17)
وقال {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} ولم يقل أمهاتكم لأن الأب يُذكَر احتراماً والأم تُذكَر شفقةً عليها ، والله يَرْحَم ولا يُرْحَم.
{ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} لأن الحقَّ أحقُّ ، ولأنك قد تستوحش كثيراً عن أبيك ، والحقُّ سبحانه مُنَزَّهٌ عن أن يخطر ببال من يعرفه أنه بخلاف ما يقتضي الواجب حتى إن كان ذرة. وقوله {كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ} الأب على ما يستحقه والرب على ما يستحقه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 167 ـ 168}
قوله تعالى {فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آَتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآَخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما أمر تعالى بما أمر من ذكره لذاته ثم لإحسانه على الإطلاق ثم قيد بإفراده بذلك وترك ذكر الغير سبب عنه تقسيم الناس في قبول الأمر فقال صارفاً من القول عن الخطاب دلالة على العموم : {فمن الناس من} تكون الدنيا أكبر همه فلا التفات له إلى غيرها فهو {يقول} أفرد الضمير رعاية للفظ من بشارة بأن الهالك في هذه الأمة إن شاء الله قليل {ربنا} أيها المحسن إلينا {آتنا في الدنيا} ومفعوله محذوف تقديره : ما نريد - {و} الحال أنه {ما له} ويجوز أن يكون عطفاً على ما تقديره : فيعطيه ما شاء سبحانه منها لا ما طلب هو ، وليس له {في الآخرة من خلاق} أي نصيب لأنه لا رغبة له فيها فهو لا يطلبها ولا يسعى لها سعيها.
قال الحرالي : والخلاق الحظ اللائق بالخَلق والخُلق.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 380}
قال الفخر : (5/18)
اعلم أن الله تعالى بين أولا تفصيل مناسك الحج ، ثم أمر بعدها بالذكر ، فقال : {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ} {البقرة : 198 ] ثم بين أن الأولى أن يترك ذكر غيره ، وأن يقتصر على ذكره فقال : {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} ثم بين بعد ذلك الذكر كيفية الدعاء فقال : {فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا} وما أحسن هذا الترتيب ، فإنه لا بد من تقديم العبادة لكسر النفس وإزالة ظلماتها ، ثم بعد العبادة لا بد من الاشتغال بذكر الله تعالى لتنوير القلب وتجلى نور جلاله ، ثم بعد ذلك الذكر يشتغل الرجل بالدعاء فإن الدعاء إنما يكمل إذا كان مسبوقاً بالذكر كما حكي عن إبراهيم عليه السلام أنه قدم الذكر فقال : {الذى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} {الشعراء : 78 ] ثم قال : {رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} {الشعراء : 83 ] فقدم الذكر على الدعاء.
إذا عرفت هذا فنقول : بين الله تعالى أن الذين يدعون الله فريقان أحدهما : أن يكون دعاؤهم مقصوراً على طلب الدنيا والثاني : الذين يجمعون في الدعاء بين طلب الدنيا وطلب الآخرة ، وقد كان في التقسيم قسم ثالث ، وهو من يكون دعاؤه مقصوراً على طلب الآخرة ، واختلفوا في أن هذا القسم هل هو مشروع أو لا ؟ والأكثرون على أنه غير مشروع ، وذلك أن الإنسان خلق محتاجاً ضعيفاً لا طاقة له بآلام الدنيا ولا بمشاق الآخرة ، فالأولى له أن يستعيذ بربه من كل شرور الدنيا والآخرة ، روى القفال في "تفسيره" عن أنس أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ دخل على رجل يعوده وقد أنهكه المرض ، فقال : ما كنت تدعو الله به قبل هذا قال : كنت أقول.
(5/19)
اللهم ما كنت تعاقبني به في الآخرة فعجل به في الدنيا ، فقال النبي عليه السلام : "سبحان الله إنك لا تطيق ذلك ألا قلت {رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار} {البقرة : 201 ] "قال فدعا له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فشفي.
واعلم أنه سبحانه لو سلط الألم على عرق واحد في البدن ، أو على منبت شعرة واحدة ، لشوش الأمر على الإنسان وصار بسببه محروماً عن طاعة الله تعالى وعن الاشتغال بذكره ، فمن ذا الذي يستغني عن إمداد رحمة الله تعالى في أولاه وعقباه ، فثبت أن الاقتصار في الدعاء على طلب الآخرة غير جائز ، وفي الآية إشارة إليه حيث ذكر القسمين ، وأهمل هذا القسم الثالث.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 160}
قال الشيخ الطاهر بن عاشور : (5/20)
وقوله : {فمن الناس من يقول} الخ ، الفاء للتفصيل ؛ لأن ما بعدها تقسيم لفريقين من الناس المخاطبين بقوله : {فاذكروا الله} الخ فقد علم السامعون أن الذكر يشمل الدعاء ؛ لأنه من ذكر الله وخاصة في مظان الإجابة من الزمان والمكان ، لأن القاصدين لتلك البقاع على اختلاف أحوالهم ما يقصدون إلاّ تيمناً ورجاء فكان في الكلام تقدير كأنه قيل : فاذكروا الله كذكركم آباءكم أو أشد ذكراً وادْعوه ، ثم أريد تفصيل الداعين للتنبيه على تفاوت الذين تجمعهم تلك المناسك ، وإنما لم يفعل الذكر الأعم من الدعاء ، لأن الذكر الذي ليس بدعاء لا يقع إلاّ على وجه واحد وهو تمجيد الله والثناء عليه فلا حاجة إلى تفصيله تفصيلاً ينبه إلى ما ليس بمحمود ، والمقسم إلى الفريقين جميع الناس من المسلمين والمشركين ؛ لأن الآية نزلت قبل تحجير الحج على المشركين بآية براءة ، فيتعين أن المراد بمن ليس له في الآخرة من خلاق هم المشركون ؛ لأن المسلمين لا يهملون الدعاء لخير الآخرة ما بلغت بهم الغفلة ، فالمقصود من الآية التعريض بذم حالة المشركين ، فإنهم لا يؤمنون بالحياة الآخرة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 247}
قال العلامة الآلوسى : (5/21)
{ فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ} جملة معترضة بين الأمرين المتعاطفين للحث والإكثار من ذكر الله تعالى وطلب ما عنده ، وفيها تفصيل للذاكرين مطلقاً حجاجاً أو غيرهم كما هو الظاهر إلى مقل لا يطلب بذكر الله تعالى إلا الدنيا ومكثر يطلب خير الدارين ، وما نقل عن بعض المتصوفة من قولهم إن عبادتنا لذاته تعالى فارغة من الأغراض والأعراض جهل عظيم ربما يجر إلى الكفر كما قاله حجة الإسلام قدس سره ؛ لأن عدم التعليل في الأفعال مختص بذاته تعالى على أن البعض قائل بأن أفعاله سبحانه أيضاً معللة بما تقتضيه الحكمة ، نعم إن عبادته تعالى قد تكون لطلب الرضا لا لخوف مكروه أو لنيل محبوب لكن ذا من أجل حسنات الأخرى يطلبه خلص عباده قال تعالى : {ورضوان مّنَ الله أَكْبَرُ} {التوبة : 2 7 ] وقرن سبحانه الذكر بالدعاء للإشارة إلى أن المعتبر من الذكر ما يكون عن قلب حاضر وتوجه باطن كما هو حال الداعي حين طلب حاجة لا مجرد التفوه والنطق به ، وذهب الإمام وأبو حيان إلى أن التفصيل للداعين المأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك ، وبدأ سبحانه وتعالى بالذكر لكونه مفتاحاً للإجابة ثم بين جل شأنه أنهم ينقسمون في سؤال الله تعالى إلى من يغلب عليه حب الدنيا فلا يدعو إلا بها ومن يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة ، وفي الآية التفات من الخطاب إلى الغيبة حطاً لطالب الدنيا عن ساحة عز الحضور ، ولا يخفى أن الأول هو المناسب لإبقاء ( الناس ) على عمومه. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 91}
فصل
قال الفخر : (5/22)
اختلفوا في أن الذين حكى الله عنهم أنهم يقتصرون في الدعاء على طلب الدنيا من هم ؟ فقال قوم : هم الكفار ، روي عن ابن عباس أن المشركين كانوا يقولون إذا وقفوا : اللهم ارزقنا إبلاً وبقراً وغنماً وعبيداً وإماء ، وما كانوا يطلبون التوبة والمغفرة ، وذلك لأنهم كانوا منكرين للبعث والمعاد ، وعن أنس كانوا يقولون : اسقنا المطر وأعطنا على عدونا الظفر ، فأخبر الله تعالى أن من كان من هذا الفريق فلا خلاق له في الآخرة ، أي لا نصيب له فيها من كرامة ونعيم وثواب ، نقل عن الشيخ أبي علي الدقاق رحمه الله أنه قال : أهل النار يستغيثون ثم يقولون : أفيضوا علينا من الماء ، أو مما رزقكم الله في الدنيا ، طلباً للمأكول والمشروب ، فلما غلبتهم شهواتهم افتضحوا في الدنيا والآخرة ، وقال آخرون : هؤلاء قد يكونون مؤمنين ولكنهم يسألون الله لدنياهم ، لا لأخراهم ويكون سؤالهم هذا من جملة الذنوب حيث سألوا الله تعالى في أعظم المواقف ، وأشرف المشاهد حطام الدنيا وعرضها الفاني ، معرضين عن سؤال النعيم الدائم في الآخرة ، وقد يقال لمن فعل ذلك إنه لا خلاق له في الآخرة ، وإن كان الفاعل مسلماً ، كما روى في قوله : {إِنَّ الذين يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وأيمانهم ثَمَنًا قَلِيًلا أولئك لاَ خلاق لَهُمْ فِى الأخرة} {آل عمران : 77 ] أنها نزلت فيمن أخذ مالاً بيمين فاجرة ، روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، "إن الله يؤيد هذا الدين بأقوام لا خلاق لهم "ثم معنى ذلك على وجوه أحدها : أنه لا خلاق له في الآخرة إلا أن يتوب والثاني : لا خلاق له في الآخرة إلا أن يعفو الله عنه والثالث : لا خلاق له في الآخرة كخلاق من سأل الله لآخرته ، وكذلك لا خلاق لمن أخذ مالاً بيمين فاجرة كخلاق من تورع عن ذلك والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 160}
سؤال : لم ترك المفعول الثاني فى {آتنا} ؟ (5/23)
الجواب : ترك المفعول الثاني لتنزيل الفعل منزلة ما لا يتعدى إلى المفعول الثاني لعدم تعلق الغرض ببيانه أي أعطنا عطاء في الدنيا ، أو يقدر المفعول بأنه الإنعام أو الجائزة أو محذوف لقرينة قوله {حسنة} فيما بعد ، أي {آتنا في الدنيا حسنة }. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 247}
فوائد ولطائف
قال العلامة الفخر :
اعلم أن مراتب السعادات ثلاث : روحانية ، وبدنية ، وخارجية أما الروحانية فاثنان : تكميل القوة النظرية بالعلم ، وتكميل القوة العملية بالأخلاق الفاضلة ، وأما البدنية فاثنان : الصحة والجمال ، وأما الخارجية فاثنان : المال ، والجاه ، فقوله : {آتنا في الدنيا} يتناول كل هذه الأقسام فإن العلم إذا كان يراد للتزين به في الدنيا والترفع به على الأقران كان من الدنيا ، والأخلاق الفاضلة إذا كانت تراد للرياسة في الدنيا وضبط مصالحها كانت من الدنيا ، وكل من لا يؤمن بالبعث والمعاد فإنه لا يطلب فضيلة لا روحانية ولا جمسانية إلا لأجل الدنيا ، ثم قال تعالى في حق هذا الفريق {وما لَهُ فِى الأخرة مِنْ خلاق} أي ليس له نصيب في نعيم الآخرة ، ونظير هذه الآية قوله تعالى : {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الآخرة من نصيب} {الشورى : 20 ] ثم إنه تعالى لم يذكر في هذه الآية أن الذي طلبه في الدنيا هل أجيب له أم لا ؟ قال بعضهم : إن مثل هذا الإنسان ليس بأهل للإجابة لأن كون الإنسان مجاب الدعوة صفة مدح فلا تثبت إلا لمن كان ولياً لله تعالى مستحقاً للكرامة لكنه وإن لم يجب فإنه ما دام مكلفاً حيا فالله تعالى يعطيه رزقه على ما قال : {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} {هود : 6 ] وقال آخرون إن مثل هذا الإنسان قد يكون مجاباً ، لكن تلك الإجابة قد تكون مكراً واستدراجاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 160}
فصل(5/24)
"الخلاق" بفتح الخاء الحظ من الخير والنفيس مشتق من الخلاقة وهي الجدارة ، يقال خلق بالشيء بضم اللام إذا كان جديراً به ، ولما كان معنى الجدارة مستلزماً نفاسة ما به الجدارة دل ما اشتق من مرادفها على النفاسة سواء قيد بالمجرور كما هنا أم أطلق كما في قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إنما يلبس هذه من خلاق له "أي من الخير وقول البعيث بن حريث
... ولَسْتُ وإن قُرِّبْتُ يَوْماً ببائعٍ
خَلاَقي ولا دِيني ابِتغاءَ التَّحَبُّبِ...
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 247}
فائدة
قال ابن عرفة :
قوله تعالى : {فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الأخرة مِنْ خَلاَقٍ}.
قال ابن عطية : سببها أنهم كانوا في الجاهلية يدعون في مصالح الدنيا فقط إذ كانوا لا يعرفون الآخرة فنهو عن ذلك.
قال ابن عرفة : فتقدير ( السَّببية ) على هذا إما أنهم نهوا عن الاقتصار ( في الدعاء ) بمصالح الدنيا فقط وأمروا بالشعور بالآخرة واستحضار وجودها.
قال : ويحتمل ( تقدير ) السببية بوجهين آخرين. أحدهما : أن في الآية اللف والنشر مَن "يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا "راجع لقوله "كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ "وقوله تعالى {وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةَ} راجع إلى قوله "أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً ".(5/25)
قيل لابن عرفة : ( يعكر ) عليه قوله "وَمَا لَهُ فِي الأخرة مِنْ خَلاَقٍ "( يدل على أنه كافر فكيف يذكر الله كذكره أباه ؟ فقال : قد تقرر أنّ "وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ "( معتبر ) بأمرين لأنّ الواو فيه واو الحال فيحتمل أن يراد أنه في نفس الأمر ليس له نصيب في الآخرة ، ويحتمل ( أن ) يريد من الناس المؤمنين من يطلب أمور الدنيا ، ولم يتعلق له بال بطلب الثواب في الآخرة عليه ، فقد يعمل العمل الصالح ، ويطلب المعونة عليه ، ولم يخطر بباله طلب الثواب عليه في الآخرة بوجه ( أو بطلب الرزق الحلال من نعيم الدنيا ومستلذاتها ، ويصرفه في وجهه وهو مع ذلك طائع ، ولا يتشوق إلى طلب الآخرة بوجه ) بل ( يغفل ) عن ذلك.
الوجه الثاني في تقرير السببية : أنه لما تقدم الأمر بذكر الله عقبه بهذا تنبيها على أن من الناس من لا يمتثل هذا الامر ولا يقبله ، ومنهم من يمتثله ويعمل بمقتضاه فهو الذي يقول : {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً} أو يرجع إلى القبول والأجر. وتقرر أن القبول أخص ، فمن الناس من يفعل العبادة فلا يجزيه ويخرجه من عهدة التكليف فقط ولا يثاب عليها كمن يصلي رياء ومنهم من يفعلها بالإخلاص ونية فتقبل منه ، ويثاب عليها في الدار الآخرة.
قال ابن عرفة : وعادتهم يختلفون في الألف واللام في "الناس "فمنهم من كان يقول إنها للعهد والمراد بها الناس الحجاج ( ومنهم من جعلها للجنس فعلى أنّها للعهد يكون التقسيم مستوفيا لأن الحجاج ) لا بد أنهم يدعون إما بأمر دنيوي أو بأخروي ( وعلى أنها للجنس لايكون مستوفيا ) لأن بعض الناس قد لا يدعون بشيء أصلا لا دنيوي ولا أخروي.
قيل لابن عرفة : وكذلك على أنها للعهد لأن بعض الحجاج يدعو أيضا بأمر الآخرة فقط ؟ . أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 258}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
(5/26)
قوله جلّ ذكره : {فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِى الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِى الآخِرَةِ مِنْ خَلاَقٍ}.
خطاب لو قاله مخلوقٌ لَكَ كان شاكراً ، ولو أنه شكا منك كما شكا إليك لساءت الحالة ، ولكن بفضله أَحَلَّكَ محل أن يشكو إليك فقال : مِنَ الناس من لا يجنح قلبه إلينا ، ويرضى بدوننا عنَّا ، فلا يبصر غير نفسه وحظِّه ، ولا يمكن إيمان له بربه وحقِّه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 168}
قوله تعالى : {وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار }
قال البقاعى :(5/27)
{ ومنهم من} يجعل عبادته وحجه وسيلة إلى الرغبة إلى ربه ويذكر الله تعالى كما أمر فهو {يقول ربنا} بإحسانك {آتنا في الدنيا} حالة وعيشة {حسنة} لا توصل بها إلى الآخرة على ما يرضيك. قال الحرالي : وهي الكفاف من المطعم والمشرب والملبس والمأوى والزوجة على ما كانت لا شرف فيها - انتهى. {وفي الآخرة حسنة} أي من رحمتك التي تدخلنا بها الجنة. ولما كان الرجاء لا يصلح إلا بالخوف وإعطاء الحسنة لا ينفي المس بالسيئة قال : {وقنا عذاب النار} أي بعفوك ومغفرتك. ولما كان هؤلاء على منهاج الرسل لأنهم عبدوا الله أولاً كما أشار إليه السياق فانكسرت نفوسهم ثم ذكروه على تلك المراتب الثلاث فنارت قلوبهم بتجلي نور جلاله سبحانه وتعالى فتأهلوا بذلك للدعاء فكان دعاؤهم كاملاً ، كما فعل الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال : {الذي خلقني فهو يهدين} {الشعراء : 78 ] الآيات حتى قال {رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين} {الشعراء : 83 ] فقدم الذكر على الدعاء وكما هدى إليه آخر آل عمران في قوله : {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا} {آل عمران : 193 ] الآيات ، فقدموا الطاعة عظم شأنهم بقوله على سبيل الاستئناف جامعاً على معنى من بشارة بكثرة الناجي في هذه الأمة أو يكون الجمع لعظم صفاتهم : {أولئك} أي العالو المراتب العظيمو المطالب {لهم} أي هذا القسم فقط لأن الأول قد أخبر أن الأمر عليه لا له.أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 380}
قال الفخر : (5/28)
أما قوله تعالى : {وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار} فالمفسرون ذكروا فيه وجوها أحدها : أن الحسنة في الدنيا عبارة عن الصحة ، والأمن ، والكفاية والولد الصالح ، والزوجة الصالحة ، والنصرة على الأعداء ، وقد سمى الله تعالى الخصب والسعة في الرزق ، وما أشبهه "حسنة" فقال : {إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ} {التوبة : 50 ] وقيل في قوله : {قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلا إِحْدَى الحسنيين} {التوبة : 52 ] أنهما الظفر والنصرة والشهادة ، وأما الحسنة في الآخرة فهي الفوز بالثواب ، والخلاص من العقاب ، وبالجملة فقوله : {رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً} كلمة جامعة لجميع مطالب الدنيا والآخرة ، روى حماد بن سلمة عن ثابت أنهم قالوا لأنس : ادع لنا ، فقال : "اللهم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" قالوا : زدنا فأعادها قالوا زدنا قال ما تريدون ؟ قد سألت لكم خير الدنيا والآخرة ولقد صدق أنس فإنه ليس للعبد دار سوى الدنيا والآخرة فإذا سأل حسنة الدنيا وحسنة الآخرة لم يبق شيء سواه وثانيها : أن المراد بالحسنة في الدنيا العمل النافع وهو الإيمان والطاعة والحسنة في الآخرة اللذة الدائمة والتعظيم والتنعم بذكر الله وبالأنس به وبمحبته وبرؤيته وروى الضحاك عن ابن عباس أن رجلاً دعا ربه فقال في دعائه : {رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار} فقال النبي عليه الصلاة والسلام : "ما أعلم أن هذا الرجل سأل الله شيئاً من أمر الدنيا ، فقال بعض الصحابة : بلى يا رسول الله إنه قال : "ربنا آتنا في الدنيا حسنة" فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، إنه يقول : آتنا في الدنيا عملا صالحاً "وهذا متأكد بقوله تعالى : {والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ(5/29)
أزواجنا وذرياتنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ }
[ الفرقان : 74 ] وتلك القرة هي أن يشاهدوا أولادهم وأزواجهم مطيعين مؤمنين مواظبين على العبودية وثالثها : قال قتادة : الحسنة في الدنيا وفي الآخرة طلب العافية في الدارين ، وعن الحسن : الحسنة في الدنيا فهم كتاب الله تعالى ، وفي الآخرة الجنة ، واعلم أن منشأ البحث في الآية أنه لو قيل ، آتنا في الدنيا الحسنة وفي الآخرة الحسنة لكان ذلك متناولا لكل الحسنات ، ولكنه قال : {آتنا فِى الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً} وهذا نكرة في محل الإثبات فلا يتناول إلا حسنة واحدة ، فلذلك اختلف المتقدمون من المفسرين فكل واحد منهم حمل اللفظ على ما رآه أحسن أنواع الحسنة.
فإن قيل : أليس أنه لو قيل : آتنا الحسنة في الدنيا والحسنة في الآخرة لكان ذلك متناولاً لكل الأقسام فلم ترك ذلك وذكر على سبيل التنكير ؟
قلت : الذي أظنه في هذا الموضع والعلم عند الله أنا بينا فيما تقدم أنه ليس للداعي أن يقول : اللهم أعطني كذا وكذا بل يجب أن يقول : اللهم إن كان كذا وكذا مصلحة لي وموافقاً لقضائك وقدرك فأعطني ذلك ، فلو قال : اللهم أعطني الحسنة في الدنيا والآخرة لكان ذلك جزما ، وقد بينا أنه غير جائز ، أما لما ذكر على سبيل التنكير فقال أعطني في الدنيا حسنة كان المراد منه حسنة واحدة وهي الحسنة التي تكون موافقة لقضائه وقدره ورضاه وحكمه وحكمته فكان ذلك أقرب إلى رعاية الأدب والمحافظة على أصول اليقين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 161}
قال الإمام : حسنة الدنيا ، ثوابك ، وقوت من الحلال يكفيك ، وزوجة صالحة ترضيك ، وعلم إلى الحق يهديك ، وعمل صالح ينجيك. وأما حسنة الآخرة فإرضاء الخصومات ، وعفو السيئات ، وقبول الطاعات والنجاة من الدركات ، والفوز بالدرجات. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 161}
وقال الآلوسى : (5/30)
{ وِمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً} يعني العافية والكفاف قاله قتادة ، أو المرأة الصالحة قاله علي كرم الله تعالى وجهه ، أو العلم والعبادة قاله الحسن ، أو المال الصالح قاله السدي ، أو الأولاد الأبرار ، أو ثناء الخلق قاله ابن عمر ، أو الصحة والكفاية والنصرة على الأعداء والفهم في كتاب الله تعالى ، أو صحبة الصالحين قاله جعفر ، والظاهر أن الحسنة وإن كانت نكرة في الإثبات وهي لا تعم إلا أنها مطلقة فتنصرف إلى الكامل والحسنة الكاملة في الدنيا ما يشمل جميع حسناتها وهو توفيق الخير وبيانها بشيء مخصوص ليس من باب تعيين المراد إذ لا دلالة للمطلق على المقيد أصلاً وإنما هو من باب التمثيل وكذا الكلام في قوله تعالى : {وَفِي الآخرة حَسَنَةً} فقد قيل هي الجنة ، وقيل : السلامة من هول الموقف وسوء الحساب ، وقيل : الحور العين وهو مروي عن علي كرم الله تعالى وجهه ، وقيل : لذة الرؤية وقيل ، وقيل... والظاهر الإطلاق وإرادة الكامل وهو الرحمة والإحسان. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 91}
وقال القرطبى :
اختلف في تأويل الحَسَنَتَين على أقوال عديدة ؛ فرُوِيَ عن عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه أن الحسنة في الدنيا المرأة الحسناء ، وفي الآخرة الحُور العين. {وَقِنَا عَذَابَ النار} : المرأة السوء.(5/31)
قلت : وهذا فيه بُعْد ، ولا يصح عن عليّ ، لأن النار حقيقة في النار المحرقة ، وعبارة المرأة عن النار تجوّز. وقال قتادة : حسنة الدنيا العافية في الصحة وكفاف المال. وقال الحسن : حسنة الدنيا العلم والعبادة. وقيل غير هذا. والذي عليه أكثر أهل العلم أن المراد بالحسَنَتين نِعَم الدنيا والآخرة. وهذا هو الصحيح ؛ فإن اللفظ يقتضي هذا كله ، فإن "حسنة" نكرة في سياق الدعاء ، فهو محتمل لكل حسنة من الحسنات على البدل. وحسنة الآخرة : الجنة بإجماع. وقيل : لم يَرِد حسنة واحدة ، بل أراد : أعطنا في الدنيا عطيّة حسنة ؛ فحذف الاسم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 423}
وقال ابن كثير :
جمعت هذه الدعوةُ كلَّ خير في الدنيا ، وصرَفت كلّ شر فإن الحسنة في الدنيا تشملُ كلّ مطلوب دنيوي ، من عافية ، ودار رحبة ، وزوجة حسنة ، ورزق واسع ، وعلم نافع ، وعمل صالح ، ومركب هنيء ، وثناء جميل ، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عباراتُ المفسرين ، ولا منافاة بينها ، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا. وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العَرَصات ، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة ، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا ، من اجتناب المحارم والآثام وترك الشبهات والحرام.
وقال القاسم بن عبد الرحمن : من أعطي قلبا شاكرًا ، ولسانًا ذاكرًا ، وجسدًا صابرًا ، فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، ووقي عذاب النار.
ولهذا وردت السنة بالترغيب في هذا الدعاء. فقال البخاري : حدثنا أبو معمر ، حدثنا عبد الوارث ، عن عبد العزيز ، عن أنس بن مالك قال : كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : "اللَّهم ربَّنا ، آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار". أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 558}
وقال الإمام القشيرى ـ رحمه الله ـ : (5/32)
إنما أراد بها حسنة تنتظم بوجودها جميع الحسنات ، والحسنةُ التي بها تحصل جميع الحسنات في الدنيا - حفظُ الإيمان عليهم في المآل ؛ فإِنَّ مَنْ خرج من الدنيا مؤمناً لا يخلد في النار ، وبفوات هذا لا يحصل شيء. والحسنة التي تنتظم بها حسنات الآخرة - المغفرة ، فإذا غفر فبعدها ليس إلا كل خير. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 168}
سؤال : لم زاد في الدعاء {وقنا عذاب النار} ؟
الجواب : إنما زاد في الدعاء {وقنا عذاب النار} لأن حصول الحسنة في الآخرة قد يكون بعد عذاب ما فأريد التصريح في الدعاء بطلب الوقاية من النار.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 248}
فائدة
هذه الآية من جوامع الدعاء التي عمّت الدنيا والآخرة. قيل لأنس : ادع الله لنا ؛ فقال : اللَّهُم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. قالوا : زِدنا. قال : ما تريدون! قد سألت الدنيا والآخرة!. وفي الصحيحين عن أنس قال : "كان أكثر دعوة يدعو بها النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : "اللَّهُم آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار" "قال : فكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها ، فإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه. وفي حديث عمر أنه كان يطوف بالبيت وهو يقول : ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ماله هِجِّيري غيرها ؛ ذكره أبو عبيد. وقال ابن جريج : بلغني أنه كان يأمر أن يكون أكثر دعاء المسلم في الموقف هذه الآية : {رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار }. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 423}(5/33)
لطيفة
قَالَ الشَّيْخُ الإِمَامُ السبكى رَحِمَهُ اللَّهُ فِي قَوْله تَعَالَى : {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} :
مِنْ النَّاسِ مَنْ قَدْ دَبَّرُوا فَتَحَصَّلُوا
عَلَى نِعْمَةٍ فِي نَسْلِهِمْ هِيَ بَاقِيَهْ
وَمَا لِي تَدْبِيرٌ لِنَفْسِي لا وَلا
لِنَسْلِيَ لَكِنْ نِعْمَةُ اللَّهِ كَافِيَهْ
كَمَا عَالَنِي دَهْرِي كَذَاكَ يَعُولُ مَنْ
أُخَلِّفُهُ فِي عِيشَةٍ هِيَ رَاضِيَهْ
وَمِنْهُمْ أُنَاسٌ وَفَّرَ اللَّهُ حَظَّهُمْ
لِخَيْرِهِمْ فِي جَنَّةٍ هِيَ عَالِيَهْ
وَقَوْلِي رَبِّي آتِنَا حَسَنَتَيْهِمَا
وَثَالِثَةً عَنَّا جَهَنَّمَ وَاقِيَهْ
نَظَمْتُهَا يَوْمَ الاثْنَيْنِ سَابِعَ شَوَّالٍ سَنَةَ اثْنَتَيْنِ وَخَمْسِينَ وَسَبْعِمِائَةٍ بِسَبَبِ أَنِّي تَفَكَّرْت فِي حَالِي وَحَالِ أَوْلادِي وَلِي فِي الْقَضَاءِ أَرْبَعَ عَشْرَةَ سَنَةً لَمْ يَحْصُلُ لَهُمْ مَا يَبْقَى لَهُمْ مِنْ بَعْدِي وَأَقَمْت قَبْلَ ذَلِكَ بِمِصْرَ نَحْوًا مِنْ سَبْعَ عَشْرَةَ سَنَةً مُتَمَكِّنًا مِنْ أَنْ أُحَصِّلَ لَهُمْ رَوَاتِبَ كَثِيرَةً لَمْ أُحَصِّلْ لَهُمْ شَيْئًا مِنْ ذَلِكَ ، وَافْتَكَرْت قَاضِيَيْنِ فِي دِمَشْقَ ابْنَ أَبِي عَصْرُونٍ وَابْنَ الزَّكِيِّ حَصَّلا مَا هُوَ بَاقٍ لِذُرِّيَّتِهِمَا إلَى الْيَوْمِ وَابْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ فِي مِصْرَ لَمْ يَتْرُكْ لأَوْلادِهِ شَيْئًا وَلا حَصَّلَ لَهُمْ بَعْدَهُ شَيْئًا وَنَفْسِي تَطْلُبُ الْخَيْرَ لأَوْلادِي فِي حَيَاتِي وَبَعْدَ مَمَاتِي فَتَوَكَّلْت عَلَى اللَّهِ وَأَحَلْتُهُمْ عَلَى فَضْلِهِ كَمَا تَفَضَّلَ عَلَيَّ ، وَنَظَّمْت هَذِهِ الأَبْيَاتِ وَأَشَرْت فِي الْبَيْتِ الأَخِيرِ إلَى قَوْله تَعَالَى {رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ} أَسْأَلُ اللَّهَ تَعَالَى ذَلِكَ وَصَلَّى اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ وَآلِهِ وَسَلَّمَ تَسْلِيمًا كَثِيرًا.أ هـ {فتاوى السبكى حـ 1 صـ 135}(5/34)
لطيفة ثانية
الناس ثلاثة : صاحب همة دَنِيَّة ، وذو همة متوسطة ، وصاحب همة عالية ، أما صاحب الهمة الدنية فهو الذي أنزل همته على الدنيا الدنية ، وأكبَّ على جمع حطامها الفانية ، فقلبُ هذا خالٍ من حب الحبيب ، فما له في الآخرة من نصيب. وأما صاحب الهمة المتوسطة فهو الذي طلب سلامة الدارين ، وصلاح الحالين ، قد اشتغل في هذه الدار بما ينفعه في دار القرار ، ولم ينسَ نصيبه من الدنيا لِيقْضِي ما له فيها من الأوطار ، فهذا له في الدنيا حسنة ، وهي الكفاية والغنى ، وفي الآخرة حسنة ، وهي النعمة والسرور والهنا.
وأما صاحب الهمة العالية فهو الذي رفع همته عن الكونَيْن ، وأغمض طَرْفَه عن الالتفات إلى الدارين ، بل علَّق همته بمولاه ، ولم يقنع بشيء سواه ، قد ولّى عن هذه الدار مُغضياً ، وأعرض عنها مُولياً ، ولم يشغله عن الله شيء ، يقول بلسان المقال إظهاراً لعبودية للكبير المتعال : {ربنا آتنا في الدنيا حسنة} وهي النظرة والشهود ، ورضا الملك الودود ، {وفي الآخرة حسنة} وهي اللحوق بأهل الرفيق الأعلى ، من المقربين والأنبياء ، في حضرة الشهود المؤبد {في مقعد صدق عند مليك مقتدر}. أتحفَنَا الله من ذلك بحظٍّ وافر ، بمنِّه وكرمه ، نحن وأحباءَنا أجمعين ، آمين. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 162}
قوله تعالى {أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى : (5/35)
ولما كان هؤلاء على منهاج الرسل لأنهم عبدوا الله أولاً كما أشار إليه السياق فانكسرت نفوسهم ثم ذكروه على تلك المراتب الثلاث فنارت قلوبهم بتجلي نور جلاله سبحانه وتعالى فتأهلوا بذلك للدعاء فكان دعاؤهم كاملاً ، كما فعل الخليل عليه الصلاة والسلام حيث قال : {الذي خلقني فهو يهدين} {الشعراء : 78 ] الآيات حتى قال {رب هب لي حكماً وألحقني بالصالحين} {الشعراء : 83 ] فقدم الذكر على الدعاء وكما هدى إليه آخر آل عمران في قوله : {ربنا إننا سمعنا منادياً ينادي للإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا} {آل عمران : 193 ] الآيات ، فقدموا الطاعة عظم شأنهم بقوله على سبيل الاستئناف جامعاً على معنى من بشارة بكثرة الناجي في هذه الأمة أو يكون الجمع لعظم صفاتهم : {أولئك} أي العالو المراتب العظيمو المطالب {لهم} أي هذا القسم فقط لأن الأول قد أخبر أن الأمر عليه لا له.
ولما كان غالب أفعال العباد على غير السداد وأقل ما فيها أن تكون خالية عن نية حسنة قال مشيراً إلى ذلك : {نصيب} وهو اسم للحظ الذي أتت عليه القسمة بين جماعة ، كائن {مما} لو قال : طلبوا - مثلاً ، لم يعم جميع أفعالهم ؛ ولو قال : فعلوا ، لظُن خروج القول فعدل إلى قوله : {كسبوا} أي طلبوا وأصابوا وتصرفوا واجتهدوا فيه وجمعوا من خلاصة أعمالهم القولية والفعلية ومنها الاعتقادية وهو ما أخلصوا فيه فهو الذي يثابون عليه وهو قليل بالنسبة إلى باقي أعمالهم.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 380 ـ 381}
قال الفخر :
قوله تعالى : {أولئك} فيه قولان أحدهما : إنه إشارة إلى الفريق الثاني فقط الذين سألوا الدنيا والآخرة ، والدليل عليه أنه تعالى ذكر حكم الفريق الأول حيث قال : {وَمَا لَهُ فِى الأخرة مِنْ خلاق}.(5/36)
والقول الثاني : أنه راجع إلى الفريقين أي لكل من هؤلاء نصيب من عمله على قدر ما نواه ، فمن أنكر البعث وحج التماساً لثواب الدنيا فذلك منه كفر وشرك والله مجازيه ، أو يكون المراد أن من عمل للدنيا أعطى نصيب مثله في دنياه كما قال : {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الأخرة نَزِدْ لَهُ فِى حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِى الأَخِرةِ مِنْ نَصيب} {الشورى : 20 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 161}
قال أبو السعود :
{ أولئك} إشارةٌ إلى الفريق الثاني باعتبار اتصافِهم بما ذُكر من النعوت الجميلةِ ، وما فيه من معنى البُعد لما مر مراراً من الإشارة إلى علوِّ درجتِهم وبُعْدِ منزلتِهم في الفضل وقيل : إليهما معاً فالتنوينُ في قوله تعالى : {لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ} على الأول للتفخيم وعلى الثاني للتنويعِ أي لكلِّ نوعٍ منهم نصيبٌ من جنس ما كسَبوا أو من أجله كقوله تعالى : {مّمَّا خطيئاتهم أُغْرِقُواْ} أو مما دَعَوْا به نعطيهم منه ما قدّرناه ، وتسميةُ الدعاء كسْباً لما أنه من الأعمال {والله سَرِيعُ الحساب} يحاسبُ العبادَ على كثرتهم وكثرةِ أعمالهم في مقدار لمحة فاحذَروا من الإخلال بطاعةِ مَنْ هذا شأنُ قدرتِه أو يوشك أن يُقيمَ القيامةَ ويحاسِبَ الناسَ فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 210}
وقال ابن عاشور :
واسم الإشارة مشير إلى الناس الذين يقولون : {ربنا آاتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة} للتنبيه باسم الإشارة على أن اتصافهم بما بعد اسم الإشارة شيء استحقوه بسبب الإخبار عنهم بما قبل اسم الإشارة ، أي إن الله استجاب لهم لأجل إيمانهم بالآخرة فيفهم منه أن دُعاء الكافرين في ضلال. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 249}
أسئلة وأجوبة
السؤال الأول : قوله : {لَهُمْ نَصِيبٌ مّمَّا كَسَبُواْ} يجري مجرى التحقير والتقليل فما المراد منه ؟ (5/37)
الجواب : المراد : لهم نصيب من الدنيا ومن الآخرة بسبب كسبهم وعملهم فقوله : {مِنْ} في قوله : {مِمَّا كَسَبُواْ} لابتداء الغاية لا للتبعيض.
السؤال الثاني : هل تدل هذه الآية على أن الجزاء على العمل ؟
الجواب : نعم.
ولكن بحسب الوعد لا بحسب الاستحقاق الذاتي.
السؤال الثالث : ما الكسب ؟
الجواب : الكسب يطلق على ما يناله المرء بعمله فيكون كسبه ومكتسبه ، بشرط أن يكون ذلك جر منفعة أو دفع مضرة ، وعلى هذا الوجه يقال في الأرباح : إنها كسب فلان ، وأنه كثير الكسب أو قليل الكسب ، لأن لا يراد إلا الربح ، فأما الذي يقوله أصحابنا من أن الكسب واسطة بين الجبر والخلق فهو مذكور في الكتب القديمة في الكلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 162}
قوله تعالى {وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ }
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان أسرع الناس حساباً أعلمهم بفنونه خطأ وصواباً وكان التقدير : فالله عالم بخفي أعمالهم وجليها وتمييز جيدها من رديئها فهو يجازيهم على حسب ذلك عطف عليه قوله : {والله} أي المحيط علماً وقدرة {سريع الحساب} وهو أحصى الأعمال وبيان ما يجب لكل منها الجزاء واتصاله إلى العامل لما له من سعة العلم وشمول القدرة ، قيل لبعضهم : كيف يحاسب الله الخلق في وقت واحد ؟ قال : كما يرزقهم في وقت واحد ، وفيه ترغيب بأنه لا ينسى عملاً ، وترهيب بأنّه لا يمشي عليه باطل ولا يقدر على مدافعته مطاول. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 381}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {والله سَرِيعُ الحساب} ففيه مسائل.(5/38)
المسألة الأولى : {سَرِيعُ} فاعل من السرعة ، قال ابن السكيت : سرع يسرع سرعاً وسرعة فهو سريع {والحساب} مصدر كالمحاسبة ، ومعنى الحساب في اللغة العد يقال : حسب يحسب حساباً وحسبة وحسبا إذا عد ذكره الليث وابن السكيت ، والحسب ما عد ومنه حسب الرجل وهو ما يعد من مآثره ومفاخره ، والاحتساب الاعتداد بالشيء ، وقال الزجاج : الحساب في اللغة مأخوذ من قولهم : حسبك كذا أي كفاك فسمى الحساب في المعاملات حساباً لأنه يعلم به ما فيه كفاية وليس فيه زيادة على المقدار ولا نقصان.
المسألة الثانية : اختلف الناس في معنى كون الله تعالى محاسباً لخلقه على وجوه أحدها : أن معنى الحساب أنه تعالى يعلمهم ما لهم وعليهم ، بمعنى أنه تعالى يخلق العلوم الضرورية في قلوبهم بمقادير أعمالهم وكمياتها وكيفياتها ، وبمقادير ما لهم من الثواب والعقاب ، قالوا : ووجه هذا المجاز أن الحساب سبب لحصول علم الإنسان بما له وعليه ، فإطلاق اسم الحساب على هذا الإعلام يكون إطلاقاً لاسم السبب على المسبب وهذا مجاز مشهور ، ونقل عن ابن عباس أنه قال : إنه لا حساب على الخلق بل يقفون بين يدي الله تعالى ويعطون كتبهم بأيمانهم فيها سيئاتهم ، فيقال لهم : هذه سيئاتكم قد تجاوزت عنها ثم يعطون حسناتهم ويقال : هذه حسناتكم قد ضعفتها لكم.
والقول الثاني : أن المحاسبة عبارة عن المجازاة قال تعالى : {وَكَأِيّن مّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبّهَا وَرُسُلِهِ فحاسبناها حِسَاباً شَدِيداً} {الطلاق : 8 ] ووجه المجاز فيه أن الحساب سبب للأخذ والإعطاء وإطلاق اسم السبب على المسبب جائز ، فحسن إطلاق لفظ الحساب عن المجازاة.
(5/39)
والقول الثالث : أنه تعالى يكلم العباد في أحوال أعمالهم وكيفية مالها من الثواب والعقاب فمن قال إن كلامه ليس بحرف ولا بصوت قال إنه تعالى يخلق في أذن المكلف سمعاً يسمع به كلامه القديم كما أنه يخلق في عينه رؤية يرى بها ذاته القديمة ، ومن قال إنه صوت قال إنه تعالى يخلق كلاماً يسمعه كل مكلف إما بأن يخلق ذلك الكلام في أذن كل واحد منهم أو في جسم يقرب من أذنه بحيث لا تبلغ قوة ذلك الصوت أن تمنع الغير من فهم ما كلف به ، فهذا هو المراد من كونه تعالى محاسباً لخلقه.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 162}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {والله سريع الحساب} تذييل قصد به تحقيق الوعد بحصول الإجابة ، وزيادة تبشير لأهل ذلك الموقف ، لأن إجابة الدعاء فيه سريعة الحصول ، فعلم أن الحساب هنا أطلق على مراعاة العمل والجزاء عليه.
والحساب في الأصل العد ، ثم أطلق على عد الأشياء التي يراد الجزاء عليها أو قضاؤها ، فصار الحساب يطلق على الوفاء بالحق يقال حاسبه أي كافأه أو دفع إليه حقه ، ومنه سمي يوم القيامة يوم الحساب وقال تعالى : {إن حسابهم إلا على ربي} {الشعراء : 113 ] وقال {جزاء من ربك عطاء حساباً} {النبأ : 36 ] أي وفاقاً لأعمالهم ، وههنا أيضاً أريد به الوفاء بالوعد وإيصال الموعود به ، فاستفادة التبشير بسرعة حصول مطلوبهم بطريق العموم ؛ لأن إجابتهم من جملة حساب الله تعالى عباده على ما وَعدهم فيدخل في ذلك العموم.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 249}
فصل
قال الفخر : (5/40)
ذكروا في معنى كونه تعالى سريع الحساب وجوهاً أحدها : أن محاسبته ترجع إما إلى أنه يخلق علوماً ضرورية في قلب كل مكلف بمقادير أعماله ومقادير ثوابه وعقابه ، أو إلى أنه يوصل إلى كل مكلف ما هو حقه من الثواب أو إلى أنه يخلق سمعاً في أذن كل مكلف يسمع به الكلام القديم ، أو إلى أنه يخلق في أذن كل مكلف صوتاً دالاً على مقادير الثواب والعقاب وعلى الوجوه الأربعة فيرجع حاصل كونه تعالى محاسباً إلى أنه تعالى يخلق شيئاً ، ولما كانت قدرة الله تعالى متعلقة بجميع الممكنات ، ولا يتوقف تخليقه وإحداثه على سبق مادة ولا مدة ولا آلة ولا يشتغله شأن عن شأن لا جرم كان قادراً على أن يخلق جميع الخلق في أقل من لمحة البصر وهذا كلام ظاهر ، ولذلك ورد في الخبر أن الله تعالى يحاسب الخلق في قدر حلب ناقة وثانيها : أن معنى كونه تعالى : {سَرِيعُ الحساب} أنه سريع القبول لدعاء عباده والإجابة لهم ، وذلك لأنه تعالى في الوقت الواحد يسأله السائلون كل واحد منهم أشياء مختلفة من أمور الدنيا والآخرة فيعطي كل واحد مطلوبه من غير أن يشتبه عليه شيء من ذلك ولو كان الأمر مع واحد من المخلوقين لطال العد واتصل الحساب ، فأعلم الله تعالى أنه {سَرِيعُ الحساب} أي هو عالم بجملة سؤالات السائلين ، لأنه تعالى لا يحتاج إلى عقد يد ، ولا إلى فكرة وروية ، وهذا معنى الدعاء المأثور "يا من لا يشغله شأن عن شأن" وحاصل الكلام في هذا القول أن معنى كونه تعالى {سَرِيعُ الحساب} كونه تعالى عالماً بجميع أحوال الخلق وأعمالهم ووجه المجاز فيه أن المحاسب إنما يحاسب ليحصل له العلم بذلك الشيء فالحساب سبب لحصول العلم فأطلق اسم السبب على المسبب وثالثها : أن محاسبة الله سريعة بمعنى آتية لا محالة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 162}
وقال الآلوسى : (5/41)
{ والله سَرِيعُ الحساب}. يحاسب العباد على كثرتهم في قدر نصف نهار من أيام الدنيا ، وروي بمقدار فواق ناقة ، وروي بمقدار لمحة البصر أو يوشك أن يقيم القيامة ويحاسب الناس فبادروا إلى الطاعات واكتساب الحسنات ، والجملة تذييل لقوله تعالى : {فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ ءابَاءكُمْ} {البقرة : 00 2 ] الخ والمحاسبة إما على حقيقتها كما هو قول أهل الحق من أن النصوص على ظاهرها ما لم يصرف عنها صارف ، أو مجاز عن خلق علم ضروري فيهم بأعمالهم وجزائها كماً وكيفاً ، ومجازاتهم عليها هذا. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 92}
وقال السمرقندى :
{ والله سَرِيعُ الحساب} ؛ قال الكلبي : إذا حاسب فحسابه سريع. ويقال : والله سريع الحفظ. وقال الضحاك : يعني لا يخالطه العباد في الحساب يوم القيامة ولا يشغله ذلك. ويقال : يحاسب كل إنسان فيظن كل واحد منهم أنه يحاسبه خاصة. أ هـ {تفسير السمرقندى حـ 1 صـ 161}
وقال القرطبى بعد أن ذكر الأقوال السابقة فى الآية
قلت : والكل محتمل ، فيأخذ العبد لنفسه في تخفيف الحساب عنه بالأعمال الصالحة ؛ وإنما يخف الحساب في الآخرة على من حاسب نفسه في الدنيا. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 435}
فائدة
قال الزمخشرى :
وصف نفسه بسرعة حساب الخلائق على كثرة عددهم وكثرة أعمالهم ليدلّ على كمال قدرته ووجوب الحذر منه. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 277}
قال ابن عرفة
قوله تعالى : {والله سَرِيعُ الحساب}.
قال ابن عطية : قيل لعلي كيف يحاسب الله العباد في يوم ؟ فقال ( كما يرزقهم في يوم ).
قل ابن عرفة : كما يفهم أن العرض لا يبقى زمنين والقدرة صالحة إلى الإمداد بعرض آخر فكذلك القدرة صالحة ( لأن ) يخلق لله في نفس كل واحد الإخبار بما لَهُ وما عليه ( فيخبرُون ) بذلك في زمن واحد. وهذا أمر خارق للعادة ولا يمكن قياسه على الشاهد. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 260}
فائدة أخرى
قال القرطبى :(5/42)
قال ابن عباس في قوله تعالى : {أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ} هو الرجل يأخذ مالاً يحج به عن غيره ، فيكون له ثواب. وروي عنه في هذه الآية "أن رجلاً قال : يا رسول الله ، مات أبي ولم يحج ؛ أفأحج عنه ؟ فقال النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لو كان على أبيك دَين فقضيته أمَا كان ذلك يَجزي". قال نعم. قال : "فَدين الله أحق أن يُقضَى" "
قال : فهل لي من أجر ؟ فأنزل الله تعالى : {أولئك لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُواْ} يعني من حجّ عن مَيّت كان الأجر بينه وبين الميّت. قال أبو عبد اللَّه محمد بن خُويْزِ مَنْداد في أحكامه : قول ابن عباس نحو قول مالك ؛ لأن تحصيل مذهب مالك أن المحجوج عنه يحصل له ثواب النفقة ، والحجة للحاج ؛ فكأنه يكون له ثواب بدنه وأعماله ، وللمحجوج عنه ثواب ماله وإنفاقه ، ولهذا قلنا : لا يختلف في هذا حكم من حج عن نفسه حجة الإسلام أو لم يحج ؛ لأن الأعمال التي تدخلها النيابة لا يختلف حكم المستتاب فيها بين أن يكون قد أدّى عن نفسه أو لم يؤدّ ، اعتبارا بأَعمال الدين والدنيا. ألا ترى أن الذي عليه زكاة أو كفارة أو غير ذلك يجوز أن يؤدّي عن غيره وإن لم يؤدّ عن نفسه ، وكذلك من لم يراع مصالحه في الدنيا يصح أن ينوب عن غيره في مثلها فتتم لغيره وإن لم تتم لنفسه ؛ ويزوّج غيره وإن لم يزوّج نفسه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 436}
قوله تعالى {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى : (5/43)
ولما كان قد أمرهم بذكره عند قضاء الأركان وكان ربما فهم اقتصارهم عليه في الوقت الذي كانوا يذكرون فيه آباءهم قال معمّماً وليكون الحث عليه آكد لتكرير الندب إليه بصيغة الأمر فيكون أضخم لشأنه : {واذكروا} بالرمي ، أمر بالرمي وعبر عنه بالذكر ليشمل كل ذكر لسانياً كان أو غيره {الله} أي لما يستحقه في ذاته من الكمال {في أيام} ولما كانت لا تحتاج إلى غير العد لكونها قليلة وبعد الأيام التي يحتاط في أمرها بالرأي وغيره حتى تكون معلومات قال جامعاً صفة ما لا يعقل بما اطرد فيها من الألف والتاء إذا كان موصوفها جمع قلة : {معدودات} وهي أيام إقامتكم بمنى في ضيافته سبحانه لفعل بقية ما عليكم من تتمات العبادات الحجية أولها يوم القر ، وهو الحادي عشر ليستقر الناس فيه بمنى ، ثانيها يوم النفر الأول ، ثالثها يوم النفر الأعظم ، والثلاثة تسمى أيام التشريق ، وهى مع يوم العيد تسمى أيام النحر. والأربعة مع يوم عرفة أيام التكبير والذكر. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 381 ـ 382}
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى : {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ}
معطوف على {فاذكروا الله كذكركم آباءكم} {البقرة : 200 ] وما بينهما اعتراض ، وإعادة فعل {اذكروا} ليبنى عليه تعليق المجرور أي قوله : {في أيام معدودات} لبعد متعلقه وهو {فاذكروا الله كذكركم آباءكم} ، لأنه أريد تقييد الذكر بصفته ثم تقييدُه بزمانه ومكانه. فالذكر الثاني هو نفس الذكر الأول وعطفه عليه منظور فيه إلى المغايرة بما علق به من زمانه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 249}
قال الفخر : (5/44)
اعلم أنه لما ذكر ما يتعلق بالمشعر الحرام لم يذكر الرمي لوجهين أحدهما : أن ذلك كان أمراً مشهوراً فيما بينهم وما كانوا منكرين لذلك ، إلا أنه تعالى ذكر ما فيه من ذكر الله لأنهم كانوا لا يفعلونه والثاني : لعله إنما لم يذكر الرمي لأن في الأمر بذكر الله في هذه الآيام دليلاً عليه ، إذ كان من سننه التكبير على كل حصاة منها ثم قال : {واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات} وفيه مسائل :
(5/45)
المسألة الأولى : إن الله تعالى ذكر في مناسك الحج الأيام المعدودات ، والأيام المعلومات فقال هنا : {واذكروا الله فِى أَيَّامٍ معدودات} وقال في سورة الحج : {لّيَشْهَدُواْ منافع لَهُمْ وَيَذْكُرُواْ اسم الله فِى أَيَّامٍ معلومات} {الحج : 28 ] فمذهب الشافعي رضي الله عنه أن المعلومات هي العشر الأول من ذي الحجة آخرها يوم النحر ، وأما المعدودات فثلاثة أيام بعد يوم النحر ، وهي أيام التشريق ، واحتج على أن المعدودات هي أيام التشريع بأنه تعالى ذكر الأيام المعدودات ، والأيام لفظ جمع فيكون أقلها ثلاثة ، ثم قال بعده : {فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} وهذا يقتضي أن يكون المراد {فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} من هذه الأيام المعدودات ، وأجمعت الأمة على أن هذا الحكم إنما ثبت في أيام منى وهي أيام التشريق ، فعلمنا أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق ، والقفال أكد هذا بما روى في "تفسيره" عن عبد الرحمن بن نعمان الذيلمي ، أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمر منادياً فنادى : "الحج عرفة من جاء ليلة جمع قبل طلوع الفجر فقد أدرك الحج ، وأيام منى ثلاثة أيام فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه "وهذا يدل على أن الأيام المعدودات هي أيام التشريق ، قال الواحدي رحمة الله عليه : أيام التشريق هي ثلاثة أيام بعد يوم النحر أولها : يوم النفر ، وهو اليوم الحادي عشر من ذي الحجة ينفر الناس فيه بمنى والثاني : يوم النفر الأول لأن بعض الناس ينفرون في هذا اليوم من منى والثالث : يوم النفر الثاني ، وهذه الآيام الثلاثة مع يوم النحر كلها أيام النحر ، وأيام رمي الجمار في هذه الأيام الأربعة مع يوم عرفة أيام التكبير إدبار الصلوات.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 164}
فائدة(5/46)
الأيام المعدودات أيام منى ، وهي ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، يقيم الناس فيها بمنى وتسمى أيام التشريق ، لأن الناس يقددون فيها اللحم ، والتقديد تشريق ، أو لأن الهدايا لا تنحر فيها حتى تشرق الشمس. وكانوا يعلمون أن إقامتهم بمنى بعد يوم النحر بعد طواف الإفاضة ثلاثة أيام فيعلمون أنها المراد هنا بالأيام المعدودات ، ولذلك قال جمهور الفقهاء الأيام المعدودات أيام منى وهي بعد اليوم العاشر وهو قول ابن عمر ومجاهد وعطاء وقتادة والسدي والضحاك وجابر بن زيد ومالك ، وهي غير المراد من الأيام المعلومات التي في قوله تعالى : {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات} في {سورة الحج : 28 ]. فالأيام المعلومات أيام النحر الثلاثة ، وهي اليوم العاشر ويومان بعده. والمعدودات أيام منى بعد يوم النحر ، فاليوم العاشر من المعلومات لا من المعدودات ، واليومان بعده من المعلومات والمعدودات ، واليوم الرابع من المعدودات فقط ، واحتجوا على ذلك بقوله تعالى : {ويذكروا اسم الله في أيام معلومات على رزقهم من بهيمة الأنعام} {الحج : 28 ] لأن اليوم الرابع لا نحر فيه ولا ذَبح إجماعاً ، وقال أبو يوسف ومحمد بن الحسن لا فرق بين الأيام المعلومات والأيام المعدودات وهي يوم النحر ويومان بعده فليس اليوم الرابع عندهما معلوماً ولا معدوداً ، وعن الشافعي الأيام المعلومات من أول ذي الحجة حتى يوم النحر وما بعد ذلك معدودات ، وهو رواية عن أبي حنيفة.
ودلت الآية على طلب ذكر الله تعالى في أيام رمي الجمار وهو الذكر عند الرمي وعند نحر الهدايا.
وإنما أمروا بالذكر في هذه الأيام ، لأن أهل الجاهلية كانوا يشغلونها بالتفاخر ومغازلة النساء ، قال العرجي :
ما نَلتقِي إلاّ ثلاثَ مِنًى... حَتَّى يُفَرِّقَ بينَنا النَّفْر
وقال عمر بن أبي ربيعة :
بَدَا لِيَ منها معصم حينَ جَمَّرَتْ... وكَفٌّ خَصيبٌ زُيَّنَتْ بِبَنَان
(5/47)
فوالله ما أَدري وإِنْ كُنْتُ دَارياً... بسَبْععٍ رَمَيْتُ الجَمْرَ أمْ بِثَمَان
لأنهم كانوا يرون أن الحج قد انتهى بانتهاء العاشر ، بعد أن أمسكوا عن ملاذهم مدة طويلة فكانوا يعودون إليها ، فأمرهم الله تعالى بذكر الله فيها ، وذكرُ الله فيها هو ذكره عند رمي الجمار. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 262}
سؤال : فإن قيل : هذه التكبيرات مضافة إلى الأيام المعدودات وهي أيام التشريق ، فوجب أن لا تكون مشروعة يوم عرفة.
قلنا : فهذا يقتضي أن لا يكبر يوم النحر وهو باطل بالإجماع ، وأيضاً لما كان الأغلب في هذه المدة أيام التشريق ؛ صح أن يضاف التكبير إليها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 165}
فائدة
قال القرطبى :
قال الكوفيون : الألف والتاء في "مَعْدوداتٍ" لأقل العدد. وقال البصريون : هما للقليل والكثير ؛ بدليل قوله تعالى : {وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ} {سبأ : 37 ] والغُرفات كثيرة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 1}
فائدة لغوية
قال الآلوسى :
استشكل وصف أيام بمعدودات لأن أياماً جمع يوم وهو مذكر ، ومعدودات واحدها معدودة وهو مؤنث فكيف تقع صفة له ، فالظاهر معدودة ووصف جمع ما لا يعقل بالمفرد المؤنث جائز ، وأجيب بأن معدودات جمع معدود لا معدودة ، وكثيراً ما يجمع المذكر جمع المؤنث كحمامات وسجلات ، وقيل : إنه قدر اليوم مؤنثاً باعتبار ساعاته ، وقيل : إن المعنى أنها في كل سنة معدودة ، وفي السنين معدودات فهي جمع معدودة حقيقة ولا يخفى ما فيه. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 93}
فائدة
قال الفخر : (5/48)
قال الشافعي رضي الله عنه : المستحب في التكبيرات أن تكون ثلاثاً نسقاً أي متتابعاً ، وهو قول مالك ، وقال أبو حنيفة وأحمد : يكبر مرتين ، حجة الشافعي ما روى عبد الله بن محمد بن أبي بكر بن عمرو بن حزم ، قال : رأيت الأئمة يكبرون في أيام التشريق بعد الصلاة ثلاثاً ، ولأنه زيادة في التكبير ، فكان أولى لقوله تعالى : {اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً} ثم قال الشافعي رضي الله عنه : ويقول بعد الثلاث : "لا إله إلا الله والله أكبر ولله الحمد" ثم قال : وما زاد من ذكر الله فهو حسن ، وقال في التلبية : وأحب أن لا يزيد على تلبية رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، والفرق أن من سنة التلبية التكرار فتكرارها أولى من ضم الزيادة إليها ، وههنا يكبر مرة واحدة فتكون الزيادة أولى من السكوت ، وأما التكبير على الجمار فقد روي أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يكبر مع كل حصاة ، فينبغي أن يفعل ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 165}
وقال الخازن : (5/49)
أجمع العلماء على أن المراد بهذا هو التكبير عند رمي الجمار ، وهو أن يكبر مع كل حصاة يرمي بها في جميع أيام التشريق ، وأجمعوا أيضاً على أن التكبير في عيد الأضحى وفي هذه الأيام في إدبار الصلوات سنة واختلفوا في هذا وقت التكبير فقيل يبتدئ به من صلاة الظهر يوم النحر إلى صلاة من آخر أيام التشريق فيكون التكبير على هذا القول في خمسة عشر صلاة ، وهو قول ابن عباس وابن عمر ، وبه قال الشافعي : في أصح أقواله قال الشافعي : لأن الناس فيه تبع للحاج وذكر الحاج قيل : هذا الوقت هو التلبية ويأخذون في التكبير يوم النحر من صلاة الظهر. وقيل : إنه يبتدئ به من صلاة المغرب ليلة النحر ويختم بصلاة الصبح من آخر أيام التشريق ، وهو القول الثاني الشافعي فيكون التكبير على هذا القول : في ثمانية عشر صلاة والقول الثالث للشافعي إنه يتبدئ بالتكبير من صلاة الصبح يوم عرفة ، ويختم به بعد صلاة العصر من آخر أيام التشريق ، فيكون التكبير على هذا القول في ثلاث وعشرين صلاة وهو قول علي بن أبي طالب ، ومكحول وبه قال أبو يوسف ومحمد ، وقال ابن مسعود يبتدأ به من صبح يوم عرفة ويختم بصلاة العصر من يوم النحر ، فعلى هذا القول يكون التكبير في ثمان صلوات ، وبه قال أبو حنيفة وقال أحمد بن حنبل : إذا كان حلالاً كبر عقيب ثلاث وعشرين صلاة أولها الصبح من يوم عرفة وآخرها صلاة العصر من آخر أيام التشريق وإن كان محرماً كبر عقيب سبعة عشر صلاة أولها الظهر من يوم النحر وآخرها عصر أيام التشريق. ولفظ التكبير عند الشافعي ثلاثاً نسقاً الله أكبر الله أكبر الله أكبر وهو قول سعيد بن جبير والحسن ، وهو قول أهل المدينة ، قال الشافعي : وما زاد من ذكر الله فحسن ويروى عن ابن مسعود أنه يكبر مرتين فيقول الله أكبر الله أكبر وهو قول أهل العراق. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 132}
فائدة جليلة
قال الجاوى : (5/50)
وصيغة التكبير المحبوبة : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر كبيراً ، والحمد لله كثيراً ، وسبحان الله بكرة وأصيلاً ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، مخلصين له الدين ولو كره الكافرون ، لا إله إلا الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده. ويستحب بعد ذلك الصلاة على النبي ، لقوله تعالى : {ورفعنا لك ذكرك} ((94) الشرح : الآية 4) أي لا أذكر إلا وتذكر معي ، والمعتاد في ذلك أن يقول : اللهم صل على سيدنا محمد ، وعلى آل سيدنا محمد ، وعلى أصحاب سيدنا محمد ، وعلى أزواج سيدنا محمد ، وعلى ذرية سيدنا محمد ، وسلم تسليماً كثيراً. (1) أ هـ {نهاية الزين شرح قرة العين حـ 1 صـ 8}
___________________
(1) معلوم أن الجاوى من فقهاء الشافعية
والأمر فى التكبير واسع عند الشافعية والحنابلة ، ومن العجيب أن نرى فى هذا الزمان كثيرا من الجدل والخلاف والشقاق حول صيغة التكبير ، ومن المعلوم أن اختلاف الأئمة الأربعة رضوان الله عليهم رحمة للأمة وكلهم من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ملتمس
والبعض يريد جمع الأمة على الفروع
مع العلم باستحالة ذلك وما يترتب عليه من شقاق وفرقة ، والأمة تعانى اليوم من آثار هذا التمزيق وإلى الله المشتكى.
قال ابن قدامة ـ رحمه الله ـ فى مقدمة المغنى :
أَمَّا بَعْدُ : فَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى بِرَحْمَتِهِ وَطَوْلِهِ ، وَقُوَّتِهِ وَحَوْلِهِ ، ضَمِنَ بَقَاءَ طَائِفَةٍ مِنْ هَذِهِ الْأُمَّةِ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ عَلَى ذَلِكَ ، وَجَعَلَ السَّبَبَ فِي بَقَائِهِمْ بَقَاءَ عُلَمَائِهِمْ ، وَاقْتِدَاءَهُمْ بِأَئِمَّتِهِمْ وَفُقَهَائِهِمْ ، وَجَعَلَ هَذِهِ الْأُمَّةَ مَعَ عُلَمَائِهَا ، كَالْأُمَمِ الْخَالِيَةِ مَعَ أَنْبِيَائِهَا ، وَأَظْهَرَ فِي كُلِّ طَبَقَةٍ مِنْ فُقَهَائِهَا أَئِمَّةً يُقْتَدَى بِهَا ، وَيُنْتَهَى إلَى رَأْيِهَا ، وَجَعَلَ فِي سَلَفِ هَذِهِ الْأُمَّةِ أَئِمَّةً مِنْ الْأَعْلَامِ ، مُهْدٍ بِهِمْ قَوَاعِدَ الْإِسْلَامِ ، وَأَوْضَحَ بِهِمْ مُشْكِلَاتِ الْأَحْكَامِ ، اتِّفَاقُهُمْ حُجَّةٌ قَاطِعَةٌ ، وَاخْتِلَافُهُمْ رَحْمَةٌ وَاسِعَةٌ ، تَحْيَا الْقُلُوبُ بِأَخْبَارِهِمْ ، وَتَحْصُلُ السَّعَادَةُ بِاقْتِفَاءِ آثَارِهِمْ ، ثُمَّ اخْتَصَّ مِنْهُمْ نَفَرًا أَعْلَى أَقْدَارَهُمْ وَمَنَاصِبَهُمْ وَأَبْقَى ذِكْرَهُمْ وَمَذَاهِبَهُمْ فَعَلَى أَقْوَالِهِمْ مَدَارُ الْأَحْكَامِ ، وَبِمَذَاهِبِهِمْ يُفْتِي فُقَهَاءُ الْإِسْلَامِ.(5/51)
فائدة
قال شيخ الإسلام ابن تيمية ـ رحمه الله ـ
وصفة التكبير المنقول عند أكثر الصحابة قد روى مرفوعا إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد ، وإن قال الله أكبر ثلاثا جاز ومن الفقهاء من يكبر ثلاثا فقط ومنهم من يكبر ثلاثا ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير. أ هـ {مجموع الفتاوى حـ 24 صـ 220}
وقال فى موضع آخر :
ذكر الأعياد اجتمع فيه التعظيم والنعمة فجمع بين التكبير والحمد فالله أكبر على ما هدانا والحمد لله على ما أولانا وقد روى عن ابن عمر أنه كان يكبر ثلاثا ويقول لا إله إلا الله وحده لا شريك له له الملك وله الحمد وهو على كل شىء قدير ، فيشبهه بذكر الإشراف فى تثليثه وضم التهليل إليه وهذا اختيار الشافعي وأما أحمد وأبو حنيفة وغيرهما فاختاروا فيه ما رووه عن طائفة
من الصحابة ورواه الدارقطنى من حديث جابر مرفوعا إلى النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال الله أكبر الله أكبر لا إله إلا الله والله أكبر الله أكبر ولله الحمد فيشفعونه مرتين ويقرنون به فى إحداهما التهليل وفى الأخرى الحمد تشبيها له بذكر الأذان فإن هذا به أشبه لأنه متعلق بالصلاة ولأنه فى الأعياد التى يجتمع فيها اجتماعا عاما كما أن الأذان لاجتماع الناس فشابه الأذان فى أنه تكبير اجتماع لا تكبير مكان وانه متعلق بالصلاة لا بالشرف فشرع تكريره كما شرع تكرير تكبير الأذان وهو فى كل مرة مشفوع وكل المأثور
حسن ومن الناس من يثلثه أول مرة ويشفعه ثانى مرة وطائفة من الناس تعمل بهذا(5/52)
وقاعدتنا فى هذا الباب أصح القواعد إن جميع صفات العبادات من الأقوال والأفعال إذا كانت مأثورة أثرا يصح التمسك به لم يكره شىء من ذلك بل يشرع ذلك كله كما قلنا فى أنواع صلاة الخوف وفى نوعى الأذان الترجيع وتركه ونوعى الاقامة شفعها وإفرادها وكما قلنا فى أنواع التشهدات وأنواع الاستفتاحات وأنواع الإستعاذات وأنواع القراءات وأنواع تكبيرات العيد الزوائد وأنواع صلاة الجنازة وسجود السهو والقنوت قبل الركوع وبعده والتحميد باثبات الواو
وحذفها وغير ذلك لكن قد يستحب بعض هذه المأثورات ويفضل على بعض اذا قام دليل يوجب التفضيل ولا يكره الآخر
أ هـ {مجموع الفتاوى حـ 24 صـ 242 ـ 243}
وهذا كلام نفيس للسيوطى ذكره فى كتابه النفيس الأشباه والنظائر فى قاعدة الاجتهاد لاينقض بالاجتهاد
قال رحمه الله :
أفْتَى ابْنُ عَبْدِ السَّلَامِ بِأَنَّ الْحَاكِمَ الْمَعْلُومَ الْمَذْهَبِ إذَا حَكَمَ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ وَكَانَ لَهُ رُتْبَةُ الِاجْتِهَادِ ، أَوْ وَقَعَ الشَّكُّ فِيهِ.
فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَحْكُمُ بِخِلَافِ مَذْهَبِهِ فَيُنْقَضُ حُكْمُهُ.
وَقَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : إذَا كَانَ الْحَاكِمُ شَافِعِيًّا وَأَدَّاهُ اجْتِهَادُهُ فِي قَضِيَّةٍ أَنْ يَحْكُمَ بِمَذْهَبِ أَبِي حَنِيفَةَ جَازَ.
وَمَنَعَ مِنْهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا لِتَوَجُّهِ التُّهْمَةِ إلَيْهِ ، وَلِأَنَّ السِّيَاسَةَ تَقْتَضِي مُدَافَعَةَ اسْتِقْرَارِ الْمَذَاهِبِ وَتَمْيِيزَ أَهْلِهَا.
وَقَالَ ابْنُ الصَّلَاحِ : لَا يَجُوزُ لِأَحَدٍ أَنْ يَحْكُمَ فِي هَذَا الزَّمَانِ بِغَيْرِ مَذْهَبِهِ ، فَإِنْ فَعَلَ نُقِضَ لِفَقْدِ الِاجْتِهَادِ فِي أَهْلِ هَذَا الزَّمَانِ. أ هـ {الأشباه والنظائر للسيوطى حـ 1 صـ 132}
بعد هذا الكلام النفيس هل يليق بث الفرقة والخلاف وشق وحدة الأمة بهذه الفرعيات المختلف فيها ؟؟!!
من المعلوم عند أهل العلم أن المسألة إذا دخلت دائرة الاختلاف الفقهى بين العلماء فقد دخلت دائرة الرحمة
قال سفيان ـ الثورى رحمه الله ـ :
إن الله لا يعذب أحدا على ما اختلف فيه العلماء
ما قيمت هذه الخلافات ؟ وما جدواها ؟ ولمصلحة من ؟؟!!!
لماذا لا يسعنا ما وسع أسلافنا ؟؟!!!
إن الأمة عاشت أزهى العصور وأبهى القرون فى ظل اختلافات المذاهب الأربعة التى وحدت الأمة ، وجمعتها على الحق.
فهل نحن الآن بحاجة إلى أمثال هذه الخلافات والترهات. ؟!
لو كان الخلاف اليوم عن علم لما فرق الأمة.
إن المسائل التى يختلف فيها البعض اليوم ويجعل منها قضايا تفرق الأمة لو دققنا فيها النظر لوجدناها أقرب إلى إماطة الأذى عن الطريق والتى اعتبرها رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أدنى شعب الإيمان
هذا إن سلمنا بصحة القول فيها ، فكيف وأكثر المسائل المطروحة على الساحة الآن لا تخلوا من خلاف فقهى
هلا وجهنا الاهتمام إلى الأمور الكبيرة والتى تتعلق بمستقبل الإسلام وسط هذه التحديات
إن العالم اليوم يتصارع ويتناحر ولا يتحد إلا على أمر واحد هو معاداة الإسلام ، والنيل من رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ
يا ليت شعرى هل يدرى المسلمون ماذا يدبر لهم ؟!!!
إننى أتجرع كأس المرارة وأنا أخط هذه السطور وأشهد الله أن قلبى يبكى قبل عيناى على ما آل إليه وضع أمتنا اليوم
أيليق هذا بأمة قال الله فى حقها
{كنتم خير أمة أخرجت للناس} {واعتصموا بحبل الله جميع ولا تفرقوا} ؟؟!!!
{إنما أشكو بثى وحزنى إلى الله}.
والله أعلم.(5/53)
بحث نفيس
هل على الإنسان التزام مذهب معين أم لا ؟ .
اعلم أولاً - علمك الله تعالى كل خير - أن مذاهب السلف الماضين من الصحابة [ والتابعين ] وتابعي التابعين - رضوان الله تعالى عليهم أجمعين - كثيرة لا تكاد تنحصر الآن عدداً ، أو كلها اجتهادات استوفت الشروط ، فاستفادت من الله تعالى معونة ومدداً ولا يجوز لأحد الطعن في شيء منها أبداً.
كما قال الشيخ عبدالرؤوف المناوي رحمه الله في شرح الجامع الأسيوطي : ويجب علينا أن نعتقد أن الأئمة الأربعة والسفيانين - يعني سفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة - والأوزاعي ، وداود الظاهري ، وإسحاق بن راهويه ، وسائر الأئمة على هدى ، ولا التفات لمن تكلم فيه بما هم بريئون منه. انتهى.
وفي جمع الجوامع : وأن الشافعي ، ومالك ، وأبا حنيفة ، والسفيانين ، وأحمد ، والأوزاعي ، وإسحاق ، وداود ، وسائر أئمة المسلمين على هدى من ربهم.
وقال الشارح المحلي : ولا التفات لمن تكلم فيهم بما هم بريئون منه. انتهى.
قلت : فإن من اشتمل على ما يعاب به في الدين ولم يطعن فيه أحد ، فلا إثم على من لم يطعن ، وأما إذا لم يشتمل على شيء من ذلك ، ووقع الطعن من أحد ، فالإثم على الطاعن. قال تعالى : { تلك أمة قد خلت لها ما كسبت ولكم ما كسبتم ولا تسألون عما كانوا يعملون } وأما تقليد مذهب من مذاهبهم الآن غير المذاهب الأربعة ، فلا يجوز لا لنقصان في مذاهبهم ، ورجحان المذاهب الأربعة عليهم ، لأن فيهم الخلفاء المفضلين على جميع الأمة ، بل لعدم تدوين مذاهبهم وعدم معرفتنا الآن بشروطها وقيودها ، وعدم وصول ذلك إلينا بطريق التواتر ، حتى لو وصل إلينا شيء من ذلك كذلك جاز لنا تقليده ، لكنه لم يصل كذلك.
وقال في الأشباه والنظائر لابن نجم الحنفي رحمه الله تعالى إنه : صرح في التحرير لابن الهمام إن الإجماع انعقد على عدم العمل بمذهب يخالف الأربعة لانضباط مذاهبهم ، واشتهارها وكثرة اتباعها. انتهى.(5/54)
إذا علمت هذا ، فاعلم أن المذاهب الآن التي يجوز تقليدها هي هذه المذاهب الأربعة لا غير.
انحصر الآن العمل بشريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - في العمل بما ذهب إليه أحد الأربعة فقط على العموم ، فالأمر المتفق عليه المعلوم من الدين بالضرورة ، لا يحتاج إلى التقليد فيه لأحد الأربعة ، كفرضية الصلاة ، والصوم ، والزكاة ، والحج ، ونحوها ، وحرمة الزنا ، واللواط ، وشرب الخمر ، والقتل ، والسرقة ، والغصب ، وما أشبه ذلك.
والأمر المختلف فيه هو الذي يحتاج إلى التقليد فيه ، فإذا قلد فيه الإنسان مذهباً معيناً من المذاهب الأربعة ، فهل يلزم ذلك الإنسان الدوم عليه ، أو يجوز له الانتقال عنه ؟ .
ثم قال الجلال السيوطي : واعلم أن اختلاف المذاهب في هذه الملّة نعمة كبيرة ، وفضيلة جزيلة عظيمة ، وله سر لطيف أدركه العالمون ، وعمي عنه الجاهلون ، حتى سمعت بعض الجهال يقول : النبي - صلى الله عليه وسلم - جاء بشرع واحد فمن أين مذاهب أربعة ؟ .
(5/55)
ومن العجيب أيضاً من يأخذ في تفضيل بعض المذاهب على بعض تفضيلاً يؤدي إلى تنقيص المفضل عليه وسقوطه ، وربما أدى إلى الخصام بين السفهاء ، وصارت عصبة وحمية الجاهلية ، والعلماء منزهون عن ذلك وقد وقع الاختلاف في الفروع بين الصحابة 0 رضي الله تعالى عنهم 0 وهم خير الأمة ، فما خاصم أحدٌ منهم أحداً ، ولا عادى أحد منهم أحداً ولا نسب أحدٌ إلى أحد خطأً ولا قصوراً ، والسر الذي أشرت إليه قد استنبطته من حديث : " إن اختلاف هذه الأمة رحمة لها وكان اختلاف الأمم السابقة عذاباً وهلاكاً " فعرف بذلك أن اختلاف المذاهب في هذه الملة خصيصة فاضلة لهذه الأمة ، وتوسيعٌ في هذه الشريعة السمحة السهلة ، فكان الأنبياء - صلوات الله عليهم - يُبعث أحدهم بشرع واحد وحكم واحد ، حتى أنه من ضيق شريعتهم لم يكن فيها تخيير في كثير من الفروع التي شرع فيها التخيير في شريعتنا ، كتحريم عدم القصاص في شريعة اليهود ، وتحتم الدية في شريعة النصارى ، وهذه الشريعة وقع فيها التخيير بين أمرين : شرع كل منهما في ملة كالقصاص والدية ، فكأنها جمعت بين الشرعين معاً ، وزادت حسناً بشرع ثالث وهو التخيير ، ومن ذلك مشروعية الاختلاف في الفروع ، فكانت المذاهب على اختلافها كشرائع متعددة كل مأمور به في هذه الشريعة ، فصارت هذه الشريعة كأنها عدّة شرائع بعث النبي - صلى الله عليه وسلم - بجميعها ، انتهى كلامه مختصراً.
روي أن أبا يوسف رحمه الله تعالى : أنه صلى يوم الجمعة مغتسلاً من الحمام بالناس ، وتفرقوا ، ثم أخبر بوجود فأرة ميتة في بئر الحمام ، فقال : إذن نأخذ بقول إخواننا من أهل المدينة المنورة : " إذا بلغ الماء قلتين لم يحمل خبثاً ". انتهى.
وروي أن الشافعي رضي الله عنه ترك القنوت في الصبح لما صلى مع جماعة الحنفية في مسجد إمامهم بضواحي بغداد فقال كثير من الناس : فعل ذلك أدبا مع الإمام. أ هـ {خلاصة التحقيق في بيان حكم التقليد والتلفيق للشيخ عبد الغنى النابلسى صـ 2 ـ 7 ـ بتصرف يسير}(5/56)
فائدة
قال القرطبى :
سُمِّيت مِنًى "مِنًى" لما يُمْنَى فيها من الدماء ، أي يُراق. وقال ابن عباس : إنما سُمِّيت مِنًى لأن جبريل قال لآدم عليه السلام : تمنّ. قال : أتمنّى الجنة ؛ فسُمِّيت مِنًى. قال : وإنما سميت جَمْعاً لأنه اجتمع بها حواء وآدم عليهما السلام ، والجَمْع أيضاً هو المزدلفة ، وهو المشعر الحرام. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 7}
قوله تعالى : {فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما فهم من هذا أنه لا بد من الإقامة بها - في مدة الثلاثة الأيام نفى ذلك ميسراً لأنّ الحج يجمع القوي والضعيف والخادم والمخدوم ، والضعيف في هذا الدين أمير على القوي فقال مشيراً إلى أن الإنسان في ذلك الجمع الأعظم له نازعان نازع ينزع إلى الإقامة في تلك الأماكن المرضية والجماعات المغفورة ونازع ينزعه إلى أهله وأوطانه وعشائره وإخوانه : {فمن تعجل} منكم النفر للرجوع إلى أوطانه {في يومين} منها {فلآ إثم عليه} والعجلة فعل الشيء قبل وقته الأليق به ، وقيد باليومين إعلاماً بأن من أدركه غروب اليوم الثاني بمنى وهو مقيم لزمه مبيت الليلة الثالثة ورمى اليوم الثالث ، فإن نفر قبل غروبه سقط عنه المبيت والرمي ، قال في شرح المهذب : بلا خلاف ، وكذا إن أدركه الغروب وهو راحل قبل أن ينفصل منها ، ولم يقيد التأخر لأن نهايته باليوم الثالث معروفة من أن الأيام ثلاثة.(5/57)
ولما كان ذلك ربما أفهم أن المتأخر يلحقه إثم كما كان أهل الجاهلية يقولون وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم قوماً يسابقون إلى المعالي وكان سبحانه وتعالى يريد الرفق بأهل هذا الدين ستر التصريح بالترغيب في التأخر فعبر عنه أيضاً بنفي الإثم كالأول بعد أن أشار إلى الترغيب فيه بالتعبير عن النفر الأول بالتعجل فقال : {ومن تأخر} أي فأقام في منى إلى تمام الثلاثة فرمى اليوم الثالث {فلآ إثم عليه} والتأخر إبعاد الفعل من الآن الكائن. قال الشيخ محيي الدين في شرح المهذب : قال الشافعي رضي الله تعالى عنه والأصحاب : يجوز النفر في اليوم الثاني من التشريق ويجوز في الثالث ، وهذا مجمع عليه لقوله تعالى : {فمن تعجل} - الآية ، قالوا : والتأخر إلى اليوم الثالث أفضل للأحاديث الصحيحة والذكر ، ولما فهم من هذا أنه لا بد من الإقامة بها - في مدة الثلاثة الأيام نفى ذلك ميسراً لأنّ الحج يجمع القوي والضعيف والخادم والمخدوم ، والضعيف في هذا الدين أمير على القوي فقال مشيراً إلى أن الإنسان في ذلك الجمع الأعظم له نازعان نازع ينزع إلى الإقامة في تلك الأماكن المرضية والجماعات المغفورة ونازع ينزعه إلى أهله وأوطانه وعشائره وإخوانه : {فمن تعجل} منكم النفر للرجوع إلى أوطانه {في يومين} منها {فلآ إثم عليه} والعجلة فعل الشيء قبل وقته الأليق به ، وقيد باليومين إعلاماً بأن من أدركه غروب اليوم الثاني بمنى وهو مقيم لزمه مبيت الليلة الثالثة ورمى اليوم الثالث ، فإن نفر قبل غروبه سقط عنه المبيت والرمي ، قال في شرح المهذب : بلا خلاف ، وكذا إن أدركه الغروب وهو راحل قبل أن ينفصل منها ، ولم يقيد التأخر لأن نهايته باليوم الثالث معروفة من أن الأيام ثلاثة.
(5/58)
ولما كان ذلك ربما أفهم أن المتأخر يلحقه إثم كما كان أهل الجاهلية يقولون وكان الصحابة رضي الله تعالى عنهم قوماً يسابقون إلى المعالي وكان سبحانه وتعالى يريد الرفق بأهل هذا الدين ستر التصريح بالترغيب في التأخر فعبر عنه أيضاً بنفي الإثم كالأول بعد أن أشار إلى الترغيب فيه بالتعبير عن النفر الأول بالتعجل فقال : {ومن تأخر} أي فأقام في منى إلى تمام الثلاثة فرمى اليوم الثالث {فلآ إثم عليه} والتأخر إبعاد الفعل من الآن الكائن. قال الشيخ محيي الدين في شرح المهذب : قال الشافعي رضي الله تعالى عنه والأصحاب : يجوز النفر في اليوم الثاني من التشريق ويجوز في الثالث ، وهذا مجمع عليه لقوله تعالى : {فمن تعجل} - الآية ، قالوا : والتأخر إلى اليوم الثالث أفضل للأحاديث الصحيحة. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 382}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} تفريع لفظي للإذن بالرخصة في ترك حضور بعض أيام منى لمن أعجله الرجوع إلى وطنه ، وجيء بالفاء لتعقيب ذكر الرخصة بعد ذكر العزيمة رحمة منه تعالى بعباده.
وفِعْلاَ {تَعَجَّل} و{ تأَخَّر} : مشعران بتعجل وتأخر في الإقامة بالمكان الذي يشعر به اسم الأيام المعدودات ، فالمراد ، من التعجل عدم اللبث وهو النفر عن منى ومن التأخر اللبث في منى إلى يوم نفر جميع الحجيج ، فيجوز أن تكون {صيغة} تعجل و{ تأخر} معناهما مطاوعة عجله وأخره فإن التفعل يأتي للمطاوعة كأنه عجل نفسه فتعجل وأخرها فتأخر فيكون الفعلان قاصرين لا حاجة إلى تقدير مفعول لهما ولكن المتعجل عنه والمتأخر إليه مفهومان من اسم الأيام المعدودات ، أي تعجل النفر وتأخر النفر ، ويجوز أن تكون صيغة التفعل في الفعلين لتكلف الفعل كأنه اضطر إلى العجلة أو إلى التأخر فيكون المفعول محذوفاً لظهوره أي فمن تعجل النفر ومن تأخره.(5/59)
فقوله : {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} ظاهر المعنى في نفي الإثم عنه ، وإنما قوله : {ومن تأخر فلا إثم عليه} يشكل بأن نفي الإثم يقتضي توهم حصوله فيصير التأخر إلى اليوم الرابع رخصة مع أنه هو العزيمة ، ودُفع هذا التوهم بما روي أن أهل الجاهلية كانوا على فريقين ؛ فريق منهم يبيحون التعجيل ، وفريق يبيحون التأخير إلى الرابع فوردت الآية للتوسعة في الأمرين ، أو تجعل معنى نفي الإثم فيهما كناية عن التخيير بين الأمرين ، والتأخير أفضل ، ولا مانع في الكلام من التخيير بين أمرين وإن كان أحدهما أفضل كما خير المسافرُ بين الصوم والإفطار وإن كان الصوم أفضل.
وعندي أن وجه ذكر {ومن تأخر فلا إثم عليه} أن الله لما أمر بالذكر في أيام منى وترك ما كانوا عليه في الجاهلية من الاشتغال فيها بالفضول كما تقدم ، وقال بعد ذلك {فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه} خيف أن يتوهم أن التعجيل بالنفر أولى تباعداً من مواقعة ما لا يحسن من الكلام ، فدفع ذلك بقوله : {ومن تأخر فلا إثم عليه} فإذا نفي هذا التوهم علم السامع أنه قد ثبتت للمتأخر فضيلة الإقامة بتلك المنازل المباركة والمشاركة فيها بذكر الله تعالى ، ولذلك عقبه بقوله : {لمن اتقى} أي لمن اتقى الله في تأخره فلم يرفث ولم يفسق في أيام منى ، وإلاّ فالتأخر فيها لمن لم يتق إثم فهو متعلق بما تدل عليه ( لا ) من معنى النفي ، أو هو خبر مبتدأ ، أي ذلك وبدون هذا لا يظهر وجه لزيادة قوله {لمن اتقى} وإن تكلفوا في تفسيره بما لا تميل النفس إلى تقريره. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 263}
أسئلة وأجوبة
قال العلامة الفخر :
أما قوله تعالى : {فَمَن تَعَجَّلَ فِى يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتقى} ففيه سؤالات :
السؤال الأول : لم قال فمن تعجل ولم يقل فمن عجل ؟ .(5/60)
الجواب : قال صاحب "الكشاف" : تعجل واستعجل يجيئان مطاوعين بمعنى عجل ، يقال : تعجل في الأمر واستعجل ، ومتعديين يقال : تعجل الذهاب واستعجله.
السؤال الثاني : قوله : {وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} فيه إشكال ، وذلك لأنه إذا كان قد استوفى كل ما يلزمه في تمام الحج ، فما معنى قوله : {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} فإن هذا اللفظ إنما يقال في حق المقصر ولا يقال في حق من أتى بتمام العمل.
(5/61)
والجواب : من وجوه : أحدها : أنه تعالى لما أذن في التعجل على سبيل الرخصة احتمل أن يخطر ببال قوم أن من لم يجر على موجب هذه الرخصة فإنه يأثم ، ألا ترى أن أبا حنيفة رضي الله عنه يقول : القصر عزيمة ، والإتمام غير جائز ، فلما كان هذا الاحتمال قائماً ، لا جرم أزال الله تعالى هذه الشبهة وبين أنه لا إثم في الأمرين ، فإن شاء استعجل وجرى على موجب الرخصة ، وإن شاء لم يستعجل ولم يجر على موجب الرخصة ، ولا إثم عليه في الأمرين جميعاً وثانيها : قال بعض المفسرين : إن منهم من كان يتعجل ، ومنهم من كان يتأخر ، ثم كل واحد من الفريقين يعيب على الآخر فعله ، كان المتأخر يرى أن التعجل مخالفة لسنة الحج ، وكان المتعجل يرى أن التأخر مخالفة لسنة الحج ، فبين الله تعالى أنه لا عيب في واحد من القسمين ولا إثم ، فإن شاء تعجل وإن شاء لم يتعجل وثالثها : أن المعنى في إزالة الإثم عن المتأخر إنما هو لمن زاد على مقام الثلاث ، فكأنه قيل : إن أيام منى التي ينبغي المقام بها هي ثلاث ، فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه ، ومن زاد عليها فتأخر عن الثالث إلى الرابع فلم ينفر مع عامة الناس فلا شيء عليه ورابعها : أن هذا الكلام إنما ذكر مبالغة في بيان أن الحج سبب لزوال الذنوب وتكفير الآثام وهذا مثل أن الإنسان إذا تناول الترياق ، فالطبيب يقول له : الآن إن تناولت السم فلا ضرر ، وإن لم تتناول فلا ضرر ، مقصوده من هذا بيان أن الترياق دواء كامل في دفع المضار ، لا بيان أن تناول السم وعدم تناوله يجريان مجرى واحد ، فكذا ههنا المقصود من هذا الكلام بيان المبالغة في كون الحج مكفراً لكل الذنوب ، لا بيان أن التعجل وتركه سيان ، ومما يدل على كونه الحج سبباً قوياً في تكفير الذنوب قوله عليه الصلاة والسلام : "من حج فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه "وخامسها : أن كثيراً من العلماء قالوا : الجوار مكروه ، لأنه إذا(5/62)
جاور الحرم والبيت سقط وقعه عن عينه ، وإذا كان غائباً إزداد شوقه إليه ، وإذا كان كذلك احتمل أن يخطر ببال أحدنا على هذا المعنى أن من تعجل في يومين فحاله أفضل ممن لم يتعجل ، وأيضاً من تعجل في يومين فقد انصرف إلى مكة لطواف الزيارة وترك المقام بمنى ، ومن لم يتعجل فقد اختار المقام بمنى وترك الإستعجال في الطواف فلهذا السبب يبقى في الخاطر تردد في أن المتعجل أفضل أم المتأخر ؟ فبين الله تعالى أنه لا إثم ولا حرج في واحد منهما وسادسها : قال الواحدي رحمه الله تعالى : إنما قال : {وَمَن تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} لتكون اللفظة الأولى موافقة للثانية ، كقوله : {وَجَزَاءَ سَيّئَةٍ سَيّئَةٌ مّثْلُهَا} {الشورى : 40 ] وقوله : {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} {البقرة : 194 ] ونحن نعلم أن جزاء السيئة والعدوان ليس بسيئة ولا بعدوان ، فإذا حمل على موافقة اللفظ ما لا يصح في المعنى ، فلأن يحمل على موافقة اللفظ ما يصح في المعنى أولى ، لأن المبرور المأجور يصح في المعنى نفي الإثم عنه.
السؤال الثالث : هل في الآية دلالة على وجوب الإقامة بمنى بعد الإفاضة من المزدلفة ؟ .
الجواب : نعم ، كما كان في قوله : {فَإِذَا أَفَضْتُم مّنْ عرفات} {البقرة : 198 ] دليل على وقوفهم بها.
واعلم أن الفقهاء قالوا : إنما يجوز التعجل في اليومين لمن تعجل قبل غروب الشمس من اليومين فأما إذا غابت الشمس من اليوم الثاني قبل النفر فليس له أن ينفر إلا في اليوم الثالث لأن الشمس إذا غابت فقد ذهب اليوم ، وإنما جعل له التعجل في اليومين لا في الثالث هذا مذهب الشافعي ، وقول كثير من فقهاء التابعين ، وقال أبو حنيفة رضي الله عنه : يجوز له أن ينفر ما لم يطلع الفجر ، لأنه لم يدخل وقت الرمي بعد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 166}
قوله تعالى : {لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ }
المناسبة(5/63)
قال البقاعى :
ولما كان مدار الأعمال البدنيات على النيات قيد ذلك بقوله : {لمن} أي هذا النفي للإثم عن القسمين لمن {اتقى} من أهلهما فأدار أفعاله على ما يرضي الله. ولما كان التقدير : فافعلوا ما شئتم من التعجل والتأخر عطف عليه ما علم أنه روحه فقال : {واتقوا الله} أي الذي له الإحاطة الشاملة. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 382}
قال ابن عاشور :
وقوله : {واتقوا الله} وصاية بالتقوى وقعت في آخر بيان مهامّ أحكام الحج ، فهي معطوفة على {واذكروا الله} أو معترضة بين {ومن تأخر} وبين {من الناس من يعجبك} {البقرة : 204 ] الخ.
وقد استُحضر حال المخاطبين بأحكام الحج في حال حجهم ؛ لأن فاتحة هاته الآيات كانت بقوله : {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث} {البقرة : 197 ] الخ ولما ختمت بقوله : {واذكروا الله في أيام معدودات} وهي آخر أيام الحج وأشير في ذلك إلى التفرق والرجوع إلى الأوطان بقوله {فمن تعجل في يومين} الخ ، عُقب ذلك بقوله تعالى : {واتقوا الله} وصية جامعة للراجعين من الحج أن يراقبوا تقوى الله في سائر أحوالهم وأماكنهم ولا يجعلوا تقواه خاصة بمدة الحج كما كانت تفعله الجاهلية فإذا انقضى الحج رجعوا يتقاتلون ويغيرون ويفسدون ، وكما يفعله كثير من عصاة المسلمين عند انقضاء رمضان. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 264}
قال العلامة الفخر :
أما قوله تعالى : {لِمَنِ اتقى} ففيه وجوه أحدها : أن الحاج يرجع مغفوراً له بشرط أن يتقي الله فيما بقي من عمره ولم يرتكب ما يستوجب به العذاب ، ومعناه التحذير من الاتكال على ما سلف من أعمال الحج فبين تعالى أن عليهم مع ذلك ملازمة التقوى ومجانبة الاغترار بالحج السابق.(5/64)
وثانيها : أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقياً قبل حجه ، كما قال تعالى : {إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين} {المائدة : 27 ] وحقيقته أن المصر على الذنب لا ينفعه حجه وإن كان قد أدى الفرض في الظاهر وثالثها : أن هذه المغفرة إنما تحصل لمن كان متقياً عن جميع المحظورات حال اشتغاله بالحج ، كما روي في الخبر من قوله عليه الصلاة والسلام : "من حج فلم يرفث ولم يفسق "واعلم أن الوجه الأول من هذه الوجوه التي ذكرناها إشارة إلى اعتباره في الحال والتحقيق أنه لا بد من الكل وقال بعض المفسرين المراد بقوله : {لِمَنِ اتقى} ما يلزمه التوقي في الحج عنه من قتل الصيد وغيره ، لأنه إذا لم يجتنب ذلك صار مأثوماً ، وربما صار عمله محبطاً ، وهذا ضعيف من وجهين الأول : أنه تقييد للفظ المطلق بغير دليل الثاني : أن هذا لا يصح إلا إذا حمل على ما قبل هذه الأيام ، لأنه في يوم النحر إذا رمى وطاف وحلق ، فقد تحلل قبل رمي الجمار فلا يلزمه اتقاء الصيد إلا في الحرم ، لكن ذاك ليس للإحرام ، لكن اللفظ مشعر بأن هذا الاتقاء معتبر في هذه الأيام ، فسقط هذا الوجه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 167}
وقال الآلوسى : (5/65)
{ لِمَنِ اتقى} خبر لمحذوف واللام إما للتعليل أو للاختصاص ، أي ذلك التخيير المذكور بقرينة القرب لأجل المتقي لئلا يتضرر بترك ما يقصده من التعجيل والتأخر لأنه حذر متحرز عما يريبه ، أو ذلك المذكور من أحكام الحج مطلقاً نظراً إلى عدم المخصص القطعي ، وإن كانت عامة لجميع المؤمنين مختصة بالمتقي لأنه الحاج على الحقيقة ، والمنتفع بها ، والمراد من التقوى على التقديرين التجنب عما يؤثم من فعل أو ترك ولا يجوز حملها على التجنب عن الشرك لأن الخطاب في جميع ما سبق للمؤمنين ، واستدل بعضهم بالآية على أن الحاج إذا اتقى في أداء حدود الحج وفرائضه غفرت له ذنوبه كلها ، وروي ذلك عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، وأخرج ابن جرير عنه أنه فسر الآية بذلك ثم قال : إن الناس يتأوّلونها على غير تأويلها ، وهو من الغرابة بمكان. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 94}
قوله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ}
المناسبة
قال البقاعى : (5/66)
ولما كان الحج حشراً في الدنيا والانصراف منه يشبه انصراف أهل الموقف بعد الحشر عن الدنيا فريقاً إلى الجنّة وفريقاً إلى السعير ذكرهم بذلك بقوله : {واعلموا أنَّكم} جميعاً {إليه} لا إلى غيره {تحشرون} بعد البعث ، والحشر الجمع بكره ، وهو واقع على أول خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف ، فاعلموا لما يكون سبباً في انصرافكم منه إلى دار كرامته لا إلى دار إهانته. قال الحرالي : وكلية الحج ومناسكه مطابق في الاعتبار لأمر يوم الحشر ومواقفه من خروج الحاج من وطنه متزوداً كخروج الميت من الدنيا متزوداً بزاد العمل ، ووصوله إلى الميقات وإهلاله متجرداً كانبعاثه من القبر متعرياً ، وتلبيته في حجه كتلبيته في حشره {مهطعين إلى الداع} {القمر : 80 ] كذلك اعتباره موطناً إلى غاية الإفاضة والحلول بحرم الله في الآخرة التي هي الجنة ، والشرب من ماء زمزم التي هي آية نزل الله لأهل الجنة على وجوه من الاعتبارات يطالعها أهل الفهم واليقين ، فلأجل ذلك كان أتم ختم لأحكام الحج ذكر الحشر - انتهى. وهنا تم ما أراد سبحانه وتعالى من بيان قواعد الإسلام الخمس : الإيمان والصلاة والزكاة والصوم والحج ، المشار إلى الثلاث الأول منها بقوله تعالى أول السورة : {يؤمنون بالغيب ويقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون} {البقرة : 3 ] وذكر الحج لمزيد الاعتناء به لاحقاً للصوم بعد ذكره سابقاً عليه ، ولعل ذلك هو السبب في تقديم الصوم على الحج تارة وتأخيره أخرى في روايات حديث ابن عمر رضي الله تعالى عنهما في الصحيح "بني الإسلام على خمس ". أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 383}
قال الفخر : (5/67)
أما قوله : {واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} فهو تأكيد للأمر بالتقوى ، وبعث على التشديد فيه ، لأن من تصور أنه لا بد من حشر ومحاسبة ومساءلة ، وأن بعد الموت لا دار إلا الجنة أو النار ، صار ذلك من أقوى الدواعي له إلى التقوى ، وأما الحشر فهو اسم يقع على ابتداء خروجهم من الأجداث إلى انتهاء الموقف ، لأنه لا يتم كونهم هناك إلا بجميع هذه الأمور ، والمراد بقوله : {إِلَيْهِ} أنه حيث لا مالك سواه ولا ملجأ إلا إياه ، ولا يستطيع أحد دفعاً عن نفسه ، كما قال تعالى : {يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ} {الإنفطار : 19 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 167}
فائدة
قال السمرقندى :
وإنما حذرهم الله تعالى ، لأنهم إذا رجعوا من حجهم ، يجترئون على الله تعالى بالمعاصي ، فحذرهم عن ذلك فقال : {واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ} ، فيجازيكم بأعمالكم. أ هـ {تفسير السمرقندى حـ 1 صـ 162}
سؤال : لم اختير لفظ ( تحشرون ) هنا دون تصيرون أو ترجعون ؟
الجواب : اختير لفظ ( تحشرون ) هنا دون تصيرون أو ترجعون ، لأن تحشرون أجمع لأنه يدل على المصير وعلى الرجوع مع الدلالة على أنهم يصيرون مجتمعين كلهم كما كانوا مجتمعين حين استحضار حالهم في هذا الخطاب وهو اجتماع الحج ، ولأن الناس بعد الحج يحشرون إلى مواطنهم فذكرهم بالحشر العظيم ، فلفظ تحشرون أنسب بالمقام من وجوه كثير. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 264}
من فوائد ابن عرفة فى الآية الكريمة
قوله تعالى : {واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ...}.
الأمر إما خاص ( بالحاج ) أو عام لأن سائر الناس أيضا يكبّرون في تلك الأيام غير أنّ الحجاج يكبرون في كل النهار وغيرهم يكبّر دبر ( كل ) صلاة فقط ، وقد كان عمر يرفع صوته بالتكبير في ( خبائِه ) فيكبّر من خلفه ثم يكبر النّاس كلّهم حتى ( يُسْمَع ) التكبير من مكة.(5/68)
( وقيل ) هل الأمر للوجوب أو للندب ؟
قال : إن أريد مطلق الذكر فهو للوجوب وإن أريد الذكر الخاص في الوقت الخاص فهو للندب ، وأما للاباحة ( فلا ).
وقوله "مَّعْدُودَاتٍ "أخذوا منه أن الواحد عدد لأنه جمع مفرده معدود.
وأجيب بأن الشيء في نفسه ليس كهو مع غيره فالمجموع عدد والبعض غير عدد.
قوله تعالى : {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلآ إِثْمَ عَلَيْهِ}.
( تُؤول ) بأمرين إما نفي للإثم حقيقة أو إثبات الأجر له والثواب ( لأن الثواب ) كان حاصلا ( بالإقامة ) لأن الذكر معلوم أنه يحصل الثواب فما يبقى إلا توهم الوقوع في الإثم هنا ( لما كان ) الجاهلية يعتقدون. ( فنفي ) ما يتوهم وبقي ما عداه ثابتا بالأصالة وهو حصول الثواب على الذكر.
قيل لابن عرفة : والآية تدلّ على ترك العمل ( بمفهوم ) العدد لأن مفهومها أن المتعجل في أقل من يومين مأثوم ، مع أن التأخير سنة وتارك السنة غير مأثوم ؟
فقال : إمّا أن نفرّع على أن تارك السنن متعمدا مأثوم وتقدم نظيره في الوتر ، أو نقول : معنى "لاَ إِثْمَ "أي له الثواب.
قيل للإمام : ففيه حجة للقائل بأن تارك السّنن متعمّدا مأثوم ؟
قال : لا حجة فيه لاحتمال أن يراد بنفي الإثم حصول الثواب. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 261}
فائدة بلاغية
قال ابن عادل : (5/69)
وفي هذه الآيات من علم البديع : الطباق ، وهو ذكر الشيء وضده في "تَعَجَّل وتَأَخَّرَ " ، فهو كقوله : {أَضْحَكَ وأبكى} {النجم : 43 ] و{ أَمَاتَ وَأَحْيَا} {النجم : 44 ] ، وهذا طباقٌ غريب ، من حيث جعل ضدَّ "تَعَجَّلَ " : "تَأَخَّرَ " ، وإنما ضدُّ "تَعَجَّلَ " : "تَأَنَّى " ، وضدُّ "تَأَخَّرَ " : "تقدَّم " ، ولكنه في "تَعَجَّلَ "عبرَّ بالملزوم عن اللازم ، وفي "تَأَخَّرَ "باللازم عن الملزوم ، وفيها من علم البيان : المقابلة اللفظيَّة ، وذلك أن المتأخِّر بالنَّفرات آتٍ بزيادة في العبادة ، فله زيادة في الأجر على المتعجِّل ، فقال في حقه أيضاً : "فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ " ؛ ليقابل قوله أولاً : {فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ، فهو كقوله : {وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا} {الشورى : 40 ] {فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ} {البقرة : 194 ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 448 ـ 449}
قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى : (5/70)
ولما كان قد ذكر سبحانه وتعالى الراغب في الدنيا وحدها والراغب في الدارين وكان قد بقي من الأقسام العقلية المعرض عنهما وهو مفقود فلم يذكره والراغب في الآخرة فقط ، وكل من الأقسام تارة يكون مسرّاً وتارة يكون معلناً وكان المحذور منها - إنما هو المسر لإرادة الدنيا بإظهاره لإرادة الآخرة وكان هذا هو المنافق بدأ به بعد ذكر التقوى والحشر ليكون مصدوعاً بادىء بدء بذلك الأمر مقصوداً بالتهديد بالحشر وساقه بصيغة ما في أول السورة من ذكر المنافقين ليتذكر السامع تلك القصص ويستحضرها بتلك الأحوال وحسن ذلك طول الفصل وبعد العهد فقال : {ومن الناس من} أي شخص أو الذي {يعجبك} أي يروقك ويأخذ بمجامع قلبك أيها المخاطب {قوله} كما ذكرنا أول السورة أنه يخادع ، ويعجب من الإعجاب وهو من العجب وهو كون الشيء خارجاً عن نظائره من جنسه حتى يكون ندرة في صنعه - قاله الحرالي.
وقال الأصبهاني : حالة تغشى الإنسان عند إدراك كمال مجهول السبب ، وعن الراغب أنه قال : وليس هو شيئاً له في ذاته حالة بل هو بحسب الإضافات إلى من يعرف السبب ومن لا يعرفه ، وحقيقة أعجبني كذا : ظهر لي ظهوراً لم أعرف سببه.
(5/71)
ولما كان ذكر هذا بعد ذكر الحشر ربما أوهم أن يكون القول أو الإعجاب واقعاً في تلك الحالة قيده بقوله : {في} أي الكائن في {الحياة الدنيا} لا يزداد في طول مدته فيها إلا تحسيناً لقوله وتقبيحاً لما يخفى من فعله وأما في الآخرة فكلامه غير حسن ولا معجب {ويشهد الله} المستجمع لصفات الكمال {على ما في قلبه} أنه مطابق لما أظهره بلسانه {وهو} أي والحال أنه {ألدّ الخصام} أي يتمادى في الخصام بالباطل لا ينقطع جداله كل ذلك وهو يظهر أنه على الحسن الجميل ويوجه لكل شيء من خصامه وجهاً يصرفه عما أراد به من القباحة إلى الملاحة ، واللدد شدة الخصومة ، والخصام القول الذي يسمع المصيح ويولج في صماخه ما يكفه عن مزعمه ودعواه - قاله الحرالي. وقال الأصبهاني : هو التعمق في البحث عن الشيء والمضايقة فيه ويجوز أن يجعل الخصام ألد على المبالغة - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 383 ـ 384}
فائدة لغوية
والإعجاب إيجاد العجب في النفس والعجب : انفعال يعرض للنفس عند مشاهدة أمر غير مألوف خفي سببه. ولما كان شأن ما يخفى سببه أن ترغب فيه النفس ، صار العجب مستلزماً للاستحسان فيقال أعجبني الشيء بمعنى أوجب لى استحسانه ، قال الكواشي يقال في الاستحسان : أعجبني كذا ، وفي الإنكار : عجبت من كذا ، فقوله : {يعجبك} أي يحسن عندك قوله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 266}
قال الفخر : (5/72)
اعلم أنه تعالى لما بين أن الذين يشهدون مشاعر الحج فريقان : كافر وهو الذي يقول : {رَبَّنَا ءاتِنَا فِى الدنيا} ومسلم وهو الذي يقول : {رَبَّنَا ءَاتِنَا فِى الدنيا حَسَنَةً وَفِي الأخرة حَسَنَةً} {البقرة : 201 ] بقي المنافق فذكره في هذه الآية ، وشرح صفاته وأفعاله ، فهذا ما يتعلق بنظم الآية ، والغرض بكل ذلك أن يبعث العباد على الطريقة الحسنة فيما يتصل بأفعال القلوب والجوارح ، وأن يعلموا أن المعبود لا يمكن إخفاء الأمور عنه ثم اختلف المفسرون على قولين منهم من قال : هذه الآية مختصة بأقوام معينين ومنهم من قال : إنها عامة في حق كل من كان موصوفاً بهذه الصفة المذكورة في هذه الآية ، أما الأولون فقد اختلفوا على وجوه :
(5/73)
فالرواية الأولى : أنها نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي ، وهو حليف لبني زهرة أقبل إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأظهر الإسلام ، وزعم أنه يحبه ويحلف بالله على ذلك ، وهذا هو المراد بقوله : {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الحياة الدنيا وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ} غير أنه كان منافقاً حسن العلانية خبيث الباطن ، ثم خرج من عند النبي عليه السلام فمر بزرع لقوم من المسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر ، وهو المراد بقوله : {وَإِذَا تولى سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} وقال آخرون المراد بقوله تعالى : {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} هو أن الأخنس أشار على بني زهرة بالرجوع يوم بدر وقال لهم : إن محمداً ابن أختكم ، فإن يك كاذباً كفاكموه سائر الناس ، وإن يك صادقاً كنتم أسعد الناس به قالوا : نعم الرأي ما رأيت ، قال : فإذا نودي في الناس بالرحيل فإني أتخنس بكم فاتبعوني ثم خنس بثلثمائة رجل من بني زهرة عن قتال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فسمي لهذا السبب أخنس ، وكان اسمه : أبي بن شريق ، فبلغ ذلك رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فأعجبه ، وعندي أن هذا القول ضعيف وذلك لأنه بهذا الفعل لا يستوجب الذم وقوله تعالى : {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الحياة الدنيا وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ} مذكور في معرض الذم فلا يمكن حمله عليه بل القول الأول هو الأصح.
والرواية الثانية : في سبب نزول هذه الآية ما روي عن ابن عباس والضحاك أن كفار قريش بعثوا إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك ، فبعث إليهم جماعة فنزلوا ببطن الرجيع ، ووصل الخبر إلى الكفار ، فركب منهم سبعون راكباً وأحاطوا بهم وقتلوهم وصلبوهم ، ففيهم نزلت هذه الآية ، ولذلك عقبه من بعد بذكر من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله منبهاً بذلك على حال هؤلاء الشهداء.
(5/74)
القول الثاني : في الآية وهو اختيار أكثر المحققين من المفسرين ، أن هذه الآية عامة في حق كل من كان موصوفاً بهذه الصفات المذكورة ، ونقل عن محمد بن كعب القرظي ، أنه جرى بينه وبين غيره كلام في هذه الآية ، فقال إنها وإن نزلت فيمن ذكر فلا يمتنع أن تنزل الآية في الرجل ثم تكون عامة في كل من كان موصوفاً بتلك الصفات ، والتحقيق في المسألة أن قوله : {وَمِنَ الناس} إشارة إلى بعضهم ، فيحتمل الواحد ويحتمل الجمع ، وقوله : {وَيُشْهِدُ الله} لا يدل على أن المراد به واحد من الناس لجواز أن يرجع ذلك إلى اللفظ دون المعنى وهو جمع وأما نزوله على المسبب الذي حكيناه فلا يمتنع من العموم ، بل نقول : فيها ما يدل على العموم ، وهو من وجوه أحدها : أن ترتب الحكم على الوصف المناسب مشعر بالعلية ، فلما ذم الله تعالى قوماً ووصفهم بصفات توجب استحقاق الذم ، علمنا أن الموجب لتلك المذمة هو تلك الصفات ، فيلزم أن كل من كان موصوفاً بتلك الصفات أن يكون مستوجباً للذم وثانيها : أن الحمل على العموم أكثر فائدة ، وذلك لأنه يكون زجراً لكل المكلفين عن تلك الطريق المذمومة وثالثها : أن هذا أقرب إلى الإحتياط لأنا إذا حملنا الآية على العموم دخل فيه ذلك الشخص ، وأما إذا خصصناه بذلك الشخص لم يثبت الحكم في غيره فثبت بما ذكرنا أن حمل الآية على العموم أولى ، إذا عرفت هذا فنقول : اختلفوا في أن الآية هل تدل على أن الموصوف بهذه الصفات منافق أم لا ، والصحيح أنها لا تدل على ذلك ، لأن الله تعالى وصف هذا المذكور بصفات خمسة ، وشيء منها لا يدل على النفاق فأولها قوله : {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الحياة الدنيا} وهذا لا دلالة فيه على صفة مذمومة إلا من جهة الإيماء الحاصل بقوله : {في الحياة الدنيا} لأن الإنسان إذا قيل : إنه حلو الكلام فيما يتعلق بالدنيا أوهم نوعاً من المذمة
(5/75)
وثانيها : قوله : {وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ} وهذا لا دلالة فيه على حالة منكرة ، فإن أضمرنا فيه أن يشهد الله على ما في قلبه مع أن قلبه بخلاف ذلك فالكلام مع هذا الإضمار لا يدل على النفاق ، لأنه ليس في الآية أن الذي يظهره للرسول من أمر الإسلام والتوحيد ، فإنه يضمر خلافه حتى يلزم أن يكون منافقاً ، بل لعل المراد أنه يضمر الفساد ويظهر ضده حتى يكون مرائياً
وثالثها : قوله : {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} وهذا أيضاً لا يوجب النفاق
ورابعها : قوله : {وَإِذْ تولى سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا} والمسلم الذي يكون مفسداً قد يكون كذلك وخامسها : قوله : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} فهذا أيضاً لا يقتضي النفاق ، فعلمنا أن كل هذه الصفات المذكورة في الآية كما يمكن ثبوتها في المنافق يمكن ثبوتها في المرائي ، فإذن ليس في الآية دلالة على أن هذا المذكور يجب أن يكون منافقاً إلا أن المنافق داخل في الآية ، وذلك لأن كل منافق فإنه يكون موصوفاً بهذه الصفات الخمسة بل قد يكون الموصوف بهذه الصفات الخمسة غير منافق فثبت أنا متى حملنا الآية على الموصوف بهذه الصفات الخمسة دخل فيها المنافق والمرائي. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 169}
قال القرطبى :
وقال قتادة ومجاهد وجماعة من العلماء : نزلت في كل مُبْطن كفراً أو نفاقاً أو كذباً أو إضراراً ، وهو يظهر بلسانه خلاف ذلك ؛ فهي عامة ، وهي تشبه ما ورد في الترمذيّ أن في بعض كتب الله تعالى : إن من عباد الله قوماً ألسنتهم أحلى من العسل وقلوبهم أمرّ من الصَّبر ، يلبسون للناس جلود الضأن من اللِّين ، يشترون الدنيا بالدِّين ، يقول الله تعالى : أبي يغترّون ، وعليّ يجترئون ، فبي حلفت لأتيحنّ لهم فتنة تدع الحليم منهم حيران.(5/76)
قال القرظي : تدبرتها في القرآن ، فإذا هم المنافقون ، فوجدتها : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ} الآية. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 15}
فائدة
قال الفخر :
الله تعالى وصف هذا المذكور بصفات خمسة.
الصفة الأولى : قوله : {يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِى الحياة الدنيا} والمعنى : يروقك ويعظم في قلبك ومنه الشيء العجيب الذي يعظم في النفس.
أما في قوله : {في الحياة الدنيا} ففيه وجوه أحدهما : أنه نظير قول القائل : يعجبني كلام فلان في هذه المسألة والمعنى : يعجبك قوله وكلامه عندما يتكلم لطلب مصالح الدنيا والثاني : أن يكون التقدير : يعجبك قوله وكلامه في الحياة الدنيا وإن كان لا يعجبك قوله وكلامه في الآخرة لأنه ما دام في الدنيا يكون جريء اللسان حلو الكلام ، وأما في الآخرة فإنه تعتريه اللكنة والاحتباس خوفاً من هيبة الله وقهر كبريائه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 169}
قال ابن عاشور :
والمراد من القول هنا ما فيه من دلالته على حاله في الإيمان والنصح للمسلمين ، لأن ذلك هو الذي يهم الرسول ويعجبه ، وليس المراد صفة قوله في فصاحة وبلاغة ؛ إذ لا غرض في ذلك هنا لأن المقصود ما يضاد قوله : وهو ألد الخصام إلى آخره.(5/77)
والخطاب إما للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي ومن الناس من يظهر لك ما يعجبك من القول وهو الإيمان وحب الخير والإعراض عن الكفار ، فيكون المراد بِ"مَن" المنافقين ومعظمهم من اليهود ، وفيهم من المشركين أهل يثرب وهذا هو الأظهر عندي ، أو طائفة معينة من المنافقين ، وقيل : أريد به الأخنس بن شريف الثقفي واسمه أبي وكان مولى لبني زهرة من قريش وهم أخوال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكان يظهر المودة للنبيء ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولم ينضم إلى المشركين في واقعة بدر بل خنس أي تأخر عن الخروج معهم إلى بدر وكان له ثلاثمائة من بني زهرة أحلافه فصدهم عن الانضمام إلى المشركين فقيل : إنه كان يظهر الإسلام وهو منافق ، وقال ابن عطية : لم يثبت أنه أسلم قط ، ولكن كان يظهر الود للرسول فلما انقضت وقعة بدر قيل : إنه حرق زرعاً للمسلمين وقتل حميراً لهم فنزلت فيه هاته الآية ونزلت فيه أيضاً {ولا تطع كل حلاف مهين هماز مشاء بنميم} {القلم : 10 ، 11 ] ونزلت فيه {ويل لكل همزة لمزة} {الهمزة : 1 ] ، وقيل بل كانت بينه وبين قومه ثقيف عداوة فبيتهم ليلاً فأحرق زرعهم وقتل مواشيهم فنزلت فيه الآية وعلى هذا فتقريعه لأنه غدرهم وأفسد.
ويجوز أن الخطاب لغير معين ليعم كل مخاطب تحذيراً للمسلمين من أن تروج عليهم حيل المنافقين وتنبيه لهم إلى استطلاع أحوال الناس وذلك لا بد منه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 266}(5/78)
الصفة الثانية : قوله : {وَيُشْهِدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ} فالمعنى أنه يقرر صدقة في كلامه ودعواه بالاستشهاد بالله ، ثم يحتمل أن يكون ذلك الاستشهاد بالحلف واليمين ، ويحتمل أن يكون ذلك بأن يقول : الله يشهد بأن الأمر كما قلت ، فهذا يكون استشهاداً بالله ولا يكون يميناً ، وعامة القراء يقرؤن {وَيُشْهِدُ الله} بضم الياء ، أي هذا القائل يشهد الله على ما في ضميره ، وقرأ ابن محيصن {يَشْهَدُ الله على مَا فِى قَلْبِهِ} بفتح الياء ، والمعنى : أن الله يعلم من قلبه خلاف ما أظهره.
فالقراءة الأولى : تدل على كونه مرائياً وعلى أنه يشهد الله باطلاً على نفاقه وريائه.
وأما القراءة الثانية : فلا تدل إلا على كونه كاذباً ، فأما على كونه مستشهداً بالله على سبيل الكذب فلا ، فعلى هذا القراءة الأولى أدلى على الذم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 169}
قال ابن عاشور :
ومعنى {يشهد الله على ما في قلبه} أنه يقرن حسن قوله وظاهر تودده بإشهاد الله تعالى على أن ما في قلبه مطابق لما في لفظه ، ومعنى إشهاد الله حلفه بأن الله يعلم إنه لصادق.
وإنما أفاد ما في قلبه معنى المطابقة لقوله لأنه لما أشهد الله حين قال كلاماً حلواً تعين أن يكون مدعياً أن قلبه كلسانه قال تعالى : {يحلفون بالله لكم ليرضونكم} {التوبة : 62 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 267}
فائدة لغوية
الظرف من قوله {في الحياة الدنيا} يجوز أن يتعلق بيعجبك فيراد بهذا الفريق من الناس المنافقون الذين يظهرون كلمة الإسلام والرغبة فيه على حد قوله تعالى : {وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا} {البقرة : 14 ] أي إعجابك بقولهم لا يتجاوز الحصول في الحياة الدنيا فإنك في الآخرة تجدهم بحالة لا تعجبك فهو تمهيد لقوله في آخر الآية {فحسبه جهنم} والظرفية المستفادة من ( في ) ظرفيةٌ حقيقية.(5/79)
ويجوز أن يتعلق بكلمة {قوله} أي كلامه عن شؤون الدنيا من محامد الوفاء في الحلف مع المسلمين والود للنبيء ولا يقول شيئاً في أمور الدين ، فهذا تنبيه على أنه لا يتظاهر بالإسلام فيراد بهذا الأخنس بن شريق.
وحرف ( في ) على هذا الوجه للظرفية المجازية بمعنى عن والتقدير قوله : عن الحياة الدنيا. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 267}
قوله تعالى : {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام }
قال ابن عاشور :
ومعنى {وهو ألد الخصام} أنه شديد الخصومة أي العداوة مشتق من لده يلده بفتح اللام لأنه من فعل ، تقول : لددت يا زيد بكسر الدال إذا خاصم ، فهو لاد ولدود فاللدد شدة الخصومة والألد الشديد الخصومة قال الحماسي ربيعة بن مقروم
: ... وأَلَدَّ ذِي حَنَققٍ عليَّ كَأَنَّما
تَغْلِي حَرَارَةُ صَدْرِه في مِرْجَلِ... فألد صفة مشبهة وليس اسم تفضيل ، ألا ترى أن مؤنثه جاء على فعلاء فقالوا : لداء وجمعه جاء على فُعْل قال تعالى : {وتنذر به قوماً لداً} {مريم : 97 ] وحينئذٍ ففي إضافته للخصام إشكال ؛ لأنه يصير معناه شديد الخصام من جهة الخصام فقال في "الكشاف" : إما أن تكون الإضافة على المبالغة فجعل الخصام أَلَد أي نُزِّل خصامه منزلة شخص له خصام فصارا شيئين فصحت الإضافة على طريقة المجاز العقلي ، كأنه قيل : خصامه شديد الخصام كما قالوا : جُنَّ جُنُونُه وقالوا : جَدَّ جَدُّه ، أو الإضافة على معنى في أي وهو شديد الخصام في الخصام أي في حال الخصام ، وقال بعضهم يقدر مبتدأ محذوف بعد {وهو} تقديره : وهو خصامه ألد الخصام وهذا التقدير لا يصح لأن الخصام لا يوصف بالألد فتعيَّن أن يُؤَوَّل بأنه جعل بمنزلة الخصم وحينئذٍ فالتأويل مع عدم التقدير أولى ، وقيل الخصام هنا جمع خَصم كصَعْب وصِعاب وليس هو مصدراً وحينئذٍ تظهر الإضافة أي وهو ألد الناس المخاصمين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 267}
وقال الفخر : (5/80)
الصفة الثالثة : قوله تعالى : {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : الألد : الشديد الخصومة ، يقال : رجل ألد ، وقوم لد ، وقال الله تعالى : {وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً} {مريم : 97 ] وهو كقوله : {بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ} {الزخرف : 58 ] يقال : منه لد يلد ، بفتح اللام في يفعل منه ، فهو ألد ، إذا كان خصماً ، ولددت الرجل ألده بضم اللام ، إذا غلبته بالخصومة ، قال الزجاج اشتقاقه من لديدتي العنق وهما صفحتاه ، ولديدي الوادي ، وهما جانباه ، وتأويله أنه في أي وجه أخذه خصمه من يمين وشمال في أبواب الخصومة غلب من خاصمه.
وأما {الخصام} ففيه قولان أحدهما : وهو قول خليل : إنه مصدر بمعنى المخاصمة ، كالقتال والطعام بمعنى المقاتلة والمطاعنة ، فيكون المعنى : وهو شديد المخاصمة ، ثم في هذه الإضافة وجهان أحدهما : أنه بمعنى {فِى} والتقدير : ألد في الخصام والثاني : أنه جعل الخصام ألد على سبيل المبالغة.
والقول الثاني : أن الخصام جمع خصم ، كصعاب وصعب ، وضخام وضخم ، والمعنى : وهو أشد الخصوم خصومة ، وهذا قول الزجاج ، قال المفسرون : هذه الآية نزلت في الأخنس بن شريق على ما شرحناه : وفيه نزل أيضاً قوله : {وَيْلٌ لّكُلّ هُمَزَةٍ} {الهمزة : 1 ] وقوله : {وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ هَمَّازٍ مَّشَّاء بِنَمِيمٍ} {القلم : 10 ، 11 ] ثم للمفسرين عبارات في تفسير هذه اللفظة ، قال مجاهد {أَلَدُّ الخصام} معناه : طالب لا يستقيم ، وقال السدي : أعوج الخصام وقال قتادة ألد الخصام معناه أنه جدل بالباطل ، شديد القصوة في معصية الله ، عالم اللسان جاهل العمل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 170}
فائدة
قال القرطبى : (5/81)
قال علماؤنا : وفي هذه الآية دليل وتنبيه على الاحتياط فيما يتعلق بأُمور الدِّين والدنيا ، واستبراء أحوال الشهود والقضاة ، وأن الحاكم لا يعمل على ظاهر أحوال الناس وما يبدو من إيمانهم وصلاحهم حتى يبحث عن باطنهم ؛ لأن الله تعالى بيّن أحوال الناس ، وأن منهم من يظهر قولا جميلاً وهو ينوي قبيحا.
فإن قيل : هذا يعارضه قوله عليه السلام : "أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله "الحديث ، وقوله : "فاقضي له على نحو ما أسمع "فالجواب أن هذا كان في صدر الإسلام ، حيث كان إسلامهم سلامتهم ، وأما وقد عمّ الفساد فلا ؛ قاله ابن العربي.
قلت : والصحيح أن الظاهر يعمل عليه حتى يتبيّن خلافه ؛ لقول عمر بن الخطاب رضي الله عنه في صحيح البخاريّ : أيها الناس ، إن الوحي قد انقطع ، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم ؛ فمن أظهر لنا خيراً أمّناه وقرّبناه ، وليس لنا من سريرته شيء ، الله يحاسبه في سريرته ، ومن أظهر لنا سوءاً لم نؤمّنه ولم نصدّقه ، وإن قال إن سريرته حسنة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 16}
لطيفة
الناس على قسمين : قسم زَيّنُوا ظواهرهم وخرَّبوا بواطنهم ، وظاهرهم جميل وباطنُهم قبيح ، إذا تكلموا في الدنيا أو في الحس ، أعجبَك قولهم ، وراقك منظرُهم ، وإذا تكلموا في الآخرة ، أو في المعنى ، أخذتهم الحبْسةُ والدهشة.
والقسم الثاني : قوم زَيَّنوا بواطنهم وخربوا ظواهرهم ، عمّروا قلوبهم بمحبة الله ، وبذلوا أنفسهم في مرضات الله ، قلوبهم في أعلى عليين ، وأشباحهم في أسفل سافلين ، فأولئك المقربون مع النبيين والمرسلين. قال بعض العارفين : كلما وضعت نفسك أرضاً أرضاً ، سما قلبك سماء سماء ، وكل ما نقص من حسك زاد في معناك. وفي الحديث : "مَن تواضعَ دُون قَدْره رَفَعهُ الله فوقَ قَدْره "وبالله التوفيق. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 166}
من فوائد ابن عرفة فى الآية الكريمة(5/82)
قوله تعالى : {فِي الحياة الدنيا}.
إما متعلق بـ "يعجبك "أو بـ "قَوْلُهُ ". وعادتهم يوردون عليه سؤالا وهو أنه إن تعلق بـ "يعجبك "كان الكلام غير مفيد لأنه معلوم لأن الإعجاب منه إنما هو في الدنيا ، ولا يقع في الآخرة فهو تحصيل الحاصل ، وإن تعلق بـ "قَوْلُهُ "فإما أن يراد نفس قوله أو متعلقه ، فمتعلقه إنّما هو في الآخرة لا في الدنيا لأن ( محصول ) ذلك القول ( الإسلام ) وهو أمر أخروي لا دنيوي. وإن أريد نفس "قَوْلُهُ "فذلك القول إنما وقع منه في الدنيا ونحن نعلم ذلك من غير حاجة إلى الإعلام به فيرجع إلى تحصيل الحاصل.
قال : فالجواب أنه على حذف مضاف ، أي يعجبك قوله في شأن الحياة الدنيا ، لأنه إنما ( يقصد ) بكلمة الإسلام عصمته من القتل والأسر وضرب ( الجزية ) ، وصيانة ماله وعرضه ، فالإعجاب راجع إلى حكم دنيوي لأن المراد به نفس التعجب.
قوله تعالى : {وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ...}.
دليل على أن العقل في القلب.
قيل لابن عرفة : وهذا من الكذب على الله. وقد ذكر ابن التلمسانى فيه قولين : قيل إنه كفر ، وقيل لا ؟
قال ابن عرفة : إنّما الخلاف في الكذب على الله في الأحكام كقوله : أَحَلّ الله كذا وحرم كذا وأما قول القائل أي الحالف لقد كان كذا والله يعلم أنّي لصادق ، فهو يمين غموس وليس من ذلك القبيل وعلق التعجب بالقول ليفيد التعجّب من كلامه من باب أحرى.
قوله تعالى : {وَهُوَ أَلَدُّ الخصام }.
إنما كان مُلدّا لحلفه على الباطل وتأكيده الحلف يعلم أنه تعالى أنه حق. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 262}
قوله تعالى : {وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :(5/83)
ولما ذكر أنه ألد شرع يذكر وجه لدده فقال عاطفاً على ما تقديره : فإذا واجهك اجتهد في إظهار أنه مصلح أو تكون جملة حالية {وإذا تولى} أي أعرض بقلبه أو قاله عمن خدعه بكلامه ، وكنى بالتعبير بالسعي عن الإسراع في إيقاع الفتنة بغاية الجهد فقال : {سعى} ونبه على كثرة فساده بقوله : {في الأرض} أي كلها بفعله وقوله عند من يوافقه {ليفسد} أي ليوقع الفساد وهو اسم لجميع المعاصي {فيها} أي في الأرض في ذات البين لأجل الإهلاك والناس أسرع شيء إليه فيصير له مشاركون في أفعال الفساد ، فإذا فعل منه ما يريد كان معروفاً عندهم فكان له عليه أعوان وبين أنه يصل بإفساده إلى الغاية بقوله مسمياً المحروث حرثاً مبالغة : {ويهلك الحرث} أي المحروث الذي يعيش به الحيوان ، قال الحرالي سماه حرثاً لأنه الذي نسبه إلى الخلق ، ولم يسمه زرعاً لأن ذلك منسوب إلى الحق - انتهى. ولأنه إذا هلك السبب هلك المسبب من غير عكس {والنسل} أي المنسول الذي به بقاء نوع الحيوان. قال الحرالي : وهو استخراج لطيف الشيء من جملته - انتهى. وفعله ذلك للإفساد ونظمت الآية هكذا إفهاماً لأن المعنى أن غرضه أولاً بإفساد ذات البين التوصل إلى الإهلاك وثانياً بالإهلاك التوصل إلى الإفساد {والله} أي والحال أن الملك الأعظم {لا يحب الفساد} أي لا يفعل فيه فعل المحب فلا يأمر به بل ينهى عنه ولا يقر عليه بل يغيره وإن طال المدى ويعاقب عليه ، ولم يقل : الهلاك ، لأنه قد يكون صورة فقط فيكون صلاحاً كما إذا كان قصاصاً ولا قال : الإفساد يشمل ما إذا كان الفساد عن غير قصد ، والآية من الاحتباك ، ذكر أولاً الإفساد ليدل على حذفه ثانياً وثانياً الإهلاك ليدل على حذفه أولاً ، وذكر الحرث الذي هو السبب دلالة على الناسل والنسل الذي هو المسبب دلالة على الزرع فهو احتباك ثان.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 385}
قال الفخر : (5/84)
اعلم أنه تعالى لما بين من حال ذلك الإنسان أنه حلو الكلام ، وأنه يقرر صدق قوله بالاستشهاد بالله وأنه ألد الخصام ، بين بعد ذلك أن كل ما ذكره باللسان فقلبه منطو على ضد ذلك فقال : {وَإِذَا تولى سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا} ثم في الآية مسائل :
المسألة الأولى : قوله تعالى : {وَإِذَا تولى} فيه قولان : أحدهما : معناه وإذا انصرف من عندك سعى في الأرض بالفساد ، ثم هذا الفساد يحتمل وجهين أحدهما : ما كان من إتلاف الأموال بالتخريب والتحريق والنهب ، وعلى هذا الوجه ذكروا روايات منها ما قدمنا أن الأخنس لما أظهر للرسول عليه السلام أنه يحبه وأنه على عزم أن يؤمن فلما خرج من عنده مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر ، ومنها أنه لما انصرف من بدر مر ببني زهرة وكان بينه وبين ثقيف خصومة فبيتهم ليلاً وأهلك مواشيهم وأحرق زرعهم.
(5/85)
والوجه الثاني في تفسير الفساد : أنه كان بعد الإنصراف من حضرة النبي عليه السلام يشتغل بإدخال الشبه في قلوب المسلمين ، وباستخراج الحيل في تقوية الكفر ، وهذا المعنى يسمى فساداً ، قال تعالى : حكاية عن قوم فرعون حيث قالوا له : {أَتَذَرُ موسى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِى الأرض} {الأعراف : 127 ] أي يردوا قومك عن دينهم ، ويفسدوا عليهم شريعتهم ، وقال أيضاً : {إِنّى أَخَافُ أَن يُبَدّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِى الأرض الفساد} {غافر : 26 ] وقد ذكرنا في تفسير قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِى الأرض} {البقرة : 11 ] ما يقرب من هذا الوجه ، وإنا سمي هذا المعنى فساداً في الأرض لأنه يوقع الاختلاف بين الناس ويفرق كلمتهم ويؤدي إلى أن يتبرأ بعضهم من بعض ، فتنقطع الأرحام وينسفك الدماء ، قال تعالى : {فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِى الأرض وَتُقَطّعُواْ أَرْحَامَكُمْ} {محمد : 22 ] فأخبر أنهم أن تولوا عن دينه لم يحصلوا إلا على الفساد في الأرض ، وقطع الأرحام ، وذلك من حيث قلنا وهو كثير في القرآن ، واعلم أن حمل الفساد على هذا أولى من حمله على التخريب والنهب ، لأنه تعالى قال : {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} والمعطوف مغاير للمعطوف عليه لا محالة.
القول الثاني : في تفسير قوله : {وَإِذَا تولى} وإذا صار والياً فعل ما يفعله ولاة السوء من الفساد في الأرض بإهلاك الحرث والنسل ، وقيل : يظهر الظلم حتى يمنع الله بشؤم ظلمه القطر فيهلك الحرث والنسل ، والقول الأول أقرب إلى نظم الآية ، لأن المقصود بيان نفاقه ، وهو أنه عند الحضور يقول الكلام الحسن ويظهر المحبة ، وعند الغيبة يسعى في إيقاع الفتنة والفساد.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 171}
قوله تعالى : {سعى فِى الأرض }
قال القرطبى : (5/86)
وقوله تعالى : {وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا} قيل : "تولّى وسعى" من فعل القلب ؛ فيجيء "تولى" بمعنى ضل وغضب وأَنِف في نفسه. و"سعى" أي سعى بحيلته وإرادته الدوائر على الإسلام وأهله ؛ عن ابن جُرَيج وغيره. وقيل : هما فعل الشخص ؛ فيجيء "تولى" بمعنى أدبر وذهب عنك يا محمد. و"سعى" أي بقدميه فقطع الطريق وأفسدها ؛ عن ابن عباس وغيره. وكلا السعيين فساد. يقال : سعى الرجل يسعى سعياً ، أي عدا ، وكذلك إذا عمِل وكسَب. وفلان يسعى على عياله أي يعمل في نفعهم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 17}
فصل
قال الفخر : (5/87)
من فسر الفساد بالتخريب قال : إنه تعالى ذكره أولاً على سبيل الإجمال ، وهو قوله : {لِيُفْسِدَ فِيهَا} ثم ذكره ثانياً على سبيل التفصيل فقال : {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} ومن فسر الإفساد بإلقاء الشبهة قال : كما أن الدين الحق أمر أن أولهما العلم ، وثانيهما العمل ، فكذا الدين الباطل أمران أولهما الشهبات ، وثانيهما فعل المنكرات ، فههنا ذكر تعالى أولاً من ذلك الإنسان اشتغاله بالشبهات ، وهو المراد بقوله : {لِيُفْسِدَ فِيهَا} ثم ذكر ثانياً إقدامه على المنكرات ، وهو المراد بقوله : {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} ولا شك في أن هذا التفسير أولى ثم من قال سبب نزول الآية أن الأخنس مر بزرع للمسلمين فأحرق الزرع وقتل الحمر قال : المراد بالحرث الزرع ، وبالنسل تلك الحمر ، والحرث هو ما يكون منه الزرع ، قال تعالى : {أَفَرَءيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ أأنتم تَزْرَعُونَهُ} {الواقعة : 63 ] وهو يقع على كل ما يحرث ويرزع من أصناف النبات ، وقيل : إن الحرث هو شق الأرض ، ويقال لما يشق به : محرث ، وأما النسل فهو على هذا التفسير نسل الدواب ، والنسل في اللغة : الولد ، واشتقاقه يحتمل أن يكون من قولهم : نسل ينسله إذا خرج فسقط ، ومنه نسل ريش الطائر ، ووبر البعير ، وشعر الحمار ، إذا خرج فسقط ، والقطعة منها إذا سقطت نسالة ، ومنه قوله تعالى : {إلى رَبّهِمْ يَنسِلُونَ} {يس : 51 ] أي يسرعون ، لأنه أسرع الخروج بحدة ، والنسل الولد لخروجه من ظهر الأب وبطن الأم وسقوطه ، والناس نسل آدم ، وأصل الحرف من النسول وهو الخروج ، وأما من قال : إن سبب نزول الآية : أن الأخنس بيت على قوم ثقيف وقتل منهم جمعاً ، فالمراد بالحرث : إما النسوان لقوله تعالى : {نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} {البقرة : 223 ] أو الرجال وهو قول قوم من المفسرين الذين فسروا الحرث بشق الأرض ، إذ الرجال هم الذين يشقون أرض التوليد ، وأما النسل فالمراد منه الصبيان(5/88)
.
واعلم أنه على جميع الوجوه فالمراد بيان أن ذلك الفساد فساد عظيم لا أعظم منه لأن المراد منها على التفسير الأول.
إهلاك النبات والحيوان ، وعلى التفسير الثاني : إهلاك الحيوان بأصله وفرعه ، وعلى الوجهين فلا فساد أعظم منه ، فإذن قوله : {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} من الألفاظ الفصيحة جداً الدالة مع اختصارها على المبالغة الكثيرة ونظيره في الاختصار ما قاله في صفة الجنة {وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين} {الزخرف : 71 ] وقال : {أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا ومرعاها} {النازعات : 31 ].
فإن قيل : أفتدل الآية على أنه يهلك الحرث والنسل ، أو تدل على أنه أراد ذلك ؟ .
قلنا : إن قوله : {سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا} دل على أن غرضه أن يسعى في ذلك ، ثم قوله : {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل} إن عطفناه على الأول لم تدل الآية على وقوع ذلك ، فإن تقدير الآية هكذا : سعى في الأرض ليفسد فيها ، وسعى ليهلك الحرث والنسل ، وإن جعلناه كلاماً مبتدأ منقطعاً عن الأول ، دل على وقوع ذلك ، والأول أولى ، وإن كانت الأخبار المذكورة في سبب نزول الآية دلت على أن هذه الأشياء قد وقعت ودخلت في الوجود. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 172}
قال ابن عاشور :
وقوله : {في الأرض} تأكيد لمدلول {سعى} لرفع توهم المجاز من أن يراد بالسعي العمل والاكتساب فأريد التنصيص على أن هذا السعي هو السير في الأرض للفساد وهو الغارة والتلصص لغير إعلاء كلمة الله ، ولذلك قال بعده {ليفسد فيها} فاللام للتعليل ، لأن الإفساد مقصود لهذا الساعي.(5/89)
ويجوز أن يكون {سعى} مجازاً في الإرادة والتدبير أي دبر الكيد لأن ابتكار الفساد وإعمالَ الحيلة لتحصيله مع إظهار النصح بالقَول كَيْدٌ ويكون ليفسد مفعولاً به لفعل {سعى} والتقدير أراد الفساد في الأرض ودبَّره ، وتكون اللام لام التبليغ كما تقدم في قوله تعالى : {يريد الله بكم اليسر إلى قوله ولتكملوا العدة} {البقرة : 185 ] فاللام شبيه بالزائد وما بعد اللام من الفعل المقدَّرَةِ معه ( أَنْ ) مفعول به كما في قوله تعالى : {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم} {التوبة : 32 ] وقول جَزْءِ بننِ كُلَيْببٍ الفَقْعسي
: ... تبغَّى ابن كوز والسفاهة كاسمها
ليستادَ منّا أَنْ شَتَوْنَا لَيَالِيَا... إذ التقدير تبغَّى الاستيادَ منا ، قال المرزوقي : أتى بالفعل واللام لأنّ تبغى مثل أراد فكما قال الله عز وجل : {يريدون أن يطفئوا نور الله بأفوههم} {التوبة : 32 ] والمعنى يريدون إطفاء نور الله كذلك قال تبغى ليستاد أي تبغى الاستياد منا اه.
وأقول : إن هذا الاستعمال يتأتى في كل موضع يقع فيه مفعول الفعل علةً للفعل مع كونه مفعولاً به ، فالبليغ يأتي به مقترناً بلام العلة اعتماداً على أن كونه مفعولاً به يعلم من تقدير ( أَن ) المصدرية.
ويكون قوله : {في الأرض} متعلقاً بسعى لإفادة أن سعيه في أمر من أمور أهل أرضكم ، وبذلك تكون إعادة {فيها} من قوله : {ليفسد فيها} بياناً لإجمال قوله : {في الأرض} مع إفادة التأكيد. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 268}
( بصيرة فى الحرث )(5/90)
وهو إِلقاءُ البَذْر فى الأَرض وتهيِئتها للزرع ، ويسمى المحروث حَرْثا ، قال تعالى {أَنِ اغْدُواْ عَلَى حَرْثِكُمْ} وتُصُوّر منه العمارة التى تحصل عنه فى قوله تعالى {مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ} الآية ، والدّنيا مَحْرَث للناس وهم حُرّاث فيها. وفى الحديث "أَصدق الأَسماء الحارث والهمَّام" وذلك لتَصوُّر معنى الكسب فيه. وروى "احرث لدنياك كأَنَّك تعيش أَبداً" وتُصوّر [من] معنى الحرث معنى التّهييج فقِيل : حَرَثت النَّار. ويقال احُرث القرآن أَى أَكثر تلاوة. وفى حديث ابن مسعود : احرُثوا هذا القرآن أَى فَتِّشوه وتدبَّروه. وَحَرث ناقته إِذا استعملها. وقال معاوية للأَنصار : ما فعلتْ نواضحكم قالوا حرثناها يوم بدر. قال تعالى {نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ} وذلك على سبيل التشبيه. فالبنّساء زَرْع ما به بقاء نوع الإِنسان ، كما أَن بالأَرض زرع ما به بقاءُ أَشخاصهم.
وقد ورد فى القرآن على ثلاثة أَوجه. الأَّول : بمعنى الزّرع المعهود {أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ} {وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ} {وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ}
الثانى بمعنى النساء {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ}
الثالث بمعنى منفعة الدّنيا وثواب الآخرة {وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا} أَى نفعها {مَنْ كان يُريدُ حَرْثَ الآخِرةِ} أَى ثوابها ، قال :
*إِذا أَنت لم تحرث وأَبصرت حاصدا ندمت على التفريط فى زمن الحرث*
وأَصل الحرث كسب المال وجمعه يقال حرث يَحْرُث مثال كتب يكتب ، وحرث يحرث مثال سمع يسمع. وحَرَث عصاه براها حيث يقع اليد عليه منها وجعل لها مِقْبَضا. والحرث المحَجّة المكدودة بالحوافر.
قوله تعالى : {وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ}
قال الثعالبى :
(5/91)
{ لاَ يُحِبُّ الفساد} معناه : لا يحبُّه من أهل الصَّلاح ، أو لا يحبُّه دِيناً ، وإِلا فلا يقع إِلاَّ ما يحبُّ اللَّه وقوعه ، والفسادُ : واقعٌ ، وهذا على ما ذهب إِليه المتكلِّمون من أنَّ الحُبَّ بمعنى الإِرادة.
والحُبُّ له على الإِرادة مزيَّة إِيثارٍ ؛ إِذ الحبُّ من اللَّه تعالى إِنما هو لما حَسُنَ من جميع جهاته. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 3 صـ 55}
وقال ابن عاشور :
عقب بجملة التذييل وهي {والله لا يحب الفساد} تحذيراً وتوبيخاً.
ومعنى نفي المحبة نفي الرضا بالفساد ، وإلاّ فالمحبة وهي انفعال النفس وتوجه طبيعي يحصل نحو استحسان ناشىء مستحيلة على الله تعالى فلا يصح نفيها فالمراد لازمها وهو الرضا عندنا وعند المعتزلة : الإرادة والمسألة مبنية على مسألة خلق الأفعال.
ولا شك أن القدير إذا لم يرض بشيء يعاقب فاعله ، إذ لا يعوقه عن ذلك عائق وقد سمى الله ذلك فساداً وإن كان الزرع والحرث للمشركين : لأن إتلاف خيرات الأرض رزء على الناس كلهم وإنما يكون القتال بإتلاف الأشياء التي هي آلات الإتلاف وأسباب الاعتداء.
(5/92)
والفساد ضد الصلاح ، ومعنى الفساد : إتلاف ما هو نافع للناس نفعاً محضاً أو راجحاً ، فإتلاف الألبان مثلاً إتلاف نفع محض ، وإتلاف الحطب بعلة الخوف من الاحتراق إتلاف نفع راجح والمراد بالرجحان رجحان استعماله عند الناسي لا رجحان كمية النفع على كمية الضر ، فإتلاف الأدوية السامة فساد ، وإن كان التداوي بها نادراً لكن الإهلاك بها كالمعدوم لما في عقول الناس من الوازع عن الإهلاك بها فيتفادى عن ضرها بالاحتياط رواجها وبأمانة من تسلم إليه ، وأما إتلاف المنافع المرجوحة فليس من الفساد كإتلاف الخمور بَلْه إتلاف ما لا نفع فيه بالمرة كإتلاف الحيَّات والعقارب والفيران والكِلاب الكَلِبَةِ ، وإنما كان الفساد غير محبوب عند الله لأن في الفساد بالتفسير الذي ذكرناه تعطيلاً لما خلقه الله في هذا العالم لحكمة صلاح الناس فإن الحكيم لا يحب تعطيل ما تقتضيه الحكمة ، فقتال العدوِّ إتلاف للضر الراجح ولذلك يقتصر في القتال على ما يحصل به إتلاف الضر بدون زيادة ، ومن أجل ذلك نهي عن إحراق الديار في الحرب وعن قطع الأشجار إلاّ إذا رجح في نظر أمير الجيش أن بقاء شيء من ذلك يزيد قوة العدو ويطيل مدة القتال ويخاف منه على جيش المسلمين أن ينقلب إلى هزيمة وذلك يرجع إلى قاعدة : الضرورةُ تقدر بقدرها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 269}
من فو ائد ابن عرفة فى الآية
( ابن عطية ) : يحتمل أن يكون توليه بقلبه ، أي ضل ، أو بجسده ، أي أدبر عنكم بجسمه. وضعف ابن عرفة الأول بأنه لم يكن قط مسلما والتولي عن الشيء يقتضي تقدم الكون فيه.
قوله تعالى : {وَيُهْلِكَ الحرث والنسل...}.
من عطف الخاص على العام.
قوله تعالى : {والله لاَ يُحِبُّ الفساد}.(5/93)
الصحيح أنّه ليس المراد حقيقة المحبة بل الذمّ على ذلك والله يذم الفساد ويعاقب على فعله لقول العرب في المدح التام : حَبَّذَا زَيْدٌ ، وفي الذم التام : لاَ حَبَّذاَ زَيْدٌ ، واحتجاج المعتزلة بها لا يتم.
والجواب عنه بما قلناه.. وكذلك احتجاجهم بقول الله تعالى {وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر}. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 263}
بحث نفيس للعلامة ابن القيم يتعلق بهذا الموضوع
قال رحمه الله
فصل : وههنا أمر يجب التنبيه عليه والتنبه له وبمعرفته تزول إشكالات كثيرة تعرض لمن لم يحط به علما وهو أن الله سبحانه له الخلق والأمر وأمره سبحانه نوعان : أمر كوني قدري ، وأمر ديني
(5/94)
شرعي فمشيئته سبحانه متعلقة بخلقه وأمره الكوني وكذلك تتعلق بما يحب وبما يكرهه كله داخل تحت مشيئته كما خلق إبليس وهو يبغضه وخلق الشياطين والكفار والأعيان والأفعال المسخوطة له وهو يبغضها فمشيئته سبحانه شاملة لذلك كله وأما محبته ورضاه فمتعلقة بأمره الديني وشرعه الذي شرعه على ألسنة رسله فما وجد منه تعلقت به المحبة والمشيئة جميعا فهو محبوب للرب واقع بمشيئته كطاعات الملائكة والأنبياء والمؤمنين وما لم يوجد منه تعلقت به محبته وأمره الديني ولم تتعلق به مشيئته وما وجد من الكفر والفسوق والمعاصي تعلقت به مشيئته ولم تتعلق به محبته ولا رضاه ولا أمره الديني وما لم يوجد منها لم تتعلق به مشيئته ولا محبته فلفظ المشيئة كوني ولفظ المحبة ديني شرعي ولفظ الإرادة ينقسم إلى إرادة كونية فتكون هي المشيئة وإرادة دينية فتكون هي المحبة إذا عرفت هذا فقوله تعالى : {وَلا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ} وقوله : {لا يُحِبُّ الْفَسَاد} وقوله : {وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} لا يناقض نصوص القدر والمشيئة العامة الدالة على وقوع ذلك بمشيئته وقضائه وقدره فإن المحبة غير المشيئة والأمر غير الخلق ونظير هذا لفظ الأمر فإنه نوعان أمر تكوين وأمر تشريع والثاني قد يعصي ويخالف بخلاف الأول فقوله تعالى : {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} لا يناقض قوله : {إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ} ولا حاجة إلى تكلف تقدير أمرنا مترفيها فيها بالطاعة فعصونا وفسقوا فيها بل الأمر ههنا أمر تكوين وتقدير لا أمر تشريع لوجوه أحدها : أن المستعمل في مثل هذا التركيب أن يكون ما بعد الفاء هو المأمور به كما تقول أمرته فقام وأمرته فأكل كما لو صرح بلفظة أفعل كقوله تعالى : {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا} وهذا كما تقول دعوته فأقبل وقال تعالى : {يَوْمَ يَدْعُوكُمْ(5/95)
فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ} الثاني : أن الأمر بالطاعة لا يخص المترفين فلا يصح حمل الآية عليه بل تسقط فائدة ذكر المترفين فإن جميع المبعوث إليهم مأمورون بالطاعة فلا يصح أن يكون أمر المترفين علة إهلاك جميعهم الثالث : أن هذا النسق العجيب والتركيب البديع مقتض ترتب ما يعد الفاء على ما قبلها ترتب المسبب على سببه والمعلول على علته ألا ترى أن الفسق علة حق القول عليهم وحق القول عليهم علة لتدميرهم فهكذا الأمر سبب لفسقهم ومقتض له وذلك هو أمر التكوين لا التشريع الرابع : أن إرادته سبحانه لإهلاكهم إنما كانت بعد معصيتهم ومخالفتهم لرسله فمعصيتهم ومخالفتهم قد تقدمت فأراد الله إهلاكهم فعاقبهم بأن قدر عليهم الأعمال التي يتحتم معها هلاكهم فإن قيل فمعصيتهم السابقة سبب لهلاكهم فما الفائدة في قوله : {أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} وقد تقدم الفسق منهم قبل المعصية السابقة وإن كانت سببها للهلاك لكن يجوز تخلف الهلاك عنها ولا يتحتم كما هو عادة الرب تعالى المعلومة في خلقه أنه لا يتحتم هلاكهم بمعاصيهم فإذا أراد إهلاكهم ولا بد أحدث سببا آخر يتحتم معه الهلاك ألا ترى أن ثمود ألم يهلكهم بكفرهم السابق حتى أخرج لهم الناقة فعقروها فأهلكوا حينئذ وقوم فرعون لم يهلكهم بكفرهم السابق بموسى حتى أراهم الآيات المتتابعات واستحكم بغيهم وعنادهم فحينئذ أهلكوا وكذلك قوم لوط لما أراد هلاكهم أرسل الملائكة إلى لوط في صورة الأضياف فقصدوهم بالفاحشة ونالوا من لوط وتواعدوه وكذلك سائر الأمم إذا أراد الله هلاكهم أحدث لها بغيا وعدوانا يأخذها على أثره وهذه عادته مع عباده عموما وخصوصا فيعصيه العبد وهو يحلم عنه ولا يعاجله حتى إذا أراد أخذه قيض له عملا يأخذه به مضافا إلى أعماله الأولى فيظن الظان أنه أخذه بذلك العمل وحده وليس كذلك بل حق عليه القول بذلك وكان قبل ذلك
(5/96)
لم يحق عليهم القول بأعماله الأولى حيث عمل ما يقتضي ثبوت الحق عليه ولكن لم يحكم به أحكم الحاكمين ولم يمض الحكم فإذا عمل بعد ذلك ما يقرر غضب الرب عليه أمضى حكمه عليه وأنفذه قال تعالى : {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} وقد كانوا قبل ذلك أغضبوه بمعصية رسوله ولكن لم يكن غضبه سبحانه قد استقر واستحكم عليهم إذ كان بصدد أن يزول بإيمانهم فلما أيس من إيمانهم تقرر الغضب واستحكم فحلت العقوبة فهذا الموضع من أسرار القرآن وأسرار التقدير الإلهي وفكر العبد فيه من أنفع الأمور له فإنه لا يدري أي المعاصي هي الموجبة التي يتحتم عندها عقوبته فلا يقال بعدها والله المستعان.
وسنعقد لهذا الفصل بابا في الفرق بين القضاء الكوني والديني نشبع الكلام فيه إن شاء الله لشدة الحاجة إليه إذ المقصود في هذا الباب مشيئة الرب وأنها الموجبة لكل موجود كما أن عدم مشيئته موجب لعدم وجود الشيء فهما الموجبتان ما شاء الله وجب وجوده وما لم يشأ وجب عدمه وامتناعه وهذا أمر يعم كل مقدور من الأعيان والأفعال والحركات والسكنات فسبحانه أن يكون في مملكته ما لا يشاء أو أن يشاء شيئا فلا يكون وإن كان فيها ما لا يحبه ولا يرضاه وإن كان يحب الشيء فلا يكون لعدم مشيئته له ولو شاءه لوجد.
أ هـ {شفاء العليل صـ 48 ـ 49}
قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى : (5/97)
ولما كان من الناس من يفعل الفساد فإذا نهى عنه انتهى بين أن هذا على غير ذلك تحقيقاً لألديته فقال مبشراً بأداة التحقيق بأنه لا يزال في الناس من يقوم بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : {وإذا قيل له} من أي قائل كان {اتق الله} أي الملك الأعظم الذي كل شيء تحت قهره واترك ما أنت عليه من الفساد {أخذته} أي قهرته لما له من ملكة الكبر {العزة} في نفسه لما فيها من الكبرياء والاستهانة بأمر الله ، وليس من شأن الخلق الاتصاف بذلك فإن العزة لله جميعاً {بالإثم} أي مصاحباً للذنب ، وهو العمل الرذل السافل وما - لا يحل ويوجب العقوبة باحتقار الغير والاستكبار عليه.
ولما كان هذا الشأن الخبيث شأنه دائماً يمهد به لنفسه التمكين مما يريد سبب عنه قوله : {فحسبه} أي كفايته {جهنم} تكون مهاداً له كما مهد للفساد ، وتخصيص هذا الاسم المنبىء عن الجهامة في المواجهة أي الاستقبال بوجه كريه لما وقع منه من المواجهة لمن أمره من مثله. قال الحرالي : فلمعنى ما يختص بالحكم يسمي تعالى النار باسم من أسمائها - انتهى. {ولبئس المهاد} هي والمهاد موطن الهدوء والمستطاب مما يستفرش ويوطأ - قاله الحرالي ، وقال : فيه إشعار بإمهال الله عزّ وجلّ لهذه الأمة رعاية لنبيها فأحسب فاجرها وكافرها بعذاب الآخرة ، ولو عاجل مؤمنها بعقوبة الدينا فخلص لكافرها الدنيا ولمؤمنها الآخرة وأنبأ بطول المقام والخلود فيها. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 385}
قال الفخر :
الصفة الخامسة : قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} وفيه مسائل :
المسألة الأولى : قال الواحدي : قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة} معناه أن رسول الله دعاه إلى ترك هذه الأفعال فدعاه الكبر والأنفة إلى الظلم.(5/98)
واعلم أن هذا التفسير ضعيف ، لأن قوله : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة} ليس فيه دلالة إلا على أنه متى قيل له هذا القول أخذته العزة ، فأما أن هذا القول قيل أو ما قيل فليس في الآية دلالة عليه فإن ثبت ذلك برواية وجب المصير إليه وإن كنا نعلم أنه عليه السلام كان يدعوا الكل إلى التقوى من غير تخصيص.
المسألة الثانية : أنه تعالى حكى عن هذا المنافق جملة من الأفعال المذمومة أولها : اشتغاله بالكلام الحسن في طلب الدنيا وثانيها : استشهاده بالله كذباً وبهتاناً وثالثها : لجاجه في إبطال الحق وإثبات الباطل ورابعها : سعيه في الفساد وخامسها : سعيه في إهلاك الحرث والنسل وكل ذلك فعل منكر قبيح وظاهر قوله : {إِذَا قِيلَ لَه اتق الله} فليس بأن ينصرف إلى بعض هذه الأمور أولى من بعض ، فوجب أن يحمل على الكل فكأنه قيل : اتق الله في إهلاك الحرث والنسل وفي السعي بالفساد ، وفي اللجاج الباطل ، وفي الاستشهاد بالله كذلك ، وفي الحرص على طلب الدنيا فإنه ليس رجوع النهي إلى البعض أولى من بعض.
المسألة الثالثة : قوله : {أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} فيه وجوه أحدها : أن هذا مأخوذ من قولهم أخذت فلاناً بأن يعمل كذا ، أي ألزمته ذلك وحكمت به عليه ، فتقدير الآية : أخذته العزة بأن يعمل الإثم ، وذلك الإثم هو ترك الإلتفات إلى هذا الواعظ وعدم الإصغاء إليه وثانيها : {أَخَذَتْهُ العزة} أي لزمته يقال : أخذته الحمى أي لزمته ، وأخذه الكبر ، أي اعتراه ذلك ، فمعنى الآية إذا قيل له اتق الله لزمته العزة الحاصلة بالإثم الذي في قلبه ، فإن تلك العزة إنما حصلت بسبب ما في قلبه من الكفر والجهل وعدم النظر في الدلائل ، ونظيره قوله تعالى : {بَلِ الذين كَفَرُواْ فِى عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ} {ص : 2 ] والباء ههنا في معنى اللام ، يقول الرجل : فعلت هذا بسببك ولسببك ، وعاقبته بجنايته ولجنايته.أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 173}(5/99)
وقال ابن عاشور :
وقوله : {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم} أي وإذا وعظه واعظ بما يقتضي تذكيره بتقوى الله تعالى غضب لذلك ، والأخذ أصله تناول الشيء باليد ، واستُعمل مجازاً مشهوراً في الاستيلاء قال تعالى : {وخذوهم واحصروهم} {التوبة : 5 ] وفي القهر نحو {فأخذناهم بالباساء} {الأنعام : 42 ]. وفي التلقي مثل {أخذ الله ميثاق النبيين} {آل عمران : 81 ] ومنه أخذ فلان بكلام فلان ، وفي الاحتواء والإحاطة يقال أخذته الحمى وأخذتهم الصيحة ، ومنه قوله هنا {أخذته العزة} أي احتوت عليه عزة الجاهلية.
والعزة صفة يرى صاحبها أنه لا يقدر عليه غيره ولا يُعارض في كلامه لأجل مكانته في قومه واعتزازه بقوتهم قال السموأل
: ... وننكر إن شئنا على الناس قولهم
ولا ينكرون القول حين نقول... ومنه العزة بمعنى القوة والغلبة وإنما تكون غالباً في العرب بسبب كثرة القبيلة ، وقد تغني الشجاعة عن الكثرة ومن أمثالهم : وإنما العزة للكاثر ، وقالوا : لن نغلب من قلة وقال السموأل
وما ضَرَّنَا أَنا قليل وجَارُنا... عَزِيز وجَارُ الأَكْثَرِينَ ذَليل
ومنها جاء الوصف بالعزيز كما سيأتي في قوله : {فاعلموا أن الله عزيز حكيم} {البقرة : 209 ].
ف ( أَل ) في ( العزة ) للعهد أي العزة المعروفة لأهل الجاهلية التي تمنع صاحبها من قبول اللوم أو التغيير عليه ، لأن العزة تقتضي معنى المنعة فأخذ العزة له كناية عن عدم إصغائه لنصح الناصحين.
وقوله : {بالإثم} الباء فيه للمصاحبة أي أخذته العزة الملابسة للإثم والظلم وهو احتراس لأن من العزة ما هو محمود قال تعالى : {ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين} {المنافقين : 8 ] أي فمنعته من قبول الموعظة وأبقته حليف الإثم الذي اعتاده لا يرعوي عنه وهما قرينان. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 271}
فائدة بلاغية
قال ابن عادل : (5/100)
وفي قوله : "العِزَّةُ بالإِثْم "من عِلْمِ البديع التتميم وهو عبارةٌ عن إِرْداف الكلمةِ بأُخْرى ، تَرْفَعُ عنها اللَّبسَ ، وتقَرِّبُها مِنَ الفَهْم ، وذلك أنَّ العزَّةَ تكونُ محمودةً ومَذمُومةً.
فَمِنْ مَجِيئها محمودةً : {وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} {المنافقون : 8 ] {أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين} {المائدة : 54 ] فلو أُطلِقَت لَتَوَهَّمَ فيها بعضُ مَنْ لا عنايةَ له المحمُودة ؛ فقيل : "بالإِثْمِ "تَتْمِيماً للمرادِ ، فرُفِعَ اللَّبْسُ بها. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 465}
قوله : "بالإثم "أي : بالظلم وفي هذه الباءِ ثلاثةُ أوجهٍ :
أحدها : أنْ تكونَ للتعديةِ ، وهو قول الزمخشري فإنه قال : "أَخَذْتُهُ بكذا إذا حَمَلْتهُ عليه ، وأَلْزَمْتهُ إياه ، أي : حَمَلتهُ العِزَّةُ على الإِثْم ، وأَلْزَمَتْهُ ارتكابَه "قال أبو حيان : "وباء التعدية بابُها الفعلُ اللازمُ ، نحو : {ذَهَبَ الله} {البقرة : 17 ] ، {وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ} {البقرة : 20 ] ، ونَدَرَتِ التعديةُ بالباءِ في المتعدِّي نحو : "صَكَكْتُ الحجرَ بالحجرِ "أي : جَعَلْتُ أَحدهما يَصُكُّ الآخرَ ".
الثاني : أَنْ تكونَ للسببيةِ ، بمعنى أنَّ إثمّه كان سبباً لأخذِ العِزَّة له ؛ كما في قوله : {الرمل ]
أَخَذَتْهُ عِزَّةٌ مِنْ جَهْلِهِ... فَتَوَلَّى مُغْضَباً فِعْلَ الضَّجِرْ
فتكونُ الباءُ بمعنى اللام ، فتقول : فعلت هذا بسببك ، ولسببك ، وعاقَبْتُه لجِنَايتهِ ، وبجنايَتهِ.
الثالث : أن تكونَ للمصاحبة ؛ فتكونَ في محلِّ نصبٍ على الحالِن وفيها حينئذٍ وجهان :
أحدهما : أَنْ تكون حالاً مِنَ "العِزَّة "أي : مُلْتبسةً بالإِثمِ.
والثاني : أن تكونَ حالاً من المفعولِ ، أي : أَخَذَتْهُ مُلْتبساً بالإِثمِ.(5/101)
قال القُرطبيُّ : وقيل : "الباءُ "بمعنى "مَعَ "أي : أخذته العِزَّةُ مع الإثم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 465}
قوله تعالى : {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ }
قال ابن عاشور :
وقوله {فحسبه جهنم} تفريع على هاته الحالة ، وأصل الحسب هو الكافي كما سيجيء عند قوله تعالى {وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل} في آل عمران ( 173 ).
ولما كان كافي الشيء من شأنه أن يكون على قدره ومما يرضيه كما قال أبو الطيب
: ... على قدر أهل العزم تأتي العزائم
أطلق الحسب على الجزاء كما هنا.
وجهنم علم على دار العقاب الموقدة ناراً ، وهو اسم ممنوع من الصرف قال بعض النحاة للعلمية والتأنيث ، لأن العرب اعتبرته كأسماء الأماكن وقال بعضهم للعلمية والعُجمة وهو قول الأكثر : جاء من لغة غير عربية ، ولذلك لا حاجة إلى البحث عن اشتقاقه ، ومن جعله عربياً زعم أنه مشتق من الجَهْم وهو الكراهية فزعم بعضهم أن وزنه فُعَنَّل بزيادة نونين أصله فعنل بنون واحدة ضعفت وقيل وزنه فعلل بتكرير لامه الأولى وهي النون إلحاقاً له بالخُماسي ومن قال : أصلها بالفارسية كَهَنَّام فعربت جهنم.
وقيل أصلها عبرانية كِهِنَّام بكسر الكاف وكسر الهاء فعربت وأن من قال إن وزن فعنل لا وجود له لا يلتفت لقوله لوجود دَوْنَك اسم واد بالعالية وحَفَنْكَى اسم للضعيف وهو بحاء مهملة وفاء مفتوحتين ونون ساكنة وكاف وألف وهما نادران ، فيكون جهنم نادراً ، وأما قول العرب رَكِيَّةٌ جهنم أي بعيدة القَعر فلا حجة فيه ، لأنه ناشىء عن تشبيه الركية بجهنم ، لأنهم يصفون جهنم أنها كالبئر العميقة الممتلئة ناراً قال ورقة بن نوفل أو أميَّة بن أبي الصَّلْت يرثي زيداً بن عمرو بن نُفَيْل وكانا معاً ممن ترك عبادة الأوثان في الجاهلية : ... رَشَدْتَ وأنعمت ابنَ عمرو وإنَّما(5/102)
تَجَنَّبْتَ تَنُّوراً من النَّار مُظْلِما... وقد جاء وصف جهنم في الحديث بمثل ذلك وسماها الله في كتابه في مواضع كثيرة ناراً وجعل وقودها الناس والحجارة وقد تقدم القول في ذلك عند قوله تعالى : {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة} {البقرة : 24 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 272}
قوله تعالى : {وَلَبِئْسَ المهاد }
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَلَبِئْسَ المهاد} ففيه وجهان الأول : أن المهاد والتمهيد : التوطئة ، وأصله من المهد ، قال تعالى : {والأرض فرشناها فَنِعْمَ الماهدون} {الذاريات : 48 ] أي الموطئون الممكنون ، أي جعلناها ساكنة مستقرة لا تميد بأهلها ولا تنبو عنهم وقال تعالى : {فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ} {الروم : 44 ] أي يفرشون ويمكنون والثاني : أن يكون قوله : {وَلَبِئْسَ المهاد} أي لبئس المستقر كقوله : {جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار} {إبراهيم : 29 ] وقال بعض العلماء : المهاد الفراش للنوم ، فلما كان المعذب في النار يلقى على نار جهنم جعل ذلك مهاداً له وفراشاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 173}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {ولبئس المهاد} أي جهنم ، والمهاد ما يُمْهد أي يُهَيَّأ لمن ينام ، وإنما سمى جهنَم مهاداً تهكماً ، لأن العُصاة يُلْقَون فيها فتصادف جنوبهم وظهورهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 272}
قال ابن عادل : (5/103)
قوله : {وَلَبِئْسَ المهاد} المخصُوص بالذَّمِّ محذوفٌ ، أي : وَلَبِئْسَ المِهادُ جَهَنَّمُ ، وحَسَّنَ حَذْفَهُ هنا كونُ "المِهَادِ "وقعَ فاصِلةً. وتقدَّمَ الكلامُ على "بِئْسَ "وحُذِفَ هذا المخصُوصُ بذلك على أنه مبتدأٌ ، والجملةُ مِنْ نِعْمَ وبِئْسَ خبرُهُ ، سواءٌ تقدَّمَ أو تأخَّرَ ؛ لأنَّا لو جَعَلْنَاهُ خبرَ مبتدأ مَحْذُوفٍ ، أو مُبتَدأٌ محذوفَ الخبرِ ، ثم حذَفْنَاهُ ، كُنَّا قد حَذَفْنَا الجملةَ بأَسْرها من غَيْرَ أنْ يَنُوبَ عنها شَيْءٌ ، وأيضاً فإنَّه يَلْزَمُ مِنْ ذلك أَنْ تكونَ الجملةُ مُفْلَتَةً مِمَّا قبلها ؛ إِذْ ليس لها مَوْضِعٌ من الإِعْرابِ ، وليست مُعْترضةً ، ولا مفسِّرةً ، ولا صلةً.
أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 466 ـ 467}
لطيفة
ذكر أن يهودياً كانت له حاجة إلى هارون الرشيد ، فاختلف إلى بابه سنة ، فلم تنقض حاجته ؛ فوقف يوماً على الباب ، فلما خرج هارون الرشيد سعى ووقف بين يديه وقال : اتق الله يا أمير المؤمنين. فنزل هارون عن دابته وخرّ ساجداً لله تعالى ، فلما رفع رأسه أمر به ، فقضيت حاجته. فلما رجع قيل : يا أمير المؤمنين نزلت عن دابتك بقول يهودي ؟ قال : لا ولكن تذكرت قول الله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم} إلى آخره. وقال قتادة : ذكر لنا أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : "إِذَا دُعِيْتُمْ إلى الله فَأَجِيبُوا ، وإِذَا سُئِلْتُم بالله فَأَعْطُوا ؛ فإِنَّ المُؤْمِنِينَ كَانُوا كَذَلِكَ ". أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 163}
فائدة
قال عبد الله بن مسعود : إن من أكبر الذنب عند الله أن يقال : للعبد اتق الله فيقول : عليك بنفسك.
وروي أنه قيل لعمر بن الخطاب : اتق الله ، فوضع خده على الأرض تواضعا لله عز وجل. أ هـ {تفسيرالبغوى حـ 1 صـ 236}(5/104)
قال العلماء : إذا قال الخصم للقاضي : اعدل ونحوه له أن يعزره ، وإذا قال له : اتق الله لا يعزره. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 97}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد}.
قال ابن عرفة : الآية لها منطوق ومفهوم والتقدير : لم يتق لأجل ما نالته ( من العزة ) بسبب الإثم واكتفى عن ذلك المفهوم فذكر علته. وفي كتاب الأقضية والشهادة فيمن قال له القاضي أو غيره : اتّق الله فإنّه يقول له : اللّهم اجعلنا من المتّقين ، لئلا يدخل في ضمن هاته الآية. قال : ولا ينبغي أن يقول أحد لأحد : اتّق الله ، فإنه تعريض له لعدم التقوى.
أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 264}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
هؤلاء أقوام استولى عليهم التكبُّر ، وزال عنهم خضوعُ الإنصاف ؛ فَشَمَخَتْ آنافُهم عن قبول الحق فإِذا أمرته بمعروف قال : ألمثلى يقال هذا ؟!
وأنا كذا وكذا! ثم يكبر عليك
فيقول : وأنت أَوْلى بأن تؤمر بالمعروف وتُنهى عن المنكر فإن من حالك وقصتك كذا وكذا.
أو لو ساعده التوفيق وأدركته الرحمة ، وتقلَّد المنة بمن هداه إلى رؤية خطئه ، ونبهه على سوء وصفه ، لم يطوِ على نصيحة جنبيه وتبقى في القلب - إلى سنين - آثارها.
قال تعالى : {فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ} يعني ما هو فيه في الحال من الوحشة وظلمات النَّفْس وضيق الاختيار حتى لا يسعى في شيء غير مراده ، فيقع في كل لحظة غير مرة في العقوبة والمحنة ، ثم إنه منقول من هذا العذاب إلى العذاب الأكبر ، قال الله تعالى : {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العَذَابِ الأَدْنَى دُونَ العَذَابِ الأَكْبَرِ} {السجدة : 21 ]. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 170 ـ 171}
كلام نفيس لحجة الإسلام عن الرياء
قال رحمه الله :
بيان درجات الرياء(5/105)
اعلم أن بعض أبواب الرياء أشد وأغلظ من بعض واختلافه باختلاف أركانه وتفاوت الدرجات فيه وأركانه ثلاثة المراءى به والمراءى لأجله ونفس قصد الرياء
الركن الأول نفس قصد الرياء وذلك لا يخلو إما أن يكون مجردا دون إرادة عبادة الله تعالى والثواب وإما أن يكون مع إرادة الثواب فإن كان كذلك فلا يخلو إما أن تكون إرادة الثواب أقوى وأغلب أو أضعف أو مساوية لإرادة العبادة فتكون الدرجات أربعا
الأولى وهي أغلظها أن لا يكون مراده الثواب أصلا كالذي يصلى بين أظهر الناس ولو انفرد لكان لا يصلي بل ربما يصلي من غير طهارة مع الناس فهذا جرد قصده إلى الرياء فهو الممقوت عند الله تعالى
وكذلك من يخرج الصدقة خوفا من مذمة الناس وهو ولا يقصد الثواب ولا خلا بنفسه لما أداها فهذه الدرجة العليا من الرياء
الثانية أن يكون له قصد الثواب أيضا ولكن قصدا ضعيفا بحيث لو كان في الخلوة لكان لا يفعله ولا يحمله ذلك القصد على العمل ولو لم يكن قصد الثواب لكان الرياء يحمله على العمل فهذا قريب مما قبله وما فيه من شائبة قصد ثواب لا يستقل بحمله على العمل لا ينفي عنه المقت والإثم
الثالثة أن يكون له قصد الثواب وقصد الرياء متساويين بحيث لو كان كل واحد منهما خاليا عن الآخر لم يبعثه على العمل فلما اجتمعا انبعثت الرغبة أو كان كل واحد منهما لو انفرد لاستقل بحمله على العمل فهذا قد أفسد مثل ما أصلح فنرجو أن يسلم رأسا برأس لا له ولا عليه أو يكون له من الثواب مثل ما عليه من العقاب وظواهر الأخبار تدل على أنه لا يسلم وقد تكلمنا عليه في كتاب الإخلاص
(5/106)
الرابعة أن يكون إطلاع الناس مرجحا ومقويا لنشاطه ولو لم يكن لكان لا يترك العبادة ولو كان قصد الرياء وحده لما أقدم عليه فالذي نظنه والعلم عند الله أنه لا يحبط أصل الثواب ولكنه ينقص منه أو يعاقب على مقدار قصد الرياء ويثاب على مقدار قصد الثواب وأما قوله ? يقول الله تعالى أنا أغنى الأغنياء عن الشرك فهو محمول على ما إذا تساوى القصدان أو كان قصد الرياء أرجح
الركن الثاني المراءى به وهو الطاعات وذلك ينقسم إلى الرياء بأصول العبادات وإلى الرياء بأوصافها
القسم الأول وهو الأغلظ الرياء بالأصول وهو على ثلاث درجات
الأولى الرياء بأصل الإيمان وهذا أغلظ أبواب الرياء وصاحبه مخلد في النار وهو الذي يظهر كلمتي الشهادة وباطنه مشحون بالتكذيب ولكنه يرائي بظاهر الإسلام وهو الذي ذكره الله تعالى في كتابه في مواضع شتى كقوله عز وجل ) إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون ( أي في دلالتهم بقولهم على ضمائرهم وقال تعالى ) ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ( الآية وقال تعالى ) وإذا لقوكم قالوا آمنا وإذا خلوا عضوا عليكم الأنامل من الغيظ ( وقال تعالى ) يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلا مذبذبين بين ذلك ( والآيات فيهم كثيرة
وكان النفاق يكثر في ابتداء الإسلام ممن يدخل في ظاهر الإسلام ابتداء لغرض وذلك مما يقل في زماننا ولكن يكثر نفاق من ينسل عن الدين باطنا فيجحد الجنة والنار والدار الآخرة ميلا إلى قول الملحدة أو يعتقد على بساط الشرع والأحكام ميلا إلى أهل الإباحة أو يعتقد كفرا أو بدعة وهو يظهر خلافه فهؤلاء من المنافقين والمرائين المخلدين في النار وليس وراء هذا الرياء رياء وحال هؤلاء أشد حالا من الكفار المجاهرين فإنهم جمعوا بين كفر الباطن ونفاق الظاهر
(5/107)
الثانية الرياء بأصول العبادات مع التصديق بأصل الدين وهذا أيضا عظيم عند الله ولكنه دون الأول بكثير
ومثاله أن يكون مال الرجل في يد غيره فيأمره بإخراج الزكاة خوفا من ذمه والله يعلم منه أنه لو كان في يده لما أخرجها أو يدخل وقت الصلاة وهو في جمع وعادته ترك الصلاة في الخلوة وكذلك يصوم رمضان وهو يشتهي خلوة من الخلق ليفطر وكذلك يحضر الجمعة ولولا خوف المذمة لكان لا يحضرها أو يصل رحمه أو يبر والديه لا عن رغبة ولكن خوفا من الناس أو يغزو أو يحج كذلك
فهذا مراء معه أصل الإيمان بالله يعتقد أنه لا معبود سواه ولو كلف أن يعبد غير الله أو يسجد لغيره لم يفعل ولكنه يترك العبادات للكسل وينشط عند إطلاع الناس فتكون منزلته عند الخلق أحب إليه من منزلته عند الخالق وخوفه من مذمة الناس أعظم من خوفه من عقاب الله ورغبته في محمدتهم أشد مرغبته في ثواب الله وهذا غاية الجهل وما أجدر صاحبه بالمقت وإن كان غير منسل عن أصل الإيمان من حيث الاعتقاد الثالثة أن لا يرائي بالإيمان ولا بالفرائض ولكنه يرائي بالنوافل والسنن التي لو تركها لا يعصي ولكنه يكسل عنها في الخلوة لفتور رغبته في ثوابها ولإيثار لذة الكسل على ما يرجى من الثواب ثم يبعثه الرياء على فعلها وذلك كحضور الجماعة في الصلاة وعيادة المريض واتباع الجنازة وغسل الميت وكالتهجد بالليل وصيام يوم عرفة وعاشوراء ويوم الاثنين والخميس
فقد يفعل المرائي جملة ذلك خوفا من المذمة أو طلبا للمحمدة ويعلم الله تعالى منه أنه لو خلا بنفسه لما زاد على أداء الفرائض
فهذا أيضا عظيم ولكنه دون ما قبله فإن الذي قبله آثر حمد الخلق على حمد الخالق
وهذا أيضا قد فعل ذلك واتقى ذم الخلق دون ذم الخالق فكان ذم الخلق أعظم عنده من عقاب الله وأما هذا فلم يفعل ذلك لأنه لم يخف عقابا على ترك النافلة لو تركها وكأنه على شطر من الأول وعقابه نصف عقابه
فهذا هو الرياء بأصول العبادات
(5/108)
القسم الثاني الرياء بأوصاف العبادات لا بأصولها وهو أيضا على ثلاثة درجات
الأولى أن يرائي بفعل ما في تركه نقصان العبادة كالذي غرضه أن يخفف الركوع والسجود ولا يطول القراءة فإذا رآه الناس أحسن الركوع والسجود وترك الالتفات وتمم القعود بين السجدتين وقد قال ابن مسعود من فعل ذلك فهو استهانة يستهين بها ربه عز وجل أي أنه ليس يبالي باطلاع الله عليه في الخلوة فإذا اطلع عليه آدمي أحسن الصلاة ومن جلس بين يدي إنسان متربعا أو متكئا فدخل غلامه فاستوى وأحسن الجلسة كان ذلك منه تقديما للغلام على السيد واستهانة بالسيد لا محالة وهذا حال المرائي بتحسين الصلاة في الملأ دون الخلوة
وكذلك الذي يعتاد إخراج الزكاة من الدنانير الرديئة أو من الحب الرديء فإذا اطلع عليه غيره أخرجها من الجيد خوفا من مذمته وكذلك الصائم يصون صومه عن الغيبة والرفث لأجل الخلق لا إكمالا لعبادة الصوم خوفا من المذمة فهذا أيضا من الرياء المحظور لأن فيه تقديما للمخلوقين على الخالق ولكنه دون الرياء بأصول التطوعات
فإن قال المرائي إنما فعلت ذلك صيانة لألسنتهم عن الغيبة فإنهم إذا رأوا تخفيف الركوع والسجود وكثرة الالتفات أطلقوا اللسان بالذم والغيبة وإنما قصدت صيانتهم عن هذه المعصية فيقال له هذه مكيدة للشيطان عندك وتلبيس وليس الأمر كذلك فإن ضررك من نقصان صلاتك وهي خدمة منك لمولاك أعظم من ضررك بغيبة غيرك فلو كان باعثك الدين لكان شفقتك على نفسك أكثر وما أنت في هذا إلا كمن يهدي وصيفة إلى ملك لينال منه فضلا وولاية يتقلدها فيهديها إليه وهي عوراء قبيحة مقطوعة الأطراف ولا يبالي به إذا كان الملك وحده وإذا كان عنده بعض غلمانه امتنع خوفا من مذمة غلمانه وذلك محال بل من يراعي جانب غلام الملك ينبغي أن تكون مراقبته للملك أكثر
نعم للمرائي فيه حالتان
إحداهما أن يطلب بذلك المنزلة والمحمدة عند الناس وذلك حرام قطعا
(5/109)
والثانية أن يقول ليس يحضرني في الإخلاص في تحسين الركوع والسجود ولو خففت كانت صلاتي عندهم ناقصة وآذاني الناس بذمهم وغيبتهم فأستقيد بتحسين الهيبة دفع مذمتهم ولا أرجو عليه ثوابا فهو خير من أن أترك تحسين الصلاة فيفوت الثواب وتحصل المذمة فهذا فيه أدنى نظر
والصحيح أن الواجب عليه أن يحسن ويخلص فإن لم تحضره النية فينبغي أن يستمر على عادته في الخلوة فليس له أن يدفع الذم بالمراءاة بطاعة الله فإن ذلك استهزاء كما سبق
الدرجة الثانية أن يرائي بفعل مالا نقصان في تركه ولكن فعله في حكم التكملة والتتمة لعبادته كالتطويل في الركوع والسجود ومد القيام وتحسين الهيئة ورفع اليدين والمبادرة إلى التكبيرة الأولى وتحسين الاعتدال والزيادة في القراءة على السور المعتادة وكذلك كثرة الخلوة في صوم رمضان وطول الصمت وكاختيار الأجود على الجيد في الزكاة وإعتاق الرقبة الغالية في الكفارة
وكل ذلك مما لو خلا بنفسه لكان لا يقدم عليه
الثالثة أن يرائي بزيادات خارجة عن نفس النوافل أيضا كحضوره الجماعة قبل القوم وقصده للصف الأول وتوجهه إلى يمين الإمام وما يجري مجراه
وكل ذلك مما يعلم الله منه أنه لو خلا بنفسه لكان لا يبالي أين وقف ومتى يحرم بالصلاة فهذه درجات الرياء بالإضافة إلى ما يرائي به وبعضه أشد من بعض
والكل مذموم
الركن الثالث المرائي لأجله فإن للمرائي مقصودا لا محالة وإنما يرائي لإدراك مال أو جاه أو غرض من الأغراض لا محالة وله أيضا ثلاث درجات
(5/110)
الأولى وهي أشدها وأعظمها أن يكون مقصوده التمكن من معصية كالذي يرائي بعبادته ويظهر التقوى والورع بكثرة النوافل والامتناع عن أكل الشبهات وغرضه أن يعرف بالأمانة فيولى القضاء أو الأوقاف أو الوصايا أو مال الأيتام فيأخذها أو يسلم إليه تفرقة الزكاة أو الصدقات ليستأثر بما قدر عليه منها أو يودع الودائع فيأخذها ويجحدها أو تسلم إليه الأموال التي تنفق في طريق الحج فيختزل بعضها أو كلها أو يتوصل بها إلى استتباع الحجيج ويتوصل بقوتهم إلى مقاصده الفاسدة في المعاصي
وقد يظهر بعضهم زي التصوف وهيئة الخشوع وكلام الحكمة على سبيل الوعظ والتذكير وإنما قصده التحبب إلى امرأة أو غلام لأجل الفجور وقد يحظرون مجالس العلم والتذكيروحلق القرآن يظهرون الرغبة في سماع العلم والقرآن وغرضهم ملاحظة النساء والصبيان أو يخرج إلى الحج ومقصوده الظفر بمن في الرفقة من امرأة أو غلام
وهؤلاء أبغض المرائين إلى الله تعالى لأنهم جعلوا طاعة ربهم سلما إلى معصيته واتخذوها آلة ومتجرا وبضاعة لهم في فسقهم ويقرب من هؤلاء وإن كان دونهم من هو مقترف جريمة اتهم بها وهو مصر عليها ويريد أن ينفي التهمة عن نفسه فيظهر التقوى لنفي التهمة كالذي جحد وديعة واتهمه الناس بها فيتصدق بالمال ليقال إنه يتصدق بمال نفسه فكيف يستحل مال غيره وكذلك من ينسب إلى فجور بامرأة أو غلام فيدفع التهمة عن نفسه بالخشوع وإظهار التقوى
الثانية أن يكون غرضه نيل حظ مباح من حظوظ الدنيا من مال أو نكاح امرأة جميلة أو شريفة كالذي يظهر الحزن والبكاء ويشتغل بالوعظ والتذكير لتبذل له الأموال ويرغب في نكاحه النساء فيقصد إما امرأة بعينها لينكحها أو امرأة شريفة على الجملة وكالذي يرغب أن يتزوج بنت عالم عابد فيظهر له العلم والعبادة ليرغب في تزويجه ابنته
فهذا رياء محظور لأنه طلب بطاعة الله متاع الحياة الدنيا ولكنه دون الأول فإنه المطلوب بهذا مباح في نفسه
(5/111)
الثالثة أن لا يقصد نيل حظ وإدراك مال أو نكاح ولكن يظهر عبادته خوفا من أن ينظر إليه بعين النقص ولا يعد من الخاصة والزهاد ويعتقد أنه من جملة العامة كالذي يمشي مستعجلا فيطلع عليه الناس فيحسن المشي ويترك العجلة كيلا يقال إنه من أهل اللهو والسهو لا من أهل الوقار وكذلك إن سبق إلى الضحك أو بدا منه المزاح فيخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار فيتبع ذلك بالاستغفار وتنفس الصعداء وإظهار الحزن ويقول ما أعظم غفلة الآدمي عن نفسه والله يعلم منه أنه لو كان في خلوة لما كان يثقل عليه ذلك وإنما يخاف أن ينظر إليه بعين الاحتقار لا بعين التوقير وكالذي يرى جماعة يصلون التراويح أو يتهجدون أو يصومون الخميس والاثنين أو يتصدقون فيوافقهم خيفة أن ينسب إلى الكسل ويلحق بالعوام ولو خلا بنفسه لكان لا يفعل شيئا من ذلك وكالذي يعطش يوم عرفة أو عاشوراء أو في الأشهر الحرم فلا يشرب خوفا من أن يعلم الناس أنه غير صائم فإذا ظنوا به الصوم امتنع عن الأكل لأجله أو يدعى إلى طعام فيمتنع ليظن أنه صائم وقد لا يصرح بأني صائم ولكن يقول لي عذر وهو جمع بين خبيثين فإنه يرى أنه صائم ثم يرى أنه مخلص ليس بمراء وأنه يحترز من أن يذكر عبادته للناس فيكون مرائيا فيريد أن يقال إنه ساتر لعبادته ثم إن اضطر إلى شرب لم يصبر عن أن يذكر لنفسه فيه عذرا تصريحا أو تعريضا بأن يتعلل بمرض يقتضي فرط العطش ويمنع من الصوم أو يقول أفطرت تطييبا لقلب فلان ثم قد لا يذكر ذلك متصلا بشربه كي لا يظن به أن يعتذر رياء ولكنه يصبر ثم يذكر عذره في معرض حكاية عرضا مثل أن يقول إن فلانا محب للإخوان شديد الرغبة في أن يأكل الإنسان من طعامه وقد ألح علي اليوم ولم أجد بدا من تطييب قلبه
ومثل أن يقول إن أمي ضعيفة القلب مشفقة علي تظن أني لو صمت يوما مرضت فلا تدعني أصوم فهذا وما يجري مجراه من آفات الرياء فلا يسبق إلى اللسان إلا لرسوخ عرق الرياء في الباطن
(5/112)
أما المخلص فإنه لا يبالي كيف نظر الخلق إليه فإن لم يكن له رغبة في الصوم وقد علم الله ذلك منه فلا يريد أن يعتقد غيره ما يخالف علم الله فيكون ملبسا وإن كان له رغبة في الصوم لله قنع بعلم الله تعالى ولم يشرك فيه غيره وقد يخطر له أن في إظهاره اقتداء غيره به وتحريك رغبة الناس فيه وفيه مكيدة وغرور وسيأتي شرح ذلك وشروطه
فهذه درجات الرياء ومراتب أصناف المرائين وجميعهم تحت مقت الله وغضبه وهو من أشد المهلكات وإن من شدته أن فيه شوائب هي أخفى من دبيب النمل كما ورد به الخبر يزل فيه فحول العلماء فضلا عن العباد الجهلاء بآفات النفوس وغوائل القلوب والله أعلم. {إحياء علوم الدين حـ 3 صـ 202 ـ 205}
قوله تعالى : {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
(5/113)
ولما أتم الخبر عن هذا القسم الذي هو شر الأقسام أتبعه خيرها ليكون ختاماً وبينهما تباين فإن الأول من يهلك الناس لاستبقاء نفسه وهذا يهلك نفسه لاستصلاح الناس فقال : {ومن الناس من} أي شخص أو الذي {يشري} أي يفعل هذا الفعل كلما لاح له وهو أنه يبيع بغاية الرغبة والانبعاث {نفسه} فيقدم على إهلاكها أو يشتريها بما يكون سبب إعتاقها وإحيائها بالاجتهاد في أوامر الله بالنهي لمثل هذا الألد عن فعله الخبيث والأمر له بالتقوى والتذكير بالله ، وروي أنها نزلت في صهيب رضي الله تعالى عنه لأنه لما هاجر أرادت قريش رده فجعل لهم ماله حتى خلوا سبيله فقال له النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "ربح البيع "فعلى هذا يكون شرى بمعنى اشترى ، ثم علل ذلك بقوله : {ابتغآء} أي تطلب وتسهل وتيسر بغاية ما يمكن أن يكون كل من ذلك {مرضات الله} أي رضى المحيط بجميع صفات الكمال وزمان الرضى ومكانه بما دل عليه كون المصدر ميمياً ويكون ذلك غاية في بابه بما دل عليه من وقفه بالتاء الممدودة لما يعلم من شدّة رحمة الله تعالى به {والله رؤوف} أي بالغ الرحمة ، وأظهر موضع الإضمار دلالة على العموم وعلى الوصف المقتضي للرحمة والشرف فقال : {بالعباد} كلهم حيث أسبغ عليهم نعمه ظاهرة وباطنة مع كفرهم به أو تقصيرهم في أمره ، وبين لهم الطريق غاية البيان بالعقل أولاً والرسل ثانياً والشرائع ثالثاً والكتب الحافظة لها رابعاً ، ولعل الفصل بين الأقسام الأربعة بالأيام المعدودات اهتماماً بأمرها لكونها من فعل الحج وتأخيرها عن أخواتها إشارة إلى أنها ليست من دعائم المناسك بل تجبر بدم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 386}
وقال ابن عاشور : (5/114)
هذا قسيم {ومن الناس من يعجبك قوله} {البقرة : 204 ] وذكره هنا بمنزلة الاستطراد استيعاباً لقسمي الناس ، فهذا القسم هو الذي تمحض فعله للخير حتى بلغ غاية ذلك وهو تعريض نفسه التي هي أنفس الأشياء عليه للهلاك لأجل تحصيل ما يرضي الله تعالى وإنما رضا الله تعالى بفعل الناس للخير الذي أمرهم به. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 272}
سبب نزول الآية
قال الفخر :
في سبب النزول روايات أحدها : روى ابن عباس أن هذه الآية نزلت في صهيب بن سنان مولى عبد الله بن جدعان ، وفي عمار بن ياسر ، وفي سمية أمه ، وفي ياسر أبيه ، وفي بلال مولى أبي بكر ، وفي خباب بن الأرت ، وفي عابس مولى حويطب أخذهم المشركون فعذبوهم ، فأما صهيب فقال لأهل مكة : إني شيخ كبير ، ولي مال ومتاع ، ولا يضركم كنت منكم أو من عدوكم تكلمت بكلام وأنا أكره أن أنزل عنه وأنا أعطيكم مالي ومتاعي وأشتري منكم ديني ، فرضوا منه بذلك وخلوا سبيله ، فانصرف راجعاً إلى المدينة ، فنزلت الآية ، وعند دخول صهيب المدينة لقيه أبو بكر رضي الله عنه فقال له : ربح بيعك ، فقال له صهيب : وبيعك فلا نخسر ما ذاك ؟ فقال : أنزل الله فيك كذا ، وقرأ عليه الآية ، وأما خباب بن الأرت وأبو ذر فقد فرا وأتيا المدينة ، وأما سمية فربطت بين بعيرين ثم قتلت وقتل ياسر ، وأما الباقون فأعطوا بسبب العذاب بعض ما أراد المشركون فتركوا ، وفيهم نزل قول الله تعالى : {والذين هاجروا فِى الله مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا} {النحل : 41 ] بتعذيب أهل مكة {لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِى الدنيا حَسَنَةً} {النحل : 41 ] بالنصر والغنيمة ، ولأجر الآخرة أكبر ، وفيهم نزل : {إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان.
} {النحل : 106 ] والرواية الثانية : أنها نزلت في رجل أمر بمعروف ونهى عن منكر ، عن عمر وعلي وابن عباس رضي الله عنهم.(5/115)
والرواية الثالثة : نزلت في علي بن أبي طالب بات على فراش رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة خروجه إلى الغار ، ويروى أنه لما نام على فراشه قام جبريل عليه السلام عند رأسه ، وميكائيل عند رجليه ، وجبريل ينادي : بخ بخ من مثلك يا ابن أبي طالب يباهي الله بك الملائكة ونزلت الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 174}
وقال الخازن :
قوله عز وجل : {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في سرية الرجيع وكانت بعد أحد
عن أبي هريرة قال بعث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سرية عيناً وأمر عليهم عاصم بن ثابت وهو جد عاصم بن عمر بن الخطاب ، فانطلقوا حتى إذا كانوا بين عسفان ومكة ذكروا الحي من هذيل يقال لهم بنو لحيان فتبعوهم بقريب من مائة رام فاقتفوا آثارهم حتى أتوا منزلاً نزلوه فوجدوا فيه نوى تمر تزودوه من المدينة فقالوا هذه تمر يثرب ، فتبعوا أثرهم حتى لحقوهم.(5/116)
فلما أحس بهم عاصم وأصحابه لجؤوا إلى فدفد ، وجاء القوم فأحاطوا بهم فقالوا : لكم العهد والميثاق إن نزلتم إلينا أن لا نقتل منكم رجلاً ، فقال عاصم : أما أنا فلا أنزل في ذمة كافر اللهم أخبر عنا رسولك فقاتلوهم فرموهم حتى قتلوا عاصماً في سبعة نفر بالنبل وبقي خبيب وزيد ورجل آخر فأعطوهم العهد والميثاق. فلما أعطوهم العهد والميثاق نزلوا إليهم فلما استمكنوا منهم حلوا أوتار قسيهم فربطوهم بها فقال الرجل الثالث الذي معهم : هذا أول الغدر ، فأبى أن يصحبهم فجروه وعالجوه على أن يصحبهم فلم يفعل فقتلوه وانطلقوا بخبيب وزيد حتى باعوهما بمكة ، فاشترى خبيباً بنو الحارث بن عامر بن نوفل ، وكان خبيب هو الذي قتل الحارث يوم بدر فمكث عندهم أسيراً حتى إذا اجتمعوا على قتله استعار موسى من بعض بنات الحارث ليستحدَّ بها فأعارتها ، فقالت : فغفلت عن صبي لي فدرج إليه حتى أتاه فوضعه على فخذه فلما رأيته فزعت فزعة عرف ذلك مني وفي يده الموسى ، فقال : أتخشين مني أن أقتله ما كنت لأفعل ذلك أن شاء الله تعالى وكانت تقول : ما رأيت أسيراً قط خيراً من خبيب لقد رأيته يأكل من قطف عنب وما بمكة يومئذٍ تمرة ، وإنه لموثق في الحديد. وما كان إلاّ رزقاً رزقه الله خبيباً ، فلما خرجوا به من الحرم ليقتلوه قال : دعوني أصلي ركعتين ، فصلى ركعتين ثم انصرف فقال : لولا ترون أن ما بي جزع من الموت لزدت ، فكان أول من سن ركعتين عند القتل ، وقال : اللهم أحصهم عدداً وقال :
فلست أبالي حين أقتل مسلماً... على أي جنب كان في الله مصرعي
وذلك في ذات الإله وإن يشأ... يبارك على أوصال شلوٍ ممزع
(5/117)
ثم قام إليه عقبة بن الحارث فقتله ، وبعثت قريش إلى عاصم ليأتوا بشيء من جسده بعد موته وكان قتل عظيماً من عظمائهم يوم بدر ، فبعث الله عليه مثل الظلة من الدبر فحمته من رسلهم ، فلم يقدروا منه على شيء زاد في رواية وأخبر يعني النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أصحابه يوم أصيبوا خبرهم ، الفدفد : الموضع الذي فيه غلظ وارتفاع. وقوله عالجوه : أي مارسوه ، وأراد به أنهم يخدعونه ليتبعهم فأبى. وقوله ليستحد الاستحداد حلق العانة. والقطف العنقود من العنب : قوله على أوصال شلو. الشلو العضو من أعضاء الإنسان. والممزع : المفرق. والظلة : الشيء الذي يظل من فوق الإنسان. والدبر : جماعة النحل والزنابير. وقال أهل التفسير : إن كفار قريش بعثوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وهو بالمدينة أنا قد أسلمنا فابعث إلينا نفراً من علماء أصحابك يعلمونا دينك ، وكان ذلك مكراً منهم فبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خبيب بن عدي الأنصاري ومرثد بن أبي مرثد الغنوي وخالد بن بكر وعبدالله بن طارق بن شهاب البلوي وزيد بن الدثنة وأمر عليهم عاصم بن ثابت بن أبي أفلح الأنصاري ، وذكر نحو حديث البخاري ، زاد عليه : فقالوا : نصلب خبيباً حياً ، فقال : اللهم إنك تعلم أنه ليس لي أحد حولي يبلغ سلامي رسولك فأبلغه سلامي ، فقام إليه أبو سروعة عقبة بن الحارث فقتله ويقال كان رجل من المشركين يقال له أبو ميسرة سلامان معه رمح فوضعه بين ثديي خبيب فقال له خبيب : اتق الله ، فما زاده ذلك إلاّ عتواً فطعنه فأنفذه فذلك قوله تعالى : {وإذا قيل له اتق الله أخذته العزة بالإثم} يعني سلامان.
(5/118)
وأما زيد بن الدثنة فابتاعه صفوان بن أمية ليقتله بأبيه أمية بن خلف فبعثه مع مولى له يسمى نسطاس إلى التنعيم ليقتله في الحل ، واجتمع رهط من قريش فيهم أبو سفيان بن حرب فقال له أبو سفيان حين قدم ليقتل أنشدك الله يا زيد أتحب محمداً عندنا الآن مكانك يضرب عنقه وأنك في أهلك قال زيد والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأنا جالس في أهلي ، فقال أبو سفيان : ما رأيت أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمد محمداً ثم قتله نسطاس ، فلما بلغ النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ هذا الخبر قال لأصحابه أيكم ينزل خبيباً عن خشبته وله الجنة فقال الزبير : أنا يا رسول الله وصاحبي المقداد بن الأسود ، فخرجنا يمشيان الليل ويكمنان النهار حتى أتيا التنعيم ليلاً ، فإذا حول الخشبة أربعون من المشركين نشاوى وهم نيام ، فأنزلاه عن خشبته ، فإذا هو رطب ينثني ولم يتغير منه شيء بعد أربعين يوماً ويده على جراحته وهي تبض دماً اللون لون الدم والريح ريح المسك ، فحمله الزبير على فرسه وسار فانتبه الكفار وقد فقدوا خبيباً فأخبروا قريشاً فركب معهم سبعون فارساً فلما لحقوهم قذف الزبير خبيباً فابتلعته الأرض فسمي بليغ الأرض وقال الزبير ما أجرأكم علينا يا معشر قريش ثم رفع العمامة عن رأسه وقال : أنا الزبير بن العوام وأمي صفية بنت عبد المطلب وصاحبي المقداد بن الأسود أسدان ضاريان يدفعان عن أشبالهما. فإن شئتم ناضلتكم وإن شئتم نازلتكم وإن شئتم انصرفتم ، فانصرفوا إلى مكة ، وقدم الزبير وصاحبه المقداد على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجبريل عنده فقال يا محمد أن الملائكة لتباهي بهذين من أصحابك ، ونزل في الزبير والمقداد : {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} حين شريا أنفسهما بإنزال خبيب عن خشبته. وقال أكثر المفسرين : نزلت في صهيب بن سنان الرومي ، وإنما نسب إلى الروم لأن منازلهم كانت بأرض الموصل فأغارت الروم على تلك(5/119)
الناحية فسبوه وهو غلام صغير فنشأ بالروم ، وإنما كان من العرب ابن النمر بن قاسط قال سعيد بن المسيب وعطاء أقبل صهيب مهاجراً إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فاتبعه نفر من مشركي قريش فنزل عن راحلته ونثل ما كان في كنانته وقال : والله لا تصلوا إليّ أو أرمي بكل سهم معي ثم أضرب بسيفي ما بقي في يدي ، وإن شئتم دللتكم على مال دفنته بمكة وخليتم سبيلي.
فقالوا نعم ، ففعل ، فلما قدم على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ نزلت : {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} الآية فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : ربح البيع أبا يحيى ، وتلا عليه هذه الآية. وقال الحسن : أتدرون فيم نزلت هذه الآية ؟ نزلت في المسلم يلقي الكافر فيقول له قل : لا إله إلاّ الله فيأبى أن يقولها فيقولها المسلم والله لأشرين نفسي لله فتقدم فقاتل وحده حتى قتل ، نزلت هذه الآية في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، وقال ابن عباس : رضي الله عنهما : أرى من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله يقوم فيأمر هذا بتقوى الله فإذا لم يقبل وأخذته العزة بالإثم قال وأنا أشري نفسي لله فقاتله ، وكان علي كرم الله وجهه إذا قرأ هذه الآية يقول اقتتلا ورب الكعبة. وسمع عمر رجلاً يقرأ هذه الآية : {ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله} فقال عمر : إنا لله وإنا إليه راجعون قام رجل فأمر بالمعروف ونهى عن المنكر فقتل. عن أبي سعيد قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ "من أعظم الجهاد كلمة عدل عند سلطان جائر "أخرجه الترمذي ، وقال حديث حسن غريب. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 134 ـ 135}
فصل فى المراد بالشراء فى الآية
قال الفخر : (5/120)
أكثر المفسرين على أن المراد بهذا الشراء : البيع ، قال تعالى : {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} {يوسف : 20 ] أي باعوه ، وتحقيقه أن المكلف باع نفسه بثواب الآخرة وهذا البيع هو أنه بذلها في طاعة الله ، من الصلاة والصيام والحج والجهاد ، ثم توصل بذلك إلى وجدان ثواب الله ، كان ما يبذله من نفسه كالسلعة ، وصار الباذل كالبائع ، والله كالمشتري ، كما قال : {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم بِأَنَّ لَهُمُ الجنة} {التوبة : 111 ] وقد سمى الله تعالى ذلك تجارة ، فقال : {ياأيها الذين ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وتجاهدون فِى سَبِيلِ الله بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} {الصف : 10 ، 11 ] وعندي أنه يمكن إجراء لفظة الشراء على ظاهرها وذلك أن من أقدم على الكفر والشرك والتوسع في ملاذ الدنيا والإعراض عن الآخرة وقع في العذاب الدائم فصار في التقدير كأن نفسه كانت له ، فبسبب الكفر والفسق خرجت عن ملكه وصارت حقاً للنار والعذاب ، فإذا ترك الكفر والفسق وأقدم على الإيمان والطاعة صار كأنه اشترى نفسه من العذاب والنار فصار حال المؤمن كالمكاتب يبذل دارهم معدودة ويشتري بها نفسه فكذلك المؤمن يبذل أنفاساً معدودة ويشتري بها نفسه أبداً لكن المكاتب عبد ما بقي عليه درهم ، فكذا المكلف لا ينجو عن رق العبودية ما دام له نفس واحد في الدنيا ولهذا قال عيسى عليه السلام : {وأوصاني بالصلاة والزكاة ما دمت حياً} {مريم : 31 ] وقال تعالى لنبيه عليه الصلاة والسلام : {واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين} {الحجر : 99 ] فإن قيل : إن الله تعالى جعل نفسه مشترياً حيث قال : {إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وأموالهم} {التوبة : 111 ] وهذا يمنع كون المؤمن مشترياً.
(5/121)
قلنا : لا منافاة بين الأمرين ، فهو كمن اشترى ثوباً بعبد ، فكل واحد منهما بائع ، وكل واحد منهما مشتر ، فكذا ههنا وعلى هذا التأويل فلا يحتاج إلى ترك الظاهر وإلى حمل لفظ الشراء على البيع.
إذا عرفت هذا فنقول : يدخل تحت هذا كل مشقة يتحملها الإنسان في طلب الدين ، فيدخل فيه المجاهد ، ويدخل فيه الباذل مهجته الصابر على القتل ، كما فعله أبو عمار وأمه ، ويدخل فيه الآبق من الكفار إلى المسلمين ، ويدخل فيه المشتري نفسه من الكفار بماله كما فعل صهيب ، ويدخل فيه من يظهر الدين والحق عند السلطان الجائر.
وروي أن عمر رضي الله تعالى عنه بعث جيشاً فحاصروا قصراً فتقدم منهم واحد ، فقاتل حتى قتل فقال بعض القوم : ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال عمر : كذبتم رحم الله أبا فلان (1) ، وقرأ {وَمِنَ الناس مَن يَشْرِى نَفْسَهُ ابتغاء مَرْضَاتِ الله }
ثم اعلم أن المشقة التي يتحملها الإنسان لا بد وأن تكون على وفق الشرع حتى يدخل بسببه تحت الآية ، فأما لو كان على خلاف الشرع فهو غير داخل فيه بل يعد ذلك من باب إلقاء النفس في التهلكة نحو ما إذا خاف التلف عند الإغتسال من الجنابة ففعل ، قال قتادة : أما والله ما هم بأهل حروراء المراق من الدين ولكنهم أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المهاجرين والأنصار لما رأوا المشركين يدعون مع الله إلهاً آخر قاتلوا على دين الله وشروا أنفسهم غضباً لله وجهاداً في سبيله.أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 175}
_______________
(1) هو هشام بن عامر حمل بين الصفين ، فأنكر عليه بعضُ الناس ، فردّ عليهم عُمَر بن الخطاب وأبو هريرة وغيرهما ، وتلوا هذه الآية.(5/122)
وقال ابن عاشور :
و( يشري ) معناه يبيع كما أن يشتري بمعنى يبتاع وقد تقدم ذلك في قوله تعالى : {ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً} {البقرة : 41 ]. واستعمل ( يشري ) هنا في البذل مجازاً ، والمعنى ومن الناس من يبذل نفسه للهلاك ابتغاء مرضاة الله أي هلاكاً في نصر الدين وهذا أعلى درجات الإيمان ، لأن النفس أغلى ما عند الإنسان. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 273}
( بصيرة فى الشرى )
وهو يُمَدّ ويُقصرُ. ويكون بمعنى الاشتراء ، وبمعنى البيع. والشِّرَى والبيع متلازمان ، فالمشترى دافع الثَمَن وآخذ المُثْمَن ، والبائع دافع المثمن وآخذ الثمن. هذا إِذا كانت المبايعة والمشارة بناضٍّ وسِلْعة. فأَمّا إِذا كان بيع سِلْعة بسلعة صَحَّ أَن يُتصوّر كلّ منهما بائعًا ومشتريا ، ومن هذا الوجه صار لفظ البيع والشِّرَى يستعمل كلّ منهما مكان الآخر. وشَرَيت بمعنى بعت أَكثر ، وابتعت بمعنى اشتريت أَكثر ، قال تعالى : {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ} أَى باعوه. ويجوز الشِّراءُ والاشتراءُ فى كلّ ما يحصّل به شىء ، نحو : {أُوْلَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى} ، وقولُه تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ} فقد ذكر ما اشترى به وهو قوله تعالى : {يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
وقيل : ورد الشراء والاشتراء فى التَّنزيل على اثنى عشر وجهًا.
الأَوَّل : شِرَى الضَّلالة بالهدى : {أُولَائِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الضَّلاَلَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ}.
الثانى : شِرَى السِحْر بالإِسلام : {وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ}.
الثالث : بيع اليهود نعت محمّد صلَّى الله عليه وسلم بنعت الدّجّال : {بِئْسَمَا اشْتَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَن يَكْفُرُواْ بِمَآ أنَزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَن يُنَزِّلُ اللَّهُ}.(5/123)
الرّابع : شِرَى كعب بن الأَشرف الدّنيا بالآخرة : {اشْتَرَوُاْ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالآخِرَةِ}.
الخامس : بيع حُيىّ بن أَخطب التوراة بثمن بخس : {وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً}.
السادس : بيع فنحاص بن عازور العهد واليمين بثمن قليل : {إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً}.
السّابع : بيع أَهل مكة إِيمانهم بالكفر : {إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُاْ الْكُفْرَ بِالإِيمَانِ}.
الثامن : بيعِ الجُهّال أَحسن الحديث باللَّهْو : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ}.
التَّاسع : بيع أَمير المؤمنين نفسه فداء لسيّد الكونين صلَّى الله عليه وسلم : {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَآءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ}.
العاشر : بيع إِخْوة يوسف أَخاهم : {وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ}.
الحادى عشر : بيع المؤمنين أَموالهم وأَنفسهم لمولاهم وخالقهم : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ}. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 3 صـ 45}
قال السعدى فى معنى الآية
هؤلاء هم الموفقون الذين باعوا أنفسهم وأرخصوها وبذلوها طلبا لمرضاة الله ورجاء لثوابه ، فهم بذلوا الثمن للمليء الوفيّ الرءوف بالعباد ، الذي من رأفته ورحمته أن وفقهم لذلك ، وقد وعد الوفاء بذلك ، فقال : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ} إلى آخر الآية. وفي هذه الآية أخبر أنهم اشتروا أنفسهم وبذلوها ، وأخبر برأفته الموجبة لتحصيل ما طلبوا ، وبذل ما به رغبوا ، فلا تسأل بعد هذا عن ما يحصل لهم من الكريم ، وما ينالهم من الفوز والتكريم. أ هـ {تفسير السعدى صـ 94}
قوله تعالى : {والله رَءوفٌ بالعباد }
قال الفخر :
(5/124)
أما قوله تعالى : {والله رَءوفٌ بالعباد} فمن رأفته أنه جعل النعيم الدائم جزاء على العمل القليل المنقطع ، ومن رأفته جوز لهم كلمة الكفر إبقاء على النفس ، ومن رأفته أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها ومن رأفته ورحمته أن المصر على الكفر مائة سنة إذا تاب ولو في لحظة أسقط كل ذلك العقاب.
وأعطاه الثواب الدائم ، ومن رأفته أن النفس له والمال ، ثم أنه يشتري ملكه بملكه فضلاً منه ورحمة وإحساناً.أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 175}
وقال فى روح البيان :
{والله رؤف بالعباد} ولذلك يكلفهم التقوى ويعرضهم للثواب ومن جملة رأفته بعباده أن ما اشتراه منهم من أنفسهم وأموالهم إنما هو خالص ملكه وحقه ثم إنه تعالى يشترى منهم ملكه الخالص المحصور بما لا يعد ولا يحصى من فضله ورحمته رحمة وإحسانا وفضلا وإكراما. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 401}
وقال ابن عاشور :
والظاهر أن التعريف في قوله ( العباد ) تعريف استغراق ، لأن الله رؤوف بجميع عباده وهم متفاوتون فيها فمنهم من تناله رأفة الله في الدنيا وفي الآخرة على تفاوت فيهما يقتضيه علم الله وحكمته ، ومنهم من تناله رأفة الله في الدنيا دون الآخرة وهم المشركون والكافرون ؛ فإن من رأفته بهم أنه أعطاهم العافية والرِّزق ، ويجوز أن يكون التعريف تعريف العهد أي بالعباد الذين من هذا القبيل أي قبيل الذي يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله.
ويجوز أن يكون ( أَلْ ) عوضاً عن المضاف إليه كقوله {فإن الجنة هي المأوى} {النازعات : 41 ] ، والعباد إذا أضيف إلى اسم الجلالة يراد به عباد مقربون قال تعالى :
{ إن عبادي ليس لك عليهم سلطان} في {سورة الحجر : 42 ].(5/125)
ومناسبة هذا التذييل للجملة أن المخبر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله وجعلوا أنفسهم عبيده فالله رءوف بهم كرأفة الإنسان بعبده فإن كان مَا صْدَق ( مَنْ ) عاماً كما هو الظاهر في كل من بذل نفسه لله ، فالمعنى والله رءوف بهم فعدل عن الإضمار إلى الإظهار ليكون هذا التذييل بمنزلة المثل مستقلاً بنفسه وهو من لوازم التذييل ، وليدل على أن سبب الرأفة بهم أنهم جعلوا أنفسهم عباداً له ، وإن كان ما صْدَق ( مَنْ ) صهيباً رضي الله عنه فالمعنى والله رءوف بالعباد الذين صهيب منهم ، والجملة تذييل على كل حال ، والمناسبة أن صهيباً كان عبداً للروم ثم لطائفة من قريش وهم بنو كلب وهم لم يرأفوا به ، لأنه عذب في الله فلما صار عبد الله رأف به.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 273}
فائدة
وفي قوله : "بِالْعِبَادِ "خُرُوجٌ من ضميرِ الغَيْبَةِ إِلَى الاسْم الظَّاهِرِ ؛ إذ كان الأَصْلُ "رَؤوفٌ بِهِ "أَوْ "بِهِمْ "وفائدةُ هذا الخُروجِ أنَّ لفظَ "العِبَادِ "يُؤْذِنُ بالتشرِيف ، أو لأنه فاصلةٌ فاختير لذلك. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 472}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
أولئك الذين أدركتهم خصائص الرحمة ، ونعتتهم سوابق القسمة ، فآثروا رضاء الحق على أنفسهم ، واستسلموا بالكلية لمولاهم ، والله رؤوف بالعباد : ولرأفته بهم وصلوا إلى هذه الأحوال ، لا بهذه الأحوال استوجبوا رأفته.أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 171}
من فوائد الشيخ الطاهر بن عاشور فى الآية
وفي هذه الآية وهي قوله : {ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا} {البقرة : 204 ] إلى قوله {رؤوف بالعباد} معان من معاني أدب النفوس ومراتبها وأخلاقها تعلِّم المؤمنين واجب التوسم في الحقائق ودواخل الأمور وعدم الاغترار بالظواهر إلاّ بعد التجربة والامتحان ، فإن من الناس من يغُر بحسن ظاهره وهو منطو على باطن سوء ويعطي من لسانه حلاوة تعبير وهو يضمر الشر والكيد قال المعري(5/126)
: ... وقد يُخْلِفُ الإنسانُ ظَنَّ عَشِيرةٍ
وإن رَاقَ منه مَنْظَرٌ ورُوَاء... وقد شمل هذا الحالَ قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "إن من البيان لسحرا "بأحد معنييه المحتوي عليهما وهو من جوامع الكَلِم وتبلغ هلهلة دينه إلى حد أن يُشهد الله على أن ما يقوله صدق وهو بعكس ذلك يبيت في نفسه الخصام والكراهية.
وعلامة الباطن تكون في تصرفات المرء فالذي يحب الفساد ويهلك الحرث والنسل ولا يكون صاحب ضمير طيب ، وأن الذي لا يصغي إلى دعوة الحق إذا دعوته إليه ويظهر عليه الاعتزاز بالظلم لا يرعوي عن غيه ولا يترك أخلاقه الذميمة ، والذي لا يشح بنفسه في نصرة الحق ينبىء خلقه عن إيثار الحق والخير على الباطل والفساد ومن لا يرأف فالله لا يرأف به. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 274}
قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى : (5/127)
ولما ختم هذين القسمين بالساعي في رضى الله عنه مشاكلة للأولين حسن جداً تعقيبه بقوله : {يا أيها الذين آمنوا} ليكون هذا النداء واقعاً بادىء بدء في أذن هذا الواعي كما كان المنافق مصدوعاً بما سبقه من التقوى والحشر مع كونه دليلاً على صفة الرأفة ، وتكرير الأمر بالإيمان بين طوائف الأعمال من أعظم دليل على حكمة الآمر به فإنه مع كونه آكد لأمره وأمكن لمجده وفخره يفهم أنه العماد في الرشاد الموجب للإسعاد يوم التناد فقال : {ادخلوا في السلم} أي الإيمان الذي هو ملزم لسهولة الانقياد إلى كل خير ، وهو في الأصل بالفتح والكسر الموادعة في الظاهر بالقول والفعل أي يا من آمن بلسانه كهذا الألد ليكن الإيمان أو الاستلام بكلية الباطن والظاهر ظرفاً محيطاً بكم من جميع الجوانب فيحيط بالقلب والقالب كما أحاط باللسان ولا يكون لغرامة الجهل وجلافة الكفر إليكم سبيل {كآفة} أي وليكن جميعكم في ذلك شرعاً واحداً كهذا الذي يشري نفسه ، ولا تنقسموا فيكون بعضكم هكذا وبعضكم كذلك الألد ، فإن ذلك دليل الكذب في دعوى الإيمان.
ولما كان الإباء والعناد الذي يحمل عليه الأنفة والكبر فعل الشيطان وثمرة كونه من نار قال : {ولا تتبعوا} أي تكلفوا أنفسكم من أمر الضلال ضد ما فطرها الله تعالى عليه وسهله لها من الهدى {خطوات الشيطان} أي طرق المبعد المحترق في الكبر عن الحق. قال الحرالي : ففي إفهامه أن التسليط في هذا اليوم له ، وفيه إشعار وإنذار بما وقع في هذه الأمة وهو واقع وسيقع من خروجهم من السلم إلى الاحتراب بوقوع الفتنة في الألسنة والأسنة على أمر الدنيا وعودهم إلى أمور جاهليتهم ، لأن الدنيا أقطاع الشيطان كما أن الآخرة خلاصة الرحمن ، فكان ابتداء الفتنة منذ كسر الباب الموصد على السلم وهو عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه فلم يزل الهرج ولا يزال إلى أن تضع الحرب أوزارها.
(5/128)
ثم علل ذلك سبحانه وتعالى بقوله : {إنه لكم عدو مبين} أي بما أخبرناكم به في أمر أبيكم آدم عليه الصلاة والسلام وغير ذلك مما شواهده ظاهرة ، وما أحسن هذا الختم المضاد لختم التي قبلها! فإن تذكر الرأفة منه سبحانه على عظمته والعبودية منا الذي هو معنى الولاية التي روحها الانقياد لكل ما يحبه الولي وتذكر عداوة المضل أعظم منفر منه وداع إلى الله سبحانه وتعالى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 386}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً}
استئناف على طريقة الاعتراض انتهازاً للفرصة بالدعوة إلى الدخول في السلم ، ومناسبة ذكره عقب ما قبله أن الآيات السابقة اشتملت على تقسيم الناس تجاه الدين مراتب ، أعلاها {من يشرى نفسه ابتغاء مرضات الله} {البقرة : 207 ] لأن النفس أغلى ما يبذل ، وأقلها {من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه وهو ألد الخصام} {البقرة : 204 ] أي يضمر الكيد ويفسد على الناس ما فيه نفع الجميع وهو خيرات الأرض ، وذلك يشتمل على أنه اعتدى على قوم مسالمين فناسب بعد ذلك أن يدعى الناس إلى الدخول فيما يطلق عليه اسم السلم وهذه المناسبة تقوى وتضعف بحسب تعدد الاحتمالات في معنى طلب الدخول في السلم.
ثم قال العلامة ابن عاشور : (5/129)
الذي يبدو لي أن تكون مناسبة ذكر هذه الآية عقب ما تقدم هي أن قوله تعالى : {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} {البقرة : 190 ] الآيات تهيئة لقتال المشركين لصدهم المسلمين عن البيت وإرجافهم بأنهم أجمعوا أمرهم على قتالهم ، والإرجاف بقتل عثمان بن عفان بمكة حين أرسله رسول الله إلى قريش ، فذكر ذلك واستطرد بعده ببيان أحكام الحج والعمرة فلما قضى حق ذلك كله وألحق به ما أمر الله بوضعه في موضعه بين في تلك الآيات ، استؤنف هنا أمرهم بالرضا بالسلم والصلح الذي عقده رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع أهل مكة عام الحديبية ، لأن كثيراً من المسلمين كانوا آسفين من وقوعه ومنهم عمر بن الخطاب فقد قال : ألسْنَا على الحق وعدُوُّنا على الباطل فكيف نعطي الدَّنية في ديننا رواه أهل "الصحيح" فتكون مدة ما بين نزول المسلمين بالحديبية وتردد الرسل بينهم وبين قريش وما بين وقوع الصلح هي مدة نزول الآيات من قوله تعالى : {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} {البقرة : 190 ] إلى هنا. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 277}
فائدة
قال الشوكانى :
وإنما أطلق على الثلاث الطوائف لفظ الإيمان لأن أهل الكتاب مؤمنون بنبيهم وكتابهم والمنافق مؤمن بلسانه وإن كان غير مؤمن بقلبه. أ هـ {فتح القدير حـ 1 صـ 210}.
فصل
قال ابن عادل : (5/130)
قوله : "السِّلْم "قرأ هنا "السَّلْم "بالفتح نافعٌ ، والكِسائيُّ ، وابنُ كثيرٍ ، والبَاقُونَ بالكَسْر ، وأمَّا التي في الأَنْفال {آية 61 ] فلم يَقْرَأْها بالكَسْرِ إلاَّ أَبُو بكرٍ وحدَه ، عَنْ عاصِمٍ ، والتي في القِتال {آية : 35 ] فلم يَقْرَأْها بالكَسْرِ إلاَّ حمزةُ وأَبُو بكرٍ أيضاً ، وسيأتي. فقِيل : هَما بمعنىً ، وهو الصلحُ مثل رَطْل ورِطْل وجَسْر وجِسْر وهو يُذَكَّر ويُؤَنَّث ، قال تعالى : {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فاجنح لَهَا} ، وحَكَوْا : "بَنُوا فُلانٍ سِلْمٌ ، وسَلْمٌ " ، وأصلُه من الاسْتِسْلاَمِ ، وهو الانقيادُ ، قال تعالى : {إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين} {البقرة : 131 ] الإسلامُ : إسلامٌ الهدي ، والسِّلْم على الصُّلْح ، وترك الحرب راجع إلى هذا المعنى ؛ لأَنَّ كُلَّ واحدٍ كَصَاحِبهِ ، ويُطْلَقُ على الإِسلاَم قاله الكِسَائي وجماعةٌ ؛ وأنشدوا : {الوافر ]
دَعَوْتُ عَشِيرَتِي لِلسِّلْمِ لَمَّا... رَأيْتُهُمُ تَوَلَّوا مُدْبِرينَا
يُنْشَدُ بالكَسْرِ ، وقال آخرُ في المفتُوحِ : {البسيط ]
شَرَائِعُ السَّلْمِ قَدْ بَانَتْ مَعَلِمُهَا... فَما يَرَى الكُفْرَ إِلاَّ مَنْ بِه خَبَلُ
فالسِّلْمُ والسَّلْمُ في هذين البيتَيْنِ بمعنى الإِسْلاَم ، إلاَّ أنَّ الفَتْحَ فيما هو بمعنى الإِسلام قليل ، وقرأ الأَعْمشُ بفتح السِّين واللامِ "السَّلَم ".
وقيل : بل هما مختلفا المعنى : فبالكَسْرِ الإِسلامُ ، وبالفتحِ الصلحُ.
قال أبُو عُبَيدة : وفيه ثلاثُ لُغَاتٍ : السَّلْم والسِّلْم والسُّلْم بالفَتْح والكَسْر والضمِّ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 473 ـ 474}
قال الفخر :(5/131)
في الآية إشكال ، وهو أن كثيراً من المفسرين حملوا السلم على الإسلام ، فيصير تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في الإسلام ، والإيمان هو الإسلام ، ومعلوم أن ذلك غير جائز ، ولأجل هذا السؤال ذكر المفسرون وجوهاً في تأويل هذه الآية :
أحدها : أن المراد بالآية المنافقون ، والتقدير : يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم ادخلوا بكليتكم في الإسلام ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان ، أي آثار تزيينه وغروره في الإقامة على النفاق ، ومن قال بهذا التأويل احتج على صحته بأن هذه الآية إنما وردت عقيب ما مضى من ذكر المنافقين وهو قوله : {وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ} {البقرة : 204 ] الآية فلما وصف المنافق بما ذكر دعا في هذه الآية إلى الإيمان بالقلب وترك النفاق.
وثانيها : أن هذه الآية نزلت في طائفة من مسلمي أهل الكتاب كعبد الله بن سلام وأصحابه وذلك لأنهم حين آمنوا بالنبي عليه السلام أقاموا بعده على تعظيم شرائع موسى ، فعظموا السبت ، وكرهوا لحوم الإبل وألبانها ، وكانوا يقولون : ترك هذه الأشياء مباح في الإسلام ، وواجب في التوراة ، فنحن نتركها احتياطاً فكره الله تعالى ذلك منهم وأمرهم أن يدخلوا في السلم كافة ، أي في شرائع الإسلام كافة ، ولا يتمسكوا بشيء من أحكام التوراة اعتقاداً له وعملاً به ، لأنها صارت منسوخة {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} في التمسك بأحكام التوراة بعد أن عرفتم أنها صارت منسوخة ، والقائلون بهذا القول جعلوا قوله : {كَافَّةً} من وصف السلم ، كأنه قيل : ادخلوا في جميع شرائع الإسلام اعتقاداً وعملاً.
(5/132)
وثالثها : أن يكون هذا الخطاب واقعاً على أهل الكتاب الذين لم يؤمنوا بالنبي عليه السلام فقوله : {يا أيها الذين آمنوا} أي بالكتاب المتقدم {ادخلوا فِي السلم كَافَّةً} أي أكملوا طاعتكم في الإيمان وذلك أن تؤمنوا بجميع أنبيائه وكتبه فادخلوا بإيمانكم بمحمد عليه السلام وبكتابه في السلم على التمام ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان في تحسينه عند الاقتصار على دين التوراة بسبب أنه دين اتفقوا كلهم على أنه حق بسبب أنه جاء في التوراة : تمسكوا بالسبت ما دامت السموات والأرض ، وبالجملة فالمراد من خطوات الشيطان الشبهات التي يتمسكون بها في بقاء تلك الشريعة.
ورابعها : هذا الخطاب واقع على المسلمين {يا أيها الذين آمنوا} بالألسنة {ادخلوا فِي السلم كَافَّةً} أي دوموا على الإسلام فيما تستأنفونه من العمر ولا تخرجوا عنه ولا عن شيء من شرائعه {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} أي ولا تلتفتوا إلى الشبهات التي تلقيها إليكم أصحاب الضلالة والغواية ومن قال بهذا التأويل قال : هذا الوجه متأكد بما قبل هذه الآية وبما بعدها ، أما ما قبل هذه الآية فهو ما ذكر الله تعالى في صفة ذلك المنافق في قوله : {سعى فِى الأرض لِيُفْسِدَ فِيهَا} وما ذكرنا هناك أن المراد منه إلقاء الشبهات إلى المسلمين ، فكأنه تعالى قال : دوموا على إسلامكم ولا تتبعوا تلك الشبهات التي يذكرها المنافقون ، وأما ما بعد هذه الآية فهو قوله تعالى : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام} {البقرة : 210 ] يعني هؤلاء الكفار معاندون مصرون على الكفر قد أزيحت عللهم وهم لا يوقفون قولهم بهذا الدين الحق إلا على أمور باطلة مثل أن يأتيهم الله في ظل من الغمام والملائكة.
فإن قيل : الموقوف بالشيء يقال له : دم عليه ، ولكن لا يقال له : ادخل فيه والمذكور في الآية هو قوله : {أَدْخِلُواْ }.
(5/133)
قلنا إن الكائن في الدار إذا علم أن له في المستقبل خروجاً عنها فغير ممتنع أن يؤمر بدخولها في المستقبل حالاً بعد حال ، وإن كان كائناً فيها في الحال ، لأن حال كونه فيها غير الحالة التي أمر أن يدخلها ، فإذا كان في الوقت الثاني قد يخرج عنها صح أن يؤمر بدخولها ، ومعلوم أن المؤمنين قد يخرجون عن خصال الإيمان بالنوم والسهو وغيرهما من الأحوال فلا يمتنع أن يأمرهم الله تعالى بالدخول في المستقبل في الإسلام وخامسها : أن يكون السلم المذكور في الآية معناه الصلح وترك المحاربة والمنازعة ، والتقدير : يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة أي كونوا موافقين ومجتمعين في نصرة الدين واحتمال البلوى فيه ، ولا تتبعوا خطوات الشيطان بأن يحملكم على طلب الدنيا والمنازعة مع الناس ، وهو كقوله : {وَلاَ تنازعوا فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ} {الأنفال : 46 ] وقال تعالى : {الحساب يَأَيُّهَا الذين ءامَنُواْ اصبروا} {آل عمران : 200 ] وقال : {واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ} {آل عمران : 103 ] وقال عليه الصلاة والسلام : "المؤمن يرضى لأخيه ما يرضى لنفسه "وهذه الوجوه في التأويل ذكرها جمهور المفسرين وعندي فيه وجوه أخر أحدها : أن قوله : {يا أيها الذين آمنوا} إشارة إلى المعرفة والتصديق بالقلب وقوله : {ادخلوا فِي السلم كَافَّةً} إشارة إلى ترك الذنوب والمعاصي ، وذلك لأن المعصية مخالفة لله ولرسوله ، فيصح أن يسمي تركها بالسلم ، أو يكون المراد منه : كونوا منقادين لله في الإتيان بالطاعات ، وترك المحظورات ، وذلك لأن مذهبنا أن الإيمان باق مع الاشتغال بالمعاصي وهذا تأويل ظاهر وثانيها : أن يكون المراد من السلم كون العبد راضياً ولم يضطرب قلبه على ما روي في الحديث "الرضا بالقضاء باب الله الأعظم" وثالثها : أن يكون المراد ترك الانتقام كما في قوله : {وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّواْ(5/134)
كِراماً} {الفرقان : 72 ] وفي قوله : {خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِض عَنِ الجاهلين} {الأعراف : 199 ] فهذا هو كلام في وجوه تأويلات هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 177}
وقيل يحتمل أن يرجع إلى الإسلام والمعنى ادخلوا في أحكام الإسلام وشرائعه كافة وهذا المعنى أليق بظاهر التفسير لأنهم أمروا بالقيام بها كلها.
. وقال حُذَيفة بن اليَمان في هذه الآية : الإسلام ثمانية أسهم ؛ الصلاة سهم ، والزكاة سهم ، والصوم سهم ، والحج سهم ، والعُمرة سهم ، والجهاد سهم ؛ والأمر بالمعروف سهم ، والنهي عن المنكر سهم ؛ وقد خاب من لا سهم له في الإسلام. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 135}
وقال ابن عباس : نزلت الآية في أهل الكتاب ، والمعنى ؛ يا أيها الذين آمنوا بموسى وعيسى ادخلوا في الإسلام بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ كافة. وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : "والذي نَفْسُ محمد بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأُمة يهوديّ ولا نصرانيّ ثم ( يموت و) لم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار "و( كَافَّةً ) معناه جميعاً ، فهو نصب على الحال من السِّلم أو من ضمير المؤمنين ؛ وهو مشتق من قولهم : كففت أي منعت ، أي لا يمتنع منكم أحد من الدخول في الإسلام. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 23}
فصل
قال القفال {كَافَّةً} يصح أن يرجع إلى المأمورين بالدخول أي ادخلوا بأجمعكم في السلم.(5/135)
ولا تفرقوا ولا تختلفوا ، قال قطرب : تقول العرب : رأيت القوم كافة وكافين ورأيت النسوة كافات ويصلح أن يرجع إلى الإسلام أي ادخلوا في الإسلام كله أي في كل شرائعه قال الواحدي رحمه الله : هذا أليق بظاهر التفسير لأنهم أمروا بالقيام بها كلها ، ومعنى الكافة في اللغة الحاجزة المانعة يقال : كففت فلاناً عن السوء أي منعته ، ويقال : كف القميص لأنه منع الثواب عن الانتشار ، وقيل لطرف اليد : كف لأنه يكف بها عن سائر البدن ، ورجل مكفوف أي كف بصره من أن يبصر ، فالكافة معناها المانعة ، ثم صارت اسماً للجملة الجامعة وذلك لأن الاجتماع يمنع من التفرق والشذوذ ، فقوله : {ادخلوا فِي السلم كَافَّةً} أي ادخلوا في شرائع الإسلام إلى حيث ينتهي شرائع الإسلام فتكفوا من أن تتركوا شيئاً من شرائعه ، أو يكون المعنى ادخلوا كلكم حتى تمنعوا واحداً من أن لا يدخل فيه.
أما قوله تعالى : {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} فالمعنى : ولا تطيعوه ومعروف في الكلام أن يقال فيمن اتبع سنة إنسان اقتفى أثره ، ولا فرق بين ذلك وبين قوله : اتبعت خطواته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 178}
قال ابن عاشور : (5/136)
وقوله : {ولا تتبعوا خطوات الشيطان} ، تحذير مما يصدهم عن الدخول في السلم المأمور به بطريق النهي ، عن خلاف المأمور به ، وفائدته التنبيه على أن ما يصدر عن الدخول في السلم هو من مسالك الشيطان المعروفِ بأنه لا يشير بالخير ، فهذا النهي إما أخص من المأمور به مع بيان علة الأمر إن كان المراد بالسلم غير شُعب الإسلام مثل أن يكون إشارة إلى ما خامر نفوس جمهورهم من كراهية إعطاء الدنية للمشركين بصلح الحديبية كما قال عُمر "ألسنا على الحق وعدونا على الباطل فلم نعطي الدَّنِيَّة في ديننا" وكما قال سهل بن حنيف يوم صفين "أيها الناس اتَّهِموا الرأي فلقد رأيتنا يوم أبي جندل ولو نستطيع أن نردّ على رسول الله فِعْلَه لفَعَلْنا والله ورسوله أعلم" بإعلامهم أن ما فعله رسول الله لا يكون إلاّ خيراً ، كما قال أبو بكر لعمر إنه رسول الله ولن يضيعه الله أبداً تنبيهاً لهم على أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو من وساوس الشيطان ، وإما لمجرد بيان علة الأمر بالدخول في السَّلم إن كان المراد بالسلم شعب الإسلام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 277}
قال الماوردى
واختلفوا فيمن أبان به عدوانه على قولين :
أحدهما : بامتناعه من السجود لآدم.
والثاني : بقوله : {لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً} {الإسراء : 62 ]. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 268}
قوله تعالى : {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ }
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} فقال أبو مسلم الأصفهاني : إن مبين من صفات البليغ الذي يعرب عن ضميره ، وأقول : الذي يدل على صحة هذا المعنى قوله : {حم والكتاب المبين} {الزخرف : 1 ، الدخان : 1 ] ولا يعني بقوله مبيناً إلا ذلك.
فإن قيل : كيف يمكن وصف الشيطان بأنه مبين مع أنا لا نرى ذاته ولا نسمع كلامه.(5/137)
قلنا : إن الله تعالى لما بين عداوته لآدم ونسله فلذلك الأمر صح أن يوصف بأنه عدو مبين وإن لم يشاهد ومثاله : من يظهر عداوته لرجل في بلد بعيد فقد يصح أن يقال : إن فلاناً عدو مبين لك وإن لم يشاهده في الحال وعندي فيه وجه آخر ، وهو أن الأصل في الإبانة القطع والبيان إنما سمي بياناً لهذا المعنى ، فإنه يقطع بعض الاحتمالات عن بعض ، فوصف الشيطان بأنه مبين معناه أنه يقطع المكلف بوسوسته عن طاعة الله وثوابه ورضوانه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 178}
سؤال : فإن قيل : كون الشيطان عدواً لنا إما أن يكون بسبب أنه يقصد إيصال الآلام والمكاره إلينا في الحال ، أو بسبب أنه بوسوسته يمنعنا عن الدين والثواب ، والأول باطل ، إذ لو كان كذلك لأوقعنا في الأمراض والآلام والشدائد ، ومعلوم أنه ليس كذلك ، وإن كان الثاني فهو أيضاً باطل لأن من قبل منه تلك الوسوسة من قبل نفسه كما قال : {وَمَا كَانَ لِىَ عَلَيْكُمْ مّن سلطان إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِى} {ابراهيم : 22 ] إذا ثبت هذا فكيف يقال : إنه عدو مبين العداوة ، والحال ما ذكرناه ؟ .
الجواب : أنه عدو من الوجهين معاً أما من حيث إنه يحاول إيصال الضرر إلينا فهو كذلك إلا أن الله تعالى منعه عن ذلك ، وليس يلزم من كونه مريداً لإيصال الضرر إلينا أن يكون قادراً عليها وأما من حيث إنه يقدم على الوسوسة فمعلوم أن تزيين المعاصي وإلقاء الشبهات كل ذلك سبب لوقوع الإنسان في الباطل وبه يصير محروماً عن الثواب ، فكان ذلك من أعظم جهات العداوة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 178}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
كلَّف المؤمِنَ بأن يُسالِمَ كل أحدِ إلا نَفْسَه فإنها لا تتحرك إلا بمخالفة سيده ؛ فإن مَنْ سَالَم نَفْسَه فَتَرَ عن مجاهداته ، وذلك سبب انقطاع كل قاصد ، وموجِبُ فترةِ كل مريد.(5/138)
و{خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} ما يوسوسه إليك من عجزك عن القيام باستيفاء أحكام المعاملة ، وتركِ نزعاتٍ لا عِبْرة بها ، ولا ينبغي أن يُلْتَفَتَ إليها ، بل كما قال الله تعالى : {فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلقِيهِ فِى اليَمِّ} {القصص : 7 ] ثم أَبْصِرْ ما الذي فعل به حين أَلْقَتْه ، وكيف ردَّه إليها بعدما نجَّاه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 171}
بحث نفيس
السّلام العالمي في ظلّ الإسلام
بعد الإشارة إلى الطائفتين (المؤمنين المخلصين والمنافقين المفسدين) في الآيات السابقة تدعو هذه الآيات الكريمة كلّ المؤمنين إلى السِّلم والصلح وتقول : (يا أيّها الّذين آمنوا ادخلوا في السّلم كافّة).
(سلم) و(سلام) في اللّغة بمعنى الصّلح والهدوء والسكينة ، وذهب البعض إلى تفسيرها بمعنى الطّاعة ، فتدعوا هذه الآية الكريمة جميع المؤمنين إلى الصلح والسّلام والتسليم إلى أوامر الله تعالى ، ويُستفاد من مفهوم هذه الآية أنّ السّلام لا يتحقّق إلاّ في ظلّ الإيمان ، وأنّ المعايير والمفاهيم الأرضيّة والماديّة غير قادرة على إطفاء نار الحروب في الدنيا ، لأنّ عالم المادّة والتعلّق به مصدر جميع الإضطرابات والنّزاعات دائماً ، فلولا القوّة المعنويّة للإيمان لكان الصّلح مستحيلاً ، بل يُمكن القول أنّ دعوة الآية العامّة لجميع المؤمنين بدون استثناء من حيث اللّغة والعنصر والثروة والإقليم والطبقة الاجتماعيّة إلى الصّلح والسّلام يُستفاد منها أنّ تشكيل الحكومة العالميّة الواحدة في ظل الإيمان بالله تعالى والعيش في مجتمع يسوده الصّلح ممكن في إطار الدولة العالميّة.(5/139)
واضحٌ أنّ الأطر الماديّة الأرضيّة (من اللّغة والعنصر و...) هي عوامل تفرقة بين أفراد البشر وبحاجة إلى حلقة اتّصال محكمة تربط بين قلوب النّاس ، وهذه الحلقة ليست سوى الإيمان بالله تعالى الّذي يتجاوز كلّ الاختلافات ، الإيمان بالله واتّباع أمره هو النقطة والمحور لوحدة المجتمع الإنساني ورمز ارتباط الأقوام والشّعوب ، ويمكن رؤية ذلك من خلال مناسك الحجّ الّذي يُعتبر نموذجاً بارزاً إلى اتّحاد الأقوام البشريّة بمختلف ألوانها وقوميّتها ولغاتها وأقاليمها الجغرافيّة وأمثال ذلك حيث يشتركون في المراسم العبادية الروحانيّة في منتهى الصّلح والصّفاء ، وبمقايسة سريعة بين هذه المفاهيم والأنظمة الحاكمة على الدول الفاقدة للإيمان بالله تعالى وكيف أنّ الناس يفتقدون فيها إلى الأمان النفسي والمالي ويخافون على أعراضهم ونواميسهم يتّضح لنا التفاوت بين المجتمعات المؤمنة وغير المؤمنة من حيث الصّلح والأمان والسّلام والطمأنينة.
ويُحتمل أيضاً في تفسير الآية أنّ بعض أهل الكتاب (اليهود والنصارى) عندما يعتنقون الإسلام يبقون أوفياء لبعض عقائدهم وتقاليدهم السابقة ، ولهذا تأمر الآية الشريفة أن يعتنقوا الإسلام بكافّة وجودهم ويخضعوا ويسلّموا لجميع أحكامه وتشريعاته.
ثمّ تضيف الآية (ولا تتّبعوا خطوات الشّيظان إنّه لكم عدوٌّ مبين)
وقد مرّ بنا في تفسير الآية (168) من هذه السورة الإشارة إلى أنّ كثير من الانحرافات ووساوس الشيطان تحدث بصورة تدريجيّة على شكل مراحل حيث يسمّيها القرآن (خطوات الشيطان).
(خطوات) جمع "خطوة" وهنا تكرّرت هذه الحقيقة من أنّ الانحراف عن الصلح والعدالة ، والتسليم لإرادةالأعداء ودوافع العداوة والحرب وسفك الدماء يبدأ من مراحل بسيطة وينتهي بمراتب حادّة وخطرة كما في المثل العربي المعروف (إنّ بدو القتال اللّطام).(5/140)
فتارةً تصدر من الإنسان حركة بسيطة عن عداء وحقد وتؤدّي إلى الحرب والدّمار ، ولهذا تخاطب الآية المؤمنين أن يلتفتوا إلى نقطة البداية كي لا تؤدّي شرارات الشرّ الأولى لاشتعال لظى المعارك والحروب.
وجدير بالذّكر أنّ هذا التعبير ورد في القرآن الكريم خمس مرّات وفي غايات مختلفة.
وذكر بعض المفسّرين أنّ (عبدالله بن سلام) وأتباعه الذين كانوا من اليهودوأسلموا طلبوا الإذن من رسول الله بقراءة التوراة في الصلاة والعمل ببعضأحكامها ، فنزلت الآية الآنفة الذكر ونهت هؤلاء عن إتّباع خطوات الشيطان.
ومن شأن النزول هذا يتبيّن أنّ الشيطان ينفذ في فكر الإنسان وقلبه خطوة خطوة ، فيجب التصدّي للخطوات الأولى لكيلا تصل إلى مراحل خطرة.
وتتضمّن جملة (إنّه لكم عدوٌّ مبين) برهاناً ودليلاً حيّاً حيث تقول إنّ عداء الشيطان للإنسان ليس بأمر خفي مستتر ، فهو منذ بداية خلق آدم أقسم أن يبذل جهده لإغواء جميع البشر إلاّ المخلصين الّذين لا ينالهم مكر الشيطان ، فمع هذا الحال كيف يمكن تغافل وسوسة الشيطان.أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 77 ـ 78}
قوله تعالى : {فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى : (5/141)
ولما أقام سبحانه وتعالى الأدلة على عظمته التي منها الوحدانية وأزال الشبه ومحا الشكوك وذكر بأنواع اللطف والبر إلى أن ختم الآيتين بما ذكر من ولايته وعداوة المضل عن طريقه سبب عن ذلك قوله {فإن زللتم} مشيراً بأداة الشك إلى أنهم صاروا إلى حالة من وضوح الطريق الواسع الأمكن الأمين المستقيم الأسلم يبعد معها كل البعد أن يزلوا عنه ولذلك قال : {من بعد ما جاءتكم البينات} أي بهذا الكتاب الذي لا ريب فيه. قال الحرالي : بينات التجربة شهوداً ونبأ عما مضى وتحققاً بما وقع ، وقال : إن التعبير بأن يشعر بأنهم يستزلون ، والتعبير بالماضي إشعار بالرجوع عنه رحمة من الله لهم كرحمته قبل لأبويهم حين أزلهما الشيطان فكما أزل أبويهم في الجنة عن محرم الشجرة أزلهم في الدنيا عن شجرة المحرمات من الدماء والأموال والأعراض - انتهى.
ولما كان الخوف حاملاً على لزوم طريق السلامة قال : {فاعلموا} فإن العلم أعون شيء على المقاصد {أن الله} الحاوي لصفات الكمال {عزيز} لا يعجزه من زل ولا يفوته من ضل {حكيم} يبرم ما لا يقدر أحد على نقض شيء منه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 387}
قوله تعالى : {فَإِن زَلَلْتُمْ }
قال الفخر :
قوله تعالى : {فَإِن زَلَلْتُمْ} يعني إن انحرفتم عن الطريق الذي أمرتم به ، وعلى هذا التقدير يدخل في هذا الكبائر والصغائر فإن الإنحراف كما يحصل بالكثير يحصل بالقليل.
فتوعد تعالى على كل ذلك زجراً لهم عن الزوال عن المنهاج لكي يتحرز المؤمن عن قليل ذلك وكثيره لأن ما كان من جملة الكبائر فلا شك في وجوب الاحتراز عنه ، وما لم يعلم كونه من الكبائر فإنه لا يؤمن كون العقاب مستحقاً به وحينئذ يجب الاحتراز عنه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 179}
وقال أبو حيان :
{ فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات} أي : عصيتم أو كفرتم ، أو أخطأتم ، أو ضللتم ، أقوال(5/142)
ثانيها عن ابن عباس وهو الظاهر لقوله : ادخلوا في السلم ، أي الإسلام ، فإن زللتم عن الدخول فيه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 131 ـ 132}
فائدة
قال ابن عاشور :
وأصل الزلل الزلَق أي اضطراب القدَم وتحركها في الموضع المقصود إثباتها به ، واستعمل الزلل هنا مجازاً في الضُّر الناشىء عن اتباع الشيطان من بناءِ التمثيل على التمثيل ؛ لأنه لما شبهت هيئة من يعمل بوسوسة الشيطان بهيئة الماشي على أثر غيره شبه ما يعتريه من الضر في ذلك المشي بزلل الرجل في المشي في الطريق المزلقة ، وقد استفيد من ذلك أن ما يأمر به الشيطان هو أيضاً بمنزلة الطريق المزلقة على طريق المكنية وقوله : {زللتم} تخييل وهو تمثيلية فهو من التخييل الذي كان مجازاً والمجاز هنا في مركبه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 279 ـ 280}
قال الفخر :
قوله : {فَإِن زَلَلْتُمْ} فيه سؤال وهو أن الحكم المشروط إنما يحسن في حق من لا يكون عارفاً بعواقب الأمور ، وأجاب قتادة عن ذلك فقال : قد علم أنهم سيزلون ولكنه تعالى قدم ذلك وأوعد فيه لكي يكون له حجة على خلقه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 179}
سؤال : لم جيء في الشرط بـ {إنْ} ؟
الجواب : وجيء في الشرط بـ {إنْ} لندرة حصول هذا الزلل من الذين آمنوا أو لعدم رغبة المتكلم في حصوله إن كان الخطاب لمن آمن بظاهره دون قلبه. وفيه إشارة إلى أن ما خامر نفوسهم من كراهية الصلح هو زلة عظيمة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 280}
قوله تعالى : {مِنْ بَعْدَمَا جَاءتْكُمُ البينات }
قال الفخر : (5/143)
قوله تعالى : {مِنْ بَعْدَمَا جَاءتْكُمُ البينات} يتناول جميع الدلائل العقلية والسمعية أما الدلائل العقلية فهي الدلائل على الأمور التي تثبت صحة نبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلا بعد ثبوتها نحو العلم بحدوث العالم وافتقاره إلى صانع يكون عالماً بالمعلومات كلها ، قادراً على الممكنات كلها ، غنياً عن الحاجات كلها ، ومثل العلم بالفرق بين المعجزة والسحر ، والعلم بدلالة المعجزة على الصدق فكل ذلك من البينات العقلية ، وأما البينات السمعية فهي البيان الحاصل بالقرآن والبيان الحاصل بالسنة فكل هذه البينات داخلة في الآية من حيث أن عذر المكلف لا يزول عند حصول كل هذه البينات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 180}
واستدرك هنا أبو حييان على العلامة الفخر فقال :
والدلائل العقلية لا يخبر عنها بالمجيء لأنها مركوزة في العقول ، فلا ينسب إليها المجيء إلاَّ مجازاً ، وفيه بُعد.
أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 132}
والبينات : حجج الله ودلائله ، أو محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، كما قال : {حتى تأتيهم البينة رسول من الله} وجمع تعظيماً له ، لأنه وإن كان واحداً بالشخص ، فهو كثير بالمعنى : أو القرآن قاله ابن جريج ، أو التوراة والإنجيل قال : {ولقد جاءكم موسى بالبينات} وقال {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} وهذا يتخرج على قول من قال : إن المخاطب أهل الكتاب ، أو الإسلام ، أو ما جاء به رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المعجزات. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 132}
قال الطبرى :
وقد قال عدد من أهل التأويل إن"البينات" هي محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقرآن.(5/144)
وذلك قريب من الذي قلنا في تأويل ذلك ، لأن محمدًا ـ صلى الله عليه وسلم ـ والقرآن ، من حجج الله على الذين خوطبوا بهاتين الآيتين. غير أن الذي قلناه في تأويل ذلك أولى بالحق ، لأن الله جل ثناؤه ، قد احتج على من خالف الإسلام من أحبار أهل الكتاب بما عهد إليهم في التوراة والإنجيل ، وتقدَّم إليه على ألسن أنبيائهم بالوَصاةِ به ، فذلك وغيرُه من حجج الله تبارك وتعالى عليهم مع ما لزمهم من الحجج بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وبالقرآن. فلذلك اخترنا ما اخترنا من التأويل في ذلك.
وبنحو الذي قلنا في ذلك قال أهل التأويل. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 4 صـ 258}
وقال ابن عاشور :
وإنما قال تعالى : {من بعد ما جاءتكم البينات} إعذار لهم ، وفيه إشارة إلى أنهم يجب عليهم تفويض العلم إلى الله الذي أوحى إلى رسوله بإبرام الصلح مع المشركين ، لأنه ما أوحاه الله إلاّ لمصلحة وليس ذلك بوهن للمسلمين ، لأن الله عزيز لا يهن لأحد ، ولأنه حكيم يضع الأمور في مواضعها ، ويختار للمسلمين ما فيه نصر دينه وقد رأيتم البينات الدالةَ على عناية الله برسوله وأنه لا يخزيه ولا يضيع أمره ومن تلك البينات ما شاهدوه من النصر يوم بدر. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 280}
قوله تعالى : {فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ }
قال ابن عاشور :
قوله : {فاعلموا أن الله عزيز حكيم} جواب الشرط ، و{ أن الله عزيز حكيم} ، مفعول {اعلموا} ، والمقصود علم لازمه وهو العقاب. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 280}
قال الفخر :
لقائل أن يقول : إن قوله تعالى : {فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ البينات} إشارة إلى أن ذنبهم وجرمهم ، فكيف يدل قوله : {أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} على الزجر والتهديد.(5/145)
الجواب : أن العزيز من لا يمنع عن مراده ، وذلك إنما يحصل بكمال القدرة ، وقد ثبت أنه سبحانه وتعالى قادر على جميع الممكنات ، فكان عزيزاً على الإطلاق ، فصار تقدير الآية : فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات ، فاعلموا أن الله مقتدر عليكم لا يمنعه مانع عنكم ، فلا يفوته ما يريده منكم وهذا نهاية في الوعيد ، لأنه يجمع من ضروب الخوف ما لا يجمعه الوعيد بذكر العقاب ، وربما قال الوالد لولده : إن عصيتني فأنت عارف بي ، وأنت تعلم قدرتي عليك وشدة سطوتي ، فيكون هذا الكلام في الزجر أبلغ من ذكر الضرب وغيره ، فإن قيل : أفهذه الآية مشتملة على الوعد كما أنها مشتملة على الوعيد ؟ قلنا : نعم من حيث أتبعه بقوله : {حَكِيمٌ} فإن اللائق بالحكمة أن يميز بين المحسن والمسيء فكما يحسن من الحكيم إيصال العذاب إلى المسيء فكذلك يحسن منه إيصال الثواب إلى المحسن ، بل هذا أليق بالحكمة وأقرب للرحمة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 180}
فوائد ولطائف
احتج من قال بأنه لا وجوب لشيء قبل الشرع بهذه الآية قال : لأنه تعالى أثبت التهديد والوعيد بشرط مجيء البينات ، ولفظ {البينات} لفظ جمع يتناول الكل ، فهذا يدل على أن الوعيد مشروط بمجيء كل البينات وقبل الشرع لم تحصل كل البينات ، فوجب أن لا يحصل الوعيد ، فوجب أن لا يتقرر الوجوب قبل الشرع.
قال أبو علي الجبائي : لو كان الأمر كما يقوله المجبرة من أنه تعالى يريد من السفهاء والكفار : السفاهة والكفر لما جاز أن يوصف بأنه حكيم ، لأن من فعل السفه وأراده كان سفيهاً ، والسفيه لا يكون حكيماً أجاب الأصحاب بأن الحكيم هو العالم بعواقب الأمور فيرجع معنى كونه تعالى حكيماً إلى أنه عالم بجميع المعلومات وذلك لا ينافي كونه خالقاً لكل الأشياء ومريداً لها ، بل يوجب ذلك لما بينا أنه لو أراد ما علم عدمه لكان قد أراد تجهيل نفسه فقالوا : لو لزم ذلك لكان إذا أمر بما علم عدمه فقد أمر بتجهيل نفسه.(5/146)
قلنا : هذا إنما يلزم لو كان الأمر بالشيء أمراً بما لا يتم إلا به ، وهذا عندنا ممنوع فإن قالوا : لو لم يكن كذلك لزم تكليف ما لا يطاق ، قلنا هذا عندنا جائز والله أعلم.
يحكى أن قارئاً قرأ {غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فسمعه أعرابي فأنكره ، وقال إن كان هذا كلام الله فلا يقول كذا الحكيم لا يذكر الغفران عند الزلل لأنه إغراء عليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 180}
وقريب من هذا ما ذكر الطيبي عن الأصمعي قال كنت أقرأ : والسارقُ والسارقةُ فاقطعوا أيديهما جزاء بما كسبا نكالاً من الله والله غفور رحيم ، وبجنبي أعرابي فقال كلامُ مَنْ هذا ؟ قلت كلامُ الله ، قال : ليس هذا كلامُ الله فانتبهتُ فقرأت {والله عزيز حكيم} {المائدة : 38 ] فقال أصبتَ هذا كلام الله فقلت أتقرأ القرآن ؟ قال لا قلتُ من أين علمت ؟ قال يا هذا عَزَّ فَحَكَم فقطعَ ولو غَفر ورَحم لَمَا قَطَع. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 281}
فائدة
قال القرطبى :
وفي الآية دليل على أن عقوبة العالم بالذنب أعظم من عقوبة الجاهل به ، ومن لم تبلغه دعوة الإسلام لا يكون كافراً بترك الشرائع. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 24}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات}.
فيه سؤالان الأول أن قبلها {ادخلوا فِي السِّلْمِ} والأمر بالدخول يقتضي أنّهم غير مسلمين وقول الله تعالى : "فَإِن زَلَلْتُمْ "يقتضى أنَّهم مسلمون ثم زلوا بعد ذلك قال الله تعالى : {فَأَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ} وأجيب بأنّه مثل : {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور} لأن الكفار لما كانوا متمكنين من الإيمان فكأنهم حصل لهم الإيمان بالفعل.(5/147)
( السؤال ) الثاني : الآية خرجت مخرج التقسيم لحالهم والتقسيم الأصل فيه أن يكون بالواو. تقول : العلم إما تصور وإمّا تصديق ، ولا يجوز عطفه بالفاء ، فقسم حال هؤلاء إلى من دخل في الاسلام ولم يتبع الشيطان وإلى من زلّ عن الإسلام بعد مجىء البينات فهلا عطفه بالواو ؟
وأجيب بأن الفاء تقتضي السبب فقصد التنبيه على أنهم ضلوا بسبب هذه الآيات التي كانت سببا في هداية غيرهم. قال الله تعالى : {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} لا سيما مع مذهبنا أنّ ارْتِبَاط الدّليل بالمدلول عادي ، وعبر بـ "إن "دون إذا ( تنفيرا ) عن الزلل حتى كأنه غير واقع.
قوله تعالى : {فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
قيل لابن عرفة : هل يؤخذ منه إثبات هاتين الصفتين لله تعالى ( بالسماع ) ؟
فقال : إنما المراد العلم بلازم ذلك وهو العقوبة والانتقام ممن زلّ. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 267}
قوله تعالى : {هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :(5/148)
ولما كان هذا الختم مؤذناً بالعذاب وكان إتيان العذاب من محل تتوقع منه الرحمة أفظع وكان أنفع الأشياء السحاب لحمله الغيث والملائكة الذين هم خير محض وكان الذين شاهدوا العذاب من السحاب الذي هو مظنة الرحمة ليكون أهول عاداً وبني إسرائيل وكان عاد قد مضوا فلا يمكن عادة سؤالهم وكان من زل بعد هذا البيان قد أشبه بني إسرائيل في هذا الحال فكان جديراً بأن يشبههم في المآل فيما صاروا إليه من ضرب الذلة والمسكنة وحلول الغضب والوقوع في العطب قال تعالى : {هل ينظرون} أي ينتظرون إذا زلوا. سائقاً له في أسلوب الإنكار ، وصيغة الغيبة مجردة عن الافتعال تنبيهاً على أن الزالين في غاية البعد عن مواطن الرأفة والاستحقاق بمظهر الكبر والنقمة بإعراض السيد عن خطابهم وإقباله من عذابهم على ما لم يكن في حسابهم {إلا أن يأتيهم الله} أي مجد الذي لا يحتمل شيء تجلى عظمته وظهور جلاله ، كائناً مجده {في ظلل من الغمام} ظلة في داخل ظلة ، وهي ما يستر من الشمس فهي في غاية الإظلام والهول والمهابة لما لها من الكثافة التي تغم على الرائي ما فيها وتدمر ما أتت عليه - إلى غير ذلك من أنواع المجد الذي لا يقدره حق قدره إلا الله {والملائكة} أي ويأتي جنده الذين لا يعصون الله ما أمرهم ، هذا على قراءة الجماعة ، وعلى قراءة أبي جعفر بالخفض ، المعنى وظلل من الملائكة أي جماعات يملؤون الأقطار ليتبادروا إلى امتثال أوامره ؛ وهل ينتظرون من القوي المحكم لما يفعل العزيز الذي يعلو أمره كل أمر إلا إتيانه بالبأس إذا غضب بعد طول الحلم وتمادي الأناة فلا يرد بأسه ولا يعارض أمره وهو المراد من قوله : {وقضي} أي والحال أنه قد قضي {الأمر} أي نفذ بإهلاكهم سريعاً فرجعوا إلى الله سبحانه وتعالى بأسرهم لا يملكون لأنفسهم شيئاً {وإلى الله} الذي له الإحاطة الكاملة وحده {ترجع الأمور} كلها دنيا وأخرى ، فإن حكمه لا يرد وقدرته لا تحد. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 388}(5/149)
قال ابن عاشور :
حرف ( هل ) مفيد الاستفهام ومفيد التحقيق ويظهر أنه موضوع للاستفهام عن أمر يراد تحقيقه ، فلذلك قال أئمة المعاني إن هل لطلب تحصيل نسبة حكمية تحصل في علم المستفهم وقال الزمخشري في "الكشاف" : إن أصل هل أنها مرادفة قد في الاستفهام خاصة ، يعني قد التي للتحقيق وإنما اكتسبت إفادة الاستفهام من تقدير همزة الاستفهام معها كما دل عليه ظهور الهمزة في قول زيد الخيل
: ... سائِلْ فوارسَ بَرْبُوع بِشِدَّتنا
أَهَلْ رَأَوْنَا بسَفَححِ القاع ذي الأَكَم... وقال في "المفصل" : وعن سيبويه أن هل بمعنى قد إلاّ أنهم تركوا الألف قبلها ؛ لأنها لا تقع إلاّ في الاستفهام اه. يعني أن همزة الاستفهام التزم حذفها للاستغناء عنها بملازمة هل للوقوع في الاستفهام ، إذ لم يقل أحد أن هل ترد بمعنى قد مجردة عن الاستفهام فإن مواردها في كلام العرب وبالقرآن يبطل ذلك ونسب ذلك إلى الكسائي والفراء والمبرد في قوله تعالى : {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} {الإنسان : 1 ] ولعلهم أرادوا تفسير المعنى لا تفسير الإعراب ولا نعرف في كلام العرب اقتران هل بحرف الاستفهام إلاّ في هذا البيت ولا ينهض احتجاجهم به لإمكان تخريجه على أنه جمع بين حرفي استفهام على وجه التأكيد كما يؤكد الحرف في بعض الكلام كقول مسلم بن معبد الوالبيِّ
: ... فلاَ والله لاَ يُلْقَى لما بي
ولا لِلِمَا بهم أبداً دَواء... فجمع بين لامي جر ، وأيّاً ما كان فإن هل تمحضت لإفادة الاستفهام في جميع مواقعها ، وسيأتي هذا في تفسير قوله تعالى : {هل أتى على الإنسان حين من الدهر} في سورة الإنسان.(5/150)
والاستفهام إنكاري لا محالة بدليل الاستثناء ، فالكلام خبر في صورة الاستفهام. والنظر : الانتظار والترقب يقال نظره بمعنى ترقبه ، لأن الذي يترقب أحداً يوجه نظره إلى صوبه ليرى شبحه عندما يبدو ، وليس المراد هنا نفي النظر البصري أي لا ينظرون بأبصارهم في الآخرة إلاّ إتيان أمر الله والملائكة ، لأن الواقع أن الأبصار تنظر غير ذلك ، إلاّ أن يراد أن رؤيتهم غير ذلك كالعدم لشدة هول إتيان أمر الله ، فيكون قصراً ادعائياً ، أو تسلب أبصارهم من النظر لغير ذلك.
وهذا المركب ليس مستعملاً فيما وضع له من الإنكار بل مستعملاً إما في التهديد والوعيد وهو الظاهر الجاري على غالب الوجوه المتقدمة في الضمير ، وإما في الوعد إن كان الضمير لمن يشري نفسه ، وإما في القدر المشترك وهو العدة بظهور الجزاء إن كان الضمير راجعاً للفريقين ، وإما في التهكم إن كان المقصود من الضمير المنافقين اليهود أو المشركين ، فأما اليهود فإنهم كانوا يقولون لموسى {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} {البقرة : 55 ]. ويجوز على هذا أن يكون خبراً عن اليهود : أي إنهم لا يؤمنون ويدخلون في السلم حتى يروا الله تعالى في ظلل من الغمام على نحو قوله تعالى : {ولئن أتيت الذين أوتوا الكتاب بكل آية ما تبعوا قبلتك} {البقرة : 145 ].
وأما المشركون فإنهم قد حكى الله عنهم : {وقالوا نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً إلى قوله أو تأتي بالله والملائكة قبيلاً} {الإسراء : 90 ، 92 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 282}
قال الآلوسى : (5/151)
{ هَلْ يَنظُرُونَ} استفهام في معنى النفي ، والضمير للموصول السابق إن أريد به المنافقون أو أهل الكتاب ، أو إلى {مَن يُعْجِبُكَ} {البقرة : 204 ] إن أريد به مؤمنو أهل الكتاب أو المسلمون. {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله} بالمعنى اللائق به جل شأنه منزهاً عن مشابهة المحدثات والتقيد بصفات الممكنات. {فِي ظُلَلٍ} جمع ظلة كقلة وكقلل وهي ما أظلك ، وقرىء ( ظلال ) كقلال {مّنَ الغمام} أي السحاب أو الأبيض منه. {والملئكة} يأتون ، وقرىء {والملئكة} بالجر عطف على ( ظلل ) أو ( الغمام ) والمراد : مع الملائكة أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : "يجمع الله تعالى الأوّلين والآخرين لميقات يوْم معلوم قياماً شاخصة أبصارهم إلى السماء ينظرون فصل القضاء وينزل الله تعالى في ظلل من الغمام من العرش إلى الكرسي " ؛ وأخرج ابن جرير وغيره عن عبد الله بن عمر في هذه الآية قال : يهبط حين يهبط وبينه وبين خلقه سبعون ألف حجاب منها النور والظلمة والماء فيصوت الماء في تلك العظمة صوتاً تنخلع له القلوب ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن من الغمام ظللاً يأتي الله تعالى فيها محفوفات بالملائكة ، وقرأ أبيّ {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله والملئكةفِي ظُلَلٍ} ومن الناس من قدر في أمثال هذه المتشابهات محذوفاً فقال : في الآية الإسناد مجازي ، والمراد يأتيهم أمر الله تعالى وبأسه أو حقيقي ، والمفعول محذوف أي يأتيهم الله تعالى ببأسه ، وحذف المأتي به للدلالة عليه بقوله سبحانه : {أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} {البقرة : 209 ] فإن العزة والحكمة تدل على الانتقام بحق ، وهو البأس والعذاب ، وذكر الملائكة لأنهم الواسطة في إتيان أمره أو الآتون على الحقيقة ، ويكون ذكر الله تعالى حينئذٍ تمهيداً لذكرهم كما في قوله سبحانه : {يخادعون الله والذين ءامَنُوا} {البقرة : 9 ] على وجه وخص الغمام(5/152)
بمحلية العذاب لأنه مظنة الرحمة فإذا جاء منه العذاب كان أفظع لأن الشر إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 102}
فائدة لغوية
قال ابن عادل :
" هَلْ "تأتي على أربعة أوجهٍ :
الأول : بمعنى "مَا "كهذه الآية ، وقوله : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ} {الأعراف : 53 ].
الثاني : بمعنى "قَدْ "كقوله تعالى : {هَلْ أتى عَلَى الإنسان} {الإنسان : 1 ] أي : قد أتى ، وقوله : {وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الخصم} {ص : 21 ] و{ هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} {الغاشية : 1 ] ، أي : قد أتاك.
والثالث : بمعنى "أَلاَ "قال تعالى : {هَلْ أَدُلُّكُمْ} {طه : 40 ] أي : أَلاَ أدلكم ، ومثله {هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين} {الشعراء : 22 ] أي : ألا أنبئكم.
الرابع : بمعنى الاستفهام ، قال تعالى : {هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَفْعَلُ} {الروم : 40 ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 480 ـ 481}
وقال الإمام السمرقندى :
هل في القرآن على سبعة أوجه في موضع يراد بها ( قد ) ، كقوله : {هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية} {الغاشية : 1 ] أي قد أتاك.
ومرة يراد بها ( الاستفهام ) ، كقوله {وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن وَلِىٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ} {الشورى : 44 ] ومرة يراد بها ( السؤال ) ، كقوله : {فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقا} {الأعراف : 44 ].
ومرة يراد بها ( التفهيم ) ، كقوله : {ياأيها الذين ءَامَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ على تجارة تُنجِيكُم مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ} {الصف : 10 ]
ومرة يراد بها ( التوبيخ ) ، كقوله : {هل أنبؤكم على من تنزل الشياطين} {الشعراء : 221 ].(5/153)
ومرة يراد بها ( الأمر ) ، كقوله : {إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِى الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ} {المائدة : 91 ] ، أي انتهوا ،
ومرة يراد بها ( الجحد ) ، كقوله في هذا الموضع : {هَلْ يَنظُرُونَ}. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 164}
فصل
قال العلامة ابن عاشور :
الإتيان حضور الذات في موضع من موضع آخر سبق حصولها فيه وأسند الإتيان إلى الله تعالى في هذه الآية على وجه الإثبات فاقتضى ظاهره اتصاف الله تعالى به ، ولما كان الإتيان يستلزم التنقل أو التمدد ليكون حالاً في مكان بعد أن لم يكن به حتى يصح الإتيان وكان ذلك يستلزم التنقل الجسم والله منزه عنه ، تعين صرف اللفظ عن ظاهره بالدليل العقلي ، فإن كان الكلام خبراً أو تهكماً فلا حاجة للتأويل ، لأن اعتقادهم ذلك مدفوع بالأدلة وإن كان الكلام وعيداً من الله لزم التأويل ، لأن الله تعالى موجود في نفس الأمر لكنه لا يتصف بما هو من صفات الحوادث كالتنقل والتمدد لما علمت ، فلا بد من تأويل هذا عندنا على أصل الأشعري في تأويل المتشابه ، وهذا التأويل إما في معنى الإتيان أو في إسناده إلى الله أو بتقدير محذوف من مضاف أو مفعول ، وإلى هذه الاحتمالات ترجع الوجوه التي ذكرها المفسرون :
الوجه الأول ذهب سلف الأمة قبل حدوث تشكيكات الملاحدة إلى إقرار الصفات المتشابهة دون تأويل فالإتيان ثابت لله تعالى ، لكن بلا كيف فهو من المتشابه كالاستواء والنزول والرؤية أي هو إتيان لا كإتيان الحوادث. فأما على طريقة الخلف من أئمة الأشعرية لدفع مطاعن الملاحدة فتجيء وجوهٌ منها : (5/154)
الوجه الثاني : أقول يجوز تأويل إتيان الله بأنه مجاز في التجلي والاعتناء إذا كان الضمير راجعاً لمن يشري نفسه ابتغاء مرضاة الله ، أو بأنه مجاز في تعلق القدرة التنجيزي بإظهار الجزاء إن كان الضمير راجعاً للفريقين ، أو هو مجاز في الاستئصال يقال أتاهم الملك إذا عاقبهم قاله القرطبي ، قلت وذلك في كل إتيان مضاف إلى منتقم أو عدو أو فاتح كما تقول : أتاهم السبع بمعنى أهلكهم وأتاهم الوباء ولذلك يقولون أتى عليه بمعنى أهلكه واستأصلَه ، فلما شاع ذلك شاع إطلاق الإتيان على لازمه وهو الإهلاك والاستئصال قال تعالى : {فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا} {الحشر : 2 ] وقال {فأتى الله بنيانهم من القواعد} {النحل : 26 ] وليس قوله : {في ظلل من الغمام} بمناف لهذا المعنى ، لأن ظهور أمر الله وحدوث تعلق قدرته يكون محفوفاً بذلك لتشعر به الملائكة وسيأتي بيان {في ظلل من الغمام} قريباً.
الوجه الثالث : إسناد الإتيان إلى الله تعالى إسناد مجازي وإنما يأتيهم عذاب الله يوم القيامة أو في الدنيا وكونه {في ظلل من الغمام} زيادة تنويه بذلك المظهر ووقعه لدى الناظرين.
الوجه الرابع : يأتيهم كلام الله الدالُّ على الأمر ويكون ذلك الكلام مسموعاً من قِبَل ظلل من الغمام تحفه الملائكة.
الوجه الخامس : أن هنالك مضافاً مقدراً أي يأتيهم أمر الله أي قضاؤه بين الخلق أو يأتيهم بأس الله بدليل نظائره في القرآننِ أو يأتي أمر ربك وقوله : {فجاءها بأسنا بياتاً} {الأعراف : 4 ] ولا يخفى أن الإتيان في هذا يتعين أن يكون مجازاً في ظهور الأمر.
الوجه السادس : حذف مضاف تقديره ، آيات الله أو بيناته أي دلائل قدرته أو دلائل صدق رُسُله ويبعِّده قوله : {في ظلل من الغمام} إلاّ أن يرجع إلى الوجه الخامس أو إلى الوجه الثالث.
(5/155)
الوجه السابع : أن هنالك معمولاً محذوفاً دل عليه قوله : {فاعلموا أن الله عزيز حكيم} {البقرة : 209 ] والتقدير أن يأتيهم الله بالعذاب أو ببأسه. والأحسن تقدير أمر عام يشمل الخير والشر لتكون الجملة وعْداً ووعيداً.
وقد ذكرتُ في تفسير قوله تعالى : {منه آيات محكمات هن أم الكتاب وأُخر متشابهات} في {سورة آل عمران : 6 ] ما يتحصل منه أن ما يجري على اسمه تعالى من الصفات والأحكام وما يسند إليه من الأفعال في الكتاب والسنة أربعة أقسام : قسم اتصف الله به على الحقيقة كالوجود والحياة لكن بما يخالف المتعارف فينا ، وقسم اتصف الله بلازم مدلوله وشاع ذلك حتى صار المتبادر من المعنى المناسبُ دون الملزومات مثل الرحمة والغضب والرضا والمحبة ، وقسم هو متشابه وتأويله ظاهر ، وقسم متشابه شديد التشابه.
(5/156)
وقوله تعالى : {في ظلل من الغمام} أشد إشكالاً من إسناد الإتيان إلى الله تعالى لاقتضائه الظرفية ، وهي مستحيلة على الله تعالى ، وتأويله إما بأن ( في ) بمعنى الباء أي {يأتيهم بظلل من الغمام} وهي ظلل تحمل العذاب من الصواعق أو الريح العاصفة أو نحو ذلك إن كان العذاب دنيوياً ، أو في ظلل من الغمام تشتمل على ما يدل على أمر الله تعالى أو عذابه {وإن يروا كسفاً من السماء ساقطاً يقولوا سحاب مركرم} {الطور : 44 ] وكان رسول الله إذا رأى السحاب رئي في وجهه الخوف من أن يكون فيه عذاب ، أو على كلامه تعالى ، أو الحاجبة لأنوار يجعلها الله علامة للناس يوم القيامة على ابتداء فصل الحساب يدرك دلالتها أهل الموقف وبالانكشاف الوجداني ، وفي "تفسير القرطبي والفخر" قيل : إن في الآية تقديماً وتأخيراً ، وأصل الكلام أن يأتيهم الله والملائكة في ظلل من الغمام ، فالغمام ظرف لإتيان الملائكة ، وروي أن ابن مسعود قرأها كذلك ، وهذه الوجوه كلها مبنية على أن هذا إخبار بأمر مستقبل ، فأما على جعل ضمير {ينظرون} مقصوداً به المنافقون من المشركين أو اليهود بأن يكون الكلام تهكماً أي ماذا ينتظرون في التباطؤ عن الدخول في الإسلام ، ما ينتظرون إلاّ أن يأتيهم الله في أحوال اعتقدوها فيكلمهم ليدخلوا في الدين ، فإنهم قالوا لموسى : {لن نؤمن لك حتى نرى الله جهرة} {البقرة : 55 ] واعتقدوا أن الله في الغمام ، أو يكون المراد تعريضاً بالمشركين ، وبعض التأويلات تقدمت مع تأويل الإتيان.
(5/157)
وقرأه الجمهور "والملائكة" بالرفع عطفاً على اسم الجلالة ، وإسنادُ الإتيان إلى الملائكة لأنهم الذين يأتون بأمر الله أو عذابه وهم الموكل إليهم تنفيذ قضائه ، فإسناد الإتيان إليهم حقيقة فإن كان الإتيان المسند إلى الله تعالى مستعملاً في معنى مجازي فهو مستعمل بالنسبة للملائكة في معناه الحقيقي فهو من استعمال اللفظ في حقيقته ومجازه ، وإن كان إسناد الإتيان إلى الله تعالى مجازاً في الإسناد فإسناده إلى الملائكة بطريق العطف حقيقة في الإسناد ولا مانع من ذلك ؛ لأن المجاز الإسنادي عبارة عن قصد المتكلم مع القرينة ، قال حُمَيْد بن ثَوْر يمدح عبد الملك
: ... أتاك بي الله الذي نَوَّر الهدى
ونورٌ وإسلامٌ عليكَ دليل... فأسند الإتيان به إلى الله وهو إسنادٌ حقيقي ثم أسنده بالعطف للنورِ والإسلام ، وإسناد الإتيان به إليهما مجازي لأنهما سبب الإتيان به ألا ترى أنه قال "عليك دليل".
وقرأ أبو جعفر "والملائكة" بجر ( الملائكة ) عطف على ( ظلل ). أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 286 ـ 287}
بحث نفيس للعلامة الخازن(5/158)
اعلم أن هذه الآية من آيات الصفات للعلماء في آيات الصفات وأحاديث الصفات مذهبان أحدهما وهو مذهب سلف هذه الأمة وأعلام أهل السنة : الإيمان والتسليم لما جاء في آيات الصفات وأحاديث الصفات ، وأنه يجب علينا الإيمان بظاهرها ونؤمن بها كما جاءت ونكل علمها إلى الله تعالى وإلى رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مع الإيمان ، والاعتقاد بأن الله تعالى منزه عن سمات الحدوث وعن الحركة والسكون. قال الكلبي : هذا من الذي لا يفسر وقال سفيان بن عيينة : كل ما وصف الله به نفسه في كتابه فتفسيره قراءته والسكوت عليه ليس لأحد أن يفسره إلاّ الله ورسوله. وكان الزهري والأوزاعي ومالك وابن المبارك وسفيان الثوري والليث بن سعد وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه يقولون في هذه الآية وأمثالها اقرؤوها كما جاءت بلا كيف ولا تشبيه ولا تأويل هذا مذهب أهل السنة ومعتقد سلف الأمة ، وأنشد بعضهم في المعنى :
عقيدتنا أن ليس مثل صفاته... لا ذاته شيء عقيدة صائب
نسلم آيات الصفات بأسرها... وأخبارها للظاهر المتقارب
ونؤيس عنها كنه فهم عقولنا... وتأويلنا فعل اللبيب المغالب
ونركب للتسليم سفناً فإنها... لتسليم دين المرء خير المراكب
(5/159)
( المذهب الثاني ) وهو قول جمهور علماء المتكلمين ، وذلك أنه أجمع المتكلمين من العقلاء والمعتبرين من أصحاب النظر على أنه تعالى منزه عن المجيء والذهاب ، ويدل على ذلك أن كل ما يصح عليه المجيء والذهاب لا ينفك عن الحركة والسكون وهما محدثان ، وما لا ينفك عن المحدث فهو محدث ، والله تعالى منزه عن ذلك فيستحيل ذلك في حقه تعالى فثبت بذلك أن ظاهر الآية ليس مراداً ، فلا بد من التأويل على سبيل التفصيل ، فعلى هذا قيل في معنى الآية هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله الآيات فيكون مجيء الآيات مجيئاً لله تعالى على سبيل التفخيم لشأن الآيات وقيل معناه إلاّ أن يأتيهم أمر الله ووجه هذا التأويل أن الله تعالى فسره في آية أخرى فقال : هل ينظرون إلاّ أن تأتيهم الملائكة أو يأتي أمر ربك ، فصار هذا الحكم مفسراً لهذا المجمل في هذه الآية.
وقيل : معناه يأتيهم الله بما أوعد من الحساب والعقاب فحذف ما يأتي به تهويلاً عليهم إذ لو ذكر ما يأتي به كان أسهل عليهم في باب الوعيد ، وإذا لم يذكر كان أبلغ وقيل يحتمل أن تكون الفاء بمعنى الباء لأن بعض الحروف يقوم مقام بعض فيكون المعنى هل ينظرون إلاّ أن يأتيهم الله بظلل من الغمام والملائكة ، والمراد العذاب الذي يأتي من الغمام مع الملائكة ، وقيل معناه ما ينظرون إلاّ أن يأتيهم قهر الله وعذابه في ظلل من الغمام. فإن قلت : لم كان إتيان العذاب في الغمام ؟ قلت : لأن الغمام مظنة الرحمة ومنه ينزل المطر ، فإذا نزل منه العذاب كان أعظم وأفظع وقيل إن نزول الغمام علامة لظهور القيامة وأهوالها. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 136}
فصل في تفسير "الظلل "
" الظُّلَلُ "جمع ظُلَّةٍ ، وهو ما أظَلَّكَ الله به "والغَمَامُ "هو السَّحاب الأبيض الرَّقيق ، سمِّي غماماً ؛ لأنه يغمُّ ، أي : يستر.
وقال مجاهدٌ : هو غير السحاب ، ولم يكن إلاَّ لبني إسرائيل في تيههم.
وقال مقاتلٌ : كهيئة الضَّبابة أبيض.(5/160)
قال الحسن : في سترةٍ من الغمام. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 484}
قوله تعالى : {وقُضي الأمر }
قال الفخر :
قوله : {وَقُضِىَ الأمر} معناه : ويقضي الأمر والتقدير : إلا أن يأتيهم الله ويقضي الأمر فوضع الماضي موضع المستقبل وهذا كثير في القرآن ، وخصوصاً في أمور الآخرة فإن الإخبار عنها يقع كثيراً بالماضي ، قال الله سبحانه وتعالى : {إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أأنت قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذونى} {المائدة : 116 ] والسبب في اختيار هذا المجاز أمران أحدهما : التنبيه على قرب أمر الآخرة فكأن الساعة قد أتت ووقع ما يريد الله إيقاعه والثاني : المبالغة في تأكيد أنه لا بد من وقوعه لتجزى كل نفس بما تسعى ، فصار بحصول القطع والجزم بوقوعه كأنه قد وقع وحصل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 185}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {وقُضي الأمر} إما عطف على جملة {هل ينظرون} إن كانت خبراً عن المخبر عنهم والفعل الماضي هنا مراد منه المستقبل ، ولكنه أتى فيه بالماضي تنبيهاً على تحقيق وقوعه أو قرب وقوعه ، والمعنى ما ينتظرون إلاّ أن يأتيهم الله وسوف يقضى الأمر ، وإما عطف على جملة {ينظرون} إن كانت جملة {هل ينظرون} وعيداً أو وعداً والفعل كذلك للاستقبال ، والمعنى ما يترقبون إلاّ مجيء أمر الله وقضاءَ الأمر.
وإما جملة حالية والماضي على أصله وحذفت قد ، سواء كانت جملة {هل ينظرون} خبراً أو وعداً ووعيداً أي وحينئذٍ قد قضي الأمر ، وإما تنبيه على أنهم إذا كانوا ينتظرون لتصديق محمد أن يأتيهم الله والملائكة فإن ذلك إن وقع يكون قد قضي الأمر أي حق عليهم الهلاك كقوله : {وقالوا لولا أنزل عليه ملَك ولو أنزلنا ملكاً لقضي الأمر ثم لا ينظرون} {الأنعام : 8 ].
والقضاء : الفراغ والإتمام.(5/161)
والتعريف في ( الأمر ) إما للجنس مراداً منه الاستغراق أي قُضِيت الأمور كلها ، وإما للعهد أي أمر هؤلاء أي عقابهم أو الأمر المعهود للناس كلهم وهو الجزاء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 287}
قوله تعالى : {وإلى الله ترجع الأمور
قال ابن عاشور :
وقوله : {وإلى الله ترجع الأمور} تذييل جامع لمعنى : {وقضى الأمر} والرجوع في الأصل : المآب إلى الموضع الذي خرج منه الراجع ، ويستعمل مجازاً في نهاية الشيء وغايته وظهور أثره ، فمنه {ألا إلى الله تصير الأمور} {الشورى : 53 ].
ويجيء فعل رجع متعدياً ، تقول رجعت زيداً إلى بلده ومصدره الرَّجْع ، ويستعمل رجع قاصراً تقول : رجع زيد إلى بلده ومصدره الرجُوع.
وقرأ نافع وابن كثير وأبو عَمرو وعاصم وأبو جعفر ويعقوب ( تُرجع ) بضم التاء وفتح الجيم على أنه مضارع أرجعه أو مضارع رجَعَه مبنياً للمفعول أي يَرْجع الأمورَ راجعُها إلى الله ، وحذفُ الفاعل على هذا العدم تعين فاعل عُرفي لهذا الرجع ، أو حُذف لدفع ما يبدو من التنافي بين كون اسم الجلالة فاعلاً للرجوع ومفعولاً له بحرف إلى ، وقرأه باقي العشرة بالبناء للفاعل من رجع الذي مصدره الرجوع فالأمورُ فاعل تَرْجع. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 287}
فصل(5/162)
قرأ ابن كثير وأبو عمرو وعاصم {تُرْجَعُ} بضم التاء على معنى ترد ، يقال : رجعته أي رددته ، قال تعالى : {وَلَئِن رُّجّعْتُ إلى رَبّى} {فصلت : 50 ] وفي موضع آخر : {وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبّى} {الكهف : 36 ] وفي موضع آخر : {ثُمَّ رُدُّواْ إلى الله مولاهم الحق} {الأنعام : 62 ] وقال تعالى : {رَبّ ارجعون لَعَلّى أَعْمَلُ صالحا} {المؤمنون : 99 100 ] أي ردني ، وقرأ ابن عامر وحمزة والكسائي {تُرْجَعُ} بفتح التاء أي تصير ، كقوله تعالى : {أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور} {الشورى : 53 ] وقوله : {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ وإلى الله مَرْجِعُكُمْ} {هود : 4 ، المائدة : 48 ، الغاشية : 25 ] قال القفال رحمه الله : والمعنى في القراءتين متقارب ، لأنها ترجع إليه جل جلاله ، وهو جل جلاله يرجعها إلى نفسه بافناء الدنيا وإقامة القيامة ، ثم قال : وفي قوله : {تُرْجَعُ الأمور} بضم التاء ثلاث معان أحدها : هذا الذي ذكرناه ، وهو أنه جل جلاله يرجعها كما قال في هذه الآية : {وَقُضِىَ الأمر} وهو قاضيها والثاني : أنه على مذهب العرب في قولهم : فلان يعجب بنفسه ، ويقول الرجل لغيره : إلى أين يذهب بك ، وإن لم يكن أحد يذهب به والثالث : أن ذوات الخلق وصفاتهم لما كانت شاهدة عليهم بأنهم مخلوقون محدثون محاسبون ، وكانوا رادين أمرهم إلى خالقهم ، فقوله : {تُرْجَعُ الأمور} أي يردها العباد إليه وإلى حكمه بشهادة أنفسهم ، وهو كما قال : {يُسَبّحُ لِلَّهِ مَا فِى السموات وَمَا فِى الأرض} {الجمعة : 1 ، التغابن : 1 ] فإن هذا التسبيح بحسب شهادة الحال ، لا بحسب النطق باللسان ، وعليه يحمل أيضاً قوله : {وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِى السماوات والأرض طَوْعًا وَكَرْهًا} {الرعد : 15 ] قيل : إن المعنى يسجد له المؤمنون طوعاً ، ويسجد له الكفار كرهاً بشهادة أنفسهم بأنهم عبيد الله ، فكذا يجوز أن يقال : إن العباد(5/163)
يردون أمورهم إلى الله ، ويعترفون برجوعها إليه ، أما المؤمنون فبالمقال ، وأما الكفار فبشهادة الحال. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 186}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله...}.
قال أبو حيان : قيل بمعنى ينتظرون فيتعدى إلى واحد بنفسه ولو كانت من نظر العين لتعدت بإلى وأضيفت إلى الوجه مثل {وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ} ورده أبو حيان بجواز كونها منه وإلى محذوفة وحذف حرف الجر مع أنه كثير وهو قياس مطرد ولا يلزم إضافتها إلى الوجه بل قد يضاف إلى الذات قال الله تعالى : {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ} {قَالَ رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ} وقدر ابن عرفة هذا التعقب بأنه ( إن ) أراد أن المنظور إليه لايكون إلا ( بالوجه ) فباطل بقوله {أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل} ( وإن ) أراد ( أنّ ) النظر ( بالنسبة ) لاعتبار الفاعل لا إلى الوجه فيقال : نظر وجهي إلى كذا ، فباطل أيضا.
قال ابن عرفة : ويبطل أيضا من وجه آخر وهو المنظور إليه هنا هو الإتيان المفهوم من قوله {إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله}. والإتيان معنى من المعاني لأنه مصدر والمعاني لا ترى بوجه إلا باعتبار الجواز العقلى لكونها موجدة والوجود مصحح للرؤية.
فإن قلتم : نرى إتيان الشخص ؟ قلنا : إنما رأيت الشخص الآتي لا إتيانه.
فإن قلتم : إنه عرض ؟ قلنا : العرض الذي هو اللون مرئي ، وأما الرائحة والعلم والقدرة فليس بمرئي بوجه.(5/164)
( والجواب ) عن ذلك أن النظر هنا بمعنى الانتظار ومعناه أن ( حالاتهم ) تقتضي انتظارهم العقوبة ( لا أنهم ) يقصدون ذلك وفي هذا عقوبتان ( حسية ) ومعنوية لأن وجود السحاب مظنة الرّحمة بالمطر قال الله تعالى : {فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ} وقال الله جل ذكره {والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمئان مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً} ففيه العقوبة ( بالخيبة ) فيما يظن فيه قبل الغرض فلا تناله العقوبة بنقيض المقصود وهو إتيان العذاب معه. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 268}
سؤال : فإن قيل : كيف قال : {وإلى الله ترجع الأمور} وهو يدل على أنها كانت إلى غيره ، كقولهم : رجع إلى فلان عبده ومنصبه ؟
قلنا : هو خطاب لمن كان يعبد غير الله ، وينسب أفعاله إلى سواه.
فأخبرهم أنهم إذا كشف لهم الغطاء يوم القيامة ردوا إليه ما أضافوه إلى غيره بسبب كفرهم وجهلهم ، ولأن رجع يستعمل بمعنى {صار} و{وصل} كقولهم : رجع على من فلان مكروه. ومنه قول لبيد :
وما المرء إلا كالشهاب وضوءه
يحور رمادا بعد إذ هو ساطع
ولأنها كانت إليه قبل خلق عبيده ، فلما خلقهم ملكهم بعضها خلافة ونيابة ، ثم رجعت إليه بعد هلاكهم.
ومنه قوله تعالى {لمن الملك اليوم} وقوله {الملك يومئذ الحق للرحمن} وإنما قال : {وإلى الله ترجع الأمور} ، ولم يقل : وإليه ، وإن كان قد سبق ذكره مرة لقصد التفخيم والتعظيم ، وذلك ينافى الإيجاز والاختصار. أ هـ {تفسير الرازى صـ 39}.
وقال الخازن :
إن أمور جميع العباد ترجع إليه في الدنيا والآخرة ، ولكن المراد من هذا إعلام الخلق إنه المجازي على الأعمال بالثواب والعقاب. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 137}(5/165)
قوله تعالى : {سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آَتَيْنَاهُمْ مِنْ آَيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان بنو إسرائيل أعلم الناس بظهور مجد الله في الغمام لما رأى أسلافهم منه عند خروجهم من مصر وفي جبل الطور وقبة الزمان وما في ذلك على ما نقل إليهم من وفور الهيبة وتعاظم الجلال قال تعالى : جواباً لمن كأنه قال : كيف يكون هذا ؟ {سل} بنقل حركة العين إلى الفاء فاستغنى عن همزة الوصل {بني إسرائيل} أي الذين هم أحسد الناس للعرب ثم استفهم أو استأنف الإخبار {كم آتيناهم} من ذلك ومن غيره {من آية بينة} بواسطة أنبيائهم فإنهم لا يقدرون على إنكار ذلك ، وسكوتهم على سماعه منك إقرار منهم. وقال الحرالي : ولما كان هذا الذي أنذروا به أمراً مجملاً أحيلوا في تفاصيل الوقائع وتخصيص الملاحم ووقوع الأشباه والنظائر على ما تقدم ووقع مثاله في بني إسرائيل لتكرار ما وقع فيهم من هذه الأمة حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة فقال : {سل} ، استنطاقاً لحالهم لا لإنبائهم وإخبارهم ، فالتفات النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى ما يشهده الله من أحوال بني إسرائيل وأحوال ملوكهم وأحبارهم وأيامهم وتفرقهم واختلافهم وصنوف بلاياهم هو سؤاله واستبصاره لا أن يسأل واحداً فيخبره ؛ انتهى - كذا قال ، والظاهر أنه إباحة لسؤالهم فإنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما سألهم عن شيء وكذبوا في جوابه فبين كذبهم إلا عرفوا بالكذب ، كقصة حد الزنا وقضية سؤالهم عن أبيهم وقضية سم الشاة ونحو هذا ، وفي ذلك زيادة لإيمان من يشاهده وإقامة للحجة عليهم وغير هذا من الفوائد. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 389 ـ 390}
وقال ابن عاشور : (5/166)
تتنزل هاته الآية من التي قبلها منزلةَ البرهان على معنى الجملة السابقة ، فإن قوله : {هل ينظرون} {البقرة : 210 ] سواء كان خبراً أو وعيداً أو وعداً أم تهكماً ، وأيّاً ما كان معاد الضمير فيه على الأوجه السابقة قد دل بكل احتمال على تعريض بِفرَقٍ ذَوي غُرور وتماد في الكفر وقلةِ انتفاع بالآيات البينات ، فناسب أن يعقب ذلك بإلفاتهم إلى ما بلَغهم من قلة انتفاع بني إسرائيل بما أُوتوه من آيات الاهتداء مع قلة غَناء الآيات لديهم على كثرتها ، فإنهم عاندوا رسولهم ثم آمنوا به إيماناً ضعيفاً ثم بدلوا الدين بعد ذلك تبديلاً.
وعلى احتمال أن يكون الضمير في {ينظرون} {البقرة : 210 ] لأهل الكتاب : أي بني إسرائيل فالعدول عن الإضمار هنا إلى الإظهار بقوله : {بني إسرائيل} لزيادة النداء على فضيحة حالهم ويكون الاستدلال عليهم حينئذٍ أشد ، أي هم قد رأوا آيات كثيرة فكان المناسب لهم أن يبادوا بالإيمان بالرسول محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنهم أعلم الناس بأحوال الرسل ، وعلى كل فهذه الآية وما بعدها معترضات بين أغراض التشريع المتتابعة في هذه السورة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 288}
قال الفخر : (5/167)
اعلم أنه ليس المقصود : سل بني إسرائيل ليخبروك عن تلك الآيات فتعلمها وذلك لأن الرسول عليه الصلاة والسلام كان عالماً بتلك الأحوال بإعلام الله تعالى إياه ، بل المقصود منه المبالغة في الزجر عن الإعراض عن دلائل الله تعالى ، وبيان هذاالكلام أنه تعالى قال : {ياأيها الذين ءامَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَافَّةً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} {البقرة : 208 ] فأمر بالإسلام ونهى عن الكفر ، ثم قال : {فَإِن زَلَلْتُمْ مّن بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ البينات} أي فإن أعرضتم عن هذا التكليف صرتم مستحقين للتهديد بقوله : {فاعلموا أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ} {البقرة : 209 ] ثم بين ذلك التهديد بقوله : {هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مّنَ الغمام والملائكة} {البقرة : 210 ] ثم ثلث ذلك التهديد بقوله : {سَلْ بَنِى إسراءيل} يعني سل هؤلاء الحاضرين أنا لما آتينا أسلافهم آيات بينات فأنكروها ، لا جرم استوجبوا العقاب من الله تعالى ، وذلك تنبيه لهؤلاء الحاضرين على أنهم لو زلوا عن آيات الله لوقعوا في العذاب كما وقع أولئك المتقدمون فيه ، والمقصود من ذكر هذه الحكاية أن يعتبروا بغيرهم ، كما قال تعالى : {فاعتبروا ياأولى الأبصار} {الحشر : 2 ] وقال : {لَقَدْ كَانَ فِى قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُوْلِى الألباب} {يوسف : 111 ] فهذا بيان وجه النظم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 4}
فائدة لغوية
قال ابن عادل :
قرأ الجمهور : "سَلْ "وهي تحتمل وجهين : (5/168)
أحدهما : أن تكون من لغة : سال يسال ، مثل : خَافَ يَخَافُ ، وهل هذه الألف مبدلة من همزة ، أو واو ، أو ياء ؟ خلاف تقدَّم في قوله : {فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ} {البقرة : 61 ] فحينئذٍ يكون الأمر منها : "سَلْ "مثل "خَفْ "لمَّا سكنت اللام حملاً للأمر على المجزوم ، التقى ساكنان فحذفت العين لذلك ، فوزنه على هذا فَلْ ، وبهذا التقدير قرأ نافعٌ ، وابن عامر "سَالَ سَائِلٌ "على وزن "قال " ، "وكان ".
والثاني : أن تكون من سأل بالهمز.
قال قطربٌ : سأَلَ يَسْأَلُ مثل زَأر الأسد يَزْأَرُ ، والأصل : اسأل ثم ألقيت حركة الهمزة على السِّين ، تخفيفاً ، واعتددنا بحركة النقل ، فاستغنينا عن همزة الوصل فحذفناها ، ووزنه أيضاً فَلْ بحذف العين ، وإن اختلف المأخذ.
وروى عباس عن أبي عمرو : "اسْأَلْ "على الأصل من غير نقلٍ. وقرأ قوم : "اسَلْ "بالنقل وهمزة الوصل ، كأنَّهم لم يعتدُّوا بالحركة المنقولة كقولهم : "الَحْمر "بالهمز.
وقرأ بعضهم "سَلْ بَنِي إسْرَائِيلَ "بغير همزٍ ، وقرأوا {واسأل القرية} {يوسف : 82 ] {فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب} {يونس : 94 ] {واسألوا الله مِن فَضْلِهِ} {النساء : 32 ] بالهمزة ، وقرأ الكسائيُّ الكلَّ بغير همزٍ اتِّباعاً للمصحف ، فإنَّ الألف ساقطةٌ فيها أجمع. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 488}
قال الماوردى :
وفي المراد بسؤاله بني إسرائيل ، ثلاثة أقاويل :
أحدها : أنبياؤهم.
والثاني : علماؤهم.
والثالث : جميعهم. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 269}
قال ابن عاشور : (5/169)
والمأمور بالسؤال هو الرسول ؛ لأنه الذي يترقب أن يجيبه بنو إسرائيل عن سؤاله ؛ إذ لا يعبأون بسؤال غيره ؛ لأن المراد بالسؤال سؤال التقرير للتقريع ، ولفظ السؤال يجيء لما تجيء له أدوات الاستفهام. والمقصود من التقرير إظهار إقرارهم لمخالفتهم لمقتضى الآيات فيجيء من هذا التقرير التقريعُ فليس المقصود تصريحهم بالإقرار ؛ بل مجرد كونهم لا يسعهم الإنكار.
والمراد بـ ( بني إسرائيل ) الحاضرون من اليهود. والضمير في {آتيناهم} لهم ، والمقصود إيتاء سلفهم ؛ لأن الخصال الثابتة لأسلاف القبائل والأمم ، يصح إثباتها للخلف لترتب الآثار للجميع كما هو شائع في مصطلح الأمم الماضية من العرب وغيرهم. ويجوز أن يكون معنى إيتائهم الآيات أنهم لما تناقلوا آياتِ رسلهم في كتبهم وأيقنوا بها فكأنهم أوتوها مباشرة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 289}
سؤال : لم خص الإيتاء بأهل الكتاب مع عمومه للكل ؟
الجواب : تخصيص إيتاء المعجزات بأهل الكتاب مع عمومه للكل لأنهم أعلم من غيرهم بالمعجزات وكيفية دلالتها على الصدق لعلمهم بمعجزات الأنبياء السابقة. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 99}
قوله تعالى : {مِّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ }
قال الفخر :
قوله : {مِّنْ آيَةٍ بَيّنَةٍ} فيه قولان أحدها : المراد به معجزات موسى عليه السلام ، نحو فلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى ، ونتق الجبل ، وتكليم الله تعالى لموسى عليه السلام من السحاب ، وإنزال التوراة عليهم ، وتبيين الهدى من الكفر لهم ، فكل ذلك آيات بينات.
والقول الثاني : أن المعنى ؛ كم آتيناهم من حجة بينة لمحمد عليه الصلاة والسلام ، يعلم بها صدقه وصحة شريعته. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 4}
قوله تعالى : {وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ}
المناسبة
قال البقاعى :(5/170)
ولما كان التقدير : فكانوا إذا بدلوا شيئاً من آياتنا واستهانوا به عاقبناهم فشددنا عقابهم ، كما دل عليه ما سقته من التوراة في هذا الديوان لمن تدبر عطف عليه قوله : {ومن يبدل} من التبديل وهو تصيير الشيء على غير ما كان {نعمة الله} أي الذي لا نعمة إلا منه التي هي سبب الهدى فيجعلها سبباً لضلال أو سبباً لشكر فيجعلها سبب الكفر كائناً من كان. قال الحرالي : وأصل هذا التبديل رد علم العالم عليه ورد صلاح الصالح إليه وعدم الاقتداء بعلم العالم والاهتداء بصلاح الصالح وذلك المشاركة التي تقع بين العامة وبين العلماء والصلحاء وهو كفر نعمة الله وتبديلها - انتهى.
ولما كان الفطن من الناس يستجلب النعم قبل إتيانها إليه والجامد الغبي يغتبط بها بعد سبوغها عليه وكان المحذور تبديلها في وقت ما لا في كل وقت قال تعالى : {من بعد ما جآءته} أي وتمكن من الرسوخ في علمها تنبيهاً على أن من بدلها في تلك الحال فقد سفل عن أدنى الإنسان والتحق بما لا يعقل من الحيوان. ولما كان التقدير : يهلكه الله ، علله بقوله : {فإن الله} أي العظيم الشأن {شديد العقاب} وهو عذاب يعقب الجرم ، وذكر بعض ما يدل على صدق الدعوى في معرفة بني إسرائيل بما في ظهور المجد في الغمام من الرعب وما آتاهم من الآيات البينات ،
(5/171)
قال في أوائل السفر الخامس من التوراة : فاسمعوا الآن يا بني إسرائيل السنن والأحكام التي أعلمكم لتعملوا بها وتعيشوا وتدخلوا وترثوا الأرض التي يعطيكم الله رب آبائكم ، لا تزيدوا على الوصية التي أوصيكم بها ، قد رأيتم ما صنع الله ببعلصفون من أجل أن كل رجل اتبع بعلصفون أهلكه الله ربكم من بينكم وأنتم الذين تبعتم الله ربكم أنتم أحياء - سالمون إلى اليوم ، انظروا أني قد علمتكم السنن والأحكام كما أمرني الله لتعملوا بها الأرض التي تدخلونها وتحفظوها وتعملوا بها ، لأنها حكمتكم وفهمكم تجاه الشعوب التي تسمع منكم هذه السنن كلها ويقولون إذا سمعوها : ما أحكم هذا الشعب العظيم! وما أحسن فهمه! أي شعب عظيم إلهه قريب منه مثل الله ربنا فيما دعوناه! وأي شعب عظيم له سنن وأحكام معتدلة مثل هذه السنة التي أتلو عليكم اليوم! ولكن احتفظوا واحترسوا بأنفسكم ولا تنسوا جميع الآيات التي رأيتم ولا تزل عن قلوبكم كل أيام حياتكم بل علموها بنيكم وبني بنيكم وأخبروهم بما رأيتم يوم وقفتم أمام الله ربكم في حوريب يوم قال الرب : اجمع هذا الشعب أمامي لأسمعهم آياتي ويتعلموا أن يتقوني كل أيام حياتهم على الأرض ويعلموا بنيهم أيضاً وتقدمتم وقمتم في سفح الجبل والجبل يشتعل ناراً يرتفع لهيبها إلى جو السماء ورأيتم الظلة والضباب والسحاب فكلمكم الرب في الجبل من النار ، كنتم تسمعون صوت الكلام ولم تكونوا ترون شبهاً ، فأظهر لكم عهده وأمركم أن تعلموا العشر آيات.
(5/172)
وكتبها على لوحين من حجارة ، احترسوا واحتفظوا بأنفسكم جداً لأنكم لم تروا شبهاً في اليوم الذي كلمكم الله ربكم من الجبل من النار ، احتفظوا ، لا تفسدوا ولا تتخذوا أصناماً وأشباهها من كل جنس شبه ذكر أو أنثى أو شبه بهيمة في الأرض أو شبه كل طير في الهواء أو شبه كل هوام الأرض ، ولا ترفعوا أعينكم إلى السماء وتنظروا إلى الشمس والقمر والكواكب وإلى كل أجناد السماء وتضلوا بها وتسجدوا لها وتعبدوها ، التي اتخذها جميع الشعوب الذين تحت السماء ؛ فأما أنتم فقربكم الله وأخرجكم من كور الحديد من أرض مصر لتصيروا له ميراثاً كاليوم - هذا نصه وقد تقدم ذلك مستوفى من السفر الثاني من التوراة عند قوله تعالى : {وإذ استسقى موسى لقومه} {البقرة : 60 ] فكان الرجوع إلى قص ما يريد الله سبحانه وتعالى من أحوال بني إسرائيل للأغراض الماضية على غاية ما يكون من الأحكام وفي الذروة العليا من حسن الانتظام وتجلي الملائكة في ظلل الغمام أمر مألوف منه ما في الصحيح عن البراء رضي الله تعالى عنه قال :
" كان رجل يقرأ سورة الكهف وإلى جانبه حصان مربوط بشطنين فتغشته سحابة فجعلت تدنو وتدنو وجعل فرسه ينفر ؛ فلما أصبح أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فذكر له ، فقال : تلك السكينة تنزلت بالقرآن "وعن عمران بن حصين رضي الله تعالى عنه "أنه بينما هو يقرأ سورة البقرة وفرسه مربوط عنده إذ جالت الفرس ، فسكت وسكنت ، ثم قرأ فجالت ، فانصرف ؛ فلما أصبح حدث النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وقال : فرفعت رأسي إلى السماء فإذا مثل الظلة فيها أمثال المصابيح فرفعت حتى لا أراها ، قال : وتدري ما ذاك ؟ قال : لا ، قال : تلك الملائكة دنت لصوتك ، ولو قرأت لأصبحت ينظر الناس إليها لا تتوارى منهم ". أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 390 ـ 392}
قال القرطبى : (5/173)
قوله تعالى : {وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ} لفظ عام لجميع العامة ، وإن كان المشار إليه بني إسرائيل ؛ لكونهم بدّلوا ما في كتبهم وجحدوا أمر محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؛ فاللفظ منسحب على كل مبدّل نعمة الله تعالى. وقال الطبريّ : النعمة هنا الإسلام ؛ وهذا قريب من الأوّل. ويدخل في اللفظ أيضاً كفّار قريش ؛ فإن بعث محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيهم نعمة عليهم ؛ فبدّلوا قبولها والشكر عليها كفراً. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 28}
قال ابن عاشور :
وقوله : {ومن يبدل نعمة الله} تذييل لجملة {سل بني إسرائيل كم آتيناهم} الخ ، أفاد أن المقصود أولاً من هذا الوعيدِ هم بنو إسرائيل المتحدث عنهم بقوله : {سل بني إسرائيل} ، وأفاد أن بني إسرائيل قد بدَّلوا نعمة الله تعالى فدل ذلك على أن الآيات التي أوتيها بنو إسرائيل هي نعم عليهم وإلاَّ لما كان لتذييل خبرهم بحكم من يبدِّل نعم الله مناسبة وهذا مما يقصده البلغاء ، فيغني مثلُه في الكلام عن ذكر جمل كثيرة إيجازاً بديعاً من إيجاز الحذف وإيجاز القصر معاً ؛ لأنه يفيد مفاد أن يقال كم آتيناهم من آية بينة هي نعمة عليهم فلم يقدروها حق قدرها ، فبدلوا نعمة الله بضدها بعد ظهورها فاستحقوا العقاب ، لأن من يبدِّل نعمة الله فالله معاقبه ، ولأنه يفيد بهذا العموم حكماً جامعاً يشمل المقصودين وغيرَهم ممن يشبههم ولذلك يكون ذكر مثل هذا الكلام الجامع بعد حكم جزئي تقدمه في الأصل تعريضاً يشبه التصريح ، ونظيره أن يحدثك أحد بحديث فتقول فعل الله بالكاذبين كذا وكذا تريد أنه قد كذب فيما حدثك وإلاّ لما كان لذلك الدعاء عند سماع ذلك الحديث موقع. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 291}
قال ابن الجوزى :
وفي معنى تبديلها ثلاثة أقوال. أحدها : أنه الكفر بها ، قاله أبو العالية ومجاهد.
والثاني : تغيير صفة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التوراة. قاله أبو سليمان الدمشقي.(5/174)
والثالث : تعطيل حجج الله بالتأويلات الفاسدة. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 227}
قال الفخر :
في نعمة الله ههنا قولان أحدهما : أن المراد آياته ودلائله وهي من أجل أقسام نعم الله لأنها أسباب الهدى والنجاة من الضلالة ، ثم على هذا القول في تبديلهم إياها وجهان فمن قال المراد بالآية البينة معجزات موسى عليه السلام ، قال : المراد بتبديلها أن الله تعالى أظهرها لتكون أسباب هداهم فجعلوها أسباب ضلالاتهم كقوله : {فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ} {التوبة : 125 ] ومن قال : المراد بالآية البينة ما في التوراة والإنجيل من دلائل نبوة محمد عليه السلام ، قال : المراد من تبديلها تحريفها وإدخال الشبهة فيها.
والقول الثاني : المراد بنعمة الله ما آتاهم الله من أسباب الصحة والأمن والكفاية والله تعالى هو الذي أبدل النعمة بالنقمة لما كفروا ، ولكن أضاف التبديل إليهم لأنه سبب من جهتهم وهو ترك القيام بما وجب عليهم من العمل بتلك الآيات البينات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 4}
سؤال : لم أثبت للآيات أنها نعم ؟
الجواب : وإنما أثبت للآيات أنها نعم لأنها إن كانت دلائل صدق الرسول فكونها نعماً لأن دلائل الصدق هي التي تهدي الناس إلى قبول دعوة الرسول عن بصيرة لمن لم يكن اتبعه ، وتزيد الذين اتبعوه رسوخ إيمان قال تعالى : {فأما الذين آمنوا فزادتهم إيماناً} {التوبة : 124 ] وبذلك التصديق يحصل تلقى الشرع الذي فيه صلاح الدنيا والآخرة وتلك نعمة عاجلة وآجلة ، وإن كانت الآيات الكلامَ الدال على البشارة بالرسول فهي نعمة عليهم ، لأنها قصد بها تنوير سبيل الهداية لهم عند بعثة الرسول لئلا يترددوا في صدقه بعد انطباق العلامات التي ائتمنوا على حفظها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 291}
سؤال : لم سمى الله تعالى كفر النعمة تبديلا لها ؟ (5/175)
الجواب : سمى الله تعالى كفر النعمة تبديلا لها ، لأن من أنعم الله عليه نعمة دينية أو دنيوية ، فلم يشكرها ، ولم يقم بواجبها ، اضمحلت عنه وذهبت ، وتبدلت بالكفر والمعاصي ، فصار الكفر بدل النعمة ، وأما من شكر الله تعالى ، وقام بحقها ، فإنها تثبت وتستمر ، ويزيده الله منها. أ هـ {تفسير السعدى صـ 95}
قوله تعالى : {مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ }
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} فإن فسرنا النعمة بإيتاء الآيات والدلائل كان المراد من قوله : {مِن بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ} أي من بعد ما تمكن من معرفتها ، أو من بعد ما عرفها كقوله تعالى : {ثُمَّ يُحَرّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} {البقرة : 75 ] لأنه إذا لم يتمكن من معرفتها أو لم يعرفها ، فكأنها غائبة عنه ، وإن فسرنا النعمة بما يتعلق بالدنيا من الصحة والأمن والكفاية ، فلا شك أن عند حصول هذه الأسباب يكون الشكر أوجب فكان الكفر أقبح ، فلهذا قال : {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 4}
فائدة
قال ابن عاشور :
وقوله : {من بعد ما جاءته} المجيء فيه كناية عن الوضوح والمشاهدة والتمكن ، لأنها من لوازم المجيء عرفاً.(5/176)
وإنما جعل العقاب مترتباً على التبديل الواقع بعد هذا التمكن للدلالة على أنه تبديل عن بصيرة لا عن جهل أو غلط كقوله تعالى فيما تقدم : {ثم يحرقونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون} {البقرة : 75 ]. وحذف ما بدل به النعمة ليشمل جميع أحوال التبديل من كتم بعضها والإعراض عن بعض وسوء التأويل. والعقاب ناشىء عن تبديل تلك النعم في أوصافها أو في ذواتها ، ولا يكون تبديلها إلاّ لقصد مخالفتها ، وإلاّ لكان غير تبديل بل تأييداً وتأويلاً ، بخلاف قوله تعالى : {ألم تر إلى الذين بدلوا نعمت الله كفراً} {إبراهيم : 28 ] لأن تلك الآية لم يتقدم فيها ما يؤذن بأن النعمة ما هي ولا تؤذن بالمستبدل به هنالك فتعين التصريح بالمستبدل به ، والمبدلون في تلك الآية غير المراد من المبدلين في هذه ، لأن تلك في كفار قريش بدليل قوله بعدها : {وجعلوا لله أنداداً} {إبراهيم : 30 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 292}
قوله تعالى : {فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب }
قال الواحدي رحمه الله تعالى : وفيه إضمار ، والمعنى شديد العقاب له ، وأقول : بين عبد القاهر النحوي في كتاب "دلائل الإعجاز" أن ترك هذا الإضمار أولى ، وذلك لأن المقصود من الآية التخويف بكونه في ذاته موصوفاً بأنه شديد العقاب ، من غير التفات إلى كونه شديد العقاب لهذا أو لذلك ، ثم قال الواحدي رحمه الله : والعقاب عذاب يعقب الجرم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 5}
وقال ابن عاشور : (5/177)
وقوله : {فإن الله شديد العقاب} دليل جواب الشرط وهو علته ، لأن جعل هذا الحكم العام جواباً للشرط يعلم منه أن من ثبت له فعل الشرط يدخل في عموم هذا الجواب ، فكون الله شديد العقاب أمر محقق معلوم فذِكره لم يقصد منه الفائدة لأنها معلومة بل التهديد ، فعلم أن المقصود تهديد المبدِّل فدل على معنى : فالله يعاقبه ، لأن الله شديد العقاب ، ومعنى شدة عقابه : أنه لا يفلت الجاني وذلك لأنه القادر على العقاب ، وقد جُوّز أن يكون فإن الله شديد العقاب نفسَ جواب الشرط بجعل أل في العقاب عوضاً عن الضمير المضاف إليه أي شديدُ معاقبِته.
وإظهار اسم الجلالة هنا مع أن مقتضى الظاهر أن يقال : فإنه شديد العقاب ، لإدخال الرَّوْع في ضمير السامع وتربية المهابة ، ولتكون هذه الجملة كالكلام الجامع مستقلاً بنفسه ، لأنها بمنزلة المثل أمر قد علمه الناس من قبل ، والعقاب هو الجزاء المؤلم عن جناية وجرم ، سمي عقاباً لأنه يعقب الجناية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 293}
فائدة
قال أبو حيان :
ذكر بعض من جمع في التفسير : أن هذه الآية : {سل بني إسرائيل} مؤخرة في التلاوة ، مقدمة في المعنى ، والخطاب للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قال : والتقدير : فإن زللتم إلى آخر الآية : سل يا محمد بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة فما اعتبروا ولا أذعنوا إليها ، هل ينظرون إلا أن يأتيهم الله ؟ أي : أنهم لا يؤمنون حتى يأتيهم الله. انتهى.(5/178)
ولا حاجة إلى ادّعاء التقديم والتأخير ، بل هذه الآية على ترتبها أخذ بعضها بعنق بعض ، متلاحمة التركيب ، واقعة مواقعها ، فالمعنى : أنهم أمروا أن يدخلوا في الإسلام ، ثم أخبروا أن من زلّ جازاه الله العزيز الذي لا يغالب ، الحكيم الذي يضع الأشياء مواضعها ، ثم قيل : لا ينتظرون في إيمانهم إلاَّ ظهور آيات بينات ، عناداً منهم ، فقد أتتهم الآيات ، ثم سلَّى نبيه ـ صلى الله عليه وسلم ـ في استبطاء إيمانهم مع ما أتى به لهم من الآيات ، بقوله : {سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة} فما آمنوا بها بل بدلوا وغيروا ، ثم توعد من بدل نعمة الله بالعقاب الشديد ، فأنت ترى هذه المعاني متناسقة مرتبة الترتيب المعجز ، باللفظ البليغ الموجز ، فدعوى التقديم والتأخير المختص بضرورة الأشعار ، وبنظم ذوي الانحصار ، منزه عنها كلام الواحد القهار. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 138}
فائدة أخرى
قال ابن التمجيد وتبديل النعمة جرم بغير علم ومع العلم أشد جرما ولذلك كان وعيد العلماء المقصرين أشد من الجاهلين بالأحكام لأن الجهل قد يعذر به وان كان الاعتذار به غير مقبول فى باب التكاليف. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 405 ـ 406}(5/179)
قوله تعالى : {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تقدم من الأمر بالسلم والتهديد على الزلل عنه ما يقتضي لزومه حتماً كان كأنه قيل : ما فعل من خوطب بهذه الأوامر وقمع بتلك الزواجر ؟ فقيل : أبى أكثرهم ، فقيل : إن هذا لعجب! ما الذي صدهم ؟ فقيل : تقدير العزيز الذي لا يخالف مراده الحكيم الذي يدق عن الأفكار استدراجه ، فقيل : كيف يتصور من العاقل كفر النعمة ؟ فبين أن سبب ذلك غالباً الترفع والتعظم والكبر والبطر فرحاً بما في اليد وركوناً إليه وإعراضاً عما خبىء في خزائن الله في حجب القدرة فقال مستأنفاً بانياً للمفعول دلالة على ضعف عقولهم بأنهم يغترون بكل مزين {زين} قال الحرالي : من التزيين بما منه الزينة. وهي بهجة العين التي لا تخلص إلى باطن المزين - انتهى. {للذين كفروا} حتى بدلوا النعمة {الحياة الدنيا} لحضورها فألهتهم عن غائب الآخرة. قال الحرالي : ففي ضمنه إشعار بأن استحسان بهجة الدنيا كفر ما من حيث إن نظر العقل والإيمان يبصر طيتها ويشهد جيفتها فلا يغتر بزينتها وهي آفة الخلق في انقطاعهم عن الحق ، وأبهم تعالى المزين في هذه الآية ليشمل أدنى التزيين الواقع على لسان الشيطان وأخفى التزيين الذي يكون من استدراج الله كما في قوله تعالى : {كذلك زينا لكل أمة عملهم} {الأنعام : 108 ].(5/180)
ولما ذكر ذلك بين حالهم عنده فقال : {ويسخرون} أي والحال أنهم لا يزالون يسخرون أي يوقعون السخرية ، وهي استزراء العقل هزؤاً. وقال الحرالي : هي استزراء العقل معنى بمنزلة الاستسخار في الفعل حساً {من الذين آمنوا} لما هم فيه من الضعف والحاجة لإعراضهم عن الدنيا رغبة فيما عند الله لما وهبهم الله سبحانه وتعالى من العلم الخارق لتلك الحجب الكاشف لأستار المغيب ولأن الله يزوي عنهم الدنيا ويحميهم منها رغبة بهم عنها لكرامتهم عليه كما يحمي الإنسان حبيبه الطعام والشراب إن كان مريضاً لكرامته عليه فصار الكفار بهذا التزيين مع ما بوأناهم من الهوان بأنواع التهديد التي لا مرية في قدرتنا عليها مشغولين بلعاعة من العيش فهم راضون بأحوالهم مسرورون بها بحيث إنهم لا ينظرون في عاقبة بل مع الحالة الراهنة فيهزؤون بأهل الحق متعامين عن البينات معرضين عن التهديد تاركين الاستبصار بأحوال بني إسرائيل. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 392}
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما ذكر من قبل حال من يبدل نعمة الله من بعدما جاءته وهم الكفار الذين كذبوا بالدلالة والأنبياء وعدلوا عنها أتبعه الله تعالى بذكر السبب الذي لأجله كانت هذه طريقتهم فقال : {زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا} ومحصول هذا الكلام تعريف المؤمنين ضعف عقول الكفار والمشركين في ترجيح الفاني من زينة الدنيا على الباقي من درجات الآخرة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 5}
سؤال : لم حُذِف فاعل التزيين ؟ (5/181)
الجواب : وحُذِف فاعل التزيين لأن المزيِّن لهم أمورٌ كثيرة : منها خلْقُ بعض الأشياء حسنة بديعة كمحاسن الذوات والمناظر ، ومنها إلقاء حُسن بعض الأشياء في نفوسهم وهي غير حسنة كقتل النفس ، ومنها إعراضهم عمن يدعوهم إلى الإقبال على الأمور النافعة حتى انحصرت هممهم في التوغل من المحاسن الظاهرة التي تحتها العار لو كان بادياً ، ومنها ارتياضهم على الانكباب على اللذات دون الفكر في المصالح ، إلى غير ذلك من أمور يصلح كل منها أن يُعدَّ فاعلاً للتزيين حقيقة أو عرفاً ، فلأجل ذلك طوي ذكر هذا الفاعل تجنباً للإطالة.
ويجوز أن يكون حذف الفاعل لدقته ، إذ المزيِّن لهم الدنيا أمر خفي فيُحتاج في تفصيله إلى شرح في أخلاقهم وهو ما اكتسبته نفوسهم من التعلق باللذات وبغيرها من كل ما حملهم على التعلق به التنافسُ أو التقليدُ حتى عَمُوا عما في ذلك من الأضرار المخالطة للذَّات أو من الأضرار المختصة المغَشَّاة بتحسين العادات الذميمة ، وحملهم على الدوام عليه ضعفُ العزائم الناشىء عن اعتياد الاسترسال في جلب الملائمات دون كبح لأزمة الشهوات ، ولأجل اختصاصهم بهذه الحالة دون المؤمنين ودون بعض أهل الكتاب الذين ربَّتْ الأديان فيهم عزيمة مقاومةِ دعوة النفوس الذميمة بتعريفهم ما تشتمل عليه تلك اللذات من المذمات وبأمرهم بالإقلاع عن كل ما فيه ضر عاجل أو آجل حتى يجردوها عنها إن أرادوا تناولها وينبذوا ما هو ذميمة محضة ، وراضتهم على ذلك بالبشائر والزواجر حتى صارت لهم ملكة ، فلذلك لم تزين الدنيا لهم ، لأن زينتها عندهم ومعرضة للحكم عليها بالإثبات تارة وبالنفي أخرى ، فإن من عرف ما في الأمر الزين ظاهرُه من الإضرار والقبائح انقلب زينه عنده شَينا. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 294}
سؤال : لم لم يقل : زينت ؟ (5/182)
الجواب : إنما لم يقل : زينت لوجوه أحدها : وهو قول الفراء : أن الحياة والإحياء واحد ، فإن أنث فعلى اللفظ ، وإن ذكر فعلى المعنى كقوله : {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ مّنْ رَّبّهِ} {البقرة : 275 ] ، {وَأَخَذَ الذين ظَلَمُواْ الصيحة} {هود : 67 ] وثانيها : وهو قول الزجاج أن تأنيث الحياة ليس بحقيقي ، لأنه ليس حيواناً بإزائه ذكر ، مثل امرأة ورجل ، وناقة وجمل ، بل معنى الحياة والعيش والبقاء واحد فكأنه قال : زين للذين كفروا الحياة الدنيا والبقاء وثالثها : وهو قول ابن الأنباري : إنما لم يقل : زينت ، لأنه فصل بين زين وبين الحياة الدنيا ، بقوله : {لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} وإذا فصل بين فعل المؤنث وبين الاسم بفاصل ، حسن تذكير الفعل ، لأن الفاصل يغني عن تاء التأنيث.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 5}
سؤال : لم خُص التزيين بهم ؟
الجواب : خُص التزيين بهم ، إذ المراد من قوله : {زين للذين كفروا} ذمُّهم والتحذير من خلقهم ، ولهذا لزم حمل التزيين على تزييين يعد ذماً ، فلزم أن يكون المراد منه تزييناً مشوباً بما يجعل تلك الزينة مذمة ، وإلاّ فإن أصل تزيين الحياة الدنيا المقتضي للرغبة فيما هو زينُ أمرٍ ليس بمذموم إذا روعى فيه ما أوصى الله برعيه قال تعالى :
{ قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق} {الأعراف : 32 ].
وقد استقريْتُ مواقع التزيين المذموم فحصرتها في ثلاثة أنواع : الأول ما ليس بزين أصلاً لا ذاتاً ولا صفة ، لأن جميعه ذم وأذى ولكنه زين للناس بأوهام وخواطر شيطانية وتخييلات شعرية كالخمر.
الثاني ما هو زين حقيقة لكن له عواقب تجعله ضراً وأذى كالزنا.
الثالث ما هو زين لكنه يحف به ما يصيره ذميماً كنجدة الظالم وقد حضر لي التمثيل لثلاثتها بقول طرفة :
ولولا ثلاثٌ هُنَّ من عيشة الفتى... وجَدِّك لم أَحْفَلْ متى قام عُوَّدِي(5/183)
فمنهن سَبْقي العاذِلاَت بشَربة... كُمَيْتتٍ متى ما تُعْلَ بالماءِ تُزْبِدِ
وتقصيرُ يوم الدَّجْننِ والدَّجْنُ مُعْجِبٌ... بَبْهكَنَةٍ تحتَ الخِبَاءِ المُعَمَّد
وكَرِّي إذا نادَى المضافُ مُجَنَّباً... كَسِيدِ الغَضَا نَبَّهْتَه المُتَوَرِّدِ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 295}
وقال القرطبى :
وخص الذين كفروا بالذكر لقبولهم التزيين جملة ؛ وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن الآخرة بسببها. وقد جعل الله ما على الأرض زينة لها ليبلو الخلق أيهم أحسن عملاً ؛ فالمؤمنون الذين هم على سنن الشرع لم تفتنهم الزينة ، والكفار تملكتهم لأنهم لا يعتقدون غيرها. وقد قال أبو بكر الصِّدّيق رضي الله عنه حين قُدم عليه بالمال : اللّهمّ إنا لا نستطيع إلا أن نفرح بما زيّنت لنا. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 29}
سبب نزول الآية
قال الفخر :
ذكروا في سبب النزول وجوهاً :
فالرواية الأولى : قال ابن عباس : نزلت في أبي جهل ورؤساء قريش ، كانوا يسخرون من فقراء المسلمين ، كعبد الله بن مسعود ، وعمار ، وخباب ، وسالم مولى أبي حذيفة ، وعامر بن فهيرة وأبي عبيدة بن الجراح بسبب ما كانوا فيه من الفقر والضرر والصبر على أنواع البلاء مع أن الكفار كانوا في التنعم والراحة.
والرواية الثانية : نزلت في رؤساء اليهود وعلمائهم من بني قريظة والنضير وبني قينقاع ، سخروا من فقراء المسلمين المهاجرين ، حيث أخرجوا من ديارهم وأموالهم.
والرواية الثالثة : قال مقاتل : نزلت في المنافقين عبد الله بن أبي وأصحابه ، كانوا يسخرون من ضعفاء المسلمين وفقراء المهاجرين ، واعلم أنه لا مانع من نزولها في جميعهم.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 6}
فصل
قال الفخر : (5/184)
اختلفوا في كيفية هذا التزيين ، أما المعتزلة فذكروا وجوهاً أحدها : قال الجبائي : المزين هو غواة الجن والإنس ، زينوا للكفار الحرص على الدنيا ، وقبحوا أمر الآخرة في أعينهم ، وأوهموا أن لا صحة لما يقال من أمر الآخرة ، فلا تنغصوا عيشتكم في الدنيا قال : وأما الذي يقوله المجبرة من أنه تعالى زين ذلك فهو باطل ، لأن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه فإن كان المزين هو الله تعالى ، فإما أن يكون صادقاً في ذلك التزين ، وإما أن يكون كاذباً ، فإن كان صادقاً وجب أن يكون مازينه حسناً ، فيكون فاعله المستحسن له مصيباً وذلك يوجب أن الكافر مصيب في كفره ومعصيته ، وهذا القول كفر ، وإن كان كاذباً في ذلك التزيين أدى ذلك إلى أن لا يوثق منه تعالى بقول ولا خبر ، وهذا أيضاً كفر ، قال : فصح أن المراد من الآية أن المزين هو الشيطان ، هذا تمام كلام أبي علي الجبائي في "تفسيره".
(5/185)
وأقول هذا ضعيف لأن قوله تعالى : {زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} يتناول جميع الكفار ، فهذا يقتضي أن يكون لجميع الكفار مزين ، والمزين لجميع الكفار لا بد وأن يكون مغايراً لهم ، إلا أن يقال : إن كل واحد منهم كان يزين للآخر ، وحينئذ يصير دوراً فثبت أن الذين يزين الكفر لجميع الكفار لا بد وأن يكون مغايراً لهم ، فبطل قوله : إن المزين هم غواة الجن والإنس ، وذلك لأن هؤلاء الغواة داخلون في الكفار أيضاً ، وقد بينا أن المزين لا بد وأن يكون غيرهم ، فثبت أن هذا التأويل ضعيف ، وأما قوله : المزين للشيء هو المخبر عن حسنه فهذا ممنوع ، بل المزين من يجعل الشيء موصوفاً بالزينة ، وهي صفات قائمة بالشيء باعتبارها يكون الشيء مزيناً ، وعلى هذا التقدير سقط كلامه ، ثم إن سلمنا أن المزين للشيء هو المخبر عن حسنه ، فلم لا يجوز أن يقال : الله تعالى أخبر عن حسنه ، والمراد أنه تعالى أخبر عما فيها من اللذات والطيبات والراحات ، والإخبار عن ذلك ليس بكذب ، والتصديق بها ليس بكفر ، فسقط كلام أبي علي في هذا الباب بالكلية.
التأويل الثاني : قال أبو مسلم : يحتمل في {زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ} أنهم زينوا لأنفسهم والعرب يقولون لمن يبعد منهم : أين يذهب بك لا يريدون أن ذاهباً ذهب به وهو معنى قوله تعالى في الآي الكثيرة : {أنى يُؤْفَكُونَ} {المائدة : 75 ، التوبة : 30 ، المنافقون : 4 ] ، {أنى يُصْرَفُونَ} {غافر : 69 ] إلى غير ذلك ، وأكده بقوله تعالى : {ياأيها الذين ءَامَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أموالكم وَلاَ أولادكم عَن ذِكْرِ الله} {المنافقون : 9 ] فأضاف ذلك إليهما لما كانا كالسبب ، ولما كان الشيطان لا يملك أن يحمل الإنسان على الفعل قهراً فالإنسان في الحقيقة هو الذي زين لنفسه ، واعلم أن هذا ضعيف ، وذلك لأن قوله : {زُيّنَ} يقضي أن مزيناً زينه ، والعدول عن الحقيقة إلى المجاز غير ممكن.
(5/186)
التأويل الثالث : أن هذا المزين هو الله تعالى ويدل على صحة هذا التأويل وجهان أحدهما : قراءة من قرأ {زُيّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا} على البناء للفاعل الثاني : قوله تعالى : {إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً} {الكهف : 7 ] ثم القائلون بهذا التأويل ذكروا وجوهاً الأول : يمتنع أن يكون تعالى هو المزين بما أظهره في الدنيا من الزهرة والنضارة والطيب واللذة ، وإنما فعل ذلك ابتلاء لعباده ، ونظيره قوله تعالى : {زُيّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} {آل عمران : 14 ] إلى قوله : {قُلْ أَؤُنَبّئُكُمْ بِخَيْرٍ مّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبّهِمْ جنات} {آل عمران : 15 ] وقال أيضاً : {المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلاً }
[ الكهف : 46 ] وقالوا : فهذه الآيات متوافقة ، والمعنى في الكل أن الله جل جلاله جعل الدنيا دار ابتلاء وامتحان ، فركب في الطباع الميل إلى اللذات وحب الشهوات لا على سبيل الإلجاء الذي لا يمكن تركه ، بل على سبيل التحبيب الذي تميل إليه النفس مع إمكان ردها عنه ليتم بذلك الإمتحان ، وليجاهد المؤمن هواه فيقصر نفسه على المباح ويكفها عن الحرام الثاني : أن المراد من التزيين أنه تعالى أمهلهم في الدنيا ، ولم يمنعهم عن الإقبال عليها ، والحرص الشديد في طلبها ، فهذا الإمهال هو المسمى بالتزيين.
(5/187)
واعلم أن جملة هذه الوجوه التي نقلناها عن المعتزلة يتوجه عليها سؤال واحد وهو أن حصول هذه الزينة في قلوب الكفار لا بد له من محدث وإلا فقد وقع المحدث لا عن مؤثر وهذا محال ثم هذا التزيين الحاصل في قلوب الكفار هل رجح جانب الكفر والمعصية على جانب الإيمان والطاعة أو ما رجح فإن لم يرجح ألبتة بل الإنسان مع حصول هذه الزينة في قلبه كهو لا مع حصولها في قلبه فهذا يمنع كونه تزييناً في قلبه ، والنص دل على أنه حصل هذا التزيين ، وإن قلنا بأن حصول هذا التزيين في قلبه يرجح جانب الكفر والمعصية ، على جانب الإيمان والطاعة ، فقد زال الاختيار لأن حال الإستواء لما امتنع حصول الرجحان ، فحال صيرورة أحد الطرفين مرجوحاً كان أولى بامتناع الوقوع ، وإذا صار المرجح ممتنع الوقوع صار الراجح واجب الوقوع ، ضرورة أنه لا خروج عن النقيضين فهذا هو توجيه السؤال ومعلوم أنه لا يندفع بالوجوه التي ذكرها هؤلاء المعتزلة.
(5/188)
الوجه الثالث : في تقرير هذا التأويل أن المراد : أن الله تعالى زين من الحياة الدنيا ما كان من المباحات دون المحظورات ، وعلى هذا الوجه سقط الإشكال ، وهذا أيضاً ضعيف ، وذلك لأن الله تعالى خص بهذا التزيين الكفار ، وتزيين المباحات لا يختص به الكافر ، فيمتنع أن يكون المراد بهذا التزيين تزيين المباحات ، وأيضاً فإن المؤمن إذا تمتع بالمباحات من طيبات الدنيا يكون تمتعه بها مع الخوف والوجل من الحساب في الآخرة فهو وإن كثر ماله وجاهه فعيشه مكدر منغص ، وأكثر غرضه أجر الآخرة وإنما يعد الدنيا كالوسيلة إليها ، وليس كذلك الكافر ، فإنه وإن قلت ذات يده فسروره بها يكون غالباً على ظنه ، لاعتقاده أنها كمال المقصود دون غيرها ، وإذا كان هذا حاله صح أنه ليس المراد من الآية تزيين المباحات ، وأيضاً أنه تعالى أتبع تلك الآية بقوله : {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءَامَنُواْ} وذلك مشعر بأنهم كانوا يسخرون منهم في تركهم اللذات المحظورة ، وتحملهم المشاق الواجبة ، فدل على أن ذلك التزيين ما وقع في المباحات بل وقع في المحظورات.
وأما أصحابنا فإنهم حملوا التزيين على أنه تعالى خلق في قلبه إرادة الأشياء والقدرة على تلك الأشياء ، بل خلق تلك الأفعال والأحوال ، وهذا بناء على أن الخالق لأفعال العباد ليس إلا الله سبحانه ، وعلى هذا الوجه ظهر المراد من الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 6 ـ 7}(5/189)
( بصيرة فى الزين )
الزِّينة : ما يُتزيَّن به. وكذلك الزِّيان. والزَّين : ضدّ الشَيْن ، والجمع أَزيان. وزانة وأَزانَه وأَزْيَنه بمعنى ، فتزَّين هو وازدان وازَّيَّنَ وازْيَانَّ وازْيَنَّ. وقمرٌ زَيَانٌ : حَسَنٌ ، وامرأَةٌ زائن : متزيّنة.
والزِّينة فى الحقيقة : ما لا يَشين الإِنسانَ فى شىءٍ من أَحواله ، لا فى الدُّنيا ولا فى الآخرة. فأَمّا ما يزينه فى حالة دون حالة فهو من وجهٍ شَيْن.
والزِّينة بالقول المجمل ثلاث : زينة نفسيّة ؛ كالعلم والاعتقادات الحسنة ، وزينة بدنيَّة ، كالقوّة وطول القامة وتناسب الأَعضاءِ. وزينة خارجيّة ؛ كالمال والجاه.
وقوله تعالى : {حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} هو من الزينة النفسيّة. وقوله : {قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ} حُمِل على الزِّينة الخارجيَّة ، وذلك أَنَّه قد رُوى أَنَّ أَقواماً كانوا يطوفون بالبيت عُراةً ، فنُهوا عن ذلك بهذا الآية. وقيل : بل زينة الله فى هذه الآية هى الكَرَم المذكور فى قوله : {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ}.
وقوله : {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ} هى الزينة الدّنيوية : من الأَثاث والمال والجاه.
وقد نسب الله - تعالى - تزيين الأَشياءِ إِلى نفسه فى مواضع ، وإِلى الشيطان فى مواضع ، وفى أَماكن ذكره عن مُسَمَّى فاعلُه. قال - تعالى - فى الإِيمان : {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ} ، وفى الكفر : {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ}. وممّا نسبه إِلى الشيطان : {وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}. ممّا لم يسمَّ فاعله : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ} ، {وَكَذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ} أَى زَيّنَهُ شركاؤهم.
(5/190)
وقوله : {وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ} ، {إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ} ، {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ} إِشارة إِلى الزِّينة المدرَكة بالبصر للخاصّة والعامّة ، وإِلى الزينة المعقولة الَّتى تعرفها الخاصّة ، وذلك إِحكامها وسيرها.
وتزيين الله تعالى للأَشياءِ قد يكون بإِداعها مزيَّنة كذلك. قال الشاعر :
*الرّوض يزدان بالأَنوار فاغِمة * والحُرّ بالبرّ والإِحسان يزدانُ*
وقال آخر :
*وإِذا الدُرّ زان حُسْنَ وجوهٍ * كان للدُرّ حسنُ وجهك زينا*
وقال :
*لكلّ شيى حسن زينة * وزينة العاقل حسن الأَدب*
*قد يشرِّف المرءُ بآدابه * يوماً وإِن كان وضيع النَّسب*
وقد وردت الزِّينة فى القرآن على عشرين وجها :
الأَول : زينة الدّنيا : {وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ}.
الثَّانى : زينة بالملابس : {تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا} أَى ثيابها.
الثالث : زينة ستر العورة : {خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ}.
الرّابع : زينة قارُون بماله ورجاله : {فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ}.
الخامس : زينة النّساء بالْحُلِىّ : {وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ} ، {مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ}.
السادس : زينة العجائز بالثياب الفاخرة : {غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتِ بِزِينَةٍ}.
السابع : زينة العيد : {مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ}.
الثامن : زينة عاريّة القِبْط : {حُمِّلْنَآ أَوْزَاراً مِّن زِينَةِ الْقَوْمِ}.
التاسع : زينة آل فرعون : {آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً}.
العاشر : زينة أَهل الدّنيا فيها : {الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا}.
الحادى عشر : زينة المسافرين بالمراكب : {لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً}.
الثانى عشر : زينة حبّ الشَّهوات : {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ}, أَى حُسِّنَ فى أَعينهم وقلوبهم.
(5/191)
الثانى عشر أيضا : زينة العصيان فى أَعين ذو الخذلان : {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً}.
الثالث عشر : زينة قتل الوِلدان : {وَكَذلك زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ}.
الرابع عشر : زينة الحياة لذوي الطغيان : {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا}.
الخامس عشر : زينة أَحوال الماضين والباقين فى عيون الكفَّار استدراجاً لهم : {فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ}.
السادس عشر : زينة الشَّيطان الضلال لمتَّبعيه : {لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ}. {فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ}.
السابع عشر : زينة الله لأَعدائه خذلانهم : {زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ}.
الثامن عشر : زينة السّماء لأُولى الأَبصار : {وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ}.
التاسع عشر : زينة الأَرض بالنَّبات والرياحين : {أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ} أَى تلوّنت بالأَلوان.
العشرون : زينة الفَلَك بالكواكب : {زَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ}.
الحادى والعشرون : زينة الأَفلاك السّبع بالسّيّارات السّبع : {وَزَيَّنَّا السَّمَآءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ}.
[الثانى والعشرون] : زينة الإِيمان فى قلوب العارفين : {وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ}.
أُنشِدنا لبعض المحدَثين :
*سبحان مَنْ زيّن الأَفلاك بالقمر * وزيّن الأَرض بالأَنهار والشَجَر*
*لا كالسّراج والا كالشَّمس زاهرة * لا كالجواهر والياقوت والدُررِ*
*وجَنَّة الخلد بالأَنوار زيَّنها * والقصرُ زيَّنه بالحُور والسُرُور*
*وزيَّن النفس بالأَعضاءِ مستويا * والرأْس زيَّنه بالسمع والبصر*
*وزيَّن القلبَ بالأَنوار نوّره * لا كالنجوم ولا كالشمس والقمر*. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 1 صـ 343ـ 345}(5/192)
قوله تعالى : {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان الاستسخار بذوي الأقدار مراً وللنفوس مضراً قال تعالى مبشراً بانقلاب الأمر في دار الخلد مرغباً في التقوى بعد الإيمان : {والذين اتقوا} أي آمنوا خوفاً من الله تعالى ، فأخرج المنافقين والذين يمكن دخولهم في الجملة الماضية {فوقهم} في الرزق والرتبة والمكان بدليل {أفيضوا} {الأعراف : 50 ] وآية {إني كان لي قرين} {الصافات : 51 ] وكل أمر سار {يوم القيامة} فهم يضحكون منهم جزاء بما كانوا يفعلون. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 393}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءَامَنُواْ} فقد روينا في كيفية تلك السخرية وجوهاً من الروايات ، قال الواحدي : قوله : {وَيَسْخُرُونَ} مستأنف غير معطوف على زين ، ولا يبعد استئناف المستقبل بعد الماضي ، وذلك لأن الله أخبر عنهم بزين وهو ماض ، ثم أخبر عنهم بفعل يديمونه فقال : {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين ءَامَنُواْ} ومعنى هذه السخرية أنهم كانوا يقولون هؤلاء المساكين تركوا لذات الدنيا وطيباتها وشهواتها ويتحملون المشاق والمتاعب لطلب الآخرة مع أن القول بالآخرة قول باطل ، ولا شك أنه لو بطل القول بالمعاد لكانت هذه السخرية لازمة أما لو ثبت القول بصحة المعاد كانت السخرية منقلبة عليهم لأن من أعرض عن الملك الأبدي بسبب لذات حقيرة في أنفاس معدودة لم يوجد في الخلق أحد أولى بالسخرية منه ، بل قال بعض المحققين الإعراض عن الدنيا ، والإقبال على الآخرة هو الحزم على جميع التقديرات فإنه إن بطل القول بالآخرة لم يكن الفائت إلا لذات حقيرة وأنفاساً معدودة وإن صح القول بالآخرة كان الإعراض عن الدنيا والإقبال على الآخرة أمراً متعيناً فثبت أن تلك السخرية كانت باطلة وأن عود السخرية عليهم أولى.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 7}
وقال ابن عاشور : (5/193)
وجيء في فعل التزيين بصيغة الماضي وفي فعل السخرية بصيغة المضارع قضاءً لحقْي الدلالة على أن معنيين فعل التزيين أمر مستقر فيهم ؛ لأن الماضي يدل على التحقق ، وأن معنى {يسخرون} متكرر متجدد منهم ؛ لأن المضارع يفيد التجدد ويعلم السامع أن ما هو محقق بين الفعلين هو أيضاً مستمر ؛ لأن الشيء الراسخ في النفس لا تفتر عن تكريره ، ويعلم أن ما كان مستمراً هو أيضاً محقق ؛ لأن الفعل لا يستمر إلاّ وقد تمكن من نفس فاعله وسكنت إليه ، فيكون المعنى في الآية : زُيِّن للذين كفروا وتزين الحياة الدنيا وسخروا ويسخرون من الذين آمنوا ، وعلى هذا فإنما اختير لفعل التزيين خصوص المضي ولفعل السخرية خصوص المضارعة إيثاراً لكل من الصفتين بالفعل التي هي به أجدر ؛ لأن التزيين لما كان هو الأسبق في الوجود وهو منشأ السخرية أوثر بما يدل على التحقق ، ليدل على ملكةٍ واعتمد في دلالته على الاستمرار بالاستتباع ، والسخرية لما كانت مترتبة على التزيين وكان تكررها يزيد في الذم ، إذ لا يليق بذي المروءة السخرية بغيره ، أوثرت بما يدل على الاستمرار واعتمد في دلالتها على التحقق دلالة الالتزام ، لأن الشيء المستمر لا يكون إلاّ متحققاً. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 296}
وقوله : ويسخرون من الذين آمنوا عطف على جملة {زين للذين كفروا} إلخ ، وهذه حالة أعجب من التي قبلها وهي حالة التناهي في الغرور ؛ إذ لم يقتصروا على افتتانهم بزهرة الحياة الدنيا حتى سخروا بمن لم ينسج على منوالهم من المؤمنين الذين تركوا كثيراً من زهرة الحياة الدنيا لما هداهم الدين إلى وجوب ترك ذلك في أحوال وأنواع تنطوي على خبائث.(5/194)
والسَخَر بفتحتين : كالفرح وقد تسكن الخاء تخفيفاً وفعله كفرح والسُّخرية الاسم ، وهو تعجب مشوب باحتقار الحال المتعجب منها ، وفعله قاصر لدلالته على وصف نفسي مثل عَجِب ، ويتعدى بمن جارَّة لصاحب الحال المتعجَّب منها فهي ابتدائية ابتداء معنوياً ، وفي لغة تعديته بالباء وهي ضعيفة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 297}
قوله تعالى : {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة }
قال القرطبى : (5/195)
قوله تعالى : {وَيَسْخَرُونَ مِنَ الذين آمَنُواْ} إشَارة إلى كفّار قريش ، فإنهم كانوا يعظِّمون حالهم من الدنيا ويغتبطون بها ، ويسخرون من أتباع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قال ابن جُريج : في طلبهم الآخرة. وقيل : لفقرهم وإقلالهم ؛ كبلال وصُهيب وابن مسعود وغيرهم ؛ رضي الله عنهم. فنبّه سبحانه على خفض منزلتهم لقبيح فعلهم بقوله : {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة}. ورَوى عليّ أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : "من استذل مؤمناً أو مؤمنة أو حَقّره لفقره وقلة ذات يده شهره الله يوم القيامة ثم فضحه ومن بهت مؤمناً أو مؤمنة أو قال فيه ما ليس فيه أقامه الله تعالى على تَلّ من نار يوم القيامة حتى يخرج مما قال فيه وإن عِظَم المؤمن أعظم عند الله وأكرم عليه من مَلَك مقرَّب وليس شيء أحبَّ إلى الله من مؤمن تائب أو مؤمنة تائبة وإن الرجل المؤمن يعرف في السماء كما يعرف الرجل أهله وولده "ثم قيل : معنى {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة} أي في الدرجة ؛ لأنهم في الجنة والكفّار في النار. ويحتمل أن يراد بالفوق المكان ؛ من حيث إن الجنة في السماء ، والنار في أسفل السافلين. ويحتمل أن يكون التفضيل على ما يتضمنه زعم الكفار ؛ فإنهم يقولون : وإن كان مَعادٌ فلنا فيه الحظ أكثر مما لكم ؛ ومنه حديث خبّاب مع العاص ابن وائل ؛ قال خبّاب : كان لي على العاص بن وائل دَيْن فأتيتُه أتقاضاه ؛ فقال لي : لن أقضيَك حتى تكفُرَ بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ. قال فقلت له : إني لن أكفر به حتى تموت ثم تُبعث. قال : وإني لمبعوثٌ مِن بعد الموت ؟ ا فسوف أقضيك إذا رجعتُ إلى مالٍ وولد. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 29}(5/196)
سؤال : فإن قلت : كيفما كان حظ المؤمنين من كثرة التقوى وقلتها إنهم فوق الذين كفروا يوم القيامة بالإيمان والمقام مقام التنويه بفضل المؤمنين فكان الأحق بالذكر هنا وصف "الذين ءَامنوا" قلت : وأما بيان مزية التقوى الذي ذكرته فله مناسبات أخرى.
قلت في الآية تعريض بأن غير المتقين لا تظهر مزيتهم يوم القيامة وإنما تظهر بعد ذلك ، لأن يوم القيامة هو مبدأ أيام الجزاء فغير المتقين لا تظهر لهم التفوق يومئذٍ ، ولا يدركه الكفار بالحس قال تعالى : {فاتقوا النار التي وقودها الناس والحجارة أعدت للكافرين} {البقرة : 24 ] نعم تظهر مزيتهم بعد انقضاء ما قُدِّر لهم من العذاب على الذنوب. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 297 ـ 298}
فائدة
قال أبو السعود :
وإيثارُ الاسمية للدلالة على دوام مضمونِها. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 214}
أسئلة وأجوبة للعلامة الفخر
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة} ففيه سؤالات :
السؤال الأول : لم قال : {مّنَ الذين ءَامَنُوا} ثم قال : {والذين اتقوا} ؟ .
الجواب : ليظهر به أن السعادة الكبرى لا تحصل إلا للمؤمن التقي ، وليكون بعثاً للمؤمنين على التقوى.
السؤال الثاني : ما المراد بهذه الفوقية ؟ .
الجواب : فيه وجوه أحدها : أن يكون المراد بالفوقية الفوقية بالمكان ، لأن المؤمنين يكونون في عليين من السماء والكافرين يكونون في سجين من الأرض وثانيها : يحتمل أن يكون المراد بالفوقية الفوقية في الكرامة والدرجة.
فإن قيل : إنما يقال : فلان فوق فلان في الكرامة ، إذا كان كل واحد منهما في الكرامة ثم يكون أحدهما أزيد حالاً من الآخر في تلك الكرامة ، والكافر ليس له شيء من الكرامة فكيف يقال : المؤمن فوقه في الكرامة.(5/197)
قلنا : المراد أنهم كانوا فوقهم في سعادات الدنيا ثم في الآخرة ينقلب الأمر ، فالله تعالى يعطي المؤمن من سعادات الآخرة ما يكون فوق السعادات الدنيوية التي كانت حاصلة للكافرين ، وثالثها : أن يكون المراد : أنهم فوقهم في الحجة يوم القيامة ، وذلك لأن شبهات الكفار ربما كانت تقع في قلوب المؤمنين ، ثم إنهم كانوا يردونها عن قلوبهم بمدد توفيق الله تعالى ، وأما يوم القيامة فلا يبقى شيء من ذلك ، بل تزول الشبهات ، ولا تؤثر وساوس الشيطان ، كما قال تعالى : {إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين ءَامَنُواْ يَضْحَكُونَ} {المطففين : 29 ] إِلَى قَوله
{ فاليوم الذين ءَامَنُواْ} {المطففين : 34 ] الآية ورابعها : أن سخرية المؤمنين بالكفار يوم القيامة فوق سخرية الكافرين بالمؤمنين في الدنيا لأن سخرية الكافر بالمؤمن باطلة ، وهي مع بطلانها منقضية ، وسخرية المؤمن بالكافر في الآخرة حقة ومع حقيتها هي دائمة باقية.
السؤال الثالث : هل تدل الآية على القطع بوعيد الفساد فإن لقائل أن يقول : إنه تعالى خص الذين اتقوا بهذه الفوقية فالذين لا يكونون موصوفين بالتقوى وجب أن لا تحصل لهم هذه الفوقية وإن لم تحصل هذه الفوقية كانوا من أهل النار.
الجواب : هذا تمسك بالمفهوم ، فلا يكون أقوى في الدلالة من العمومات التي بينا أنها مخصوصة بدلائل العفو. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 8}
قال ابن عاشور : (5/198)
وقوله : {والذين اتقوا فوقهم} أريد من الذين اتقوا المؤمنون الذين سخر منهم الذين كفروا ؛ لأن أولئك المؤمنين كانوا متقين ، وكان مقتضى الظاهر أن يقال وهم فوقهم لكن عُدل عن الإضمار إلى اسم ظاهر لدفع إيهام أن يغتر الكافرون بأن الضمير عائد إليهم ويضموا إليه كذباً وتلفيقاً كما فعلوا حين سمعوا قوله تعالى : {أفرءيتم اللات والعزى} {النجم : 19 ] إذ سجد المشركون وزعموا أن محمداً أثنى على آلهتهم. فعدل لذلك عن الإضمار إلى الإظهار ولكنه لم يكن بالاسم الذي سبق أعني ( الذين ءَامنوا ) لقصد التنبيه على مزية التقوى وكونها سبباً عظيماً في هذه الفوقية ، على عادة القرآن في انتهاز فرص الهدى والإرشاد ليفيد فضل المؤمنين على الذين كفروا ، وينبه المؤمنين على وجوب التقوى لتكون سبب تفوقهم على الذين كفروا يوم القيامة ، وأما المؤمنون غير المتقين فليس من غرض القرآن أن يعبأ بذكر حالهم ليكونوا دَوماً بين شدة الخوف وقليل الرجاء ، وهذه عادة القرآن في مثل هذا المقام.
والفوقية هنا فوقية تشريف وهي مجاز في تناهي الفضل والسيادة كما استعير التحت لحالة المفضول والمسخَّر والمملوك. وقيدت بيوم القيامة تنصيصاً على دوامها ، لأن ذلك اليوم هو مبدأ الحياة الأبدية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 298}
قوله تعالى : {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ}
المناسبة
ولما كان تبدل الأحوال قريباً عندهم من المحال كان كأنه قيل في تقريب ذلك : برزق من عند الله يرزقهموه {والله} بعز سلطانه وجلال عظمته وباهر كرمه {يرزق من يشاء} أي في الدنيا وفي الآخرة ولو كان أفقر الناس وأعجزهم. ولما كان الإعطاء جزافاً لا يكون إلا عن كثرة وبكثرة قال : {بغير حساب} أي رزقاً لا يحد ولا يعد ، لأن كل ما دخله الحد فهو محصور متناه يعد ، وفي هذه الأمة من لا يحاسبه الله على ما آتاه فهي في حقه على حقيقتها من هذه الحيثية.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 393}
قال الزمخشرى :
{والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} بغير تقدير ، يعني أنه يوسع على من توجب الحكمة التوسعة عليه (1) كما وسع على قارون وغيره ، فهذه التوسعة عليكم من جهة الله لما فيها من الحكمة وهي استدراجكم بالنعمة. ولو كانت كرامة لكان أولياؤه المؤمنون أحق بها منكم. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 282}
_________________
(1) هذا الكلام مبنى على مذهب المعتزلة فى نظرية الصلاح والأصلح ومعلوم عند أهل السنة أن الله تعالى لا يجب عليه شىء ، والمسألة مشهورة فى علم الكلام.(5/199)
قال ابن عاشور :
وقوله : {والله يرزق من يشاء} إلخ تذييل قصد منه تعظيم تشريف المؤمنين يوم القيامة ، لأن التذييل لا بد أن يكون مرتبطاً بما قبله فالسامع يعلم من هذا التذييل معنى محذوفاً تقديره والذين اتقوا فوقهم فوقية عظيمة لا يحيط بها الوصف ، لأنها فوقية منحوها من فضل الله وفضلُ الله لا نهاية له ، ولأن من سخرية الذين كفروا بالذين آمنوا أنهم سخروا بفقراء المؤمنين لإقلالهم.
والحساب هنا حصر المقدار فنفي الحساب نفي لعلم مقدار الرزق ، وقد شاعت هذه الكنابة في كلام العرب كما شاع عندهم أن يقولوا يُعَدُّون بالأصابع ويحيط بها العد كناية عن القِلّة ومنه قولهم شيء لا يُحصى ولذلك صح أن ينفى الحساب هنا عن أمر لا يعقل حسابه وهو الفوقية وقال قيس بن الخطيم :
ما تمنعِي يقظي فقد تُؤْتينه... في النَّوْم غيرَ مُصَرَّدٍ محسوبِ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 298}
كلام نفيس للعلامة الفخر
قال رحمه الله : (5/200)
أما قوله تعالى : {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} فيحتمل أن يكون المراد منه ما يعطي الله المتقين في الآخرة من الثواب ، ويحتمل أن يكون المراد ما يعطي في الدنيا أصناف عبيده من المؤمنين والكافرين فإذا حملناه على رزق الآخرة احتمل وجوهاً أحدها : أنه يرزق من يشاء في الآخرة ، وهم المؤمنون بغير حساب ، أي رزقاً واسعاً رغداً لا فناء له ، ولا انقطاع ، وهو كقوله : {فَأُوْلَئِكَ يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} {غافر : 40 ] فإن كل ما دخل تحت الحساب والحصر والتقدير فهو متناه ، فما لا يكون متناهياً كان لا محالة خارجاً عن الحساب وثانيها : أن المنافع الواصلة إليهم في الجنة بعضها ثواب وبعضها تفضل كما قال : {فَيُوَفّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مّن فَضْلِهِ} {النساء : 173 ] فالفضل منه بلا حساب وثالثها : أنه لا يخاف نفادها عنده ، فيحتاج إلى حساب ما يخرج منه ، لأن المعطي إنما يحاسب ليعلم لمقدار ما يعطي وما يبقي ، فلا يتجاوز في عطاياه إلى ما يجحف به ، والله لا يحتاج إلى الحساب ، لأنه عالم غني لا نهاية لمقدوراته ورابعها : أنه أراد بهذا رزق أهل الجنة ، وذلك لأن الحساب إنما يحتاج إليه إذا كان بحيث إذا أعطى شيئاً انتقص قدر الواجب عما كان ، والثواب ليس كذلك فإنه بعد انقضاء الأدوار والأعصار يكون الثواب المستحق بحكم الوعد والفضل باقياً ، فعلى هذا لا يتطرق الحساب ألبتة إلى الثواب وخامسها : أراد أن الذي يعطي لا نسبة له إلى ما في الخزانة لأن الذي يعطي في كل وقت يكون متناهياً لا محالة ، والذي في خزانة قدرة الله غير متناه والمتناهي لا نسبة له إلى غير المتناهي فهذا هو المراد من قوله : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} وهو إشارة إلى أنه لا نهاية لمقدورات الله تعالى وسادسها : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي بغير استحقاق يقال لفلان على فلان حساب إذا كان له عليه حق ، وهذا يدل على أنه لا(5/201)
يستحق عليه أحد شيئاً ، وليس لأحد معه حساب بل كل ما أعطاه فقد أعطاه بمجرد الفضل والإحسان ، لا بسبب الاستحقاق وسابعها : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي يزيد على قدر الكفاية ، يقال : فلان ينفق بالحساب إذا كان لا يزيد على قدر الكفاية ، فأما إذا زاد عليه فإنه يقال : ينفق بغير حساب وثامنها : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي يعطي كثيراً لأن ما دخله الحساب فهو قليل.
واعلم أن هذه الوجوه كلها محتملة وعطايا الله لها منتظمة فيجوز أن يكون المراد كلها والله أعلم.
أما إذا حملنا الآية على ما يعطي في الدنيا أصناف عباده من المؤمنين والكافرين ففيه وجوه :
(5/202)
أحدها : وهو أليق بنظم الآية أن الكفار إنما كانوا يسخرون من فقراء المسلمين لأنهم كانوا يستدلون بحصول السعادات الدنيوية على أنهم على الحق ويحرمون فقراء المسلمين من تلك السعادات على أنهم على الباطل ، فالله تعالى أبطل هذه المقدمة بقوله : {والله يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ} يعني أنه يعطي في الدنيا من يشاء من غير أن يكون ذلك منبئاً عن كون المعطي محقاً أو مبطلاً أو محسناً أو مسيئاً وذلك متعلق بمحض المشيئة ، فقد وسع الدنيا على قارون ، وضيقها على أيوب عليه السلام ، فلا يجوز لكم أيها الكفار أن تستدلوا بحصول متاع الدنيا لكم وعدم حصولها لفقراء المسلمين على كونكم محقين وكونهم مبطلين ، بل الكافر قد يوسع عليه زيادة في الاستدراج ، والمؤمن قد يضيق عليه زيادة في الابتلاء والامتحان ، ولهذا قال تعالى : {وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً واحدة لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مّن فِضَّةٍ} {الزخرف : 33 ] وثانيها : أن المعنى : أن الله يرزق من يشاء في الدنيا من كافر ومؤمن بغير حساب يكون لأحد عليه ، ولا مطالبة ، ولا تبعة ، ولا سؤال سائل ، والمقصود منه أن لا يقول الكافر : لو كان المؤمن على الحق فلم لم يوسع عليه في الدنيا ؟ وأن لا يقول المؤمن إن كان الكافر مبطلاً فلم وسع عليه في الدنيا ؟ بل الإعتراض ساقط ، والأمر أمره ، والحكم حكمه {لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْئَلُونَ} {الأنبياء : 23 ] وثالثها : قوله : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} أي من حيث لا يحتسب كما يقول الرجل إذا جاءه ما لم يكن في تقديره : لم يكن هذا في حسابي ، فعلى هذا الوجه يكون معنى الآية : أن هؤلاء الكفار وإن كانوا يسخرون من الذين آمنوا لفقرهم ، فالله تعالى قد يرزق من يشاء من حيث لا يحتسب ، ولعله يفعل ذلك بالمؤمنين ،
(5/203)
قال القفال رحمه الله : وقد فعل ذلك بهم فأغناهم بما أفاء عليهم من أموال صناديد قريش ورؤساء اليهود ، وبما فتح على رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعد وفاته على أيدي أصحابه حتى ملكوا كنوز كسرى وقيصر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 9 ـ 10}
سؤال : فإن قيل : قد قال تعالى في صفة المتقين وما يصل إليهم {عَطَاء حِسَاباً} {النبأ : 36 ] أليس ذلك كالمناقض لما في هذه الآية.
قلنا : أما من حمل قوله : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} على التفضل ، وحمل قوله : {عَطَاء حِسَاباً} على المستحق بحسب الوعد على ما هو قولنا ، أو بحسب الاستحقاق على ما هو قول المعتزلة ، فالسؤال ساقط ، وأما من حمل قوله : {بِغَيْرِ حِسَابٍ} على سائر الوجوه ، فله أن يقول : إن ذلك العطاء إذا كان يتشابه في الأوقات ويتماثل ، صح من هذا الوجه أن يوصف بكونه عطاء حساباً ، ولا ينقضه ما ذكرناه في معنى قوله : {بِغَيْرِ حِسَابٍ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 10}
وأجاب الماوردى عن هذا السؤال بستة أوجه :
أحدها : أن النقصان بغير حساب ، والجزاء بالحساب.
والثاني : بغير حساب لسعة ملكه الذي لا يفنى بالعطاء ، لا يقدر بالحساب.
والثالث : إن كفايتهم بغير حساب ولا تضييق.
والرابع : دائم لا يتناهى فيصير محسوباً ، وهذا قول الحسن.
والخامس : أن الرزق في الدنيا بغير حساب ، لأنه يعم به المؤمن والكافر فلا يرزق المؤمن على قدر إيمانه ولا الكافر على قدر كفره.
والسادس : أنه يرزق المؤمنين في الآخرة وأنه لا يحاسبهم عليه ولا يَمُنُ عليهم به. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 270}
لطيفة
قد ورد الحساب فى التنزيل على عشرة أَوجهٍ :
الأَوّل : بمعنى الكثرة {عَطَآءً حِسَاباً} أَى كثِيراً.
الثانى : بمعنى الأَجر والثواب {إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ عَلَى رَبِّي} أَى أَجرهم.
الثالث : بمعنى العقوبة والعذاب {إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً} أَى لا يخافون عذاباً.(5/204)
الرّابع : الحَسِيب بمعنى الحفيظ {إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيباً} أَى حفيظاً.
الخامس : الحسِيب بمعنى الشاهد الحاضر {كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً} أَى شهيداً.
السّادس : الحساب بمعنى العَرْض على الملِك الأَكبر {يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ} أَى الْعَرْض على الرّحمن.
السّابع : بمعنى العدد {لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ} أَى عدد الأَيام.
الثامن : بمعنى المنَّة {يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ} أَى بغير مِنَّة عليهم ولا تقتير.
التَّاسع : الحُسْبان بمعنى دوران الكواكب فى الفَلَك {الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ} أَى يدوران حول القُطْب كدوران الرّحى.
العاشر : الحِسْبان بالكسر بمعنى الظن {وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتاً} {وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلاً} وله نظائر.
وأَمّا قوله تعالى {وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَاناً مِّنَ السَّمَآءِ} فقيل معناه ناراً وعذاباً ، وإِنما هو فى الحقيقة ما يحاسب عليه فيجازى بحَسَبه. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 3 صـ 23}
فائدة
قال الآلوسى :
وفيه إشارة إلى تملك المؤمنين المستهزىء بهم أموال بني قريظة والنضير ، ويجوز أن يراد في الدارين فيكون تذييلاً لكلا الحكمين. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 102}
سؤال : لم أعاد ذكرهم بلفظ : من يشاء ؟
الجواب : أعاد ذكرهم بلفظ : من يشاء ، تنبيهاً على إرادته لهم ، ومحبته إياهم ، واختصاصهم به ، إذ لو قال : والله يرزقهم بغير حساب ، لفات هذا المعنى من ذكر المشيئة التي هي الإرادة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 142}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ الحياة الدنيا...}.(5/205)
أسند التزين إلى الملزوم اكتفاء به عن اللازم ، مع أن اللازم هو الذي يكتفي به عن الملزوم بخلاف العكس كما قال {زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات} إذ لا يلزم من تزيّن الحياة الدنيا لهم محبتهم إياها ولو قيل : زين للكافرين حب الدنيا لا ستلزم ذلك تزيّن الدنيا لهم. وتقرر أن المحبة إن كانت متعلقة بأحد النقيضين أو الضدين دلت على كراهة مقابله.
( ( قال ابن عرفة ) : والمحبة على أن المزين له كافر إلا مع معارضتها للآخرة وترجيحها عليها أما مع عدم المعارضة فلا. وهذا في الاعتقاد وأما في الأحكام والفروع فلا ؛ لأجل أن عُصاة المؤمنين كلّهم رجحوا الدنيا على الآخرة ).
قوله تعالى : {والذين اتقوا فَوْقَهُمْ يَوْمَ القيامة والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ }.
إما تهييج على الاتصاف بالتقوى فلذلك قال : "فَوْقَهُمْ "وإما تنبيه على تفاوت درجاتهم ، وإما أن يكون التقوى والايمان بمعنى واحد. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 270}
قال السعدى :
يخبر تعالى أن الذين كفروا بالله وبآياته ورسله ، ولم ينقادوا لشرعه ، أنهم زينت لهم الحياة الدنيا ، فزينت في أعينهم وقلوبهم ، فرضوا بها ، واطمأنوا بها وصارت أهواؤهم وإراداتهم وأعمالهم كلها لها ، فأقبلوا عليها ، وأكبوا على تحصيلها ، وعظموها ، وعظموا من شاركهم في صنيعهم ، واحتقروا المؤمنين ، واستهزأوا بهم وقالوا : أهؤلاء منَّ الله عليهم من بيننا ؟
وهذا من ضعف عقولهم ونظرهم القاصر ، فإن الدنيا دار ابتلاء وامتحان ، وسيحصل الشقاء فيها لأهل الإيمان والكفران ، بل المؤمن في الدنيا ، وإن ناله مكروه ، فإنه يصبر ويحتسب ، فيخفف الله عنه بإيمانه وصبره ما لا يكون لغيره.
وإنما الشأن كل الشأن ، والتفضيل الحقيقي ، في الدار الباقية ، فلهذا قال تعالى : {وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} فيكون المتقون في أعلى الدرجات ، متمتعين بأنواع النعيم والسرور ، والبهجة والحبور.
(5/206)
والكفار تحتهم في أسفل الدركات ، معذبين بأنواع العذاب والإهانة ، والشقاء السرمدي ، الذي لا منتهى له ، ففي هذه الآية تسلية للمؤمنين ، ونعي على الكافرين. ولما كانت الأرزاق الدنيوية والأخروية ، لا تحصل إلا بتقدير الله ، ولن تنال إلا بمشيئة الله ، قال تعالى : {وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ} فالرزق الدنيوي يحصل للمؤمن والكافر ، وأما رزق القلوب من العلم والإيمان ، ومحبة الله وخشيته ورجائه ، ونحو ذلك ، فلا يعطيها إلا من يحب. أ هـ {تفسير السعدى صـ 95}
قوله تعالى : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
(5/207)
ولما كان كأنه قيل : هل كان هذا الكفر والتزيين من بدء الأمر أم هو شيء حدث فيكون حدوثه أعجب ؟ فقيل : لا فرق عند الحكيم بين هذا وذاك ، فإن قدرته على الكبير والصغير والجاهل والعليم والطائش والحليم على حد سواء على أن الواقع أن ذلك شيء حدث بعد البيان والواضح {كان الناس} أي كلهم {أمة} أي مجتمعين على شيء واحد يؤم بعضهم بعضاً ويقتدي بعضهم بعضاً ثم أكد اجتماعهم فقال : {واحدة} أي على الصراط المستقيم فزل بعضهم فاختلفوا وتفرقت بهم السبل كما في آية يونس {وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا} {يونس : 19 ] وعلى هذا أكثر المحققين كما قاله الأصفهاني وقد رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده بسند متصل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال : على الإسلام كلهم {فبعث الله} أي الذي لا حكم لغيره {النبيين} الذين رفعهم الله تعالى على بقية خلقه فأنبأهم بما يريد من أمره وأرسلهم إلى خلقه {مبشرين} لمن أطاع ، وهو جار مجرى حفظ الصحة ، ولأنه مقصود بالذات قدم {ومنذرين} لمن عصى ، وذلك جار مجرى إزالة المرض بالدواء. قال الحرالي : فيه إعلام بأنه ليس للأنبياء من الهداية شيء وإنما هم مستجلون لأمر جبلات الخلق وفطرهم فيبشرون من فطر على خير وينذرون من جبل على شر ، لا يستأنفون أمراً لم يكن بل يظهرون أمراً كان مغيباً ، وكذلك حال كل إمام وعالم في زمانه يميز الله الخبيث من الطيب - انتهى. {وأنزل معهم الكتاب} أي كلامه الجامع للهداية.
(5/208)
قال الحرالي : إبراماً لثني الأمر المضاعف ليكون الأمر بشاهدين أقوى منه بشاهد واحد فقد كان في الرسول كفاية وفي الكتاب وحده كفاية لكن الله تعالى ثنى الأمر وجمع الكتاب والرسول لتكون له الحجة البالغة - انتهى. {بالحق} أي الثابت كل ثبات {ليحكم} أي الله بواسطة الكتاب {بين الناس فيما اختلفوا فيه} من الدين الحق الذي كانوا عليه قبل ذلك أمة واحدة فسلكوا بهم بعد جهد السبيل الأقوم ثم ضلوا على علم بعد موت الرسل فاختلفوا في الدين لاختلافهم في الكتاب {وما اختلف فيه} أي الكتاب الهادي للحق الذي لا لبس فيه المنزل لإزالة الاختلاف {إلا الذين} ولما كان العالم يقبح منه مخالفة العلم مطلقاً لا بقيد كونه من معلم مخصوص بني للمفعول {أوتوه} أي فبدلوا نعمة الله بأن أوقعوا الخلاف فيما أنزل لرفع الخلاف ، ففي هذا غاية التعجيب وإظهار القدرة الباهرة التي حملتهم على ذلك.
ولما كان الخلاف ربما كان عن أمر غامض بين أن الأمر على غير ذلك فقال مشيراً بإثبات الجار إلى أنه لم يستغرق الزمان {من بعد ما جاءتهم البينات} أي الدلائل العقلية والنقلية التي ثبتت بها النبوة التي ثبت بها الكتاب. قال الحرالي : الجامعة لآيات ما في المحسوس وآيات ما في المسموع ، فلذلك كانت البينات مكملة لاجتماع شاهديها - انتهى.
ولما كان هذا محل السؤال عن السبب بين أنه الحسد والاستطالة عدولاً عن الحق محبة لما زين من الدنيا وتنافساً فيها فقال : {بغياً} قال الحرالي : والبغي أعمال الحسد بالقول والفعل قال عليه الصلاة والسلام : "ثلاث لا يسلم منهن أحد "ومنهن متحلي الحسد والطيرة والظن ، فإذا حسدت فلا تبغ لأن الحسد واقع في النفس كأنها مجبولة عليه فلذلك عذرت فيه ؛ فإذا استعملت بحسبه مقالها وفعالها كانت باغية - انتهى. وزاده عجباً بقوله {بينهم} أي لا بغياً على غيرهم فبدلوا من كل جهة. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 394}
وقال ابن عاشور : (5/209)
والظاهر عندي أن موقع هذه الآية هنا جامع لموقع تذييل لما قبلها ومقدمة لما بعدها.
فأما الأول فلأنها أفادت بيان حالة الأمم الماضية كيف نشأ الخلاف بينهم في الحق مما لأجله تداركهم الله ببعثات الرسل في العصور والأجيال التي اقتضتها حكمة الله ولطفه مما يماثل الحالة التي نشأت فيها البعثة المحمدية وما لقيه الرسول والمسلمون من المشركين.
وأما الثاني فلأنها مقدمة لما يرد بعدها من ذكر اختصاص الإسلام بالهداية إلى الحق الذي اختلفت فيه الأمم وهو مضمون قوله تعالى : {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه} إلى قوله : {إلى صراط المستقيم} وذلك من خصائص كون الإسلام مهيمناً على ما سبقه من الشرائع الإلهية وتفضيله على جميع الأديان وأن هذه المزية العظمى يجب الاعتراف بها وألا تكون مثار حسد للنبي وأمته ، رداً على حسد المشركين ، إذ يسخرون من الذين آمنوا وعلى حسد أهل الكتاب الذي سبق التنبيه عليه في قوله تعالى : {سيقول السفهاء من الناس ما ولاهم عن قبلتهم} إلى قوله {يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} {البقرة : 142 ].
(5/210)
وحصل من عموم ذلك تعليم المسلمين تاريخ أطوار الدين بين عصور البشر بكلمات جامعة ختمت بقوله : {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} فإن كان المراد من كونهم أمة واحدة الوحدة في الخير والحق وهو المختار كما سيأتي فقد نبه الله أن الناس اختلفوا فبعث لهم أنبياء متفرقين لقصد تهيئة الناس للدخول في دين واحد عام ، فالمناسبة حاصلة مع جملة {ادخلوا في السلم كافة} {البقرة : 208 ] بناء على أنها خطاب لأهل الكتاب أي ادخلوا في دين الإسلام الذي هدى الله به المسلمين. وإن كان المراد من كون الناس أمة واحدة الوحدة في الضلال والكفر يكون الله قد نبههم أن بعثة الرسل تقع لأجل إزالة الكفر والضلال الذي يحدث في قرون الجهالة ، فكذلك انتهت تلك القرون إلى القرن الذي أعقبته بعثة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فتكون الآية تثبيتاً للمؤمنين فالمناسبة حاصلة مع قوله : {زين للذين كفروا الحياة الدنيا} {البقرة : 212 ]. فالمعنى أن الإسلام هدى إلى شريعة تجمع الناس كلهم تبييناً لفضيلة هذا الدين واهتداء أهله إلى ما لم يهتد إليه غيرهم ، مع الإشارة إلى أن ما تقدمه من الشرائع تمهيد له وتأنيس به كما سنبينه عند قوله : {فهدى الله الذين آمنوا }. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 298 ـ 299}
قال الفخر :
دلت الآية على أن الناس كانوا أمة واحدة ، ولكنها ما دلت على أنهم كانوا أمة واحدة في الحق أم في الباطل ، واختلف المفسرون فيه على ثلاثة أقوال : (5/211)
القول الأول : أنهم كانوا على دين واحد وهو الإيمان والحق ، وهذا قول أكثر المحققين ، ويدل عليه وجوه الأول : ما ذكره القفال فقال : الدليل عليه قوله تعالى بعد هذه الآية : {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ} فهذا يدل على أن الأنبياء عليهم السلام إنما بعثوا حين الاختلاف ، ويتأكد هذا بقوله تعالى : {وَمَا كَانَ الناس إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فاختلفوا} {يونس : 19 ] ويتأكد أيضاً بما نقل عن ابن مسعود أنه قرأ : {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة فاختلفوا فَبَعَثَ الله النبيين -إِلَى قوله - لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ}.
(5/212)
إذا عرفت هذا فنقول : الفاء في قوله : {فَبَعَثَ الله النبيين} تقتضي أن يكون بعثهم بعد الاختلاف ولو كانوا قبل ذلك أمة واحدة في الكفر ، لكانت بعثة الرسل قبل هذا الاختلاف أولى ، لأنهم لما بعثوا عندما كان بعضهم محقاً وبعضهم مبطلاً ، فلأن يبعثوا حين ماكانوا كلهم مبطلين مصرين على الكفر كان أولى ، وهذا الوجه الذي ذكره القفال رحمه الله حسن في هذا الموضوع وثانيها : أنه تعالى حكم بأنه كان الناس أمة واحدة ، ثم أدرجنا فيه فاختلفوا بحسب دلالة الدليل عليه ، وبحسب قراءة ابن مسعود ، ثم قال : {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات بَغْيًا بَيْنَهُمْ} والظاهر أن المراد من هذا الاختلاف هو الاختلاف الحاصل بعد ذلك الإتفاق المشار إليه ، بقوله : {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة} ثم حكم على هذا الاختلاف بأنه إنما حصل بسبب البغي ، وهذا الوصف لا يليق إلا بالمذاهب الباطلة ، فدلت الآية على أن المذاهب الباطلة إنما حصلت بسبب البغي ، وهذا يدل على أن الإتفاق الذي كان حاصلاً قبل حصول هذا الاختلاف إنما كان في الحق لا في الباطل ، فثبت أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين الحق لا في الدين الباطل وثالثها : أن آدم عليه السلام لما بعثه الله رسولاً إلى أولاده ، فالكل كانوا مسلمين مطيعين لله تعالى ، ولم يحدث فيما بينهم اختلاف في الدين ، إلى أن قتل قابيل هابيل بسبب الحسد والبغي ، وهذا المعنى ثابت بالنقل المتواتر ، والآية منطبقة عليه ، لأن الناس هم آدم وأولاده من الذكور والإناث ، كانوا أمة واحدة على الحق ، ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد ، كما حكى الله عن ابني آدم {إِذْ قَرَّبَا قربانا فَتُقُبّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الأخر} {المائدة : 27 ] فلم يكن ذلك القتل والكفر بالله إلا بسبب البغي والحسد ، وهذا المعنى ثابت بالنقل المتواتر والآية منطبقة عليه ورابعها : أنه لما(5/213)
غرقت الأرض بالطوفان لم يبق إلا أهل السفينة ، وكلهم كانوا على الحق والدين الصحيح ، ثم اختلفوا بعد ذلك ، وهذه القصة مما عرف ثبوتها بالدلائل القاطعة والنقل المتواتر ، إلا أنهم اختلفوا بعد ذلك ، فثبت أن الناس كانوا أمة واحدة على الحق ثم اختلفوا بعد ذلك ولم يثبت ألبتة بشيء من الدلائل أنهم كانوا مطبقين على الباطل والكفر ، وإذا كان كذلك وجب حمل اللفظ على ما ثبت بالدليل وأن لا يحمل على ما لم يثبت بشيء من الدلائل.
وخامسها : وهو أن الدين الحق لا سبيل إليه إلا بالنظر والنظر لا معنى له إلا ترتيب المقدمات لتوصل بها إلى النتائج ، وتلك المقدمات إن كانت نظرية افتقرت إلى مقدمات أخر ولزم الدور أو التسلسل وهما باطلان فوجب انتهاء النظريات بالآخرة إلى الضروريات ، وكما أن المقدمات يجب إنتهاؤها إلى الضروريات فترتيب المقدمات يجب انتهاؤه أيضاً إلى ترتيب تعلم صحته بضرورة العقل وإذا كانت النظريات مستندة إلى مقامات تعلم صحتها بضرورة العقل ، وإلى ترتيبات تعلم صحتها بضرورة العقل ، وجب القطع بأن العقل السليم لا يغلط لو لم يعرض له سبب من خارج ، فأما إذا عرض له سبب خارجي ، فهناك يحصل الغلط فثبت أن ما بالذات هو الصواب وما بالعرض هو الخطأ ، وما بالذات أقدم مما بالعرض بحسب الإستحقاق وبحسب الزمان أيضاً ، هذا هو الأظهر فثبت أن الأولى أن يقال : كان الناس أمة واحدة في الدين الحق ، ثم اختلفوا بعد ذلك لأسباب خارجية وهي البغي والحسد ، فهذا دليل معقول ولفظ القرآن مطابق له فوجب المصير إليه.
فإن قيل : فما المراد من قوله : {وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ} {هود : 188 ، 119 ].
قلنا : المعنى ولأجل أن يرحمهم خلقهم.
(5/214)
وسادسها : قوله عليه السلام : "كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه "دل الحديث على أن المولود لو ترك مع فطرته الأصلية لما كان على شيء من الأديان الباطلة ، وأنه إنما يقدم على الدين الباطل لأسباب خارجية ، وهي سعي الأبوين في ذلك وحصول الأغراض الفاسدة من البغي والحسد وسابعها : أن الله تعالى لما قال :
{ أَلَسْتَ بِرَبّكُمْ قَالُواْ بلى} {الأعراف : 172 ] فذلك اليوم كانوا أمة واحدة على الدين الحق ، وهذا القول مروي عن أبي بن كعب وجماعة من المفسرين ، إلا أن للمتكلمين في هذه القصة أبحاثاً كثيرة ، ولا حاجة بنا في نصرة هذا القول بعد تلك الوجوه الستة التي ذكرناها إلى هذا الوجه ، فهذا جملة الكلام في تقرير هذا القول.
أما الوجه الثاني : هو أن الناس كانوا أمة واحدة في الدين الباطل ، فهذا قول طائفة من المفسرين كالحسن وعطاء وابن عباس ، واحتجوا بالآية والخبر أما الآية فقوله : {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} وهو لا يليق إلا بذلك ، وأما الخبر فما روي عن النبي عليه السلام : "أن الله تعالى نظر إلى أهل الأرض عربهم وعجمهم فبعثهم إلا بقايا من أهل الكتاب ".
وجوابه : ما بينا أن هذا لا يليق إلا بضده ، وذلك لأن عند الاختلاف لما وجبت البعثة.
(5/215)
فلو كان الإتفاق السابق اتفاقاً على الكفر لكانت البعثة في ذلك الوقت أولى ، وحيث لم تحصل البعثة هناك علمنا أن ذلك الإتفاق كان اتفاقاً على الحق لا على الباطل ، ثم اختلف القائلون بهذا القول أنه متى كان الناس متفقين على الكفر فقيل من وفاة آدم إلى زمان نوح عليه السلام كانوا كفاراً ، ثم سألوا أنفسهم سؤالاً وقالوا : أليس فيهم من كان مسلماً نحو هابيل وشيث وإدريس ، وأجابوا بأن الغالب كان هو الكفر والحكم للغالب ، ولا يعتد بالقليل في الكثير كما لا يعتد بالشعير القليل في البر الكثير ، وقد يقال : دار الإسلام وإن كان فيها غير المسلمين ودار الحرب وإن كان فيها مسلمون.
القول الثالث : وهو اختيار أبي مسلم والقاضي : أن الناس كانوا أمة واحدة في التمسك بالشرائع العقلية ، وهي الإعتراف بوجود الصانع وصفاته ، والإشتغال بخدمته وشكر نعمته ، والإجتناب عن القبائح العقلية ، كالظلم ، والكذب ، والجهل ، والعبث وأمثالها.
(5/216)
واحتج القاضي على صحة قوله بأن لفظ النبيين يفيد العموم والإستغراق ، وحرف الفاء يفيد التراخي ، فقوله : {فَبَعَثَ الله النبيين} يفيد أن بعثه جميع الأنبياء كانت متأخرة عن كون الناس أمة واحدة ، فتلك الوحدة المتقدمة على بعثة جميع الشرائع لا بد وأن تكون وحدة في شرعه غير مستفادة من الأنبياء ، فوجب أن تكون في شريعة مستفادة من العقل وذلك ما بيناه ، وأيضاً فالعلم بحسن شكر المنعم ، وطاعة الخالق والإحسان إلى الخلق ، والعدل ، مشترك فيه بين الكل ، والعلم بقبح الكذب والظلم والجهل والعبث مشترك فيه بين الكل ، فالأظهر أن الناس كانوا في أول الأمر على ذلك ، ثم اختلفوا بعد ذلك لأسباب منفصلة ، ثم سأل نفسه ، فقال : أليس أول الناس آدم عليه السلام وأنه كان نبياً ، فكيف يصح إثبات الناس مكلفين قبل بعثة الرسل ، وأجاب بأنه يحتمل أنه عليه السلام مع أولاده كانوا مجتمعين على التمسك بالشرائع العقلية أولاً ، ثم إن الله تعالى بعد ذلك بعثه إلى أولاده ، ويحتمل أن بعد ذلك صار شرعه مندرساً ، فالناس رجعوا إلى التمسك بالشرائع العقلية ، واعلم أن هذا القول لا يصح إلا مع إثبات تحسين العقل وتقبيحه ، والكلام فيه مشهور في الأصول.
القول الرابع : أن الآية دلت على أن الناس كانوا أمة واحدة ، وليس فيها أنهم كانوا على الإيمان أو على الكفر ، فهو موقوف على الدليل.
(5/217)
القول الخامس : أن المراد من الناس ههنا أهل الكتاب ممن آمن بموسى عليه السلام ، وذلك لأنا بينا أن هذه الآية متعلقة بما تقدم من قوله : {ياأيها الذين ءَامَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَافَّةً} {البقرة : 208 ] وذكرنا أن كثيراً من المفسرين زعموا أن تلك الآية نزلت في اليهود ، فقوله تعالى : {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة} أي كان الذين آمنوا بموسى أمة واحدة ، على دين واحد ، ومذهب واحد ، ثم اختلفوا بسبب البغي والحسد ، فبعث الله النبيين ، وهم الذين جاؤا بعد موسى عليه السلام وأنزل معهم الكتاب ، كما بعث الزبور إلى داود ، والتوراة إلى موسى ، والإنجيل إلى عيسى ، والفرقان إلى محمد عليه السلام لتكون تلك الكتب حاكمة عليهم في تلك الأشياء التي اختلفوا فيها ، وهذا القول مطابق لنظم الآية وموافق لما قبلها ولما بعدها ، وليس فيها إشكال إلا أن تخصيص لفظ الناس في قوله : {كَانَ الناس} بقوم معينين خلاف الظاهر إلا أنك تعلم أن الألف واللام كما تكون للاستغراق فقد تكون أيضاً للعهد فهذا ما يتعلق بهذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 12 ـ 13}
وقال القرطبى : (5/218)
قوله تعالى : {كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً} أي على دين واحد. قال أُبيّ بن كعب ، وابن زيد : المراد بالناس بنو آدم حين أخرجهم الله نَسَماً من ظهر آدم فأقرّوا له بالوحدانية. وقال مجاهد : الناس آدم وحده ؛ وسُمِّي الواحد بلفظ الجمع لأنه أصل النَّسْل. وقيل : آدم وحوّاء. وقال ابن عباس وقَتادة : المراد بالناس القرون التي كانت بين آدم ونوح ، وهي عشرة كانوا على الحقّ حتى اختلفوا فبعث الله نوحاً فمن بعده. وقال ابن أبي خَيْثَمة : منذ خلق الله آدم عليه السلام إلى أن بعث محمداً ـ صلى الله عليه وسلم ـ خمسة آلاف سنة وثمانمائة سنة. وقيل : أكثر من ذلك ، وكان بينه وبين نوح ألف سنة ومائتا سنة. وعاش آدم تسعمائة وستين سنة ، وكان الناس في زمانه أهل مِلّة واحدة ، متمسكين بالدّين ، تصافحهم الملائكة ، وداموا على ذلك إلى أن رُفع إدريس عليه السلام فاختلفوا. وهذا فيه نظر ؛ لأن إدريس بعد نوح على الصحيح. وقال قوم منهم الكلبيّ والواقديّ : المراد نوح ومن في السفينة ؛ وكانوا مسلمين ثم بعد وفاة نوح اختلفوا. وقال ابن عباس أيضاً : كانوا أُمة واحدة على الكفر ؛ يريد في مدّة نوح حين بعثه الله. وعنه أيضاً : كان الناس على عهد إبراهيم عليه السلام أُمة واحدة ، كلهم كفار ؛ ووُلِد إبراهيم في جاهلية ، فبعث الله تعالى إبراهيم وغيره من النبيين. ف "كان" على هذه الأقوال على بابها من المُضِيّ المنقضي. وكل مَن قدّر الناس في الآية مؤمنين قدّر في الكلام فاختلفوا فبعث ، ودلّ على هذا الحذف : {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ} أي كان الناس على دين الحق فاختلفوا فبعث الله النبيين ، مبشّرين من أطاع ومنذرين من عصى. وكل مَن قدّرهم كفّاراً كانت بعثة النبيين إليهم. ويحتمل أن تكون "كان" للثبوت ، والمراد الإخبار عن الناس الذين هم الجنس كله أنهم أُمة واحدة في خلوّهم عن الشرائع ، وجهلهم بالحقائق ، لولا منُّ الله عليهم ، (5/219)
وتفضّله بالرسل إليهم. فلا يختص "كان" على هذا التأويل بالمضيّ فقط ، بل معناه معنى قوله : {وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً }. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 31}
كلام نفيس للعلامة ابن عاشور :
قال رحمه الله :
والأظهر أنه من زمن وجود آدم إلى أن أشرك قوم نوح.
وإن كان المراد الوحدة على الباطل فقد حصل ذلك في زمن نوح في أول ما قص الله علينا مع ما ورد في الصحيح أن نوحاً أول الرسل إلى أهل الأرض ، فيظهر أن الضلال حدث في أهل الأرض وعمَّهم عاجلاً فبعث الله نوحاً إليهم ثم أهلك الكافرين منهم بالطوفان ونجى نوحاً ونفراً معه فأصبح جميع الناس صالحين ، ثم اختلفوا بعد ذلك فبعث الله النبيين. فيجدر بنا أن ننظر الآن فيما تضمنته هذه الآية من المعنى في تاريخ ظهور الشرائع وفي أسباب ذلك.
الناس أبناء أب واحد وأم واحدة فلا جرم أن كانوا في أول أمرهم أمة واحدة لأن أبويهم لما ولدا الأبناء الكثيرين وتوالد أبناؤهما تألفت منهم في أمد قصير عائلة واحدة خلقت من مزاج نقي فكانت لها أمزجة متماثلة ونشأوا على سيرة واحدة في أحوال الحياة كلها وما كانت لتختلف إلاّ اختلافاً قليلاً ليس له أثر يؤبه به ولا يحدث في العائلة تنافراً ولا تغالباً.(5/220)
ثم إن الله تعالى لما خلق نوع الإنسان أراده ليكون أفضل الموجودات في هذا العالم الأرضي فلا جرم أن يكون خلقه على حالة صالحة للكمال والخير قال تعالى : {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تقويم} {التين : 4 ]. فآدم خلق في أحسن تقويم يليق بالذكر جسماً وعقلاً وألهمه معرفة الخير واتباعه ومعرفة الشر وتجنبه فكانت آراؤه مستقيمة تتوجه ابتداء لما فيه النفع وتهتدي إلى ما يحتاج للاهتداء إليه ، وتتعقل ما يشار به عليه فتميز النافع من غيره ويساعده على العمل بما يهتدي إليه فكره جسد سليم قوي متين وحواءُ خلقت في أحسن تقويم يليق بالأنثى خلقاً مشابهاً لخلق آدم ، إذ إنها خلقت كما خلق آدم ، قال تعالى : {خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها} {النساء : 1 ] فكانت في انسياق عقلها واهتدائها وتعقلها ومساعدة جسدها على ذلك على نحو ما كان عليه آدم. ولا شك أن أقوى عنصر في تقويم البشر عند الخلقة هو العقل المستقيم فبالعقل تأتَّى للبشر أن يتصرف في خصائصه ، وأن يضعها في مواضع الحاجة إليها.
هكذا كان شأن الذكَر والأنثى فما ولدا من الأولاد نشأ مثل نشأتهما في الأحوال كلها ، ألم تر كيف اهتدى أحد ابني آدم إلى دفن أخيه من مشاهدة فعل الغراب الباحث في الأرض فكانت الاستنباط الفكري والتقليدُ به أسَّ الحضارة البشرية. فالصلاح هُوَ الأصل الذي خلق عليه البشر ودام عليه دهراً ليس بالقصير ، ثم أخذ يرتد إلى أسفل سافلين ، ذلك أن ارتداد الإنسان إلى أسفل سافلين إنما عرض له بعوارض كانت في مبدأ الخليقة قليلة الطرُوّ أوْ معدومته ، لأن أسباب الانحراف عن الفطرة السليمة لا تعدو أربعة أسباب :
الأول : خلل يعرض عند تكوين الفرد في عقله أو في جسده فينشأ منحرفاً عن الفضيلة لتلك العاهة.
الثاني : اكتساب رَذائل من الأخلاق من مخترعات قواه الشهوية والغضبية ومن تقليد غيره بداعية استحسان ما في غيره من مفاسد يخترعها ويدعو إليها.(5/221)
الثالث : خواطر خياليّة تحدث في النفس مخالفة لما عليه الناس كالشهوات والإفراط في حب الذات أو في كراهية الغير مما توسوس به النفس فيفكر صاحبها في تحقيقها.
الرابع : صدور أفعال تصدر من الفرد بدواع حاجية أو تكميلية ويجدها ملائمة له أو لذيذة عنده فيلازمها حتى تصير له عادة وتشتبه عنده بعد طول المدة بالطبيعة ، لأن العادة إذا صادفت سذاجة من العقل غير بصيرة بالنواهي رسخت فصارت طبعاً.
فهذه أربعة أسباب للانحطاط عن الفطرة الطيبة ، والأول كان نادر الحدوث في البشر ، لأن سلامة الأبدان وشبابَ واعتدالَ الطبيعة وبساطةَ العيش ونظامَ البِيئة كل تلك كانت موانع من طرو الخلل التكويني ، ألا ترى أن نوع كل حيواننٍ يلازم حال فطرته فلا ينحرف عنها باتباع غيره.
والثاني كان غير موجود ، لأن البشر يومئذٍ كانوا عائلة واحدة في موطن واحد يسير على نظام واحد وتربية واحدة وإحساس واحد فمن أين يجيئه الاختلاف ؟
والثالث ممكن الوجود لكن المحبة الناشئة عن حسن المعاشرة وعن الإلف ، والشفقة الناشئة عن الأخوة والمواعظ الصادرة عن الأبوين كانت حُجباً لما يهجس من هذا الإحساس.
والرابع لم يكن بالذي يكثر في الوقت الأول من وجود البشر ، لأن الحاجات كانت جارية على وفق الطباع الأصلية ولأن التحسينات كانت مفقودة ، وإنما هذا السبب الرابع من موجبات الرقي والانحطاط في أحوال الجمعيات البشرية الطارئة.
أما حادثة قتل ابن آدم أخاه فما هي إلاّ فلتة نشأت عن السبب الثالث عن إحساس وجداني هو الحسَد مع الجهل بمغبة ما ينشأ عن القتل ؛ لأن البشر لم يعرف الموت إلاّ يومئذٍ ولذلك أسرعت إليه الندامة ، فتبين أن الصلاح هو حال الأمة يومئذٍ أو هو الغالب عليها.(5/222)
وينشأ عن هذا الصلاح والاستقامة في الآباء دوام الاستقامة في النسل ، لأن النسل مُنْسَلٌ من ذوات الأصول فهو ينقل ما فيها من الأحوال الخِلقية والخُلُقية ، ولما كان النسل منسَلاَ من الذكر والأنثى كان بحكم الطبع محصِّلاً على مجموع من الحالتين فإن استوت الحالتان أو تقاربتا جاء النسل على أحوال مساويةِ المظاهرِ لأحوال سلفه ، قال نوح عليه السلام في عكسه {ولا يَلدوا إلاّ فاجراً كفاراً} {نوح : 27 ] ، ومما يدل على أن حال البشر في أول أمره صلاحٌ ما نقله في "الكشاف" عن ابن عباس أنه كان بين آدم ونوح عشرة قرون على شريعة من الحق.
ثم كثرت العائلة البشرية وتكونت منها القبيلة فتكاثرت ونشأ فيها مع الزمان قليلاً قليلاً خواطر مختلفة ودبت فيها أسباب الاختلاف في الأحوال تبعاً لاختلاف بين حالي الأب والأم ، فجاء النسل على أحوال مركبة مخالفة لكل من مفرد حالتي الأب والأم ، وبذلك حدثت أمزجة جديدة وطرأت عليها حينئذٍ أسباب الانحطاط الأربعة ، وصارت ملازمة لطوائف من البشر بحكم التناسل والتلقي ، هنالك جاءت الحاجة إلى هدي البشر ببعثة الرسل ، والتاريخُ الديني دلنا على أن نوحاً أول الرسل الذين دَعوا إلى الله تعالى قال تعالى : {شرع لكم من الدين ما وصى به نوحاً} {الشورى : 13 ] الآية ، ولما ذكر الرسل في آيات القرآن ابتدأهم في جميع تلك الآيات بنوح ولم يذكر آدم وفي حديث الشفاعة في الصحيح تصريح بذلك أن آدم يقول للذين يستشفعون به إني لست هناكم ، ويذكر خطيئته ايتوا نوحاً أول رسول أرسله الله إلى أهل الأرض ، وبهذا يتعين أن خطيئة قابيل ليست مخالفة شرع مشروع ، وأن آدم لم يكن رسولاً وأنه نبيء صالح أوحي إليه بما يهذب ابناءه ويعلمهم بالجزاء.(5/223)
فقوله تعالى : {فبعث الله النبيئين} هو على الوجه الأول مفرع على ما يؤذن به قوله : {كان الناس أمة واحدة} مع تحقق وجود الخلاف بينهم بالمشاهدة من إرادة أن كونهم أمة واحدة دام مدة ثم انقضى ، فيكون مفرعاً على جملة مقدرة تقديرها فاختلفوا فبعث الله النبيئين ، وعلى الوجه الآخر مفرعاً على الكون أمة واحدة في الباطل فعلى الأول يكون أول النبيين المبعوثين نوحاً ، لأنه أول الرسل لإصلاح الخلق. وعلى الثاني : يكون أولهم آدم بعث لبنيه لما قتل أحدهم أخاه ؛ فإن الظاهر أن آدم لم يبعث بشريعة لعدم الدواعي إلى ذلك ، وإنما كان مرشداً كما يرشد المربي عائلته. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 301}
فائدة
قال ابن عادل :
قد جاءت الأمة على خمسة أَوْجُهٍ :
الأوَّل : "الأُمَّةُ "المِلَّة ، كهذه الآية ، أي : مِلَّة واحدة ، ومثله : {وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً} {المؤمنون : 52 ] أي : مِلتكُم.
الثاني : الأُمَّةُ الجماعة ؛ قال تعالى : {وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق} {الأعراف : 181 ] أي : جماعةٌ. :
الثالث : الأُمَّةُ السنين ؛ قال تعالى : {وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ} {هود : 8 ] ، أي : إلى سنين معدودةٍ ، ومثله "وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ "أي : بعد سنين.
الرابع : بمعنى إمامٍ يُعلِّمُ الخير ؛ قال تعالى : {إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ} {النحل : 120 ].
الخامس : الأُمَّةُ : إحدى الأُمم ؛ قال تعالى : {كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} {آل عمران : 110 ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 501}
قال القرطبى : (5/224)
قوله تعالى : {فَبَعَثَ الله النبيين} وجملتهم مائة وأربعة وعشرون ألفاً ، والرسل منهم ثلثمائة وثلاثة عشر ، والمذكورون في القرآن بالاسم العلم ثمانية عشر ، وأوّل الرسل آدم ؛ على ما جاء في حديث أبي ذَرّ ، أخرجه الآجريّ وأبو حاتم البُسْتيّ. وقيل : نوح ، لحديث الشفاعة ؛ فإن الناس يقولون له : أنت أوّل الرسل. وقيل : إدريس ، وسيأتي بيان هذا في "الأعراف" إن شاء الله تعالى. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 32}
قال الآلوسى :
{ فَبَعَثَ الله النبيين} أي فاختلفوا فبعث الخ وهي قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه ، وإنما حذف تعويلاً على ما يذكر عقبه. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 102}
فائدة لغوية
والناس اسم جمع ليس له مفرد من لفظه ، و( أل ) فيه للاستغراق لا محالة وهو هنا للعموم أي البشر كلهم ، إذ ليس ثمة فريق معهود ولكنه عموم عرفي مبني على مراعاة الغالب الأغلب وعدم الاعتداد بالنادر لظهور أنه لا يخلو زمن غلب فيه الخير عن أن يكون بعض الناس فيه شريراً مثل عصر النبوة ولا يخلو زمن غلب فيه الشر من أن يكون بعض الناس فيه خيراً مثل نوح {وما آمن معه إلاّ قليل} {هود : 4 ].
والأمة بضمة الهمزة : اسم للجماعة الذين أمرهم واحد ، مشتقة من الأم بفتح الهمزة وهو القصد أي يؤمون غاية واحدة ، وإنما تكون الجماعة أمة إذا اتفقوا في الموطن أو الدين أو اللغة أو في جميعها.
والوصف بـ ( واحدة ) في الآية لتأكيد الإفراد في قوله ( أمة ) لدفع توهم أن يكون المراد من الأمة القبيلة ، فيظن أن المراد كان الناس أهل نسب واحد ، لأن الأمة قد تطلق على من يجمعهم نسب متحد. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 300}
فائدة
قال ابن عاشور :(5/225)
قال ابن عطية كل من قدَّر الناسَ في الآية كانوا مؤمنين قدَّر في الكلام فاختلفوا وكل من قدرهم كفاراً كانت بعثة الرسل إليهم اه. ويؤيد هذا التقدير قوله في آية سورة يونس ( 19 ) {وما كان الناس إلا أُمة واحدة فاختلفوا لأن الظاهر اتحاد غرض الآيتين ، ولأنه لما أخبر هنا عن الناس بأنهم كانوا أمة واحدة ونحن نرى اختلافهم علمنا أنهم لم يدوموا على تلك الحالة.
والمقصود من الآية على هذا الوجه التنبيه على أن التوحيد والهدى والصلاح هي الفطرة التي فطر الله الناس عليها حين خلقهم كما دلت عليه آية {ألست بربكم} {الأعراف : 172 ] ، وأنها ما غشَّاها إلاّ تلقين الضلال وترويج الباطل وأن الله بعث النبيئين لإصلاح الفطرة إصلاحاً جزئياً فكان هديهم مختلف الأساليب على حسب اختلاف المصالح والأهلية وشدة الشكائم ، فكان من الأنبياء الميسر ومنهم المغلظ وأنه بعث محمداً لإكمال ذلك الإصلاح ، وإعادة الناس إلى الوحدة على الخير والهدى وذلك معنى قوله : {فهدى الله الذين آمنوا} الخ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 301}
قوله تعالى : {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ }
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} فاعلم أنا ذكرنا أنه لا بد ههنا من الإضمار ، والتقدير كان الناس أمة واحدة - فاختلفوا - فبعث الله النبيين واعلم أنه الله تعالى وصف النبيين بصفات ثلاث :
الصفة الأولى : كونهم مبشرين.
الصفة الثانية : كونهم منذرين ونظيره قوله تعالى : {رُّسُلاً مُّبَشّرِينَ وَمُنذِرِينَ} {النساء : 165 ] وإنما قدم البشارة على الإنذار ، لأن البشارة تجري مجرى حفظ الصحة ، والإنذار يجري مجرى إزالة المرض ، ولا شك أن المقصود بالذات هو الأول دون الثاني فلا جرم وجب تقديمه في الذكر.(5/226)
الصفة الثالثة : قوله : {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق} فإن قيل : إنزال الكتاب يكون قبل وصول الأمر والنهي إلى المكلفين ، ووصول الأمر والنهي إليهم يكون قبل التبشير والإنذار فلم قدم ذكر التبشير والإنذار على إنزال الكتب ؟ أجاب القاضي عنه فقال : لأن الوعد والوعيد منهم قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من المعرفة بالله وترك الظلم وغيرهما وعندي فيه وجه آخر وهو أن المكلف إنما يتحمل النظر في دلالة المعجز على الصدق وفي الفرق بين المعجز إذا خاف أنه لو لم ينظر فربما ترك الحق فيصير مستحقاً للعقاب ، والخوف إنما يقوى ويكمل عند التبشير والإنذار فلا جرم وجب تقديم البشارة والنذارة على إنزال الكتاب في الذكر ثم قال القاضي : ظاهر هذه الآية يدل على أنه لا نبي إلا معه كتاب منزل فيه بيان الحق طال ذلك الكتاب أم قصر ودون ذلك الكتاب أو لم يدون وكان ذلك الكتاب معجزاً أو لم يكن كذلك ، لأن كون الكتاب منزلاً معهم لا يقتضي شيئاً من ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 14}
قال ابن عاشور : (5/227)
والمراد بالنبيين هنا الرسل بقرينة قوله : {وأنزل معهم الكتاب بالحق} والإرسال بالشرائع متوغل في القدم وقبله ظهور الشرط وهو أصل ظهور الفواحش لأن الاعتقاد الفاسد أصل ذميم الفعال ، وقد عبد قوم نوح الأصنام ، عبدوا ودا وسواعا ويغوث ويعوق ونسرا وهم يومئذٍ لم يزالوا في مواطن آدم وبنيه في ( جبال نوذ ) من بلاد الهند كما قيل ، وفي البخاري عن ابن عباس أن ودّاً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً كانوا من صالحي قوم نوح ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصاباً وسموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد ، حتى إذا هلك أولئك وتنسخ العلم عبدت اه ، وقيل كانوا من صالحي قوم آدم ، وقيل إن سواعاً هو ابن شيث وأن يغوث ابن سواع ويعوق ابن سغوث ونسر بن يعوق ، وقيل إنهم من صالحي عصر آدم ماتوا فنحت قابيل بن آدم لهم صوراً ثم عبدوهم بعد ثلاثة أجيال ، وهذا كله زمن متوغل في القدم قبل التاريخ فلا يؤخذ إلاّ بمزيد الاحتراز ، وأقدم شريعة أثبتها التاريخ شريعة برهمان في الهند فإنها تبتدىء من قبل القرن الثلاثين قبل الهجرة. وفي هذا العهد كانت في العراق شريعة عظيمة ببابل وضعها ملك بابل المدعو ( حَمُورَابي ) ويظن المؤرخون أنه كان معاصراً لإبراهيم عليه السلام وأنه المذكور في "سفر التكوين" باسم ( ملْكي صادق ) الذي لقي إبراهيم في شاليم وبارك إبراهيم ودعا له.
والبعث : الإرسال والإنهاض للمشي ومنه بعث البعير إذا أنهضه بعد أن برك والبعث هنا مجاز مستعمل في أمر الله النبي بتبليغ الشريعة للأمة.
(5/228)
و( النبيئين ) جمع نبيء وهو فعيل بمعنى مفعول مشتق من النبأ وهو الخبر المهم ، لأن الله أخبره بالوحي وعلم ما فيه صلاح نفسه وصلاح من ينتسب إليه ، فإن أمره بتبليغ شريعة الأمة فهو رسول فكل رسول نبيء ، والقرآن يذكر في الغالب النبي مراداً به الرسول ، وقد ورد أن عدد الأنبياء مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً لا يعلم تفصيلهم وأزمانهم إلاّ الله تعالى قال تعالى : {وقروناً بين ذلك كثيراً} {الفرقان : 38 ] وقال : {وكم أهلكنا من القرون من بعد نوح} {الإسراء : 17 ]. وعدد الرسل ثلاثمائة وثلاثة عشر.
والمراد بالنبيين هنا خصوص الرسل منهم بقرينة قوله {بعث} وبقرينة الحال في قوله : {مبشرين ومنذرين} ، لأن البشارة والإنذار من خصائص الرسالة والدعوة وبقرينة ما يأتي من قوله : {وأنزل معهم الكتاب بالحق} الآية. فالتعريف في ( النبيين ) للاستغراق وهو الاستغراق الملقب بالعرفي في اصطلاح أهل المعاني.
والبشارة : الإعلام بخير حصل أو سيحصل ، والنذارة بكسر النون الإعلام بشر وضر حصل أو سيحصل ، وذلك هو الوعد والوعيد الذي تشتمل عليه الشرائع.
فالرسل هم الذين جاءوا بالوعد والوعيد ، وأما الأنبياء غير الرسل فإن وظيفتهم هي ظهور صلاحهم بين قومهم حتى يكونوا قدوة لهم ، وإرشاد أهلهم وذويهم ومريديهم للاستقامة من دون دعوة حتى يكون بين قومهم رجال صالحون ، وإرشاد من يسترشدهم من قومهم ، وتعليم من يرونه أهلاً لعلم الخير من الأمة.
ثم هم قد يجيئون مؤيدين لشريعة مضت كمجيء إسحاق ويعقوب والأسباط لتأييد شريعة إبراهيم عليه السلام ، ومجيء أنبياء بني إسرائيل بعد موسى لتأييد التوراة ، وقد لا يكون لهم تعلق بشرع من قبلهم كمجيء خالد بن سنان العَبْسي نبيئاً في عَبْس من العرب.(5/229)
وقوله : {وأنزل معهم الكتاب} ، الإنزال : حقيقته تدلية الجسم من علو إلى أسفل ، وهو هنا مجاز في وصول الشيء من الأعلى مرتبة إلى من هو دونه ، وذلك أن الوحي جاء من قبل الله تعالى ودال على مراده من الخلق فهو وارد للرسل في جانب له علو منزلة.
وأضاف مع إلى ضمير النبيئين إضافة مجملة واختير لفظ مع دون عليهم ليصلح لمن أنزل عليه كتاب منهم مثل إبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ، ولمن جاء مؤيداً لمن قبله مثل أنبياء بني إسرائيل بين موسى وعيسى.
والكتاب هو المكتوب ، وأطلق في اصطلاح الشرع على الشريعة لأن الله يأمر الناس بكتابتها لدوام حفظها والتمكن من مدارستها ، وإطلاق الكتاب عليها قد يكون حقيقة إن كانت الشريعة في وقت الإطلاق قد كتبت أو كتب بعضها كقوله تعالى : {الم ذلك الكتاب} {البقرة : 1 2 ] على أحد الوجهين المتقدمين هنالك ، وقد يكون مجازاً على الوجه الآخر ، وما هنا يحمل على الحقيقة لأن الشرائع قد نزلت وكتبت وكتب بعض الشريعة المحمدية.
والمعية معية اعتبارية مجازية أريد بها مقارنة الزمان ، لأن حقيقة المعية هي المقارنة في المكان وهي المصاحبة ، ولعل اختيار المعية هنا لما تؤذن به من التأييد والنصر قال تعالى : {إنني معكما أسمع وأرى} {طه : 20 ] وفي الحديث "ومعك روح القدس ".
والتعريف في الكتاب للاستغراق ، أي وأنزل مع النبيئين الكتب التي نزلت كلها وهو من مقابلة الجمع بالجمع على معنى التوزيع ، فالمعنى أنزل مع كل نبي كتابه وقرينة التوزيع موكولة لعلم السامعين لاشتهار ذلك.
وإنما أفرد الكتاب ولم يقل الكتب ، لأن المفرد والجمع في مقام الاستغراق سواء ، وقد تقدم مع ما في الإفراد من الإيجاز ودفع احتمال العهد إذ لا يجوز أن ينزل كتاب واحد مع جمع النبيئين ؛ فتعين أن يكون المراد الاستغراق لا العهد ، وجوز صاحب "الكشاف" كون اللام للعهد والمعنى أنزل مع كل واحد كتابه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 302 ـ 303}(5/230)
سؤال : لم عبر تعالى بالبعث دون الإرسال وما في معناه ؟
الجواب : عبر تعالى بالبعث دون الإرسال وما في معناه لأن هذه الوحدة المخبر عنها من حال الإنسان الأولي حال خمود وسكوت ، وهو يناسب البعث الذي هو الإقامة عن نوم أو قطون ونحو ذلك ، وهذه النكتة لعلها هي الموجبة للتعبير عن هؤلاء المبعوثين بالنبيين دون أن يعبر بالمرسلين أو الرسل ، على أن البعث وإنزال الكتاب كما تقدم بيانه حقيقتهما بيان الحق للناس وتبنيهم بحقيقة أمر وجودهم وحياتهم ، وإنبائهم أنهم مخلوقون لربهم ، وهو الله الذي لا إله إلا هو ، وأنهم سالكون كادحون إلى الله فى يوم عظيم ، واقفون في منازل من منازل السير ، لا حقيقة له إلا لعب وغرور ، فيجب أن يراعو ذلك في هذه الحياة وأفعالها ، وأن يجعلو نصب أعينهم أنهم من أين ، وهذا المعنى أنسب بلفظ النبي الذي معناه : من استقر عنده النبأ دون الرسول ، ولذلك عبر بالبنيين ، وفي إسناد بعث النبيين إلى الله سبحانه دلالة على عصمة الأنبياء في تلقيهم الوحى وتبليغهم الرسالة إلى الناس. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 127}(5/231)
سؤال : لم قدّم البشارة ؟
الجواب : قدّم البشارة لأنها أبهج للنفس ، وأقبل لما يلقى النبي ، وفيها اطمئنان المكلف ، والوعد بثواب ما يفعله من الطاعة ، ومنه. {فإنما يسرناه بسانك لتبشر به المتقين وتنذر به قوماً لداً }. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 144}
قال الخازن :
{ وأنزل معهم الكتاب} أي الكتب أو يكون التقدير وأنزل مع كل واحد الكتاب {بالحق} أي بالعدل والصدق وجملة الكتب المنزلة من السماء مائة وأربعة كتب أنزل على آدم عشر صحائف ، وعلى شيث ثلاثون ، وعلى إدريس خمسون ، وعلى موسى عشر صحائف والتوراة ، وعلى داود الزبور ، وعلى عيسى الإنجيل ، وعلى محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعليهم القرآن. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 138}
وقال أبو حيان :
{ وأنزل معهم الكتاب بالحق} معهم حال من الكتاب : وليس تعمل فيه أنزل ، إذ كان يلزم مشاركتهم له في الإنزال ، وليسوا متصفين ، وهي حال مقدرة أي : وأنزل الكتاب مصاحباً لهم وقت الإنزال لم يكن مصاحباً لهم ، لكنه انتهى إليهم.
والكتاب : إما أن تكون أل فيه للجنس ، وإما أن تكون للعهد على تأويل : معهم ، بمعنى مع كل واحد منهم ، أو على تأويل أن يراد به واحد معين من الكتب ، وهو التوراة. قاله الطبري ، أنزلت على موسى وحكم بها النبيون بعده ، واعتمدوا عليها كالأسباط وغيرهم ، ويضعف أن يكون مفرداً وضع موضع الجمع ، وقد قيل به.
ويحتمل : بالحق ، أن يكون متعلقاً : بأنزل ، أو بمعنى ما في الكتاب من معنى الفعل ، لأنه يراد به المكتوب ، أو بمحذوف ، فيكون في موضع الحال من الكتاب ، أي مصحوباً بالحق ، وتكون حالاً مؤكدة لأن كتب الله المنزلة يصحبها الحق ولا يفارقها ، وهذه الجملة معطوفة على قوله : {فبعث الله }.(5/232)
ولا يقال : إن البشارة والنذارة إنما يكونان بالأمر والنهي ، وهما إنما يستفادان من إنزال الكتب فَلِمَ قدما على الإنزال مع أنهما ناشئان عنه ؟ لأنه ذلك لا يلزم ، لأن البشارة والنذارة قد يكونان ناشئين عن غير الكتب من وحي الله لنبيه دون أن يكون ذلك كتاباً يتلى ويكتب ، ولو سلم ذلك لكان تقديمهما هو الأولى لأنهما حالان من النبيين. فناسب اتصالهما بهم ، وإن كانا ناشئين عن إنزال الكتب.
وقال القاضي : الوعد والوعيد من الأنبياء عليهم السلام قبل بيان الشرع ممكن فيما يتصل بالعقليات من معرفة الله تعالى ، وترك الظلم وغيرهما ، انتهى كلامه.
وما ذكر لا يظهر ، لأن الوعد بالثواب والوعيد بالعقاب ليسا مما يقضي بهما العقل وحده على جهة الوجوب ، وإنما ذلك على سبيل الجواز ، ثم أتى الشرع بهما ، فصار ذلك الجائز في العقل واجباً بالشرع ، وما كان بجهة الإمكان العقلي لا يتصف به النبي على سبيل الوجوب إلاَّ بعد الوحي قطعاً ، فإذن يتقدّم الوحي بالوعد والوعيد على ظهور البشارة والنذارة ممن أوحى إليه قطفاً.
قال القاضي : وظاهر الآية يدل على أنه لا نبي إلاَّ ومعه كتاب منزل فيه بيان الحق ، طال ذلك الكتاب أو قصر ، دوّن أو لم يدوّن ، كان معجزاً أو لم يكن ، لأن كون الكتاب منزلاً معهم لا يقضي شيئاً من ذلك. انتهى كلامه.
ويحتمل أن يكون التجّوز في : أنزل ، فيكون بمعنى : جعل ، كقوله : {وأنزلنا الحديد} ولما كان الإنزال الكثير منهم نسب إلى الجميع ، ويحتمل أن يكون التجوّز في الكتاب ، فيكون بمعنى الموحى به ، ولما كان كثيراً مما أوحى به بكتب ، أطلق على الجميع الكتاب تسمية للمجموع باسم كثير من أجزائه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 144}
سؤال : لم عبر عن الإنزال بالإيتاء ؟(5/233)
عبر عن الإنزال بالإيتاء للتنبيه من أول الأمر على كمال تمكنهم من الوقوف على ما فيه من الحق فإن الإنزال لا يفيد ذلك ، وقيل : عبر به ليختص الموصول بأرباب العلم والدراسة من أولئك المختلفين ، وخصهم بالذكر لمزيد شناعة فعلهم ولأن غيرهم تبع لهم. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 102}
قوله تعالى : {لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس }
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس} فاعلم أنه قوله : {لِيَحْكُمَ} فعل فلا بد من استناده إلى شيء تقدم ذكره ، وقد تقدم ذكر أمور ثلاثة ، فأقربها إلى هذا اللفظ : الكتاب ، ثم النبيون ، ثم الله فلا جرم كان إضمار كل واحد منها صحيحاً ، فيكون المعنى : ليحكم الله ، أو النبي المنزل عليه ، أو الكتاب ، ثم إن كل واحد من هذه الاحتمالات يختص بوجه ترجيح ، أما الكتاب فلأنه أقرب المذكورات ، وأما الله فلأنه سبحانه هو الحاكم في الحقيقة لا الكتاب ، وأما النبي فلأنه هو المظهر فلا يبعد أن يقال : حمله على الكتاب أولى ، أقصى ما في الباب أن يقال : الحاكم هو الله ، فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز إلا أن نقول : هذا المجاز يحسن تحمله لوجهين الأول : أنه مجاز مشهور يقال : حكم الكتاب بكذا ، وقضى كتاب الله بكذا ، ورضينا بكتاب الله ، وإذا جاز أن يكون هدى وشفاء ، جاز أن يكون حاكماً قال تعالى : {إِنَّ هذا القرءان يِهْدِى لِلَّتِى هِىَ أَقْوَمُ وَيُبَشّرُ المؤمنين} {الإسراء : 9 ] والثاني : أنه يفيد تفخيم شأن القرآن وتعظيم حاله.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 14}
وقال ابن عاشور :
والضمير في {ليحكم} راجع إلى الكتاب فإسناد الحكم إلى الكتاب مجاز عقلي ، لأنه مبين ما به الحكم ، أو فعل يحكم مجاز في البيان. ويجوز رجوع الضمير إلى اسم الجلالة أي أنزل الله الكتاب ليحكم بينهم إسناد الحكم مجاز عقلي ، لأنه المسبب له والأمر بالقضاء به ، وتعدية ( يحكم ) ببين لأنه لم يعين فيه محكوم له أو عليه.(5/234)
وحكم الكتاب بين الناس بيان الحق والرشد والاستدلال عليه ، وكونه فيما اختلفوا فيه كناية عن إظهاره الحق ، لأن الحق واحد لا يختلف فيه إلاّ عن ضلال أو خطأ ، ولهذا قال جمهور علمائنا إن المصيب في الاجتهاديات واحد. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 308}
قال ابن عادل :
و "بَيْنَ "مُتَعلِّقٌ بـ "يَحْكُمْ ". والظَّرفيةُ هنا مجازٌ. وكذلك "فِيما اخْتَلَفُوا "مُتعلقٌ به أيضاً. و" مَا "موصولةٌ ، والمرادُ بها الدِّينُ ، أي : ليحكم اللَّهُ بين الناسِ في الدِّين ، بعد أَنْ كانُوا مُتفقين عيه. ويضعُفُ أَنْ يْرَادَ بـ "ما "النبيُّ - صلى الله عليه وسلم ـ ؛ لأنها لغير العقلاء غالباً. و" فِيهِ "متعلِّقٌ بـ "اخْتَلَفُوا " ، والضميرُ عائدٌ على "ما "الموصولة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 506}
قوله تعالى : {فِيمَا اختلفوا فِيهِ }
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {فِيمَا اختلفوا فِيهِ} فاعلم أن الهاء في قوله : {فِيمَا اختلفوا فِيهِ} يجب أن يكون راجعاً ، إما إلى الكتاب ، وإما إلى الحق ، لأن ذكرهما جميعاً قد تقدم ، لكن رجوعه إلى الحق أولى ، لأن الآية دلت على أنه تعالى إنما أنزل الكتاب ليكون حاكماً فيما اختلفوا فيه فالكتاب حاكم ، والمختلف فيه محكوم عليه ، والحاكم يجب أن يكون مغايراً للمحكوم عليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 14}
قوله تعالى : {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ }
سؤال : فإن قيل : إذا كانوا مختلفين في الحق ، فكيف عمهم الكفر في قول من قال إنهم كانوا كلهم كفارا ؟
فجوابه : إنه لا يمتنع أن يكونوا كفارا ، وبعضهم يكفر من جهة الغلو ، وبعضهم يكفر من جهة التقصير ، كما كفرت اليهود والنصارى في المسيح ، فقالت النصارى : هو رب ، وقالت اليهود : هو كاذب. أ هـ {مجمع البيان حـ 1 صـ 67}(5/235)
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ} فالهاء الأولى راجعة إلى الحق والثانية : إلى الكتاب والتقدير : وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب ، ثم قال أكثر المفسرين : المراد بهؤلاء : اليهود والنصارى والله تعالى كثيراً ما يذكرهم في القرآن بهذا اللفظ كقوله : {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} {المائدة : 5 ] {قُلْ ياأهل تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ} {آل عمران : 64 ] ثم المراد باختلافهم يحتمل أن يكون هو تكفير بعضهم بعضاً كقوله تعالى : {وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَىْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَىْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب} {البقرة : 113 ] ويحتمل أن يكون اختلافهم تحريفهم وتبديلهم ، فقوله : {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ} أي وما اختلف في الحق إلا الذين أوتوا الكتاب مع أنه كان المقصود من إنزال الكتاب أن لا يختلفوا وأن يرفعوا المنازعة في الدين واعلم أن هذا يدل على أن الاختلاف في الحق لم يوجد إلا بعد بعثة الأنبياء وإنزال الكتب وذلك يوجب أن قبل بعثهم ما كان الاختلاف في الحق حاصلاً ، بل كان الإتفاق في الحق حاصلاً وهو يدل على أن قوله تعالى : {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة} معناه أمة واحدة في دين الحق. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 14}
وقال الواحدى :
{وما اختلف فيه إلاَّ الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً} أَيْ : وما اختلفَ في أمر محمَّدٍ بعد وضوح الدّلالات لهم بغياً وحسداً إلاَّ اليهودُ الذين أوتوا الكتاب ؛ لأنَّ المشركين - وإن اختلفوا في أمر محمَّد عليه السَّلام - فإنَّهم لم يفعلوا ذلك للبغي ، والحسد ، ولم تأتهم البيِّنات في شأن محمَّد عليه السَّلام ، كما أتت اليهود ، فاليهود مخصوصون من هذا الوجه. أ هـ {الوجيز للواحدى حـ 1 صـ 56}(5/236)
وقال ابن عاشور :
قوله تعالى : {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ }
عطف على جملة {أنزل معهم الكتاب بالحق} لبيان حقيقة أخرى من أحوال اختلاف الأمم وهو الاختلاف بين أهل الكتاب بعضهم مع بعض وبين أهل الكتاب الواحد مع تلقيهم ديناً واحداً ، والمعنى وأنزل معهم الكتاب بالحق فاختلف فيه كما قال تعالى : {ولقد آتينا موسى الكتاب فاختلف فيه} {هود : 110 ]. والمعنى وما اختلف فيه إلا أقوامهم الذين أوتوا كتبهم فاستغنى بجملة القصر عن الجملة الأخرى لتضمن جملة القصر إثباتاً ونفياً. فاللَّه بعث الرسل لإبطال الضلال الحاصل من جهل البشر بصلاحهم فجاءت الرسل بالهدى ، اتبعهم من اتبعهم فاهتدى وأعرض عنهم من أعرض فبقي في ضلالة ، فإرسال الرسل لإبطال الاختلاف بين الحق والباطل ، ثم أحدث اتباع الرسل بعدهم اختلافاً آخر وهو اختلاف كل قوم في نفس شريعتهم. والمقصود من هذا بيان عجيب حال البشر في تسرعهم إلى الضلال ، وهي حقيقة تاريخية من تاريخ الشرائع ، وتحذير المسلمين من الوقوع في مثل ذلك.
والتعريض بأهل الكتاب وهم أشهر أهل الشرائع يومئذٍ فيما صنعوا بكتبهم من الاختلاف فيها ، وهذا من بديع استطراد القرآن في توبيخ أهل الكتاب وخاصة اليهود وهي طريقة عربية بليغة قال زهير
: ... إن البخيل ملوم حين كان
ولكن الجوادَ على علاَّته هرم... وقال الفرزدق يمدح الخليفة ويستطرد بهجاء جرير
: ... إلى مَلِك ما أُمُّه من مُحَارِب
أبُوه ولا كانَتْ كُلَيْبٌ تصاهره... والضمير من قوله : {فيه} يجوز أن يعود إلى الكتاب وأن يعود إلى الحق الذي تضمنه الكتاب ، والمعنى على التقديرين واحد ، لأن الكتاب أنزل ملابساً للحق ومصاحباً له فإذا اختلف في الكتاب اختلف في الحق الذي فيه وبالعكس على طريقة قياس المساواة في المنطق.
في تحريف المراد منه مذهباً يخالف مذهب الآخر في أصول الشرع لا في الفروع ، فإن الاختلاف في أصوله يعطل المقصود منه.(5/237)
وجيء بالموصول دون غيره من المعرفات لما في الصلة من الأمر العجيب وهو أن يكون المختلفون في مقصد الكتاب هم الذين أعطوا الكتاب ليزيلوا به الخلاف بين الناس فأصبحوا هم سبب خلاف فيه ، ولا شك أن ذلك يبطل المراد منه.
والمعنى تشنيع حال الذين أوتوه بأن كانوا أسوأ حالاً من المختلفين في الحق قبل مجيء الشرائع ، لأن أولئك لهم بعض العذر بخلاف الذين اختلفوا بعد كون الكتاب بأيديهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 308}
قوله تعالى : {مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينات} فهو يقتضي أن يكون إيتاء الله تعالى إياهم الكتاب كان بعد مجيء البينات فتكون هذه البينات مغايرة لا محالة لإيتاء الكتاب وهذه البينات لا يمكن حملها على شيء سوى الدلائل العقلية التي نصبها الله تعالى على إثبات الأصول التي لا يمكن القول بالنبوة إلا بعد ثبوتها ، وذلك لأن المتكلمين يقولون كل ما لا يصح إثبات النبوة إلا بعد ثبوته ، فذلك لا يمكن إثباته بالدلائل السمعية وإلا وقع الدور ، بل لا بد من إثباتها بالدلائل العقلية فهذه الدلائل هي البينات المتقدمة على إيتاء الله الكتب إياهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 15}
وقال العلامة أبو حيان :
قوله تعالى {وما اختلف فيه إلا الذين أوتوه من بعد ما جاءتهم البينات بغياً بينهم} الضمير من قوله : وما اختلف فيه ، يعود على ما عاد عليه في : فيه ، الأولى ، وقد تقدّم أنها عائدة على : ما ، وشرح ما المعنى : بما ، أهو الدين ، أو محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟ أم دينه ؟ أم هما ؟ أم كتابه ؟
والضمير في : أوتوه ، عائد إذ ذاك على ما عاد عليه الضمير في : فيه ، وقيل : الضمير في : فيه ، عائد على الكتاب ، وأوتوه عائد أيضاً على الكتاب ، التقدير : وما اختلف في الكتاب إلاَّ الذين أوتوه ، أي : أوتوا الكتاب.(5/238)
وقال الزجاج : الضمير في : فيه ، الثانية يجوز أن يعود على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، أي : وما اختلف في النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلاَّ الذين أوتوه ، أي : أوتوا علم نبوّته ، فعلوا ذلك للبغي ، وعلى هذا يكون الكتاب : التوراة ، والذين أوتوه اليهود.
وقيل : الضمير في : فيه ، عائد على ما اختلفوا فيه من حكم التوراة والقبلة وغيرهما ، وقيل : يعود الضمير في : فيه ، على عيسى صلى الله على نبينا وعليه.
وقال مقاتل : الضمير عائد على الدين ، أي : وما اختلف في الدين. انتهى.
والذي يظهر من سياق الكلام وحسن التركيب أن الضمائر كلها في : أوتوه وفيه الأولى والثانية ، يعود على : ما ، الموصولة في قوله : وما اختلفوا فيه ، وأن الذين اختلفوا فيه مفهومه كل شيء اختلفوا فيه فمرجعه إلى الله ، بينه بما نزل في الكتاب ، أو إلى الكتاب إذ فيه جميع ما يحتاج إليه المكلف ، أو إلى النبي يوضحه بالكتاب على الأقوال التي سبقت في الفاعل في قوله : {ليحكم }.
والذين أوتوه أرباب العلم به والدراسة له ، وخصهم بالذكر تنبيهاً منه على شناعة فعلهم ، وقبيح ما فعلوه من الاختلاف ، ولأن غيرهم تبع لهم في الاختلاف فهم أصل الشر ، وأتى بلفظ : من ، الدالة على ابتداء الغاية منبهاً على أن اختلافهم متصل بأول زمان مجيء البينات ، لم يقع منهم اتفاق على شيء بعد المجيء ، بل بنفس ما جاءتهم البينات اختلفوا ، لم يتخلل بينهما فترة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 146}
وقال ابن عاشور : (5/239)
وقوله : {من بعد ما جاءتهم البينات} متعلق باختلف ، والبينات جمع بينة وهي الحجة والدليل. والمراد بالبينات هنا الدلائل التي من شأنها الصدّ عن الاختلاف في مقاصد الشريعة ، وهي النصوص التي لا تحتمل غير مدلولاتها أعني قواطع الشريعة ، والظواهر المتعاضدة التي التحقت بالقواطع. والظواهر التي لم يدع داع إلى تأويلها ولا عارضها معارض. والظواهر المتعارضة التي دل تعارضها على أن محمل كل منها على حالة لا تعارض حالة محمل الآخر وهو المعبر عنه في الأصول بالجمع بين الأدلة وتواريخ التشريع الدالة على نسخ حكم حكماً آخر ، أو ما يقوم مقام التاريخ من نحو هذا ناسخ ، أو كان الحكم كذا فصار كذا ، فهذه بينات مانعة من الاختلاف لو كان غرض الأمم اتباع الحق ومجىء البينات بلوغ ما يدل عليها وظهور المراد منها.
والبعدية هنا : بعدية اعتبار لم يقصد منها تأخر زمان الاختلاف عن مجيء البينات ، وإن كان هو كذلك في نفس الأمر ، أي إن الخلاف كان في حالة تقررت فيها دلائل الحق في نفوس المختلفين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 310}
قوله تعالى : {بَغْياً بَيْنَهُمْ }
قال الآلوسى :
وقوله تعالى : {بَغْياً بَيْنَهُمْ} متعلق بما تعلق به {مِنْ} والبغي الظلم أو الحسد ، و{ بَيْنَهُمْ} متعلق بمحذوف صفة {بَغِيّاً} وفيه إشارة على ما أرى إلى أنّ هذا البغي قد باض وفرخ عندهم ، فهو يحوم عليهم ويدور بينهم لا طمع له في غيرهم ، ولا ملجأ له سواهم ، وفيه إيذان بتمكنهم في ذلك وبلوغهم الغاية القصوى فيه وهو فائدة التوصيف بالظرف وقيل : أشار بذلك إلى أنّ البغي أمر مشترك بينهم وأنّ كلهم سفل ، ومنشأ ذلك مزيد حرصهم في الدنيا وتكالبهم عليها. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 102}
وقال الفخر :
أما قوله تعالى : {بَغْياً بَيْنَهُمْ} فالمعنى أن الدلائل إما سمعية وإما عقلية.(5/240)
أما السمعية فقد حصلت بإيتاء الكتاب ، وأما العقلية فقد حصلت بالبينات المتقدمة على إيتاء الكتاب فعند ذلك قد تمت البينات ولم يبق في العدول عذر ولا علة ، فلو حصل الإعراض والعدول لم يكن ذلك إلا بحسب الحسد والبغي والحرص على طلب الدنيا ، ونظيره هذه الآية قوله تعالى : {وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَاءتْهُمُ البينة} {البينة : 4 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 15}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {بغياً بينهم} مفعول لأجله لاختلفوا ، والبغي : الظلم وأصل البغي في كلام العرب الطلب ، ثم شاع في طلب ما للغير بدون حق فصار بمعنى الظلم معنى ثانياً وأطلق هنا على الحسد لأن الحسد ظلم.
والمعنى أن داعي الاختلاف هو التحاسد وقصد كل فريق تغليط الآخر فيحمل الشريعة غير محاملها ليفسد ما حملها عليه الآخر فيفسد كل فريق صواب غيره وأما خطؤه فأمره أظهر.
وقوله : {بينهم} متعلق بقوله : {بغياً} للتنصيص على أن البغي بمعنى الحسد ، وأنه ظلم في نفس الأمة وليس ظلماً على عدوها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 310}
بحث نفيس
(حدوث الاختلاف بين أفراد الإنسان) ومن هنا يعلم أن قريحة الاستخدام في الإنسان بانضمامها إلى الاختلاف الضروري بين الأفراد من حيث الخلقة ومنطقة الحياة والعادات والأخلاق المستندة إلى ذلك ، وإنتاج ذلك للاختلاف الضروري من حيث القوة والضعف يؤدي إلى الاختلاف والانحراف عن ما يقتضيه الاجتماع الصالح من العدل الاجتماعي ، فيستفيد القوي من الضعيف أكثر مما يفيده ، وينتفع الغالب من المغلوب من غير أن ينفعه ، ويقابله الضعيف المغلوب مادام ضعيفا مغلوبا بالحيلة والمكيدة والخدعة ، فإذا قوي وغلب قابل ظالمه بأشد الانتقام ، فكان بروز الاختلاف مؤديا إلى الهرج والمرج ، وداعيا إلى هلاك الإنسانية ، وفناء الفطرة ، وبطلان السعادة.(5/241)
وإلى ذلك يشير تعالى بقوله : "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا "يونس - 19 ، وقوله تعالى : "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم "هود - 119 ، وقوله تعالى في الآية المبحوث عنها : "ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه "الآية.
وهذا الاختلاف كما عرفت ضروري الوقوع بين أفراد المجتمعين من الإنسان لاختلاف الخلقة باختلاف المواد ، وإن كان الجميع إنسانا بحسب الصورة الإنسانية الواحدة ، والوحدة في الصورة تقتضي الوحدة من حيث الأفكار والأفعال بوجه ، واختلاف المواد يؤدي إلى اختلاف الإحساسات والإدراكات والأحوال في عين أنها متحدة بنحو ، أو اختلافها يؤدي إلى اختلاف الأغراض والمقاصد والآمال ، واختلافها يؤدي إلى اختلاف الافعال ، وهو المؤدي إلى اختلال نظام الاجتماع.
وظهور هذا الاختلاف هو الذي استدعى التشريع ، وهو جعل قوانين كلية يوجب العمل بها ارتفاع الاختلاف ، ونيل كل ذي حق حقه ، وتحميلها الناس.
والطريق المتخذ اليوم لتحميل القوانين المصلحة لاجتماع الإنسان أحد طريقين
الأول : إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين الموضوعة لتشريك الناس في حق الحياة وتسويتهم في الحقوق ، بمعنى أن ينال كل من الأفراد ما يليق به من كمال الحياة ، مع إلغاء المعارف الدينية ، من التوحيد والأخلاق الفاضلة ، وذلك بجعل التوحيد ملغى غير منظور إليه ولا مرعي ، وجعل الأخلاق تابعة للاجتماع وتحوله ، فما وافق حال الاجتماع من الأخلاق فهو الخلق الفاضل ، فيوما العفة ، ويوما الخلاعة ، ويوما الصدق ، ويوما الكذب ، ويوما الأمانة ، ويوما الخيانة ، وهكذا.
والثاني : إلجاء الاجتماع على طاعة القوانين بتربية ما يناسبها من الأخلاق واحترامها مع إلغاء المعارف الدينية في التربية الاجتماعية.
وهذان طريقان مسلوكان في رفع الاختلافات الاجتماعية وتوحيد الأمة المجتمعة من الإنسان :
أحدهما بالقوة المجبرة والقدرة المتسلطة من الإنسان فقط ،
(5/242)
وثانيهما بالقوة والتربية الخلقية ، لكنهما على ما يتلوهما من المفاسد مبنيان على أساس الجهل ، فيه بوار هذا النوع ، وهلاك الحقيقة الإنسانية ، فإن هذا الإنسان موجود مخلوق لله متعلق الوجود بصانعه ، بدء من عنده وسيعود إليه ، فله حياة باقية بعد الارتحال من هذه النشأة الدنيوية ، حياة طويلة الذيل ، غير منقطع الأمد ، وهي مرتبة على هذه الحياة الدنيوية ، وكيفية سلوك الإنسان فيها ، واكتسابه الأحوال والملكات المناسبة للتوحيد الذي هو كونه عبدا لله سبحانه ، بادئا منه عائدا إليه ، وإذا بنى الإنسان حياته في هذه الدنيا على نسيان توحيده ، وستر حقيقة الأمر فقد أهلك نفسه ، وأباد حقيقته.
فمثل الناس في سلوك هذين الطريقين كمثل قافلة أخذت في سلوك الطريق إلى بلد ناء معها ما يكفيها من الزاد ولوازم السير ، ثم نزلت في أحد المنازل في أثناء الطريق فلم يلبث هنيئة حتى أخذت في الاختلاف : من قتل ، وضرب ، وهتك عرض ، وأخذ مال وغصب مكان وغير ذلك ، ثم اجتمعوا يتشاورون بينهم على اتخاذ طريقة يحفظونها لصون أنفسهم وأموالهم.
فقال قائل منهم : عليكم بالاشتراك في الانتفاع من هذه الأعراض والأمتعة ، والتمتع على حسب ما لكل من الوزن الاجتماعي ، فليس إلا هذا المنزل والمتخلف عن ذلك يؤخذ بالقوة والسياسة.
وقال قائل منهم : ينبغي أن تضعوا القانون المصلح لهذا الاختلاف على أساس الشخصيات الموجودة الذي جئتم بها من بلدكم الذي خرجتم منه ، فيتأدب كل بما له من الشخصية الخلقية ، ويأخذ بالرحمة لرفقائه ، والعطوفة والشهامة والفضيلة ، ثم تشتركوا مع ذلك في الانتفاع عن هذه الأمتعة الموجودة ، فليست إلا لكم ولمنزلكم هذا.
وقد أخطا القائلان جميعا ، وسهيا عن أن القافلة جميعا على جناح سفر ، ومن الواجب على المسافر أن يراعي في جميع أحواله حال وطنه وحال غاية سفره التي يريدها فلو نسي شيئا من ذلك لم يكن يستقبله إلا الضلال والغى والهلاك.
(5/243)
والقائل المصيب بينهم هو من يقول : تمتعوا من هذه الأمتعة على حسب ما يكفيكم لهذه الليلة ، وخذوا من ذلك زادا لما هو أمامكم من الطريق ، وما أريد منكم في وطنكم ، وما تريدونه لمقصدكم.
(رفع الاختلاف بالدين) ولذلك شرع الله سبحانه ما شرعه من الشرائع والقوانين واضعا ذلك على أساس التوحيد ، والاعتقاد والأخلاق والأفعال ، وبعبارة أخرى وضع التشريع مبني على أساس تعليم الناس وتعريفهم ما هو حقيقة أمرهم من مبدئهم إلى معادهم ، وأنهم يجب أن يسلكوا في هذه الدنيا حياة تنفعهم في غد ، ويعملوا في العاجل ما يعيشون به في الآجل ، فالتشريع الديني والتقنين الإلهي هو الذي بني على العلم فقط دون غيره ، قال تعالى : "إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون "يوسف - 40 ، وقال تعالى في هذه الآية المبحوث عنها : "فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين وأنزل معهم الكتاب ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه "الآية ، فقارن بعثة الأنبياء بالتبشير والإنذار بإنزال الكتاب المشتمل على الأحكام والشرائع الرافعة لاختلافهم.
ومن هذا الباب قوله تعالى : "وقالوا ما هي إلا حياتنا الدنيا نموت ونحيا وما يهلكنا إلا الدهر وما لهم بذلك من علم إن هم إلا يظنون "الجاثية - 24 ، فإنهم إنما
كانوا يصرون على قولهم ذلك ، لا لدفع القول بالمعاد فحسب ، بل لأن القول بالمعاد والدعوة إليه كان يستتبع تطبيق الحياة الدنيوية على الحياة بنحو العبودية ، وطاعة قوانين دينية مشتملة على مواد وأحكام تشريعية : من العبادات والمعاملات والسياسات.
وبالجملة القول بالمعاد كان يستلزم التدين بالدين ، واتباع أحكامه في الحياة ، ومراقبة البعث والمعاد في جميع الأحوال والأعمال ، فردوا ذلك ببناء الحياة الاجتماعية على مجرد الحياة الدنيا من غير نظر إلى ما ورائها.
(5/244)
وكذا قوله تعالى : "إن الظن لا يغني من الحق شيئا فأعرض عمن تولى عن ذكرنا ولم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم "النجم - 30 ، فبين تعالى أنهم يبنون الحياة على الظن والجهل ، والله سبحانه يدعو إلى دار السلام ، ويبني دينه على الحق والعلم ، والرسول يدعو الناس إلى مايحييهم ، قال تعالى : "يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم "الأنفال - 24 ، وهذه الحياة هي التي يشير إليها قوله تعالى : "أو من كان ميتا فأحييناه وجعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها "الأنعام - 122 ، وقال تعالى : "أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمى إنما يتذكر أولوا الالباب "الرعد - 19 ، وقال تعالى : "قل هذه سبيلى أدعوا إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين "يوسف - 108 ، وقال تعالى : "هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون إنما يتذكر أولوا الألباب "الزمر - 9 ، وقال تعالى : "يعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم "البقرة - 129 ، إلى غير ذلك ، والقرآن مشحون بمدح العلم والدعوة إليه والحث به ، وناهيك فيه أنه يسمي العهد السابق على ظهور الإسلام عهد الجاهلية كما قيل.
فما أبعد من الإنصاف قول من يقول : إن الدين مبني على التقليد والجهل مضاد للعلم ومباهت له ، وهؤلاء القائلون أناس اشتغلوا بالعلوم الطبيعية والاجتماعية فلم يجدوا فيها ما يثبت شيئا مما وراء الطبيعة ، فظنوا عدم الإثبات إثباتا للعدم ، وقد أخطأوا في ظنهم ، وخبطوا في حكمهم ، ثم نظروا إلى ما في أيدي أمثالهم من الناس المتهوسين من أمور يسمونه باسم الدين ، ولا حقيقة لها غير الشرك ، والله برئ من المشركين ورسوله ، ثم نظروا إلى الدعوة الدينية بالتعبد والطاعة فحسبوها تقليدا وقد أخطأوا
(5/245)
في حسبانهم ، والدين أجل شأنا من أن يدعو إلى الجهل والتقليد ، وأمنع جانبا من أن يهدي إلى عمل لا علم معه ، أو يرشد إلى قول بغير هدى ولا كتاب منير ، ومن أظلم ممن افترى على الله كذبا أو كذب بالحق لما جاءه.
(الاختلاف في نفس الدين) وبالجملة فهو تعالى يخبرنا أن الاختلاف في المعاش وأمور الحياة إنما رفع أول ما رفع بالدين ، فلو كانت هناك قوانين غير دينية فهي مأخوذة بالتقليد من الدين.
ثم إنه تعالى يخبرنا أن الاختلاف نشأ بين النوع في نفس الدين وإنما أوجده حملة الدين ممن أوتي الكتاب المبين : من العلماء بكتاب الله بغيا بينهم وظلما وعتوا ، قال تعالى : "شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا والذي أوحينا إليك وما وصينا به إبراهيم وموسى وعيسى أن أقيموا الدين ولا تتفرقوا فيه ، إلى أن قال ، وما تفرقوا إلا من بعد ما جاءهم العلم بغيا بينهم ولولا كلمة سبقت من ربك إلى أجل مسمى لقضي بينهم "الشورى - 14 ، وقال تعالى : "وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا ولولا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم فيما فيه يختلفون "يونس - 19 ، والكلمة المشار إليها في الآيتين هو قوله تعالى : "ولكم في الأرض مستقر ومتاع إلى حين "الأعراف - 24 فالاختلاف في الدين مستند إلى البغي دون الفطرة ، فإن الدين فطري وما كان كذلك لا تضل فيه الخلقة ولا يتبدل فيه حكمها كما قال تعالى : "فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم "الروم - 30 فهذه جمل ما بني عليه الكلام في هذه الآية الشريفة. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 119 ـ 122}
قوله تعالى : {فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ}
المناسبة
(5/246)
ولما ذكر إنزال الكتاب وسببه ذكر ما تسبب عنه فقال عاطفاً على ما تقديره : فعموا عن البينات : {فهدى الله} في إسناده إلى الاسم الأعظم كما قال الحرالي إعلام بأنه ليس من طوق الخلق إلا بعون وتوفيق من الحق - انتهى. {الذين آمنوا} أي بالنبيين ببركة إيمانهم {لما اختلفوا} أي أهل الضلالة {فيه} ثم بينه بقوله : {من الحق} ويجوز أن تكون تبعيضية لما عموا عنه من الحق الذي نزل به الكتاب الذي جاء به النبيون {بإذنه} أي بما ارتضاه لهم من علمه وإرادته وتمكينه. قال الحرالي : فيه إشعار بما فطرهم عليه من التمكين لقبوله لأن الإذن أدناه التمكين وإزالة المنع - انتهى. {والله} أي المحيط علماً وقدرة {يهدي من يشاء} أي بما له من أوصاف الكمال {إلى صراط مستقيم} قال الحرالي : هذا هدى أعلى من الأول كأن الأول هدى إلى إحاطة علم الله وقدرته وهذا هدى إليه ، وفي صيغة المضارع بشرى لهذه الأمة بدوام هداهم إلى ختم اليوم المحمدي "لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله "انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 394 ـ 395}
قال الفخر : (5/247)
أما قوله تعالى : {فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ} فاعلم أنه تعالى لما وصف حال أهل الكتاب وأنهم بعد كمال البينات أصروا على الكفر والجهل بسبب البغي والحسد بين أن حال هذه الأمة بخلاف حال أولئك فإن الله عصمهم عن الزلل وهداهم إلى الحق في الأشياء التي اختلف فيها أهل الكتاب ، يروى أنه عليه الصلاة والسلام قال : "نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، ونحن أولى الناس دخولاً الجنة يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم فهدانا لله لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فهذا اليوم الذي هدانا له ، والناس له فيه تبع وغداً لليهود ، وبعد غد للنصارى "قال ابن زيد : اختلفوا في القبلة فصلت اليهود إلي بيت المقدس والنصارى إلى المشرق ، فهدانا الله للكعبة واختلفوا في الصيام ، فهدانا الله لشهر رمضان ، واختلفوا في إبراهيم ، فقالت اليهود : كان يهودياً وقالت النصارى : كان نصرانياً ، فقلنا : إنه كان حنيفاً مسلماً واختلفوا في عيسى ، فاليهود فرطوا ، والنصارى أفرطوا ، وقلنا القول العدل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 15}
وقال ابن عاشور : (5/248)
وقوله : {فهدى الله الذين آمنوا} هذا العطف يحتمل أن الفاء عاطفة على {اختلف فيه} الذي تضمنته جملة القصر ، قال ابن عرفة : عطف بالفاء إشارة إلى سرعة هدايته المؤمنين بعقب الاختلاف اه ، يريد أنه تعقيب بحسب ما يناسب سرعة مثله وإلا فهدى المسلمين وقع بعد أزمان مضت ، حتى تفاقم اختلاف اليهود واختلاف النصارى ، وفيه بعد لا يخفى ، فالظاهر عندي أن الفاء فصيحة لما علم من أن المقصود من الكلام السابق التحذير من الوقوع في الاختلاف ضرورة أن القرآن إنما نزل لهدي المسلمين للحق في كل ما اختلف فيه أهل الكتب السالفة فكأنَّ السامعَ ترقب العلم بعاقبة هذا الاختلاف فقيل : دامَ هذا الاختلاف إلى مجيء الإسلام فهدى الله الذين آمنوا إلخ ، فقد أفصحت عن كلام مقدر وهو المعطوف عليه المحذوف كقوله تعالى : {اضرب بعصاك الحجر فانفجرت} {البقرة : 60 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 311}
فوائد
قال الفخر :
من الأصحاب من تمسك بهذه الآية على أن الإيمان مخلوق لله تعالى قال : لأن الهداية هي العلم والمعرفة ، وقوله : {فَهَدَى الله} نص في أن الهداية حصلت بفعل الله تعالى ، فدل ذلك على أن الإيمان مخلوق لله تعالى.
واعلم أن هذا الوجه ضعيف لأنا بينا أن الهداية غير ، والاهتداء غير ، والذي يدل ههنا على أن الهداية لا يمكن أن تكون عبارة عن الإيمان وجهان الأول : أن الهداية إلى الإيمان غير الإيمان كما أن التوفيق للإيمان غير الإيمان والثاني : أنه تعالى قال في آخر الآية : {بِإِذْنِهِ} ولا يمكن صرف هذا الإذن إلى قوله : {فَهَدَى الله} إذ لا جائز أن يأذن لنفسه فلا بد ههنا من إضمار ليصرف هذا الإذن إليه ، والتقدير : فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق فاهتدوا بإذنه ، وإذا كان كذلك كانت الهداية مغايرة للاهتداء.(5/249)
المسألة الثانية : احتج الأصحاب بهذه الآية على أن الله تعالى قد يخص المؤمن بهدايات لا يفعلها في حق الكافر ، والمعتزلة أجابوا عنه من وجوه أحدها : أنهم اختصوا بالاهتداء فجعل هداية لهم خاصة كقوله : {هُدًى لّلْمُتَّقِينَ} {البقرة : 2 ] ثم قال : {هُدًى لّلنَّاسِ} وثانيها : أن المراد به : الهداية إلى الثواب وطريقة الجنة وثالثها : هداهم إلى الحق بالألطاف. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 15 ـ 16}
سؤال : فإن قيل : لم قال فهداهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، ولم يقل : هداهم للحق فيما اختلفوا وقدم الإختلاف ؟
والجواب من وجهين الأول : أنه لما كانت العناية بذكر الاختلاف لهم بدأ به ، ثم فسره بمن هداه الثاني : قال الفراء : هذا من المقلوب ، أي فهداهم لما اختلفوا فيه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 16}
قال أبو حيان :
والقلب عند أصحابنا يختص بضرورة الشعر فلا نخرج كلام الله عليه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 147}
وقال الثعالبى :
ادعاء القَلْب على كتابِ اللَّه دُونَ ضرورة تَدْفَعُ إِلى ذلك عَجْزٌ ، وسُوء نَظَرٍ. وذلك أنَّ الكلام يتخرَّج على وجهه ورَصْفه ؛ لأن قوله : {فهدى} يقتضي أنهم أصابوا الحَقَّ ، وتم المعنى في قوله : {فِيهِ} ، وتبيَّن بقوله : {مِنَ الحق} جنسُ ما وقع الخلاف فيه. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 164}
قوله تعالى : {بِإِذْنِهِ }
قال ابن عاشور :(5/250)
والإذن : الخطاب بإباحة فعل وأصله مشتق من فعل أذنَ إذا أصغى أُذُنه إلى كلام مَن يكلمه ، ثم أطلق على الخطاب بإباحة فعل على طريقة المجاز بعلاقة اللزوم لأن الإصغاء إلى كلام المتكلم يستلزم الإقبال عليه وإجابةَ مطلبه ، وشاع ذلك حتى صار الإذن أشْيَع في معنى الخطاب بإباحة الفعل ، وبذلك صار لفظ الإذن قابلاً لأن يستعمل مجازاً في معان من مشابهات الخطاب بالإباحة ، فأطلق في هذه الآية على التمكين من الاهتداء وتيسيره بما في الشرائع من بيان الهُدى والإرشاد إلى وسائل الاهتداء على وجه الاستعارة ، لأن من ييسر لك شيئاً فكأنه أباح لك تناوله.
وفي هذا إيماء إلى أن الله بعث بالإسلام لإرجاع الناس إلى الحق وإلى التوحيد الذي كانوا عليه ، أو لإرجاعهم إلى الحق الذي جاءت الرسل لتحصيله ، فاختلف أتباعهم فيه بدلاً من أن يحققوا بأفهامهم مقاصد ما جاءت به رسلهم ، فحصل بما في الإسلام من بيان القرآننِ الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه وضوحُ الحق والإرشاد إلى كيفية أخذه ، فحصل بمجيء الإسلام إتمام مراد الله مما أنزل من الشرائع السالفة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 312}
فائدة
قال الفخر :
قوله تعالى : {بِإِذْنِهِ} فيه وجهان أحدها : قال الزجاج بعلمه
الثاني : هداهم بأمره أي حصلت الهداية بسبب الأمر كما يقال : قطعت بالسكين ، وذلك لأن الحق لم يكن متميزاً عن الباطل وبالأمر حصل التمييز فجعلت الهداية بسبب إذنه
الثالث : قال بعضهم : لا بد فيه من إضمار والتقدير : هداهم فاهتدوا بإذنه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 16}
فائدة أخرى
وفي تقييد الهداية بقوله تعالى : {بإذنه} دلالة على أن هداية الله تعالى لهؤلاء المؤمنين لم تكن إلزاما منهم ، وإيجابا على الله تعالى أن يهديهم لإيمانهم ، فإن الله سبحانه لا يحكم عليه حاكم ، ولا يوجب عليه موجب إلا ما أوجبه على نفسه ، بل كانت الهداية بإذنه تعالى ولو شاء لم يأذن ولم يهد ، وعلى هذا فقوله تعالى : {والله يهدي من يشاء إلى
صراط مستقيم} بمنزلة التعليل لقوله {بإذنه} ، والمعنى إنما هداهم الله بإذنه لأن له أن يهديهم وليس مضطرا موجبا على الهداية في مورد أحد ، بل يهدي من يشاء ، وقد شاء أن يهدي الذين آمنوا إلى صراط مستقيم. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 130}(5/251)
كلام نفيس للعلامة ابن القيم في انقسام القضاء والحكم والإرادة والكتابة والأمر والإذن والجعل والكلمات والبعث والإرسال والتحريم والانتباه إلى كوني متعلق بخلقه وإلى ديني متعلق بأمره وما يحقق ذلك من إزالة اللبس والإشكال.
هذا الباب متصل بالباب الذي قبله وكل منهما يقرر لصاحبه فما كان من كوني فهو متعلق بربوبيته وخلقه وما كان من الديني فهو متعلق بإلهيته وشرعه وهو كما أخبر عن نفسه سبحانه له الخلق والأمر فالخلق قضاؤه وقدره وفعله والأمر شرعه ودينه فهو الذي خلق وشرع وأمر وأحكامه جارية على خلقه قدرا وشرعا ولا خروج لأحد عن حكمه الكوني القدري وأما حكمه الديني الشرعي فيعصيه الفجار والفساق والأمران غير متلازمين فقد يقضي ويقدر ما لا يأمر به ولا شرعه وقد يشرع ويأمر بما لا يقضيه ولا يقدره ويجتمع الأمران فيما وقع من طاعات عبادة وإيمانهم وينتفي الأمران عما لم يقع من المعاصي والفسق والكفر وينفرد القضاء الديني والحكم الشرعي في ما أمر به وشرعه ولم يفعله المأمور وينفرد الحكم الكوني فيما وقع من المعاصي إذا عرف ذلك فالقضاء في كتاب الله نوعان كوني قدري كقوله : {فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ} وقوله : {وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ} وشرعي ديني كقوله : {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ} أي أمر وشرع ولو كان قضاء كونيا لما عبد غير الله والحكم أيضا نوعان فالكوني كقوله : {قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ} أي افعل ما تنصر به عبادك وتخذل به أعداءك والديني كقوله : {ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ} وقوله : {إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ} وقد يرد بالمعنيين معا كقوله : {وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً} فهذا يتناول حكمه الكوني وحكمه الشرعي والإرادة أيضا نوعان فالكونية كقوله تعالى : {فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ} وقوله : {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً} وقوله : {إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ} وقوله : {وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ} والدينية كقوله : {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} وقوله : {وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ(5/252)
يَتُوبَ عَلَيْكُمْ} فلو كانت هذه الإرادة كونية لما حصل العسر لأحد منا ولو وقعت التوبة من جميع المكلفين وبهذا التفصيل يزول الاشتباه في مسألة الأمر والإرادة هل هما متلازمان أم لا فقالت القدرية الأمر يستلزم الإرادة واحتجوا بحجج لا تندفع وقالت المثبتة الأمر لا يستلزم الإرادة واحتجوا بحجج لا تندفع والصواب أن الأمر يستلزم الإرادة الدينية ولا يستلزم الإرادة الكونية فإنه لا يأمر إلا بما يريده شرعا ودينا وقد يأمر بما لا يريده كونا وقدرا كإيمان
من أمره ولم يوفقه للإيمان مراد له دينا لا كونا وكذلك أمر خليله بذبح ابنه ولم يرده كونا وقدرا وأمر رسوله بخمسين صلاة ولم يرد ذلك كونا وقدرا وبين هذين الأمرين وأمر من لم يؤمن بالإيمان فرق فإنه سبحانه لم يحب من إبراهيم ذبح ولده وإنما أحب منه عزمه على الامتثال وأن يوطن نفسه عليه وكذلك أمره محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ليلة الإسراء بخمسين صلاة وأما أمر من علم أنه لا يؤمن بالإيمان فإنه سبحانه يحب من عباده أن يؤمنوا به وبرسله ولكن اقتضت حكمته أن أعان بعضهم على فعل ما أمره ووفقه له وخذل بعضهم فلم يعنه ولم يوفقه فلم تحصل مصلحة الأمر منهم وحصلت من الأمر بالذبح.
فصل : وأما الكتابة فالكونية كقوله : {كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي} وقوله : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ} وقوله : {كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ} والشرعية الأمرية كقوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ} وقوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ} إلى قوله : {كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ} وقوله : {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ} فالأولى كتابة بمعنى القدر والثانية كتابة بمعنى الأمر.
(5/253)
فصل : والأمر الكوني كقوله : {إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون} وقوله : {وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ} وقوله : {وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً} وقوله : {وَكَانَ أَمْراً مَقْضِيّاً} وقوله : {وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا} فهذا أمر تقدير كوني لا أمر ديني شرعي فإن الله لا يأمر بالفحشاء والمعنى قضينا ذلك وقدرناه وقالت طائفة بل هو أمر ديني والمعنى أمرناهم بالطاعة فخالفونا وفسقوا والقول الإضمار على خلاف الأصل فلا يصار إليه إلا إذا لم يكن تصحيح الكلام بدونه ، الثاني أن ذلك يستلزم إضمارين أحدهما أمرناهم بطاعتنا الثاني فخالفونا أو عصونا ونحو ذلك ، الثالث أن ما بعد الفاء في مثل هذا التركيب هو المأمور به نفسه كقولك أمرته ففعل وأمرته فقام وأمرته فركب لا يفهم المخاطب غير هذا ، الرابع أنه سبحانه جعل سبب هلاك القرية أمره المذكور ومن المعلوم أن أمره بالطاعة والتوحيد لا يصلح أن يكون سبب الهلاك بل هو سبب للنجاة والفوز فإن قيل أمره بالطاعة مع الفسق هو سبب الهلاك قيل هذا يبطل بالوجه الخامس وهو أن هذا الأمر لا يختص بالمترفين بل هو سبحانه يأمر بطاعته واتّباع رسله المترفين وغيرهم فلا يصح تخصيص الأمر بالطاعة بالمترفين يوضحه ، الوجه السادس أن الأمر لو كان بالطاعة لكان هو نفس إرسال رسله إليهم ومعلوم أنه لا يحسن أن يقال أرسلنا رسلنا إلى مترفيها ففسقوا فيها فإن الإرسال لو كان إلى المترفين لقال من عداهم نحن لم يرسل إلينا ، السابع أن إرادة الله سبحانه لإهلاك القرية إنما يكون بعد إرسال الرسل إليهم وتكذيبهم وإلا فقبل ذلك هو لا يريد إهلاكهم لأنهم معذورون بغفلتهم وعدم بلوغ الرسالة إليهم قال تعالى : {ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ} فإذا أرسل الرسل فكذبوهم أراد إهلاكها فأمر رؤسائها(5/254)
ومترفيها أمرا كونيا قدريا لا شرعيا دينيا بالفسق في القرية فاجتمع أهلها على تكذيبهم وفسق رؤسائهم فحينئذ جاءها أمر الله وحق عليها قوله بالإهلاك والمقصود ذكر الأمر الكوني والديني ومن الديني قوله : {إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْأِحْسَانِ} وقوله : {إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا} وهو كثير
فصل : وأما الإذن الكوني فكقوله تعالى : {وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ} أي بمشيئته وقدره وأما الديني فكقوله : {مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ} أي بأمره ورضاه وقوله : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَاماً وَحَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ} وقوله : {أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ}.
فصل : وأما الجعل الكوني فكقوله : {إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً} وقوله : {وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ} وقوله : {وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً} وهو كثير وأما الجعل الديني فكقوله : {مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلا سَائِبَةٍ وَلا وَصِيلَةٍ وَلا حَامٍ} أي ما شرع ذلك ولا أمر به وإلا فهو مخلوق له واقع بقدره ومشيئته وأما قوله : {جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} فهذا يتناول الجعلين فإنها جعلها كذلك بقدره وشرعه وليس هذا استعمالا للمشترك في معنييه بل إطلاق اللفظ وإرادة القدر المشترك بين معنييه فتأمله.
(5/255)
فصل : وأما الكلمات الكونية فكقوله : {كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} وقوله : {وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ} وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "أعوذ بكلمات ا لله التامات التي لا يجاوزهن بر ولا فاجر من شر ما خلق" فهذه كلماته الكونية التي يخلق بها ويكون ولو كانت الكلمات الدينية هي التي يأمر بها وينهى لكانت مما يجاوزهن الفجار والكفار وأما الديني فكقوله : {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ} والمراد به القرآن وقوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في النساء واستحللتم فروجهن بكلمة الله أي بإباحته ودينه وقوله : {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ} وقد اجتمع النوعان في قوله : {وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ} فكتبه كلماته التي يأمر بها وينهى ويحل ويحرم وكلماته التي يخلق بها ويكون فأخبر أنها ليست جهمية تنكر كلمات دينه وكلمات تكوينه وتجعلها خلقا من جملة مخلوقاته.
فصل : وأما البعث الكوني فكقوله : {فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ} وقوله : {فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ} وأما البعث الديني فكقوله : {هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ} وقوله : {كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ}.
(5/256)
فصل : وأما الإرسال الكوني فكقوله : {أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزّاً} وقوله : {وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ} وأما الديني فكقوله : {هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ} وقوله : {إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولاً}.
فصل : وأما التحريم الكوني فكقوله : {وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ} وقوله : {قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً} وقوله : {وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ} وأما التحريم الديني فكقوله : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ}
و{حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ} : {وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً} : {وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبا}.
فصل : وأما الإيتاء الكوني فكقوله : {وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ} وقوله : {قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ} وقوله : {وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكاً عَظِيماً} وأما الإيتاء الديني فكقوله : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} وقوله : {خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ} وأما قوله : {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً} فهذا يتناول النوعين فإنه يؤتيها من يشاء أمرا ودينا وتوفيقا وإلهاما.
(5/257)
فصل : وأنبياؤه ورسله وأتباعهم حظهم من هذه الأمور الديني منها وأعداؤه واقفون مع القدر الكوني فحيث ما مال القدر مالوا معه فدينهم دين القدر ودين الرسل وأتباعهم دين الأمر فهم يدينون بأمره ويؤمنون بقدره وخصماء الله يعصون أمره ويحتجون بقدره لا يقولون نحن واقفون مع مراد الله نعم مع مراده الديني أو الكوني ولا ينفعكم وقوفكم مع المراد الكوني ولا يكون ذلكم عذرا لكم عنده إذ لو عذر بذلك لم يذم أحدا من خلقه ولم يعاقبه ولم يكن في خلقه عاص ولا كافر ومن زعم ذلك فقد كفر بالله وكتبه كلها وجميع رسله وبالله التوفيق. أ هـ {شفاء العليل صـ 280 ـ 283}(5/258)
قوله تعالى : {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم}
قال ابن عاشور :
وقوله : {والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} تذييل لبيان أن فضل الله يعطيه من يشاء ، وهذا إجمال ، وتفصيله أن حكمة الله اقتضت أن يتأخر تمام الهدى إلى وقت مجىء شريعة الإسلام لمَّا تهيأَ البشر بمجيء الشرائع السابقة لقبول هذه الشريعة الجامعة ، فكانت الشرائع السابقة تمهيداً وتهيئة لقبول دين الإسلام ، ولذلك صدرت هذه الآية بقوله : {كان الناس أمة واحدة} ، فكما كان البشر في أول أمره أمة واحدة على هدى بسيط ثم عرضت له الضلالات عند تحرك الأفكار البشرية ، رجع البشر إلى دين واحد في حالة ارتقاء الأفكار ، وهذا اتحاد عجيب ، لأنه جاء بعد تشتت الآراء والمذاهب ، ولذا قال تعالى : {إن الدين عند الله الإسلام وما اختلف الذين أوتوا الكتاب إلا من بعد ما جاءهم العلم بغياً بينهم} ، وفي الحديث : "مَثَل المسلمين واليهود والنصارى كمثلِ رجلٍ استأْجَر قوماً يعملون له عملاً يوماً إلى الليل على أجر معلوم فعملوا له إلى نصف النهار فقالوا لا حاجة لنا إلى أجرك الذي شرطتَ لنا وما عَمِلنا باطل فقال لهم لا تفعلوا أَكمِلوا بقيةَ عملكم وخُذُوا أجركم كاملاً فأَبَوْا وتركوا ، واستأجر آخرين بعدهم فقال لهم : أَكملوا بقية يومكم هذا ولكم الذي شرطتُ لهم من الأجر فعملوا حتى إذا كان حين صلاة العصر قالوا : لك ما عملنا باطل ولك الأجر الذي جعلتَ لنا فيه ، فقال لهم أَكملوا بقية عملكم فإنما بقي من النهار شيء يسير فأَبَوْا ، واستأجر قوماً أن يعملوا له بقية يومهم فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس واستكملوا أجر الفريقين كليهما ، فذلك مثَلُهم ومثَلُ ما قبلوا من هذا النور ، فقالت اليهود والنصارى ما لَنا أكثرُ عملاً وأقَلُّ عطاء ، قال هل ظلمتكم من حقكم شيئاً ؟ قالوا : لا ، قال : فذلك فضلي أوتيه من أشاء ". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 312 ـ 313}(5/259)
فائدة
قال ابن عاشور :
والآية تقتضي تحذير المسلمين من الوقوع فيما وقعت فيه الأمم السابقة من الاختلاف في الدين أي في أصول الإسلام ، فالخلاف الحاصل بين علماء الإسلام ليس اختلافاً في أصول الشريعة ، فإنها إجماعية ، وقد أجمعوا على أنهم يريدون تحقيقها ، ولذلك اتفقت أصولهم في البحث عن مراد الله تعالى وعن سنة رسوله للاستدلال عن مقصد الشارع وتصرفاته ، واتفقوا في أكثر الفروع ، وإنما اختلفوا في تعيين كيفية الوصول إلى مقصد الشارع ، وقد استبرءوا للدِّين فأعلنوا جميعاً أن لله تعالى حكماً في كل مسألة ، وأنه حكم واحد ، وأنه كلف المجتهدين بإصابته وأن المصيب واحد ، وأن مخطئه أقل ثواباً من مصيبه ، وأن التقصير في طلبه إثم. فالاختلاف الحاصل بين علمائنا اختلاف جليل المقدار موسع للأنظار.
أما لو جاء أتباعهم فانتصروا لآرائهم مع تحقق ضعف المدرك أو خطئه لقصد ترويج المذهب وإسقاط رأي الغير فذلك يشبه الاختلاف الذي شنعه الله تعالى وحذرنا منه فكونوا من مثله على حذر ولا تكونوا كمثل قول المعري
: ... فمجادل وصَلَ الجدالَ وقد درى
أن الحقيقة فيه ليس كما زعَمْ... عَلِم الفتى النَّظَّار أن بصائرا
عميتْ فكم يُخفى اليقين وكم يُعَم... أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 311}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
يعني الغيبة عن الحق جمعتهم ، فلما أتتهم الرسل تباينوا على حسب ما رُزقوا من أنوار البصيرة وحُرِموها. ويقال كانوا على ما سبق لهم من الاختيار القديم ، وبمجيء الرسل تهود قوم وتَنَصَّر قوم ، ثم في العاقبة يُرَدُّ كل واحد إلى ما سبق له من التقدير ، وإن الناس اجتمعوا كلهم في علمه سبحانه ثم تفرَّقوا في حكمه ، فقوم هداهم وقوم أغواهم ، وقوم حجبهم وقوم جذبهم ، وقوم ربطهم بالخذلان وقوم بسطهم بالإحسان ، فلا مِنْ المقبولين أمر مكتسب ، ولا لمردِّ المردودين سبب ، بل هو حُكْمُ بُتَّ وقضاءٌ جُزِم. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 173 ـ 174}(5/260)
فوائد وأبحاث
وقد تبين من الآية أولا : حد الدين ومعرفه ، وهو أنه نحو سلوك في الحياة الدنيا يتضمن صلاح الدنيا بما يوافق الكمال الأخروي ، والحياة الدائمة الحقيقية عند الله سبحانه ، فلا بد في الشريعة من قوانين تتعرض لحال المعاش على قدر الاحتياج.
وثانيا : أن الدين أول ما ظهر ظهر رافعا للاختلاف الناشي عن الفطرة ثم استكمل رافعا للاختلاف الفطري وغير الفطري معا.
وثالثا : أن الدين لا يزال يستكمل حتى يستوعب قوانينه جهات الاحتياج في الحياة ، فإذا استوعبها ختم ختما فلا دين بعده ، وبالعكس إذا كان دين من الأديان خاتما كان مستوعبا لرفع جميع جهات الاحتياج ، قال تعالى : "ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين "الأحزاب - 40 ، وقال تعالى : "ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شئ "النحل - 89 ، وقال تعالى : "وإنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه "حم السجدة - 42.
ورابعا : أن كل شريعة لاحقة أكمل من سابقتها.(5/261)
وخامسا : السبب في بعث الأنبياء وإنزال الكتب ، وبعبارة أخرى العلة في الدعوة الدينية ، وهو أن الإنسان بحسب طبعه وفطرته سائر نحو الاختلاف كما أنه سالك نحو الاجتماع المدني ، وإذا كانت الفطرة هي الهادية إلى الاختلاف لم تتمكن من رفع الاختلاف ، وكيف يدفع شئ ما يجذبه به إليه نفسه ، فرفع الله سبحانه هذا الاختلاف بالنبوة والتشريع بهداية النوع إلى كماله اللائق بحالهم المصلح لشأنهم ، وهذا الكمال كمال حقيقي داخل في الصنع والايجاد فما هو مقدمته كذلك ، وقد قال تعالى : "الذي أعطى كل شئ خلقه ثم هدى "طه - 50 ، فبين أن من شأنه وأمره تعالى أن يهدي كل شئ إلى ما يتم به خلقه ، ومن تمام خلقة الإنسان أن يهتدي إلى كمال وجوده في الدنيا والآخرة ، وقد قال تعالى أيضا : "كلا نمد هؤلاء وهؤلاء من عطاء ربك وما كان عطاء ربك محظورا "الإسراء - 20 ، وهذه الآية تفيد أن شأنه تعالى هو الإمداد بالعطاء : يمد كل من يحتاج إلى إمداده في طريق حياته ووجوده ، ويعطيه ما يستحقه ، وأن عطائه غير محظور ولا ممنوع من قبله تعالى إلا أن يمتنع ممتنع بسوء حظ نفسه ، من قبل نفسه لا من قبله تعالى.
ومن المعلوم أن الإنسان غير متمكن من تتميم هذه النقيصة من قبل نفسه فإن فطرته هي المؤدية إلى هذه النقيصة فكيف يقدر على تتميمها وتسوية طريق السعادة والكمال في حياته الاجتماعية ؟ .
وإذا كانت الطبيعة الإنسانية هي المؤدية إلى هذا الاختلاف العائق للإنسان عن الوصول إلى كماله الحري به وهي قاصرة عن تدارك ما أدت إليه وإصلاح ما أفسدته ، فالإصلاح (لو كان) يجب أن يكون من جهة غير جهة الطبيعة ، وهي الجهة الإلهية التي هي النبوة بالوحي ، ولذا عبر تعالى عن قيام الأنبياء بهذا الإصلاح ورفع الاختلاف بالبعث ولم ينسبه في القرآن كله إلا إلى نفسه مع أن قيام الأنبياء كسائر الأمور له ارتباطات بالمادة بالروابط الزمانية والمكانية.
(5/262)
فالنبوة حالة إلهية (وإن شئت قل غيبية) نسبتها إلى هذه الحالة العمومية من الإدراك والفعل نسبة اليقظة إلى النوم بها يدرك الإنسان المعارف التي بها يرتفع الاختلاف والتناقض في حياة الإنسان ، وهذا الإدراك والتلقي من الغيب هو المسمى في لسان القرآن بالوحي ، والحالة التي يتخذها الإنسان منه لنفسه بالنبوة.
ومن هناك يظهر أن هذا أعني تأدية الفطرة إلى الاجتماع المدي من جهة وإلى الاختلاف من جهة أخرى ، وعنايته تعالى بالهداية إلى تمام الخلقة مبدء حجة على وجود النبوة وبعبارة أخرى دليل النبوة العامة.
تقريره : أن نوع الإنسان مستخدم بالطبع ، وهذا الاستخدام الفطري يؤديه إلى الاجتماع المدني وإلى الاختلاف والفساد في جميع شئون حياته الذي يقضي التكوين والإيجاد برفعه ولا يرتفع إلا بقوانين تصلح الحياة الاجتماعية برفع الاختلاف عنها ، وهداية الإنسان إلى كماله وسعادته بأحد أمرين : إما بفطرته وإما بأمر ورائه لكن الفطرة غير كافية فإنها هي المؤدية إلى الاختلاف فكيف ترفعها ؟ فوجب أن يكون بهداية من غير طريق الفطرة والطبيعة ، وهو التفهيم الالهي غير الطبيعي المسمى بالنبوة والوحي ، وهذه الحجة مؤلفة من مقدمات مصرح بها في كتاب الله تعالى كما عرفت فيما تقدم ، وكل واحدة من هذه المقدمات تجربية ، بينتها التجربة للإنسان في تاريخ حياته واجتماعاته المتنوعة التي ظهرت وانقرضت في طي القرون المتراكمة الماضية ، إلى أقدم أعصار الحياة الإنسانية التي يذكرها التاريخ.
(5/263)
فلا الإنسان انصرف في حين من أحيان حياته عن حكم الاستخدام ، ولا استخدامه لم يؤد إلى الاجتماع وقضى بحياة فردية ، ولا اجتماعه المكون خلا عن الاختلاف ، ولا الاختلاف ارتفع بغير قوانين اجتماعية ، ولا أن فطرته وعقله الذي يعده عقلا سليما قدرت على وضع قوانين تقطع منابت الاختلاف وتقلع مادة الفساد ، وناهيك في ذلك : ما تشاهده من جريان الحوادث الاجتماعية ، وما هو نصب عينيك من انحطاط الأخلاق وفساد عالم الإنسانية ، والحروب المهلكة للحرث والنسل ، والمقاتل المبيدة للملائين بعد الملايين من الناس ، وسلطان التحكم ونفوذ الاستعباد في نفوس البشر وأعراضهم وأموالهم في هذا القرن الذي يسمى عصر المدنية والرقى والثقافة والعلم ، فما ظنك بالقرون الخالية ، أعصار الجهل والظلمة ؟ .
وأما أن الصنع والإيجاد يسوق كل موجود إلى كماله اللائق به فأمر جار في كل موجود بحسب التجربة والبحث ، وكذا كون الخلقة والتكوين إذا اقتضى أثرا لم يقتض خلافه بعينه أمر مسلم تثبته التجربة والبحث ، وأما أن التعليم والتربية الدينيين الصادرين من مصدر النبوة والوحي يقدران على دفع هذا الاختلاف والفساد فأمر يصدقه البحث والتجربة معا : أما البحث : فلأن الدين يدعو إلى حقائق المعارف وفواضل الأخلاق ومحاسن الأفعال فصلاح العالم الإنساني مفروض فيه ، وأما التجربة : فالإسلام أثبت ذلك في اليسير من الزمان الذي كان الحاكم فيه على الاجتماع بين المسلمين هو الدين ، وأثبت ذلك بتربية أفراد من الإنسان صلحت نفوسهم ، وأصلحوا نفوس غيرهم من الناس ، على أن جهات الكمال والعروق النابضة في هيكل الاجتماع المدني اليوم التي تضمن حياة الحضارة والرقي مرهونة التقدم الإسلامي وسريانه في العالم الدنيوي على ما يعطيه التجزية والتحليل من غير شك
وسادسا : أن الدين الذي هو خاتم الأديان يقضي بوقوف الاستكمال الإنساني ،(5/264)
قضاء القرآن بختم النبوة وعدم نسخ الدين وثبات الشريعة يستوجب أن الاستكمال الفردي والاجتماعي للإنسان هو هذا المقدار الذي اعتبره القرآن في بيانه وتشريعه. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 130 ـ 133}(5/265)
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ...}.
دليل على أن النبي أعمّ من الرّسول بناء على الحكم المسند إلى مشتق أو موصوف بصفة تقتضي ثبوت ذلك الوصف له حالة ثبوت الحكم ، فيقتضي ورود البعث عليهم حال حصول النبوءة فلو كان النبي والرّسول بمعنى واحد للزم تحصيل الحاصل. وقيل الرّسول أعمّ حكاه الغزالي في ( الاقتصاد ) والشيخ ابن العربي.
وقال ابن الصلاح : اختلف المحدثون في جواز نقل الحديث بالمعنى ، فقيل يجوز وقيل لا ( يجوز ) وقيل : إن بدل اسم الرسول بالنبي جاز بخلاف العكس.
قال ابن عرفة : الآية دالة على أن الجمع المحلي بالألف واللاّم لا يفيد العموم إذ ليس كل نبي مبعوثا وبدأ بالبشارة لأن الرحمة سبقت غضبه.
قوله تعالى : {وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب...}.
قيل لابن عرفة : فهلا قيل : أنزل عليهم الكتاب ، كما في سورة النساء {وَأَنزَلَ الله عَلَيْكَ الكتاب والحكمة} {إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله} لأَنَّكَ تقول : قام زيد مع عمرو ، فيقتضي اشتركهما في القيام ، والرسل ليسوا منزلين مع الكتاب.
قال ابن عرفة : المراد أنزل مع بعثهم والإنزال مصاحب للبعث ولا اشتراك بينهما لأنه معنوي لا يمكن إنزاله وهم من أول بعثهم إلى آخره لايزال الكتاب منزلا عليهم حتى يموتوا.
قيل لابن عرفة : هذا كله مجاز فلم عدل عن الحقيقة إليه ؟
قلت : وحمله الشيخ ابن القصار على ( أمرين ) :
أحدهما : أن "أنزل "بمعنى بعث ، فيفيد لفظة الإنزال تشريف الرسل وقومهم بالكتاب الشريف المنزل من أشرف الجهات وهي جهة فوق ، ويفيد معنى البعث أن الكتاب مبعوث مع الرسل لقومهم اعتناء بهم وتأكيدا على امتثال أوامره ونواهيه.
الثاني : أن يجعل "معهم "حالا من "الكتاب "وقدمت عليه للاهتمام بالمصاحبة. فإن قلت : الكتاب حين إنزاله لم يكن معهم ؟(5/266)
قلنا : هي حال مقدرة لا محصلة.
واقتضت الآية الاستدلال بمقدمة منطقية وهو أن يقول : كلما ثبتت الرّسالة لغير محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثبتت لمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
قال ابن عرفة : وقولهم إن الكتاب هو التوراة باطل بقوله {فَبَعَثَ الله النبيين} لأنّ التوراة ليست منزلة على كل النبيين.
قوله تعالى : {لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس...}.
هذا عندنا ( فضل ) لا واجب.
واستشكل بعض الطلبة فهم الآية لأن قوله {فِيمَا اختلفوا} يقتضي تقدم اختلافهم على إنزال الكتاب.
قوله تعالى : {وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات}.
يقتضي تأخير اختلافهم عن الإنزال وعدم تقدمه عليه لأنه مقرون بأداة الحصر كما قال في سورة الجاثية {وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأمر فَمَا اختلفوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ} وهذا كله على قولهم : إن الضمير المجرور في قوله {وَمَا اختلف} عائد على ما عاد عليه قوله تعالى : {فِيمَا اختلفوا فِيهِ }.
قال ابن عرفة : اختلفوا قبل وبعد.
قلت : اختلفوا قبله اختلافا ضعيفا فلما ورد الكتاب والدلائل أعمى الله بصائرهم فاستنبطوا به شبهات كانت سببا في تعنتهم وضلالهم واختلافهم كمن يقرأ أصول الدين ليهتدي فيضل وكان قبل على الصواب فاختلافهم المعتبر إنما هو بعد الآيات وما قبل ذلك لا عبرة له.
قلت : فهذا يحسن جوابا والله أعلم ، قال الله تعالى {يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً} ووافقني عليه بعضهم وقال : تكون من عود الضمير على اللفظ فقط نحو : عندي درهم ونصفه.
قوله تعالى : {فَهَدَى الله...}.
العطف بالفاء إشارة على سرعة هدايته للمؤمنين بعقب الاختلاف فإن يكن اختلافهم في الفروع فيحسن أن يكون {وَمَا اختلف فِيهِ} بعض الحق وإن يكن من الاعتقاد فهو كل الحق لا بعضه.
(5/267)
قوله تعالى : {لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ...}.
قال ابن عرفة : الصّواب أن معناه بقدرته وإن كان مجازا فهو أولى من أن يقال بعلمه أو بأمره ليكون فيه حجة على المعتزلة.
قوله تعالى : {والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 271 ـ 272}
بحوث مهمة تتعلق بالآية
1 ـ الدين والمجتمع
يستفاد من الآية أعلاه ضمنياً أنّ الدين والمجتمع البشري حقيقتان لا تقبلان الانفصال ، فلا يمكن لمجتمع أن يحيي حياة سليمة دون دين وإيمان بالله وبالآخرة ، وليس بمقدور القوانين الأرضيّة أن تحلَّ الاختلافات والتناقضات الاجتماعيّة لعدم ارتباطها بدائرة إيمان الفرد وافتقارها التأثير على أعماق وجود الإنسان ، فلا يمكنها حل الاختلافات والتناقضات في حياة البشر بشكل كامل ، وهذه الحقيقة أثبتتها بوضوح أحداث عالمنا المعاصر ، فالعالم المسمّى بالمتطوّر قد ارتكب من الجرائم البشعة ما لم نرَ له نظيراً حتّى في المجتمعات المتخلّفة.
وبذلك يتّضح منطق الإسلام في عدم فصل الدّين عن السّياسة وأنه بمعنى تدبير المجتمع الإسلامي.
2 ـ بداية التشريع
ويتّضح من الآية أيضاً أنّ بداية انبثاق الدين بمعناه الحقيقي كانت مقترنة مع ظهور المجتمع البشري بمعناه الحقيقي.
3 ـ الشرق الأوسط مهد الأديان الكبرى
ومن الآية محل البحث نفهم الجواب على السؤال عن سبب ظهور الأديان الإلهيّة الكبرى في منطقة الشرق الأوسط (الدين الإسلامي والمسيحي واليهودي ودين إبراهيم و...) لأنّ التاريخ يشهد على أنّ مهد الحضارات البشريّة كانت في هذه المنطقة من العالم وانتشرت منها إلى المناطق الأخرى ، ومع الإلتفات إلى الرابطة الشديدة بين الدين والحضارة وحاجة المجتمعات المتحضّرة إلى الدين من أجل حل الاختلافات والتناقضات الهدّامة يتّضح أنّ الدين لابدّ أن يتحقّق في هذه المنطقة بالذّات.
(5/268)
وعندما نرى أنّ الإسلام انطلق من محيط جاهلي متخلّف كمجتمع مكّة والمدينة في تلك الأيّام ، فذلك بسبب أنّ هذه المنطقة تقع على مفترق طرق عدّة حضارات عظيمة في ذلك الزّمان ، ففي الشمال الشرقي من جزيرة العرب كانت الحضارة الفارسيّة وبقيّة من حضارة بابل ، وإلى الشمال كانت حضارة الرّوم ، وفي الشّمال الغربي كانت حضارة مصر القديمة بينما كانت حضارة اليمن في الجنوب.
وفي الحقيقة أنّ مركز ظهور الإسلام في ذلك الزمان كان بمثابة مركز الدّائرة الّتي تُحيط بها الحضارات المهمّة في ذلك الزمان (فتأمّل بالدّقة).
4 ـ حلّ الاختلافات من أهم أهداف الدّين
هناك عدّة أهداف للأديان الإلهيّة ، منها تهذيب النّفوس البشريّة وإيصالها إلى المقام القرب الإلهي ، ولكن من أهمّ الأهداف أيضاً هو رفع الاختلافات ، لأنّ هناك بعض العوامل من قبيل القوميّة والرّس واللّغة والمناطق الجغرافية دائماً تكون عوامل تفرقة بين المجتمعات البشريّة ، والأمر الّذي بإمكانه أن يوحّد هذه الحلقات المختلفة ويكون بمثابة حلقة اتّصال بين أفراد البشر من مختلف القوميّات والألوان واللّغات والمناطق الجغرافية هو الدّين الإلهي ، حيث بإمكانه أن يهدم جميع هذه السدود ، ويُزيل تمام هذه الحدود ، ويجمع البشريّة تحت راية واحدة بحيث نرى نموذجاً من ذلك في مناسك الحجّ العباديّة والسياسيّة.
وعندما نرى أنّ بعض الأديان والمذاهب هي السبب في الاختلاف والنّزاع بين طوائف البشر ، لأنّها قد خالطتها الخرافات واقترنت بالتّعصب الأعمى ، وإلاّ فإنّ الأديان الإلهيّة لو لم تتعرّض للتحريف لكانت سبباً للوحدة في كلّ مكان. أ هـ {الأمثل حـ 2 صـ 92 ـ 93}(5/269)
قوله تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
(5/270)
ولما أفهم ما صرح به الكلام السابق من الاختلاف وقوع العداوات وكان في العداوات خطر الأموال والأنفس وكان ذلك أشق ما يكون وكانت العادة قاضية بأن المدعوين إلى ذلك إن لم يصمموا على الآيات كانوا بين مستثقلين لأمر الرسل يرون أنهم يفرقون ما اتفق من الكلمة ورضي به الناس لأنفسهم ويشتتون أمرهم مستثقلين لطول انتظار الانتصار كان حالهم حال من يطلب الراحات في ذرى الجنات بلا مشقات وذلك محال ومحض ضلال ، فإن الثبات على الصراط المستقيم لا يكون إلا باحتمال شدائد التكاليف فكان كأنه قيل في جواب ذلك عدولاً عن خطاب النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ المقول له {سل بني إسرائيل} {البقرة : 212 ] إلى خطاب الأتباع تشريفاً له عن ذلك ورفعاً لهممهم بالمواجهة بالخطاب والتأسية بمن مضى من أولي الألباب تنشيطاً لهم وتقوية لعزائمهم : أحسبتم أنا لا نرسل الرسل لتمييز الخبيث من الطيب {أم حسبتم} بعد إرسالهم أن الأمر هين بأن تنالوا السعادة بلا اجتهاد في العبادة. قال الحرالي : هو مما منه الحسبان وهو ما تقع غلبته فيما هو من نوع المفطور عليه المستقر عادته ، والظن الغلبة فيما هو من المعلوم المأخوذ بالدليل والعلم ؛ فكأن ضعف علم العالم ظن وضعف عقل العاقل حسبان - انتهى. وهذا الذي قدرته هو معنى {أن تدخلوا الجنة} أي التي هي نعيم دائم {و} الحال أنه {لما يأتكم مثل} أي وصف {الذين خلوا} ولما كان القرب في الزمان أشد في التأسية أثبت الجار فقال : {من قبلكم} أي يقص عليكم لتعلموا به أو يصيبكم ما أصابهم من الأحوال الغريبة والقضايا العجيبة التي هي في غرابتها كالأمثال. وقال الحرالي : وأم عطف على أمور يفهمها مبدأ الخطاب كأنه يقول : أحسبتم أن تفارق أحوالكم أحوال الأمم الماضية في حكمة الله وسنته ولن تجد لسنة الله تبديلاً إلى ما يستجره معنى الخطاب إجمالاً وتفصيلاً في واقع الدنيا من شدائدها وحرها وبردها وضيق عيشها وأنواع أذاها وحال(5/271)
البرزخ وحال النشر والحشر إلى ما وراء ذلك إلى غاية دخول الجنة فكان عند انتهاء ذلك بادئة خطاب {أم حسبتم} تجاوزاً لما بين أول البعث وغاية دخول الجنة - انتهى. ونبهت لما التي فيها معنى التوقع لأنها في النفي نظيرة قد في الإثبات على أنه كان ينبغي لهم أن يكون دخولهم في الدين على بصيرة من حصول الشدائد لكثرة المخالف والمعاند فيكونوا متوقعين في كل وقت مكابدة القوارع وحلول الصوادع والصوارع ليكون ذلك أجد في أمرهم وأجدر لهم بالثبات والارتقاء إلى أعلى الدرجات.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 395 ـ 396}
وقال الفخر :
في النظم وجهان الأول : أنه تعالى قال في الآية السالفة : {والله يَهْدِى مَن يَشَاء إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} : والمراد أنه يهدي من يشاء إلى الحق وطلب الجنة فبين في هذه الآية أن ذلك الطلب لا يتم ولا يكمل إلا باحتمال الشدائد في التكليف فقال : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم} الآية الثاني : أنه في الآية السالفة ما بين أنه هداهم لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه بين في هذه الآية أنهم بعد تلك الهداية احتملوا الشدائد في إقامة الحق وصبروا على البلوى ، فكذا أنتم يا أصحاب محمد لا تستحقون الفضيلة في الدين إلا بتحمل هذه المحن. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 16}
وقال ابن عاشور : (5/272)
إن القصد من ذكر الأمم السالفة حيثما وقع في القرآن هو العبرة والموعظة والتحذير من الوقوع فيما وقعوا فيه بسوء عملهم والاقتداءُ في المحامد ، فكان في قوله تعالى : {كان الناس أمة واحدة} الآية إجمال لذلك وقد ختم بقوله {فهدى الله الذين آمنوا لما اختلفوا فيه من الحق بإذنه} ، ولما كان هذا الختام منقبة للمسلمين أُوقِظوا أنْ لا يُزْهَوْا بهذا الثناء فيحسبوا أنهم قضَوْا حق شكر النعمة فعقب بأن عليهم أن يصبروا لما عسى أن يعترضهم في طريق إيمانهم من البأساء والضراء اقتداء بصالحي الأمم السالفة ، فكما حذرهم الله من الوقوع فيما وقع فيه الضالون من أولئك الأمم حرضهم هنا على الاقتداء بهدي المهتدين منهم على عادة القرآن في تعقيب البشارة بالنذارة وعكس ذلك ، فيكون قوله : {أم حسبتم} إضراباً عن قوله : {فهدى الله الذين آمنوا} وليكون ذلك تصبيراً لهم على ما نالهم يوم الحديبية من تطاول المشركين عليهم بمنعهم من العُمرة وما اشترطوا عليهم للعام القابل ، ويكون أيضاً تمهيداً لقوله : {كتب عليكم القتال} {البقرة : 216 ] الآية ، وقد روي عن أكثر المفسرين الأولين أن هذه الآية نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجَهد والشدائد فتكون تلك الحادثة زيادة في المناسبة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 313}
سبب نزول الآية
قال الآلوسى : (5/273)
نزلت في غزوة الخندق حين أصاب المسلمين ما أصابهم من الجهد والشدّة والخوف والبرد وسوء العيش وأنواع الأذى ، حتى بلغت القلوب الحناجر ، وقيل : في غزوة أحد ، وقال عطاء : لما دخل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه المدينة اشتدّ الضر عليهم ، لأنهم خرجوا بغير مال وتركوا ديارهم وأموالهم بيد المشركين ، وآثروا رضا الله تعالى ورسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأظهرت اليهود العداوة لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأسر قوم من الأغنياء النفاق فأنزل الله تطييباً لقلوبهم هذه الآية. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 103}
فائدة لغوية
قال ابن عادل :
" أَمْ "هذه فيها أربعة أقوالٍ :
الأول : أنْ تكون منقطعةً فتتقدَّر بـ "بل "والهمزة. ف "بل "لإضراب انتقالٍ من إِخْبَارٍ إلى إِخْبَارٍٍ ، والهمزةُ للتقري. والتقدير بل حسبتم.
والثاني : أنها لمجرد الإضراب مِنْ غير تقدير همزة بعدها ، وهو قول الزَّجَّاج وأنشد : {الطويل ]
بَدَتْ مِثْلَ قَرْنِ الشِّمْسِ فِي رَوْنَقِ الضُّحَى... وَصُوَرتِهَا أَمْ أَنْتِ فِي الْعَيْنِ أَمْلَحُ
أي : بل أنت.
والثالث : وهو قول الفرَّاء وبعض الكُوفيِّين ، أنها بمعنى الهمزة. فعلى هذا يُبتدأُ بها في أوَّل الكلام ، ولا تحتاجُ إلى الجملة قبلها يضرب عنها.
الرابع : أنها مُتَّصلةٌ ، ولا يستقيم ذلك إلا بتقدير جملةٍ محذوفةٍ قبلها.(5/274)
قال القفَّال : "أمْ "هنا استفهامٌ متوسطٌ ؛ كما أَنَّ "هَلْ "استفهامٌ سابقٌ ، فيجوز أَنْ يقال : هل عندك رجلٌ ، أَمْ عندك امرأَةٌ ؟ ولا يجوز أَنْ يقال ابتداءً أَمْ عندك رجل ، فأَمَّا إذا كان متوسطاً ، جاز سواءٌ كان مسبُوقاً باستفهامٍ آخر ، أو لا يكون ، أَمَّا إذا كان مسبوقاً باستفهام آخر فهو كقولك : أنت رجلٌ لا تنصف ، أفعن جهل تفعلُ هذا ، أم لك سلطانٌ ؟ وأَمَّا الذي لا يكون مسبوقاً بالاستفهام ؛ فكقوله : {الم تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين أَمْ يَقُولُونَ افتراه} {السجدة : 1 - 3 ] فكذا تقدير هذا الآية : فهدى اللَّهُ الذين آمنوا فصبروا على استهزَاءِ قومهم ، أفتسلكُون سبيلهم أم تحسبون أَنْ تدخُلُوا الجنَّةَ مِنْ غيرِ سلوكِ سبيلهم. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 510 ـ 511}
سؤال : لم نسب الحسبان إليه عليه الصلاة والسلام ؟
الجواب : نسبة الحسبان إليه عليه الصلاة والسلام إمّا لأنه لما كان يضيق صدره الشريف من شدائد المشركين نزل منزلة من يحسب أن يدخل الجنة بدون تحمل المكاره ، وإمّا على سبيل التغليب كما في قوله سبحانه : {أَوْ لَتَعُودُنَّ فِى مِلَّتِنَا} {الأعراف : 88 ]. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 103}
فائدة
قال الآلوسى : (5/275)
وفي الكلام التفات إلا أنه غير صريح من الغيبة إلى الخطاب لأنّ قوله سبحانه : {كَانَ الناس أُمَّةً واحدة} {البقرة : 213 ] كلام مشتمل على ذكر الأمم السابقة والقرون الخالية ، وعلى ذكر من بعث إليهم من الأنبياء وما لقوا منهم من الشدائد ، وإظهار المعجزات تشجيعاً للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنين على الثبات والصبر على أذى المشركين ، أو للمؤمنين خاصة فكانوا من هذا الوجه مرادين غائبين ويؤيده {فَهَدَى الله الذين ءامَنُواْ} {البقرة : 3 21 ] الخ فإذا قيل : بعد {أَمْ حَسِبْتُمْ} كان نقلاً من الغيبة إلى الخطاب ، أو لأنّ الكلام الأوّل تعريض للمؤمنين بعدم التثبت والصبر على أذى المشركين ، فكأنه وضع موضع كان من حق المؤمنين التشجيع والصبر تأسياً بمن قبلهم ، كما يدل عليهم ما أخرجه البخاري وأبو داود والنسائي والإمام أحمد عن خباب بن الأرت قال : شكونا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما لقينا من المشركين فقلنا : ألا تستنصر لنا ألا تدعو الله تعالى لنا ؟ فقال : "إنّ من كان قبلكم كان أحدهم يوضع المنشار على مفرق رأسه فتخلص إلى قدميه لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه لا يصرفه ذلك عن دينه ثم قال : والله ليتمنّ هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلى الله تعالى والذئب على غنمه ولكنكم تستعجلون "وهذا هو المضرب عنه ببل التي تضمنتها {أَمْ} أي دع ذلك أحسبوا أن يدخلوا الجنة فترك هذا إلى الخطاب وحصل الالتفات معنى ، ومما ذُكر يعلم وجه ربط الآية بما قبلها. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 103}
قوله تعالى {أن تدخلوا الجنة}
قال ابن عاشور :(5/276)
ودخول الجنة هنا دخولها بدون سبق عناء وبلوى ، وهو دخول الذين استوفوا كل ما وجب عليهم ولم يقصروا في شيء منه ، وإلا فإن دخول الجنة محسوب لكل مؤمن ولو لم تأته البأساء والضراء أو أتتهُ ولم يصبر عليها ، بمعنى أن الصبر على ذلك وعدم الضجر منه موجب لغفران الذنوب ، أو المراد من ذلك أن تنالهم البأساء فيصبروا ولا يرتدوا عن الدين ، لذلك فيكون دخول الجنة متوقفاً على الصبر على البأساء والضراء بهذا المعنى ، وتطرقُ هاته الحالة سنة من سنن الله تعالى في أَتْباع الرسل في أول ظهور الدين وذلك من أسباب مزيد فضائل اتباع الرسل ، فلذلك هُيِّءَ المسلمون لتلقيه من قبل وقوعه لطفاً بهم ليكون حصوله أهون عليهم.
وقد لقي المسلمون في صدر الإسلام من أذى المشركين البأساءَ والضراءَ وأخرجوا من ديارهم وتحملوا مضض الغربة ، فلما وردوا المدينة لقُوا من أذى اليهود في أنفسهم وأذى المشركين في قرابتهم وأموالهم بمكة ما كدر عليهم صفو حفاوة الأنصار بهم ، كما أن الأنصار لقُوا من ذلك شدة المضايقة في ديارهم بل وفي أموالهم فقد كان الأنصار يعرضون على المهاجرين أن يتنازلوا لهم عن حظ من أموالهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 314 ـ 315}
فائدة لغوية فى {لما}
قال ابن عادل :
قوله : "وَلَمَّا يَأْتِكمْ "الواو للحال ، والجملة بعدها في محلِّ نصبٍ عليها ، أي : غير آتيكم مثلهم. و" لمَّا "حرف جزمٍ ، معناه النفي ؛ كـ "لم " ، وهو أبلغ من النفي بـ "لم " ؛ لأنَّها لا تنفي إلاَّ الزمان المتصل بزمان الحال. والفرق بينها وبين "لم "من وجوهٍ :
أحدها : أنه قد يحذف الفعل بعدها في فصيح الكلام ، إذ دلَّ عليه دليلٌ.
وهو أحسن ما تخرَّج عليه قراءة "وإِنْ كُلاًّ لَمَّا "كقوله : {الوافر ]
فَجئْتُ قُبُرَهُمْ بَدْءاً وَلَمَّا... فَنَادَيْتُ الْقُبُورَ فَلَمْ تَجِبْنَهْ(5/277)
أي : ولمَّا أكن بدءاً ، أي : مبتدئاً ؛ بخلاف "لَمْ "فإنه لا يجوز ذلك فيها إلا ضرورة ؛ كقوله : {الكامل ]
1041- وَاحْفَظْ وَدِيعَتَكَ الَّتِي أُودِعْتَهَا... يَوْمَ الأَعَازِب إِنْ وَصَلْتَ وَإِنْ لَمِ
ومنها : أنَّها لنفي الماضي المتصل بزمان الحال ، و" لم "لنفيه مطلقاً أو منقطعاً على ما مرَّ.
ومنها : أنَّ "لَمَّا "لا تدخل على فعل شرطٍ ، ولا جزاءٍ بخلاف "لم ".
ومنها أنّ "لَمْ "قد تلغى بخلاف "لَمَّا ، فإنها لم يأتِ فيها ذلك ، وباقي الكلام على ما يأتي إن شاء الله تعالى في سورة "الحُجُرَاتِ "عند قوله تعالى : {وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان} {الحجرات : 14 ].
واختلف في "لَمَّا "فقيل : مركبة من لم و" ما "زيدت عليها.
وقال سيبويه : بسيطة وليست "ما "زائدة ؛ لأنَّ "لما "تقع في مواضع لا تقع فيها "لم " ؛ يقول الرجل لصاحبه : أقدِّم فلاناً ، فيقول "لَمَّا " ، ولا يقال : "لَمْ "مفردةً.
قال المبرّد : إذا قال القائل : لم يأتني زيدٌ ، فهو نفيٌ لقولك أتاك زيدٌ ، وإذا قال لَمَّا يأتني ، فمعناه : أنَّه لم يأتني بعد ، وأنا أتوقَّعه ؛ قال النابغة : {الكامل ]
أَزِفَ التَّرَحُّلُ غَيْرَ أنَّ رَكَابَنَا... لَمَّا تَزُلْ بِرِحَالِنَا وَكَأَنْ قَدِ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 511 ـ 512}
فائدة لغوية
الإتيان مجاز في الحصول ، لأن الشيء الحاصل بعد العدم يجعل كأنه أتى من مكان بعيد.
والمثَل : المشابه في الهيئة والحالة كما تقدم في قوله تعالى : {مثلهم كمثل الذين استوقد ناراً} {البقرة : 17 ].
و {الذين خلَوْا} هم الأمم الذين مضوا وانقرضوا وأصل {خَلَوْا} خلاَ منهم المكان فبولغ في إسناد الفعل فأسند إليهم ما هو من صفات مكانهم.
و {من قبلكم} متعلق بخَلَوْا لمجرد البيان وقصد إظهار الملابسة بين الفريقين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 315 ـ 316}(5/278)
قوله تعالى : {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا}
قال البقاعى :
ولما كان كأنه قيل : ما ذلك المثل ؟ أجيب بياناً بقوله : {مستهم البأساء} أي المصائب في الأموال {والضراء} أي في الأنفس - نقله أبو عبيد الهروي عن الأزهري ، والأحسن عندي عكسه ، لأن البأس كثير الاستعمار في الحرب والضر كثير الاستعمال في الفقر ؛ أي جزاء لهم كما قال الحرالي على ما غيروا مما يجلب كلاًّ منهما ولكل عمل جزاء {وزلزلوا} لأمور باطنة من خفايا القلوب انتهى. والمعنى أنهم أزعجوا بأنواع البلايا والرزايا والأهوال والأفزاع إزعاجاً شديداً شبيهاً بالزلزلة التي تكاد تهد الأرض وتدك الجبال. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 396}
فوائد لغوية
المس حقيقته : اتصال الجسم بجسم آخر وهو مجاز في إصابة الشيء وحلوله ، فمنه مس الشيطان أي حلول ضُر الجنة بالعقل ، ومسُّ سَقر : ما يصيب من نارها ، ومسَّه الفقر والضر : إذا حل به ، وأكثر ما يطلق في إصابة الشر قال تعالى : {وإذا مس الإنسان ضر دعا} {الزمر : 8 ] {وإذا مس الإنسان الضر دعانا} {يونس : 12 ] {وإذا مسه الشر فذو دعاء عريض} {فصلت : 51 ] {ولا تمسوها بسوء} {الأعراف : 73 ] فالمعنى هنا : حلت بهم البأساء والضراء. وقد تقدم القول في البأساء والضراء عند قوله تعالى : {والصابرين في البأساء والضراء} {البقرة : 177 ].
وقوله : {وزلزلوا} أي أزعجوا أو اضطربوا ، وإنما الذي اضطرب نظام معيشتهم ، قال تعالى : {هنالك ابتلي المؤمنون وزلزلوا زلزالاً شديداً} {الأحزاب : 11 ] ، والزلزلة تحرك الجسم من مكانه بشدة ، ومنه زلزال الأرض ، فوزن زلزل فُعفِل ، والتضعيف فيه دال على تكرر الفعل كما قال تعالى : {فكبكبوا فيها} {الشعراء : 94 ] وقالوا لَمْلَم بالمكان إذا نَزل به نزولَ إقامة.
و{ حتى} غاية للمس والزلزالِ ، أي بلغ بهم الأمر إلى غاية يقول عندها الرسول والذين معه متى نصر الله.(5/279)
ولما كانت الآية مخبرة عن مسَ حل بمن تقدم من الأمم ومنذرة بحلول مثله بالمخاطَبين وقت نزول الآية ، جاز في فعل يَقُول أن يعتبر قولَ رسول أمة سابقة أي زلزلوا حتى يقول رسول المزلْزَلين ف {ال للعهد ، أو حتى يقول كلُّ رسول لأمة سبقت فتكون أل للاستغراق ، فيكون الفعل محكياً به تلك الحالة العجيبة فيرفَع بعد حتى ؛ لأن الفعل المراد به الحال يكون مرفوعاً ، وبرفععِ الفعل قرأ نافع وأبو جعفر ، وجاز فيه أن يعتبر قول رسول المخاطَبين عليه السلام فأَلْ فيه للعهد والمعنى : وزلزلوا وتزلزلون مثلهم حتى يقول الرسول فيكون الفعل منصوباً ؛ لأن القول لمَّا يقَعْ وقتئذ ، وبذلك قرأ بقية العشرة ، فقراءة الرفع أنسب بظاهر السياق وقراءة النصب أنسب بالغرض المسوق له الكلام ، وبكلتا القراءتين يحصل كلا الغرضين.
ومتى استفهام مستعمل في استبطاء زمان النصر. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 316}
لطيفة لغوية
قال أبو العبَّاس المقريُّ : ورد لفظ "الضُّرِّ "في القرآن على أربعة أوجهٍ :
الأول : الضُّرُّ : الفقر ؛ كهذه الآية ، ومثله : {وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ} {يونس : 12 ] ، وقوله تعالى : {وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر} {النحل : 53 ] أي : الفقر.
الثاني : الضّرّ : القحط ؛ قال تعالى : {إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بالبأسآء والضرآء} {الأعراف : 94 ] أي : قحطوا.
أو قوله تعالى : {وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُمْ} {يونس : 21 ] أي : قحط.
الثالث : الضُّرُّ : المرض ؛ قال تعالى : {وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ} {يونس : 207 ] أي : بمرض.
الرابع : الضر : الأهوال ؛ قال تعالى : {وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر} {الإسراء : 67 ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 513 ـ 514}(5/280)
قوله تعالى : {حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}
قال الحرالي
ذكر قول الرسول الواقع في رتبة الذين آمنوا معه لا قوله فيما يخصه في ذاته وحده ومن هو منه أو متبعه ، لأن للنبي ترتباً فيما يظهر من قول وفعل مع رتب أمته ، فكان قول الرسول المنبىء عن حالهم {متى نصر الله} فكأنهم في مثل ترقب المتلدد الحائر الذي كأنه وإن وعد بما هو الحق يوقع له التأخير صورة الذي انبهم عليه الأمر لما يرى من اجتثاث أسباب الفرج ، ففي إشعاره إعلام بأن الله سبحانه وتعالى إنما يفرج عن أنبيائه ومن معهم بعد انقطاع أسبابهم ممن سواه ليمتحن قلوبهم للتقوى فتتقدس سرائرهم من الركون لشيء من الخلق وتتعلق ضمائرهم بالله تعالى وحده حتى يقول ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "لا إله إلا الله وحده ، أنجز وعده ، ونصر عبده ، وهزم الأحزاب وحده "إعلاماً بأن الله سبحانه وتعالى ناصره دون حجاب ولا وسيلة شيء من خلقه ، كذلك سنته مع رسله {إنا لننصر رسلنا والذين آمنوا في الحياة الدنيا} {غافر : 51 ] وعلى ذلك جرت خوارق العادات للأولياء وأهل الكرامات لا يكاد يقع لهم إلا عن ضرورة قطع الأسباب ، وفي قراءة النصب إعراب بأن غاية الزلزال القول ، وفي الرفع إعراب عن غاية الزلزال وأنه أمر مبهم ، له وقع في البواطن والظواهر ، أحد تلك الظواهر وقوع هذا القول ، ففي الرفع إنباء باشتداد الأمر بتأثيره في ظاهر القول وما وراءه - انتهى. وهو في النصب واضح فإن حتى مسلطة على الفعل ، وأما في الرفع فهي مقطوعة عن الفعل لأنها لم تعمل فيه لمضيه لتذهب النفس في الغاية كل مذهب ثم استؤنف شيء من بيانها بالفعل. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 397}
قال الآلوسى : (5/281)
المراد من ( الرسول ) الجنس لا واحد بعينه ، وقيل : هو اليسع ، وقيل : شعياء ، وقيل : أشعياء ، وعلى التعيين يكون المراد من {الذين خَلَوْاْ} قوماً بأعيانهم وهم أتباع هؤلاء الرسل. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 104}
فائدة
قرأ نافع يقول : بالرفع على أنها حكاية حال ماضية ، وفائدته تصوّر تلك الحال العجيبة واستحضار صورتها في مشاهدة السامع ليتعجب منها وقرأ الباقون بالنصب. أ هـ {السراج المنير حـ 1 صـ 220}
إشكال وجوابه
قال الفخر :
في الآية إشكال ، وهو أنه كيف يليق بالرسول القاطع بصحة وعد الله ووعيده أن يقول على سبيل الاستبعاد {متى نَصْرُ الله}.
والجواب عنه من وجوه أحدها : أن كونه رسولاً لا يمنع من أن يتأذى من كيد الأعداء ، قال تعالى : {وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ} {الحجر : 97 ] وقال تعالى : {لَعَلَّكَ باخع نَّفْسَكَ أَن لا يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ} {الشعراء : 3 ] وقال تعالى : {حتى إِذَا استيئس الرسل وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجّىَ} {يوسف : 110 ] وعلى هذا فإذا ضاق قلبه وقلت حيلته ، وكان قد سمع من الله تعالى أنه ينصره إلا أنه ما عين له الوقت في ذلك ، قال عند ضيق قلبه : {متى نَصْرُ الله} حتى إنه إن علم قرب الوقت زال همه وغمه وطاب قلبه ، والذي يدل على صحة ذلك أنه قال في الجواب : {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} فلما كان الجواب بذكر القرب دل على أن السؤال كان واقعاً عن القرب ، ولو كان السؤال وقع عن أنه هل يوجد النصر أم لا ؟ لما كان هذا الجواب مطابقاً لذلك السؤال ، وهذا هو الجواب المعتمد.(5/282)
والجواب الثاني : أنه تعالى أخبر عن الرسول والذين آمنوا أنهم قالوا قولاً ثم ذكر كلامين أحدهما : {متى نَصْرُ الله} والثاني : {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} فوجب إسناد كل واحد من هذين الكلامين إلى واحد من ذينك المذكورين : فالذين آمنوا قالوا : {متى نَصْرُ الله} والرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} قالوا ولهذا نظير من القرآن والشعر ، أما القرآن فقوله :
{ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ} {القصص : 73 ] والمعنى : لتسكنوا في الليل ولتبتغوا من فضله في النهار ، وأما من الشعر فقول امرىء القيس :
كأن قلوب الطير رطباًويابسا.. لدي وكرها العناب والحشف البالي
فالتشبيه بالعناب للرطب وبالحشف البالي لليابس ، فهذا جواب ذكره قوم وهو متكلف جداً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 19 ـ 20}
وقد استبعد الثعالبى القول الثانى كما فعل الفخر فقال :
، وقالتْ طائفةٌ : في الكلامِ تقديمٌ وتأخيرٌ ، والتقديرُ : حتى يقول الذين آمنوا : متى نَصْرُ اللَّهِ ، فيقولَ الرسولُ : ألا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قريبٌ ، فقدم الرسولَ في الرتبة ؛ لمكانته ، ثم قدم قول المؤمنين ؛ لأنه المتقدِّم في الزمان.
وهذا تحكُّم ، وحمل الكلام على وجهه غيرُ متعذِّر ، ويحتملُ أن يكون : {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} إِخباراً من اللَّه تعالى مؤتنفاً بعد تمام ذكْرِ القَوْل.
أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 165}
قال الآلوسى : (5/283)
والقول بأن هذه الجملة مقول الرسول {متى نَصْرُ الله} تعالى مقول من معه على طريق اللف والنشر الغير المرتب ليس بشيء ، أما لفظاً فلأنه لا يحسن تعاطف القائلين دون المقولين ، وأما معنى فلأنه لا يحسن ذكر قول الرسول {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} في الغاية التي قصد بها بيان تناهي الأمر في الشدة ، والقول بأن ترك العطف للتنبيه على أن كلا مقول لواحد منهما ، واحتراز عن توهم كون المجموع مقول واحد وتنبيه على أن الرسول قال لهم في جوابهم وبأن منصب الرسالة يستدعي تنزيه الرسول عن التزلزل لا ينبغي أن يلتفت إليه لأنه إذا ترك العطف لا يكون معطوفاً على القول الأول فكيف التنبيه على كون كل مقولاً لواحد منهما ، ولا نأمن وراء منع كون منصب الرسالة يستدعي ذلك التنزيه وليس التزلزل والانزعاج أعظم من الخوف ، وقد عرى الرسل صلوات الله تعالى وسلامه عليهم كما يصرح به كثير من الآيات. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 104}
قوله تعالى : {أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ}
قال البقاعى : (5/284)
ولما كان معنى الكلام طلب النصر واستبطاء الأمر أجابهم تعالى إجابة المنادي في حال اشتداد الضر بقوله : {ألا} قال الحرالي : استفتاحاً وتنبيهاً وجمعاً للقلوب للسماع {إن} تأكيداً وتثبيتاً {نصر الله} الذي لا سبب له إلا العناية من ملك الملوك بعد قطع كل سبب من دونه {قريب} لاستغنائه عن عدة ومدة ، ففي جملته بشرى بإسقاط كلفة النصر بالأسباب والعدد والآلات المتعية ، والاستغناء بتعلق القلوب بالله ، ولذلك إنما ينصر الله هذه الأمة بضعفائها ، لأن نصرتها بتقوى القلوب لا بمدافعة الأجسام ، فلذلك تفتح خاتمة هذه الأمة "قسطنطينية الروم بالتسبيح والتكبير "قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين "فانعطف ذلك على ما أراده الله تبارك وتعالى بأنبيائه وأصفيائه من اليسر الذي كماله لهذه الأمة فأراد بهم اليسر في كل حال - انتهى. وفي بعض الآثار : إنما تقاتلون الناس بأعمالكم ، والحاصل أنه لا يكفي مجرد ادعائهم الدخول في السلم بل لا بد من إقامة البينة بالصبر على ما يمتحنهم كما امتحن الأمم الخالية والقرون الماضية ، فانظر هذا التدريب في مصاعد التأديب ، وتأمل كيف ألقي إلى العرب وإن كان الخطاب لمن آمن ذكر القيامة في قوله : {والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة} {البقرة : 212 ] والجنة في قوله : {أن تدخلوا الجنة} {البقرة : 214 ] وهم ينكرونهما إلقاء ما كأنه محقق لا نزاع فيه تأنيساً لهم بذكرهما ، وانظر ما في ذلك من بدائع الحكم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 397 ـ 398}
قال الفخر : (5/285)
{ أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} يحتمل أن يكون جواباً من الله تعالى لهم ، إذ قالوا : {متى نَصْرُ الله} فيكون كلامهم قد انتهى عند قوله : {متى نَصْرُ الله} ثم قال الله عند ذلك {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} ويحتمل أن يكون ذلك قولاً لقوم منهم ، كأنهم لما قالوا : {متى نَصْرُ الله} رجعوا إلى أنفسكم فعلموا أن الله لا يعلي عدوهم عليهم ، فقالوا : {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} فنحن قد صبرنا يا ربنا ثقة بوعدك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 20}
وقال ابن عاشور :
وقوله : ألا إن نصر الله قريب} كلام مستأنف بقرينة افتتاحه بأَلاَ ، وهو بشارة من الله تعالى للمسلمين بقرب النصر بعد أن حصل لهم من قوارع صدر الآية ما ملأ القلوب رُعباً ، والقصد منه إكرام هذه الأمة بأنها لا يبلغ ما يمسها مبلغ ما مس من قبلها ، وإكرامٌ للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ بألا يحتاج إلى قول ما قالته الرسل قبله من استبطاء نصر الله بأن يجيء نصر الله لهاته الأمة قبل استبطائه ، وهذا يشير إلى فتح مكة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 316 ـ 317}
وقال الخطيب الشربينى :
{ألا إنّ نصر الله قريب} إتيانه وفي هذا إشارة إلى أنّ الوصول إلى الله تعالى والفوز بالكرامة عنده برفض الهوى واللذات ومكابدة الشدائد والرياضات ، كما قال عليه الصلاة والسلام كما رواه الشيخان وغيرهما : "حفت الجنة بالمكاره وحفت النار بالشهوات".
وفي رواية لهم : حجبت أي : جعلت المكاره حجاباً دون الجنة فمن خرقه دخلها. والشهوات حجاب دون النار فمن اقتحمه دخلها. أ هـ {السراج المنير حـ 1 صـ 220}
سؤال : فإن قيل : قوله : {أَلا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} يوجب في حق كل من لحقه شدة أن يعلم أن سيظفر بزوالها ، وذلك غير ثابت.(5/286)
قلنا : لا يمتنع أن يكون هذا من خواص الأنبياء عليهم السلام ، ويمكن أن يكون ذلك عاماً في حق الكل ، إذ كل من كان في بلاء فإنه لا بد له من أحد أمرين ، إما أن يتخلص عنه ، وإما أن يموت وإذا مات فقد وصل إلى من لا يهمل أمره ولا يضيع حقه ، وذلك من أعظم النصر ، وإنما جعله قريباً لأن الموت قريب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 20}
فائدة لغوية
"قريب" خبر "إنّ". قال النحاس : ويجوز في غير القرآن "قريباً" أي مكاناً قريباً. و"قريب" لا تثنّيه العرب ولا تجمعه ولا تؤنّثه في هذا المعنى ؛ قال الله عز وجل : {إِنَّ رَحْمَةَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين} {الأعراف : 56 ]. وقال الشاعر :
له الويلُ إن أمْسَى ولا أُمُّ هاشم... قريب ولا بَسْبَاسةُ بنْةُ يَشْكُرَا
فإن قلت : فلان قريب لي ثنيت وجمعت ؛ فقلت : قريبون وأقرباء وقرباء. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 36}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
خلق الله الجنة وحفَّها بالمصاعب ، وخلق النار وحفَّها بالشهوات والرغائب ، فَمنْ احتشم ركوب الأهوال بقي عن إدراك الآمال. ثم إن الحق سبحانه ابتلى الأولين بفنونٍ من مقاساة الشدائد ، وكلُّ من أُلحِقَ بهم من خلف الأولياء أدخلهم في سِلْكِهِمْ ، وأدرجهم في غمارهم ، فمن ظنَّ غير ذلك فَسَرَابٌ ظَنَّه ماءً ، وحكم لم يحصل على ما ظَنه تأويلاً. ولقد مضت سُنَّة الله سبحانه مع الأولياء أنهم لا يُنيخُونَ بعقوة الظفر إلا بعد إشرافهم على عرصات اليأس ، فحين طال بهم التَرَقُّبُ صَادَفَهم اللطفُ بغتةً وتحقق لهم المُبْتَغَى فجأة. قال تعالى : {أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللهِ قَرِيبٌ }. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 174}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم... }.(5/287)
قال ابن عصفور في مقربة والآمدي في شرح الجزولية : ( لَمْ ) لنفي الماضي المتصل بزمن الحال ومثل ذلك {وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى} ولم يندم ، وعصى إبليس ربه ولمّا يندم لأن نفي الندم عن آدم كان ومضى وانقطع كوقوع الندم منه بعد ذلك ، ونفيه عن إبليس متصل بزمن الحال.
قال ابن عرفة : وعادتهم يتعقبونه بوجيهن :
الأول : نسبة العصيان لآدم عليه السلام فإنه وإن كان ورد في القرآن لكنّه لا ينبغي أن ( يتكلم ) المخلوق على جهة المثال فإنه من إساءة الأدب على الأنبياء.
الثاني : إن نفي النّدم عنه إما قبل المعصية أو بعدها ، والأقسام كلها باطلة لوقوع النّدم منه إثر المعصية. قال الله تعالى {فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا} ( فعقب ) الأكل بدت لهما السوءات ، فوقع الندم والندم حين العصيان غير متصور فأحرى قبله.
وقال القرطبي : ( لَمَّا ) هنا بمعنى ( لم ) لنفي الماضي المنقطع لأن ذلك كان في غزوة أحد وهي متقدمة على ( هذه ) الآية.
ورده ابن عرفة بأنّه إنّما يلزم ذلك لو ( علّقه ) في الآية بالعلم ، وهو أنما علّقه بالحسبان.
قلت : ونقله بعض الطلبة بلفظ لا يحتاج إلى هذا بل هي على بابها لأن حسابهم أنهم يدخلون الجنة حالة كونهم لم يأتهم مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ وهذا ( الحسبان ) لم ينقطع وما زال المؤمنون يظنون أنهم يدخلون الجنة من غير بأس ولا مشقة تنالهم إلى حين نزول هذه الآية ، ونيلهم البأس في ( هذه الغزوة ) لا يرفع ظنّهم ذلك.
قال ابن عرفة : والبأَسَاءُ راجع لفقد المال ، وَالضّرّاءُ للنقص في البدن والزلزال في النفس.
قوله تعالى : {حتى يَقُولَ الرسول...}.
قرأ نافع ، بالرفع.
قال ابن عطية : كأنه اقترن بها ( تسبيب ) ، فحتى ( حرف ) ( ابتداء ) يرفع الفعل.
ابن عطية : ظاهره أيضا إذا كان ما قبلها سببا لما بعدها ، فالرفع مطلقا وليس كذلك. بل لابد من زيادة كونه ماضيا أو حالا ، وأما إن كان الفعل مستقبلا فالنصب ليس إلا ، وكذلك جعله الزمخشري حكاية حال ماضية.
قال أبو حيان : وحتى على النصب ( للغاية ) بمعنى : إلى أن ، أو للتعليل بمعنى كي. قال : والغاية أظهر لأن ( الضراء ) والزلزال ليسا معللين بقول الرّسول والمؤمنين.
قال ابن عرفة : إن اعتبرنا ( الزلزال ) من حيث نسبته إليهم فليس بعلة ، لأنهم لا يتزلزلون قصدا لأن يقول الرّسول والمؤمنون هذه المقالة ، وإن اعتبرناه من حيث نسبته إلى الحق سبحانه وتعالى إذ هو الفاعل المختار في الحقيقة فهو علة في قول الرسول والمؤمنين ؛ ذلك لأن الله تعالى زلزلهم ليقول الرسول والمؤمنون هذه المقالة. وأبو حيان لما رأى الفعل وهو "زُلْزلُوا "مبنيا للمفعول اعتبر نسبته إليه.
أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 273}(5/288)
قال السعدى فى معنى الآية :
يخبر تبارك وتعالى أنه لا بد أن يمتحن عباده بالسراء والضراء والمشقة كما فعل بمن قبلهم ، فهي سنته الجارية ، التي لا تتغير ولا تتبدل ، أن من قام بدينه وشرعه ، لا بد أن يبتليه ، فإن صبر على أمر الله ، ولم يبال بالمكاره الواقفة في سبيله ، فهو الصادق الذي قد نال من السعادة كمالها ، ومن السيادة آلتها.
ومن جعل فتنة الناس كعذاب الله ، بأن صدته المكاره عما هو بصدده ، وثنته المحن عن مقصده ، فهو الكاذب في دعوى الإيمان ، فإنه ليس الإيمان بالتحلي والتمني ، ومجرد الدعاوى ، حتى تصدقه الأعمال أو تكذبه.
فقد جرى على الأمم الأقدمين ما ذكر الله عنهم {مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ} أي : الفقر {وَالضَّرَّاءُ} أي : الأمراض في أبدانهم {وَزُلْزِلُوا} بأنواع المخاوف من التهديد بالقتل ، والنفي ، وأخذ الأموال ، وقتل الأحبة ، وأنواع المضار حتى وصلت بهم الحال ، وآل بهم الزلزال ، إلى أن استبطأوا نصر الله مع يقينهم به.
ولكن لشدة الأمر وضيقه قال {الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ}.
فلما كان الفرج عند الشدة ، وكلما ضاق الأمر اتسع ، قال تعالى : {أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} فهكذا كل من قام بالحق فإنه يمتحن.
فكلما اشتدت عليه وصعبت ، إذا صابر وثابر على ما هو عليه انقلبت المحنة في حقه منحة ، والمشقات راحات ، وأعقبه ذلك ، الانتصار على الأعداء وشفاء ما في قلبه من الداء ، وهذه الآية نظير قوله تعالى : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ}.
(5/289)
وقوله [تعالى : ] {الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} فعند الامتحان ، يكرم المرء أو يهان. أ هـ {تفسير السعدى صـ 96}
أسئلة وأجوبة
قوله تعالى : "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء وزلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله ألا إن نصر الله قريب" ، وقال فى سورة آل عمران : " أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين" ، وفى سورة براءة : " أم حسبتم أن تتركوا ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة" ففى البقرة وآل عمران : " أن تدخلوا الجنة" وفى براءة : " أن تتركوا" وفى سورة البقرة : " ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم" وفى آل عمران وبراءة : " ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم" وسورة آل عمران : "ويعلم الصابرين" وفى براءة : " ولم يتخذوا من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين وليجة" فهذه ثلاث سؤالات.(5/290)
والجواب عن جميعها على الجملة أن وجه اختلافهما والله أعلم ورودها أعقاب قصص مختلفة وقضايا متغايرة فآية البقرة واردة على ما تقدمها من خطاب المؤمنين على العموم والتسوية فى قوله تعالى : "يا أيها الذين آمنوا ادخلوا فى السلم كافة" ثم حذرهم بقوله : "فإن زللتم من بعد ما جاءتكم البينات". الآية وأشار الواقع جوابا من قوله : "إن الله عزيز حكيم" إلى قدرته تعالى على من زل فحاد وتنكب بعد وضوح الأمر فكان الكلام فى قوة أن لو قيل بحسب أفهامنا القاصرة : فإن زللتم فحدتم وتنكبتم عن سلوك المنهج الذى أمرتم به بعد بيان الأمر فاعلموا أنه قادر على أخذكم وعقابكم لا يفوته هاربكم ولا يخرج عن قهره أحد منكم عليم بما تخفونه وتسرونه ثم ذكرهم بحال غيرهم فقال تعالى : "سل بنى إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة..الآية" ، ثم عرفهم بتزيين الدنيا للكافرين تسلية للمؤمنين فيما حف بمطلوبهم الأخروى من المكاره وأخبرهم بما لهم فى الآخرة إن صبروا واتقوا فقال : "والذين اتقوا فوقهم يوم القيامة" ، ثم أخبرهم بما كان الأمر عليه أولا من كون الناس أمة واحدة ثم اختلفوا فبعث الله النبيين. الآية فلما خاطبهم بهذا كله وحصل من ذلك ومن إحالة الآى على أحوال من تقدم وإشارتها إلى ما ابتلوا به مما وضح منه صعوبة التخلص إلا بعد الصبر وتحمل المشقة مع سبقية التوفيق أعقب بقوله إشارة إلى تسلية المؤمنين فيما يصيبهم فقال : "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة...الآية" فعرفهم أنه لابد من الابتلاء والاختبار : "ولنبلونكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلو أخباركم" وأتبع بقوله تعالى : "مستهم البأساء والضراء" إلى ما ذكر سبحانه فى قوله : "ولقد أرسلنا إلى أمم من قبلك فأخذناهم بالبأساء والضراء" فهذه الآية أعنى آية البقرة لم يقع فيها تخصيص بغير المستجيبين المحسنين فى إجابتهم لا من وجهة اللفظ ولا من وجهة المعنى فناسبها الإطناب وذكر حال من تقدم من الأمم فى ابتلائهم.
(5/291)
وأما آية آل عمران فخوطب بها أهل أحد تسلية فيما أصابهم وخص فيها ذكر الجهاد والصبر ولم يقصد فى الآية أخبار بغير ذلك لأنها ترتيب واقعة مخصوصة فهذا ما انفردت به واختصت عن آية البقرة فقال تعالى : "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين" فلم يذكر هنا غير الجهاد والصبر.
أما آية براءة فخطاب المؤمنين ممن شاهد فتح مكة وإعلام لهم بأنهم لا يكمل إيمانهم إلا بمطابقة ظواهرهم بواطنهم فى ألا يقع منهم صغو إلى غير ما بايعوا الله عليه من الإخلاص فلا يجحدون ولا يعتمدون من دون الله ولا رسوله ولا المؤمنين ما يعتمدونه موئلا أو مرجعا فإنه سبحانه لا يخفى عليه ما أسروه وتحوم الآية على ذم من اتصف بصفة النفاق فأظهر خلاف ما أبطن ، وقد تقدم قبلها ما يدل على ذلك من قوله تعالى : "يرضونكم بأفواههم وتأبى قلوبهم" فحذر المؤمنون من هذه الصفة وعرفوا أنه لابد من ابتلائهم واختبارهم لتخلص أحوالهم وتمتاز من أحوال المنافقين وأنهم لم يتركوا دون ابتلاء واختبار ليميز الله الخبيث من الطيب وهذا من بعضهم لبعض أعنى الاطلاع بعد الاختبار والله سبحانه غنى عن هذا وعليم بما تنطوى عليه كل نفس وما تكنه الضمائر وإنما ثمرة الابتلاء والاختبار عائدة علينا ليطلع بعضنا من بعض على ما لم يكن ليطلع عليه لولا الاختبار وعلمه سبحانه لا يتوقف على ابتلائنا ولا يتجدد عليه شئ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا فالمراد بالآية : أم حسبتم أن تتركوا دون اختبار يفصل بين أحوالكم وأحوال المنافقين المذكورين فيما قبل ولم تتعرض الآيتان من سورة البقرة وآل عمران لذكر نفاق بالافصاح ولا بإيماء بخلاف آية براءة فلما اختلفت المقاصد اختلفت العبارات فى مطلع الآى وختامها بحسب ذلك والله أعلم. فتأمل اتحاد الوليجة وقوله : "والله خبير بما تعملون" وتخصيص اسمه سبحانه : "الخبير" يلح لك ما قصد بهذه الآية. أ هـ {ملاك التأويل صـ 87}(5/292)
من لطائف التسترى فى الآية
قوله : {وَزُلْزِلُواْ} {214 ] أي أرادوا به وخوفوا به وحذروا مكر الله عزَّ وجلَّ. وسئل عن قوله : {حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} {214 ] أكان قولهم استبطاء للنصر ؟ قال سهل : لا ، ولكن لما أيسوا من تدبيرهم قالوا : {متى نَصْرُ الله} {214 ] فلما علم الله تعالى من تبريهم من حولهم وقوتهم وتدبيرهم لأنفسهم وإظهارهم الافتقار إليه ، وأن لا حيلة لهم دونه أجابهم بقوله : {ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ} {214 ] قال سهل : البلاء والعافية من الله عزَّ وجلَّ ، والأمر والنهي منه ، والعصمة والتوفيق منه ، والثواب والعقاب منه ، والأعمال منسوبة إلى بني آدم ، فمن عمل خيراً وجب عليه الشكر ليستوجب به المزيد ، ومن عمل شراً وجب عليه الاستغفار ليستوجب به الغفران. والبلوى من الله على وجهين : بلوى رحمة ، وبلوى عقوبة ، فبلوى الرحمة : يبعث صاحبه على إظهار فقره {وفاقته ] إلى الله عزَّ وجلَّ وترك التدبير ، وبلوى العقوبة : يبعث صاحبه على اختيار منه وتدبيره. فسئل سهل : الصبر على العافية أشد أم على البلاء ؟ فقال : طلب السلامة في الأمن أشد من طلب السلامة في الخوف. أ هـ {تفسير التسترى صـ 46}(5/293)
قوله تعالى : {يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال الفخر :
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما بالغ في بيان أنه يجب على كل مكلف أن يكون معرضاً عن طلب العاجل ، وأن يكون مشتغلاً بطلب الآجل ، وأن يكون بحيث يبذل النفس والمال في ذلك شرع بعد ذلك في بيان الأحكام وهو من هذه الآية إلى قوله : {أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن ديارهم} {البقرة : 243 ] لأن من عادة القرآن أن يكون بيان التوحيد وبيان الوعظ والنصيحة وبيان الأحكام مختلطاً بعضها بالبعض ، ليكون كل واحد منها مقوياً للآخر ومؤكداً له. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 20}
قال الآلوسى :
ومناسبة هذه الآية لما قبلها هو أن الصبر على النفقة وبذل المال من أعظم ما تحلى به المؤمن وهو من أقوى الأسباب الموصلة إلى الجنة حتى ورد "الصدقة تطفىء غضب الرب". أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 104}
وقال البقاعى : (5/294)
ولما كانت النفقة من أصول ما بنيت عليه السورة من صفات المؤمنين {ومما رزقناهم ينفقون} {البقرة : 3 ] ثم كرر الترغيب فيها في تضاعيف الآي إلى أن أمر بها في أول آيات الحج الماضية آنفاً مع أنها من دعائم بدايات الجهاد إلى أن تضمنتها الآية السالفة مع القتل الذي هو نهاية الجهاد كان هذا موضع السؤال عنهما فأخبر تعالى عن ذلك على طريق النشر المشوش وذلك مؤيد لما فهمته في البأساء والضراء فإن استعماله في القرآن أكثر من المرتب فقال معلماً لمن سأل : هل سأل المخاطبون بذلك عنهما ؟ {يسئلونك ماذا} أي أيّ شيء {ينفقون} من الأموال. وقال الحرالي : لما كان منزل القرآن على نحو متصرف المرء في الأزمان كان انتظام خطابه متراجعاً بين خطاب دين يتلقى عن الله وبين إقامة بحكم يكون العبد فيه خليفة الله في نفاذ أمره وبين إنفاق يكون فيه خليفة في إيصال فضله ، لأن الشجاعة والجود - خلافة والجبن والبخل عزل عنها ، فكان في طي ما تقدم من الخطاب الإحسان والإنفاق ، وكان حق ذلك أن لا يسأل عماذا ينفق ، لأن المنفق هو الفضل كله ، قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "يا ابن آدم! إن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك "ففي هذا السؤال ممن سأله له نوع تلدد من نحو ما تقدم لبني إسرائيل في أمر البقرة من مرادة المسألة ، لم يستأذن الصديق رضي الله تعالى عنه حين أتى بماله كله ولا استأذن عمر رضي الله عنه حين أتى بشطر ماله ولا استأذن سعد بن الربيع حين خرج لعبد الرحمن بن عوف رضي الله تعالى عنهما عن شطر ماله وإحدى زوجتيه ؛ فكان في هذا السؤال إظهار مثل الذين خلوا من قبلهم ولولا أن الله رحيم لكان جوابهم : تنفقون الفضل ، فكان يقع واجباً ولكن الله لطف بالضعيف لضعفه وأثبت الإنفاق وأبهم قدره في نكس الإنفاق بأن يتصدق على الأجانب مع حاجة من الأقارب فقال تعالى خطاباً للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإعراضاً منه عن السائلين لما في السؤال من التبلد الإسرائيلي -(5/295)
انتهى. فقال : {قل ما أنفقتم من خير} أي من مال وعدل عن بيان المنفق ما هو إلى بيان المصرف لأنه أنفع على وجه عرف منه سؤالهم وهو كل مال عدّوه خيراً فقال معبراً بالماضي ليكون أشمل : {ما أنفقتم من خير} فعمم المنفق منه وهو كل ماله تعدونه خيراً وخص المصرف مبيناً أهمه لأن النفقة لا يعتد بها إلا أن تقع موقعها فقال : فللوالدين} لأنهما أخرجاه إلى الوجود في عالم الأسباب {والأقربين} لما لهم من الحق المؤكد بأنهم كالجزء لما لهم من قرب القرابة {واليتامى} لتعرضهم للضياع لضعفهم.
وقال الحرالي : لأنهم أقارب بعد الأقارب باليتم الذي أوجب خلافة الغير عليهم - انتهى {والمساكين} لمشاركتهم الأيتام في الضعف وقدرتهم في الجملة على نوع كسب. قال الحرالي : وهم المتعرضون لغة والمستترون الذين لا يفطن لهم ولا يجدون ما يغنيهم شرعاً ولغة نبوية - انتهى. {وابن السبيل} لضعفه بالغربة والآية محكمة فحمل ما فيها على ما يعارض غيرها. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 399}
سبب نزول الآية
قال ابن عباس رضي الله تعالى عنهما في رواية أبي صالح : "كان عمرو بن الجموح شيخاً كبيراً ذا مال كثير فقال : يا رسول الله بماذا نتصدق وعلى من ننفق ؟ فنزلت" وفي رواية عطاء عنه لا إنها نزلت في رجل أتى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : إن لي ديناراً ، فقال : أنفقه على نفسك فقال : إن لي دينارين فقال : أنفقهما على أهلك فقال : إن لي ثلاثة فقال : أنفقها على خادمك فقال : إن لي أربعة فقال : أنفقها على والديك فقال : إن لي خمسة فقال : أنفقها على قرابتك فقال : إن لي ستة فقال : أنفقها في سبيل الله تعالى" وعن ابن جريج قال : "سأل المؤمنون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أين يضعون أموالهم ؟ " فنزلت. أ هـ {روح المعانى حـ 4 صـ 105}
في الآية سؤال ، وهو أن القوم سألوا عما ينفقون لا عمن تصرف النفقة إليهم ، فكيف أجابهم بهذا ؟ .(5/296)
والجواب عنه من وجوه أحدها : أنه حصل في الآية ما يكون جواباً عن السؤال وضم إليه زيادة بها يكمل ذلك المقصود ، وذلك لأن قوله : {مَا أَنفَقْتُم مّنْ خَيْرٍ} جواب عن السؤال ، ثم إن ذلك الإنفاق لا يكمل إلا إذا كان مصروفاً إلى جهة الإستحقاق ، فلهذا لما ذكر الله تعالى الجواب أردفه بذكر المصرف تكميلاً للبيان وثانيها : قال القفال : إنه وإن كان السؤال وارداً بلفظ {مَا} إلا أن المقصود : السؤال عن الكيفية لأنهم كانوا عالمين أن الذي أمروا به إنفاق مال يخرج قربة إلى الله تعالى ، وإذا كان هذا معلوماً لم ينصرف الوهم إلى أن ذلك المال أي شيء هو ؟ وإذا خرج هذا عن أن يكون مراداً تعين أن المطلوب بالسؤال أن مصرفه أي شيء هو ؟ وحينئذ يكون الجواب مطابقاً للسؤال ، ونظيره قوله تعالى : {قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيّن لَّنَا مَا هِىَ إِنَّ البقر تشابه عَلَيْنَا...
قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ} {البقرة : 70 ، 71 ] وإنما كان هذا الجواب موافقاً لذلك السؤال ، لأنه كان من المعلوم أن البقرة هي البهيمة التي شأنها وصفتها كذا ، فقوله : {مَا هِىَ} لا يمكن حمله على طلب الماهية ، فتعين أن يكون المراد منه طلب الصفة التي بها تتميز تلك البقرة عن غيرها ، فبهذا الطريق قلنا : إن ذلك الجواب مطابق لذلك السؤال ، فكذا ههنا لما علمنا أنهم كانوا عالمين بأن الذي أمروا بإنفاقه ما هو ، وجب أن يقطع بأن مرادهم من قولهم : {مَاذَا يُنفِقُونَ} ليس هو طلب الماهية ، بل طلب المصرف فلهذا حسن الجواب(5/297)
وثالثها : يحتمل أن يكون المراد أنهم سألوا هذا السؤال فكأنهم قيل لهم : هذا السؤال فاسد أنفق أي شيء كان ولكن بشرط أن يكون مالاً حلالاً وبشرط أن يكون مصروفاً إلى المصرف وهذا مثل ما إذا كان الإنسان صحيح المزاج لا يضره أكل أي طعام كان ، فقال للطبيب : ماذا آكل ؟ فيقول الطبيب : كل في اليوم مرتين ، كان المعنى : كل ما شئت لكن بهذا الشرط كذا ههنا المعنى : أنفق أي شيء أردت بشرط أن يكون المصرف ذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 21}
وقال ابن عاشور :
{ماذا} استفهام عن المنفق ( بفتح الفاء ) ومعنى الاستفهام عن المنفق السؤال عن أحواله التي يقع بها موقع القبول عند الله ، فإن الإنفاق حقيقة معروفة في البشر وقد عرفها السائلون في الجاهلية. فكانوا في الجاهلية ينفقون على الأهل وعلى الندامى وينفقون في الميسر ، يقولون فلان يتمم أيساره أي يدفع عن أيساره أقساطهم من مال المقامرة ويتفاخرون بإتلاف المال. فسألوا في الإسلام عن المعتدِّ به من ذلك دون غيره ، فلذلك طابق الجوابُ السؤال إذ أجيب : {قُل ما أنفقتم من خير فللوالدين والأقربين} ، فجاء ببيان مصارف الإنفاق الحق وعرف هذا الجنس بمعرفة أفراده ، فليس في هذا الجواب ارتكاب الأسلوب الحكيم كما قيل ، إذ لا يعقل أن يسألوا عن المال المنفق بمعنى السؤال عن النوع الذي ينفق من ذهب أم من ورق أم من طعام ، لأن هذا لا تتعلق بالسؤال عنه أغراض العقلاء ، إذ هم يعلمون أن المقصد من الإنفاق إيصال النفع للمنفق عليه ، فيتعين أن السؤال عن كيفيات الإنفاق ومواقعه ، ولا يريبكم في هذا أن السؤال هنا وقع بما وهي يسأل بها عن الجنس لا عن العوارض ، فإن ذلك اصطلاح منطقي لتقريب ما ترجموه من تقسيمات مبنية على اللغة اليونانية وأخذ به السكاكي ، لأنه يحفل باصطلاح أهل المنطق وذلك لا يشهد له الاستعمال العربي. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 317 ـ 318}
فصل(5/298)
اعلم أنه تعالى راعى الترتيب في الإنفاق ، فقدم الوالدين ، وذلك لأنهما كالمخرج له من العدم إلى الوجود في عالم الأسباب ، ثم ربياه في الحال الذي كان في غاية الضعف ، فكان إنعامهما على الابن أعظم من إنعام غيرهما عليه ، ولذلك قال تعالى : {وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إياه وبالوالدين} {الإسراء : 23 ] وفيه إشارة إلى أنه ليس بعد رعاية حق الله تعالى شيء أوجب من رعاية حق الوالدين ، لأن الله تعالى هو الذي أخرج الإنسان من العدم إلى الوجود في الحقيقة ، والوالدان هما اللذان أخرجاه إلى عالم الوجود في عالم الأسباب الظاهرة ، فثبت أن حقهما أعظم من حق غيرهما فلهذا أوجب تقديمهما على غيرهما في رعاية الحقوق ، ثم ذكر تعالى بعد الوالدين الأقربين ، والسبب فيه أن الإنسان لا يمكنه أن يقوم بمصالح جميع الفقراء ، بل لا بد وأن يرجح البعض على البعض ، والترجيح لا بد له من مرجح ، والقرابة تصلح أن تكون سبباً للترجيح من وجوه أحدها : أن القرابة مظنة المخالطة ، والمخالطة سبب لاطلاع كل واحد منهم على حال الآخر ، فإذا كان أحدهما غنياً والآخر فقيراً كان اطلاع الفقير على الغني أتم ، واطلاع الغني على الفقير أتم ، وذلك من أقوى الحوامل على الإنفاق وثانيها : أنه لو لم يراع جانب الفقير ، احتاج الفقير للرجوع إلى غيره وذلك عار وسيئة في حقه فالأولى أن يتكفل بمصالحهم دفعاً للضرر عن النفس وثالثها : أن قريب الإنسان جار مجرى الجزء منه والإنفاق على النفس أولى من الإنفاق على الغير ، فلهذا السبب كان الإنفاق على القريب أولى من الإنفاق على البعيد ، ثم إن الله تعالى ذكر بعد الأقربين اليتامى ، وذلك لأنهم لصغرهم لا يقدرون على الاكتساب ولكونهم يتامى ليس لهم أحد يكتسب لهم ، فالطفل الذي مات أبوه قد عدم الكسب والكاسب.
(5/299)
وأشرب على الضياع ، ثم ذكر تعالى بعدهم المساكين وحاجة هؤلاء أقل من حاجة اليتامى لأن قدرتهم على التحصيل أكثر من قدرة اليتامى ثم ذكر تعالى بعدهم ابن السبيل فإنه بسبب انقطاعه عن بلده ، قد يقع في الاحتياج والفقر ، فهذا هو الترتيب الصحيح الذي رتبه الله تعالى في كيفية الإنفاق ، ثم لما فصل هذا التفصيل الحسن الكامل أردفه بعد ذلك بالإجمال فقال : {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ} أي وكل ما فعلتموه من خير إما من هؤلاء المذكورين وإما مع غيرهم حسبة لله وطلباً لجزيل ثوابه وهرباً من أليم عقابه فإن الله به عليم ، والعليم مبالغة في كونه عالماً يعني لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء فيجازيكم أحسن الجزاء عليه كما قال : {لإنّى لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مّنْكُمْ مّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى} {آل عمران : 195 ] وقال : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ} {الزلزلة : 7 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 21}
فائدة
قال ابن عاشور :
اللام في {للوالدين} للمِلْك ، بمعنى الاستحقاق أي فالحقيق به الوالدين أي إن تنفقوا فأنفقوا للوالدين أو أعطوا للوالدين ، وقد تقدم بيانهم في قوله تعالى :
{ وآتى المال على حبه ذوي القربى} {البقرة : 177 ] الآية.
والآية دالة على الأمر بالإنفاق على هؤلاء والترغيب فيه ، وهي في النفقة التي ليست من حق المال أعني الزكاة ولا هي من حق الذات من حيث إنها ذات كالزوجة ، بل هذه النفقة التي هي من حق المسلمين بعضهم على بعض لكفاية الحاجة وللتوسعة وأولى المسلمين بأن يقوم بها أشدهم قرابة بالمعوزين منهم ، فمنها واجبة كنفقة الأبوين الفقيرين والأولاد الصغار الذين لا مال لهم إلى أن يقدروا على التكسب أو ينتقل حق الإنفاق إلى غير الأبوين ، وذلك كله بحسب عادة أمثالهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 318}
سؤال : ما المراد من الخير ؟(5/300)
الجواب : المراد من الخير هو المال لقوله عز وجل : {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير لَشَدِيدٌ} {العاديات : 8 ] وقال : {إِن تَرَكَ خَيْرًا الوصية} {البقرة : 180 ] فالمعنى وما تفعلوا من إنفاق شيء من المال قل أو كثر ، وفيه قول آخر وهو أن يكون قوله : {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ} يتناول هذا الإنفاق وسائر وجوه البر والطاعة ، وهذا أولى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 21}
فصل
قال الفخر :
قال بعضهم : هذه الآية منسوخة بآية المواريث ، وهذا ضعيف لأنه يحتمل حمل هذه الآية على وجوه لا يتطرق النسخ إليها
أحدها : قال أبو مسلم الإنفاق على الوالدين واجب عند قصورهما عن الكسب والملك ، والمراد بالأقربين الولد وولد الولد وقد تلزم نفقتهم عند فقد الملك ، وإذا حملنا الآية على هذا الوجه فقول من قال أنها منسوخة بآية المواريث ، لا وجه له لأن هذه النفقة تلزم في حال الحياة والميراث يصل بعد الموت ، وأيضاً فما يصل بعد الموت لا يوصف بأنه نفقة
وثانيها : أن يكون المراد من أحب التقرب إلى الله تعالى في باب النفقة فالأولى له أن ينفقه في هذه الجهات فيقدم الأولى فالأولى فيكون المراد به التطوع
وثالثها : أن يكون المراد الوجوب فيما يتصل بالوالدين والأقربين من حيث الكفاية وفيما يتصل باليتامى والمساكين مما يكون زكاة
ورابعها : يحتمل أن يريد بالإنفاق على الوالدين والأقربين ما يكون بعثاً على صلة الرحم وفيما يصرفه لليتامى والمساكين ما يخلص للصدقة فظاهر الآية محتمل لكل هذه الوجوه من غير نسخ. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 21}
فائدة
قال القرطبى :(5/301)
واجب على الرجل الغنيّ أن ينفق على أبويه المحتاجين ما يصلحهما في قدر حالهما من حاله ، من طعام وكُسوة وغير ذلك. قال مالك : ليس عليه أن يزوّج أباه ، وعليه أن ينفق على امرأة أبيه ؛ كانت أُمُّه أو أجنبية ، وإنما قال مالك : ليس عليه أن يزوّج أباه لأنه رآه يستغني عن التزويج غالباً ، ولو احتاج حاجة ماسة لوجب أن يزوّجه ، لولا ذلك لم يوجب عليه أن ينفق عليهما. فأما ما يتعلق بالعبادات من الأموال فليس عليه أن يعطيه ما يحج به أو يغزو ؛ وعليه أن يخرج عنه صدقة الفطر ؛ لأنها مستحقة بالنفقة والإسلام. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 37}
قوله تعالى : {وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ}
قال البقاعى :
ولما خص من ذكر عمم وبشر بقوله : {وما تفعلوا من خير} أي مما يعد خيراً من عين أو معنى من هذا أو غيره مع هؤلاء أو غيرهم {فإن الله} المحيط علماً وقدرة بكل شيء. ولما كان على طريق الاستئناف في مقام الترغيب والترهيب لكونه وكل الأمر إلى المنفقين وكان سبحانه عظيم الرفق بهذه الأمة أكِد علمه بذلك فقدم بذلك فقدم الظرف إشارة إلى أن له غاية النظر إلى أعمالهم الحسنة فقال : {به عليم} أي بالغ العلم وهو أولى من جازى على الخير. وقال الحرالي : ختم بالعلم لأجل دخول الخلل على النيات في الإنفاق لأنه من أشد شيء تتباهى به النفس فيكاد لا يسلم لها منه إلا ما لا تعلمه شمالها التي هي التفاتها وتباهيها ويختص بيمينها التي هي صدقها وإخلاصها - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 400}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} تذييل والمقصود من قوله : {فإن الله به عليم} الكناية عن الجزاء عليه ، لأن العليم القدير إذا امتثل أحد لأمره لا يحول بينه وبين جزائه عليه حائل. وشمل عمومُ {وما تفعلوا من خير} الأفعالَ الواجبة والمتطوع بها فيعم النفقات وغيرها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 318}(5/302)
وقال أبو حيان :
وقرأ عليّ بن أبي طالب : وما يفعلوا ، بالياء ، فيكون ذلك من باب الالتفات ، أو من باب ما أضمر لدلالة المعنى عليه ، أي : وما يفعل الناس ، فيكون أعم من المخاطبين قبل ، إذ يشملهم وغيرهم ، وفي قوله : من خير ، في الإنفاق يدل على طيب المنفق ، وكونه حلالاً ، لأن الخبيث منهي عنه بقوله : {ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون} وما ورد من أن الله طيب لا يقبل إلاَّ الطيب ، ولأن الحرام لا يقال فيه خير. وقوله : من خير في قوله : وما تفعلوا ، هو أعم : من ، خير ، المراد به المال ، لأنه ما يتعلق به هو الفعل ، والفعل أعم من الإنفاق ، فيدخل الإنفاق في الفعل ، فخير ، هنا هو الذي يقابل الشر ، والمعنى : وما تفعلوا من شيء من وجوه البر والطاعات وجعل بعضهم هنا : وما تفعلوا ، راجعاً إلى معنى الإنفاق ، أي : وما تفعلوا من إنفاق خير ، فيكون الأول بياناً للمصرف ، وهذا بيان للمجازاة ، والأوْلى العموم ، لأنه يشمل إنفاق المال وغيره ، ويترجح بحمل اللفظ على ظاهره من العموم.
ولما كان أولاً السؤال عن خاص ، أجيبوا بخاص ، ثم أتى بعد ذلك الخاص التعميم في أفعال الخير ، وذكر المجازاة على فعلها ، وفي قوله : {فإن الله به عليم} دلالة على المجازاة ، لأنه إذا كان عالماً به جازى عليه ، فهي جملة خبرية ، وتتضمن الوعد بالمجازاة. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 151}(5/303)
فائدة
قال فى الميزان :
قوله تعالى : {وما تفعلوا من خير فإن الله به عليم} ، في تبديل الإنفاق من فعل الخير ههنا كتبديل المال من الخير في أول الآية إيماء إلى أن الإنفاق وإن كان مندوبا إليه من قليل المال وكثيره ، غير أنه ينبغي أن يكون خيرا يتعلق به الرغبة وتقع عليه المحبة كما قال تعالى : "لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون "آل عمران - 92 ، وكما قال تعالى : "يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض ولا تيمموا الخبيث منه تنفقون ولستم بآخذيه إلا أن تغمضوا فيه "البقرة - 267.
وإيماء إلى أن الإنفاق ينبغى أن لا يكون على نحو الشر كالإنفاق بالمن والأذى كما قال تعالى : "ثم لا يتبعون ما أنفقوا منا ولا أذى "البقرة - 262 ، وقوله تعالى : "ويسئلونك ماذا ينفقون قل العفو "البقرة - 219. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 165}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ...}.
السؤال ( يتعدى ) للمحسوسات بنفسه ، ويكون معموله مفردا مثل : سألته طهورا ، أي طلبت منه الماء ، وللمُعاين كذلك ، ويكون جملة مثل : سألته ماء هو الطهور.
الزمخشري : سألوا عن تعيين المنفق فأجيبوا بتعيين المصرف لاّنه يستلزم المنفق.(5/304)
قال ابن عرفة : جعل السؤال ( هنا ) عن حال الشيء ويظهر لي وجه آخر وهو أن السؤال بماذا عن حقيقة الشيء وهي قسمان : عقلية وشرعية.
فالعقلية لا يختلف جوابها بوجه ولا يمكن فيه التحريف ، وأما الشرعية فهي أمور جعلية يصح تحريف الشّارع لها عن شيء آخر ، فالمراد : يسألونك عن حقيقة الشيء المنفق المحصل للثواب في الدار الآخرة ما هو ؟ فأجيبوا بأنه الشيء المنفق على الوالدين والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل وفعل الخير بالإطلاق.
قوله تعالى : {قُلْ مَآ أَنفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل...}.
( مَا ) إما شرطية أو موصولة.
قال ابن عرفة : الظاهر أنها شرطية ، لأن فعل الشرط مستقبل ولو كانت موصولة لما حسن ترتيب الجواب عليها ، لأنهم لم يكن إنفاقهم الماضي قاصرا على الوالدين والأقربين ومن بعدهم ، بل عاما فيهم وفي غيرهم ، فإنَّما أمروا بذلك في المستقبل.
قيل لابن عرفة : قد قال ابن مالك : إنّ الفعل بعد الموصول يحتمل الحال والاستقبال.
قوله تعالى : {وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ}.
علله بالعلم والمراد لازمه وهو حصول الثواب الجليل عليه.
فإن قلت : الآية تدل على أن الأب مساوٍ للأم في البر لتسويتهما في النفقة عليهما ؟
قلنا : الآية إنّما تضمنت مطلق الإنفاق عليهما من غير تعرض لما بينهما من التفاوت ، بدليل تضمنهما أيضا النفقة على الأقربين بالإطلاق ، مع أنّهم متفاوتون لأن القرابة مقولة بالتشكيك ، فالنفقة على أقرب الأقربين تكون أكثر ( من النفقة ) على من هو أبعد منه. وابن السبيل هو المسافر إذا قدم على بلد هو فيها فقير ويكون في بلده غنيا ، فإن كان فقيرا في بلده فهو مسكين. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 275}
قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)}
مناسبة الآية لما قبلها(5/305)
قال البقاعى :
ولما أخبروا بما سألوا عنه من إحدى الخصلتين المضمنتين لآية الزلزال كان ذلك موضع السؤال عن الأخرى فأجيبوا على طريق الاستئناف بقوله : {كتب}. وقال الحرالي : لما التف حكم الحج بالحرب تداخلت آيات اشتراكهما وكما تقدم تأسيس فرض الحج في آية {فمن فرض فيهن الحج} {البقرة : 197 ] انتظم به كتب القتال ، والفرض من الشيء ما ينزل بمنزلة الجزء منه ، والكتب ما خُرز بالشيء فصار كالوصلة فيه ، كما جعل الصوم لأن في الصوم جهاد النفس كما أن في القتال جهاد العدو ، فجرى ما شأنه المدافعة بمعنى الكتب وما شأنه العمل والإقبال بمعنى الفرض ، وهما معنيان مقصودان في الكتاب والسنة تحق العناية بتفهمهما لينزل كل من القلب في محله ويختص النية في كل واحد على وجهه وقد كان من أول منزلة آي القتال {أذن للذين يقاتلون} {الحج : 39 ] فكان الأول إذناً لمن شأنه المدافعة عن الدين بداعية من نفسه من نحو ما كانت الصلاة قبل الفرض واقعة من الأولين بداعية من حبهم لربهم ورغبتهم إليه في الخلوة به والأنس بمناجاته فالذين كانت صلاتهم حباً كان الخطاب لهم بالقتال إذناً لتلفتهم إليه في بذل أنفسهم لله الذين كان ذلك حباً لهم يطلبون الوفاء به حباً للقاء ربهم بالموت كما أحبوا لقاء ربهم بالصلاة "حين عقلوا "وأيقنوا أنه لا راحة لمؤمن إلا في لقاء ربه ، فكان من عملهم لقاء ربهم بالصلاة في السلم ، وطلب لقائه بالشهادة "في الحرب " ، فلما اتسع أمر الدين ودخلت الأعراب والأتباع الذين لا يحملهم صدق المحبة للقاء الله على البدار للجهاد نزل كتبه كما نزل فرض الصلاة استدراكاً فقال : {كتب عليكم القتال} أي أيتها الأمة! وكان في المعنى راجعاً لهذا الصنف الذين يسألون عن النفقة ، وبمعنى ذلك انتظمت الآية بما قبلها فكأنهم يتبلدون في الإنفاق تبلداً إسرائيلياً ويتقاعدون عن الجهاد تقاعد أهل التيه منهم الذين قالوا : {اذهب أنت وربك فقاتلا} {المائدة : 24 ](5/306)
انتهى. {وهو كره} وهو ما يخالف غرض النفس وهواها ، ولعله لكونه لما كان خيراً عبر باللام في {لكم} وهذا باعتبار الأغلب وهو كما قال الحرالي عند المحبين للقاء الله من أحلى ما تناله أنفسهم حتى كان ينازع الرجل منهم في أن يقف فيقسم على الذي يمسكه أن يدعه والشهادة ، قال بعض التابعين : لقد أدركنا قوماً كان الموت لهم أشهى من الحياة عندكم اليوم وإنما كان ذلك لما خربوه من دنياهم وعمروه من أخراهم فكانوا يحبون النقلة من الخراب إلى العمارة - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 400 ـ 401}
وقال ابن عاشور :
المناسبة أن القتال من البأساء التي في قوله : {ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم مستهم البأساء والضراء} {البقرة : 214 ] فقد كلفت به الأمم قبلنا ، فقد كلفت بنو إسرائيل بقتال الكنعانيين مع موسى عليه السلام ، وكلفوا بالقتال مع طالوت وهو شاول مع داود ، وكلف ذو القرنين بتعذيب الظالمين من القوم الذين كانوا في جهة المغرب من الأرض.
ولفظ {كتب عليكم} من صيغ الوجوب وقد تقدم في آية الوصية. وآل في ( القتال ) للجنس ، ولا يكون القتال إلا للأعداء فهو عام عموماً عرفياً أي كتب عليكم قتال عدو الدين.
والخطاب للمسلمين ، وأعداؤهم يومئذ المشركون ، لأنهم خالفوهم في الدين وآذوا الرسول والمؤمنين ، فالقتال المأمور به هو الجهاد لإعلاء كلمة الله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 319}
لطيفة
ولم يظهر فاعل كتب لكون الجملة مذيلة بقوله : "وهو كره لكم "وهو لا يناسب إظهار الفاعل صونا لمقامه عن الهتك ، وحفظا لاسمه عن الاستخفاف أن يقع الكتابة المنسوبة إليه صريحا موردا لكراهة المؤمنين. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 165}(5/307)
قال ابن كثير :
قوله تعالى {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ}
هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين : أن يكُفُّوا شرّ الأعداء عن حَوْزة الإسلام.
وقال الزهري : الجهادُ واجب على كلّ أحد ، غزا أو قعد ؛ فالقاعد عليه إذَا استعين أن يَعينَ ، وإذا استُغيثَ أن يُغيثَ ، وإذا استُنْفرَ أن ينفر ، وإن لم يُحتَجْ إليه قعد.
قلت : ولهذا ثَبَت في الصحيح "من مات ولم يغز ، ولم يحدث نفسه بغزو مات ميتة جاهلية" {صحيح مسلم برقم (1910) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه}.
وقال عليه السلام يوم الفتح : "لا هجرة ، ولكن جهاد ونيَّة ، إذا استنفرتم فانفروا" {رواه البخاري في صحيحه برقم (1834 ، 2783 ، 2825) ومسلم في صحيحه برقم (1353) من حديث ابن عباس رضي الله عنهما}. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 573}(5/308)
فصل
قال الفخر :
اعلم أنه عليه الصلاة والسلام كان غير مأذون في القتال مدة إقامته بمكة فلما هاجر أذن له في قتال من يقاتله من المشركين ، ثم أذن له في قتال المشركين عامة ، ثم فرض الله الجهاد واختلف العلماء في هذه الآية فقال قوم : إنها تقتضي وجوب القتال على الكل وعن مكحول أنه كان يحلف عند البيت بالله أن الغزو واجب ونقل عن ابن عمر وعطاء : أن هذه الآية تقتضي وجوب القتال على أصحاب الرسول عليه الصلاة والسلام في ذلك الوقت فقط حجة الأولين أن قوله : {كُتِبَ} يقتضي الوجوب وقوله : {عَلَيْكُمْ} يقتضيه أيضاً ، والخطاب بالكاف في قوله : {عَلَيْكُمْ} لا يمنع من الوجوب على الموجودين وعلى من سيوجد بعد ذلك كما في قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص} {البقرة : 178 ] ، {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} {البقرة : 183 ].
فإن قيل : ظاهر الآية هل يقتضي أن يكون واجباً على الأعيان أو على الكفاية.(5/309)
قلنا : بل يقتضي أن يكون واجباً على الأعيان لأن قوله : {عَلَيْكُمْ} أي على كل واحد من آحادكم كما في قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} حجة عطاء أن قوله : {كُتِبَ} يقتضي الإيجاب ، ويكفي في العمل به مرة واحدة وقوله : {عَلَيْكُمْ} يقتضي تخصيص هذا الخطاب بالموجودين في ذلك الوقت إلا أنا قلنا : إن قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص ، كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} حال الموجودين فيه كحال من سيوجد بعد ذلك ، بدلالة منفصلة وهي الإجماع ، وتلك الدلالة مفقودة ههنا فوجب أن يبقى على الوضع الأصلي ، قالوا : ومما يدل على صحة هذا القول قوله تعالى : {وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى} {النساء : 95 ] ولو كان القاعد مضيعاً فرضاً لما كان موعوداً بالحسنى ، اللهم إلا أن يقال : الفرض كان ثابتاً ثم نسخ ، إلا أن التزام القوم بالنسخ من غير أن يدل عليه دليل غير جائز ، ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : {وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَافَّةً} {التوبة : 122 ] والقول بالنسخ غير جائز على ما بيناه ، والإجماع اليوم منعقد على أنه من فروض الكفايات ، إلا أن يدخل المشركون ديار المسلمين فإنه يتعين الجهاد حينئذ على الكل والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 22 ـ 23}
قال الخازن :
اختلف علماء الناسخ والمنسوخ في هذه الآية على ثلاثة أقوال : أحدها أنها محكمة ناسخة للعفو عن المشركين. القول الثاني : إنها منسوخة لأن فيها وجوب الجهاد على الكافة ثم نسخ بقوله تعالى : {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} القول الثالث : إنها ناسخة من وجه ومنسوخة من وجه فالناسخ منها إيجاب الجهاد مع المشركين بعد المنع منه ، والمنسوخ إيجاب الجهاد على الكافة. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 140}
قال ابن عاشور : (5/310)
هذه الآية نزلت في واقعة سرية عبد الله بن جَحش كما يأتي ، وذلك في الشهر السابع عشر من الهجرة ، فالآية وردت في هذه السورة مع جملة التشريعات والنظم التي حوتها كقوله : {كتب عليكم الصيام} {البقرة : 183 ] ، {كتب عليكم القصاص} {البقرة : 178 ] ، {كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت} {البقرة : 180 ]. فعلى المختار يكونُ قوله : {كتب عليكم القتال} خبراً عن حكم سبق لزيادة تقريره ولينتقل منه إلى قوله {وهو كره لكم} الآية ، أو إعادة لإنشاء وجوب القتال زيادة في تأكيده ، أو إنشاءً أُنُفاً لوجوب القتال إن كانت هذه أول آية نزلت في هذا المعنى بناء على أن قوله تعالى : {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} إذْن في القتال وإعداد له وليست بموجبة له. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 319}
إشكال وجوابه
قال الفخر :
قوله : {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} فيه إشكال وهو أن الظاهر من قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} أن هذا الخطاب مع المؤمنين ، والعقل يدل عليه أيضاً لأن الكافر لا يؤمر بقتال الكافر ، وإذا كان كذلك فكيف قال : {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} فإن هذا يشعر بكون المؤمن كارهاً لحكم الله وتكليفه وذلك غير جائز ، لأن المؤمن لا يكون ساخطاً لأوامر الله تعالى وتكاليفه ، بل يرضى بذلك ويحبه ويتمسك به ويعلم أنه صلاحه وفي تركه فساده.
والجواب من وجهين :
الأول : أن المراد من الكره ، كونه شاقاً على النفس ، والمكلف وإن علم أن ما أمره الله به فهو صلاحه ، لكن لا يخرج بذلك عن كونه ثقيلاً شاقاً على النفس ، لأن التكليف عبارة عن إلزام ما في فعله كلفة ومشقة ، ومن المعلوم أن أعظم ما يميل إليه الطبع الحياة ، فلذلك أشق الأشياء على النفس القتال.(5/311)
الثاني : أن يكون المراد كراهتهم للقتال قبل أن يفرض لما فيه من الخوف ، ولكثرة الأعداء فبين الله تعالى أن الذي تكرهونه من القتال خير لكم من تركه لئلا تكرهونه بعد أن فرض عليكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 24}
وقال عِكرمة في هذه الآية : إنهم كَرِهوه ثم أحبّوه وقالوا : سمعنا وأطعنا ؛ وهذا لأن امتثال الأمر يتضمن مشقة ، لكن إذا عُرف الثواب هان في جنبه مُقاساة المشقات. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 38 ـ 39}
قال القرطبى :
ومثاله في الدنيا إزالة ما يؤلم الإنسان ويخاف منه كقطع عضو وقلع ضرس وفصدٍ وحِجامةٍ ابتغاء العافية ودوام الصحة ، ولا نعيم أفضل من الحياة الدائمة في دار الخلد والكرامة في مقعد صدقٍ. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 38}
فصل فى معنى الكره
قال ابن عاشور :
والكره بضم الكاف : الكراهية ونفرة الطبع من الشيء ومثله الكَره بالفتح على الأصح ، وقيل : الكُره بالضم المشقة ونفرة الطبع ، وبالفتح هو الإكراه وما يأتي على الإنسان من جهة غيره من الجبر على فعل مَّا بأذى أو مشقة ، وحيث قُرىء بالوجهين هنا وفي قوله تعالى : {حملته أمه كرها ووضعته كرها} {الأحقاف : 15 ] ولم يكن هنا ولا هنا لك معنى للإكراه تعين أن يكون بمعنى الكراهية وإباية الطبع كما قال الحماسي العُقَيلي
: ... بكُره سراتنا يا آل عمرو
نُغاديكم بمُرْهَفَة النِّصَال...
رووه بضم الكاف وبفتحها.
على أن قوله تعالى بعد ذلك {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} الوارد مورد التذييل : دليل على أن ما قبله مصدر بمعنى الكراهية ليكون جزئياً من جزئيات أن تكرهوا شيئاً.
وقد تحمل صاحب "الكشاف" لحمل المفتوح في هذه الآية والآية الأخرى على المجاز ، وقرره الطيبي والتفتازاني بما فيه تكلف ، وإذ هو مصدر فالإخبار به مبالغة في تمكن الوصف من المخبر عنه كقول الخنساء
: ... فإنما هي إقْبَالٌ وإدْبَار
أي تُقبل وتُدبر.(5/312)
وقيل : الكُره اسم للشيء المكروه كالخبز. فالقتال كريه للنفوس ، لأنه يحول بين المقاتل وبين طمأنينته ولذَّاته ونومه وطعامه وأهله وبيته ، ويلجىءُ الإنسان إلى عداوة من كان صاحبه ويعرضه لخطر الهلاك أو ألم الجراح ، ولكن فيه دفع المذلَّة الحاصلة من غلبة الرجال واستضعافهم ، وفي الحديث "لا تَمَنَّوْا لِقَاء العدوّ فإذا لقيتم فاصبروا "وهو إشارة إلى أن القتال من الضرورات التي لا يحبها الناس إلا إذا كان تركها يفضي إلى ضر عظيم قال العُقَيلي
: ... ونَبِكي حينَ نَقتُلكم عليكم
ونَقتلكم كأنَّا لا نُبالي... ومعلوم أن كراهية الطبع الفعلَ لا تنافي تلقي التكليف به برضا لأن أكثر التكليف لا يخلو عن مشقة.
(5/313)
ثم إن كانت الآية خبراً عن تشريع مضى ، يحتمل أن تكون جملة {وهو كره} حكاية لحالة مضت وتلك في أيام قلة المسلمين فكان إيجاب القتال ثقيلاً عليهم ، وقد كان من أحكامه أن يثبت الواحد منهم لعشرة من المشركين أعدائهم ، وذلك من موجبات كراهيتهم القتال ، وعليه فليس يلزم أن تكون تلك الكراهية باقية إلى وقت نزول هذه الآية ، فيحتمل أن يكون نزلت في شأن صلح الحديبية وقد كانوا كَرِهوا الصلح واستحبوا القتال ، لأنهم يومئذ جيش كثير فيكون تذكيراً لهم بأن الله أعلم بمصالحهم ، فقد أوجب عليهم القتال حين كانوا يكرهونه وأوجب عليهم الصلح في وقت أحبوا فيه القتال ، فحذف ذلك لقرينة المقام ، والمقصود الإفضاء إلى قوله : {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} لتطمئن أنفسهم بأن الصلح الذي كرهوه هو خير لهم ، كما تقدم في حوار عمر مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومع أبي بكر ، ويكون في الآية احتباك ، إذ الكلام على القتال ، فتقدير السياق كتب عليكم القتال وهو كره لكم ومنعتم منه وهو حِبٌّ لكم ، وعسى أن تكرهوا القتال وهو خير لكم وعسى أن تحبوه وهو شر لكم ، وإن كانت الآية إنشاء تشريع فالكراهية موجودة حين نزول الآية فلا تكون واردة في شأن صلح الحديبية ، وأول الوجهين أظهرهما عندي ليناسب قوله عقبه : {يسألونك عن الشهر الحرام قتال فيه} {البقرة : 217 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 320 ـ 321}
قوله تعالى : {وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}
قال البقاعى : (5/314)
ولما كان هذا مكروهاً لما فيه على المال من المؤونة وعلى النفس من المشقة وعلى الروح من الخطر من حيث الطبع شهياً لما فيه من الوعد بإحدى الحسنيين من حيث الشرع أشار إلى ذلك بجملة حالية فقال : {وعسى أن} وسيأتي إن شاء الله تعالى في سورة براءة من شرح معاني {عسى} ما يوضح أن المعنى : وحالكم جدير وخليق لتغطية علم العواقب عنكم بأن {تكرهوا شيئاً} أي كالغزو فتعرضوا عنه لظنكم أنه شر لكم {وهو} أي والحال أنه {خير لكم} لما فيه من الظفر والغنيمة أو الشهادة والجنة فإنكم لا تعلمون والذي كلفكم ذلك عالم بكل شيء غير محتاج إلى شيء وما كلفكم ذلك إلا لنفعكم. قال الحرالي : فشهد - لهم لما لم يشهدوا مشهد الموقنين الذين يشاهدون غيب الإيمان كما يشهدون عن الحس ، كما قال ثعلبة : "كأني أنظر إلى أهل الجنة في الجنة ينعمون وأنظر إلى أهل النار في النار يعذبون "ولم يبرم لهم الشهادة ولكن ناطها بكلمة {عسى} لما علمه من ضعف قبول من خاطبه بذلك ، وفي إعلامه إلزام بتنزل العلي الأدنى رتبة لما أظهر هذا الخطاب من تنزل الحق في مخاطبة الخلق إلى حد مجاوزة المترفق في الخطاب - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 401 ـ 402}
قال ابن عاشور :
وقوله : {وعسى أن تكرهوا شيئاً وهو خير لكم} تذييل احتيج إليه لدفع الاستغراب الناشيء عن قوله : {كتب عليكم القتال وهو كُره لكم} ، لأنه إذا كان مكروهاً فكان شأن رحمة الله بخلقه ألا يكتبه عليهم فذيل بهذا لدفع ذلك.(5/315)
وجملة {وعسى} معطوفة على جملة {كتب عليكم القتال} ، وجملة {وهو خير لكم} : حالية من {شيئاً} على الصحيح من مجيء الحال من النكرة ، وهذا الكلام تلطف من الله تعالى لرسوله والمؤمنين ، وإن كان سبحانه غنياً عن البيان والتعليل ، لأنه يأمر فيُطاع ، ولكن في بيان الحكمة تخفيفاً من مشقة التكليف ، وفيه تعويد المسلمين بتلقي الشريعة معللة مذللة فأشار إلى أن حكمة التكليف تعتمد المصالح ودرء المفاسد ، ولا تعتمد ملاءمة الطبع ومنافرته ، إذ يكره الطبع شيئاً وفيه نفعه وقد يحب شيئاً وفيه هلاكه ، وذلك باعتبار العواقب والغايات ، فإن الشيء قد يكون لذيذاً ملائماً ولكن ارتكابه يفضي إلى الهلاك ، وقد يكون كريهاً منافراً وفي ارتكابه صلاح. وشأن جمهور الناس الغفلة عن العاقبة والغاية أو جهلهما ، فكانت الشرائع وحملتها من العلماء والحكماء تحرض الناس على الأفعال والتروك باعتبار العواقب والغايات. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 321}(5/316)
فصل فى معنى الآية
قال الفخر :
معنى الآية أنه ربما كان الشيء شاقاً عليكم في الحال ، وهو سبب للمنافع الجليلة في المستقبل وبالضد ، ولأجله حسن شرب الدوا المرء في الحال لتوقع حصول الصحة في المستقبل ، وحسن تحمل الأخطار في الأسفار لتوقع حصول الربح في المستقبل ، وحسن تحمل المشاق في طلب العلم للفوز بالسعادة العظيمة في الدنيا وفي العقبى ، وههنا كذلك وذلك لأن ترك الجهاد وإن كان يفيد في الحال صون النفس عن خطر القتل ، وصون المال عن الإنفاق ، ولكن فيه أنواع من المضار منها : أن العدو إذا علم ميلكم إلى الدعة والسكون قصة بلادكم وحاول قتلكم فأما أن يأخذكم ويستبيح دماءكم وأموالكم ، وإما أن تحتاجوا إلى قتالهم من غير إعداد آلة وسلاح ، وهذا يكون كترك مداواة المرض في أول ظهوره بسبب نفرة النفس عن تحمل مرارة الدواء ، ثم في آخر الأمر يصير المرء مضطراً إلى تحمل أضعاف تلك النفرة والمشقة ، والحاصل أن القتال سبب لحصول الأمن ، وذلك خير من الانتفاع بسلامة الوقت ، ومنها وجدان الغنيمة ، ومنها السرور العظيم بالاستيلاء على الأعداء.
أما ما يتعلق بالدين فكثيرة ، منها ما يحصل للمجاهد من الثواب العظيم إذا فعل الجهاد تقرباً وعبادة وسلك طريقة الاستقامة فلم يفسد ما فعله ، ومنها أنه يخشى عدوكم أن يستغنمكم فلا تصبرون على المحنة فترتدون عن الدين ، ومنها أن عدوكم إذا رأى جدكم في دينكم وبذلكم أنفسكم وأموالكم في طلبه مال بسبب ذلك إلى دينكم فإذا أسلم على يدكم صرتم بسبب ذلك مستحقين للأجر العظيم عند الله ، ومنها أن من أقدم على القتال طلباً لمرضاة الله تعالى كان قد تحمل ألم القتل بسبب طلب رضوان الله ، وما لم يصر الرجل متيقناً بفضل الله وبرحمته وأنه لا يضيع أجر المحسنين ، وبأن لذات الدنيا أمور باطلة لا يرضى بالقتل ومتى كان كذلك فارق الإنسان الدنيا على حب الله وبغض الدنيا ، وذلك من أعظم سعادات الإنسان.(5/317)
فثبت بما ذكرنا أن الطبع ولو كان يكره القتال من أعداء الله فهو خير كثير وبالضد ، ومعلوم أن الأمرين متى تعارضا فالأكثر منفعة هو الراجح وهذا هو المراد من قوله : {وَعَسَى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَعَسَى أَن تُحِبُّواْ شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 24 ـ 25}
قوله تعالى : {وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ}
قال البقاعى :
ولما رغبهم سبحانه وتعالى في الجهاد بما رجالهم فيه من الخير رهبهم من القعود عنه بما يخشى فيه من الشر. قال الحرالي : فأشعر أن المتقاعد له في تقاعده آفات وشر في الدنيا والآخرة ليس أن لا ينال خير الجهاد فقط بل وينال شر التقاعد والتخلف - انتهى. فقال تعالى : {وعسى أن تحبوا شيئاً} أي كالقعود فتقبلوا عليه لظنكم أنه خير لكم {وهو} أي والحال أنه {شر لكم} لما فيه من الذل والفقر وحرمان الغنيمة والأجر وليس أحد منكم إلا قد جرب مثل ذلك مراراً في أمور دنياه ، فإذا صح ذلك في فرد صار كل شيء كذلك في إمكان خيريته وشريته فوجب ترك الهوى والرجوع إلى العالم المنزه عن الغرض ولذلك قال عاطفاً على ما تقديره : فالله قد حجب عنكم سر التقدير {والله} أي الذي له الإحاطة الكاملة {يعلم} أي له علم كل شيء وقد أخبركم في صدر هذا الأمر أنه رؤوف بالعباد فهو لا يأمركم إلا بخير.
وقال الحرالي : شهادة بحق العلم يرجع إليها عند الأغبياء في تنزل الخطاب - انتهى.
والآية من الاحتباك ذكر الخير أولاً دال على حذفه ثانياً وذكر الشر ثانياً دال على حذفه مثله أولاً.(5/318)
ولما أثبت سبحانه وتعالى شأنه العلم لنفسه نفاه عنهم فقال : {وأنتم لا تعلمون ] أي ليس لكم من أنفسكم علم وإنما عرض لكم ذلك من قبل ما علمكم فثقوا به وبادروا إلى كل ما يأمركم به وإن شق. وقال الحرالي : فنفى العلم عنهم لكلمة "لا "أي التي هي للاستقبال حتى تفيد دوام الاستصحاب {وما أوتيتم من العلم إلا قليلاً} {الإسراء : 85 ] قال من حيث رتبة هذا الصنف من الناس من الأعراب وغيرهم ، وأما المؤمنون أي الراسخون فقد علمهم الله من علمه ما علموا أن القتال خير لهم وأن التخلف شر لهم - انتهى. حتى أن علمهم ذلك أفاض على ألسنتهم ما يفيض الدموع وينير القلوب ، "حتى شاورهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في التوجه إلى غزوة بدر "فقام أبو بكر رضي الله تعالى عنه فقال وأحسن ، ثم قام عمر رضي الله تعالى عنه فقال وأحسن ، ثم قام المقداد رضي الله تعالى عنه فقال : يا رسول الله! امض لما أراك الله فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : {فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون} {المائدة : 24 ] ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق! لو سرت إلى برك الغماد لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ؛ فقال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خيراً ودعا له ، ثم قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "أشيروا عليّ أيها الناس! فقال سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله تعالى عنه : والله لكأنك تريدنا يا رسول الله ؟ قال : أجل ، قال : فقد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أردت فنحن معك. فوالذي بعثك بالحق! لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك! ما تخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً! إنا لصبر في الحرب صدق في اللقاء ، لعل الله يريك منا ما تقرّ به عينك ، فسر بنا على بركة الله تعالى ". أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 402 ـ 403}(5/319)
فصل
{ عَسَى} توهم الشك مثل {لَعَلَّ} وهي من الله تعالى يقين ، ومنهم من قال إنها كلمة مطمعة ، فهي لا تدل على حصول الشك للقائل إلا أنها تدل على حصول الشك للمستمع وعلى هذا التقدير لا يحتاج إلى التأويل ، أما إن قلنا بأنها بمعنى {لَعَلَّ} فالتأويل فيه هو الوجوه المذكورة في قوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} {البقرة : 183 ] قال الخليل : {عَسَى} من الله واجب في القرآن قال : {فَعَسَى الله أَن يَأْتِىَ بالفتح} {المائدة : 52 ] وقد وجد {وَعَسَى الله أَن يَأْتِيَنِى بِهِمْ جَمِيعًا} {يوسف : 83 ] وقد حصل والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 25}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً} قيل : "عسى" بمعنى قد ، قاله الأصم. وقيل : هي واجبة. و"عسى" من الله واجبة في جميع القرآن إلا قوله تعالى : {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ} {التحريم : 5 ]. وقال أبو عبيدة : "عسى" من الله إيجاب ، والمعنى عسى أن تكرهوا ما في الجهاد من المشقَّة وهو خير لكم في أنكم تَغلبون وتَظفرون وتَغنَمون وتُؤجَرون ، ومن مات مات شهيداً ، وعسى أن تحبّوا الدّعة وترك القتال وهو شرٌّ لكم في أنكم تُغلبون وتُذلُّون ويذهب أمركم.
قلت : وهذا صحيح لا غبار عليه ؛ كما اتفق في بلاد الأندلس ، تركوا الجهاد وجبنوا عن القتال وأكثروا من الفرار ؛ فاستولى العدوّ على البلاد ، وأيّ بلاد ؟! وأَسَر وقتَل وسبَى واسترق ، فإنا لله وإنا إليه راجعون! ذلك بما قدّمت أيدينا وكسبته! وقال الحسن في معنى الآية : لا تكرهوا المَلَمَّات الواقعة ؛ فَلرُبّ أمرٍ تكرهه فيه نجاتك ، ولَرُبّ أمر تحبّه فيه عَطَبك ، وأنشد أبو سعيد الضَّرير :
رُبَّ أمرٍ تتّقِيهِ... جرّ أمراً تَرتَضِيهِ
خَفِيَ المحبوبُ منه... وبَدَا المكروهُ فيهِ.
أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 39}
وقال الآلوسى :
( وعسى ) الأولى : للإشفاق والثانية : للترجي على ما ذهب إليه البعض ، وإنما ذكر عسى الدالة على عدم القطع لأن النفس إذا ارتاضت وصفت انعكس عليها الأمر الحاصل لها قبل ذلك فيكون محبوبها مكروهاً ومكروهها محبوبهاً فلما كانت قابلة بالارتياض لمثل هذا الانعكاس لم يقطع بأنها تكره ما هو خير لها وتحب ما هو شر لها فلا حاجة إلى أن يقال إنها هنا مستعملة في التحقيق كما في سائر القرآن ما عدا قوله تعالى : {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ} {التحريم : 5 ]. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 107}(5/320)
سؤال : لم تكررت {عسى} في الآية ؟
الجواب : وتكرار عسى في الآية لكون المؤمنين كارهين للحرب ، محبين للسلم ، فأرشدهم الله سبحانه على خطأهم في الأمرين جميعا ، بيان ذلك : أنه لو قيل : عسى أن تكرهوا شيئا وهو خير لكم أو تحبوا شيئا وهو شر لكم ، كان معناه أنه لا عبرة بكرهكم وحبكم فإنهما ربما يخطئان الواقع ، ومثل هذا الكلام إنما يلقى إلى من أخطأ خطأ واحدا كمن يكره لقاء زيد فقط ، وأما من أخطأ خطائين كان يكره المعاشرة والمخالطة ويحب الاعتزال ، فالذي تقتضيه البلاغة أن يشار إلى خطأه في الأمرين جميعا ، فيقال له : لا في كرهك أصبت ، ولا في حبك اهتديت ، عسى أن تكره شيئا وهو خير لك وعسى أن تحب شيئا وهو شر لك لأنك جاهل لا تقدر أن تهتدي بنفسك إلى حقيقة الأمر ، ولما كان المؤمنون مع كرههم للقتال محبين للسلم كما يشعر به أيضا قوله تعالى سابقا : أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثل الذين خلوا من قبلكم ، نبههم الله بالخطأين بالجملتين المستقلتين وهما : عسى أن تكرهوا ، وعسى أن تحبوا. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 166}(5/321)
لطائف
قال الحسن : لا تكره الملمات الواقعة والبلايا الحادثة فلربَّ أمر تكرهه فيه نجاتك ،
ولربّ أمر ترجوه فيه عطبك ،
وأنشد أبو سعيد الضرير :
ربَّ أمر تتقيه جرَّ أمراً ترتضيه
خفي المحبوب منه وبدا المكروه فيه
وأنشد محمد بن عرفة لعبد الله بن المعتز :
لا تكره المكروه عند نزوله
إن الحوادث لم تزل متباينه
كم نعمة لا تستقل بشكرها
لله في درج الحوادث كامنه
عبد الرحمن بن أبي حاتم عن أبيه قال : بعث المتوكل إلى محمد بن الليث رسولاً وقد كان بقي مدة في منزله فلمّا أتاه الرسول (امتثل) فركب بلا روح خوفاً فمرّ به رجل وهو يقول :
كم مرّة حفّت بك المكاره
خارَ لك الله وأنت كاره
فلمّا دخل على المتوكل ولاّه مصر وأمر له بمائة ألف وجميع ما يحتاج إليه من الآلات والدواب والغلمان.
قال الثعلبي : أنشدني الحسن بن محمد قال : أنشدني أبو سعيد أحمد بن محمد بن رميح قال : أنشدني محمد بن الفرحان :
كم فرحة مطوية لك بين أثناء النوائب
ومضرّة قد أقبلت من حيث تنتظر المصائب
قال : وأنشدنا أبو القاسم الحبيبي قال : أنشدنا أبو عبد الله الوضاحي :
ربّما خُيّر الفتى وهو للخير كاره
ثم يأتي السرور من حيث تأتي المكاره. أ هـ {الكشف والبيان حـ 2 صـ 138}(5/322)
قوله تعالى : {والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ }
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فالمقصود منه الترغيب العظيم في الجهاد وذلك لأن الإنسان إذا اعتقد قصور علم نفسه ، وكمال علم الله تعالى ، ثم علم أنه سبحانه لا يأمر العبد إلا بما فيه خيرته ومصلحته ، علم قطعاً أن الذي أمره الله تعالى به وجب عليه امتثاله ، سواء كان مكروهاً للطبع أو لم يكن فكأنه تعالى قال : يا أيها العبد اعلم أن علمي أكمل من علمك فكن مشتغلاً بطاعتي ولا تلتفت إلى مقتضى طبعك فهذه الآية في هذا المقام تجري مجرى قوله تعالى في جواب الملائكة {إِنّي أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ }.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 25}
سؤال : فإن قلت : ما الحكمة في جعل أشياء كثيرةٍ نافعةٍ مكروهةً ، وأشياء كثيرةٍ ضارةٍ محبوبةً ، وهلا جعل الله تعالى النَّافعَ كلَّه محبوباً والضار كلَّه مكروهاً فتنساقَ النفوسُ للنافع باختيارها وتجتنب الضار كذلك فنُكفى كلفة مسألة الصلاح والأصلح التي تناظر فيها الأشعري مع شيخه الجبائي وفارق الأشعري من أجلها نحلة الاعتزال ؟ .(5/323)
قلت : إن حكمة الله تعالى بنت نظام العالم على وجود النافع والضار والطيب والخبيث من الذوات والصفات والأحداث ، وأوكل للإنسان سلطة هذا العالم بحكم خِلْقِه الإنسانَ صالحاً للأمرين وأَراه طريقي الخير والشر كما قدمناه عند قوله تعالى : {كان الناس أمة واحدة} {البقرة : 213 ] ، وقد اقتضت الحكمة أن يكون النافع أكثر من الضار ولعل وجود الأشياء الضارة كَوَّنه الله لتكون آلة لحمل ناس على اتباع النافع كما قال تعالى : {فيه بأس شديد ومنافع للناس} {الحديد : 25 ] ، وقد أقام نظام هذا العالم على وجود المتضادات ، وجعل الكمال الإنساني حاصلاً عند حصول جميع الصفات النافعة فيه ، بحيث إذا اختلت بعض الصفات النافعة منه انتقصت بقيةُ الصفات النافعة منه أو اضمحلت ، وجعل الله الكمال أقل من النقص لتظهر مراتِبُ النفوس في هذا العالم ومبالغ العقول البشرية فيه ، فاكتسب الناس وضيعوا وضروا ونفعوا فكثر الضار وقل النافع بما كسَب الناسُ وفعلوا قال تعالى : {قل لا يستوي الخبيث والطيب ولو أعجبك كثرة الخبيث} ( 100 ).
وكما صارت الذوات الكاملة الفاضلة أقل من ضدها صارت صفات الكمال عزيزة المنال ، وأُحيطت عزتها ونفاستها بصعوبة منالها على البشر وبما يحف بها من الخطر والمتاعب ، لأنها لو كانت مما تنساق لها النفوس بسهولة لاستوى فيها الناس فلم تظهر مراتِبُ الكمال ولم يقع التنافس بين الناس في تحصيل الفضائل واقتحام المصاعب لتحصيلها قال أبو الطيب
: ... ولا فضل فيها للشجاعة والندى
وصبرِ الفتى لولا لقاء شَعُوب...
فهذا سبب صعوبة الكمالات على النفوس.
(5/324)
ثم إن الله تعالى جعل نظام الوجود في هذا العالم بتولد الشيء من بين شيئين وهو المعبر عنه بالازدواج ، غير أن هذا التولد يحصل في الذوات بطريقة التولد المعروفة قال تعالى : {ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين} {الرعد : 3 ] وأما حصوله في المعاني ، فإنما يكون بحصول الصفة من بين معنيي صفتين أخريين متضادتين تتعادلان في نفس فينشأ عن تعادلهما صفة ثالثة.
والفضائل جعلت متولدة من النقائص ؛ فالشجاعةُ من التهور والجبننِ ، والكرمُ من السرف والشح ، ولا شك أن الشيء المتولد من شيئين يكون أقل مما تولد منه ، لأنه يكون أقل من الثلث ، إذ ليس كلَّما وجد الصفتان حصل منهما تولد صفة ثالثة ، بل حتى يحصل التعادل والتكافؤ بين تينك الصفتين المتضادتين وذلك عزيز الحصول ولا شك أن هاته الندرة قضت بقلة اعتياد النفوس هاته الصفات ، فكانت صعبة عليها لقلة اعتيادها إياها.
ووراء ذلك فالله حدد للناس نظاماً لاستعمال الأشياء النافعة والضارة فيما خلقت لأجله ، فالتبعة في صورة استعمالها على الإنسان وهذا النظام كله تهيئة لمراتب المخلوقات في العالم الأبدي عالم الخلود وهو الدار الآخرة كما يقال : "الدنيا مزرعة الآخرة" وبهذا تكمل نظرية النقض الذي نقض به الشيخ الأشعري على شيخه الجبائي أصلهم في وجوب الصلاح والأصلح فيكون بحث الأشعري نقضاً وكلامنا هذا سَنَداً وانقلاباً إلى استدلال.
(5/325)
وجملة {والله يعلم وأنتم لا تعلمون} تذييل للجميع ، ومفعولا {يعلم} و{ تعلمون} محذوفان دل عليهما ما قبله أي والله يعلم الخير والشر وأنتم لا تعلمونهما ، لأن الله يعلم الأشياء على ما هي عليه والناس يشتبه عليهم العلم فيظنون الملائم نافعاً والمنافر ضاراً. والمقصود من هذا تعليم المسلمين تلقي أمر الله تعالى باعتقاد أنه الصلاح والخير ، وأن ما لم تتبين لنا صفته من الأفعال المكلف بها نوقن بأن فيه صفة مناسبة لحكم الشرع فيه فتطلبها بقدر الإمكان عسى أن ندركها ، لنفرع عليها ونقيس ويدخل تحت هذا مسائل مسالك العلة ، لأن الله تعالى لا يجري أمره ونهيه إلا على وفق علمه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 322 ـ 323}
فائدة
قال السعدى :
وهذه الآيات عامة مطردة ، في أن أفعال الخير التي تكرهها النفوس لما فيها من المشقة أنها خير بلا شك ، وأن أفعال الشر التي تحب النفوس لما تتوهمه فيها من الراحة واللذة فهي شر بلا شك.
وأما أحوال الدنيا ، فليس الأمر مطردا ، ولكن الغالب على العبد المؤمن ، أنه إذا أحب أمرا من الأمور ، فقيض الله [له] من الأسباب ما يصرفه عنه أنه خير له ، فالأوفق له في ذلك ، أن يشكر الله ، ويجعل الخير في الواقع ، لأنه يعلم أن الله تعالى أرحم بالعبد من نفسه ، وأقدر على مصلحة عبده منه ، وأعلم بمصلحته منه كما قال [تعالى : ] {وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} فاللائق بكم أن تتمشوا مع أقداره ، سواء سرتكم أو ساءتكم. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 96}
لطيفة(5/326)
الجهاد على قسمين : جهاد أصغر وهو جهاد السيف ، وجهاد أكبر وهو جهاد النفس ، فيجاهدها أولاً في القيام بجميع المأمورات ، وترك جميع المنهيات ، ثم يجاهدها ثانياً في ترك العوائد والشهوات ، ومجانبة الرخص والتأويلات ، ثم يجاهدها ثالثاً في ترك التدبير والاختيار ، والسكون تحت مجاري الأقدار ، حتى لا تختار إلا ما اختار الحق تعالى لها ، ولا تشتهي إلا ما يقضي الله عليها ، فإن النفس جاهلة بالعواقب ، فعسى أن تكره شيئاً وهو خير لها ، وعسى أن تحب شيئاً وهو شر لها.
فعسى أن تأتيها المسار من حيث تعتقد المضارّ ، وعسى أن تأتيها المضار من حيث ترجو المسار ، وعسى أن تنفع على أيدي الأعداء ، وعسى أن تضر على أيدي الأحباء ، وعسى أن تكره الموت وهو خير لها ، وعسى أن تحب الحياة وهي شر لها ، فالواجب تسليم الأمور إلى خالقها ، الذي هو عالم بمصالحها ، {والله يعلم وأنتم لا تعلمون }. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 174}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال...}.
قال ابن عرفة : لفظ الكتب دليل على تأكيد وجوب القتال. والكتب إما حكم الله أو في اللوح المحفوظ أو في القرآن. والجهاد هنا ( قيل فرض عين ) وقيل فرض كفاية.
قال ابن عرفة : الظاهر أنه فرض ( عين ) لأنا إذا شككنا في شيء فيحمل على الأكثر. وفرض العين في التكاليف أكثر من فرض الكفاية.
( قيل له : في غير هذا ، وأما هنا فلا ؟ فقال : هذا محل النزاع ، وكان بعضهم يقول : إنه فرض عين في كفاية ) فواجب على ( جميع ) الناس حضور القتال. ويكفي فيه قتال البعض ، والحضور فرض عين ( والقتال فرض ) كفاية كالصلاة في الدار المغصوبة فإنّها فرض في حرام.
قال ابن عرفة : وإذا قلنا : إنّ خطاب المواجهة يعم ولا يخص ، فنقول : الأمر للحاضر والغائب وغلب فيه المخاطب. والأمر للحاضرين ويتناول الغائب ( بالقياس ) عليه من باب ( لا فارق ).
(5/327)
قوله تعالى : {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ...}.
الضمير عائد على القتال إما ( لقربه ) وإما لأنه إنما يعود على ( الكتب ) باعتبار متعلقه لأنهّم لا يكرهون الكتاب لذاته. والكراهة هنا ليست بمعنى البغض بل بمعنى النفور منه وصعوبته على النفس كصعوبة الوضوء في زمن البرد فيكرهه المكلف كذلك لا أنه يبغضه.
قوله تعالى : {وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ...}.
قال أبو حيان : عسى الأول للإشفاق والثانية للرجاء.
قال ابن عرفة : المناسب العكس ، فإن المستقبل في الأولى خير وانتظاره رجاء ، والمستقبل في الثانية شر فانتظاره إشفاق وخوف.
قيل لابن عرفة : إنما المعتبر ما دخلت عليه ( أن ) ؟
فقال : نعم لكن بصفته وقيده ، والأول مقيد بأنه ( يعقبه خير ، والثاني مقيد بأنه يعقبه الشر.
قيل لابن عرفة : المستقبل غير معلوم للإنسان وإنّما يعلم الحاضر فيعسر عليه المستقبل فإن كان الحاضر خيرا ترجّى دوامه وإن كان شرا أشفق وخاف من دوامه.
قال أبو حيان : وكل عسى في القرآن للتحقيق يعنون به الوقوع إلا قوله عز وجل {عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} قال ابن عرفة : بل هي أيضا للتّحقيق لما تقدم من أنّ القضية الشرطية تقتضي صحّة ملزومية الجزاء للشرط ولا تقتضي الثبوت والوقوع ، والقضية الحملية تقتضي الثبوت والوقوع أو بفهم الوقوع في ( الآية ) باعتبار ( المتكلم ) بهذا الشرط والرجاء واقع من الله تعالى.
قوله تعالى : {والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ}.(5/328)
قال ابن عرفة : الآية تدل على أن جميع الأحكام الشرعية تعلل ، وذلك أنهم اختلفوا في التعبدات فذهب جماعة منهم الشيخ الهمام عز الدين ابن عبد السلام إلى أنّها الأحكام ( التي لاتدرك لها علة ، وفي بعض كلام ابن رشد وكلام المتقدمين ما يدل على أنها الأحكام ) التي لا علة لها ، والآية تقتضي أنّ الأحكام كلّها لاتكون إلا لمصلحة لأنّها خرجت مخرج ( التّبيين ) على كمال المبادرة إلى امتثال الأحكام الشرعية فدل على أن المراد والله أعلم ما في ذلك من المصلحة وَأنتُمْ لاَ تَعْلَمونها.
فعليكم أن تأخذوها بالقبول.
وقوله : وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ : قال ابن عرفة : يصح أن يكون في موضع الحال.
قيل له : علمنا حادث لا يُجامع علم الله القديم ؟
فقال : هي حال مقدرة والتحقيق أنّا إن جعلنا الجملة في موضع الحال تكون سالبة تقتضي وجود الموضوع ، وبقي في الآية أنّ الزمخشري قال في {وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} إما مصدر من الكراهة أو أنه بمعنى بمعنى المكروه مثل ( الخبز ) بمعنى ( المخبوز ).
وقرىء : "كَرْهٌ "بالفتح على أنه بمعنى ( المضموم ) كالضعف والضعف.
قال ابن عرفة : وقال القاضي أبو الفضل عياض في تنبيهاته : الوضوء بالضم هو الفعل وبالفتح اسم الماء ، وقيل : بالعكس. قال : فيجيء هنا كذلك.
قيل لابن عرفة : هذا قياس في اللّغة فلا يجوز ؟ فقال : إنما هو ( إجراء ) لا قياس. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 276 ـ 277}
لطيفة
قال ذو النون المصرى رحمه الله إنما دخل الفساد على الخلق من ستة أشياء. الأول ضعف النية بعمل الآخرة. والثانى صارت أبدانهم رهينة لشهواتهم. والثالث غلب عليهم حلول الأمل مع قرب الأجل. والرابع آثروا رضى المخلوقين على رضى الخالق. والخامس اتبعوا أهواءهم ونبذوا سنة نبيهم وراء ظهورهم. والسادس جعلوا قليل زلات السلف حجة أنفسهم ودفنوا كثير مناقبهم.
(5/329)
فعلى العاقل أن يجاهد مع النفس والطبيعة ليرتفع الهوى والشهوات والبدعة ويتمكن فى القلوب حب العمل بالكتاب والسنة. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 411}
كلام نفيس للعلامة ابن القيم فى الآية الكريمة
قال رحمه الله :
قوله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ} البقرة 216, وقوله عزّ وجلّ : { فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً} النساء 19. فالآية الأولى في الجهاد الذي هو كمال القوة الغضبية, والثانية في النكاح الذي هو كمال القوة الشهوانية. فالعبد يكره مواجهة عدوه بقوته الغضبية خشية على نفسه منه, وهذا المكروه خير له في معاشه ومعاده, ويحب الموادعة والمتاركة, وهذا المحبوب شر له في معاشه ومعاده. وكذلك يكره المرأة لوصف من أوصافها وله في إمساكها خير كثير لا يعرفه. ويحب المرأة لوصف من أوصافها وله في إمساكها شر كثير لا يعرفه. فالإنسان كما وصفه به خالقه ظلوم جهول, فلا ينبغي أن يجعل المعيار على ما يضرّه وينفعه ميله وحبه ونفرته وبغضه, بل المعيار على ذلك ما اختاره الله له بأمره ونهيه. فأنفع الأشياء له على الإطلاق طاعة ربه بظاهره وباطنه, وأضر الأشياء عليه على الإطلاق معصيته بظاهره وباطنه, فإذا قام بطاعته وعبوديته مخلصا له فكل ما يجري عليه مما يكره يكون خيرا له, وإذا تخلى عن طاعته وعبوديته فكل ما هو فيه من محبوب هو شر له. فمن صحت له معرفة ربه والفقه في أسمائه وصفاته, علم يقينا أن المكروهات التي تصيبه والمحن التي تنزل به فيها ضروب من المصالح والمنافع التي لا يحصيها علمه ولافكرته, بل مصلحة العبد فيما يكره أعظم منها فيما يحب.(5/330)
فعامة مصالح النفوس في مكروهاتها, كما أن عامة مضارها وأسباب هلكتها في محبوباتها. فانظر إلى غارس جنة من الجنات خبير بالفلاحة غرس جنة وتعاهدها بالسقي والإصلاح حتى أثمرت أشجارها, فأقبل عليها يفصل أوصالها ويقطع أغصانها لعلمه أنها لو خليّت على حالها لم تطب ثمرتها, فيطعمها من شجرة طيبة الثمرة, حتى إذا والتحمت بها واتحدت وأعطت ثمرتها أقبل يقلمها ويقطع أغصانها الضعيفة التي تذهب قوتها, ويذيقها ألم القطع والحديد لمصلحتها وكمالها, لتصلح ثمرتها أن تكون بحضرة الملوك. ثم لا يدعها ودواعي طبعها من الشرب كل وقت, بل يعطشها وقتا ويسقيها وقتا, ولا يترك الماء عليها دائما وإن كان ذلك أنضر لورقها وأسرع لنباتها. ثم يعمد إلى تلك الزينة التي زينت بها من الأوراق فيلقي عنها كثيرا منها, لأن تلك الزينة تحول بين ثمرتها وبين كمال نضجها واستوائها كما في شجر العنب ونحوه. فهو يقطع أعضاءها بالحديد, ويلقي عنها كثيرا من زينتها, وذلك عين مصلحتها. فلو أنها ذات تمييز وإدراك كالحيوان, لتوهمت أن ذلك إفساد لها وإضرار بها, وإنما هو عين مصلحتها.
(5/331)
وكذلك الأب الشفيق على ولده العالم بمصلحته, إذا رأى مصلحته في إخراج الدم الفاسد عنه, بضع جلده وقطع عروقه وأذاقه الألم الشديد. وإن رأى شفاءه في قطع عضو من أعضائه أبانه عنه (أي قطعه), كل ذلك رحمة به وشفقة عليه. وإن رأى مصلحته في أن يمسك عنه العطاء لم يعطه ولم يوسع عليه, لعلمه أن ذلك أكبر الأسباب إلى فساده وهلاكه. وكذلك يمنعه كثيرا من شهواته حمية له ومصلحة لا بخلا عليه. فأحكم الحاكمين وأرحم الراحمين وأعلم العالمين, الذي هو أرحم بعباده منهم بأنفسهم ومن آبائهم وأمهاتهم, إذا أنزل بهم ما يكرهون كان خيرا لهم من أن لا ينزله بهم, نظرا منه لهم وإحسانا إليهم ولطفا بهم, ولو مكنوا من الاختيار لأنفسهم لعجزوا عن القيام بمصالحهم علما وإرادة وعملا, لكنه سبحانه تعالى تولى تدبير أمورهم بموجب علمه وحكمته ورحمته, أحبوا أم كرهوا, فعرف ذلك الموقنون بأسمائه وصفاته فلم يتهموه في شيء من أحكامه, وخفي ذلك على الجهال به وبأسمائه وصفاته, فنازعوه تدبيره, وقدحوا في حكمته, ولم ينقادوا لحكمه, وعارضوا حكمه بعقولهم الفاسدة وآرائهم الباطلة وسياساتهم الجائرة, فلا لربهم عرفوا, ولا لمصالحهم حصلوا, والله الموفق.
ومتى ظفر العبد بهذه المعرفة سكن في الدنيا قبل الآخرة في جنة لا يشبه نعيمها إلا نعيم جنة الآخرة, فإنه لا يزال راضيا عن ربه, والرضا جنة الدنيا ومستراح العارفين, فإنه طيب النفس بما يجري عليها من المقادير التي هي عين اختيار الله له, وطمأنينتها إلى أحكامه الدينية, وهذا هو الرضا بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد رسولا. وما ذاق طعم الإيمان من لم يحصل له ذلك. وهذا الرضا هو بحسب معرفته بعدل الله وحكمته ورحمته وحسن اختياره, فكلما كان بذلك كان به أرضى. فقضاء الرب سبحانه في عبده دائر بين العدل والمصلحة والحكمة والرحمة, لا يخرج عن ذلك ألبتة. أ هـ {الفوائد صـ 91 ـ 93}
وقال فى الجواب الكافى :
(5/332)
والمحبوب لغيره قسمان أيضا : أحدهما ما يلتذ المحب بإدراكه وحصوله والثاني : ما يتألم به ولكن يحتمله لإفضائه إلى المحبوب كشرب الدواء الكريه قال تعالي : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى إن تَكْرَهُوا شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى إن تُحِبُّوا شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ}.
فأخبر سبحانه إن القتال مكروه لهم مع إنهم خير لهم لإفضائه إلى أعظم محبوب وأنفعه والنفوس تحب الراحة والدعة والرفاهية وذلك شر لها لإفضائه إلى فوات هذا المحبوب فالعاقل لا ينظر إلى لذة المحبوب العاجل فيؤثرها وألم المكروه العاجل فيرغب عنه فإن ذلك قد يكون شرا له بل قد يجلب عليه غاية الألم وتفوته أعظم اللذة بل عقلاء الدنيا يتحملون المشاق المكروهة لما يعقبهم من اللذة بعدها وإن كانت منقطعة.
فالأمور أربعة : مكروه يوصل إلى مكروه ومكروه يوصل إلى محبوب ومحبوب يوصل إلى محبوب ومحبوب يوصل إلى مكروه فالمحبوب الموصل إلى المحبوب قد اجتمع فيه داعي الفعل من وجهين والمكروه الموصل إلى مكروه قد اجتمع فيه داعي الترك من وجهين.
بقي القسمان الآخران يتجاوز بهما الداعيان- وهما معترك الابتلاء والامتحان- فالنفس توثر أقربهما جوارا منهما وهو العاجل والعقل والإيمان يؤثرا نفعهما وإبقائها والقلب بين الداعيين وهو إلى هذا مرة إلى هذا مرة وهاهنا محل الابتلاء شرعا وقدرا فداعي العقل والإيمان ينادي كل وقت : حي علي الفلاح عند الصباح يحمد القوم السري وفي الممات يحمد العبد التقى فإن اشتد ظلام ليل المحبة وتحكم سلطان الشهوة والإرادة يقول : يا نفس اصبري فما هي إلاّ ساعة ثم تنقضي ويذهب هذا كله ويزول.
(5/333)
وإذا كان الحب أصل كل عمل من حق وباطل فأصل الأعمال الدينية حب الله ورسوله كما إن أصل الأقوال الدينية تصديق الله ورسوله وكل إرادة تمنع كمال حب الله ورسوله وتزاحم هذه المحبة وشبهه منع كمال التصديق في معارضة لأصل الإيمان أو مضعفة له فإن قويت حتى عارضت أصلي الحب والتصديق كانت كفرا وشركا أكبر وإن لم تعارضه قدحت في كماله وأثرت فيه ضعفا وفتورا في العزيمة والطلب وهي تحجب الواصل وتقطع الطالب وتنكي الراغب فلا تصلح الموالاة إلاّ بالمعاداة كما قال تعالي : عن إمام الحنفاء المحبين أنه قال لقومه {قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الأَقْدَمُونَ فإنهمْ عَدُوٌّ لِي إِلا رَبَّ الْعَالَمِينَ} فلم يصح لخليل الله هذه الموالاة والخلة إلاّ بتحقيق هذه المعاداة فإنه لا ولائه إلاّ لله ولا ولائه إلاّ بالبراءة من كل معبود سواه قال تعالي : {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ} وقال تعالي : {وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ إِلا الَّذِي فَطَرَنِي فإنه سَيَهْدِينِ وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ}. أ هـ {الجواب الكافى صـ 137 ـ 138}(5/334)
قوله تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أخبرهم سبحانه وتعالى بإيجاب القتال عليهم مرسلاً في جميع الأوقات وكان قد أمرهم فيما مضى بقتلهم حيث تقفوهم ثم قيد عليهم في القتال في المسجد الحرام كان بحيث يسأل هنا : هل الأمر في الحرم والحرام كما مضى أم لا ؟ وكان المشركون قد نسبوهم في سرية عبد الله بن جحش التي قتلوا فيها من المشركين عمرو بن الحضرمي إلى التعدي بالقتال في الشهر الحرام واشتد تعييرهم لهم به فكان موضع السؤال : هل سألوا عما عيرهم به الكفار من ذلك ؟ فقال مخبراً عن سؤالهم مبنياً لحالهم : {يسئلونك} أي أهل الإسلام لا سيما أهل سرية عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنهم {عن الشهر الحرام} فلم يعين الشهر وهو رجب ليكون أعم ، وسميت الحرم لتعظيم حرمتها حتى حرموا القتال فيها ، فأبهم المراد من السؤال ليكون للنفس إليه التفات ثم بينه ببدل الاشتمال في قوله : {قتال فيه} ثم أمر بالجواب في قوله : {قل قتال فيه} أيّ قتال كان فالمسوغ العموم.
ولما كان مطلق القتال فيه في زعمهم لا يجوز حتى ولا لمستحق القتل وكان في الواقع القتال عدواناً فيه أكبر منه في غيره قال : {كبير} أي في الجملة.
(5/335)
ولما كان من المعلوم أن المؤمنين في غاية السعي في تسهيل سبيل الله فليسوا من الصد عنه ولا من الكفر في شيء لم يشكل أن ما بعده كلام مبتدأ هو للكفار وهو قوله : {وصد} أيّ صد كان {عن سبيل الله} الملك الذي له الأمر كله أي الذي هو دينه الموصل إليه أي إلى رضوانه ، أو البيت الحرام فإن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ سمى الحج سبيل الله. قال الحرالي : والصد صرف إلى ناحية بإعراض وتكره ، والسبيل طريق الجادة السابلة عليه الظاهر لكل سالك منهجه {وكفر به} أيّ كفر كان ، أي بالدين ، أو بذلك الصد أي بسببه فإنه كفر إلى كفرهم ، وحذف الخبر لدلالة ما بعده عليه دلالة بينة لمن أمعن النظر وهو أكبر أي من القتال في الشهر الحرام ، والتقييد فيما يأتي بقوله : {عند الله} يدل على ما فهمته من أن المراد بقوله : {كبير} في زعمهم وفي الجملة لا أنه من الكبائر. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 403}
فصل
قال الفخر :
اختلفوا في أن هذا السائل أكان من المسلمين أو من الكافرين والقائلون بأنه من المسلمين فريقان الأول : الذين قالوا إنه تعالى لما كتب عليهم القتال وقد كان عند القوم الشهر الحرام والمسجد الحرام أعظم الحرمة في المنع من القتال لم يبعد عندهم أن يكون الأمر بالقتال مقيداً بأن يكون في غير هذا الزمان وفي غير هذا المكان فدعاهم ذلك إلى أن سألوا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فقالوا : أيحل لنا قتالهم في هذا الشهر وفي هذا الموضع ؟ فنزلت الآية ، فعلى هذا الوجه الظاهر أن هذا السؤال كان من المسلمين.(5/336)
الفريق الثاني : وهم أكثر المفسرين : رووا عن ابن عباس أنه قال : إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بعث عبد الله بن جحش الأسدي وهو ابن عمته قبل قتال بدر بشهرين ، وبعد سبعة عشر شهراً من مقدمه المدينة في ثمانية رهط ، وكتب له كتاباً وعهداً ودفعه إليه ، وأمره أن يفتحه بعد منزلتين ، ويقرأه على أصحابه ، ويعمل بما فيه ، فإذا فيه : أما بعد فسر على بركة الله تعالى بمن اتبعك حتى تنزل بطن نخل ، فترصد بها عير قريش لعلك أن تأتينا منه بخير ، فقال عبد الله : سمعاً وطاعة لأمره فقال لأصحابه : من أحب منكم الشهادة فلينطلق معي فإني ماض لأمره ، ومن أحب التخلف فليتخلف فمضى حتى بلغ بطن نخل بين مكة والطائف ، فمر عليهم عمرو بن الحضرمي وثلاثة معه ، فلما رأوا أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حلقوا رأس واحد منهم وأوهموا بذلك أنهم قوم عمار ، ثم أتى واقد بن عبد الله الحنظلي وهو أحد من كان مع عبد الله بن جحش ورمى عمرو بن الحضرمي فقتله ، وأسروا اثنين وساقوا العير بما فيه حتى قدموا على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فضجت قريش وقالوا : قد استحل محمد الشهر الحرام ، شهر يأمن فيه الخائف فيسفك فيه الدماء ، والمسلمون أيضاً قد استبعدوا ذلك ، فقال عليه الصلاة والسلام : إني ما أمرتكم بالقتال في الشهر الحرام ، وقال عبد الله بن جحش يا رسول الله إنا قتلنا ابن الحضرمي ، ثم أمسينا فنظرنا إلى هلال رجب فلا ندري أفي رجب أصبناه أم في جمادى فوقف رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ العير والأسارى ، فنزلت هذه الآية ، فأخذ رسول الله عليه الصلاة والسلام الغنيمة ، وعلى هذا التقدير فالأظهر أن هذا السؤال إنما صدر عن المسلمين لوجوه أحدها : أن أكثر الحاضرين عند رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كانوا مسلمين وثانيها : أن ما قبل هذه الآية وما بعدها خطاب مع المسلمين أما ما قبل هذه الآية فقوله : {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة} وهو خطاب مع(5/337)
المسلمين وقوله :
{ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر...
ويسألونك عن اليتامى} {البقرة : 219 ، 220 ] وثالثها : روى سعيد بن جبير عن ابن عباس أنه قال : ما رأيت قوماً كانوا خيراً من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ما سألوه إلا عن ثلاث عشرة مسألة حتى قبض كلهن في القرآن منها {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام}.
والقول الثاني : أن هذا السؤال كان من الكفار قالوا : سألوا الرسول عليه الصلاة والسلام عن القتال في الشهر الحرام حتى لو أخبرهم بأنه حلال فتكوا به واستحلوا قتاله فيه فأنزل الله تعالى هذه الآية : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ} أي يسألونك عن قتال في الشهر الحرام {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} ولكن الصد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام والكفر به أكبر من ذلك القتال {وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} فبين تعالى أن غرضهم من هذا السؤال أن يقاتلوا المسلمين ثم أنزل الله تعالى بعده قوله : {الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ} {البقرة : 194 ] فصرح في هذه الآية بأن القتال على سبيل الدفع جائز. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 26 ـ 27}
وقال ابن عاشور بعد أن ذكر ما يتعلق بسرية عبد الله بن جحش :
فإذا صح ذلك كان نزول هذه الآية قبل نزول آية {كتب عليكم القتال وهو كره لكم} {البقرة : 216 ] وآية {وقاتلوا في سبيل الله الذي يقاتلونكم} {البقرة : 190 ] بمدة طويلة فلما نزلت الآيتان بعد هذه ، كان وضعهما في التلاوة قبلها بتوقيف خاص لتكون هذه الآية إكمالاً لما اشتملت عليه الآيتان الأخريان ، وهذا له نظائر في كثير من الآيات باعتبار النزول والتلاوة. والأظهر عندي أن هذه الآية نزلت بعد الآية التي قبلها وأنها تكملة وتأكيد لآية {الشهر الحرام بالشهر الحرام} {البقرة : 194 ].(5/338)
والسؤال المذكور هنا هو سؤال المشركين النبي عليه الصلاة والسلام يوم الحديبية ، هل يقاتل في الشهر الحرام كما تقدم عند قوله تعالى : {الشهر الحرام بالشهر الحرام}. وهذا هو المناسب لقوله هنا {وصد عن سبيل الله} إلخ وقيل : سؤال المشركين عن قتال سرية عبد الله بن جحش. فالجملة استئناف ابتدائي ، وردت على سؤال الناس عن القتال في الشهر الحرام ومناسبة موقعها عقب آية {كتب عليكم القتال} {البقرة : 216 ] ظاهرة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 324}
قوله تعالى : {قِتَالٍ فِيهِ} خفض على البدل من الشهر الحرام ، وهذا يسمى بدل الاشتمال ، كقولك : أعجبني زيد علمه ونفعني زيد كلامه وسرق زيد ماله ، وسلب زيد ثوابه ، قال تعالى : {قُتِلَ أصحاب الأخدود النار ذَاتِ الوقود} {البروج : 4 ، 5 ] وقال بعضهم الخفض في قتال على تكرير العامل والتقدير : يسألونك عن الشهر الحرام عن قتال فيه ، وهكذا هو في قراءة ابن مسعود والربيع ، ونظيره قوله تعالى : {لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ ءَامَنَ مِنْهُمْ} {الأعراف : 75 ] وقرأ عكرمة {قَتْلَ فِيهِ }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 27}
والتعريف في ( الشهر الحرام ) تعريف الجنس ، ولذلك أحسن إبدال النكرة منه في قوله : {قتال فيه} ، وهو بدل اشتمال فيجوز فيه إبدال النكرة من المعرفة ، بخلاف بدل البعض على أن وصف النكرة هنا بقوله ( فيه ) يجعلها في قوة المعرفة.
فالمراد بيان أيِّ شهر كان من الأشهر الحُرم وأيِّ قتال ، فإن كان السؤال إنكارياً من المشركين فكون المراد جنس هذه الأشهر ظاهر ، وإن كان استفساراً من المسلمين فكذلك ، ومجرد كون الواقعة التي تسبب عليها السؤال وقعت في شهر معين لا يقتضي تخصيص السؤال بذلك الشهر ، إذ لا يخطر ببال السائل بل المقصود السؤال عن دوام هذا الحكم المتقرر عندهم قبل الإسلام وهْوَ لا يختص بشهر دون شهر.(5/339)
وإنما اختير طريق الإبدال هنا وكان مقتضى الظاهر أن يقال : يسألونك عن القتال في الشهر الحرام لأَجل الاهتمام بالشهر الحرام تنبيهاً على أن السؤال لأجل الشهر أيقع فيه قتال ؟ لاَ لأَجل القتال هل يقع في الشهر وهما متآيلان ، لكن التقديم لقضاء حق الاهتمام ، وهذه نكتة لإبدال عطفِ البيان تنفع في مواقع كثيرة ، على أن في طريق بدل الاشتمال تشويقاً بارتكاب الإجمال ثم التفصيل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 325}
سؤال : فإن قيل : لم نكر القتال في قوله تعالى : {قِتَالٌ فِيهِ} ومن حق النكرة إذا تكررت أن تجيء باللام حتى يكون المذكور الثاني هو الأول ، لأنه لو لم يكن كذلك كان المذكور الثاني غير الأول كما في قوله تعالى : {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً} {الشرح : 6 ].
قلنا : نعم ما ذكرتم أن اللفظ إذا تكرر وكانا نكرتين كان المراد بالثاني إذن غير الأول والقوم أرادوا بقولهم : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ} ذلك القتال المعين الذي أقدم عليه عبد الله بن جحش ، فقال تعالى : {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} وفيه تنبيه على أن القتال الذي يكون كبيراً ليس هو هذا القتال الذي سألتم عنه ، بل هو قتال آخر لأن هذا القتال كان الغرض به نصرة الإسلام وإذلال الكفر فكيف يكون هذا من الكبائر ، إنما القتال الكبير هو الذي يكون الغرض فيه هدم الإسلام وتقوية الكفر فكان اختيار التنكير في اللفظين لأجل هذه الدقيقة إلا أنه تعالى ما صرح بهذا الكلام لئلا تضيق قلوبهم بل أبهم الكلام بحيث يكون ظاهره كالموهم لما أرادوه ، وباطنه يكون موافقاً للحق ، وهذا إنما حصل بأن ذكر هذين اللفظين على سبيل التنكير ، ولو أنه وقع التعبير عنهما أو عن أحدهما بلفظ التعريف لبطلت هذه الفائدة الجليلة ، فسبحان من له تحت كل كلمة من كلمات هذا الكتاب سر لطيف لا يهتدي إليه إلا أولوا الألباب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 27 ـ 28}
وقال ابن عاشور : (5/340)
وتنكير ( قتال ) مراد به العموم ، إذ ليس المسؤول عنه قتالاً معيناً ولا في شهر معين ، بل المراد هذا الجنس في هذا الجنس. و( فيه ) ظرف صفة لقتال مخصصة له.
وقوله : {قل قتال فيه كبير} إظهار لفظ القتال في مقام الإضمار ليكون الجواب صريحاً حتى لا يتوهم أن الشهر الحرام هو الكبير ، وليكون الجواب على طبق السؤال في اللفظ ، وإنما لم يعرف لفظ القتال ثانياً باللام مع تقدم ذكره في السؤال ، لأنه قد استغنى عن تعريفه باتحاد الوصفين في لفظ السؤال ولفظ الجواب وهو ظرف ( فيه ) ، إذ ليس المقصود من تعريف النكرة باللام إذا أعيد ذكرها إلاّ التنصيصَ على أن المراد بها تلك الأولى لا غيرها ، وقد حصل ذلك بالوصف المتحد ، قال التفتازاني : فالمسؤول عنه هو المجاب عنه وليس غيره كما توهم بناء على أن النكرة إذا أعيدت نكرة كانت غير الأولى ، لأن هذا ليس بضربة لازم يريد أن ذلك يتبع القرائن.
والجواب تشريع إن كان السؤال من المسلمين ، واعتراف وإبكات إن كان السؤال إنكاراً من المشركين ، لأنهم توقعوا أن يجيبهم بإباحة القتال فيثَوِّروا بذلك العرب ومن في قلبه مرض. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 325}
فصل
اتفق الجمهور على أن حكم هذه الآية حرمة القتال في الشهر الحرام ثم اختلفوا أن ذلك الحكم هل بقي أم نسخ فنقل عن ابن جريج أنه قال : حلف لي عطاء بالله أنه لا يحل للناس الغزو في الحرم ، ولا في الأشهر الحرم ، إلا على سبيل الدفع ، روى جابر قال : لم يكن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى وسئل سعيد بن المسيب هل يصلح للمسلمين أن يقاتلوا الكفار في الشهر الحرام ؟ قال نعم ، قال أبو عبيد : والناس بالثغور اليوم جميعاً على هذا القول يرون الغزو مباحاً في الشهور كلها ، ولم أر أحداً من علماء الشام والعراق ينكره عليهم كذلك حسب قول أهل الحجاز.(5/341)
والحجة في إباحته قوله تعالى : {فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ} {التوبة : 5 ] وهذه الآية ناسخة لتحريم القتال في الشهر الحرام ، والذي عندي أن قوله تعالى : {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} هذا نكرة في سياق الإثبات فيتناول فرداً واحداً ، ولا يتناول كل الأفراد ، فهذه الآية لا دلالة فيها على تحريم القتال مطلقاً في الشهر الحرام ، فلا حاجة إلى تقدير النسخ فيه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 28}
فائدة بلاغية
الكبير في الأصل هو عظيم الجثة من نوعه ، وهو مجاز في القوى والكثير والمسن والفاحش ، وهو استعارة مبنية على تشبيه المعقول بالمحسوس ، شبه القوي في نوعه بعظيم الجثة في الأفراد ، لأنه مألوف في أنه قوى ، وهو هنا بمعنى العظيم في المآثم بقرينة المقام ، مثل تسمية الذنب كبيرة ، وقول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ "وما يعذَّبان في كبير وإنه لكبير "الحديثَ.
والمعنى أن القتال في الأشهر الحرم إثم كبير ، فالنكرة هنا للعموم بقرينة المقام ، إذ لا خصوصية لقتال قوم دون آخرين ، ولا لقتل في شهر دون غيره ، لا سيما ومطابقة الجواب للسؤال قد أكدت العموم ، لأن المسؤول عنه حُكْم هذا الجنس وهو القتال في هذا الجنس وهو الشهر الحرام من غير تفصيل ، فإن أجدر أفراد القتال بأن يكون مباحاً هو قتالنا المشركين ومع ذلك فهو المسؤول عنه وهو الذي وقع التحرج منه ، أما تقاتل المسلمين فلا يختص إثمه بوقوعه في الشهر الحرام ، وأما قتال الأمم الآخرين فلا يخطر بالبال حينئذٍ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 326}
قوله تعالى : {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله }
فصل
قال الفخر : (5/342)
للنحويين في هذه الآية وجوه الأول : قول البصريين وهو الذي اختاره الزجاج ، أن قوله : {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} كلها مرفوعة بالابتداء ، وخبرها قوله : {أَكْبَرُ عِندَ الله} والمعنى : أن القتال الذي سألتم عنه ، وإن كان كبيراً ، إلا أن هذه الأشياء أكبر منه ، فإذا لم تمتنعوا عنها في الشهر الحرام ، فكيف تعيبون عبد الله بن جحش على ذلك القتال مع أن له فيه عذراً ظاهراً ، فإنه كان يجوز أن يكون ذلك القتل واقعاً في جمادى الآخرة ، ونظيره قوله تعالى لبني إسرائيل : {أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنسَوْنَ أنفسكم} {البقرة : 44 ] ، {لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ }
[ الصف : 2 ] وهذا وجه ظاهر ، إلا أنهم اختلفوا في الجر في قوله : {والمسجد الحرام} وذكروا فيه وجهين أحدهما : أنه عطف على الهاء في به والثاني : وهو قول الأكثرين : أنه عطف على {سَبِيلِ الله} قالوا : وهو متأكد بقوله تعالى : {إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام} {الحج : 25 ].
واعترضوا على الوجه الأول بأنه لا يجوز العطف على الضمير ، فإنه لا يقال : مررت به وعمرو ، وعلى الثاني بأن على هذا الوجه يكون تقدير الآية : صد عن سبيل الله وعن المسجد الحرام ، فقوله : عن المسجد الحرام صلة للصد ، والصلة والموصول في حكم الشيء الواحد ، فإيقاع الأجنبي بينهما لا يكون جائزاً.
(5/343)
أجيب عن الأول : لم لا يجوز إضمار حرف الجر فيه حتى يكون التقدير : وكفر به وبالمسجد الحرام ، والإضمار في كلام الله ليس بغريب ، ثم يتأكد هذا بقراءة حمزة {تَسَاءلُونَ بِهِ والأرحام} {النساء : 1 ] على سبيل الخفض ولو أن حمزة روى هذه اللغة لكان مقبولاً بالاتفاق ، فإذا قرأ به في كتاب الله تعالى كان أولى أن يكون مقبولاً ، وأما الأكثرون الذين اختاروا القول الثاني قالوا : لا شك أنه يقتضي وقوع الأجنبي بين الصلة والموصول ، والأصل أنه لا يجوز إلا أنا تحملناه ههنا لوجهين الأول : أن الصد عن سبيل الله والكفر به كالشيء الواحد في المعنى ، فكأنه لا فصل الثاني : أن موضع قوله : {وَكُفْرٌ بِهِ} عقيب قوله : {والمسجد الحرام} إلا أنه قدم عليه لفرط العناية ، كقوله تعالى : {وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدًا} {الإخلاص : 4 ] كان من حق الكلام أن يقال : ولم يكن له أحد كفواً إلا أن فرط العناية أوجب تقديمه فكذا ههنا.
الوجه الثاني : في هذه الآية ، وهو اختيار الفراء وأبي مسلم الأصفهاني أن قوله تعالى : {والمسجد الحرام} عطف بالواو على الشهر الحرام ، والتقدير : يسألونك عن قتال في الشهر الحرام والمسجد الحرام ، ثم بعد هذا طريقان أحدهما : أن قوله : {قِتَالٌ فِيهِ} مبتدأ ، وقوله : {كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ} خبر بعد خبر ، والتقدير : إن قتلاً فيه محكوم عليه بأنه كبير وبأنه صد عن سبيل الله ، وبأنه كفر بالله.
(5/344)
والطريق الثاني : أن يكون قوله : {قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} جملة مبتدأ وخبر ، وأما قوله : {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله} فهو مرفوع بالابتداء ، وكذا قوله : {وَكُفْرٌ بِهِ} والخبر محذوف لدلالة ما تقدم عليه ، والتقدير : قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله كبير وكفر به كبير ، ونظيره قولك : زيد منطلق وعمرو ، تقديره : وعمرو منطلق ، طعن البصريون في هذا الجواب فقالوا : أما قولكم تقدير الآية : يسألونك عن قتال في المسجد الحرام فهو ضعيف لأن السؤال كان واقعاً عن القتال في الشهر الحرام لا عن القتال في المسجد الحرام ، وطعنوا في الوجه الأول بأنه يقتضي أن يكون القتال في الشهر الحرام كفراً بالله ، وهو خطأ بالإجماع ، وطعنوا في الوجه الثاني بأنه لما قال بعد ذلك : {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ} أي أكبر من كل ما تقدم فيلزم أن يكون إخراج أهل المسجد من المسجد أكبر عند الله من الكفر ، وهو خطأ بالإجماع.
وأقول : للفراء أن يجيب عن الأول بأنه من الذي أخبركم بأنه ما وقع السؤال عن القتال في المسجد الحرام ، بل الظاهر أنه وقع لأن القوم كانوا مستعظمين للقتال في الشهر الحرام وفي البلد الحرام وكان أحدهما كالآخر في القبح عند القوم ، فالظاهر أنهم جمعوهما في السؤال ، وقولهم على الوجه الأول يلزم أن يكون القتال في الشهر الحرام كفراً.
(5/345)
قلنا : يلزم أن يكون قتال في الشهر الحرام كفراً ونحن نقول به ، لأن النكرة في الإثبات لا تفيد العموم ، وعندنا أن قتالاً واحداً في المسجد الحرام كفر ، ولا يلزم أن كل قتال كذلك ، وقولهم على الوجه الثاني يلزم أن يكون إخراج أهل المسجد منه أكبر من الكفر ، قلنا : المراد من أهل المسجد هم الرسول عليه السلام والصحابة ، وإخراج الرسول من المسجد على سبيل الإذلال لا شك أنه كفر وهو مع كونه كفراً فهو ظلم لأنه إيذاء للإنسان من غير جرم سابق وعرض لاحق ولا شك أن الشيء الذي يكون ظلماً وكفراً ، أكبر وأقبح عند الله مما يكون كفراً وحده ، فهذا جملة القول في تقرير قول الفراء.
القول الثالث : في الآية قوله : {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سبيل الله وَكُفْرٌ بِهِ} وجهه ظاهر ، وهو أن قتالاً فيه موصوف بهذه الصفات ، وأما الخفض في قوله : {والمسجد الحرام} فهو واو القسم إلا أن الجمهور ما أقاموا لهذا القول وزناً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 29}
سؤال : فإن قلت : إذا نُسخ تحريم القتال في الأشهر الحُرم فما معنى قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في خطبة الوداع "إن دِماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حَرام كحُرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا "
فإن التشبيه يقتضي تقرير حُرمة الأشهر. قلت : إن تحريم القتال فيها تَبَع لتعظيمها وحرمتها وتنزيهها عن وقوع الجرائم والمظالم فيها فالجريمة فيها تعد أعظم منها لو كانت في غيرها. والقتال الظلمُ محرم في كل وقت ، والقتال لأجل الحق عبادة فنُسخ تحريم القتال فيها لذلك وبقيت حرمة الأشهر بالنسبة لبقية الجرائم.(5/346)
وأحسن من هذا أن الآية قررت حرمة القتال في الأشهر الحرم لحكمة تأمين سبل الحج والعمرة ، إذ العمرة أكثرها في رجب ولذلك قال : {قتال فيه كبير} واستمر ذلك إلى أن أبطل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ الحجَّ على المشركين في عام حجة أبي بكر بالناس ؛ إذ قد صارت مكة بيد المسلمين ودخل في الإسلام قريش ومعظم قبائل العرب والبقية منعوا من زيارة مكة ، وأن ذلك كان يقتضي إبطال تحريم القتال في الأشهر الحرم ؛ لأن تحريمه فيها لأجل تأمين سبيل الحج والعمرة. وقد تعطل ذلك بالنسبة للمشركين ولم يبق الحج إلاّ للمسلمين وهم لا قتال بينهم ، إذ قتال الظلم محرم في كل زمان وقتال الحق يقع في كل وقت ما لم يشغل عنه شاغل مثل الحج ، فتسميته نسخاً تسامح ، وإنما هو انتهاء مورد الحكم ، ومثل هذا التسامح في الأسماء معروف في كلام المتقدمين ، ثم أسلم جميع المشركين قبل حجة الوداع وذكر النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حرمة الأشهر الحرم في خطبته ، وقد تعطل حينئذٍ العمل بحرمة القتال في الأشهر الحرم ، إذ لم يبق مشرك يقصد الحج. فمعنى نسخ تحريم القتال في الأشهر الحرم أن الحاجة إليه قد انقضت كما انتهى مصرف المؤلَّفة قلوبهم من مصارف الزكاة بالإجماع لانقراضهم.
(5/347)
إنحاء على المشركين وإظهار لظلمهم بعد أن بكَّتهم بتقرير حرمة الأشهر الحرم الدال على أن ما وقع من أهل السرية من قتل رجل فيه كان عن خطأ في الشهر أو ظن سقوط الحرمة بالنسبة لقتال العدو ، فإن المشركين استعظموا فعلاً واستنكروه وهم يأتون ما هو أفظع منه ، ذلك أن تحريم القتال في الشهر الحرام ليس لذات الأشهر ، لأن الزمان لا حرمة له في ذاته وإنما حرمته تحصل بجعل الله إياه ذا حرمة ، فحرمته تبع لحوادث تحصل فيه ، وحرمة الأشهر الحرم لمراعاة تأمين سبيل الحج والعمرة ومقدماتهما ولواحقهما فيها ، فلا جرم أن الذين استعظموا حصول القتل في الشهر الحرام واستباحوا حرمات ذاتيَّة بصد المسلمين ، وكفروا بالله الذي جعل الكعبة حراماً وحَرَّم لأجل حجها الأشهرَ الحرم ، وأخرجوا أهل الحرم منه ، وآذوهم ، لأحْرِياء بالتحميق والمذمة ، لأن هاته الأشياء المذكورة كلها محرمة لذاتها لا تبعاً لغيرها. وقد قال الحسن البصري لرجل من أهل العراق جاء يسأله عن دم البعوض إذا أصاب الثوب هل ينجسه ، وكان ذلك عقب مقتل الحسين بن عليّ رضي الله عنهما "عجباً لكم يا أهل العراق تستحلون دم الحسين وتسألون عن دم البعوض".
ويحق التمثل هنا بقول الفرزدق
: ... أَتَغضَبُ إِنْ أُذْنَا قُتَيْبَةَ حُزَّتا
جِهارا ولم تغضَبْ لقتل ابن خازم... والمعنى أن الصد وما عطف عليه من أفعال المشركين أكبر إثماً عند الله من إثم القتال في الشهر الحرام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 328}
فصل
أما الصد عن سبيل الله ففيه وجوه
أحدها : أنه صد عن الإيمان بالله وبمحمد عليه السلام
وثانيها : صد للمسلمين من أن يهاجروا إلى الرسول عليه السلام(5/348)
وثالثها : صد المسلمين عام الحديبية عن عمرة البيت ، ولقائل أن يقول : الرواية دلت على أن هذه الآية نزلت قبل غزوة بدر في قصة عبد الله بن جحش ، وقصة الحديبية كانت بعد غزوة بدر بمدة طويلة ، ويمكن أن يجاب عنه بأن ما كان في معلوم الله تعالى كان كالواقع ، وأما الكفر بالله فهو الكفر بكونه مرسلاً للرسل ، مستحقاً للعبادة ، قادراً على البعث. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 29}
قوله تعالى : {والمسجد الحرام }
قال الفخر :
وأما قوله : {والمسجد الحرام} فإن عطفناه على الضمير في {بِهِ} كان المعنى : وكفر بالمسجد الحرام ، ومعنى الكفر بالمسجد الحرام هو منع الناس عن الصلاة فيه والطواف به ، فقد كفروا بما هو السبب في فضيلته التي بها يتميز عن سائر البقاع ، ومن قال : إنه معطوف على سبيل الله كان المعنى : وصد عن المسجد الحرام ، وذلك لأنهم صدوا عن المسجد الحرام الطائفين والعاكفين والركع السجود. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 29}
قوله تعالى : {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ }
قال الفخر : (5/349)
وأما قوله تعالى : {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ} فالمراد أنهم أخرجوا المسلمين من المسجد ، بل من مكة ، وإنما جعلهم أهلاً له إذ كانوا هم القائمين بحقوق البيت كما قال تعالى : {وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وَكَانُواْ أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا} {الفتح : 26 ] وقال تعالى : {وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ المتقون} {الأنفال : 34 ] فأخبر تعالى أن المشركين خرجوا بشركهم عن أن يكونوا أولياء المسجد ، ثم إنه تعالى بعد أن ذكر هذه الأشياء حكم عليها بأنها أكبر ، أي كل واحد منها أكبر من قتال في الشهر الحرام ، وهذا تفريع على قول الزجاج ، وإنما قلنا : إن كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام لوجهين : أحدهما : أن كل واحد من هذه الأشياء كفر ، والكفر أعظم من القتال والثاني : أنا ندعي أن كل واحد من هذه الأشياء أكبر من قتال في الشهر الحرام وهو القتال الذي صدر عن عبد الله بن جحش ، وهو ما كان قاطعاً بوقوع ذلك القتال في الشهر الحرام ، وهؤلاء الكفار قاطعون بوقوع هذه الأشياء منهم في الشهر الحرام ، فيلزم أن يكون وقوع هذه الأشياء أكبر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 30}
فائدة
قال ابن عاشور : (5/350)
مقتضى ظاهر ترتيب نظم الكلام أن يقال : وصدٌّ عن سبيل الله وكفر به وصد عن المسجد الحرام وإخراجُ أهله منه أكبر عند الله ، فخولف مقتضى هذا النظم إلى الصورة التي جاءت الآية عليها ، بأن قُدم قوله ( وكفر به ) فجعل معطوفاً على ( صد ) قبل أن يستوفَى صد ما تعلق به وهو ( والمسجِد الحرام ) فإنه معطوف على ( سبيل الله ) المتعلق بـ ( صد ) إذ المعطوف على المتعلَّق متعلِّقٌ فهو أولى بالتقديم من المعطوف على الاسم المتعلَّق به ، لأن المعطوف على المتعلَّق به أجنبي عن المعطوف عليه ، وأما المعطوف على المتعلِّق فهو من صلة المعطوف عليه ، والداعي إلى هذا الترتيب هو أن يكون نظم الكلام على أسلوب أدق من مقتضى الظاهر وهو الاهتمام بتقديم ما هو أفظع من جرائمهم ، فإن الكفر بالله أفظع من الصد عن المسجد الحرام ، فكان ترتيب النظم على تقديم الأهمِّ فالأهمِّ ، فإن الصد عن سبيل الإسلام يجمع مظالم كثيرة ؛ لأنه اعتداء على الناس في ما يختارونه لأنفسهم ، وجحد لرسالة رسول الله ، والباعث عليه انتصارهم لأصنامهم {أجعل الآلهة إلهاً وَاحداً إنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجاب} {ص : 5 ] فليس الكفر بالله إلا ركناً من أركان الصد عن الإسلام فلذلك قدم الصد عن سبيل الله ثم ثنَّى بالكفر بالله ليفاد بدلالة المطابقة بعد أن دَلَّ عليه الصدُّ عن سبيل الله بدلالة التضمن ، ثم عد عليهم الصد عن المسجد الحرام ثم إخراج أهله منه. ولا يصح أن يكون "والمسجد الحرام" عطفاً على الضمير في قوله ( به ) لأنه لا معنى للكفر بالمسجد الحرام فإن الكفر يتعدى إلى ما يُعبد ومَا هو دين وما يتضمن ديناً ، على أنهم يعظمون المسجد الحرام ولا يعتقدون فيه ما يسوغ أن يتكلف بإطلاق لفظ الكفر عليه على وجه المجاز.(5/351)
وقوله : {وإخراج أهله منه} أي إخراج المسلمين من مكة ؛ فإنهم كانوا حول المسجد الحرام ؛ لأن في إخراجهم مظالم كثيرة فقد مرض المهاجرون في خروجهم إلى المدينة ومنهم كثير من أصابته الحمى حتى رفعت من المدينة ببركة دعاء الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ على أن التفضيل إنما تعلق بوقوع القتال في الأشهر الحرم لا بنفس القتل فإن له حكماً يخصه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 330}
قوله تعالى : {والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل }
قال البقاعى :
ولما كان كل ما تقدم من أمر الكفار فتنة كان كأنه قيل : أكبر ، لأن ذلك فتنة {والفتنة} أي بالكفر والتكفير بالصد والإخراج وسائر أنواع الأذى التي ترتكبونها بأهل الله في الحرم والأشهر الحرم {أكبر من القتل} ولو كان في الشهر الحرام لأن همه يزول وغمها يطول. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 405}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {والفتنة أكبر من القتل} تذييل مسوق مساق التعليل ، لقوله : {وإخراج أهله منه} ؛ وإذ قد كان إخراج أهل الحرم منه أكبر من القتل ؛ كان ما ذكر قبله من الصد عن الدِّين والكفر بالله والصد عن المسجد الحرام أكبر بدلالة الفحوى ، لأن تلك أعظم جرماً من جريمة إخراج المسلمين من مكة.
والفتنة : التشغيب والإيقاع في الحيرة واضطراب العيش فهي اسم شامل لما يعظم من الأذى الداخل على أحد أو جماعة من غيرهم ، وأريد بها هنا ما لقيه المسلمون من المشركين من المصائب في الدين بالتعرض لهم بالأذى بالقول والفعل ، ومنعهم من إظهار عبادتهم ، وقطيعتهم في المعاملة ، والسخرية بهم والضرب المدمي والتمالىء على قتل الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ والإخراج من مكة ومنع من أموالهم ونسائهم وصدهم عن البيت ، ولا يخفى أن مجموع ذلك أكبر من قتل المسلمين واحداً من رجال المشركين وهو عَمرو الحضرمي وأسِرهم رجلين منهم.
و ( أكبر ) أي أشد كِبَراً أي قوة في المحارم ، أي أكبر من القتل الذي هو في الشهر الحرام كبير.(5/352)
جملة معترضة دعا إلى الاعتراض بها مناسبة قوله : {والفتنة أكبر من القتل} لما تضمنته من صدور الفتنة من المشركين على المسلمين وما تتضمنه الفتنة من المقاتلة التي تداولَها المسلمون والمشركون. إذ القتال يشتمل على أنواع الأذى وليس القتل إلاّ بعض أحوال القتال ألا ترى إلى قوله تعالى : {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} {الحج : 39 ] فسمى فعل الكفار مع المسلمين مقاتلة وسمى المسلمين مقاتَلين بفتح التاء ، وفيه إعلام بأن المشركين مضمرون غزو المسلمين ومستعدون له وإنما تأخروا عنه بعد الهجرة ، لأنهم كانوا يقاسون آثار سني جدب فقوله {لا يزالون} وإن أشعر أن قتالهم موجود فالمراد به أسباب القتال ، وهو الأذى وإضمار القتال كذلك ، وأنّهم إن شرعوا فيه لا ينقطعون عنه ، على أن صريح لا يزال الدلالة على أن هذا يدوم في المستقبل ، و( حتى ) للغاية وهي هنا غاية تعليلية.
والمعنى : أن فتنتهم وقتالهم يدوم إلى أن يحصل غرضهم وهو أن يردوكم عن دينكم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 331}
وقال الفخر :
أما قوله تعالى : {والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل} فقد ذكروا في الفتنة قولين أحدهما : هي الكفر وهذا القول عليه أكثر المفسرين ، وهو عندي ضعيف ، لأن على قول الزجاج قد تقدم ذكر ذلك ، فإنه تعالى قال : {وَكُفْرٌ بِهِ أَكْبَر} فحمل الفتنة على الكفر يكون تكراراً ، بل هذا التأويل يستقيم على قول الفراء.(5/353)
والقول الثاني : أن الفتنة هي ما كانوا يفتنون المسلمين عن دينهم ، تارة بإلقاء الشبهات في قلوبهم ، وتارة بالتعذيب ، كفعلهم ببلال وصهيب وعمار بن ياسر ، وهذا قول محمد بن إسحاق وقد ذكرنا أن الفتنة عبارة عن الامتحان ، يقال فتنت الذهب بالنار إذا أدخلته فيها لتزيل الغش عنه ، ومنه قوله تعالى : {إِنَّمَا أموالكم وأولادكم فِتْنَةٌ} {التغابن : 15 ] أي امتحان لكم لأنه إذا لزمه إنفاق المال في سبيل الله تفكر في ولده ، فصار ذلك مانعاً له عن الإنفاق ، وقال تعالى : {الم أَحَسِبَ الناس أَن يُتْرَكُواْ أَن يَقُولُواْ ءامَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} {العنكبوت : 1 ، 2 ] أي لا يمتحنون في دينهم بأنواع البلاء ، وقال : {وفتناك فُتُوناً} {طه : 40 ] وإنما هو الامتحان بالبلوى ، وقال : {وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ ءامَنَّا بالله فَإِذَا أُوذِىَ فِى الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله} {العنكبوت : 10 ] والمراد به المحنة التي تصيبه من جهة الدين من الكفار وقال : {إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ} {البروج : 10 ] والمراد أنهم آذوهم وعرضوهم على العذاب ليمتحنوا ثباتهم على دينهم ، وقال : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كَفَرُواْ} {النساء : 101 ] وقال : {مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ بفاتنين إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم} {الصافات : 162 ، 163 ] وقال : {فَيَتَّبِعُونَ مَا تشابه مِنْهُ ابتغاء الفتنة} {آل عمران : 7 ] أي المحنة في الدين وقال : {واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ الله إِلَيْكَ} {المائدة : 49 ] وقال : {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلَّذِينَ كَفَرُواْ} {الممتحنة : 5 ] وقال : {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين} {يونس : 85 ] والمعنى أن يفتنوا(5/354)
بها عن دينهم فيتزين في أعينهم ما هم فيه من الكفر والظلم وقال : {فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ بِأَيّكُمُ المفتون} {القلم : 5 ، 6 ] قيل : المفتون المجنون ، والجنون فتنة ، إذ هو محنة وعدول عن سبيل أهل السلامة في العقول.
فثبت بهذه الآيات أن الفتنة هي الامتحان ، وإنما قلنا : إن الفتنة أكبر من القتل لأن الفتنة عن الدين تفضي إلى القتل الكثير في الدنيا ، وإلى استحقاق العذاب الدائم في الآخرة ، فصح أن الفتنة أكبر من القتل فضلاً عن ذلك القتل الذي وقع السؤال عنه وهو قتل ابن الحضرمي.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 30}
قال ابن القيم :
أكثرُ السَلَف فسَّروا الفتنة ههنا بالشرك ، كقوله تعالى : {وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ} [البقرة : 193] ويدل عليه قوله : {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إلا أنْ قَالُواْ وَاللهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ} [الأنعام : 23] أى : لم يكن مآلُ شركهم ، وعاقبته وآخرُ أمرهم ، إلا أن تبرّؤوا منه وأنكروه.
وحقيقتها : أنها الشرك الذى يدعو صاحبُه إليه ، ويُقاتِل عليه ، ويُعاقب مَن لم يَفَتِتنْ به ، ولهذا يُقال لهم وقتَ عذابهم بالنار وفتنتهم بها : {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} [الذاريات : 14] قال ابن عباس : "تكذيبَكم" ، وحقيقته : ذوقوا نهاية فتنتكم ، وغايَتَها ، ومصيرَ أمرها ، كقولهِ : {ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} [الزمر : 24] ، وكما فتنوا عباده على الشرك ، فُتِنُوا على النار ، وقيل لهم : ذوقوا فتنتكم ، ومنه قوله تعالى : {إنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا المُؤْمِنِينَ وَالمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ} [البروج : 10] فُسِّرت الفتنةُ ههنا بتعذيبهم المؤمنين ، وإحراقهم إياهم بالنار ، واللَّفظُ أعمُّ من ذلك ، وحقيقته : عذَّبُوا المؤمنين ليفتَتِنُوا عن دينهم ، فهذه الفتنةُ المضافةُ إلى المشركين.(5/355)
وأما الفتنة التى يُضيفها اللهُ سبحانه إلى نفسه أو يُضيفها رسولُه إليه ، كقوله : {وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ} [الأنعام : 53] وقول موسى : {إنْ هِىَ إلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاءُ وَتَهْدِى مَن تَشَاءُ} [الأعراف : 155] ، فتلك بمعنى آخر ، وهى بمعنى الامتحان ، والاختبار ، والابتلاء من الله لعباده بالخير والشر ، بالنعم والمصائب ، فهذه لون ، وفتنةُ المشركين لون ، وفتنة المؤمن فى ماله وولده وجاره لون آخر ، والفتنة التى يوقعها بين أهل الإسلام ، كالفتنة التى أوقعها بين أصحاب علىّ ومعاوية ، وبين أهل الجمل وصفين ، وبين المسلمين ، حتى يتقاتلوا ويتهاجروا لون آخر ، وهى الفتنة التى قال فيها النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ : "سَتَكُونُ فِتْنَةٌ ، القَاعِدُ فيها خَيْرٌ مِنَ القَائِمِ ، والقائِمُ فِيهَا خَيْرٌ منَ المَاشى ، والماشى فيها خَيْرٌ من السَّاعِى" وأحاديثُ الفتنة التى أمر رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيها باعتزال الطائفتين ، هى هذه الفتنة.
وقد تأتى الفتنة مراداً بها المعصية كقوله تعالى : {وَمِنْهُم مَّنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِّى وَلا تَفْتِنِّى} [التوبة : 49] يقوله الجدُّ بنُ قيس ، لما ندبه رسولُ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى تبوكَ ، يقول : ائذن لى فى القُعود ، ولا تفتنى بتعرضى لبنات بنى الأصفر ، فإنى لا أَصْبِرُ عنهن ، قال تعالى : {أَلا فِى الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} [التوبة : 49] ، أى : وقعوا فى فتنة النفاق ، وفروا إليها مِن فتنة بناتِ الأصفر.
(5/356)
والمقصود : أن الله سبحانه حكم بين أوليائه وأعدائه بالعدل والإنصاف ، ولم يُبرئ أولياءَه من ارتكاب الإثم بالقتالِ فى الشهر الحرام ، بل أخبر أنه كبير ، وأن ما عليه أعداؤه المشركون أكبرُ وأعظمُ مِن مجردِ القتالِ فى الشهر الحرام ، فهم أحقُّ بالذمِّ والعيبِ والعُقوبَةِ ، لا سيما وأولياؤه كانوا متأوِّلين فى قتالهم ذلك ، أو مقصِّرين نوعَ تقصير يغفِره الله لهم فى جنب ما فعلوه مِن التوحيد والطاعات ، والهِجرة مع رسوله ، وإيثارِ ما عند الله ، فهم كما قيل :
وإذَا الحَبِيبُ أَتى بِذَنْبٍ وَاحِدٍ جَاءَتْ مَحَاسِنُه بِأَلْفِ شَفِيع
فكيف يُقاس ببغيضٍ عدوٍ جاء بكُلِّ قبيح ، ولم يأت بشفيع واحد مِن المحاسن. أ هـ {زاد المعاد حـ 3 صـ 150 ـ 151}
لطيفة
قال العلامة الفيروزابادى :
أَصل الفتنة إِدخال الذَّهبِ النارَ ليُخْتَبَر جودته ، والجمع : فِتَن ، قال :
وفيك لنا فِتن أَرْبعٌ تسُلّ علينا سيوف
وقد ورد فى القرآن على اثنى عشر وجهاً :
(1) بمعنى العذاب : {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ}.
(2) وبمعنى الشِّرك : {وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ}.
(3) وبمعنى الكفر : {لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ} ، {مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ} ، {وَلَاكِنَّكُمْ فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ} أَى كفرتم.
(4) وبمعنى الإِثم {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ} أَى إِثم ، {وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ} فى الإِثم.
(5) وبمعنى العذاب : {مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ} أَى عُذِّبوا.
(6) وبمعنى البلاءِ والمِحْنَة : {أَن يَقُولُواْ آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ} أَى يُبْتَلُونَ ، {وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ} : امتحنَّاهُمْ ، {وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً} أَى بلوناك. {وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ} أَى ابتليناهم.(5/357)
(7) وبمعنى التعذيب والحُرقة : {إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُواْ الْمُؤْمِنِينَ} أَى عذَّبوهم ، {ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ} : حُرَقكم.
(8) وبمعنى القتل والهلاك : {إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ} أَى يقتلكم ، {عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ} أَى يقتلهم.
(9) وبمعنى الصدّ عن الصراط المستقيم : {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ} ، {وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ} أَى يصدّوكَ. وقيل : يوقعوك فى بليّة وشدّة فى صرفهم إِيّاك عمّا أُوحى إِليك.
(10) وبمعنى الحَيرة والضَّلال : {مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ} أَى بضالِّين ، {وَمَن يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ} أَى ضلالته.
(11) وبمعنى العُذْر وَالعِلّة : {ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} أَى عذرهم.
(12) وبمعنى الجنون والغفلة : {بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ} أَى الجنون. وقيل التقدير : أَيكم المفتون والباء زائدة كقوله : {وَكَفَى بِاللَّهِ}
والفتنة والبلاءُ يستعملان فيما يُدفع إليه الإِنسان من شدّة ورخاء. وهما فى الشدّة أَظهر معنى وأَكثر استعمالاً.
وقوله تعالى : {أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ} إِشارة إِلى ما قال تعالى : {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِّنَ الأَمَوَالِ وَالأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ}.
والفتنة من الأَفعال التى تكون من الله تعالى ، ومن العبد ؛ كالبليّة والمصيبة ،
والقتل ، والعذاب ونحوه من الأَفعال المكروهة. ومتى كان من الله إِنَّما يكون على وجه الحكمة ، ومتى كان من الإِنسان بغير أَمر الله يكون ضدّ ذلك. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 6 صـ 141}
قوله تعالى : {وَلاَ يَزَالُونَ يقاتلونكم}
المناسبة
قال البقاعى : (5/358)
ولما كان التقدير : وقد فتنوكم وقاتلوكم وكان الله سبحانه وتعالى عالماً بأنهم إن تراخوا في قتالهم ليتركوا الكفر لم يتراخوا هم في قتالهم ليتركوا الإسلام وكان أشد الأعداء من إذا تركته لم يتركك قال تعالى عاطفاً على ما قدرته : {ولا يزالون} أي الكفار {يقاتلونكم} أي يجددون قتالكم كلما لاحت لهم فرصة. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 405}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {وَلاَ يَزَالُونَ} ابتداء خبر من الله تعالى ، وتحذير منه للمؤمنين من شرّ الكفرة. قال مجاهد : يعني كفار قريش. و"يردوكم" نصب بحتى ، لأنها غاية مجرّدة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 3 صـ 46}
وقال أبو حيان :
{ ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا} الضمير في : يزالون ، للكفار ، وهذا يدل على أن الضمير المرفوع في قوله : يسألونك ، هو الكفار ، والضمير المنصوب في : يقاتلونكم ، خوطب به المؤمنون ، وانتقل عن خطاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى خطاب المؤمنين ، وهذا إخبار من الله للمؤمنين بفرط عداوة الكفار ، ومباينتهم لهم ، ودوام تلك العداوة ، وأن قتالهم إياكم معلق بإمكان ذلك منهم لكم ، وقدرتهم على ذلك. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 158}
قوله تعالى : {حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُواْ}
قال البقاعى :
ولما كان التقدير : وقد فتنوكم وقاتلوكم وكان الله سبحانه وتعالى عالماً بأنهم إن تراخوا في قتالهم ليتركوا الكفر لم يتراخوا هم في قتالهم ليتركوا الإسلام وكان أشد الأعداء من إذا تركته لم يتركك قال تعالى عاطفاً على ما قدرته : {ولا يزالون} أي الكفار {يقاتلونكم} أي يجددون قتالكم كلما لاحت لهم فرصة.(5/359)
ولما كان قتالهم إنما هو لتبديل الدين الحق بالباطل علله تعالى بقوله : {حتى} ولكنهم لما كانوا يقدرون أنه هيّن عليهم لقلة المسلمين وضعفهم تصوروه غاية لا بد من انتهائهم إليها ، فدل على ذلك بالتعبير بأداة الغاية ، {يردوكم} أي كافة ما بقي منكم واحد {عن دينكم} الحق ، ونبه على أن "حتى "تعليلية بقوله مخوفاً من التواني عنهم فيستحكم كيدهم ملهباً للأخذ في الجد في حربهم وإن كان يشعر بأنهم لا يستطيعون : {إن استطاعوا} أي إلى ذلك سبيلاً ، فأنتم أحق بأن لا تزالوا كذلك ، لأنكم قاطعون بأنكم على الحق وأنكم منصورون وأنهم على الباطل وهم مخذولون ؛ ولا بد وإن طال المدى لاعتمادكم على الله واعتمادهم على قوتهم ، ومن وكل إلى نفسه ضاع ؛ فالأمر الذي بينكم وبينهم أشد من الكلام فينبغي الاستعداد له بعدته والتأهب له بأهبته فضلاً عن أن يلتفت إلى التأثر بكلامهم الذي توحيه إليهم الشياطين طعناً في الدين وصداً عن السبيل وشبههم التي أضَلوا عليهم دينهم ولا أصل لها. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 405}
قال الآلوسى :
{ حتى} للتعليل ، والمعنى لا يزالون يعادونكم لكي يردوكم عن دينكم ، وقوله تعالى : {إِنِ اسْتَطَاعُواْ} متعلق بما عنده ، والتعبير بإن لاستبعاد استطاعتهم وأنها لا تجوز إلا على سبيل الفرض كما يفرض المحال ، وفائدة التقييد بالشرط التنبيه على سخافة عقولهم وكون دوام عداوتهم فعلاً عبثاً لا يترتب عليه الغرض وليس متعلقاً بلا يزالون يقاتلونكم إذ لا معنى لدوامهم على العداوة إن استطاعوها لكنها مستبعدة.(5/360)
وذهب ابن عطية إلى أن {حتى} للغاية والتقييد بالشرط حينئذ لإفادة أن الغاية مستبعدة الوقوع والتقييد بالغاية الممتنع وقوعها شائع كما في قوله تعالى : {حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط} {الأعراف : 0 4 ] وفيه أن استبعاد وقوع الغاية مما يترتب عليه عدم انقطاع العداوة وقد أفاده صدر الكلام ، والقول بالتأكيد غير أكيد ، نعم يمكن الحمل على الغاية لو أريد من المقاتلة معناها الحقيقي ويكون الشرط متعلقاً بلا يزالون فيفيد التقييد أن تركهم المقاتلة في بعض الأوقات لعدم استطاعتهم إلا أن المعنى حينئذ يكون مبتذلاً كما لا يخفى. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 110}
قال البقاعى :
قال الحرالي : الاستطاعة مطاوعة النفس في العمل وإعطاؤها الانقياد فيه ، ثم قال : فيه إشعار بأن طائفة ترتد عن دينها وطائفة تثبت ، لأن كلام الله لا يخرج في بته واشتراطه إلا لمعنى واقع لنحو ما ويوضحه تصريح الخطاب في قوله : {ومن يرتدد} إلى آخره ؛ وهو من الردة ومنه الردة وهو كف بكره لما شأنه الإقبال بوفق - انتهى. وكان صيغة الافتعال المؤذنة بالتكلف والعلاج إشارة إلى أن الدين لا يرجع عنه إلا بإكراه النفس لما في مفارقة الإلف من الألم ؛ وإجماع القراء على الفك هنا للإشارة إلى أن الحبوط مشروط بالكفر ظاهراً باللسان وباطناً بالقلب فهو مليح بالعفو عن نطق اللسان مع طمأنينة القلب ، وأشارت قراءة الإدغام في المائدة إلى أن الصبر أرفع درجة من الإجابة باللسان وإن كان القلب مطمئناً. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 406}
وقال ابن عاشور :
وقوله : {إن استطعوا} تعريض بأنهم لا يستطيعون رد المسلمين عن دينهم ، فموقع هذا الشرط موقع الاحتراس مما قد تُوهِمُه الغاية في قوله : {حتى يردوكم عن دينكم} ولهذا جاء الشرط بحرف ( إن ) المشعر بأن شرطه مرجو عدم وقوعه.(5/361)
والرد : الصرف عن شيء والإرجاع إلى ما كان قبل ذلك ، فهو يتعدى إلى المفعول بنفسه وإلى ما زاد على المفعول بإلى وعَن ، وقد حذف هنا أحد المتعلِّقين وهو المتعلق بواسطة إلى لظهور أنهم يقاتلونهم ليردوهم عن الإسلام إلى الشرك الذي كانوا عليه ، لأن أهل كل دين إذا اعتقدوا صحة دينهم حرصوا على إدخال الناس فيه قال تعالى : {ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم} {البقرة : 120 ] ، وقال : {ودوا لو تكفرون كما كفروا} {النساء : 89 ].
وتعليق الشرط بإن للدلالة على أن استطاعتهم ذلك ولو في آحاد المسلمين أمر مستبعدُ الحصول لقوة إيمان المسلمين فتكون محاولة المشركين ردَّ واحد من المسلمين عناء باطلاً.
اعتراض ثان ، أو عطف على الاعتراض الذي قبله ، والمقصدُ منه التحذير ، لأنه لما ذكر حرص المشركين على رد المسلمين عن الإسلام وعقَّبه باستبعاد أن يصدر ذلك من المسلمين ، أعقبه بالتحذير منه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 331}
قوله تعالى : {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ}
قال الفخر :
لما بين تعالى أن غرضهم من تلك المقاتلة هو أن يرتد المسلمون عن دينهم ، ذكر بعده وعيداً شديداً على الردة ، فقال : {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والأخرة} واستوجب العذاب الدائم في النار. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 31}
وقال البقاعى :
ولما حماهم سبحانه وتعالى بإضافة الدين إليهم بأنهم يريدون سلبهم ما اختاروه لأنفسهم لحقيته وردهم قهراً إلى ما رغبوا عنه لبطلانه خوفهم من التراخي عنهم حتى يصلوا إلى ذلك فقال : {ومن يرتدد منكم} أي يفعل ما يقصدونه من الردة {عن دينه} وعطف على الشرط قوله : {فيمت} أي فيتعقب ردته أنه يموت {وهو} أي والحال أنه {كافر }. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 406}
قال ابن عاشور :
وجيء بصيغة {يرتدد} وهي صيغة مطاوعة إشارة إلى أن رجوعهم عن الإسلام إن قُدر حصوله لا يكون إلاّ عن محاولة من المشركين فإن من ذاق حلاوة الإيمان لا يسهل عليه رجوعه عنه ومن عرف الحق لا يرجع عنه إلاّ بعناء ، ولم يلاحظ المفعول الثاني هنا ؛ إذ لا اعتبار بالدين المرجوع إليه وإنما نيط الحكم بالارتداد عن الإسلام إلى أيِّ دين ومن يومئذٍ صار اسم الردة لقباً شرعياً على الخروج من دين الإسلام وإن لم يكن في هذا الخروج رجوع إلى دين كان عليه هذا الخارج.
وقوله ( فَيمُتْ ) معطوف على الشرط فهو كشرط ثان. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 332}(5/362)
فائدة
قال ابن العربى :
اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ رَحْمَةُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ فِي الْمُرْتَدِّ ، هَلْ يُحْبِطُ عَمَلَهُ نَفْسُ الرِّدَّةِ أَمْ لَا يَحْبَطُ إلَّا عَلَى الْمُوَافَاةِ عَلَى الْكُفْرِ ؟ فَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا يَحْبَطُ لَهُ عَمَلٌ إلَّا بِالْمُوَافَاةِ كَافِرًا.
وَقَالَ مَالِكٌ : يَحْبَطُ بِنَفْسِ الرِّدَّةِ.
وَيَظْهَرُ الْخِلَافُ فِي الْمُسْلِمِ إذَا حَجَّ ثُمَّ ارْتَدَّ ثُمَّ أَسْلَمَ ، فَقَالَ مَالِكٌ : يَلْزَمُهُ الْحَجُّ لِأَنَّ الْأَوَّلَ قَدْ حَبَطَ بِالرِّدَّةِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ : لَا إعَادَةَ عَلَيْهِ لِأَنَّ عَمَلَهُ بَاقٍ.
وَاسْتَظْهَرَ عَلَيْهِ عُلَمَاؤُنَا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى : {لَئِنْ أَشْرَكْت لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} وَقَالُوا هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُرَادُ بِهِ أُمَّتُهُ لِأَنَّهُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْتَحِيلُ مِنْهُ الرِّدَّةُ شَرْعًا.
وَقَالَ أَصْحَابُ الشَّافِعِيِّ : بَلْ هُوَ خِطَابٌ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى طَرِيقِ التَّغْلِيظِ عَلَى الْأَمَةِ ، وَبَيَانُ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى شَرَفِ مَنْزِلَتِهِ لَوْ أَشْرَكَ لَحَبِطَ عَمَلُهُ ، فَكَيْف أَنْتُمْ ؟ لَكِنَّهُ لَا يُشْرِكُ لِفَضْلِ مَرْتَبَتِهِ ، كَمَا قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ} ؛ وَذَلِكَ لِشَرَفِ مَنْزِلَتِهِنَّ وَإِلَّا فَلَا يُتَصَوَّرُ إتْيَانُ فَاحِشَةٍ مِنْهُنَّ ، صِيَانَةً لِصَاحِبِهِنَّ الْمُكَرَّمِ الْمُعَظَّمِ.
(5/363)
قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ ، حِينَ قَرَأَ : {ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَةَ نُوحٍ وَامْرَأَةَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا} ؛ وَاَللَّهِ مَا بَغَتْ امْرَأَةُ نَبِيٍّ قَطُّ ، وَلَكِنَّهُمَا كَفَرَتَا.
وَقَالَ عُلَمَاؤُنَا : إنَّمَا ذَكَرَ الْمُوَافَاةَ شَرْطًا هَاهُنَا ، لِأَنَّهُ عَلَّقَ عَلَيْهَا الْخُلُودَ فِي النَّارِ جَزَاءً ، فَمَنْ وَافَى كَافِرًا خَلَّدَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ بِهَذِهِ الْآيَةِ ، وَمَنْ أَشْرَكَ حَبِطَ عَمَلُهُ بِالْآيَةِ الْأُخْرَى ، فَهُمَا آيَتَانِ مُفِيدَتَانِ لِمَعْنَيَيْنِ مُخْتَلِفَيْنِ وَحُكْمَيْنِ مُتَغَايِرَيْنِ ، وَمَا خُوطِبَ بِهِ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَهُوَ لِأَمَتِهِ حَتَّى يَثْبُتَ اخْتِصَاصُهُ بِهِ ، وَمَا وَرَدَ فِي أَزْوَاجِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَإِنَّمَا قِيلَ ذَلِكَ فِيهِنَّ لِيُبَيِّنَ أَنَّهُ لَوْ تُصُوِّرَ لَكَانَ هَتْكًا لِحُرْمَةِ الدِّينِ وَحُرْمَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِكُلِّ هَتْكٍ حُرْمَةُ عِقَابٍ ، وَيُنَزَّلُ ذَلِكَ مَنْزِلَةَ مَنْ عَصَى فِي شَهْرٍ حَرَامٍ ، أَوْ فِي الْبَلَدِ الْحَرَامِ ، أَوْ فِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ، فَإِنَّ الْعَذَابَ يُضَاعَفُ عَلَيْهِ بِعَدَدِ مَا هَتَكَ مِنْ الْحُرُمَاتِ ، وَاَللَّهُ الْوَاقِي لَا رَبَّ غَيْرُهُ. أ هـ {أحكام القرآن لابن العربى حـ 1 صـ 283 ـ 284}(5/364)
فائدة
قال العلامة الشنقيطى :
قوله تعالى : {وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ} هذه الآية الكريمة تدل على أن الرّدة لا تحبط العمل إلا بقيد الموت على الكفر بدليل قوله {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ}, وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الردة تحبط العمل مطلقا ولو رجع إلى الإسلام ؛ فكل ما عمل قبل الردة أحبطته الردة كقوله تعالى : {وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْأِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ} الآية, وقوله : {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} الآية, وقوله : {وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ}.
والجواب عن هذا أن هذه من مسائل التعارض المطلق والمقيد, فيحمل المطلق على المقيد, فتقيد آيات المطلقة بالموت على الكفر, وهذا مقتضى الأصول, وعليه الإمام الشافعي ومن وافقه, وخالف مالك في هذه المسألة, وقدم آيات الإطلاق, وقول الشافعي في هذه المسألة أجرى على الأصول, والعلم عند الله تعالى.(5/365)
بحث نفيس فى {الارتداد وحرية الرأى}
هل لمسلم أن يرتد عن دينه ويبقى مصون الدم ؟ .
كان الارتداد عن الدين جزءا من حرية العقل والضمير التى أقام الإسلام عليها دعوته ، فمن شرح الله صدره بالإسلام بقى عليه وعاش فيه ، وإلا خرج وكفيت جماعة المسلمين شره!.
وظل هذا الحكم قرابة عشرين سنة منذ بعثة النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وكان شرطا مقررا فى معاهدة الحديبية.
روى ثابت عن أنس أن قريشا صالحوا النبى فاشترطوا : أن من جاءنا منكم لم نرده عليكم ، ومن جاءكم منا رددتموه علينا!
فقالوا : يا رسول الله..
أنكتب هذا ؟ قال : ، نعم ، إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله ، ومن جاءنا منهم سيجعل الله له فرجا ومخرجا ".
وقد رأى المسلمون غضاضة شديدة فى قبول هذا النص من المعاهدة ، ولكن الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أمرهم- بوحى من الله- أن ينزلوا عنده ، فقبلوه مكرهين ، وليس أبلغ من هذا المسلك فى الإبانة عن سماحة الإسلام ونزعته إلى إقرار الحرية العقلية والنفسية بين الناس أجمعين.
غير أن كيد خصوم الإسلام له استغل هذه السماحة فى النيل منه ، فتأمر اليهود فيما بينهم على أن يتظاهر فريق منهم بالدخول فى الإسلام ، فيثبتوا استعدادهم لترك دينهم القديم ، ويبرءوا من تهمة التعصب له ، ثم يرتدوا بعد ذلك عن الإسلام ليشيع بين جماهير الأميين أن اليهود ما هجروا الدين الجديد إلا لما استبان لهم من بطلانه وتفاهته.
" وقالت طائفة من أهل الكتاب آمنوا بالذي أنزل على الذين آمنوا وجه النهار واكفروا آخره لعلهم يرجعون ولا تؤمنوا إلا لمن تبع دينكم...".
فهل يسكت الإسلام على هذا التلاعب ؟ وهل يداويه بمنع الدخول فيه ، أم يحظر الخروج منه ؟ .(5/366)
وثم شىء آخر يتصل بمعنى الردة وأسلوب التمرد على الدين وجحد تعاليمه ، قد يكفر البعض بالله فى سريرتهم ، فلا يعلم أحد بكفرهم ، وقد يبدو هذا الكفر فى تصرفات مستخفية ومواقف مائعة ، وتكشف الأحداث المتتابعة عن نفاق أولئك القوم وخبث طويتهم ، ومع ذلك فإن الإسلام لم يأمر بقتل هؤلاء ، بل المأثور عن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ رفضه الإذن بقتلهم.
ولكن الارتداد الحاسم عن الإسلام ومعالنة المسلمين بالانفصال عن الدين معالنة تنطوى على النيل من قواعده والإنكار لأصوله تشبه فى أيامنا هذه جريمة الخيانة العظمى وتستحق العقاب الذى تواضع الناس على رصده لهذه الجريمة المنكرة.
فإن الإسلام كان يواجه حربا تستهدف اجتثاث جذوره ، حربا تريد رد جمهور المسلمين عن الدين الذى ارتضوه.
" ولا يزالون يقاتلونكم حتى يردوكم عن دينكم إن استطاعوا ومن يرتدد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون ".
" ولن ترضى عنك اليهود ولا النصارى حتى تتبع ملتهم…".
وكان المرتد المعالن يترك هذه الجبهة لينحاز بسيفه إلى الجبهة المناوئة ، وربما كان أشد خطرا على الدين ممن بقوا على شركهم فلم يدخلوا الإسلام لينسلخوا عنه بعد قليل!.
فكيف يطلب من الإسلام أن يمنح هؤلاء المرتدين حق الحياة ليشاركوا فى قتله.
إن المسألة هنا خرجت كل الخروج عن نطاق الحرية العقلية المنشودة ، ودخلت فى تحديد الدائرة التى تدفع بها الجماعة عن مصلحتها ضد الحرية الشخصية الطائشة ، ويوم يصل الأمر فى عصرنا هذا إلى حكم يبيح لامرئ أن يبيع وطنه ، أو لفرد أن يعرض مستقبل أمة للخطر ، فإننا سنبيح باسم الإسلام أن يرتد عن الإسلام من يشاء.(5/367)
والصحيح أن المرتد أحق الناس بوصف الكفر وأجدرهم بالعقاب عليه فالكفر الصراح هو جحد الحق بعد معرفته ، أى أنه ينشأ عن فساد فى النفس لا عن قصور فى العقل وهنا مناط المؤاخذة ، وهل أحق بها من قوم : "يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ".
ويوم يتبين الهدى لرجل ثم تنزعه بواعث الهوى ، ثم تسخره فى حربه فلا جرم أن يقطع عنقه. أ هـ {الإسلام والاستبداد السياسى صـ 93 ـ 94}
قوله تعالى : {فَأُوْلئِكَ حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا والأخرة }
قال البقاعى :
ولما أفرد الضمير على اللفظ نصاً على كل فرد فرد جمع لأن إخزاء الجمع إخزاء لكل فرد منهم ولا عكس ، وقرنه بفاء السبب إعلاماً بأن سوء أعمالهم هو السبب في وبالهم فقال : {فأولئك} البعداء البغضاء {حبطت أعمالهم} أي بطلت معانيها وبقيت صورها ؛ من حبط الجرح إذا برأ ونفي أثره. وقال الحرالي : من الحبط وهو فساد في الشيء الصالح يأتي عليه من وجه يظن به صلاحه وهو في الأعمال بمنزلة البطح في الشيء القائم الذي يقعده عن قيامه كذلك الحبط في الشيء الصالح يفسده عن وهم صلاحه {في الدنيا} بزوال ما فيها من روح الأنس بالله سبحانه وتعالى ولطيف الوصلة به وسقوط إضافتها إليهم إلا مقرونة ببيان حبوطها فقط بطل ما كان لها من الإقبال من الحق والتعظيم من الخلق {والآخرة} بإبطال ما كان يستحق عليها من الثواب بصادق الوعد. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 406 ـ 407}
قال الآلوسى : (5/368)
{ فَأُوْلَئِكَ} إشارة إلى الموصول باعتبار اتصافه بما في حيز الصلة من الارتداد والموت على الكفر وما فيه من البعد للإشعار ببعد منزلة من يفعل ذلك في الشر والفساد والجمع والإفراد نظراً للفظ والمعنى. {حَبِطَتْ أعمالهم} أي صارت أعمالهم الحسنة التي عملوها في حالة الإسلام فاسدة بمنزلة ما لم تكن. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 110}
فصل
قال الفخر :
المراد من إحباط العمل ليس هو إبطال نفس العمل ، لأن العمل شيء كما وجد فني وزال ، وإعدام المعدوم محال ، ثم اختلف المتكلمون فيه ، فقال المثبتون للإحباط والتكفير : المراد منه أن عقاب الردة الحادثة يزيل ثواب الإيمان السابق ، إما بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي هاشم وجمهور المتأخرين من المعتزلة أولاً بشرط الموازنة على ما هو مذهب أبي علي ، وقال المنكرون للإحباط بهذا المعنى المراد من الإحباط الوارد في كتاب الله هو أن المرتد إذا أتى بالردة فتلك الردة عمل محبط لأن الآتي بالردة كان يمكنه أن يأتي بدلها بعمل يستحق به ثواباً فإذا لم يأت بذلك العمل الجيد وأتى بدله بهذا العمل الرديء الذي لا يستفيد منه نفعاً بل يستفيد منه أعظم المضار يقال : إنه أحبط عمله أي أتى بعمل باطل ليس فيه فائدة بل فيه مضرة ، ثم قال المنكرون للإحباط هذا الذي ذكرناه في تفسير الإحباط ، إما أن يكون حقيقة في لفظ الإحباط ، وإما أن لا يكون ، فإن كان حقيقة فيه وجب المصير إليه ، وإن كان مجازاً وجب المصير إليه ، لأنا ذكرنا الدلائل القاطعة في مسألة أن الموافاة شرط في صحة الإيمان ، على أن القول بأن أثر الفعل الحادث يزيل أثر الفعل السابق محال.(5/369)
أما حبوط الأعمال في الدنيا ، فهو أنه يقتل عند الظفر به ويقاتل إلى أن يظفر به ولا يستحق من المؤمنين موالاة ولا نصراً ولا ثناء حسناً ، وتبين زوجته منه ولا يستحق الميراث من المسلمين ، ويجوز أن يكون المعنى في قوله : {حَبِطَتْ أعمالهم فِي الدنيا} أن ما يريدونه بعد الردة من الإضرار بالمسلمين ومكايدتهم بالانتقال عن دينهم يبطل كله ، فلا يحصلون منه على شيء لإعزاز الله الإسلام بأنصاره فتكون الأعمال على هذا التأويل ما يعملونه بعد الردة ، وأما حبوط أعمالهم في الآخرة فعند القائلين بالإحباط معناه أن هذه الردة تبطل استحقاقهم للثواب الذي استحقوه بأعمالهم السالفة ، وعند المنكرين لذلك معناه : أنهم لا يستفيدون من تلك الردة ثواباً ونفعاً في الآخرة بل يستفيدون منها أعظم المضار ، ثم بين كيفية تلك المضرة فقال تعالى : {وَأُوْلئِكَ أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 33}
وقال ابن عاشور :
وفعل حبط من باب سمع ويتعدى بالهمزة ، قال اللغويون أصله من الحبط بفتح الباء وهو انتفاخ في بطون الإبل من كثرة الأكل فتموت من ذلك ، فإطلاقه على إبطال الأعمال تمثيل ؛ لأن الإبل تأكل الخضر شهوة للشبع فيئول عليها بالموت ، فشبه حال من عمل الأعمال الصالحة لنفعها في الآخرة فلم يجد لها أثراً بالماشية التي أكلت حتى أصابها الحبط ، ولذلك لم تقيد الأعمال بالصالحات لظهور ذلك التمثيل.
وحَبَطُ الأعمال : زوال آثارها المجعولة مرتبة عليها شرعاً ، فيشمل آثارها في الدنيا والثواب في الآخرة وهو سر قوله : {في الدنيا والآخرة}.
فالآثار التي في الدنيا هي ما يترتب على الإسلام من خصائص المسلمين وأولها آثار كلمة الشهادة من حُرمة الأنفس والأموال والأعراض والصلاة عليه بعد الموت والدفن في مقابر المسلمين.(5/370)
وآثار العبادات وفضائل المسلمين بالهجرة والأخُوَّة التي بين المهاجرين والأنصار وولاء الإسلام وآثار الحقوق مثل حق المسلمين في بيت المال والعطاء وحقوق التوارث والتزويج فالولايات والعدالة وما ضمنه الله للمسلمين مثل قوله : {من عمل صالحاً من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة} {النحل : 97 ].
وأما الآثار في الآخرة فهي النجاة من النار بسبب الإسلام وما يترتب على الأعمال الصالحات من الثواب والنعيم.
والمراد بالأعمال : الأعمال التي يتقربون بها إلى الله تعالى ويرجون ثوابها بقرينة أصل المادة ومقام التحذير ؛ لأنه لو بطلت الأعمال المذمومة لصار الكلام تحريضاً ، وما ذكرت الأعمال في القرآن مع حبطت إلاّ غير مقيدة بالصالحات اكتفاء بالقرينة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 332 ـ 333}
قوله تعالى : {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }
قال البقاعى :
ولما كانت الردة أقبح أنواع الكفر كرر المناداة بالبعد على أهلها فقال : {وأولئك أصحاب النار} فدل بالصحبة على أنهم أحق الناس بها فهم غير منفكين منها.
ولما كانوا كذلك كانوا كأنهم المختصون بها دون غيرهم لبلوغ ما لهم فيها من السفول إلى حد لا يوازيه غيره فتكون لذلك اللحظ لهم بالأيام من غيرهم فقال تقريراً للجملة التي قبلها : {هم فيها خالدون} أي مقيمون إقامة لا آخر لها ، وهذا الشرط ملوح إلى ما وقع بعد موت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الردة لأن الله سبحانه وتعالى إذا ساق شيئاً مساق الشرط اقتضى أنه سيقع شيء منه فيكون المعنى : ومن يرتد فيتب عن ردته يتب الله عليه كما وقع لأكثرهم ، وكان التعبير بما قد يفيد الاختصاص إشارة إلى أن عذاب غيرهم عدم بالنسبة إلى عذابهم لأن كفرهم أفحش أنواع الكفر. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 407}
قال ابن عاشور : (5/371)
وقوله : {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} عطف على جملة الجزاء على الكفر ، إذ الأمور بخواتمها ، فقد ترتب على الكفر أمران : بطلان فضل الأعمال السالفة ، والعقوبة بالخلود في النار ، ولكون الخلود عقوبة أخرى أعيد اسم الإشارة في قوله : {وأولئك أصحاب النار}.
وفي الإتيان باسم الإشارة في الموضعين التنبيه على أنهم أحرياء بما ذكر بعد اسم الإشارة من أجل ما ذكر قبل اسم الإشارة.
هذا وقد رتب حبط الأعمال على مجموع أمرين الارتداد والموت على الكفر ، ولم يقيد الارتداد بالموت عليه في قوله تعالى : {ومن يكفر بالإيمان فقط حبط عمله وهو في الآخرة من الخاسرين} {المائدة : 5 ] وقوله تعالى : {لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين} {الزمر : 65 ] وقوله : {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} {الأنعام : 88 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 334}
وقال الخازن :
{ فأولئك حبطت أعمالهم} أي بطلت أعمالهم {في الدنيا والآخرة} وهو أن المرتد يقتل وتبين زوجته منه ، ولا يستحق الميراث من أقاربه المؤمنين ولا ينصر إن استنصر ولا يمدح ولا يثنى عليه ويكون ماله فيئاً للمسلمين هذا في الدنيا ، ولا يستحق الثواب على أعماله ويحبط أجرها في الآخرة. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 142}(5/372)
سؤال : فإن قلت : ما السر في اقتران هذين الشرطين في هذه الآية مع خلو بقية نظائرها عن ثاني الشرطين ، قلت : تلك الآي الأخر جاءت لتهويل أمر الشرك على فرض وقوعه من غير معين كما في آية {ومن يكفر بالإيمان} {المائدة : 5 ] أو وقوعه ممن يستحيل وقوعه منه كما في آية : {ولو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون} {الأنعام : 88 ] وآية {لئن أشركت ليحبطن عملك} {الزمر : 65 ] فاقتصر فيها على ما ينشأ عن الشرك بعد الإيمان من حبْط الأعمال ، ومن الخسارة بإجمال ، أما هذه الآية فقد وردت عقب ذكر محاولة المشركين ومعالجتهم ارتدادَ المسلمين المخاطبين بالآية ، فكان فرض وقوع الشرك والارتداد منهم أقرب ، لمحاولة المشركين ذلك بقتال المسلمين ، فذكر فيها زيادة تهويل وهو الخلود في النار. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 335}
فصل
قال ابن عاشور :
وقد اختلف العلماء في المرتد عن الإسلام إذا تاب من ردته ورجع إلى الإسلام ، فعند مالك وأبي حنيفة أن من ارتد من المسلمين ثم عاد إلى الإسلام وتاب لم ترجع إليه أعماله التي عملها قبل الارتداد فإن كان عليه نذور أو أيمان لم يكن عليه شيء منها بعد عودته إلى الإسلام ، وإن كان حج قبل أن يرتد ثم عاد إلى الإسلام استأنف الحج ولا يؤخذ بما كان عليه زمن الارتداد إلاّ ما لو فعله في الكفر أخذ به. وقال الشافعي إذا عاد المرتد إلى الإسلام عادت إليه أعماله كلها ما له وما عليه.
فأما حجة مالك فقال ابن العربي قال علماؤنا إنما ذكر الله الموافاة شرطاً ههنا ، لأنه عَلَّق الخلود في النار عليها فمن أوفى على الكفر خلده الله في النار بهذه الآية ، ومن أَشرك حبط عمله بالآية الأخرى فهما آيتان مفيدتان لمعنيين وحكمين متغايرين أ هـ(5/373)
يريد أن بين الشرطين والجوابين هنا توزيعاً فقوله : {فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة} جواب لقوله : {ومن يرتدد منكم عن دينه}. وقوله : {وأولئك أصحاب النار هم فيها خالدون} جواب لقوله : {فيمت وهو كافر} ، ولعل في إعادة {وأولئك} إيذاناً بأنه جواب ثان ، وفي إطلاق الآي الأخرى عن التقييد بالموت على الكفر قرينة على قصد هذا المعنى من هذا القيد في هذه الآية.
وفي هذا الاستدلال إلغاء لقاعدة حمل المطلق على المقيد ، ولعل نظر مالك في إلغاء ذلك أن هذه أحكام ترجع إلى أصول الدين ولا يكتفى فيها بالأدلة الظنية ، فإذا كان الدليل المطلق يحمل على المقيد في فروع الشريعة فلأَنه دليل ظني ، وغالب أدلة الفروع ظنية ، فأما في أصول الاعتقاد فأخَذَ من كل آية صريحَ حكمها ، وللنظر في هذا مجال ، لأن بعض ما ذكر من الأعمال راجع إلى شرائع الإسلام وفروعه كالحج.
والحجة للشافعي إعمال حمل المطلق على المقيد كما ذكره الفخر وصوبه ابن الفرس من المالكية.
فإن قلت فالعمل الصالح في الجاهلية يقرره الإسلام فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لحِكيم بن حزام "أسْلَمْتَ على ما أسلمتَ عليه من خير "فهل يكون المرتد عن الإسلام أقلَّ حالاً من أهل الجاهلية ؟ فالجواب أن حالة الجاهلية قبل مجيء الإسلام حالة خُلُو عن الشريعة فكان من فضائل الإسلام تقريرها.
(5/374)
وقد بني على هذا خلاف في بقاء حكم الصحبة للذين ارتدوا بعد النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم رجعوا إلى الإسلام مثل قُرة بن هبيرة العامري ، وعلقمة بن عُلاثة ، والأشعث بن قيس ، وعيينَةَ بن حصن ، وعَمْرو بن معديكرب ، وفي "شرح القاضي زكريا على ألفية العراقي" : وفي دخول من لقي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مُسلماً ثم ارتدَّ ثم أسلَم بعد وفاة الرسول في الصحابة نظر كبير اه قال حُلولو في "شرح جمع الجوامع" ولو ارتد الصحابي في حياة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورجع إلى الإيمان بعد وفاته جرى ذلك على الخلاف في الردة ، هل تحبط العمل بنفس وقوعها أو إنما تحبطه بشرط الوفاة عليها ، لأن صحبة الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ فضيلة عظيمة ، أما قبول روايته بعد عودته إلى الإسلام ففيها نظر ، أما من ارتد في حياة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ورجع إلى الإسلام في حياته وصَحِبه ففضل الصحبة حاصل له مثل عبد الله بن سعد بن أبي سَرْح. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 334}
لطائف وفوائد
قال ابن عاشور :
وكانت هذه الآية من دلائل النبوة ، إذا وقع في عام الردة ، أن من بقي في قلبهم أثر الشرك حاولوا من المسلمين الارتداد وقاتلوهم على ذلك فارتد فريق عظيم وقام لها الصديق رضي الله عنه بعزمه ويقينه فقاتلهم فرجع منهم من بقي حياً ، فلولا هذه الآية لأَيسوا من فائدة الرجوع إلى الإسلام وهي فائدة عدم الخلود في النار.
وقد أشار العطف في قوله : {فيمت بالفاء المفيدة للتعقيب إلى أن الموت يعقب الارتداد وقد علم كل أحد أن معظم المرتدين لا تحضر آجالهم عقب الارتداد فيعلم السامع حينئذٍ أن المرتد يعاقب بالموت عقوبة شرعية ، فتكون الآية بها دليلاً على وجوب قتل المرتد.(5/375)
وقد اختلف في ذلك علماء الأمة فقال الجمهور يستتاب المرتد ثلاثة أيام ويسجن لذلك فإن تاب قبلت توبته وإن لم يتب قُتل كافراً وهذا قول عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان وبه قال مالك وأحمد بن حنبل وإسحاق بن راهويه سواء كان رجلاً أو امرأة ، وقال أبو حنيفة في الرجل مثلَ قولهم ، ولم ير قتل المرتدة بل قال تسترق ، وقال أصحابه تحبس حتى تُسلم ، وقال أبو موسى الأشعري ومعاذ بن جبل وطاووس وعبيد الله بن عمرو وعبد العزيز بن الماجشون والشافعي يقتل المرتد ولا يستتاب ، وقيل يستتاب شهراً.
وحجة الجميع حديث ابن عباس مَن بدل دينه فاقتلوه وفعلُ الصحابة فقد قاتل أبوبكر المرتدين وأحرق علي السبائيَّة الذين ادَّعَوْا ألوهية عليّ ، وأجمعوا على أن المراد بالحديث مَن بدل دينه الذي هو الإسلامْ ، واتفق الجمهور على أن ( مَنْ ) شاملة للذكر والأنثى إلاّ من شذ منهم وهو أبو حنيفة وابن شُبرمة والثوري وعطاء والحسن القائلون لا تُقتل المرأة المرتدة واحتجوا بنَهي رسول الله عن قتل النساء فخصوا به عمومَ مَن بَدَّل دينه ، وهو احتجاج عجيب ، لأن هذا النهي وارد في أحكام الجهاد ، والمرأةُ من شأنها ألا تقاتل ، فإنه نهي أيضاً عن قتل الرهبان والأحبار أفيقول هؤلاء : إن من ارتد من الرهبان والأحبار بعد إسلامه لا يقتل ؟
وقد شدد مالك وأبو حنيفة في المرتد بالزندقة أي إظهار الإسلام وإبطال الكفر فقالا : يقتل ولا تقبل توبته إذا أُخذ قبل أن يأتي تائباً.
ومن سبَّ النبي قُتِل ولا تُقبل توبته.
(5/376)
هذا ، واعلم أن الردة في الأصل هي الخروج من عقيدة الإسلام عند جمهور المسلمين ؛ والخروجُ من العقيدة وتركُ أعمال الإسلام عند الخوارج وبعض المعتزلة القائلين بكفر مرتكب الكبيرة ، ويدل على خروج المسلم من الإسلام تصريحه به بإقراره نصّاً أو ضمناً فالنص ظاهر ، والضمن أن يأتي أحد بلفظ أو فعل يتضمن ذلك لا يحتمل غيره بحيث يكون قد نص الله ورسوله أو أجمع المسلمون على أنه لا يصدر إلاّ عن كافر مثل السجود للصنم ، والتردد إلى الكنائس بحالة أصحاب دينها.
وألحقوا بذلك إنكار ما علم بالضرورة مجيء الرسول به ، أي ما كان العلم به ضرورياً قال ابن راشد في الفائق} "في التكفير بإنكار المعلوم ضرورةً خلاف". وفي ضبط حقيقته أنظار للفقهاء محلها كتب الفقه والخلاف.
وحكمة تشريع قتل المرتد مع أن الكافر بالأصالة لا يقتل أن الارتداد خروج فرد أو جماعة من الجامعة الإسلامية فهو بخروجه من الإسلام بعد الدخول فيه ينادي على أنه لما خالط هذا الدينَ وجدَه غير صالح ووجد ما كان عليه قبلَ ذلك أصلحَ فهذا تعريض بالدين واستخفاف به ، وفيه أيضاً تمهيد طريق لمن يريد أن ينسل من هذا الدين وذلك يفضي إلى انحلال الجامعة ، فلو لم يُجعل لذلك زاجر ما انزجر الناس ولا نجد شيئاً زاجراً مثل توقع الموت ، فلذلك جُعل الموت هو العقوبة للمرتد حتى لا يدخل أحد في الدين إلاّ على بصيرة ، وحتى لا يخرج منه أحد بعد الدخول فيه ، وليس هذا من الإكراه في الدين المنفي بقوله تعالى : {لا إكراه في الدين} {البقرة : 256 ] على القول بأنها غير منسوخة ، لأن الإكراه في الدين هو إكراه الناس على الخروج من أديانهم والدخول في الإسلام وأما هذا فهو من الإكراه على البقاء في الإسلام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 336 ـ 337}(5/377)
كلام نفيس للسعدى فى الآية
الجمهور على أن تحريم القتال في الأشهر الحرم ، منسوخ بالأمر بقتال المشركين حيثما وجدوا ، وقال بعض المفسرين : إنه لم ينسخ ، لأن المطلق محمول على المقيد ، وهذه الآية مقيدة لعموم الأمر بالقتال مطلقا ؛ ولأن من جملة مزية الأشهر الحرم ، بل أكبر مزاياها ، تحريم القتال فيها ، وهذا إنما هو في قتال الابتداء ، وأما قتال الدفع فإنه يجوز في الأشهر الحرم ، كما يجوز في البلد الحرام.
ولما كانت هذه الآية نازلة بسبب ما حصل ، لسرية عبد الله بن جحش ، وقتلهم عمرو بن الحضرمي ، وأخذهم أموالهم ، وكان ذلك - على ما قيل - في شهر رجب ، عيرهم المشركون بالقتال بالأشهر الحرم ، وكانوا في تعييرهم ظالمين ، إذ فيهم من القبائح ما بعضه أعظم مما عيروا به المسلمين ، قال تعالى في بيان ما فيهم : {وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ} أي : صد المشركين من يريد الإيمان بالله وبرسوله ، وفتنتهم من آمن به ، وسعيهم في ردهم عن دينهم ، وكفرهم الحاصل في الشهر الحرام ، والبلد الحرام ، الذي هو بمجرده ، كاف في الشر ، فكيف وقد كان في شهر حرام وبلد حرام ؟! {وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ} أي : أهل المسجد الحرام ، وهم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأصحابه ، لأنهم أحق به من المشركين ، وهم عماره على الحقيقة ، فأخرجوهم {مِنْهُ} ولم يمكنوهم من الوصول إليه ، مع أن هذا البيت سواء العاكف فيه والباد ، فهذه الأمور كل واحد منها {أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ} في الشهر الحرام ، فكيف وقد اجتمعت فيهم ؟! فعلم أنهم فسقة ظلمة ، في تعييرهم المؤمنين.
ثم أخبر تعالى أنهم لن يزالوا يقاتلون المؤمنين ، وليس غرضهم في أموالهم وقتلهم ، وإنما غرضهم أن يرجعوهم عن دينهم ، ويكونوا كفارا بعد إيمانهم حتى يكونوا من أصحاب السعير ، فهم باذلون قدرتهم في ذلك ، ساعون بما أمكنهم ، {ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون}.(5/378)
وهذا الوصف عام لكل الكفار ، لا يزالون يقاتلون غيرهم ، حتى يردوهم عن دينهم ، وخصوصا ، أهل الكتاب ، من اليهود والنصارى ، الذين بذلوا الجمعيات ، ونشروا الدعاة ، وبثوا الأطباء ، وبنوا المدارس ، لجذب الأمم إلى دينهم ، وتدخيلهم عليهم ، كل ما يمكنهم من الشبه ، التي تشككهم في دينهم.
ولكن المرجو من الله تعالى ، الذي مَنّ على المؤمنين بالإسلام ، واختار لهم دينه القيم ، وأكمل لهم دينه ، أن يتم عليهم نعمته بالقيام به أتم القيام ، وأن يخذل كل من أراد أن يطفئ نوره ، ويجعل كيدهم في نحورهم ، وينصر دينه ، ويعلي كلمته.
وتكون هذه الآية صادقة على هؤلاء الموجودين من الكفار ، كما صدقت على من قبلهم : {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ}.
ثم أخبر تعالى أن من ارتد عن الإسلام ، بأن اختار عليه الكفر واستمر على ذلك حتى مات كافرا ، {فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ} لعدم وجود شرطها وهو الإسلام ، {وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ }.
ودلت الآية بمفهومها ، أن من ارتد ثم عاد إلى الإسلام ، أنه يرجع إليه عمله الذي قبل ردته ، وكذلك من تاب من المعاصي ، فإنها تعود إليه أعماله المتقدمة. أ هـ {تفسير السعدى صـ 97}
موعظة
(5/379)
أحسن الحسنات التوحيد لأنه أس الكل ولذلك لا يوزن ، وجميع الأعمال الصالحة يزيد فى نور الإيمان. فعليك بالطاعة والحسنات والوصول إلى المعارف الإلهية فإن العلم بالله أفضل الأعمال ولذلك لما قيل يا رسول الله أى الأعمال أفضل قال "العلم بالله "فقيل نسأل عن العمل وتجيب عن العلم فقال "إن قليل العمل ينفع مع العلم وإن كثير العمل لا ينفع مع الجهل "وذلك إنما يحصل بتصفية الباطن مع صقيل التوحيد وأنواع الأذكار ولا يعقلها إلا العالمون. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 415}
من فوائد ابن عرفة فى الآية
قوله تعالى : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ... }.
قال ابن عرفة : القتال الذي وقع منهم في الشّهر الحرام ، إن كان غلطا فهو كبير موجب للإثم ، وإن كان اجتهادا أجري على الخلاف في الاجتهاد هل يرفع حكم الخطأ أم لا ؟ فإن قلت : لم أعيد لفظ القتال مظهرا ، وهلا كان مضمرا ، ولم أعيد منكرا وهلا كان معرفا ؟ قيل : الجواب أنّ ذلك لاختلاف المتكلّم فالأول في الكلام السائل والثاني في كلام المسؤول.
قال الفراء وهو معطوف على كبير.
قال ابن عطية : ( وهو خطأ لأنه ( يؤدي ) إلى أنّ قوله "وَكُفْرٌ بِهِ "معطوف على ( كَبِير ) فيلزم أن يكون إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر عند الله من الكفر. وأجيب عنه بثلاثة أ وجه :
الأول : لأبي حيان أنّ الكلام تمّ عند {وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله} وما بعده ابتداء.(5/380)
الثاني : قال ابن عرفة : الكفر قسمان : صريح حقيقي وهو الكفر بالشرك ، وكفر ) حكمي غير صريح. فنقول : ( دلت الآية ) على أن القتال في الشهر الحرام كفر وإن لم يعتقد فاعله الكفر ، وكذلك إخراج أهل المسجد الحرام منه كفر وإن لم يعتقده فاعله فجعل الشارع إخراج أهل المسجد الحرام منه أكبر إثما من الكفر الحكمي الذي نشأ عن القتال في الشهر الحرام ، وهذا لا شيء فيه ولا سيما إن جعلنا الضمير في "وَكُفْرٌ بِهِ "عائدا على "عن سَبِيلِ الله ".
الجواب الثالث : لبعض الطلبة قال : أهل المسجد الحرام عام يشمل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وغيره ولا شك أن اخراج النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من المسجد الحرام كفر وزيادة فهو أشد من الكفر بالله عز وجل فقط.
وحكى ابن عطية عن الزهري ومجاهد ، أن {قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ} منسوخ بقول الله تعالى {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} ورده القرطبي : بأن {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} عام وهذا خاص ، والخاص يقضي على العام. ؟
وأجاب عن ذلك ابن عرفة : بأن الأصوليين قالوا : إنّ العام إذا تأخر عن الخاص فإنّه ينسخه.
قلت : قال أبو عمرو بن الحاجب ما نصه : "يجوز تخصيص الكتاب بالكتاب ". أبو حنيفة والقاضي والإمام : إن كان الخاص متأخرا وإلا فالعام ناسخ ، فإن جهل تساقطا.
قوله تعالى : {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ...}.
قال ابن عرفة : في ( لفظها ) رحمة وتفضل من الله عز وجل لأن قبلها {حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ} فكان المناسب أن يقول : ومن ( يُرَدّ ) منكم عن دينه ؛ لكنّه لو قيل هكذا لدخل في عمومه من أكره على الردة. فقال : ومن "يَرْتَدِدِ "( ليختص ) الوعيد بمن ارتدّ مختارا متعمدا.
فإن قلت : هلا قيل : فَيَمُتْ وَهْوَ مرتدّ ، ليناسب أوّل الآية آخرها ، ويسمونه ردّ ( العجز ) على الصدر ؟
(5/381)
( قال : قلت ) : إنّ من عادتهم يجيبون بأنه لو قيل كذلك لتناول مرتكب الكبيرة من المسلمين لأنه يصدق عليه أنّه مرتد عن دينه لقوله تعالى : يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217)
{ إِنَّ الدين عِندَ الله الإسلام} وفسر الإسلام في الحديث بأن قال : "هو أَن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمدا رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، ( وتصوم رمضان ) وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلا "فالإسلام ( حقيقة ) مركبة من هذه الخمسة أمور ( فمتى ) عدم بعضها عدم الاسلام لامتناع وجود الماهية بدون أحد أجزائها فمن فعلها كلّها ثم بدا له في بعضها فلم يفعله يصدق عليه أنه مرتدّ عن دينه ، وأنه غير مسلم ، فلذلك قال : {فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ}.
قال أبو حيان : قوله "وهو كافر "حال مؤكدة.
ورده ابن عرفة بوجهين :
الأول : منهما ما قلناه : من أنّه احتراز من موت مرتكب الكبيرة ، فإنه مات مرتدّا عن دينه الذي هو الإسلام.
الجواب الثاني : أنّها إنما تكون مؤكدة أن لو كانت حالا من "يرْتَدِد "ونحن إنّما جعلناها حالا من "يَمُتْ "والمرتدّ يحتمل أن يراجع الإسلام فيموت مسلما.
(5/382)
قيل لابن عرفة : فيمت معطوف على "يَرتَدِدْ "بالفاء التي للتعقيب ، فهو بعقب رِدّته مات ؟ فقال : ( هما زمانان ) ارتدّ في الأول ومات في الثاني ، إمّا مسلما أو كافرا ، في حال مبينة بلا شكّ.
قوله تعالى : {فأولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ...}.
عامل ( أولئك ) لفظ "مَن "( ثم ) معناها ، فوجه أبو حيان من طريق الإعراب اللفظي.
قال ابن عرفة : قالوا وتوجيهه من جهة المعنى أن الأول راجع إلى فعلهم القبيح في الدنيا ، فالمناسب فيه ( تقليل ) الفاعل تنفيرا عنه فلذلك أفرده ، والثاني راجع إلى جزاء ذلك والعقوبة عليه في الدار الآخرة فالمناسب فيه لفظ العموم في جميع الفاعلين خشية أن يتوهم خصوص ذلك الوعيد بالبعض دون البعض.
قال ابن عرفة : وإحباط أعمالهم في الدنيا بترك الصلاة ( عليهم ) وعدم دفنهم في مقابر المسلمين ومنع أقاربهم من إرثهم.
قال الزمخشري : وذلك مما يتوقع هنا بالردة للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام واستدامتها والموت عليها من ثواب الآخرة.
قال ابن عرفة : ومذهبنا أنه يعتق على المرتدّ أمّ ولده ومدبره دون الموصى بعتقه. ومذهب الإمام مالك رضي الله عنه ( أن ميراثه ) لبيت المال.
قال القاضي عياض في الإكمال : وقال الإمام الشافعي : ميراثه لجماعة المسلمين. ووهنه تاج الدين الفاكهاني وقال : بل مذهبه كمذهب مالك. وكذا حكى عنه الغزالي في البسيط.
ابن عطية وروي عن علي رضي الله عنه ( أنه ) استتاب مرتدا شهرا فأبى فقتله. ونقل عنه كرم الله وجهه : أن يستتاب ثلاث مرات فإن تاب في الأولى ترك ، وإلا ( روجع ) في الثانية ( ثم ) الثالثة فإن تاب وإلا قتل. قال : ومنهم من فرق بين الذكر والأنثى فمنع قتل الأنثى. قال ابن عرفة ( ووجهه ) أنه عنده كالحربي سواء.
أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 278 ـ 289}(5/383)
كلام نفيس فى الحكمة في توجيه السرايا للعلامة الشيخ محمد الغزالى
قال رحمه الله :
الحكمة في توجيه هذه السرايا على ذلك النحو المتتابع تتلخص في أمرين :
أولهما :
إشعار مشركي يثرب ويهودها وأعراب البادية الضاربين حولها بأن المسلمين أقوياء ، وأنهم تخلصوا من ضعفهم القديم. ذلك الضعف الذي مكن قريشاً في مكة من مصادرة عقائدهم وحرياتهم واغتصاب دورهم وأموالهم ، ومن حق المسلمين أن يعنوا بهذه المظاهرات العسكرية على ضآلة شأنها ، فإن المتربصين بالإسلام في المدينة كثرٌ ، ولن يصدهم عن النيل منه إلاّ الخوف وحده. وهذا تفسير قوله تعالى :
{تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمْ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ}.
والصنف الأخير هم المنافقون الذين يبطنون البغضاء للإسلام وأهله ، ولا يمنعهم من إعلان السخط عليه إلا الجبن وسوء المغبة ، أما الأولون فهم المشركون ولصوص الصحراء وأشباههم ممن لا يبالون -لولا هذه السرايا- الهجوم على المدينة واستباحة حماها.
وقد كان من الجائز أن تتكرر حادثة "كرز بن جابر" السابقة ، ويتجرأ البدو على تهديد المدينة حيناً بعد حين ؛ غير أن هذه السرايا الزاحفة قتلت نيات الطمع وحفظت هيبة المسلمين.
والأمر الآخر :
-في حكمة بعث السرايا- إنذار قريش عقبى طيشها.
فقد حاربت الإسلام ولا تزال تحاربه ، ونكلت بالمسلمين في مكة ، ثم ظلت ماضية في غيها ، لا تسمح لأحد من أهل مكة أن يدخل في دين الله ، ولا تسمح لهذا الدين أن يجدد قراراً في بقعة أخرى من الأرض ، فأحب الرسول (صلَّى الله عليه وسلم) أن يشعر حكام مكة بأن هذه الخطة الجائرة ستلحق بهم الأضرار الفادحة ، وأنه قد مضى -إلى غير عودة- ذلك العصر الذي كانوا يعتدون فيه على المؤمنين وهم بمأمن من القصاص...
(5/384)
والمستشرقون الأوروبيون ينظرون إلى هذه السرايا كأنا ضرب من قطع الطريق ، وهذه النظرة صورة للحقد الذي يعمي عن الحقائق ، ويتيح للهوى أن يتكلم ويحكم كيف يشاء.
وقد ذكرني هذا الاستشراق المغرض بما حكوه عند قمع الإنكليز لثورة الأهلين في أفريقيا الوسطى -مستعمرة كينيا- وهم يطلبون الحرية لوطنهم ويحاولون إجلاء الأجانب عنه...
قال جندي إنكليزي لآخر -يصف هؤلاء الإفريقيين- :
إنهم وحوش ، تصوَّر أن أحدهم عضّني وأنا أقتله!!! إن هذه الأضحوكة صورة من تفكير المستشرقين في إنصاف أهل مكة والنعي على الإسلام وأهله...
ثم قال رحمه الله بعد أن ذكر قصة سرية عبد الله بن جحش ـ رضى الله عنه ـ :
ووجد المشركون فيما حدث فرصة لاتهام المسلمين بأنهم قد أحلوا ما حرم الله ، وكثر في ذلك القيل والقال ، حتى نزل الوحي حاسماً هذه الأقاويل ومؤيداً مسلك عبد الله تجاه المشركين.
{يَسْأَلُونَكَ عَنْ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنْ الْقَتْلِ}.
إن الضجة التي افتعلها المشركون لإثارة الريبة في سيرة المقاتلين المسلمين لا مساغ لها ، فإن الحرمات المقدسة قد انتهكت كلها في محاربة الإسلام واضطهاد أهله! فما الذي أعاد لهذه الحرمات قداستها فجأة ، فأصبح انتهاكها معرة وشناعة ؟
ألم يكن المسلمون مقيمين بالبلد الحرام حين تقرر قتل نبيهم وسلب أموالهم ؟
لكن بعض الناس يرفع القوانين إلى السماء عندما تكون في مصلحته.
فإذا رأى هذه المصلحة مهددة بما ينتقضها هدم القوانين والدساتير جميعاً.
فالقانون المرعي -عنده في الحقيقة- هو مقتضيات هذه المصلحة الخاصة فحسب.
(5/385)
وقد أوضح الله عز وجل أن المشركين لن يحجزهم شهر حرام أو بلد حرام عن المضي في خطتهم الأصيلة ، وهي سحق المسلمين ، حتى لا تقوم لدينهم قائمة فقال :
{وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنْ اسْتَطَاعُوا}.
ثم حذر المسلمين من الهزيمة أمام هذه القوى الباغية والتفريط في الإيمان الذي شرفهم الله به ، وناط سعادتهم في الدنيا والآخرة بالبقاء عليه فقال :
{وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}.
وزكّى القرآن عمل "عبدالله" وصحبه ، فقد نفذوا أوامر الرسول بأمانة وشجاعة ، وتوغلوا في أرض العدو مسافات شاسعة ، متعرضين للقتل في سبيل الله ، متطوعين لذلك من غير مكرهٍ أو محرج.
فكيف يجزون على هذا بالتقريع والتخويف ؟ قال الله فيهم :
{إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ}.
والقرآن الذي نزل في فعال هذه السرية لم يدع مجالاً للهوادة مع المشركين المعتدين مما كان له أثره البعيد لدى المسلمين وخصومهم.
فبعد أن كان أغلب المكتتبين في السرايا السابقة من المهاجرين أخذت البعوث الخارجة تتألف من المهاجرين والأنصار معاً.
وزاد الشعور بأن الكفاح المرتقب قد يطول مداه وتكثر تبعاته ، ولكنه كفاح مستحب ، مقرون بالخير العاجل والآجل.
وأدركت مكة أنها مؤاخذة بما جدّ أو يجدّ من سيئاتها ، وأن تجارتها مع الشام أمست تحت رحمة المسلمين.
وهكذا اتسعت الهوة ، وزادت بين الفريقين الجفوة.
وكأن هذه الأحداث الشداد هي المقدمة لما أعدّه القدر بعد شهر واحد من وقوعها ، عندما جمع رجالات مكة وخيرة أهل المدينة على موعد غير منظور في "بدر". أ هـ {فقه السيرة للشيخ محمد الغزالى ـ صـ 187 : 179}(5/386)
بحث نفيس
(كلام في أحكام الأعمال من حيث الجزاء)
من أحكام الأعمال : أن من المعاصي ما يحبط حسنات الدنيا والآخرة كالارتداد.
قال تعالى : "ومن يرتد منكم عن دينه فيمت وهو كافر فأولئك حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة الآية "وكالكفر بآيات الله والعناد فيه.
قال تعالى : "إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم أولئك الذين حبطت أعمالهم في الدنيا والآخرة "آل عمران - 22 ، وكذا من الطاعات ما يكفر سيئات الدنيا والآخرة كالإسلام والتوبة ، قال تعالى : "قل يا عبادي الذين أسرفو على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعا إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون واتبعوا أحسن ما أنزل إليكم من ربكم "الزمر - 55 ، وقال تعالى : "فمن اتبع هداى فلا يضل ولا يشقى ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى "طه - 124.
وأيضا : من المعاصي ما يحبط بعض الحسنات كالمشاقة مع الرسول ، قال تعالى : "إن الذين كفروا وصدوا عن سبيل الله وشاقوا الرسول من بعد ما تبين لهم الهدى لن يضروا الله شيئا وسيحبط أعمالهم يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول ولا تبطلوا أعمالكم "سورة محمد - 33 ، فإن المقابلة بين الآيتين تقضي بأن يكون الأمر بالإطاعة في معنى النهي عن المشاقة ، وإبطال العمل هو الإحباط ، وكرفع الصوت فوق صوت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، قال تعالى : "يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي ولا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض أن تحبط أعمالكم وأنتم لا تشعرون "الحجرات - 2.(5/387)
وكذا من الطاعات ما يكفر بعض السيئات كالصلوات المفروضة ، قال تعالى : "وأقم الصلوة طرفي النهار وزلفا من الليل إن الحسنات يذهبن السيئات "هود - 114 ، وكالحج ، قال تعالى : "فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ومن تأخر فلا إثم عليه "البقرة - 203 ، وكاجتناب الكبائر ، قال تعالى : "إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم "النساء - 31 ، وقال تعالى : "الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة "النجم - 32.
وأيضا : من المعاصي ما ينقل حسنات فاعلها إلى غيره كالقتل ، قال تعالى : "إنى أريد أن تبوء بإثمى وإثمك "المائدة - 29 ، وقد ورد هذا المعنى في الغيبة والبهتان وغيرهما في الروايات المأثورة عن النبي ، وكذا من الطاعات ما ينقل السيئات إلى الغير كما سيجئ.
وأيضا : من المعاصي ما ينقل مثل سيئات الغير إلى الإنسان لا عينها ، قال تعالى : "ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة ومن أوزار الذين يضلونهم بغير علم "النحل - 25 ، وقال : "وليحملن أثقالا وأثقالا مع أثقالهم "العنكبوت - 13 ، وكذا من الطاعات ما ينقل مثل حسنات الغير إلى الإنسان لا عينها ، قال تعالى : "ونكتب ما قدموا وآثارهم "يس - 12.
وأيضا : من المعاصي ما يوجب تضاعف العذاب ، قال تعالى : "إذا لأذقناك ضعف الحياة وضعف الممات "الإسراء - 75 ، وقال تعالى : "يضاعف لها العذاب ضعفين "الأحزاب - 30 ، وكذا من الطاعات ما يوجب الضعف كالإنفاق في سبيل الله ، قال تعالى : "مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة "البقرة - 261 ، ومثله ما في قوله تعالى : "أولئك يؤتون أجرهم مرتين "القصص - 54 ، وما في قوله تعالى : "يؤتكم كفلين من رحمته ويجعل لكم
نورا تمشون به ويغفر لكم "الحديد - 28 ، على أن الحسنة مضاعفة عند الله مطلقا ، قال تعالى : "من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها "الأنعام - 160.(5/388)
وأيضا : من الحسنات ما يبدل السيئات إلى الحسنات ، قال تعالى : "إلا من تاب وآمن وعمل عملا صالحا فأولئك يبدل الله سيئاتهم حسنات "الفرقان - 70.
وأيضا : من الحسنات ما يوجب لحوق مثلها بالغير ، قال تعالى : "والذين آمنوا واتبعتهم ذريتهم بإيمان ألحقنا بهم ذريتهم وما ألتناهم من عملهم من شئ كل امرىء بما كسب رهين "الطور - 21 ، ويمكن الحصول على مثلها في السيئات كظلم أيتام الناس حيث يوجب نزول مثله على الأيتام من نسل الظالم ، قال تعالى : "وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم "النساء - 9.
وأيضا : من الحسنات ما يدفع سيئات صاحبها إلى غيره ، ويجذب حسنات الغير إليه ، كما أن من السيئات ما يدفع حسنات صاحبها إلى الغير ، ويجذب سيئاته إليه ، وهذا من عجيب الأمر في باب الجزاء والاستحقاق ، سيجئ البحث عنه في قوله تعالى : "ليميز الله الخبيث من الطيب ويجعل الخبيث بعضه على بعض فيركمه جميعا فيجعله في جهنم "الأنفال - 37.
(5/389)
وبالتأمل في الآيات السابقة والتدبر فيها يظهر : أن في الأعمال من حيث المجازاة أي من حيث تأثيرها في السعادة والشقاوة نظاما يخالف النظام الموجود بينها من حيث طبعها في هذا العالم ، وذلك أن فعل الأكل مثلا من حيث إنه مجموع حركات جسمانية فعلية وانفعالية ، إنما يقوم بفاعله نحو قيام يعطيه الشبع مثلا ولا يتخطاه إلى غيره ، ولا ينتقل عنه إلى شخص آخر دونه ، وكذا يقوم نحو قيام بالغذاء المأكول يستتبع تبدله من صورة إلى صورة أخرى مثلا ، ولا يتعداه إلى غيره ، ولا يتبدل بغيره ، ولا ينقلب عن هويته وذاته ، وكذا إذا ضرب زيد عمرا كانت الحركة الخاصة ضربا لا غير وكان زيد ضاربا لا غير ، وكان عمرو مضروبا لا غير إلى غير ذلك من الأمثلة ، لكن هذه الأفعال بحسب نشأة السعادة والشقاوة على غير هذه الأحكام كما قال تعالى : "وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون "البقرة - 57 ، وقال تعالى : "ولا يحيق المكر السئ إلا بأهله "فاطر - 43 ، وقال تعالى : "انظر كيف كذبوا على أنفسهم "الأنعام - 24 ، وقال تعالى : "ثم قيل لهم أين ما كنتم تشركون من دون الله قالوا ضلوا عنا بل لم نكن ندعوا من قبل شيئا كذلك يضل الله الكافرين "المؤمن - 74.
وبالجملة : عالم المجازاة ربما بدل الفعل من غير نفسه ، وربما نقل الفعل وأسنده إلى غير فاعله ، وربما أعطى للفعل غير حكمه إلى غير ذلك من الآثار المخالفة لنظام هذا العالم الجسماني.
ولا ينبغي لمتوهم أن يتوهم أن هذا يبطل حجة العقول في مورد الأعمال وآثارها ويفسد الحكم العقلي فلا يستقر شئ منه على شئ ، وذلك أنا نرى أن الله سبحانه وتعالى (فيما حكاه في كتابه) يستدل هو أو ملائكته الموكلة على الأمور على المجرمين في حال الموت والبرزخ ، وكذا في القيامة والنار والجنة بحجج عقلية تعرفها العقول.
(5/390)
قال تعالى : "ونفخ في الصور فصعق من في السموات والأرض إلا ما شاء الله ونفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون وأشرقت الأرض بنور ربها ووضع الكتاب وجئ بالنبيين والشهداء وقضى بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون "الزمر - 70 ، وقد تكرر في القرآن الإخبار بأن الله سيحكم بين الناس بالحق يوم القيامة فيما كانوا فيه يختلفون ، وكفى في هذا الباب ما حكاه الله عن الشيطان بقوله تعالى : "وقال الشيطان لما قضي الأمر إن الله وعدكم وعد الحق ووعدتكم فأخلفتكم وما كان لي عليكم من سلطان إلا أن دعوتكم فاستجبتم لي فلا تلوموني ولوموا أنفسكم الآية "إبراهيم - 22.
ومن هنا نعلم : أن حجة العقول غير باطلة في نشأة الأعمال ودار الجزاء مع ما بين النشأتين أعني نشأة الطبيعة ونشأة الجزاء من الاختلاف البين على ما أشرنا إليه.
والذي يحل به هذه العقدة : أن الله تكلم مع الناس في دعوتهم وإرشادهم بلسان أنفسهم وجرى في مخاطباته إياهم وبياناته لهم مجرى العقول الاجتماعية ، وتمسك بالأصول والقوانين الدائرة في عالم العبودية والمولوية ، فعد نفسه مولى والناس عبيدا والأنبياء رسلا إليهم ، وأصلهم بالأمر والنهي والبعث والزجر ، والتبشير والإنذار ،
والوعد والوعيد ، وسائر ما يلحق بهذا الطريق من عذاب ومغفرة وغير ذلك.
وهذه طريقة القرآن الكريم في تكليمه للناس ، فهو يصرح أن الأمر أعظم مما يتوهمه الناس أو يخيل إليهم ، غير أنه شئ لا تسعه حواصلهم وحقائق لا تحيط بها أفهامهم ولذلك نزل منزلة قريبة من أفق إدراكهم لينالوا ما شاء الله أن ينالوه من تأويل هذا الكتاب العزيز كما قال تعالى : "حم والكتاب المبين إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون وإنه في أم الكتاب لدينا لعلي حكيم "الزخرف - 4.
(5/391)
فالقرآن الكريم يعتمد في خصوصيات ما نبأ به من أحكام الجزاء وما يرتبط بها على الأحكام الكلية العقلائية الدائرة بين العقلاء المبتنية على المصالح والمفاسد ، ومن لطيف الأمر : أن هذه الحقائق المستورة عن سطح الأفهام العادية قابلة التطبيق على الاحكام العقلائية المذكورة ، ممكنة التوجيه بها ، فإن العقل العملي الاجتماعي لا يأبى مثلا التشديد على بعض المفسدين بمؤاخذته بجميع ما يترتب على عمله من المضار والمفاسد الاجتماعية كان يؤاخذ القاتل بجميع الحقوق الاجتماعية الفائتة بسبب موت المقتول ، أو يؤاخذ من سنن سنة سيئة بجميع المخالفات الجارية على وفق سنته ، ففي المثال الأول يقضي بأن المعاصي التي كانت ترى ظاهرا أفعالا للمقتول فاعلها هو القاتل بحسب الاعتبار العقلائي ، وفي المثال الثاني بأن السيئات التي عملها التابعون لتلك السنة السيئة أفعال فعلها أول من سن تلك السنة المتبوعة ، في عين أنها افعال للتابعين فيها ، فهي افعال لهم معا ، فلذلك يؤاخذ بها كما يؤخذون.
وكذلك يمكن أن يقضي بكون الفاعل لفعل غير فاعل له ، أو الفعل المعين المحدود غير ذلك الفعل ، أو حسنات الغير حسنات للإنسان ، أو للإنسان أمثال تلك الحسنات ، كل ذلك باقتضاء من المصالح الموجودة.
فالقرآن الكريم يعلل هذه الأحكام العجيبة الموجودة في الجزاء كمجازاة الإنسان بفعل غيره خيرا أو شرا ، وإسناد الفعل إلى غير فاعله ، وجعل الفعل غير نفسه ، إلى غير ذلك ، ويوضحها بالقوانين العقلائية الموجودة في ظرف الاجتماع وفي سطح الأفهام العامة ، وإن كانت بحسب الحقيقة ذات نظام غير نظام الحس ، وكانت الأحكام الاجتماعية العقلائية محصورة مقصورة على الحياة الدنيا ، وسينكشف على
(5/392)
الإنسان ما هو مستور عنه اليوم يوم تبلى السرائر كما قال تعالى : "ولقد جئناهم بكتاب فصلناه على علم هدى ورحمة لقوم يؤمنون هل ينظرون إلا تأويله يوم يأتي تأويله يقول الذين نسوه من قبل قد جاءت رسل ربنا بالحق "الاعراف - 53 ، وقال تعالى : "وما كان هذا القرآن أن يفترى من دون الله ولكن تصديق الذي بين يديه وتفصيل الكتاب لاريب فيه من رب العالمين (إلى أن قال) بل كذبوا بما لم يحيطوا بعلمه ولما يأتهم تأويله "يونس - 39.
وبهذا الذي ذكرناه يرتفع الاختلاف المترائى بين هذه الآيات المشتملة على هذه الأحكام العجيبة وبين أمثال قوله تعالى : "فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره "الزلزال - 8 ، وقوله تعالى : "لا تزر وازرة وزر أخرى "الأنعام - 164 ، وقوله تعالى : "كل امرىء بما كسب رهين "الطور - 21 ، وقوله تعالى : "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى "النجم - 39 ، وقوله تعالى : "إن الله لا يظلم الناس شيئا "يونس - 44 ، إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة. أ هـ {الميزان حـ 2 صـ 173 ـ 179}(5/393)
قوله تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما بين سبحانه وتعالى المقطوع لهم بالنار بين الذين هم أهل لرجاء الجنة لئلا يزال العبد هارباً من موجبات النار مقبلاً على مرجئات الجنة خوفاً من أن يقع فيما يسقط رجاءه - وقال الحرالي : لما ذكر أمر المتزلزلين ذكر أمر الثابتين ؛ انتهى - فقال : {إن الذين آمنوا} أي أقروا بالإيمان.
ولما كانت الهجرة التي هي فراق المألوف والجهاد الذي هو المخاطرة بالنفس في مفارقة وطن البدن والمال في مفارقة وطن النعمة أعظم الأشياء على النفس بعد مفارقة وطن الدين كرر لهما الموصول إشعاراً باستحقاقهما للاصالة في أنفسهما فقال مؤكداً للمعنى بالإخراج في صيغة المفاعلة : {والذين هاجروا} أي أوقعوا المهاجرة بأن فارقوا بغضاً ونفرة تصديقاً لإقرارهم بذلك ديارهم ومن خالفهم فيه من أهلهم وأحبابهم. قال الحرالي : من المهاجرة وهو مفاعلة من الهجرة وهو التخلي عما شأنه الاغتباط به لمكان ضرر منه {وجاهدوا} أي أوقعوا المجاهدة ، مفاعلة من الجهد - فتحاً وضماً ، وهو الإبلاغ في الطاقة والمشقة في العمل {في سبيل الله} أي دين الملك الأعظم كل من خالفهم {أولئك} العالو الرتبة العظيمو الزلفى والقربة ولما كان أجرهم إنما هو من فضل الله قال : {يرجون} من الرجاء وهو ترقب الانتفاع بما تقدم له سبب ما - قاله الحرالي {رحمت الله} أي إكرامه لهم غير قاطعين بذلك علماً منهم أن له أن يفعل ما يشاء لأنه الملك الأعظم فلا كفوء له وهم غير قاطعين بموتهم محسنين ، قاطعون بأنه سبحانه وتعالى لو أخذهم بما يعلم من ذنوبهم عذبهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 407 ـ 408}
وقال الفخر : (5/394)
في تعلق هذه الآية بما قبلها وجهان الأول : أن عبد الله بن جحش قال : يا رسول الله هب أنه لا عقاب فيما فعلنا ، فهل نطمع منه أجراً وثواباً فنزلت هذه الآية ، لأن عبد الله كان مؤمناً ، وكان مهاجراً ، وكان بسبب هذه المقاتلة مجاهداً والثاني : أنه تعالى لما أوجب الجهاد من قبل بقوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ} {البقرة : 216 ] وبين أن تركه سبب للوعيد أتبع ذلك بذكر من يقوم به فقال : {إِنَّ الذين ءامَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وجاهدوا فِي سَبِيلِ الله} ولا يكاد يوجد وعيد إلا ويعقبه وعد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 34}
قال ابن عاشور :
والذي يظهر لي أن تعقيب ما قبلها بها من باب تعقيب الإنذار بالبشارة وتنزيه للمؤمنين من احتمال ارتدادهم فإن المهاجرين لم يرتد منهم أحد. وهذه الجملة معترضة بين آيات التشريع. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 337}
فصل
{ هاجروا} أي فارقوا أوطانهم وعشائرهم ، وأصله من الهجر الذي هو ضد الوصل ، ومنه قيل للكلام القبيح : هجر ، لأنه مما ينبغي أن يهجر ، والهاجرة وقت يهجر فيه العمل ، والمهاجرة مفاعلة من الهجرة ، وجاز أن يكون المراد منه أن الأحباب والأقارب هجروه بسبب هذا الدين ، وهو أيضاً هجرهم بهذا السبب ، فكان ذلك مهاجرة ، وأما المجاهدة فأصلها من الجهد الذي هو المشقة ، ويجوز أن يكون معنى المجاهدة أن يضم جهده إلى جهد آخر في نصرة دين الله ، كما أن المساعدة عبارة عن ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر ليحصل التأييد والقوة ، ويجوز أن يكون المراد من المجاهدة بذل الجهد في قتال العدو ، وعند فعل العدو ، ومثل ذلك فتصير مفاعلة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 34}
قال ابن عاشور : (5/395)
و( الذين هاجروا ) هم الذين خرجوا من مكة إلى المدينة فراراً بدينهم ، مشتق من الهَجْر وهو الفراق ، وإنما اشتق منه وزن المفاعلة للدلالة على أنه هجر نشأ عن عداوة من الجانبين فكل من المنتقِل والمنتقَل عنه قد هجر الآخر وطلب بُعده ، أو المفاعلة للمبالغة كقولهم : عافاك الله فيدل على أنه هجر قوماً هَجراً شديداً ، قال عبدة بن الطيب
: ... إنَّ التي ضَرَبَتْ بيتاً مُهاجَرَةً
بكوفةِ الجند غَالت وُدَّها غول... والمجاهدة مفاعلة مشتقة من الجَهْد وهو المشقة وهي القتال لما فيه من بذل الجهد كالمفاعلة للمبالغة ، وقيل : لأنه يضم جُهده إلى جُهد آخر في نصر الدين مثل المساعدة وهي ضم الرجل ساعده إلى ساعد آخر للإعانة والقوة ، فالمفاعلة بمعنى الضم والتكرير ، وقيل : لأن المجاهِد يبذل جهده في قتال من يبذل جهده كذلك لقتاله فهي مفاعلة حقيقية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 337}
سؤال : لم قدم الهجرة على الجهاد ؟
الجواب : قدم الهجرة على الجهاد لتقدمها عليه في الوقوع تقدم الإيمان عليهما. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 113}(5/396)
فائدة
ورد الجهد فى القرآن على معان :
الأَول : مجاهدة الكفَّار والمنافقين بالبرهان والحجّة {جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ} {وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَاداً كَبيراً}.
الثانى : جهاد أَهل الضَّلالة بالسّيف والقتال {وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ} {هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}.
الثالث : مجاهدة مع النفس {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ}.
الرابع : مجاهدة مع الشيطان بالمخالفة طمعاً فى الهداية
{وَالَّذِينَ جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}.
الخامس : جهاد مع القلب لنيل الوصْل والقُرب {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ}.
والحقّ أَن يقال : المجاهدة ثلاثة أَضرب : مجاهدة العدوّ الظَّاهر ، ومجاهدة الشيطان ، ومجاهدة النَّفْس. ويدخل الأَضرب الثلاثة فى {وَجَاهِدُوا فى اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ} وفى الحديث : "جاهدوا أَهواءَكم كما تجاهدون أَعداءَكم" والمجاهدة تكون باليد واللِّسان. قال صلَّى الله عليه وسلَّم : "جاهدوا الكفَّار بأَيديكم وأَلسنتكم". أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 3 صـ 18 }(5/397)
كلام نفيس لأبى حيان فى الآية الكريمة
قال رحمه الله :
وقد احتوت هذه الجملة على ثلاثة أوصاف ، وجاءت مرتبة بحسب الوقائع والواقع ، لأن الإِيمان أولها ، ثم المهاجرة ، ثم الجهاد في سبيل الله. ولما كان الإِيمان هو الأصل أفرد به موصول وحده ، ولما كانت الهجرة والجهاد فرعين عنه أفردا بموصول واحد ، لأنهما من حيث الفرعية كالشيء الواحد. وأتى خبر : إن ، جملة مصدرة : بأولئك ، لأن اسم الإشارة هو المتضمن الأوصاف السابقة من الإيمان والهجرة والجهاد ، وليس تكريراً لموصول بالعطف مشعراً بالمغايرة في الذوات ، ولكنه تكرير بالنسبة إلى الأوصاف ، والذوات هي المتصفة بالأوصاف الثلاثة ، فهي ترجع لمعنى عطف الصفة بعضها على بعض للمغايرة ، لا : إن الذين آمنوا ، صنف وحده مغاير : للذين هاجروا وجاهدوا ، وأتى بلفظة : يرجون ، لأنه ما دام المرء في قيد الحياة لا يقطع أنه صائر إلى الجنة ، ولو أطاع أقصى الطاعة ، إذ لا يعلم بما يختم له ، ولا يتكل على عمله ، لأنه لا يعلم أَقُبِل أم لا ؟ وأيضاً فلأن المذكورة في الأية ثلاثة أوصاف ، ولا بدّ مع ذلك من سائر الأعمال ، وهو يرجو أن يوفقه الله لها كما وفقه لهذه الثلاثة ، فلذلك قال : فأولئك يرجون ، أو يكون ذكر الرجاء لما يتوهمون أنهم ما وفوا حق نصرة الله في الجهاد ، ولا قضوا ما لزمهم من ذلك ، فهم يقدمون على الله مع الخوف والرجاء ، كما قال تعالى : {والذين يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة }
وروي عن قتادة أنه قال : هو لأخيار هذه الأمة ، ثم جعلهم الله أهل رجاء ، كما يسمعون ، وقيل : الرجاء دخل هنا في كمية الثواب ووقته ، لا في أصل الثواب ، إذا هو مقطوع متيقن بالوعد الصادق. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 161}
قوله تعالى : {أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ الله }
قال ابن عاشور : (5/398)
الرجاء : ترقب الخير مع تغليب ظن حصوله ، فإن وعد الله وإن كان لا يخلف فضلاً منه وصدقاً ، ولكن الخواتم مجهولة ومصادفة العمل لمراد الله قد تفوت لموانع لا يدريها المكلف ولئلا يتكلوا في الاعتماد على العمل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 338}
قال الفخر :
ثم قال تعالى : {أُوْلئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ الله} وفيه قولان : الأول أن المراد منه الرجاء ، وهو عبارة عن ظن المنافع التي يتوقعها ، وأراد تعالى في هذا الموضع أنهم يطمعون في ثواب الله وذلك لأن عبد الله بن جحش ما كان قاطعاً بالفوز والثواب في عمله ، بل كان يتوقعه ويرجوه.
فإن قيل : لم جعل الوعد مطلقاً بالرجاء ، ولم يقع به كما في سائر الآيات ؟ .
قلنا : الجواب من وجوه أحدها : أن مذهبنا أن الثواب على الإيمان والعمل غير واجب عقلاً ، بل بحكم الوعد ، فلذلك علقه بالرجاء وثانيها : هب أنه واجب عقلاً بحكم الوعد ، ولكنه تعلق بأن لا يكفر بعد ذلك وهذا الشرط مشكوك فيه لا متيقن ، فلا جرم كان الحاصل هو الرجاء لا القطع وثالثها : أن المذكور ههنا هو الإيمان ، والهجرة ، والجهاد في سبيل الله ، ولا بد للإنسان مع ذلك من سائر الأعمال ، وهو أن يرجو أن يوفقه الله لها ، كما وفقه لهذه الثلاثة ، فلا جرم علقه على الرجاء ورابعها : ليس المراد من الآية أن الله شكك العبد في هذه المغفرة ، بل المراد وصفهم بأنهم يفارقون الدنيا مع الهجرة والجهاد ، مستقصرين أنفسهم في حق الله تعالى ، يرون أنهم لم يعبدوه حق عبادته ، ولم يقضوا ما يلزمهم في نصرة دينه ، فيقدمون على الله مع الخوف والرجاء ، كما قال : {والذين يُؤْتُونَ مَا ءاتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبّهِمْ راجعون} {المؤمنون : 60 ].(5/399)
القول الثاني : أن المراد من الرجاء : القطع واليقين في أصل الثواب ، والظن إنما دخل في كميته وفي وقته ، وفيه وجوه قررناها في تفسير قوله تعالى : {الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبّهِمْ} {البقرة : 46 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 34}
فائدة
قال ابن عطية
{ يرجون} معناه يطمعون ويستقربون ، والرجاء تنعم ، والرجاء أبداً معه خوف ولا بد ، كما أن الخوف معه رجاء ، وقد يتجوز أحياناً ويجيء الرجاء بمعنى ما يقارنه من الخوف ، كما قال الهذلي : {الطويل ]
إذَا لَسَعَتْهُ النَّحْلُ لَمْ يَرْجُ لَسْعَهَا... وَحَالَفَهَا في بَيْتِ نَوْبٍ عَوَامِلُ
وقال الأصمعي : "إذ اقترن حرف النفي بالرجاء كان بمعنى الخوف " ، كهذا البيت ، وكقوله عز وجل : {لا يرجون لقاءنا} {سورة يونس : الآيات : 7- 11- 15 ، سورة الفرقان : الآية 21 ] ، المعنى لا يخافون ، وقد قيل : إن الرجاء في الآية على بابه ، أي لا يرجون الثواب في لقائنا ، وبإزاء ذلك خوف العقاب ، وقال قوم : اللفظة من الأضداد دون تجوز في إحدى الجهتين ، وليس هذا بجيد ، وقال الجاحظ في كتاب البلدان : "إن معنى قوله لم يرج لسعها أي لم يرج برء لسعها وزواله ، فهو يصبر عليه ".
أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 292}
سؤال : لم أثبت لهم الرجاءَ دون الفوز بالمرجوِّ ؟
الجواب : أثبت لهم الرجاءَ دون الفوز بالمرجوِّ للإيذان بأنهم عالمون بأن العملَ غيرُ موجبٍ للأجر وإنما هو على طريق التفضُّلِ منه سبحانه لا لأن في فوزهم اشتباهاً. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 218}
سؤال : لم كرر الموصول ؟ (5/400)
الجواب : وكرر الموصول لتعظيم الهجرة والجهاد كأنهما مستقلان في تحقيق الرجاء. وجيء باسم الإشارة للدلالة على أن رجاءهم رحمةَ الله لأجل إيمانهم وهجرتهم وجهادهم ، فتأكد بذلك ما يدل عليه الموصول من الإيماء إلى وجه بناءِ الخبر ، وإنما احتيج لتأكيده لأن الصلتين لما كانتا مما اشتهر بهما المسلمون وطائفة منهم صارتا كاللقب ؛ إذ يطلق على المسلمين يومئذٍ في لسان الشرع اسم الذين آمنوا كما يطلق على مسلمي قريش يومئذٍ اسم المهاجرين فأكد قَصدُ الدلالة على وجه بناء الخبر من الموصول. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 338}
سؤال : فإن قيل : فكيف قال : {أُوْلَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ} ورحمة الله للمؤمنين مستحقة ؟
ففيه جوابان :
أحدهما : أنهم لما لم يعلموا حالهم في المستقبل جاز أن يرجوا الرحمة خوفاً أن يحدث من مستقبل أمورهم مالا يستوجبونها معه.
والجواب الثاني : أنهم إنما رجوا الرحمة لأنهم لم يتيقنوها بتأدية كل ما أوجبه الله تعالى عليهم. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 275}
لطيفة
قال قتادة : أثنى الله تعالى على أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحسن الثناء فقال : {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله} هؤلاء هم خيار هذه الأمة ثم جعلهم الله أهل رجاء كما تسمعون وأنه من رجا طلب ومن خاف هرب. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 143}
لطيفة
قال صاحب روح البيان :
قيل إن الحجاج لما أحضرته الوفاة كان يقول اللهم اغفر لى فإن الناس يزعمون أنك لا تفعل ومات بواسط سنة خمس وتسعين وهى مدينته التى أنشأها وكان يوم موته يسمى عرس العراق ولم يعلم بموته حتى أشرفت جارية من القصر وهى تبكى وتقول ألا إن مطعم الطعام ومفلق الهام قد مات ثم دفن ووقف رجل من أهل الشام على قبره فقال اللهم لا تحرمنا شفاعة الحجاج وحلف رجل من أهل العراق بالطلاق أن الحجاج فى النار فاستفتى طاووس فقال : يغفر الله لمن يشاء وما أظنها إلا طلقت فيقال إنه استفتى الحسن البصرى فقال : اذهب إلى زوجتك وكن معها فإن لم يكن الحجاج فى النار فما يضركما أنكما فى الحرام فقد وقفت من هذا المذكور على أن الله تعالى غفور رحيم يغفر لعبده وإن جاء بمثل زبد البحر ذنبا ، فاللازم للعباد الرجاء من الله تعالى
قال الراغب وهذه المنازل الثلاثة التى هى الإيمان والمهاجرة والجهاد هى المعنية بقوله {اتقوا الله وابتغوا إليه الوسيلة وجاهدوا فى سبيله} ولا سبيل إلى المهاجرة إلا بعد الإيمان ولا إلى جهاد الهوى إلا بعد هجران الشهوات ومن وصل إلى ذلك فحق له أن يرجو رحمته. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 417}
قوله تعالى : {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
قال البقاعى : (5/401)
ولما كان الإنسان محل النقصان فهو لا يزال في فعل ما إن أوخذ به هلك قال مشيراً إلى ذلك مبشراً بسعة الحلم في جملة حالية من واو {يرجون} ويجوز أن يكون عطفاً على ما تقديره : ويخافون عذابه فالله منتقم عظيم : {والله} أي الذي له صفات الكمال {غفور} أي ستور لما فرط منهم من الصغائر أو تابوا عنه من الكبائر {رحيم} فاعل بهم فعل الراحم من الإحسان والإكرام والاستقبال بالرضى. قال الحرالي : وفي الختم بالرحمة أبداً في خواتم الآي إشعار بأن فضل الله في الدنيا والآخرة ابتداء فضل ليس في الحقيقة جزاء العمل فكما يرحم العبد طفلاً ابتداء يرحمه كهلاً انتهاء ويبتدئه برحمته في معاده كما ابتدأه برحمته في ابتدائه - انتهى بالمعنى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 408}
قال الفخر :
قوله تعالى : {والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} أي إن الله تعالى يحقق لهم رجاءهم إذا ماتوا على الإيمان والعمل الصالح ، وأنه غفور رحيم ، غفر لعبد الله بن جحش وأصحابه ما لم يعلموا ورحمهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 6 صـ 34}
وقال أبو حيان :
{ والله غفور رحيم} لما ذكر أنهم طامعون في رحمة الله ، أخبر تعالى أنه متصف بالرحمة ، وزاد وصفاً آخر وهو أنه تعالى متصف بالغفران ، فكأنه قيل : الله تعالى ، عندما ظنوا وطمعوا في ثوابه ، فالرحمة متحققة ، لأنها من صفاته تعالى. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 161}
وقال الآلوسى :
{ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} تذييل لما تقدم وتأكيد له ولم يذكر المغفرة فيما تقدم لأن رجال الرحمة يدل عليها وقدم وصف المغفرة لأن درأ المفاسد مقدم على جلب المصالح. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 112}
كلام نفيس للعلامة السعدى فى الآية الكريمة(5/402)
هذه الأعمال الثلاثة ، هي عنوان السعادة وقطب رحى العبودية ، وبها يعرف ما مع الإنسان ، من الربح والخسران ، فأما الإيمان ، فلا تسأل عن فضيلته ، وكيف تسأل عن شيء هو الفاصل بين أهل السعادة وأهل الشقاوة ، وأهل الجنة من أهل النار ؟ وهو الذي إذا كان مع العبد ، قبلت أعمال الخير منه ، وإذا عدم منه لم يقبل له صرف ولا عدل ، ولا فرض ، ولا نفل.
وأما الهجرة : فهي مفارقة المحبوب المألوف ، لرضا الله تعالى ، فيترك المهاجر وطنه وأمواله ، وأهله ، وخلانه ، تقربا إلى الله ونصرة لدينه.
وأما الجهاد : فهو بذل الجهد في مقارعة الأعداء ، والسعي التام في نصرة دين الله ، وقمع دين الشيطان ، وهو ذروة الأعمال الصالحة ، وجزاؤه ، أفضل الجزاء ، وهو السبب الأكبر ، لتوسيع دائرة الإسلام وخذلان عباد الأصنام ، وأمن المسلمين على أنفسهم وأموالهم وأولادهم.
فمن قام بهذه الأعمال الثلاثة على لأوائها ومشقتها كان لغيرها أشد قياما به وتكميلا.
فحقيق بهؤلاء أن يكونوا هم الراجون رحمة الله ، لأنهم أتوا بالسبب الموجب للرحمة ، وفي هذا دليل على أن الرجاء لا يكون إلا بعد القيام بأسباب السعادة ، وأما الرجاء المقارن للكسل ، وعدم القيام بالأسباب ، فهذا عجز وتمن وغرور ، وهو دال على ضعف همة صاحبه ، ونقص عقله ، بمنزلة من يرجو وجود ولد بلا نكاح ، ووجود الغلة بلا بذر وسقي ، ونحو ذلك.
وفي قوله : {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللَّهِ} إشارة إلى أن العبد ولو أتى من الأعمال بما أتى به لا ينبغي له أن يعتمد عليها ، ويعول عليها ، بل يرجو رحمة ربه ، ويرجو قبول أعماله ومغفرة ذنوبه ، وستر عيوبه.
ولهذا قال : {وَاللَّهُ غَفُورٌ} أي : لمن تاب توبة نصوحا {رَحِيمٌ} وسعت رحمته كل شيء ، وعم جوده وإحسانه كل حي.
وفي هذا دليل على أن من قام بهذه الأعمال المذكورة ، حصل له مغفرة الله ، إذ الحسنات يذهبن السيئات وحصلت له رحمة الله.
وإذا حصلت له المغفرة ، اندفعت عنه عقوبات الدنيا والآخرة ، التي هي آثار الذنوب ، التي قد غفرت واضمحلت آثارها ، وإذا حصلت له الرحمة ، حصل على كل خير في الدنيا والآخرة ؛ بل أعمالهم المذكورة من رحمة الله بهم ، فلولا توفيقه إياهم ، لم يريدوها ، ولولا إقدارهم عليها ، لم يقدروا عليها ، ولولا إحسانه لم يتمها ويقبلها منهم ، فله الفضل أولا وآخرا ، وهو الذي منّ بالسبب والمسبب. أ هـ {تفسير السعدى صـ 98}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
إن الذين صدقوا في قصدهم ، وأخلصوا في عهدهم ، ولم يرتدوا في الإرادة على أعقابهم ، أولئك الذين عاشوا في رَوْحِ الرجاء إلى أن يصلوا إلى كمال البقاء ودار اللقاء. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 176}(5/403)
بحث نفيس لحجة الإسلام الغزالى فى الرجاء
قال رحمه الله :
فإن قلت : فأين الغلط في قول العصاة والفجار إن الله كريم وإنا نرجو رحمته ومغفرته ، وقد قال أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي خيراً ، فما هذا إلا كلام صحيح مقبول الظاهر في القلوب ؟ فاعلم أن الشيطان لا يغوي الإنسان إلا بكلام مقبول الظاهر مردود الباطن ، ولولا حسن ظاهره لما انخدعت به القلوب ، ولكن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ كشف عن ذلك فقال "الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت ، والأحمق من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله وهذا هو التمني على الله تعالى غير الشيطان اسمه فسماه : رجاء ، حتى خدع به الجهال. وقد شرح الله الرجاء فقال "إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله "يعني أن الرجاء بهم أليق وهذا لأنه ذكر أن ثواب الآخرة أجر وجزاء على الأعمال قال الله تعالى "جزاء بما كانوا يعملون "وقال تعالى "وإنما توفون أجوركم يوم القيامة "أفترى أن من استؤجر على إصلاح أوان وشرط له أجرة عليها وكان الشارط كريماً يفي بالوعد مهما وعد ولا يخلف بل يزيد ، فجاء الأجير وكسر الأواني وأفسد جميعها ثم جلس ينتظر الأجر ويزعم أن المستأجر كريم ، أفيراه العقلاء في انتظاره متمنياً مغروراً أو راجياً ؟ وهذا للجهل بالفرق بين الرجاء والغرة. قيل للحسن : قوم يقولون نرجو الله ويضيعون العمل فقال : هيهات هيهات! تلك أمانيهم يترجحون فيها ، من رجا شيئاً طلبه ومن خاف شيئاً هرب منه. وقال مسلم بن يسار : لقد سجدت البارحة حتى سقطت ثنيتاي! فقال له رجل : إنا لنرجو الله! فقال مسلم : هيهات هيهات ؟ من رجا شيئاً طلبه ومن خاف شيئاً هرب منه. وكما أن الذي يرجوا في الدنيا ولداً وهو بعد لم ينكح أو نكح ولم يجامع أو جامع ولم ينزل! فهو معتوه فكذلك من رجا رحمة الله وهو لم يؤمن أو آمن لم يعمل صالحاً أو عمل ولم يترك المعاصي فهو مغرور. فكما أنه إذا نكح ووطئ وأنزل بقي متردداً في الولد يخاف ويرجو فضل الله في خلق الولد ودفع الآفات عن الرحم(5/404)
وعن الأم إلى أن يتم فهو كيس ، فكذلك إذا آمن وعمل الصالحات وترك السيئات وبقي متردداً بين الخوف والرجاء يخاف أن لا يقبل منه وأن لا يدوم عليه وأن يختم له بالسوء ، ويرجوا من الله تعالى أن يثبته بالقول الثابت ويحفظ دينه من صواعق سكرات الموت حتى يموت على التوحيد ، ويحرس قلبه عن الميل إلى الشهوات بقية عمره حتى لا يميل إلى المعاصي فهو كيس ، ومن عدا هؤلاء فهم المغرورون بالله "وسوف يعلمون حين يرون العذاب من أضل سبيل - ولتعلمن نبأه بعد حين "وعند ذلك يقولون كما أخبر الله عنهم "ربنا أبصرنا وسمعنا فارجعنا نعمل صالحاً إنا موقنون "أي علمنا أنه كما لا يولد إلا بوقاع ونكاح ولا ينبت زرع إلا بحراثة وبث بذر ، فكذلك لا يحصل في الآخرة ثواب وأجر إلا بعمل صالح فارجعنا نعمل صالحاً فقد علمنا الآن صدقك في قولك "وأن ليس للإنسان إلا ما سعى وأن سعيه سوف يرى - كلما ألقى فيها فوج سألهم خزنتها ألم يأتكم نذير قالوا بلى قد جاءنا نذير "أي ألم نسمعكم سنة الله في عباده وأنه "توفى كل نفس ما كسبت "وأن "كل نفس بما كسبت رهينة "فما الذي غركم بالله بعد أن سمعتم وعقلتم ؟ "قالوا لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير فاعترفوا بذنبهم فسحقاً لأصحاب السعير ".
فإن قلت : فأين مظنة الرجاء وموضعه المحمود ؟ فاعلم أنه محمود في موضعين :
(5/405)
أحدهما : في حق العاصي المنهمك إذا خطرت له التوبة فقال له الشيطان : وأنى تقبل توبتك فيقنطه من رحمة الله تعالى "فيجب عند هذا أن يقمع القنوط بالرجاء ويتذكر "إن الله يغفر الذنوب جميعاً "وأن الله كريم يقبل التوبة عن عباده وأن التوبة طاعة تكفر الذنوب قال الله تعالى "قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم وأنيبوا إلى ربكم "أمرهم بالإنابة وقال تعالى "وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى "فإذا توقع المغفرة مع التوبة فهو راج ، وإن توقع المغفرة مع الإصرار فهو مغرور ، كما أن من ضاق عليه وقت الجمعة وهو في السوق فخطر له أن يسعى إلى الجمعة فقال له الشيطان : إنك لا تدرك الجمعة فأقم على موضعك فكذب الشيطان ومر يعدو وهو يرجو أن يدرك الجمعة فهو راج ، وإن استمر على التجارة وأخذ يرجو تأخير الإمام للصلاة لأجله إلى وسط الوقت أو لأجل غيره أو لسبب من الأسباب التي لا يعرفها فهو مغرور.
(5/406)
الثاني : أن تفتر نفسه عن فضائل الأعمال ويقتصر على الفرائض فيرجى نفسه نعيم الله تعالى وما وعد به الصالحين حتى ينبعث من الرجاء نشاط العبادة فيقبل على الفضائل ويتذكر قوله تعالى "قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون "إلى قوله "أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون "فالرجاء الأول : يقمع القنوط المانع من التوبة. الرجاء الثاني : يقمع الفتور المانع من النشاط والتشمر ، فكل توقع حث على توبة أو على تشمر في العبادة فهو رجاء ، وكل رجاء أوجب فتوراً في العبادة وركوناً إلى البطالة فهو غرة ، كما إذا خطر له أن يترك الذنب ويشتغل بالعمل فيقول له الشيطان : مالك ولإيذاء نفسك وتعذيبها ولك رب كريم غفور رحيم ؟ فيفتر بذلك عن التوبة والعبادة فهو غرة ، وعند هذا واجب على العبد أن يستعمل الخوف فيخوف نفسه بغضب الله وعظيم عقابه ويقول : إنه مع أنه غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ، وإنه مع أنه كريم خلد الكفار في النار أبد الآباد ، مع أنه لم يضره كفرهم ، بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على جملة من عباده في الدنيا وهو قادر على إزالتها ، فمن هذه سنته في عباده وقد خوفني عقابه فكيف لا أخافه وكيف أغتر به ؟(5/407)
فالخوف والرجاء قائدان وسائقان يبعثان الناس على العمل ، فما لا يبعث على العمل فهو تمن وغرور. ورجاء كافة الخلق هو سبب فتورهم وسبب إقبالهم على الدنيا وسبب إعراضهم عن الله تعالى وإهمالهم السعي للآخرة ، فذلك غرور فقد أخبر ـ صلى الله عليه وسلم ـ وذكر أن الغرور سيغلب على قلوب آخر هذه الأمة وقد كان ما وعد به ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقد كان الناس في الأعصار الأول يواظبون على العبادات ويؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة أنهم إلى ربهم راجعون ، يخافون على أنفسهم وهم طول الليل والنهار في طاعة الله يبالغون في التقوى والحذر من الشبهات والشهوات ويبكون على أنفسهم في الخلوات. وأما الآن فترى الخلق آمنين مسرورين مطمئنين غير خائفين مع إكبابهم على المعاصي وانهماكهم في الدنيا وإعراضهم عن الله تعالى ، زاعمين أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله ، راجون لعفوه ومغفرته ، كأنهم يزعمون أنهم عرفوا من فضله وكرمه ما لم يعرفه الأنبياء والصحابة والسلف الصالحون. فإن كان هذا الأمر يدرك بالمنى وينال بالهوينى فعلام إذن كان بكاء أولئك وخوفهم وحزنهم ؟ وقد ذكرنا تحقيق هذه الأمور في كتاب الخوف والرجاء وقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيما رواه معقل بن يسار "يأتى على الناس زمان يخلق فيه القرآن في قلوب الرجال كما تخلق الثياب على الأبدان أمرهم كله يكون طمعاً لا خوف معه ، إن أحسن أحدهم قال : يتقبل مني ، وإن أساء قال : يغفر لي فأخبر أنهم يضعون الطمع موضع الخوف لجهلهم بتخويفات القرآن وما فيه. وبمثله أخبر عن النصارى إذ قال تعالى "فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا "ومعناه أنهم "ورثوا الكتاب "أي هم علماء "ويأخذون عرض هذا الأدنى "أي شهواتهم من الدنيا حراماً كان أو حلالاً. وقد قال تعالى "ولمن خاف مقام ربه جنتان - ذلك لمن خاف مقامي وخاف وعبد "والقرآن من أوله إلى آخره تحذير وتخويف ، لا يتفكر فيه متفكر إلا(5/408)
ويطول حزنه ويعظم خوفه إن كان مؤمناً بما فيه. وترى الناس يهذونه هذا ، يخرجون الحروف من مخارجها ويتناظرون على خفضها ورفعها ونصبها وكأنهم يقرؤون شعراً من أشعار العرب لا يهمهم الالتفات إلى معانيه والعمل بما فيه وهل في العالم غرور يزيد على هذا ؟ فهذه أمثلة الغرور بالله وبيان الفرق وبين الرجاء والغرور ، ويقرب منه غرور طوائف لهم طاعات ومعاص إلا أن معاصيهم أكثر ، وهم يتوقعون المغفرة ويظنون أنهم تترجح كفة حسناتهم مع أن ما في كفة السيئات أكثر ، وهذا غاية الجهل فترى الواحد يتصدق بدراهم معدودة من الحلال والحرام ويكون ما يتناول من أموال المسلمين والشبهات أضعافه ، ولعل ما تصدق به من أموال المسلمين! وهو يتكل عليه ويظن أن أكل ألف درهم حرام يقاومه التصدق بعشرة من الحرام أو الحلال ، وما هو إلا كمن وضع عشرة دراهم في كفة ميزان وفي الكفة الأخرى ألفاً وأراد أن يرفع الكفة الثقيلة بالكفة الخفيفة وذلك غاية جهله. نعم ومنهم من يظن أن طاعاته أكثر من معاصيه لأنه لا يحاسب نفسه ولا يتفقد معاصيه ، وإذا عمل طاعة حفظها واعتد بها كالذي يستغفر الله بلسانه أو يسبح الله في اليوم مائة مرة ثم يغتاب المسلمين ويمزق أعراضهم ويتكلم بما لا يرضاه الله طول النهار من غير حصر وعدد ، ويكون نظره إلى عدد سبحته أنه استغفر الله مائة مرة وغفل عن هذيانه طول نهاره الذي لو كتبه لكان مثل تسبيحه مائة مرة أو ألف مرة ، وقد كتبه الكرام الكاتبون وقد أوعده الله بالعقاب على كل كلمة فقال "وما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد "فهذا أبداً يتأمل في فضائل التسبيحات والتهليلات ولا يلتفت إلى ما ورد من عقوبة المغتابين والكذابين والنمامين والمنافقين ، يظهرون من الكلام ما لا يضمرونه إلى غير ذلك من آفات اللسان. وذلك محض الغرور. ولعمري لو كان الكرام الكاتبون يطلبون منه أجرة النسخ لما يتكبونه من هذيانه الذي زاد على تسبيحه لكان عند ذلك يكف لسانه حتى عن جملة منن(5/409)
مهماته ، وما نطق به في فتراته كان يعده ويحسبه ويوازنه بتسبيحاته ، حتى لا يفضل عليه أجرة نسخه! فيا عجباً لمن يحاسب نفسه ويحتاط خوفاً على قيراط يفوته في الأجرة على النسخ ولا يحتاط خوفاً من فوت الفردوس الأعلى ونعيمه! ما هذه إلا مصيبة عظيمة لمن تفكر فيها! لقد دفعنا إلى أمر إن شككنا فيه كنا من الكفرة الجاحدين وإن
صدقنا به كنا من الحمقى المغرورين! فما هذه أعمال من يصدق بما جاء به القرآن ، وإنا نبرأ إلى الله أن نكون من أهل الكفران فسبحان من صدنا عن التنبه واليقين مع هذا البيان ، وما أجدر من يقدر على تسليط مثل هذه الغفلة والغرور وعلى القلوب أن يخشى ويتقي ولا يغتر به اتكالاً على أباطيل المنى وتعاليل الشيطان والهوى ، والله أعلم. به كنا من الحمقى المغرورين! فما هذه أعمال من يصدق بما جاء به القرآن ، وإنا نبرأ إلى الله أن نكون من أهل الكفران فسبحان من صدنا عن التنبه واليقين مع هذا البيان ، وما أجدر من يقدر على تسليط مثل هذه الغفلة والغرور وعلى القلوب أن يخشى ويتقي ولا يغتر به اتكالاً على أباطيل المنى وتعاليل الشيطان والهوى ، والله أعلم. أ هـ {إحياء علوم الدين حـ 3 صـ 73 ـ 76}(5/410)
كلام نفيس لابن القيم فى الرجاء :
قال رحمه الله :
ولا يتم الجهاد إلا بالهجرة ولا الهجرة والجهاد إلا بالإيمان والراجون رحمة الله هم الذين قاموا بهذه الثلاثة قال تعالى : {إن الذين آمنوا والذين هاجروا وجاهدوا في سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله والله غفور رحيم} ( البقرة : 218 )
وكما أن الإيمان فرض على كل أحد ففرض عليه هجرتان في كل وقت : هجرة إلى الله عز وجل بالتوحيد والإخلاص والإنابة والتوكل والخوف والرجاء والمحبة والتوبة وهجرة إلى رسوله بالمتابعة والانقياد لأمره والتصديق بخبره وتقديم أمره وخبره على أمر غيره وخبره : فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه وفرض عليه جهاد نفسه في ذات الله وجهاد شيطانه فهذا كله فرض عين لا ينوب فيه أحد عن أحد
وأما جهاد الكفار والمنافقين فقد يكتفى فيه ببعض الأمة اذا حصل منهم مقصود الجهاد. أ هـ {زاد المعاد حـ 3 صـ 10}
وقال فى المدارج :
ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الرجاء(5/411)
قال الله تعالى : {أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ} {الإسراء : 57 ] فابتغاء الوسيلة إليه : طلب القرب منه بالعبودية والمحبة فذكر مقامات الإيمان الثلاثة التى عليها بناؤه : الحب والخوف والرجاء قال تعالى : {مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ} {العنكبوت : 5 ] وقال : {فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً} {الكهف : 110 ] وقال تعالى : {أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} {البقره : 218 ] وفي صحيح مسلم عن جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول قبل موته بثلاث : "لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه" وفي الصحيح عنه : "يقول الله عز وجل : أنا عند ظن عبدي بي فليظن بي ما شاء" الرجاء حاد يحدو القلوب إلى بلاد المحبوب وهو الله والدار الآخرة ويطيب لها السير وقيل : هو الاستبشار بجود وفضل الرب تبارك وتعالى والارتياح لمطالعة كرمه سبحانه وقيل : هو الثقه بجود الرب تعالى والفرق بينه وبين التمني أن التمني يكون مع الكسل ولا يسلك بصاحبه طريق الجد والاجتهاد والرجاء يكون مع بذل الجهد وحسن التوكل
فالأول : كحال من يتمنى أن يكون له أرض يبذرها ويأخذ زرعها
والثاني : كحال من يشق أرضه ويفلحها ويبذرها ويرجو طلوع الزرع ولهذا أجمع العارفون على أن الرجاء لا يصح إلا مع العمل
قال شاه الكرماني : علامة صحة الرجاء : حسن الطاعة والرجاء ثلاثة أنواع : نوعان محمودان ونوع غرور مذموم
فالأولان : رجاء رجل عمل بطاعة الله على نور من الله فهو راج لثوابه ورجل أذنب ذنوباثم تاب منها فهو راج لمغفرة الله تعالى وعفوه وإحسانه وجوده وحلمه وكرمه
(5/412)
والثالث : رجل متماد في التفريط والخطايا يرجو رحمة الله بلا عمل فهذا هو الغرور والتمني والرجاء الكاذب وللسالك نظران : نظر إلى نفسه وعيوبه وآفات عمله يفتح عليه باب الخوف إلى سعة فضل ربه وكرمه وبره ونظر يفتح عليه باب الرجاء ولهذا قيل في حد الرجاء هو النظر إلى سعة رحمة الله
وقال أبو علي الروذباري الخوف والرجاء كجناحي الطائر إذا استويا استوى الطير وتم طيرانه وإذا نقص أحدهما وقع فيه النقص وإذا ذهبا صار الطائر في حد الموت وسئل أحمد بن عاصم : ما علامة الرجاء في العبد فقال : أن يكون إذا أحاط به الإحسان ألهم الشكر راجيا لتمام النعمة من الله عليه في الدنيا والآخرة وتمام عفوه عنه في الآخرة واختلفوا أي الرجائين أكمل : رجاء المحسن ثواب إحسانه أو رجاء المسيء التائب مفغرة ربه وعفوه فطائفة رجحت رجاء المحسن لقوة أسباب الرجاء معه وطائفة رجحت رجاء المذنب لأن رجاءه مجرد عن علة رؤية العمل مقرون بذلة رؤية الذنب قال يحيى بن معاذ : يكاد رجائي لك مع الذنوب يغلب رجائي لك مع الأعمال لأني أجدني أعتمد في الأعمال على الإخلاص وكيف أصفيها وأحرزها وأنا بالآفات معروف وأجدني في الذنوب أعتمد على عفوك وكيف لا تغفرها وأنت بالجود موصوف
وقال أيضا : إلهى أحلى العطايا في قلبي رجاؤك وأعذب الكلام على لساني ثناؤك وأحب الساعات إلي ساعة يكون فيها لقاؤك. أ هـ {مدارج السالكين حـ 2 صـ 34 ـ 35}
تم الجزء الخامس من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء السادس وأوله قوله تعالى :
{ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) }(5/413)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء السادس
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{يا قوم لا أسألكم عليه أجرا}(6/3)
الجزء السادس
من الآية {219} من سورة البقرة
وحتى الآية {232} من نفس السورة(6/4)
قوله تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان الشراب مما أذن فيه في ليل الصيام وكان غالب شرابهم النبيذ من التمر والزبيب وكانت بلادهم حارة فكان ربما اشتد فكان عائقاً عن العبادة لا سيما الجهاد لأن السكران لا ينتفع به في رأي ولا بطش ولم يكن ضرورياً في إقامة البدن كالطعام آخر بيانه إلى أن فرغ مما هو أولى منه بالإعلام وختم الآيات المتخللة بينه وبين آيات الإذن بما بدأها به من الجهاد ونص فيها على أن فاعل أجد الجدّ وأمهات الأطايب من الجهاد وما ذكر معه في محل الرجاء للرحمة فاقتضى الحال السؤال : هل سألوا عن أهزل الهزل وأمهات الخبائث ؟ فقال معلماً بسؤالهم عنه مبيناً لما اقتضاه الحال من حلمه فيبقى ما عداه على الإباحة المحضة : {يسئلونك عن الخمر} الذي هو أحد ما غنمه عبد الله بن جحش رضي الله تعالى عنه في سريته التي أنزلت الآيات السالفة بسببها. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 408}
قال ابن عاشور :
قوله تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ}(6/5)
استئناف لإبطال عملين غالبين على الناس في الجاهلية وهما شرب الخمر والميسر وهذا من عداد الأحكام التي بينها في هاته السورة مما يرجع إلى إصلاح الأحوال التي كان عليها الناس في الجاهلية ، والمشروع في بيانها من قوله تعالى : {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص في القتلى يَسْئلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا} [ البقرة : 178 ] إلى آخر السورة ، عدا ما تخلل ذلك من الآداب والزواجر والبشائر والمواعظ والأمثال والقصص ؛ على عادة القرآن في تفنن أساليبه تنشيطاً للمخاطبين والسامعين والقارئين ومن بلغ ، وقد تناسقت في هذه الآية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 338}
قال الفخر :
اعلم أن قوله : {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} ليس فيه بيان أنهم عن أي شيء سألوا ، فإنه يحتمل أنهم سألوا عن حقيقته وماهيته ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل الانتفاع به ، ويحتمل أنهم سألوا عن حل شربه وحرمته إلا أنه تعالى لما أجاب بذكر الحرمة دل تخصيص الجواب على أن ذلك السؤال كان وقعاً عن الحل والحرمة.
وفي الآية مسائل : (6/6)