كلام نفيس لصاحب المنار
قال الشيخ محمد رشيد رضا ـ رحمه الله ـ
والمختار عندى التعبير عن علمه تعالى بالشىء قبل وجوده بعلم الغيب ، وبعد وجوده بعلم الشهادة كما قلت آنفا ، وإن كانت كلمات الله فى الآيتين الأخيرتين كلمات التكوين أنفسها لا متعلقاتها التى هى الموجودات ، فعلم الله قسمان :
غيب وشهادة ، وكلماته قسمان : تشريع وتكوين.أ هـ
{تفسير المنار حـ 2 صـ 9}
علم الله
عبارة (لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبعُ الرَّسُولَ...) وأمثالها من التعبيرات القرآنية ، لا تعني أن الله لم يكن يعلم شيئاً ، ثم علم به بعد ذلك ، بل تعني تحقّق هذه الواقعيات.
بعبارة أوضح ، الله سبحانه يعلم منذ الأزل بكل الحوادث والموجودات ، وإن ظهرت بالتدريج على مسرح الوجود. فحدوث الموجودات والأحداث لا يزيد الله علماً ، بل إن هذا الحدوث تحقّق لما كان في علم الله. وهذا يشبه علم المهندس بكل تفاصيل البناء عند وضعه التصميم. ثم يتحول التصميم إلى بناء عملي. والمهندس يقول حين ينفّذ تصميمه على الأرض : أريد أن أرى عملياً ما كان في علمي نظرياً. (علم الله يختلف دون شك عن علم البشر اختلافاً كبيراً كما ذكرنا ذلك في بحث صفات الله ، وإنما ذكرنا هذا المثال للتوضيح). أهـ {الأمثل حـ 1 صـ 307}
قوله تعالى {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرةً إلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} فيه ثلاثة تأويلات :
أحدها : معناه وإن التولية عن بيت المقدس إلى الكعبة والتحويل إليها لكبيرةٌ ، وهذا هو قول ابن عباس ، ومجاهد ، وقتادة.
والثاني : إن الكبيرة هي القبلة بعينها التي كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتوجه إليها من بيت المقدس قبل التحويل ، وهذا قول أبي العالية الرياحي.
والثالث : أن الكبيرة هي الصلاة ، التي كانوا صَلَّوْهَا إلى القبلة الأولى ، وهذا قول عبد الرحمن بن زيد. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 201}.(2/210)
قوله تعالى : {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضِيعَ إيمَانَكُم} يعني صلاتكم إلى بيت المقدس ، فسمى الصلاة إيماناً لاشتمالها على نية وقول وعمل ، وسبب ذلك أن المسلمين لما حُوِّلُوا عن استقبال بيت المقدس إلى الكعبة ، قالوا لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : كيف من مات من إخواننا ؟ فأنزل الله عز وجل : {وَمَا كَانَ اللهُ لِيُضيعَ إيمَانَكُم}
فإن قيل : هم سألوه عن صلاةِ غيرهم ، فأجابهم بحال صلاتهم ؟ قيل : لأن القوم أشفقوا ، أن تكون صلاتهم إلى بيت المقدس مُحْبَطةً لمنْ مات ومن بقي ، فأجابهم بما دَلَّ على الأمرين ، على أنه قد روى قوم أنهم قالوا : كيف تضيع صلاتنا إلى بيت المقدس فأنزل الله تعالى ذلك. {إنَّ الله بِالنَّاسِ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 201}.
وقال السعدى :
{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} أي : ما ينبغي له ولا يليق به تعالى ، بل هي من الممتنعات عليه ، فأخبر أنه ممتنع عليه ، ومستحيل ، أن يضيع إيمانكم ، وفي هذا بشارة عظيمة لمن مَنَّ الله عليهم بالإسلام والإيمان ، بأن الله سيحفظ عليهم إيمانهم ، فلا يضيعه ، وحفظه نوعان : (2/211)
حفظ عن الضياع والبطلان ، بعصمته لهم عن كل مفسد ومزيل له ومنقص من المحن المقلقة ، والأهواء الصادة ، وحفظ له بتنميته لهم ، وتوفيقهم لما يزداد به إيمانهم ، ويتم به إيقانهم ، فكما ابتدأكم ، بأن هداكم للإيمان ، فسيحفظه لكم ، ويتم نعمته بتنميته وتنمية أجره ، وثوابه ، وحفظه من كل مكدر ، بل إذا وجدت المحن المقصود منها ، تبيين المؤمن الصادق من الكاذب ، فإنها تمحص المؤمنين ، وتظهر صدقهم ، وكأن في هذا احترازا عما قد يقال إن قوله : {وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ} قد يكون سببا لترك بعض المؤمنين إيمانهم ، فدفع هذا الوهم بقوله : {وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ} بتقديره لهذه المحنة أو غيرها.
ودخل في ذلك من مات من المؤمنين قبل تحويل الكعبة ، فإن الله لا يضيع إيمانهم ، لكونهم امتثلوا أمر الله وطاعة رسوله في وقتها ، وطاعة الله ، امتثال أمره في كل وقت ، بحسب ذلك ، وفي هذه الآية ، دليل لمذهب أهل السنة والجماعة ، أن الإيمان تدخل فيه أعمال الجوارح. أ هـ {تفسير السعدى صـ 70}.
أسئلة وأجوبة
فإن قيل : هلا قيل لكم شهيداً إذ شهادته لهم لا عليهم ؟
أجيب : بأنّ الشهيد لما كان كالرقيب والمهيمن على المشهود له جيء بكلمة الاستعلاء ومنه قوله تعالى : {والله على كل شيء شهيد} (المجادلة).
فإن قيل : لم أخرت صلة الشهادة أوّلاً وقدّمت آخراً ؟
أجيب : بأنّ الغرض في الأوّل إثبات شهادتهم على الأمم ، وفي الآخر اختصاصهم بكون الرسول شهيداً عليهم.
فإن قيل : كيف : قال الله تعالى لنعلم وهو عالم بالأشياء كلها ؟
(2/212)
أجيب : بأنه أراد به علم ظهور وهو العلم الذي يتعلق به الثواب والعقاب ، فإنه لا يتعلق بما هو عالم به في الغيب إنما يتعلق بما يوجد ، ومعناه أي : لنعلم العلم الذي يستحق العامل عليه الثواب والعقاب ونظيره قوله تعالى : {ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم ويعلم الصابرين} (آل عمران ، ) وقيل : ليعلم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمؤمنون ، وإنما أسند علمهم إلى ذاته تعالى ؛ لأنهم خواصه وأهل الزلفى عنده وقيل : معناه لتمييز التابع من الناكص كما قال الله تعالى : {ليميز الله الخبيث من الطيب} (الأنفال) فوضع العلم موضع التمييز التابع ؛ لأنّ بالعلم يقع التمييز ، فالعلم سبب والتمييز مسبب ، فأطلق السبب وهو العلم على المسبب وهو التمييز.
تنبيه : العلم في الآية إمّا بمعنى المعرفة ، فيتعدى إلى مفعول واحد وهو من يتبع ، وإمّا معلق لما في من معنى الاستفهام ، وإمّا أن يكون مفعوله الثاني ممن ينقلب أي : ليعلم من يتبع الرسول مميزاً ممن ينقلب.
فإن قيل : على الأوّل كيف يكون العلم بمعنى المعرفة والله تعالى لا يوصف بها ؛ لأنها تقتضي سبق جهل والله منزه عن ذلك ؟
أجيب : بأنّ ذلك لشيوعها فيما تقتضي أن يكون مسبوقاً بالعدم وليس العلم الذي بمعنى المعرفة ، كذلك إذ المراد به الإدراك الذي لا يتعدى إلى مفعولين ، بل قال الوليّ العراقي :
قد وقع إطلاق المعرفة على الله تعالى في كلام النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأقوال الصحابة أو كلام أهل اللغة.
فإن قيل : لم قدم الرؤوف على الرحيم مع أنه أبلغ ؟
أجيب : بأنه قدم محافظة على الفواصل. أ هـ {السراج المنير حـ 1 صـ 159}.
وقال ابن عرفة :
قوله تعالى : {إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ}.
دليل على أنّ الكافر منعم عليه لعموم الناس ، وفيه خلاف ،
وأجيب بأنه منعم عليه في الدنيا فقط.(2/213)
قال ابن الخطيب في شرح الأسماء الحسنى : إنما قدم الرؤوف على الرحيم لأن الرحمة في الشاهد إنما تحصل لمعنى وفي المرحوم من حاجة وضعف ، والرأفة تطلق عند حصول الرحمة لمعنى في الفاعل من شفقة منه على المرحوم فمنشأ
( الرأفة )كمال في إيصال الإحسان ومنشأ (الرحمة) كمال حال المرحوم في الاحتياج إلى الإحسان ، وتأثير حال الفاعل في إيجاد الفعل أقوى من احتياج المفعول إليه.
أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 183}.
سؤال : ما الفرق بين الرأفة والرحمة ؟
الجواب : قال القفال رحمه الله : الفرق بين الرأفة والرحمة أن الرأفة مبالغة في رحمة خاصة وهي دفع المكروه وإزالة الضرر كقوله : {وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِى دِينِ الله} [النور : 2] أي لا ترأفوا بهما فترفعوا الجلد عنهما ، وأما الرحمة فإنها اسم جامع يدخل فيه ذلك المعنى ويدخل فيه الإفضال والإنعام ، وقد سمى الله تعالى المطر رحمة فقال : {وَهُوَ الذى يُرْسِلُ الرياح بُشْرًاَ بَيْنَ يَدَىْ رَحْمَتِهِ} [الأعراف : 57] لأنه إفضال من الله وإنعام ، فذكر الله تعالى الرأفة أولاً بمعنى أنه لا يضيع أعمالهم ويخفف المحن عنهم ، ثم ذكر الرحمة لتكون أعم وأشمل ، ولا تختص رحمته بذلك النوع بل هو رحيم من حيث أنه دافع للمضار التي هي الرأفة وجالب للمنافع معاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 99}.
سؤال : ما وجه تعلق هذين الاسمين بما قبلهما ؟
ذكروا في وجه تعلق هذين الاسمين بما قبلهما وجوهاً. أحدها : أنه تعالى لما أخبر أنه لا يضيع إيمانهم قال : {إِنَّ الله بالناس لَرَءوفٌ رَّحِيمٌ} [الحج : 65] والرؤف الرحيم كيف يتصور منه هذه الإضاعة. وثانيها : أنه لرؤف رحيم فلذلك ينقلكم من شرع إلى شرع آخر وهو أصلح لكم وأنفع في الدين والدنيا. وثالثها : قال : {وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله} فكأنه تعالى قال : وإنما هداهم الله ولأنه رؤف رحيم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 99}.(2/214)
فائدة
دلت الآية على أن من ظهر كفره وفسقه نحو المشبهة والخوارج والروافض فإنه لا يعتد به في الإجماع لأن الله تعالى إنما جعل الشهداء من وصفهم بالعدالة والخيرية ، ولا يختلف في ذلك الحكم من فسق أو كفر بقوله أو فعل ، ومن كفر برد النص أو كفر بالتأويل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 93}.
قوله تعالى {قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)}
{قد} لفظ قد فى المضارع للتقليل وقد استعمل ههنا للتكثير بطريق الاستعارة للمجانسة بين الضدين فى الضدية {نرى} مستقبل لفظا ماض معنى ومتأخر تلاوة متقدم معنى لأنها رأس القصة والمعنى شاهدنا وعلمنا {تقلب وجهك} أى تردد وجهك فى تصرف نظرك {فى السماء} أى فى جهتها تطلعا للوحى وكان ـ عليه السلام ـ يقع فى روعه ويتوقع من ربه أن يحوله إلى الكعبة لأنها قبلة أبيه إبراهيم وأقدم القبلتين وأدعى للعرب إلى الإيمان من حيث إنها كانت مفخرة لهم وأمنا ومزارا ومطافا ولمخالفة اليهود فإنهم كانوا يقولون إنه يخالفنا فى ديننا ثم إنه يتبع قبلتنا ولولا نحن لم يدر أين يستقبل. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 314}.
قال ابن عطية :
المقصد تقلب البصر ، وذكر الوجه لأنه أعم وأشرف ، وهو المستعمل في طلب الرغائب ، تقول : بذلت وجهي في كذا ، وفعلت لوجه فلان ، ومنه قول الشاعر : [الطويل] (2/215)
رَجَعْتُ بما أَبْغي وَوَجْهي بمائِهِ... وأيضاً فالوجه يتقلب بتقلب البصر ، وقال قتادة والسدي وغيرهما : كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقلب وجهه في الدعاء إلى الله تعالى أن يحوله إلى قبلة مكة ، وقيل كان يقلب ليؤذن له في الدعاء.
أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 121}.
سؤال : فإن قيل : أكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير راض ببيت المقدس أن يكون له قبلة ، حتى قال تعالى له في الكعبة {فَلَنُوَلِّيَنَّكْ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} ؟
قيل : لا يجوز أن يكون رسول الله غير راض ببيت المقدس ، لَمَّا أمره الله تعالى به ، لأن الأنبياء يجب عليهم الرضا بأوامر الله تعالى ، لكن معنى ترضاها : أي تحبها وتهواها. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 202}.
وقال محمد بن أبى بكر الرازى :
المراد بهذا الرضا رضا المحبة بالطبع ، لا رضا التسليم والانقياد لأمر الله. أ هـ
{تفسير الرازى صـ 30}.
سؤال : ما المراد من قوله {ترضاها}
الجواب : قوله : {تَرْضَاهَا} فيه وجوه. أحدها : ترضاها تحبها وتميل إليها ، لأن الكعبة كانت أحب إليه من غيرها بحسب ميل الطبع
وثانيها : {قِبْلَةً تَرْضَاهَا} أي تحبها بسبب اشتمالها على المصالح الدينية. وثالثها : قال الأصم : أي كل جهة وجهك الله إليها فهي لك رضا لا يجوز أن تسخط ، كما فعل من انقلب على عقيبه من العرب الذين كانوا قد أسلموا ، فلما تحولت القبلة ارتدوا. ورابعها : {تَرْضَاهَا} أي ترضى عاقبتها لأنك تعرف بها من يتبعك للإسلام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 102ـ باختصار يسير}.
قوله تعالى {فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا}
لطيفة
قال الإمام الفخر ـ رحمه الله ـ :
إنه تعالى أظهر حبه لمحمد ـ عليه الصلاة والسلام ـ بواسطة أمره باستقبال الكعبة ، وذلك لأنه عليه الصلاة والسلام كان يتمنى ذلك مدة لأجل مخالفة اليهود ، فأنزل الله تعالى : {قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السماء}(2/216)
[البقرة : 144] الآية ، وفي الشاهد إذا وصف واحد من الناس بمحبة آخر قالوا : فلان يحول القبلة لأجل فلان على جهة التمثيل ، فالله تعالى قد حول القبلة لأجل حبيبه محمد عليه الصلاة والسلام على جهة التحقيق ، وقال : {فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} [البقرة : 144] ولم يقل قبلة أرضاها ، والإشارة فيه كأنه تعالى قال : يا محمد كل أحد يطلب رضاي وأنا أطلب رضاك في الدارين ، أما في الدنيا فهذا الذي ذكرناه وأما في الآخرة فقوله تعالى : {وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى} [الضحى : 5]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 102}
قوله تعالى : {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}
سؤال : ما المراد من الوجه ههنا ؟
الجواب : المراد من الوجه ههنا جملة بدن الإنسان لأن الواجب على الإنسان أن يستقبل القبلة بجملته لا بوجهه فقط والوجه يذكر ويراد به نفس الشيء لأن الوجه أشرف الأعضاء ولأن بالوجه تميز بعض الناس عن بعض ، فلهذا السبب قد يعبر عن كل الذات بالوجه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 103}
سؤال : لم ذكر المسجد الحرامِ دون الكعبة ؟
الجواب : في ذكر المسجد الحرامِ دون الكعبة إيذانٌ بكفاية مراعاةِ الجهةِ لأن في مراعاةِ العينِ من البعيد حرجاً عظيماً بخلاف القريب.
وقال ابن عجيبة :
وإنما ذكر الحق تعالى شطر المسجد ، أي : جهته ، دون عين الكعبة ، لأنه - عليه الصلاة والسلام - كان في المدينة ، والبعيد يكفيه مراعاة الجهة ، فإن استقبال عينها حَرجٌ عليه ، بخلاف القريب ، فإنه يسهل عليه مسامته العين. وقيل : إن جبريل - ـ عليه السلام ـ عيّنها له بالوحي فسميت قبلة وحْي. أ هـ
{البحر المديد حـ 1 صـ 115}
قوله تعالى {وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ}
قال أبو السعود : (2/217)
{وحيثما كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} خُصَّ الرسولُ ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالخطاب تعظيماً لجنابه وإيذاناً بإسعاف مرامِه ثم عُمّم الخطابُ للمؤمنين مع التعرُّض لاختلاف أماكنِهم تأكيداً للحُكم وتصريحاً بعُمومه لكافة العباد من كل حاضِرٍ وبادٍ وحثاً للأمة على المتابعة ، وحيثما شرطية وكنتم في محل الجزاء بها
أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 175}
فائدة
اعلم أن قوله تعالى : {حيثمَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} عام في الأشخاص والأحوال ، إلا أنا أجمعنا على أن الاستقبال خارج الصلاة غير واجب ، بل أنه طاعة لقوله ـ عليه السلام ـ : " خير المجالس ما استقبل به القبلة " فبقي أن وجوب الاستقبال من خواص الصلاة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 107}
سؤال : هل فى الآية الكريمة تكرار ؟
هذا ليس بتكرار ، وبيانه من وجهين. أحدهما : أن قوله تعالى : {فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} خطاب مع الرسول ـ عليه السلام ـ لا مع الأمة ، وقوله : {حيثمَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} خطاب مع الكل. وثانيهما : أن المراد بالأولى مخاطبتهم وهم بالمدينة خاصة ، وقد كان من الجائز لو وقع الاختصار عليه أن يظن أن هذه القبلة قبلة لأهل المدينة خاصة ، فبين الله تعالى أنهم أينما حصلوا من بقاع الأرض يجب أن يستقبلوا نحو هذه القبلة. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 107}
قوله تعالى {وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ}
سؤال : من أين علموا أنه الحق ؟
فيه أربعة أقوال. أحدها : أن في كتابهم الأمر بالتوجه إليها ، قاله أبو العالية. والثاني : يعلمون أن المسجد الحرام قبلة إبراهيم. والثالث : أن في كتابهم أن محمداً رسول صادق ، فلا يأمر إلا بحق. والرابع : أنهم يعلمون جواز النسخ.
أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 157}(2/218)
قوله تعالى {وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ}
هذا الخبر كناية عن الوعيد بجزائهم عن سوء صنعهم لأن قول القادر ما أنا بغافل عن المجرم تحقيق لعقابه إذ لا يحول بين القادر وبين الجزاء إلاّ عدم العلم فلذلك كان وعيداً لهم ووعيدُهم يستلزم في المقام الخطابي وَعْداً للمسلمين لدلالته على عظيم منزلتهم فإن الوعيد إنما ترتب على مخالفتهم للمؤمنين فلا جرم أن سيلزم جزاء للمؤمنين على امتثال تغيير القبلة ، ولأن الذي لا يغفل عن عمل أولئك لا يَغفل عن عمل هؤلاء فيجازي كلاً بما يستحق. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ 2 صـ 34}
الكعبة مركز دائرة كبرى
لو نظر شخص من خارج الكرة الأرضية إلى المصلين المسلمين لرأى دوائر متعددّة بعضها داخل بعض وتضيق بالتدريج لتصل إلى المركز الأصلي المتمثل بالكعبة. وهذه الصورة توضح محورية ومركزية بيت الله الحرام. وهذه ظاهرة متميزة في الإسلام دون سواه من الأديان.
جدير بالذكر أن ضرورة اتجاه المسلمين شطر المسجد الحرام كان باعثاً على تطور علم الهيئة وعلم الجغرافيا والفلك عند المسلمين بسرعة مدهشة خلال العصور الإسلامية الأولى ، لأن معرفة جهة القبلة في مختلف بقاع الأرض ما كانت متيسّرة من دون معرفة بهذه العلوم. أهـ {الأمثل حـ 1 صـ 311}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية الكريمة
حَفِظَ - صلوات الله عليه - الآدابَ حيث سكت بلسانه عن سؤال ما تمنَّاه من أمر القبلة بقلبه ، فَلاَحَظَ السماءَ لأنها طريق جبريل ـ عليه السلام ـ ، فأنزل الله عزَّ وجل : {قد نرى تقلب وجهك في السماء} أي علمنا سؤلك عمَّا لم تُفْصِحْ عنه بلسان الدعاء ، فلقد غيَّرنا القِبْلَةَ لأجلك ، وهذه غاية ما يفعل الحبيب لأجل الحبيب.(2/219)
كلَّ العبيد يجتهدون في طلب رضائي وأنا أطلب رضاك {فلنولينك قِبْلَةً ترضاها} {فولِّ وجهك شطر المسجد الحرام} : ولكن لا تُعَلِّقْ قلبَكَ بالأحجار والآثار ، وأَفْرِد قلبك لي ، ولتكن القِبلةُ مقصودَ نَفْسِك ، والحقُّ مشهودَ قلبك ، وحيثما كنتم أيها المؤمنون فولوا وجوهكم شطره ، ولكن أَخْلِصوا قلوبَكم لي وأَفرِدوا شهودكم بي. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 134}
وقال فى البحر المديد :
في الآية إشارة إلى أن ترك التصريح من كمال الأدب ، وفي الحكم : " ربما دلّهم الأدب على ترك الطلب ، كيف يكون دعاؤك اللاحق سبباً في قضائه السابق ؟! جلّ حكم الأزل أن يضاف إلى العلل ". فإذا تمنيت شيئاً وتوقفت على أمر فاصبر وتأدب واقتد بنبيك - عليه الصلاة والسلام - حتى يعطيك ما ترضى ، أو يعوضك منها مقام الرضا. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 115}
قوله تعالى {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آَيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)}
{ولئن أتيتَ} عطف على قوله : {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون} [البقرة : 144] ، والمناسبة أنهم يعلمون ولا يعملون فلما أفيد أنهم يعلَمون أنه الحق على الوجه المتقدم في إفادته التعريض بأنهم مكابرون ناسبت أن يحقق نفي الطَّمع في اتِّباعهم القِبْلَة لدفع توهم أن يَطْمع السامع باتباعهم لأنهم يعلمون أحقيتها ، فلذا أكدت الجملة الدالة على نفي اتِّباعهم بالقَسَم واللام الموطئة ، وبالتعليق على أقصى ما يمكن عادةً.(2/220)
والمراد بالذين أوتوا الكتاب عين المراد من قوله : {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون} على ما تقدم فإن ما يفعله أحْبارهم يكون قدوة لعامتهم فإذا لم يتبع أحبارهم قبلة الإسلام فأجْدَرُ بعامتهم أن لا يتبعوها.
ووجه الإظهار في مقام الإضمار هنا الإعلان بمذمتهم حتى تكون هذه الجملة صريحة في تناولهم كما هو الشأن في الإظهار في موقع الإضمار أن يكون المقصود منه زيادة العناية والتمكن في الذهن. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 35}
وقال البقاعى :
{ولئن أتيت الذين أوتوا} بناه للمجهول تنبيهاً على هوانهم {الكتاب} أي من اليهود والنصارى {بكل آية} أي من الآيات المسموعة مرغبة ومرهبة ومن الآيات المرئية مغرّبة ومقربة {ما تبعوا قبلتك} أي هذه التي حولت إليها وكنت الحقيق بها لكونها قياماً للناس كما أنت رسول إلى جميع الناس ، لأن إعراضهم ليس عن شبهة إذا زالت زال بل عن عناد. ثم أومأ إلى أنهم ينصبون له الحبائل ليعود ولو ساعة من نهار إلى قبلتهم ليقدحوا بذلك فيه فقال : {وما أنت بتابع قبلتهم} ثم أشار إلى عيبهم باختلافهم وتفرقهم مع نهيهم عنه فقال : {وما بعضهم} أي أهل الكتاب {بتابع قبلة بعض} مع تقاربهم في النسب ، وذلك حثاً للعرب على الثبات على مباعدتهم والحذر من مخادعتهم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 268}
سؤال : ما المراد بالذين أوتوا الكتاب ؟ (2/221)
الجواب : اختلفوا في قوله : {وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب} فقال الأصم : المراد علماؤهم الذين أخبر الله تعالى عنهم في الآية المتقدمة بقوله : {وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبّهِمْ} [البقرة : 144] واحتج عليه بوجوه. أحدها : قوله : {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم} فوصفهم بأنهم يتبعون الهوى ، ومن اعتقد في الباطل أنه حق فإنه لا يكون متبعاً لهوى النفس ، بل يكون في ظنه أنه متبع للهدى فأما الذين يعلمون بقلوبهم ، ثم ينكرون بألسنتهم ، فهم المتبعون للهوى. وثانيها : أن ما قبل هذه الآية وهو قوله : {وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لِيَعْلَمُواْ أَنَّهُ الحق} لا يتناول عوامهم بل هو مختص بالعلماء ، وما بعدها وهو قوله : {الذين آتيناهم الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ} [الأنعام : 20] مختص بالعلماء أيضاً إذ لو كان عاماً في الكل امتنع الكتمان لأن الجمع العظيم لا يجوز عليهم الكتمان ، وإذا كان ما قبلها وما بعدها خاصاً فكذا هذه الآية المتوسطة. وثالثها : أن الله تعالى أخبر عنهم بأنهم مصرون على قولهم ، ومستمرون على باطلهم ، وأنهم لا يرجعون عن ذلك المذهب بسبب شيء من الدلائل والآيات ، وهذا شأن المعاند اللجوج ، لا شأن المعاند المتحير. ورابعها : أنا لو حملناه على العموم لصارت الآية كذباً لأن كثيراً من أهل الكتاب آمن بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وتبع قبلته.
(2/222)
وقال آخرون : بل المراد جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى ، واحتجوا عليه بأن قوله : {الذين أُوتُواْ الكتاب} صيغة عموم فيتناول الكل ، ثم أجابوا عن الحجة الأولى أن صاحب الشبهة صاحب هوى في الحقيقة ، لأنه ما تمم النظر والاستدلال فإنه لو أتى بتمام النظر والاستدلال لوصل إلى الحق ، فحيث لم يصل إليه علمنا أنه ترك النظر التام بمجرد الهوى ، وأجابوا عن الحجة الثانية بأنه ليس يمتنع أن يراد في الآية الأولى بعضهم ، وفي الآية الثانية كلهم ، وأجابوا عن الحجة الثالثة أن العلماء لما كانوا مصرين على الشبهات ، والعوام كانوا مصرين على اتباع أولئك العلماء كان الإصرار حاصلاً في الكل ، وأجابوا عن الحجة الرابعة بأنه تعالى أخبر عنهم أنهم بكليتهم لا يؤمنون ، وقولنا : كل اليهود لا يؤمنون مغاير لقولنا إن أحداً منهم لا يؤمن. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 113 ـ 114}
قوله تعالى {مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ}
سؤال : لم أضاف القبلة إلى ضميره ـ صلى الله عليه وسلم ـ ؟
الجواب : إضافة القبلة إلى ضميره ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأن الله تعالى تعبده باستقبالها.
أ هـ {روح المعانى حـ 2صـ 11}
قوله تعالى {وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ}
قوله تعالى : {وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} ففيه أقوال. الأول : أنه دفع لتجويز النسخ ، وبيان أن هذه القبلة لا تصير منسوخة. والثاني : حسماً لأطماع أهل الكتاب فإنهم قالوا : لو ثبت على قبلتنا لكنا نرجوا أن يكون صاحبنا الذي ننتظره ، وطمعوا في رجوعه إلى قبلتهم. الثالث : المقابلة يعني ما هم بتاركي باطلهم وما أنت بتارك حقك. الرابع : أراد أنه لا يجب عليك استصلاحهم باتباع قبلتهم ، لأن ذلك معصية. الخامس : وما أنت بتابع قبلة جميع أهل الكتاب من اليهود والنصارى لأن قبلة اليهود مخالفة لقبلة النصارى ، فلليهود بيت المقدس وللنصارى المشرق ، فالزم قبلتك ودع أقوالهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 114}(2/223)
سؤال : لم أفرد القبلة فى قوله تعالى {وَمَا أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ} ؟
الجواب : إفراد القبلة وإن كانت مثناة إذ لليهود قبلة وللنصارى قبلة لأنهما اشتركتا في كونهما باطلتين فصار الاثنان واحداً من حيث البطلان ، وحسن ذلك المقابلة لأن قبله {مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ} وقد يقال : إن الإفراد بناءً على أن قبلة الطائفتين الحقة في الأصل بيت المقدس وعيسى ـ عليه السلام ـ لم يصل جهة الشرق حتى رفع وإنما كانت قبلته قبلة بني إسرائيل اليوم ثم بعد رفعه شرع أشياخ النصارى لهم الاستقبال إلى الشرق واعتذروا بأن المسيح ـ عليه السلام ـ فوض إليهم التحليل والتحريم وشرع الأحكام وأن ما حللوه وحرموه فقد حلله هو وحرمه في السماء وذكروا لهم أن في الشرق أسراراً ليست في غيره. أ هـ
{روح المعانى حـ 2صـ 11}
فائدة
قال الآلوسى :
إن هذه الجملة أبلغ في النفي من الجملة الأولى من وجوه : كونها اسمية وتكرر فيها الاسم مرتين وتأكد نفيها بالباء وفعل ذلك اعتناء بما تقدم {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} أي إن اليهود لا تتبع قبلة النصارى ولا النصارى تتبع قبلة اليهود ما داموا باقين على اليهودية والنصرانية وفي ذلك بيان لتصلبهم في الهوى وعنادهم بأن هذه المخالفة والعناد لا يختص بك بل حالهم فيما بينهم أيضاً كذلك ، والجملة عطف على ما تقدم مؤكدة لأمر القبلة ببيان أن إنكارهم ذلك ناشىء عن فرط العناد وتسلية للرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أ هـ
{روح المعانى حـ 2صـ 11 ـ 12}(2/224)
قوله تعالى {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ}
أما قوله : {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} قال القفال : هذا يمكن حمله على الحال وعلى الاستقبال ، أما على الحال فمن وجوه. الأول : أنهم ليسوا مجتمعين على قبلة واحدة حتى يمكن إرضاؤهم باتباعها. الثاني : أن اليهود والنصارى مع اتفاقهم على تكذيبك متباينون في القبلة فكيف يدعونك إلى ترك قبلتك مع أنهم فيما بينهم مختلفون. الثالث : أن هذا إبطال لقولهم إنه لا يجوز مخالفة أهل الكتاب لأنه إذا جاز أن تختلف قبلتاهما للمصلحة جاز أن تكون المصلحة في ثالث ، وأما حمل الآية على الاستقبال ففيه إشكال وهو أن قوله : {وَمَا بَعْضُهُم بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ} ينفي أن يكون أحد منهم قد اتبع قبلة الآخر لكن ذلك قد وقع فيفضي إلى الخلف ، وجوابه أنا إن حملنا أهل الكتاب على علمائهم الذين كانوا في ذلك الزمان فلم يثبت عندنا أن أحداً منهم يتبع قبلة الآخر فالخلف غير لازم ، وإن حملناه على الكل قلنا إنه عام دخله التخصيص. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 114}
قوله تعالى {وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ}
سؤال : من المخاطب فى الآية الكريمة ؟ (2/225)
الجواب : اختلفوا في المخاطب بهذا الخطاب ، قال بعضهم : الرسول وقال بعضهم : الرسول وغيره. وقال آخرون : بل غيره ، لأنه تعالى عرف أن الرسول لا يفعل ذلك فلا يجوز أن يخصه بهذا الخطاب ، وهذا القول الثالث خطأ لأن كل ما لو وقع من الرسول لقبح ، والالجاء عنه مرتفع ، فهو منهى عنه ، وإن كان المعلوم منه أنه لا يفعله ، ويدل عليه وجوه. أحدها : أنه لو كان كل ما علم الله أنه لا يفعله وجب أن لا ينهاه عنه ، لكان ما علم أنه يفعله وجب أن لا يأمره به ، وذلك يقتضي أن لا يكون النبي مأموراً بشيء ولا منهياً عن شيء وأنه بالاتفاق باطل. وثانيها : لولا تقدم النهي والتحذير لما احترز النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ عنه فلما كان ذلك الاحتراز مشروطاً بذلك النهي والتحذير فكيف يجعل ذلك الاحتراز منافياً للنهي والتحذير. وثالثها : أن يكون الغرض من النهي والوعيد أن يتأكد قبح ذلك في العقل ، فيكون الغرض منه التأكيد ولما حسن من الله التنبيه على أنواع الدلائل الدالة على التوحيد بعد ما قررها في العقول والغرض منه تأكيد العقل بالنقل فأي بعد في مثل هذا الغرض ههنا. ورابعاً : قوله تعالى في حق الملائكة :
(2/226)
{وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إله مّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء : 29] مع أنه تعالى أخبر عن عصمتهم في قوله : {يخافون رَبَّهُمْ مّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [النمل : 50] وقال في حق محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ : {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ} [الزمر : 65] وقد أجمعوا على أنه عليه الصلاة والسلام ما أشرك وما مال إليه ، وقال : {ياأيها النبى اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين} [الأحزاب : 1] وقال تعالى : {وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ} [القلم : 9] وقال : {بَلّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ} [المائدة : 67] وقوله : {وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين} [الأنعام : 14] فثبت بما ذكرنا أنه عليه الصلاة والسلام منهي عن ذلك ، وأن غيره أيضاً منهي عنه لأن النهي عن هذه الأشياء ليس من خواص الرسول عليه الصلاة والسلام بقي أن يقال : فلم خصه بالنهي دون غيره ؟
فنقول فيه وجوه ، أحدها : أن كل من كان نعم الله عليه أكثر ، كان صدور الذنب منه أقبح ، ولا شك أن نعم الله تعالى على الرسول عليه الصلاة والسلام أكثر فكان حصول الذنب منه أقبح فكان أولى بالتخصيص. وثانيها : أن مزيد الحب يقتضي التخصيص بمزيد التحذير. وثالثها : أن الرجل الحازم إذا أقبل على أكبر أولاده وأصلحهم فزجره عن أمر بحضرة جماعة أولاده فإنه يكون منبهاً بذلك على عظم ذلك الفعل إن اختاروه وارتكبوه وفي عادة الناس أن يوجهوا أمرهم ونهيهم إلى من هو أعظم درجة تنبيهاً للغير أو توكيداً ، فهذه قاعدة مقررة في أمثال هذه الآية.أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 115 ـ 116}
وقال الثعالبى : (2/227)
وقوله تعالى : {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العلم...} الآية : خطاب للنبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمرادُ أمته ، وما ورد من هذا النوع الَّذي يوهمُ من النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ظُلْماً متوقّعاً ، فهو محمولٌ على إِرادة أمته ؛ لعصمة النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وقَطْعاً أن ذلك لا يكُونُ منْه ، وإِنما المرادُ مَنْ يمكن أن يقع ذلك منه ، وخوطِبَ النبيُّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعظيماً للأمر ، قال الفَخْر : ودلَّت هذه الآية على أن توجه الوعيد على العلماء أشدُّ من توجُّهه على غيرهم ؛ لأن قوله : {مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العلم} يدلُّ على ذلك. انتهى ، وهو حَسَنٌ. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 117}
وقال فى روح البيان :
وهذه الجملة الشرطية الفرضية واردة على منهاج التهييج والإلهاب للثبات على الحق وفيه لطف للسامعين وتحذير لهم عن متابعة الهوى فإن من ليس من شأنه ذلك إذا نهى عنه ورتب على فرض وقوعه ما رتب من الانتظام فى سلك الراسخين فى الظلم فما ظن من ليس كذلك. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 315}
وقال البيضاوى :
{وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءهُم مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} على سبيل الفرض والتقدير ، أي : ولئن اتبعتهم مثلاً بعدما بان لك الحق وجاءك فيه الوحي {إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظالمين} وأكد تهديده وبالغ فيه من سبعة أوجه : أحدها : الإِتيان باللام الموطئة للقسم. ثانيها : القسم المضمر. ثالثها : حرف التحقيق وهو أن. رابعها : تركيبه من جملة فعلية وجملة اسمية. وخامسها : الإِتيان باللام في الخبر. وسادسها : جعله من {الظالمين} ، ولم يقل إنك ظالم لأن في الاندراج معهم إيهاماً بحصول أنواع الظلم. وسابعها : التقييد بمجيء العلم تعظيماً للحق المعلوم ، وتحريضاً على اقتفائه وتحذيراً عن متابعة الهوى ، واستفظاعاً لصدور الذنب عن الأنبياء. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 1 صـ 423}(2/228)
من أنفس ما قيل فى هذا الموضع وما شابهه
{ولئن اتبعت أهواءهم}. ولما كان هذا السياق لأمر القبلة فقط قال : {من بعد ما جاءك من العلم} قال الحرالي : فأبهمه ولم يكن نحو الأول الذي قال فيه " بعد الذي " لظهور ما ذكر في الأول وخفاء ما وقعت إليه الإشارة في هذا وجاءت فيه " من " التي هي لابتداء من أولية لخفاء مبدأ أمر ما جاء من العلم هنا وظهور ذلك الأول ، لأن ذلك كان في أمر الملة التي مأخذها العقل ، وهذه في أمر التوجيه الذي مأخذه الدين والغيب ، قال الحرالي : قال تعالى : {إنك إذاً لمن الظالمين} على حد ما ذكر من أنه من لمح لمحاً من وصف كان من الموصوف به بألطف لطف ووصف كل رتبة بحسبها ، فما يرفع عنه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ من باب إظهار رغبته وحرصه على هداية الخلق الذي جبل على الرحمة فيه وطلب المسامحة في التقاصر عنه نظراً منه إلى حق الله تعالى ومضمون وصية الله تعالى له حين أوصاه بغير ترجمان ولا واسطة أن يصفح عمن ظلمه ويصل من قطعه ، فكان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يطلب وصل المنقطع عنه حتى يعلن عليه بالإكراه في ترك ذلك وودعه فيجيبه حكماً وإن كان معه علماً ، ومنه قوله : " اللهم اغفر لقومي فإنهم لا يعلمون "(2/229)
ففي طيّ كل خطاب له يظهر الله عز وجل فيه إكراهه على أخذ حكم الحق وإمضاء العدل أعظم مدحة له والتزام لوصيته إياه ، فهو ممدوح بما هو مخاطب بخطاب الإكراه على إمضاء العدل والاختصار في أمر رحمته للعالمين ، فرفعه الله أن يكون ممن يضع رحمة في موضع استحقاق وضع النقمة ، فذلك الذي بجمع معناه بين متقابل الظالمين فيمن يضع النقمة موضع الرحمة فيكون أدنى الظلم ، أو من يضع الرحمة في موضع النقمة فيكون منه بتغيير الوضع بوضع الفضل موضع العدل ؛ وعلى ذلك جميع ما ورد في القرآن من نحو قوله : {فإن كنت في شك مما أنزلنا إليك فسئل الذين يقرءون الكتاب من قبلك لقد جاءك الحق من ربك} أي في إمضاء العدل {فلا تكونن من الممترين} [يونس : 94] في طلب الفضل لأهل العدل فإن الله يمضي عدله كما يفيض فضله ، وكذلك قوله : {عبس وتولى أن جاءه الأعمى} [عبس : 1-2] فيه إظهار لمدحته بحرصه على تألف الأبعدين ووصل القاطعين حتى ينصرف عنهم بالحكم وإشادة الإكراه عليه في ذلك ، فلا ينصرف عن حكم الوصية إلى حكم الكتاب بالحق إلا عن إشادة بإكراهه عليه ، فهو محمود بما هو منهي عنه ، لأن خطابه أبداً في ذلك في القرآن فيما بين الفضل والعدل ، وخطاب سائر الخلق جار فيما بين العدل والجور (1) ، فبين الخطابين ما بين درج العلو ، ودرك السفل في مقتضى الخطابين المتشابهين في القول المتباينين في العلم - انتهى. {نظم الدرر حـ 1 صـ 268 ـ 269}
_________
(1) هذا الكلام من أنفس ما قيل فى آيات العتاب للرسول الأكرم ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن خلال دراستى لكل آيات العتاب تبين لى أنها فى حقيقتها مدح لرسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وكمال إلى كمال ورفعة إلى رفعه ، وسيأتى الكلام على ذلك بالتفصيل إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآَخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ. ـ الأنفال (67)}
وقوله تعالى {عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ. ـ التوبة (43)}(2/230)
لطيفة
وجاء في هذا المكان " مِنْ بِعْدِ مَا جَاءَكَ " وقال قبل هذا : {بَعْدَ الذي جَآءَكَ} [البقرة : 120] وفي " الرعد " : {بَعْدَ مَا جَآءَكَ} [الرعد : 37] فلم يأت بـ " من " الجارة إلا هنا ، واختص موضعاً بـ " الذين " ، وموضعين بـ " ما " ، فما الحكمة في ذلك ؟
والجواب : ما ذكره بعضهم وهو أن " الذي " أخص و" ما " أشد إبهاماً ، فحيث أتي بـ " الذي " أشير به إلى العلم بصحّة الدين الذي هو الإسلام المانع من ملّتي اليهود والنصارى ، فكان اللفظ الأخص الأشهر أولى فيه ؛ لأنه علم بكل أصول الدين ، وحيث أتي بلفظ " ما " أشير به إلى العلم [بركنين] من أركان الدين ، أحدهما : القبلة ، والأخر : بعض الكتاب ؛ لأنه أشار إلى قوله : {وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ} [الرعد : 36].
قال : وأما دخول " : من " ففائدته ظاهرة ، وهي بيان أول الوقت الذي وجب عليه - ـ عليه السلام ـ أن يخالف أهل الكتاب في قبلتهم ، والذي يقال في هذا : إنه من باب التنوع من البلاغة. أ هـ. {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 50}(2/231)
من الحكم العظيمة والمنن الجسيمة فى تحويل القبلة
قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ :
وكان لله في جعل القبلة إلى بيت المقدس ثم تحويلها إلى الكعبة حكم عظيمة ومحنة للمسلمين والمشركين واليهود والمنافقين
فأما المسلمون فقالوا : سمعنا وأطعنا وقالوا : {آمنا به كل من عند ربنا} (آل عمران : 7) وهم الذين هدى الله ولم تكن كبيرة عليهم
وأما المشركون فقالوا : كما رجع إلى قبلتنا يوشك أن يرجع إلى ديننا وما رجع إليها إلا أنه الحق
وأما اليهود فقالوا : خالف قبلة الأنبياء قبله ولو كان نبيا لكان يصلي إلى قبلة الأنبياء
وأما المنافقون فقالوا : ما يدري محمد أين يتوجه إن كانت الأولى حقا فقد تركها وإن كانت الثانية هي الحق فقد كان على باطل وكثرت أقاويل السفهاء من الناس وكانت كما قال الله تعالى : {وإن كانت لكبيرة إلا على الذين هدى الله} (البقرة : 143) وكانت محنة من الله امتحن بها عباده ليرى من يتبع الرسول منهم ممن ينقلب على عقبيه
ولما كان أمر القبلة وشأنها عظيما وطأ - سبحانه - قبلها أمر النسخ وقدرته عليه وأنه يأتي بخير من المنسوخ أو مثله ثم عقب ذلك بالتوبيخ لمن تعنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم ينقد له ثم ذكر بعده اختلاف اليهود والنصارى وشهادة بعضهم على بعض بأنهم ليسوا على شئ وحذر عباده المؤمنين من موافقتهم واتباع أهوائهم ثم ذكر كفرهم وشركهم به وقولهم : إن له ولدا سبحانه وتعالى عما يقولون علوا ثم أخبر أن له المشرق والمغرب وأينما يولي عباده وجوههم فثم وجهه وهو الواسع العليم فلعظمته وسعته وإحاطته أينما يوجه العبد فثم وجه الله(2/232)
ثم أخبر أنه لايسأل رسوله عن أصحاب الجحيم الذين لا يتابعونه ولا يصدقونه ثم أعلمه أن أهل الكتاب من اليهود والنصارى لن يرضوا عنه حتى يتبع ملتهم وأنه إن فعل وقد أعاذه الله من ذلك فماله من الله من ولي ولا نصير ثم ذكرأهل الكتاب بنعمته عليهم وخوفهم من بأسه يوم القيامة ثم ذكر خليله باني بيته الحرام وأثنى عليه ومدحه وأخبر أنه جعله إماما للناس يأتم به أهل الأرض ثم ذكر بيته الحرام وبناء خليله له وفي ضمن هذا أن باني البيت كما هو إمام للناس فكذلك البيت الذي بناه إمام لهم ثم أخبر أنه لا يرغب عن ملة هذا الإمام إلا أسفه الناس ثم أمرعباده أن يأتموا برسوله الخاتم ويؤمنوا بما أنزل إليه وإلى إبراهيم وإلى سائر النبيين ثم رد على من قال : إن إبراهيم وأهل بيته كانوا هودا أو نصارى وجعل هذا كله توطئة ومقدمة بين يدي تحويل القبلة ومع هذا كله فقد كبر ذلك على الناس إلا من هدى الله منهم وأكد سبحانه هذا الأمر مرة بعد مرة بعد ثالثة وأمر به رسوله حيثما كان ومن حيث خرج وأخبر أن الذي يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم هو الذي هداهم إلى هذه القبلة وأنها هي القبلة التي تليق بهم وهم أهلها لأنها أوسط القبل وأفضلها وهم أوسط الأمم وخيارهم فاختار أفضل القبل لأفضل الأمم كما اختار لهم أفضل الرسل وأفضل الكتب وأخرجهم في خير القرون وخصهم بأفضل الشرائع ومنحهم خير الأخلاق وأسكنهم خير الأرض وجعل منازلهم في الجنة خير المنازل وموقفهم في القيامة خير المواقف فهم على تل عال والناس تحتهم فسبحان من يختص برحمته من يشاء وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم. أ هـ {زاد المعاد حـ 3 صـ 95}(2/233)
قوله تعالى {الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}
قوله : {الذين ءاتيناهم الكتاب} وإن كان عاماً بحسب اللفظ لكنه مختص بالعلماء منهم ، والدليل عليه أنه تعالى وصفهم بأنهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ، والجمع العظيم الذي علموا شيئاً استحال عليهم الاتفاق على كتمانه في العادة ، ألا ترى أن واحداً لو دخل البلد وسأل عن الجامع لم يجز أن لا يلقاه أحد إلا بالكذب والكتمان ، بل إنما يجوز ذلك على الجمع القليل ، والله أعلم. أ هـ.
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 116}
الضمير في قوله : {يَعْرِفُونَهُ} إلى ماذا يرجع ؟
ذكروا فيه وجوهاً.
أحدها : أنه عائد إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي يعرفونه معرفة جلية ، يميزون بينه وبين غيره كما يعرفون أبناءهم ، لا تشتبه عليهم وأبناء غيرهم.
عن عمر رضي الله عنه أنه سأل عبد الله بن سلام عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : أنا أعلم به مني بابني ، قال : ولم ؟ (2/234)
قال : لأني لست أشك في محمد أنه نبي وأما ولدي فلعل والدته خانت.
فقبل عمر رأسه ، وجاز الإضمار وإن لم يسبق له ذكر لأن الكلام يدل عليه ولا يلتبس على السامع ومثل هذا الإضمار فيه تفخيم وإشعار بأنه لشهرته معلوم بغير إعلام وعلى هذا القول أسئلة.
السؤال الأول : أنه لا تعلق لهذا الكلام بما قبله من أمر القبلة.
الجواب : أنه تعالى في الآية المتقدمة لما حذر أمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن اتباع اليهود والنصارى بقوله : {وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَا لَّمِنَ الظالمين} [البقرة : 145] أخبر المؤمنين بحاله عليه الصلاة والسلام في هذه الآية فقال : اعلموا يا معشر المؤمنين أن علماء أهل الكتاب يعرفون محمداً وما جاء به وصدقه ودعوته وقبلته لا يشكون فيه كما لا يشكون في أبنائهم.
السؤال الثاني : هذه الآية نظيرها قوله تعالى : {يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِى التوراة والإنجيل} [الأعراف : 157] وقال : {وَمُبَشّراً بِرَسُولٍ يَأْتِى مِن بَعْدِى اسمه أَحْمَدُ} [الصف : 6]
سؤال : لم خص الأبناء الذكور ؟
الجواب : لأن الذكور أعرف وأشهر وهم بصحبة الآباء ألزم وبقلوبهم ألصق.
القول الثاني : الضمير في قوله : {يَعْرِفُونَهُ} راجع إلى أمر القبلة : أي علماء أهل الكتاب يعرفون أمر القبلة التي نقلت إليها كما يعرفون أبناءهم وهو قول ابن عباس وقتادة والربيع وابن زيد.
واعلم أن القول الأول أولى من وجوه.
أحدها : أن الضمير إنما يرجع إلى مذكور سابق ، وأقرب المذكورات العلم في قوله : {مّن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} [البقرة : 145] والمراد من ذلك العلم : النبوة ، فكأنه تعالى قال : إنهم يعرفون ذلك العلم كما يعرفون أبناءهم ، وأما أمر القبلة فما تقدم ذكره البتة.
(2/235)
وثانيها : أن الله تعالى ما أخبر في القرآن أن أمر تحويل القبلة مذكور في التوراة والإنجيل ، وأخبر فيه أن نبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ مذكورة في التوراة والإنجيل ، فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى.
وثالثها : أن المعجزات لا تدل أول دلالتها إلا على صدق محمد ـ عليه السلام ـ ، فأما أمر القبلة فذلك إنما يثبت لأنه أحد ما جاء به محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فكان صرف هذه المعرفة إلى أمر النبوة أولى. أ هـ. {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 116 ـ 117}
وعلق الآلوسى على قصة عمر وابن سلام ـ رضى الله عنهما ـ فقال :
وما حكي عن عبد الله بن سلام أنه قال في شأنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أنا أعلم به مني بابني ، فقال له عمر رضي الله تعالى عنه : لِمَ ؟ قال : لأني لست أشك بمحمد أنه نبي ، فأما ولدي فلعل والدته خانت ، فقبل عمر رضي الله تعالى عنه رأسه ، فمعناه : أني لست أشك في نبوته عليه الصلاة والسلام بوجه ، وأما ولدي فأشك في بنوته وإن لم أشك بشخصه ، وهو المشبه به في الآية فلا يتوهم منه أن معرفة الأبناء لا تستحق أن يشبه بها لأنها دون المشبه للاحتمال ، ولا يحتاج إلى القول بأنه يكفي في وجه الشبه كونه أشهر في المشبه به وإن لم يكن أقوى ومعرفة الأبناء أشهر من غيرها ، ولا إلى تكلف أن المشبه به في الآية إضافة الأبناء إليهم مطلقاً سواء كانت حقة أو لا. وما ذكره ابن سلام كونه ابناً له في الواقع.
أ هـ. {روح المعانى حـ 2 صـ 13}(2/236)
وقال العلامة الطاهر بن عاشور :
الضمير المنصوب في {يَعْرِفُونه} لا يعود إلى تحويل القبلة لأنه لو كان كذلك لصارت الجملة تكريراً لمضمون قوله : {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق من ربهم} ، بل هو عائد إما إلى الرسول وإن لم يسبق ذكر لمعادٍ مناسبٍ لضمير الغيبة ، لكنه قد علم من الكلام السابق وتكرر خطابه فيه من قوله : {وما جعلنا القبلة التي كنت عليها} [البقرة : 143] ، وقوله : {قد نرى تقلب وجهك} [البقرة : 144] ، وقوله : {فلنولينك قبلة} [البقرة : 144] ، وقوله : {فول وجهك} [البقرة : 144] فالإتيان بالضمير بطريق الغيبة من الالتفات ، وهو على تقدير مضاف أي يعرفون صِدْقَهُ ، وإما أن يعود إلى {الحق في قوله السابق : ليكتمون الحق} فيشمل رسالة الرسول وجميعَ ما جاء به ، وإما إلى العلم في قوله : {من بعد ما جاءك من العلم} [البقرة : 145].
أ هـ. {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 39}
سؤال : لم عدل عن أن يقال يعلمونه إلى {يعرفونه} ؟
الجواب : عدل عن أن يقال يعلمونه إلى {يعرفونه} لأن المعرفة تتعلق غالباً بالذوات والأمور المحسوسة قال تعالى : {تعرف في وجوههم نضرة النعيم} [المطففين : 24] وقال زهير :
... فَلأْياً عَرَفْتُ الدَّار بعد توهم
وتقول عرفت فلاناً ولا تقول عرفت عِلْم فلان ، إلاّ إذا أردت أن علمه صار كالمشاهد عندك ، ولهذا لا يعدى فعل العرفان إلى مفعولين كما تُعدى أفعال الظن والعلم ، ولهذا يوصف الله تعالى بصفة العلم فيقال العليم ، ولا يوصف بصفة المعرفة فلا يقال الله يعرف كذا ، فالمعنى يعرفون صفات الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعلاماته المذكورة في كتبهم ، ويعرفون الحق كالشيء المشاهد. أ هـ.
{التحرير والتنوير حـ 2 صـ 40}
سؤال : لم خضص الذكور من الأبناء دون الإناث ؟ (2/237)
الجواب : المراد بالأبناء الذكور لأنهم أكثر مباشرة ومعاشرة للآباء ، وألصق وأعلق بقلوبهم من البنات ، فكان ظن اشتباه أشخاصهم أبعد ، وكان التشبيه بمعرفة الأبناء آكد من التشبيه بالأنفس لأن الإنسان قد يمر عليه قطعة من الزمان لا يعرف فيها نفسه كزمن الطفولية بخلاف الأبناء فإنه لا يمر عليه زمان إلا وهو يعرف ابنه. أ هـ. {روح المعانى حـ 2 صـ 13}
سؤال : لم خص الفريق ؟
الجواب : خص لأن منهم من أسلم ولم يكتم ، والإشارة بالحق إلى ما تقدم من الخلاف في ضمير {يعرفونه} ، فعم الحق مبالغة في ذمهم. أ هـ. {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 224}
سؤال : قال ابن عطية : لم شبّه معرفتهم له بمعرفتهم أبناءهم ولم يشبهها بمعرفتهم أنفسهم ؟
وأجاب بأن الإنسان يتقدم له زمن لا يعرف فيه حال نفسه وهو زمن الصغر بخلاف ولده فإنه يشاهده من صغره إلى كبره.
قال ابن عرفة : ويحتمل عندي أن يجاب بأن ذلك التشبيه للمشاكلة لأن الكتاب منفصل عنهم فشبه بما هو منفصل عنهم وهو الولد بخلاف أنفسهم. أ هـ
{تفسير ابن عرفة صـ 188}
إشكال وجوابه
فإن قيل : إن آخر الآية مناقض لأولها لأن قوله {يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَآءَهُمْ} دليل على أن جميعهم يعلمونه.
وقوله تعالى : {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق...}.
دليل على أن بعضهم يجهلونه.
فإن قلت : إنما مقتضاه أن باقيهم يعلمون الحق ويظهرونه ؟
قلنا : لا يصح لوجهين : الأول : أن الضمير المجرور في قوله {مِّنْهُم} عائد على {الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب} وقد قالوا : إن {الذين} بدل من {الظالمين} ، فإذا كان كذلك بطل أن يكون بعضهم عالمين به ومظهرين له إذ لا يسمى فاعل ذلك ظالما.
- الثاني : {إِنَّ فَرِيقاً} إنما يطلق على القليل من الجماعة ولا يقال للنصف (فريقا) (فيلزم) أن يكون أكثرهم مظهرين للحق ، وذلك مخالف لسياق الآية لأنها إنما سيقت لذمهم.(2/238)
وأجاب ابن عرفة عن الإشكال باحتمال كون فيهم مِن علِم وتحقق ولم تعرض له شبهة توجب له الريبة والشك في علمه فهؤلاء هم الّذين قيل فيهم {وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ}. ومنهم من علم وعرضت له شبهة توجب التردد في علمه فهؤلاء هم المسكوت عنهم. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 188}
قوله تعالى {وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ}
{وإن فريقاً منهم} أي أهل الكتاب {ليكتمون الحق} أي يخفونه ولا يعلنونه.
ولما كان لا يلزم من ذلك علمهم به ولا يلزم من علمهم به استحضاره عند الكتمان قال : {وهم يعلمون} أي إنه حق وأنهم آثمون بكتمانه ، فجعلهم أصنافاً : صنفاً عرفوه فاتبعوه ، وصنفاً عرفوه فأنكروه كما في إفهامه وفريقاً علموه فكتموه ؛ وفي تخصيص هذا الفريق بالعلم إشعار بفرقان ما بين حال من يعرف وحال من يعلم ، فلذلك كانوا ثلاثة أصناف : عارف ثابت ، وعارف منكر هو أردؤهم ، وعالم كاتم لاحق به ؛ وفي مثال يكتمون ويعلمون إشعار بتماديهم في العالم وتماديهم في الكتمان.
ولأن هذا المجموع يفيد قهر الحق للخلق بما شاء منهم من هدى وفتنة لتظهر فيها رحمته ونقمته وهو الحق الذي هو ماضي الحكم الذي جبلّة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ تتقاضى التوقف فيه لما هو عليه من طلب الرحمة ولزوم حكم الوصية.
أ هـ. {نظم الدرر حـ 1 صـ 270}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
حَمَلَتْهُمْ مُسْتَكنَّاتُ الحَسَدِ على مكابرة ما علموه بالاضطرار ، فكذلك المغلوب في ظلمات نفسه ، ألقى جلباب الحياء فلم ينْجع فيه مَلاَم ، ولم يَرْدَعْه عن انهماكه كلام. أ هـ. {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 135}
فائدة
قال صاحب روح البيان : (2/239)
عندنا ثلاث مراتب. إحداها مرتبة التقليد وهى لعامة الناس. والثانية مرتبة التحقيق والإيقان وهى للمجتهدين كالأئمة الأربعة ومن يحذو حذوهم. والثالثة مرتبة المشاهدة والعيان فهى للكمل من أهل السلوك قال وإذا لم تتطهر النفس من الأخلاق الرديئة لا تحصل المعارف الآلهية وإن كان كاملا فى العقل والعلوم ألا يرى أن الشيطان مع عقله وعلمه كيف استكبر وعصى أمر الله تعالى لما فى نفسه من الكبر والحسد وكذلك حال أهل الكتاب فى أمر القبلة وشأن النبى ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث لم ينفع العلم والمعرفة لخبث باطنهم فلا بد من تزكية النفوس وتصفية القلوب والاستقامة فى باب الحق إلى أن يأتى اليقين. أ هـ.
{روح البيان حـ 1 صـ 316}
فائدة
قال البقاعى :
وفي تأكيد الأمر تارة بالعلم وتارة بالمعرفة وتارة بغيرهما تأكيد لوجوب اتباعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ وإزاحة لما يلقيه السفهاء العالمون به من الشبه. أ هـ.
{نظم الدرر حـ 1 صـ 271}
قوله تعالى {الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)}
قوله تعالى : " الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ " فيه ثلاثة أوجه :
أظهرها : أنه مبتدأ وخبره الجار والمجرور بعده ، وفي الألف واللام حينئذ وجهان :
أحدهما : أن تكون للعهد ، والإشارة إلى الحق الذي عليه الرسول - ـ عليه السلام ـ أو إلى الحق الذي في قوله : " يَكْتُمُونَ الْحَقَّ " أي : هذا الذي يكتمونه هو الحق من ربك ، وأن تكون للجنس على معنى الحق من الله لا من غيره.
الثاني : أنه خبر مبتدأ محذوف ، أي : هو الحق من ربك ، والضمير يعود على الحق المكتوم أي : ما كتموه هو الحق.
الثالث : أنه مبتدأ والخبر محذوف تقديره : الحق من ربك يعرفونه ، والجار والمجرور على هَذَين القولين في محلّ نصب على الحال من " الحَقّ " ، ويجوز أن يكون خبراً بعد خبر في الوجه الثاني. أ هـ. {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 53 ـ 54}(2/240)
( بصيرة فى الحق )
أَصل الحَقّ المطابقةُ والموافقة ، كمطابقة رِجْل الباب فى حُقِّه لدَوَرانه على الاستقامة.
والحَقّ يقال على أَربعة أَوجه.
الأَوّل : يقال لموجِد الشئ بحسب ما تقتضيه الحكمة. ولذلك قيل فى الله تعالى : هو الحقّ.
الثَّانى : يقال للموجَد بحسب ما تقتضيه الحكمة. ولذلك يقال : فِعْل الله تعالى كلُّه حَقّ ؛ نحو قولنا : الموت حقّ ، والبعث حقّ {هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَآءً وَالْقَمَرَ نُوراً} إِلى قوله {مَا خَلَقَ اللَّهُ ذلك إِلاَّ بِالْحَقِّ}.
الثالث : الاعتقاد فى الشئ المطابِقُ لما عليه ذلك الشئ فى نفسه ؛ كقولنا : اعتقاد فلان فى البعث والثواب والعقاب والجنّة والنَّار حق.
الرّابع : للفعل والقول الواقع بحسب ما يجب ، وبقدر ما يجب ، وفى الوقت الذى يجب ، كقولنا : فعلك حق ، وقولك حق. وقوله تعالى {وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَآءَهُمْ} يصح أَن يكون المراد به الله تعالى ، ويصحّ أَن (يراد) به الحُكْم الَّذى هو بحسب مقتضى الحكمة. ويقال : أَحققت كذا أَى أَثبتُّه حقَّا ، أَو حكمت بكونه حقّاً. وقوله تعالى : {لِيُحِقَّ الْحَقَّ} فإِحقاقُ الحقّ على ضربين : أَحدهما بإِظهار الأَدِلَّة والآيات ، كما قال {وَأُوْلَائِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً} أَى حجّةً قويّة. والثَّانى بإِكمال الشريعة وبَثِّها ، كقوله تعالى : {وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ}. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 2 صـ 345}.
سؤال : فإن قلت : النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ لم يمتر ولم يشك فما معنى هذا النهي ؟ .
الجواب : قلت : هذا خطاب وإن كان للنبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولكن المراد غيره والمعنى فلا تشكوا أنتم أيها المؤمنون وقد تقدم نظير هذا. أ هـ.
{تفسير الخازن حـ 1 صـ 92}
وقال الآلوسى : (2/241)
قوله تعالى {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} أي الشاكين أو المترددين في كتمانهم الحق عالمين به ، أو في أنه من ربك وليس المراد نهي الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك لأن النهي عن شيء يقتضي وقوعه أو ترقبه من المنهي عنه وذلك غير متوقع من ساحة حضرة الرسالة ـ صلى الله عليه وسلم ـ فلا فائدة في نهيه ، ولأن المكلف به يجب أن يكون اختيارياً ، وليس الشك والتردد مما يحصل بقصد واختيار بل المراد إما تحقيق الأمر وأنه بحيث لا يشك فيه أحد كائناً من كان ، أو الأمر للأمة بتحصيل المعارف المزيلة لما نهى عنه فيجعل النهي مجازاً عن ذلك الأمر وفي جعل امتراء الأمة امتراءه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبالغة لا تخفى ، ولك أن تقول : إن الشك ونحوه وإن لم يكن مقدور التحصيل لكنه مقدور لإزالة البقاء ، ولعل النهي عنه بهذا الاعتبار ولهذا قال الله تعالى : {فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين} دون فلا تمتر ، ومن ظن أن منشأ الإشكال إفخام الكون لأنه هو الذي ليس مقدوراً فلا ينهى عنه دون الشك والتردد لم يأت بشيء. أ هـ.
{روح المعانى حـ 2 صـ 14}
وقال أبو حيان :
{فلا تكونن من الممترين}.(2/242)
المراد بهذا الخطاب في المعنى هو الأمّة. ودل الممترين على وجودهم ، ونهى أن يكون منهم ، والنهي عن كونه منهم أبلغ من النهي عن نفس الفعل. فقولك : لا تكن ظالماً ، أبلغ من قولك : لا تظلم ، لأن لا تظلم نهي عن الالتباس بالظلم. وقولك : لا تكن ظالماً نهي عن الكون بهذه الصفة. والنهي عن الكون على صفة ، أبلغ من النهي عن تلك الصفة ، إذ النهي عن الكون على صفة يدل بالوضع على عموم الأكوان المستقبلة على تلك الصفة ، ويلزم من ذلك عموم تلك الصفة. والنهي عن الصفة يدل بالوضع على عموم تلك الصفة. وفرق بين ما يدل على عموم ، ويستلزم عموماً ، وبين ما يدل على عموم فقط ، فلذلك كان أبلغ ، ولذلك كثر النهي عن الكون. قال تعالى : {فلا تكوننّ من الجاهلين} {ولا تكونن من الذين كذبوا بآيات الله} {فلا تكن في مرية منه} والكينونة في الحقيقة ليست متعلق النهي. والمعنى : لا تظلم في كل أكوانك ، أي في كل فرد فرد من أكوانك ، فلا يمر بك وقت يوجد فيه منك ظلم ، فتصير كأن فيه نصاً على سائر الأكوان ، بخلاف لا تظلم ، فإنه يستلزم الأكوان. وأكد النهي بنون التوكيد مبالغة في النهي ، وكانت المشدّدة لأنها أبلغ في التأكيد من المخففة. والمعنى : فلا تكونن من الذين يشكون في الحق ، لأن ما جاء من الله تعالى لا يمكن أن يقع فيه شك ولا جدال ، إذ هو الحق المحض الذي لا يمكن أن يلحق فيه ريب ولا شك.أ هـ. {البحر المحيط حـ 1 صـ 610}
قوله تعالى {وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)}
سؤال : ما المراد بقوله : {وَلِكُلٍّ} ؟
الجواب : اعلم أنهم اختلفوا في المراد بقوله : {وَلِكُلٍّ} وفيه مسألتان : (2/243)
المسألة الأولى : إنما قال : {وَلِكُلّ} ولم يقل لكل قوم أو أمة لأنه معروف المعنى عندهم فلم يضر حذف المضاف إليه وهو كثير في كلامهم كقوله : {لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً ومنهاجا} [المائدة : 48].
المسألة الثانية : ذكروا فيه أربعة أوجه.
أحدها : أنه يتناول جميع الفرق ، أعني المسلمين واليهود والنصارى والمشركين ، وهو قول الاصم ، قال : لأن في المشركين من كان يعبد الأصنام ويتقرب بذلك إلى الله تعالى كما حكى الله تعالى عنهم في قوله : {هَؤُلاء شفعاؤنا عِندَ الله} [يونس : 18].
وثانيها : وهو قول أكثر علماء التابعين ، أن المراد أهل الكتاب وهم : المسلمون واليهود والنصارى ، والمشركون غير داخلين فيه.
وثالثها : قال بعضهم : المراد لكل قوم من المسلمين وجهة أي جهة من الكعبة يصلي إليها : جنوبية أو شمالية ، أو شرقية أو غربية ، واحتجوا على هذا القول بوجهين.
الأول : قوله تعالى : {هُوَ مُوَلّيهَا} يعني الله موليها وتولية الله لم تحصل إلا في الكعبة ، لأن ما عداها تولية الشيطان.
الثاني : أن الله تعالى عقبه بقوله : {فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ} والظاهر أن المراد من هذه الخيرات ما لكل أحد من جهة ، والجهات الموصوفة بالخيرية ليست إلا جهات الكعبة.
ورابعها : قال آخرون : ولكل وجهة أي لكل واحد من الرسل وأصحاب الشرائع جهة قبلة ، فقبلة المقربين : العرش ، وقبلة الروحانيين : الكرسي ، وقبلة الكروبيين : البيت المعمور ، وقبلة الأنبياء الذين قبلك بيت المقدس ، وقبلتك الكعبة. أ هـ. {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 119}
سؤال ما المراد بقوله {وجهة} ؟ (2/244)
الجواب : اختلفوا في المراد فقال الحسن : المراد المنهاج والشرع ، وهو كقوله تعالى : {لّكُلّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً} [الحج : 67] ، {لِكُلّ جَعَلْنَا مِنكُمْ} [المائدة : 48] {شِرْعَةً ومنهاجا} [المائدة : 48] والمراد منه أن للشرائع مصالح ، فلا جرم اختلفت الشرائع بحسب اختلاف الأشخاص ، وكما اختلف بحسب اختلاف الأشخاص لم يبعد أيضاً اختلافها بحسب اختلاف الزمان بالنسبة إلى شخص واحد ، فلهذا صح القول بالنسخ والتغيير ، وقال الباقون : المراد منه أمر القبلة ، لأنه تقدم قوله تعالى : {فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام} [البقرة : 144] فهذه الوجهة يجب أن تكون محمولة على ذلك. أ هـ.
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 119}
قوله تعالى {هو موليها}
{هو موليها} إن كسر اللام كان المعنى هو متوليها أي فاعل التولي أي مائل إليها بوجهه لأن المادة تدور بكل ترتيب على الميل كما يأتي إن شاء الله تعالى في آخر الأنفال ، فيكون وليّ بمعنى تولّى كقدم بمعنى تقدم ، ومن المعلوم الفرق بين تولاه وتولى عنه ، وإن فتح فالمعنى : هو ممال إليها.
قال الحرالي : وفي قراءة موليها - بالكسر - إشعار باختلاف جبلات أهل الملل وإقامة كل طائفة منهم بما جبلت عليه ، وفي قراءة " مولاها " إظهار حقيقة ذلك وأنه ليس ذلك منهم بل بما أقامهم فيه المولى لهم حيث شاء ، وأبهم فيه المولى لما كان في طوائف منهم حظ هوى ، وهو من التولية وهو ما يجعل مما يلي الجسد ، أو القصد أي يكون ميالاً بين يديه ملاصقاً له - انتهى.
{نظم الدرر حـ 1 صـ 271}
قوله تعالى {هُوَ مُوَلِّيهَا}
سؤال : ما مرجع الضمير المنفصل {هو} ؟ (2/245)
الجواب : وفي "هو" ثلاثة أقوال. أحدها : أنها ترجع إلى الله تعالى ، فالمعنى : الله مولّيها إياهم ، أي : أمرهم بالتوجه إليها. والثاني : ترجع إلى المتولي ، فالمعنى : هو موليها نفسه ، فيكون "هو" ضمير كل. والثالث : يرجع إلى البيت ، قاله مجاهد : أمر كل قوم أن يصلُّوا إلى الكعبة. والجمهور يقرؤون : {مولّيها} وقرأ ابن عامر ، والوليد عن يعقوب : "هو مولاها" بألف بعد اللام ، فضمير "هو" لكل ، ومعنى القراءتين متقارب.أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 159}
قوله تعالى {فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ}
والاستباق افتعال والمراد به السبق وحقه التعدية باللام إلاّ أنه توسع فيه فعدي بنفسه كقوله تعالى : {واستبقا الباب} [يوسف : 25] أو على تضمين استبقوا معنى اغتنموا. فالمراد من الاستباق هنا المعنى المجازي وهو الحرص على مصادفة الخير والإكثار منه والخيرات جمع خير على غير قياس كما قالوا سرادقات وحمامات. والمراد عموم الخيرات كلها فإن المبادرة إلى الخير محمودة ومن ذلك المبادرة بالتوبة خشية هاذم اللذات وفجأة الفوات قال تعالى : {وسارعوا إلى مغفرة من ربكم} [آل عمران : 133] ، {والسابقون السابقون ، أولئك المقربون ، في جنات النعيم} [الواقعة : 10 12] ومن ذلك فضيلة السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار قال تعالى : {لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح وقاتل أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد وقاتلوا} [الحديد : 10] وقال موسى : {وعجلت إليك رب لترضى} [طه : 84]. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ 2 صـ 43}
وقال أبو السعود :
وهو أبلغَ من الأمر بالمسارعة لما فيه من الحث على إحراز قصَبِ السبْقِ والمرادُ بالخيرات جميعُ أنواعِها من أمر القِبلة وغيرِه مما يُنال به سعادةُ الدارين أو الفاضلاتُ من الجهات وهي المسامته للكعبة. أ هـ
{تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 177}(2/246)
موعظة
كان الحسن يقول : عجبت لأقوام أمروا بالزاد ونودي فيهم بالرحيل وجلس أولهم على آخرهم وهم يلعبون
وكان يقول : يا بن آدم : السكين تشحذ والتنور يسجر والكبش يعتلف
وقال أبو حازم : إن بضاعة الآخرة كاسدة فاستكثروا منها في أوان كسادها فإنه لو جاء وقت نفاقها لم تصلوا فيها إلى قليل ولا كثير وكان عون بن عبدالله يقول : ما أنزل الموت كنه منزلته ما قد غدا من أجلكم مستقبل يوم لا يستكمله وكم من مؤمل لغد لايدركه إنكم لو رأيتم الأجل ومسيره بغضتم الأمل وغروره
وكان أبو بكر بن عياش يقول : لو سقط من أحدكم درهم لظل يومه يقول : إنا لله ذهب درهمي وهو يذهب عمره ولا يقول : ذهب عمري وقد كان لله أقوام يبادرون الأوقات ويحفظون الساعات ويلازمونها بالطاعات
فقيل عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنه ما مات حتى سرد الصوم
وكانت عائشة رضي الله عنها تسرد وسرد أبو طلحة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أربعين سنة وقال نافع : ما رأيت ابن عمر صائما في سفره ولا مفطرا في حضره
قال سعيد بن المسيب : ما تركت الصلاة في جماعة منذ أربعين سنة وكان سعيد بن جبير يختم القرآن في ليلتين وكان الأسود يقوم حتى يخضر ويصفر وحج ثمانين حجة
وقال ثابت البناني : ما تركت في الجامع سادنة إلا وختمت القرآن عندها وقيل لعمرو بن هانيء : لا نرى لسانك يفتر من الذكر فكم تسبح كل يوم ؟ قال : مائة ألف إلا ما تخطيء الأصابع
وصام منصور بن المعتمر أربعين سنة وقام ليلها وكان الليل كله يبكي فتقول له أمه : يا بني قتلت قتيلا فيقول : أنا أعلم بما صنعت نفسي
قال الجماني : لما حضرت أبو بكر بن عياش الوفاة بكت أخته فقال : لا تبك وأشار إلى زاوية في البيت إنه قد ختم أخوك في هذه الزاوية ثمانية عشر ألف ختمة(2/247)
قال الربيع : وكان الشافعي رضي الله عنه يقرأ في كل شهر ثلاثين ختمة وفي كل شهر رمضان ستين ختمة سوى ما يقرأ في الصلوات واعلم أن الراحة لا تنال بالراحة ومعالي الأمور لا تنال بالفتور ومن زرع حصد ومن جد وجد
لله در أقوام شغلهم تحصيل زادهم عن أهاليهم وأولادهم ومال بهم ذكر المآل عن المال في معادهم وصاحت بهم الدنيا فما أجابوا شغلا بمرادهم وتوسدوا أحزانهم بدلا عن وسادهم واتخذوا الليل مسلكا لجهادهم واجتهادهم وحرسوا جوارحهم من النار عن غيهم وفسادهم فيا طالب الهوى جز بناديهم ونادهم :
( أحيوا فؤادي ولكنهم... على صيحة من البين ماتوا جميعا )
( حرموا راحة النوم أجفانهم... ولفوا على الزفرات الضلوعا )
( طوال السواعد شم الأنوف... فطابوا أصولا وطابوا فروعا )
أقبلت قلوبهم ترعى حق الحق فذهلت بذلك عن مناجاة الخلق فالأبدان بين أهل الدنيا تسعى والقلوب في رياض الملكوت ترعى نازلهم الخوف فصاروا والهين وناجاهم الفكر فعادوا خائفين وجن عليهم الليل فباتوا ساهرين وناداهم منادي الصلاح حي على الفلاح فقاموا متجدهين وهبت عليهم ريح الأسحار فتيقظوا مستغفرين وقطعوا بند المجاهدة فأصبحوا واصلين فلما رجعوا وقت الفجر بالأجر بادى الهجر يا خيبة النائمين
أ هـ {الياقوتة صـ 57}(2/248)
قوله تعالى {أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ}
{أين ما تكونوا} أي من الجهات التي استبقتم إليها الحسية والمعنوية {يأت بكم الله} أي الملك الأعظم {جميعاً} منها إليه في يوم البعث ، ثم علل هذه العلة بقوله : {إن الله} أي الذي له الأمر كله {على كل شيء قدير} وفي ذكر البعث هنا معادلة بين القبلتين : قبلة أهل الفضل الأمة الوسط التي جعلت محل الأمن ، والقبلة الأولى ، قال الحرالي : من حيث يرد الخلق في البعث إلى موطن القبلة السابقة من أرض الشام ، فيكون موطن الحق والعدل أولى القبلتين بذلك ، لأن أعلى القبلتين موطن أمنة من حيث إن من دخله كان آمناً ، فكان المحشر إلى قبلتهم الأولى التي هي بداية الأمر ليطابق الآخر من القبلتين الأولى من حيث كان الآخر في الدنيا للفضل والأول في الآخر للعدل ومن الدعوتين من حيث كانت الدعوة الأولى في الأول حكماً وعلماً والإتيان الآخر في العقبى قهراً وملكاً. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 271}
قوله تعالى {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)}(2/249)
من أسرار التكرار فى آيات القبلة الثلاث
اعلم أن أول ما في هذه الآية من البحث أن الله تعالى قال قبل هذه الآيات : {قَد نرى تقلب وجهك في السماء فلنولينك قبلة ترضاها فول وجهك شطر المسجد الحرام وحيث ما كنتم فولوا وجوهكم شطره وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أن الحق من ربهم وما الله بغافل عما يعملون} [البقرة : 144] ثم ذكر ههنا ثانياً قوله تعالى : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ وَمَا الله بغافل عَمَّا تَعْمَلُونَ} وذكر ثالثاً قوله : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ} فهل في هذا التكرار فائدة أم لا ؟
وللعلماء فيه أقوال.
أحدها : أن الأحوال ثلاثة ، أولها : أن يكون الإنسان في المسجد الحرام.
وثانيها : أن يخرج عن المسجد الحرام ويكون في البلد.
وثالثها : أن يخرج عن البلد إلى أقطار الأرض ، فالآية الأولى محمولة على الحالة الأولى ، والثانية على الثانية ، والثالثة على الثالثة ، لأنه قد كان يتوهم أن للقرب حرمة لا تثبت فيها للعبد ، فلأجل إزالة هذا الوهم كرر الله تعالى هذه الآيات.(2/250)
والجواب الثاني : أنه سبحانه إنما أعاد ذلك ثلاث مرات لأنه علق بها كل مرة فائدة زائدة أما في المرة الأولى فبين أن أهل الكتاب يعلمون أن أمر نبوة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمر هذه القبلة حق ، لأنهم شاهدوا ذلك في التوراة والإنجيل ، وأما في المرة الثانية فبين أنه تعالى يشهد أن ذلك حق ، وشهادة الله بكونه حقاً مغايرة لعلم أهل الكتاب بكونه حقاً ، وأما في المرة الثالثة فبين أنه إنما فعل ذلك لئلا يكون للناس عليكم حجة ، فلما اختلفت هذه الفوائد حسنت إعادتها لأجل أن يترتب في كل واحدة من المرات واحدة من هذه الفوائد ، ونظيره قوله تعالى : {فَوَيْلٌ لّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِندِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَّهُمْ مّمَّا كَتَبَتْ أيديهم وويل لهم مما يكسبون} [البقرة : 79].(2/251)
والجواب الثالث : أنه تعالى قال في الآية الأولى : {فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فكان ربما يخطر ببال جاهل أنه تعالى إنما فعل ذلك طلباً لرضا محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأنه قال : {فَلَنُوَلّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا} فأزال الله تعالى هذا الوهم الفاسد بقوله : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ} أي نحن ما حولناك إلى هذه القبلة بمجرد رضاك ، بل لأجل أن هذا التحويل هو الحق الذي لا محيد عنه فاستقبالها ليس لأجل الهوى والميل كقبلة اليهود المنسوخة التي إنما يقيمون عليها بمجرد الهوى والميل ، ثم أنه تعالى قال ثالثاً : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} والمراد دوموا على هذه القبلة في جميع الأزمنة والأوقات ، ولا تولوا فيصير ذلك التولي سبباً للطعن في دينكم ، والحاصل أن الآية السالفة أمر بالدوام في جميع الأمكنة والثانية أمر بالدوام في جميع الأزمنة والأمكنة ، والثالثة أمر بالدوام في جميع الأزمنة وإشعار بأن هذا لا يصير منسوخاً ألبتة.
والجواب الرابع : أن الأمر الأول مقرون بإكرامه إياهم بالقبلة التي كانوا يحبونها وهي قبلة أبيهم إبراهيم ـ عليه السلام ـ والثاني مقرون بقوله تعالى : {وَلِكُلّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلّيهَا} [البقرة : 148] أي لكل صاحب دعوة وملة قبلة يتوجه إليها فتوجهوا أنتم إلى أشرف الجهات التي يعلم الله تعالى أنها حق وذلك هو قوله : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ للْحَقُّ مِن رَّبّكَ}.
(2/252)
والثالث مقرون بقطع الله تعالى حجة من خاصمه من اليهود في أمرالقبلة فكانت هذه عللاً ثلاثاً قرن بكل واحدة منها أمر بالتزام القبلة نظيره أن يقال : الزم هذه القبلة فإنها القبلة التي كنت تهواها ، ثم يقال : الزم هذه القبلة فإنها قبلة الحق لا قبلة الهوى ، وهو قوله : {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبّكَ} ثم يقال : لزم هذه القبلة فإن في لزومك إياها انقطاع حجج اليهود عنك ، وهذا التكرار في هذا الموضع كالتكرار في قوله تعالى : {فَبِأَىّ ءَالاء رَبّكُمَا تُكَذّبَانِ} [الرحمن : 12] وكذلك ما كرر في قوله تعالى : {إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّؤْمِنِينَ} [الشعراء : 174].
والجواب الخامس : أن هذه الواقعة أول الوقائع التي ظهر النسخ فيها في شرعنا فدعت الحاجة إلى التكرار لأجل التأكيد والتقرير وإزالة الشبهة وإيضاح البينات
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 124 ـ 126}
وقال الإمام الماوردى :
أكد الله أمره في استقبال الكعبة ، لما جرى من خوض المشركين ومساعدة المنافقين ، بإعادته فقال : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} تبييناً لِنَبِيِّهِ وصرفاً له عن الاغترار بقول اليهود : أنهم يتبعونه إن عاد.
{وَمَا اللهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ} يحتمل وجهين :
أحدهما : أن يقول ذلك ترغيباً لهم في الخير.
والثاني : تحذيراً من المخالفة.
ثم أعاد الله تعالى تأكيد أمره ، ليخرج من قلوبهم ما استعظموه من تحويلهم إلى غير ما أَلِفُوه ، فقال : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُمَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} فأفاد كل واحد من الأوامر الثلاثة مع استوائها في التزام الحكم فائدة مستجده : (2/253)
أما الأمر الأول فمفيد لنسخ غيره ، وأما الأمر الثاني فمفيد لأجل قوله تعالى :
{وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ} أنه لا يتعقبه نسخ.
وأما الأمر الثالث فمفيد أن لا حجة عليهم فيه ، لقوله : {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 207}
وقال البقاعى :
ولما عظم في شأن القبلة انتشار أقوالهم في تنويع شغبهم وجدالهم وكانوا أهل علم وكتاب ، وقد مرت لهم دهور وهو موسومون بأنهم على صواب ، فاشرأب لذلك النفاق ، ودارت رحى الباطل والشقاق ، وقامت سوق الفسوق فيما هنالك على ساق ، كان الحال مقتضياً لمزيد تأكيد لأمرها تعظيماً لشأنها وتوهية لشبه السفهاء فقال تعالى ثانياً معبراً بعبارة مشعرة بإمامته ـ صلى الله عليه وسلم ـ وانتظار المصلين له ، {ومن حيث خرجت} أي للصلاة المفروضة باتباعك من هذه الجهة التي أنت بها الآن بالمدينة الشريفة التي هي شمال الكعبة المشرفة أو من غيرها من الجهات من الشرق والغرب والجنوب {فول وجهك شطر} أي عين {المسجد الحرام} وأما قلبك فهو إلى الله
ولما كان التقدير فإنك مأمور بذلك لئلا يظن أن ذلك إنما عمل لتطلعه ـ صلى الله عليه وسلم ـ إليه وهو فيه بالخيار فيظن أن الرجوع إلى القبلة الأولى مصلحة لما انتشر في ذلك من الكلام الذي نفذ في القلوب نفوذ السهام عطف عليه قوله : {وإنه للحق من ربك} مؤكداً له بأنواع التأكيد مضيفاً له إلى صفة الإحسان بإحسان التربية والنظر في أدبار الأمور وأحكامها. أ هـ
{نظم الدرر حـ 1 صـ 272}
وقال العلامة ابن عاشور : (2/254)
وقد تكرر الأمر باستقبال النبي الكعبة ثلاث مرات ، وتكرر الأمر باستقبال المسلمين الكعبةَ مرتين. وتكرر أنَّه الحقُّ ثلاث مرات ، وتكرر تعميم الجهات ثلاث مرات ، والقصد من ذلك كله التنويه بشأن استقبال الكعبة والتحذير من تطرق التساهل في ذلك تقريراً للحق في نفوس المسلمين ، وزيادةً في الرد على المنكرين التأكيد ، من زيادة {ومن حيثُ خرجتَ} ، ومن جُمَل معترضة ، لزيادة التنويه بحكم الاستقبال : وهي جملة {وإنّ الذين أوتوا الكتاب ليعلمون الآيات} ، وجملة : {وإنه للحق من ربك} وجملة : {لئلا يكون للناس عليكم حجة} الآيات ، وفيه إظهار أحَقية الكعبة بذلك لأن الذي يكون على الحق لا يزيده إنكار المنكرين إلاّ تصميماً ، والتصميم يستدعي إعادة الكلام الدال على ما صمم عليه لأن الإعادة تدل على التحقُّق في معنى الكلام.
وقد ذكر في خلال ذلك من بيان فوائد هذا التحويل وما حَفَّ به ، ما يدفع قليل السآمة العارضةِ لسماع التكرار ، فذُكر قوله : {وإنه للحق من ربك وما الله بغافل} الخ ، وذُكر قوله : {لئلا يكون للناس} الخ. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ 2 صـ 45}
فائدة
عُطف قولُه : {ومن حيث خرجت} على قوله : {فول وجهك شطر المسجد الحرام} [البقرة : 144] عَطْف حكم على حكم من جنسِه للإعلام بأن استقبال الكعبة في الصلاة المفروضة لا تَهاوُن في القيام به ولو في حالة العذر كالسفر ، فالمراد من {حَيث خرجتَ} من كل مكان خرجتَ مسافراً لأن السفر مظنة المشقة في الاهتداء لجهة الكعبة فربما يتوهم متوهم سقوط الاستقبال عنه.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 44}
وقال الثعالبى : (2/255)
وقوله تعالى : {فَوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} أمر باستقبال القبْلَة ، وهو شرطٌ في الفرض إِلاَّ في القتالِ حالة الالتحامِ ، وفي النوافل إِلا في السفرِ الطويلِ للرَّاكب ، والقدرةُ على اليقينِ في مصادفتها تَمْنَعُ من الاِجتهادِ ، وعلى الاِجتهادِ تَمْنَعُ من التقليد. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 119}
سؤال : ما فائدة هذا القيد {ومّنْ حَيْثُ خَرَجْتَ}
الجواب : وزاد {ومّنْ حَيْثُ خَرَجْتَ} دفعاً لتوهم مخالفة حال السفر لحال الحضر بأن يكون حال السفر باقياً على ما كان كما في الصلاة حيث زيد في الحضر ركعتان أو يكون مخيراً بين التوجهين كما في الصوم. أ هـ
{روح المعانى حـ 2 صـ 17}
لطيفة
قال الحرالي : ومن التفت بقلبه في صلاته إلى غير ربه لم تنفعه وجهة وجه بدنه إلى الكعبة ، لأن ذلك حكم حق حقيقته توجه القلب ومن التفت بقلبه إلى شيء من الخلق في صلاته فهو مثل الذي استدبر بوجهه عن شطر قبلته ، فكما يتداعى الإجزاء الفقهي باستدبار الكعبة حساً فكذلك يتداعى القبول باستدبار وجه القلب عن الرب غيباً ، فلذلك أقبل هذا الخطاب على الذين آمنوا والذين أسلموا ، لأنه هو ـ صلى الله عليه وسلم ـ مبرأ عن مثله - انتهى.{نظم الدرر حـ 1 صـ 272}
قوله تعالى {لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ}
سؤال : ما نوع التعريف فى كلمة (الناس) ؟ وما فائدته ؟
والتعريف في (الناس) للاستغراق يشمل مشركي مكة فإن من شبهتهم أن يقولوا لا نتبع هذا الدين إذ ليس ملة إبراهيم لأنه استقبَل قبلة اليهود والنصارى ، وأهلَ الكتاب ، والحجة أن يقولوا إنَّ محمداً اقتدى بنا واستقبل قبلتنا فكيف يدعونا إلى اتباعه. ولجميع الناس ممن عداكم حجة عليكم ، أي ليكون هذا الدين مخالفاً في الاستقبال لكل دين سبقه فلا يدعي أهل دين من الأديان أن الإسلام مقتبس منه.(2/256)
ولا شك أن ظهور الاستقبال يكون في أمر مشاهد لكل أحد لأن إدراك المخالفة في الأحكام والمقاصد الشرعية والكمالات النفسانية التي فَضُل بها الإسلام غيرَه لا يدركه كل أحد بل لا يعلمه إلاّ الذين أوتوا العلم ، وعلى هذا يكون قوله : {لئلا يكون للناس عليكم حجة} ناظراً إلى قوله : {وإن الذين أوتوا الكتاب ليعلمون أنه الحق} [البقرة : 144] ، وقوله : {الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه} [البقرة : 146]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 46}
سؤال : من المراد من (الناس) ؟
الجواب : قيل : أراد بالناس أهل الكتاب : وقيل : هو على العموم وقيل هم قريش واليهود فأما قريش فقالوا : رجع محمد إلى الكعبة لأنه علم أنها الحق وأنها قبلة أبيه وسيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا وقالت اليهود : لم ينصرف محمد عن بيت المقدس مع علمه أنه حق إلاّ أنه يعمل برأيه. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 93}
سؤال : قال الفخر : ههنا سؤال ، وهو أن شبهة هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم ليست بحجة ، فكيف يجوز استثناؤها عن الحجة وقد اختلف الناس فيه على أقوال.
الأول : أنه استثناء متصل ثم على هذا القول يمكن دفع السؤال من وجوه :
الوجه الأول : أن الحجة كما أنها قد تكون صحيحة ، قد تكون أيضاً باطلة ، قال الله تعالى {حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبّهِمْ} [الشورى : 16] وقال تعالى : {فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ العلم} [آل عمران : 61] والمحاجة هي أن يورد كل واحد منهم على صاحبه حجة وهذا يقتضي أن يكون الذي يورد المبطل يسمى بالحجة ولأن الحجة اشتقاقها من حجة إذا علا عليه فكل كلام يقصد به غلبة الغير فهو حجة ، وقال بعضهم : إنها مأخوذة من محجة الطريق ، فكل كلام يتخذه الإنسان مسلكاً لنفسه في إثبات أو إبطال فهو حجة ، وإذا ثبت أن الشبهة قد تسمى حجة كان الاستثناء متصلاً.(2/257)
الوجه الثاني : في تقرير أنه استثناء متصل : أن المراد بالناس أهل الكتاب فإنهم وجدوه في كتابهم أنه عليه الصلاة والسلام يحول القبلة فلما حولت ، بطلت حجتهم إلا الذين ظلموا بسبب أنهم كتموا ما عرفوا عن أبي روق.
الوجه الثالث : أنهم لما أوردوا تلك الشبهة على اعتقاد أنها حجة سماها الله.
( حجة) بناء على معتقدهم أو لعله تعالى سماها (حجة) تهكماً بهم.
الوجه الرابع : أراد بالحجة المحاجة والمجادلة فقال : {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ} فإنهم يحاجونكم بالباطل.
القول الثاني : أنه استثناء منقطع ، ومعناه لكن الذين ظلموا منهم يتعلقون بالشبهة ويضعونها موضع الحجة ، وهو كقوله تعالى : {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} [النساء : 157] وقال النابغة :
ولا عيب فيهم غير أن سيوفهم.
بهن فلول من قراع الكتائب
ومعناه : لكن بسيوفهم فلول وليس بعيب ويقال ما له على حق إلا التعدي يعني لكنه يتعدى ويظلم ، ونظيره أيضاً قوله تعالى : {إِنّى لاَ يَخَافُ لَدَىَّ المرسلون إَلاَّ مَن ظَلَمَ} [النمل : 10 ، 11] وقال : {لا عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ} [هود : 43] وهذا النوع من الكلام عادة مشهورة للعرب.
القول الثالث : زعم أبو عبيدة أن (إلا) بمعنى الواو كأنه تعالى قال : لئلا يكون للناس عليكم حجة وللذين ظلموا وأنشد :
وكل أخ مفارقه أخوه.
لعمر أبيك إلا الفرقدان
يعني : والفرقدان.
القول الرابع : قال قطرب : موضع {الذين} خفض لأنه بدل من الكاف والميم في عليكم كأنه قيل : لئلا يكون عليكم حجة إلا الذين ظلموا فإنه يكون حجة عليهم وهم الكفار ، قال علي ابن عيسى : هذان الوجهان بعيدان.أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 127}
سؤال : لم وصف الحجة بالاستعلاء {عليكم حجة} ؟ (2/258)
الجواب : وصفها بالاستعلاء عليهم لما يحصل بها من الأذى بدلالتها على العداوة والشقاق لا بتغييرها في وجه شيء من الأدلة.أ هـ
{نظم الدرر حـ 1صـ 273}
قوله تعالى : {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشونى}
أما قوله تعالى : {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشونى} فالمعنى لا تخشوا من تقدم ذكره ممن يتعنت ويجادل ويحاج ، ولا تخافوا مطاعنهم في قبلتكم فإنهم لا يضررنكم واخشوني ، يعني احذروا عقابي إن أنتم عدلتم عما ألزمتكم وفرضت عليكم ، وهذه الآية يدل على أن الواجب على المرء في كل أفعاله وتروكه أن ينصب بين عينيه : خشية عقاب الله ، وأن يعلم أنه ليس في يد الخلق شيء ألبتة ، وأن لا يكون مشتغل القلب بهم ، ولا ملتفت الخاطر إليهم. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 127}
وقال القرطبى :
قوله تعالى : {فَلاَ تَخْشَوْهُمْ} يريد الناس {واخشوني} الخَشْيَةُ أصلها طمأنينة في القلب تبعث على التَّوقي. والخوف : فزع القلب تَخِفُ له الأعضاء ، ولِخفّة الأعضاء به سُمِّيَ خَوْفاً. ومعنى الآية التّحقير لكل مَن سوى الله تعالى ، والأمر باطراح أمرهم ومراعاة أمر الله تعالى. أ هـ
{تفسير القرطبى حـ 2 صـ 170}
سؤال : قال ابن عرفة : كيف ينهى المكلف عن فعل أمر هو فيه بالطبع لأن الخوف من العدو أمر جبلي لا يستطيع الإنسان زواله ؟
وأجاب عن ذلك بأن أوائل ذلك حاصل بالطبع والدوام عليه هو المنهي (عنه).
أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 191}
قوله تعالى : {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ}
قال الإمام الفخر :
أما قوله تعالى : {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} فقد اختلفوا في متعلق اللام على وجوه.
أحدها : أنه راجع إلى قوله تعالى : {لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ ولأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} فبين الله تعالى أنه حولهم إلى هذه الكعبة لهاتين الحكمتين.
إحداهما : لانقطاع حجتهم عنه.(2/259)
والثانية : لتمام النعمة ، وقد بين أبو مسلم بن بحر الأصفهاني ما في ذلك من النعمة ، وهو أن القوم كانوا يفتخرون باتباع إبراهيم في جميع ما كانوا يفعلون فلما حول ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى بيت المقدس لحقهم ضعف قلب ، ولذلك كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يحب التحول إلى الكعبة لما فيه من شرف البقعة فهذا موضع النعمة.
وثانيها : أن متعلق اللام محذوف ، معناه : ولإتمام النعمة عليكم وإرادتي اهتداءكم أمرتكم بذلك.
وثالثها : أن يعطف على علة مقدرة ، كأنه قيل : واحشوني لأوفقكم ولأتم نعمتي عليكم ، والقول الأول أقرب إلى الصواب فإن قيل : إنه تعالى أنزل عند قرب وفاة رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : {اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِى} [المائدة : 3] فبين أن تمام النعمة إنما حصل ذلك اليوم ، فكيف قال قبل ذلك اليوم بسنين كثيرة في هذه الآية : {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} قلنا : تمام النعمة اللائقة في كل وقت هو الذي خصه به ، وفي الحديث : " تمام النعمة دخول الجنة " وعن علي رضي الله عنه : تمام النعمة الموت على الإسلام.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 128}
وقال البقاعى :
قال الحرالي : وفي طيه بشرى بفتح مكة واستيلائه على جزيرة العرب كلها وتمكنه بذلك من سائر أهل الأرض لاستغراق الإسلام لكافة العرب الذين فتح الله بهم له مشارق الأرض ومغاربها التي انتهى إليها ملك أمته - انتهى.
{نظم الدرر حـ 1 صـ 274}
وقال فى التحرير
المراد بالإتمام هنا إعطاء الشيء وافراً من أول الأمر لا إتمامه بعد أن كان ناقصاً ، فهو قريب من قوله تعالى : {فأتمهن} [البقرة : 124] أي امتثلهن امتثالاً تاماً وليس المراد أنه فعل بعضها ثم فعل بعضاً آخر ، فمعنى الآية ولتكون نعمتي نعمة وافرة في كل حال. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 47}(2/260)
فروق لغوية دقيقة
الفرق بين الإنعام والإحسان
أن الإنعام لا يكون إلا من المنعم على غيره لأنه متضمن بالشكر يجب وجوب الدين ويجوز إحسان الإنسان إلى نفسه تقول لمن يتعلم العلم إنه محسن إلى نفسه ولا تقول منعم على نفسه والإحسان متضمن بالحمد ويجوز حمد الحامد لنفسه والنعمة متضمنة بالشكر ولا يجوز شكر الشاكر لنفسه لأنه يجري مجرى الدين ولا يجوز أن يؤدي الإنسان الدين إلى نفسه والحمد يقتضي تبقية الإحسان إذا كان للغير والشكر يقتضي تبقية النعمة ويكون من الإحسان ما هو ضرر مثل تعذيب الله تعالى أهل النار وكل من جاء بفعل حسن فقد أحسن
ألا ترى أن من أقام حدا فقد أحسن وإن أنزل بالمحدود ضررا ثم استعمل في النفع والخير خاصة فيقال أحسن إلى فلان إذا نفعه ولا يقال أحسن إليه إذا حده ويقولون للنفع كله إحسان ولا يقولون للضرر كله إساءه فلو كان معنى الإحسان هو النفع على الحقيقة لكان معنى الإساءة الضرر على الحقيقة لأنه ضده والأب يحسن إلى ولده بسقيه الدواء المر وبالفصد والحجامة ولا يقال ينعم عليه بذلك ويقال أحسن إذا أتى بفعل حسن ولا يقال أقبح
إذا أتى قبيحا اكتفوا بقولهم أساء وقد يكون أيضا من النعمة ما هو ضرر مثل التكليف نسميه لما يؤدي من اللذة والسرور
الفرق بين الإحسان والنفع
أن النفع قد يكون من غير قصد والإحسان لا يكون إلا مع القصد تقول ينفعني العدو بما فعله بي إذا أراد ضرا فوقع نفعا ولا يقال أحسن إلى في ذلك
الفرق بين الإحسان والإجمال(2/261)
أن الإجمال هو الإحسان الظاهر من قولك رجل جميل كأنما يجري فيه السمن وأصل الجميل الودك واجتمل الرجل إذا طبخ العظام ليخرج ودكها ويقال أحسن إليه فيعدى بإلى وأجمل في أمره لأنه فعل الجميل في أمره ويقال أنعم عليه لأنه دخله معنى علو نعمة عليه فهي غامرة له ولذلك يقال هو غريق في النعمة ولا يقال غريق في الإحسان والإجمال ويقال أجمل الحساب فيعدى ذلك بنفسه لأنه مضمن بمفعول ينبىء عنه من غير وسيلة وقد يكون الإحسان مثل الإحمال في استحقاق الحمد به وكما يجوز أن يحسن الإنسان إلى نفسه يجوز أن يجمل في فعله لنفسه. أ هـ {الفروق فى اللغة صـ 162 ـ 163}(2/262)
قوله تعالى : {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
سؤال : إن قلت : هذا تكرار لأن الهداية من جملة (النعم) ؟
قلنا : المراد النعم الآتية من عند الله تعالى لا تسبب فيها للمكلف بخلاف الهداية والضلال فإن له (فيها كسبا وأرادة). أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 191}
وقال السعدى ـ رحمه الله ـ :
{وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي : تعلمون الحق ، وتعملون به ، فالله تبارك وتعالى - من رحمته - بالعباد ، قد يسر لهم أسباب الهداية غاية التيسير ، ونبههم على سلوك طرقها ، وبينها لهم أتم تبيين ، حتى إن من جملة ذلك أنه يقيض للحق ، المعاندين له فيجادلون فيه ، فيتضح بذلك الحق ، وتظهر آياته وأعلامه ، ويتضح بطلان الباطل ، وأنه لا حقيقة له ، ولولا قيامه في مقابلة الحق ، لربما لم يتبين حاله لأكثر الخلق ، وبضدها تتبين الأشياء ، فلولا الليل ، ما عرف فضل النهار ، ولولا القبيح ، ما عرف فضل الحسن ، ولولا الظلمة ما عرف منفعة النور ، ولولا الباطل ما اتضح الحق اتضاحا ظاهرا ، فلله الحمد على ذلك.أ هـ {تفسير السعدى صـ 73}
لطيفة لغوية
قال الإمام الثعلبى ـ رحمه الله ـ :
{وَلَعَلَّكُمْ} في لعلّ ست لغات : علّ ولعلّ ولعنّ وعنّ ولعّا.
ولها ستة أوجه هي من الله عزّ وجلّ واجب ،
ومن النّاس على معاني قد تكون بمعنى الاستفهام كقول القائل : لعلّك فعلت ذلك مستفهماً.
وتكون بمعنى الظّن كقول القائل : قدم فلان فردّ عليه الرّاد : لعلّ ذلك.
بمعنى أظنّ وأرى ذلك.
وتكون بمعنى الإيجاب بمنزلة ما أخلقه كقوله : قد وجبت الصّلاة فيرد الرّاد : لعلّ ذلك أي ما أخلقه.
وأنشد الفرّاء :
لعلّ المنايا مرّة ستعود
وآخر عهد الزائرين جديد
وتكون بمعنى الترجّي والتمنّي كقولك : لعلّ الله أن يرزقني مالاً ،
ولعلّني أحجّ.
وأنشد الفرّاء :
لعلّي في هدى أفي وجودي
وتقطيعي التنوقة واختيالي
سيوشك أن يتيح إلى كريم
ينالك بالذّرى قبل السؤال
ويكون بمعنى عسى تكون ما يراد ولا يكون كقوله : {يا هامان ابن لي صرحاً لعلّي أبلغ الأسباب}. أي عسى أبلغ.(2/263)
وقال أبو داود :
فأبلوني بليتكم لعلّي
أُصالحكم واستدرج نويا
أي نواي ويكون بمعنى كي على الجزاء كقوله : {انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ} بمعنى لكي يفقهوا ونظائرها كثيرة وقوله : {وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} أي لكي تهتدوا من الضّلالة.أهـ {الكشف والبيان حـ 2 صـ 18}
من لطائف الإمام القشيرى فى آيات القبلة
قوله جلّ ذكره : {وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المَسْجِدِ الحَرَامِ}.
كما تستقبلون أينما كنتم القِبْلَة - قَرُبتُم منها أم بَعُدْتُم - فكذلك أَقْبَلُوا علينا بقلوبكم كيفما كنتم ، حَظَيتم منا أو مُنِيتُم.
قوله جلّ ذكره : {وَحَيْثُ مَا كُنتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ}.
إذا أردت ألا يكون لأحد عليك سبيلٌ ، ولا يقع لمخلوق عليك ظِلٌّ ، ولا تصل إليك بالسوءِ يَدٌ ، فحيثما كنتَ وأينما كنتَ وكيفما كنت كن لَنَا وكُن مِنّا ، فإِنَّ من انقطع إلينا لا يتطرق إليه حدثان.
قوله جلّ ذكره : {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ}.
إتمام النعمة إضافة الكشف إلى اللطف ، فإن من كفاه بمقتضى جوده دون من أغناه بحق وجوده ، وفي معناه أنشدوا :
نحن في أكمل السرورِ ولكنْ... ليس إلا بكم يَتمُّ السرور
عيبُ ما نحن فيه - يا أهلَ وُدِّي -... أنّكم غُيَّبٌ ونحن الحُضُور.
أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 136}
فوائد
قال السعدى ـ رحمه الله ـ :
وكان صرف المسلمين إلى الكعبة ، مما حصلت فيه فتنة كبيرة ، أشاعها أهل الكتاب ، والمنافقون ، والمشركون ، وأكثروا فيها من الكلام والشبه ، فلهذا بسطها الله تعالى ، وبينها أكمل بيان ، وأكدها بأنواع من التأكيدات ، التي تضمنتها هذه الآيات.(2/264)
منها : الأمر بها ، ثلاث مرات ، مع كفاية المرة الواحدة ، ومنها : أن المعهود ، أن الأمر ، إما أن يكون للرسول ، فتدخل فيه الأمة تبعا ، أو للأمة عموما ، وفي هذه الآية أمر فيها الرسول بالخصوص في قوله : {فَوَلِّ وَجْهَكَ} والأمة عموما في قوله : {فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ}.
[ص 74]
ومنها : أنه رد فيه جميع الاحتجاجات الباطلة ، التي أوردها أهل العناد وأبطلها شبهة شبهة ، كما تقدم توضيحها ، ومنها : أنه قطع الأطماع من اتباع الرسول قبلة أهل الكتاب ، ومنها قوله : {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ} فمجرد إخبار الصادق العظيم كاف شاف ، ولكن مع هذا قال : {وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ}.
ومنها : أنه أخبر - وهو العالم بالخفيات - أن أهل الكتاب متقرر عندهم ، صحة هذا الأمر ، ولكنهم يكتمون هذه الشهادة مع العلم. أ هـ
{تفسير السعدى صـ 73}
قوله تعالى {كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)}
مناسبة الآية لما قبلها
اعلم أنا قد بينا أن الله تعالى استدل على صحة دين محمد عليه الصلاة والسلام بوجوه ، بعضها إلزامية ، وهو أن هذا الدين دين إبراهيم فوجب قبوله ، وهو المراد بقوله : {وَمَن يَرْغَبُ عَن مِلَّةِ إبراهيم إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ} [البقرة : 130] وبعضها برهانية وهو قوله : {قُولُواْ ءامَنَّا بالله وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ إِلَى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق وَيَعْقُوبَ والأسباط} [البقرة : 136] ثم إنه سبحانه وتعالى عقب هذا الإستدلال بحكاية شبهتين لهم.
إحداهما : قوله : {وَقَالُواْ كُونُواْ هُودًا أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ} [البقرة : 135].
(2/265)
والثانية : استدلالهم بإنكار النسخ على القدح في هذه الشريعة ، وهو قول : {سَيَقُولُ السفهاء مِنَ الناس مَا ولاهم عَن قِبْلَتِهِمُ التى كَانُواْ عَلَيْهَا} [البقرة : 142] وأطنب الله تعالى في الجواب عن الشبهة وبالحق فعل ذلك ، لأن أعظم الشبهة لليهود في إنكار نبوة محمد عليه الصلاة والسلام النسخ ، فلا جرم أطنب الله تعالى في الجواب عن هذه الشبهة ، وختم ذلك الجواب بقوله : {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} فصار هذا الكلام مع ما فيه من الجواب عن الشبهة تنبيهاً على عظيم نعم الله تعالى ، ولا شك أن ذلك أشد استمالة لحصول العز والشرف في الدنيا ، والتخلص في الذل والمهانة يكون مرغوباً فيه ، وعند اجتماع الأمرين فقد بلغ النهاية في هذا الباب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 129}
مسائل نفيسه وقيمة فى الآية للإمام الفخر
المسألة الأولى : هذا الكاف إما أن يتعلق بما قبله أو بما بعده ، فإن قلنا : إنه متعلق بما قبله ففيه وجوه.
الأول : أنه راجع إلى قوله : {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} [البقرة : 150] أي ولأتم نعمتي عليكم في الدنيا بحصول الشرف ، وفي الآخرة بالفوز بالثواب ، كما أتممتها عليكم في الدنيا بإرسال الرسول.
الثاني : أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ قال : {رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك وَيُزَكّيهِمْ} [البقرة : 129] وقال أيضاً : {وَمِن ذُرّيَّتِنَا أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة : 128] فكأنه تعالى قال : ولأتم نعمتي عليكم ببيان الشرائع ، وأهديكم إلى الدين إجابة لدعوة إبراهيم ، كما أرسلنا فيكم رسولاً إجابة لدعوته عن ابن جرير.(2/266)
الثالث : قول أبي مسلم الأصفهاني ، وهو أن التقدير : وكذلك جعلناكم أمة وسطاً كما أرسلنا فيكم رسولاً ، أي كما أرسلنا فيكم رسولاً من شأنه وصفته كذا وكذا ، فكذلك جعلناكم أمة وسطاً ، وأما إن قلنا : أنّه متعلق بما بعده ، فالتقدير : كما أرسلنا فيكم رسولاً منكم يعلمكم الدين والشرع ، فاذكروني أذكركم وهو اختيار الأصم وتقريره إنكم كنتم على صورة لا تتلون كتاباً ، ولا تعلمون رسولاً ، ومحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجل منكم ليس بصاحب كتاب ، ثم أتاكم بأعجب الآيات يتلوه عليكم بلسانكم وفيه ما في كتب الأنبياء ، وفيه الخبر عن أحوالهم ، وفيه التنبيه على دلائل التوحيد والمعاد وفيه التنبيه على الأخلاق الشريفة ، والنهي عن أخلاق السفهاء ، وفي ذلك أعظم البرهان على صدقه فقال : كما أوليتكم هذه النعمة وجعلتها لكم دليلاً ، فاذكروني بالشكر عليها ، أذكركم برحمتي وثوابي ، والذي يؤكده قوله تعالى :
{لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مّنْ أَنفُسِهِمْ} [آل عمران : 164] فلما ذكرهم هذه النعمة والمنة ، أمرهم في مقابلتها بالذكر والشكر فإن قيل : {كما} هل يجوز أن يكون جواباً ؟ قلنا : جوزه الفراء وجعل لأذكروني جوابين.
أحدهما : {كَمَا}.
والثاني : {أَذْكُرْكُمْ} ووجه ذلك لأنه أوجب عليهم الذكر ليذكرهم الله برحمته ، ولما سلف من نعمته ، قال القاضي : والوجه الأول أولى لأنه قبل الكلام إذا وجد ما يتم به الكلام من غير فصل فتعلقه به أولى.
المسألة الثانية : في وجه التشبيه قولان : إن قلنا لكاف متعلق بقوله ولأتم نعمتي كان المعنى أن النعمة في أمر القبلة كالنعمة بالرسالة لأنه تعالى يفعل الأصلح ، وإن قلنا إنه متعلق بقوله تعالى : {اذكروني} دل ذلك على أن النعمة بالذكر جارية مجرى النعمة بالرسالة.
(2/267)
المسألة الثالثة : {مَا} في قوله : {كَمَا أَرْسَلْنَا} مصدرية كأنه قيل : كإرسالنا فيكم ، ويحتمل أن تكون كافة.
أما قوله تعالى : {فيكُمْ} فالمراد به العرب وكذلك قوله : {مّنكُمْ} وفي إرساله فيهم ومنهم ، نعم عظيمة عليهم لما لهم فيه الشرف ، ولأن المشهور من حال العرب الأنفة الشديدة من الإنقياد للغير فبعثه الله تعالى من واسطتهم ليكونوا إلى القبول أقرب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 129 ـ 130}(2/268)
وقال العلامة ابن عاشور :
تشبيهن للعلتين من قوله : {لأتم} [البقرة : 150] وقوله : {ولعلكم تهتدون} [البقرة : 150] أي ذلك من نعمتي عليكم كنعمة إرسال محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وجعل الإرسال مشبهاً به لأنه أسبق وأظهر تحقيقاً للمشبه أي إن المبادىء دلت على الغايات وهذا كقوله في الحديث " كما صليت على إبراهيم " ونكر (رسول) للتعظيم ولتجري عليه الصفات التي كل واحدة منها نعمة خاصة ، فالخطاب في قوله : {فيكم} وما بعده للمؤمنين من المهاجرين والأنصار تذكيراً لهم بنعمة الله عليهم بأن بعث إليهم رسولاً بين ظهرانيهم ومن قومهم لأن ذلك أقوى تيسيراً لهدايتهم ، وهذا على نحو دعوة إبراهيم : {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم} [البقرة : 129] وقد امتن الله على عموم المؤمنين من العرب وغيرهم بقوله : {لقد منَّ الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم} [آل عمران : 164] أي جنسهم الإنساني لأن ذلك آنس لهم مما لو كان رسولهم من الملائكة قال تعالى : ولذلك علق بفعل {أرسلنا} حرفُ {فِي} ولم يعلَّق به حرف {إلى} كما في قوله : {إنا أرسلنا إليكم رسولاً شاهداً عليكم} [المزمل : 15] ، لأن ذلك مقام احتجاج وهذا مقام امتنان فناسب أن يذكر ما به تمام المنة وهي أن جعل رسولهم فيهم ومنهم ، أي هو موجود في قومهم وهو عربي مثلهم ، والمسلمون يومئذٍ هم العرب أي الذين يتكلمون باللغة العربية فالأمة العربية يومئذٍ تتكلم بلسان واحد سواء في ذلك العدنانيون والقحطانيون ومن تبعهم من الأحلاف والموالي مثل سلمانَ الفارسي وبلال الحبشي وعبدِ الله بن سَلاَم الإسرائيلي ، إذ نعمة الرسالة في الإبلاغ والإفهام ، فالرسول يكلمهم بلسانهم فيفهمون جميع مقاصده ، ويدركون إعجاز القرآن ، ويفوزون بمزية نقل هذا الدين إلى الأمم ، وهذه المزية ينالها كل من تعلَّم اللسان العربي كغالب الأمم الإسلامية ، وبذلك كان تبليغ الإسلام بواسطة أمة كاملة فيكون نقله متواتراً ، ويسهل(2/269)
انتشاره سريعاً. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 48}
وقال ابن عرفة :
قوله تعالى : {مِّنكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا..}.
دليل على أن الخاصية التي اختصّ الرسل بها حكمية وليست خلقية بوجه ، وفيه التنبيه على حكمة إرساله منهم وهو تبرئته ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن أن يكون ساحرا أو مجنونا ، فيقال إليهم : لم نرسل إليكم أحدا تجهلونه بل أرسلنا واحدا منكم نشأ بين أظهركم وعرفتم براءته من كل (آفة تنسب) إليه. أ هـ
{تفسير ابن عرفة صـ 192}
قوله تعالى {يتلوا عليكم آياتنا}
قال الإمام البقاعى :
{يتلوا عليكم آياتنا} الحافظة لمن رعاها حق رعايتها على الصراط المستقيم عوضاً من تناشدكم الأشعار. قال الحرالي : وفيه أخذهم بما هو في طباعهم من إيثار أمر السمع على أمر العين الذي عليه جبلت العرب ، لأنها أمة تؤثر مسموع المدح والثناء من الخلق على ما تناله من الراحة فتجهد في طلب الثناء من الخلق ما لم تجهد أمة غيرها ، فكيف بها إذا كان ما دعيت إليه ثناء الحق عليها وتخليد ذلك لها في كلام هو كلام ربها. فتنال بذلك ما هو فوق مقصودها مما جبلت عليه من إيثار السماع على العين بخلاف ما عليه سائر الأمم ؛ ثم قال : وفيه إغناء العرب عن إعمال أفكارها في تكسب العلم والحكمة لتستخرج منه أحكاماً ، فكان في تلاوة الآيات عليهم إغناؤهم عن الاستدلال بالدلائل وأخذ الأمور بالشواهد وتولي الله ورسوله تعليمهم ليكون شرف المتعلم بحسب علاء من علمه ، ففضل علماء العرب على سائر العلماء كفضل النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ على معلمهم ممن سواه ـ صلى الله عليه وسلم ـ. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 275}(2/270)
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور :
وقوله : {يتلوا عليكم آياتنا} أي يقرأ عليكم القرآن وسماه أولاً آيات باعتبار كون كل كلام منه معجزة ، وسماه ثانياً كتاباً باعتبار كونه كتاب شريعة ، وقد تقدم نظيره آنفاً عند قوله تعالى : {ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلوا عليهم أياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة} [البقرة : 129]. عبر بيتلو لأن نزول القرآن مستمر وقراءة النبي له متوالية وفي كل قراءة يحصل علم بالمعجزة للسامعين.
وقوله : {ويزكيكم} الخ التزكية تطهير النفس مشتقة من الزكاة وهي النماء ، وذلك لأن في أصل خلقة النفوس كمالاتٍ وطهاراتٍ تعترضُها أرجاس ناشئة عن ضلال أو تضليل ، فتهذيب النفوس وتقويمها يزيدها من ذلك الخير المودع فيها ، قال تعالى : {لقد خلقنا الإنسان في أحسن تكوين ، ثم رددناه أسفل سافلين ، إلا الذين أمنوا وعملوا الصالحات} [التين : 4 6] ، وفي الحديث : " بُعثت لأُتمم حُسْن الأخلاق " ففي الإرشاد إلى الصلاح والكمال نماء لما أودع الله في النفوس من الخير في الفطرة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 49}
قوله تعالى {رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ}
قال العلامة الآلوسى : (2/271)
{يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ ءاياتنا} صفة (رسولاً) وفيه إشارة إلى طريق إثبات نبوته عليه الصلاة والسلام لأن تلاوة الأمي الآيات الخارجة عن طوق البشر باعتبار بلاغتها واشتمالها على الإخبار بالمغيبات والمصالح التي ينتظم بها أمر المعاد والمعاش أقوى دليل على نبوته {وَيُزَكِيكُمْ} أي يطهركم من الشرك وهي صفة أخرى للرسول وأتى بها عقب التلاوة لأن التطهير عن ذلك ناشىء عن إظهار المعجزة لمن أراد الله تعالى توفيقه {وَيُعَلّمُكُمُ الكتاب والحكمة} صفة إثر صفة وأخرت لأن تعليم الكتاب وتفهيم ما انطوى عليه من الحكمة الإلهية والأسرار الربانية إنما يكون بعد التخلي عن دنس الشرك ونجس الشك بالاتباع ، وأما قبل ذلك فالكفر حجاب. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 18}
قوله تعالى : {يَتْلُو عَلَيْكُمْ آَيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ}
قال الإمام البقاعى :
قال الحرالي : أنبأهم بأن هذا التنزيل لأنفسهم بمنزلة الغذاء للأبدان ، فكما تتنامى أجسادهم بماء المزن وما منه فكذلك تتنامى أنفسهم بأحكام الكتاب وتلاوة الآيات ، وذلك زكاؤها ونماؤها ، لتتأكد فيه رغبتهم ، لأن للمغتذي رغبة في الغذاء إذا تحققه ، فمن علم أن التزام الأحكام غذاء لنفسه حرص عليها ، ومتى نمت النفس وزكت قويت على ما شأنها أن تناله قواها ، كما أن البدن إذا قوي بالغذاء تمكن مما شأنه عمله - انتهى. {نظم الدرر حـ 1 صـ 275}
سؤال : لم قدمت جملة : {ويزكيكم على جملة : ويعلمكم الكتاب والحكمة هنا عكس ما في الآية السابقة في حكاية قول إبراهيم : {يتلوا عليهم أياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} [البقرة : 129] ؟ (2/272)
الجواب : قدمت جملة : {ويزكيكم على جملة : ويعلمكم الكتاب والحكمة هنا عكس ما في الآية السابقة في حكاية قول إبراهيم : {يتلوا عليهم أياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم} [البقرة : 129] ، لأن المقام هنا للامتنان على المسلمين فقدم فيها ما يفيد معنى المنفعة الحاصلة من تلاوة الآيات عليهم وهي منفعة تزكية نفوسهم اهتماماً بها وبعثاً لها بالحرص على تحصيل وسائلها وتعجيلاً للبشارة بها. فأما في دعوة إبراهيم فقد رتبت الجمل على حسب ترتيب حصول ما تضمنته في الخارج ، مع ما في ذلك التخالف من التفنن. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 49}
وقال ابن عادل :
الفرق أن المراد بالتزكية هنا التطهير من الكفر ، وكذلك فسروه.
وهناك المراد بها الشهادة بأنهم خيار أزكياء ، وذلك متأخر عن تعلم الشرائع والعمل بها. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 74}
وقال ابن عرفة :
( قال بعضهم) : حيث يقدم التزكية يكون معظم المخاطبين عواما مقلدين ليسوا أهلا (لتعلم) الحكمة والكتاب فتكون التزكية أهم ، وحيث يقدم التعليم يكون المخاطبون خواص فيكون الأهم التعليم مع أن كِلاَ الأمرين مطلوب. والكتاب هو الكلام المعجز ، والحكمة القول غير المعجزة. أ هـ
{تفسير ابن عرفة صـ 192}
قوله تعالى {وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ}
سؤال : لم خص تعليم الحكمة من عموم تعليم الكتاب ؟ (2/273)
قال الحرالي : خص تعليم الحكمة من عموم تعليم الكتاب ، لأن التوسل بالأحكام جهد عمل والتوسل بعلم الحكمة يسر منال عقل ، لأن الحكمة منال الأمر الذي فيه عسر بسبب فيه يسر فينال الحكيم بحكمته لاطلاعه على إفضاء مجعول الأسباب بعضها لبعض مما بين أسباب عاجل الدنيا ومسببات آجل الآخرة ما لا يصل إليه جهد العامل الكادح وفي تكملة الكتاب والحكمة بكلمة " أل " إنهاء إلى الغاية الجامعة لكل كتاب وحكمة بما يعلمه الأولون والآخرون. ثم قال : وبذلك كان ـ صلى الله عليه وسلم ـ يتكلم في علوم الأولين بكلمات يعجز عنها إدراك الخلق نحو قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " استاكوا بكل عود ما خلا الآس والرمان فإنهما يهيجان عرق الجذام " لأن الخلق لا يستطيعون حصر كليات المحسوسات ، غاية إدراكهم حصر كليات المعقولات ، ومن استجلى أحواله ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم اطلاع حسه على إحاطة المحسوسات وإحاطة حكمها وألسنتها ناطقها وأعجمها حيها وجمادها جمعاً ، لما في العادة حكمة ولما في خرق العادة آية ؛ ثم قال : فعلى قدر ما وهب الله سبحانه وتعالى العبد من العقل يعلمه من الكتاب والحكمة ، يؤثر عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : " كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يكلم أبا بكر رضي الله عنه فكأنما يتكلمان بلسان أعجمي لا أفهم مما يقولان شيئاً " ولما كان انتهاء ما في الكتاب عند هذه الغاية أنبأ تعالى أن رسوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعلمهم ما لم يكن في كتابهم مثال علمه. ففيه إشعار بفتح وتجديد فطرة يترقون لها إلى ما لم يكن في كتابهم علمه - انتهى. وذلك لأن استعمال الحكمة موجب للترقي فقال تعالى : {ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون} أي من الاستنباط من الكتاب من المعارف بما يدريكم به من الأقوال والأفعال ويسلككم فيه من طرق الخير الكاشفة لظلام الظلم الجالية لمرأى الأفكار المنورة لبصائر الاعتبار. انتهى. {نظم الدرر حـ 1 صـ 276}(2/274)
سؤال : لم أعاد قوله : {ويعلمكم} مع صحة الاستغناء عنه بالعطف ؟
الجواب : أعاد قوله : {ويعلمكم} مع صحة الاستغناء عنه بالعطف تنصيصاً على المغايرة لئلا يظن أن : {ما لم تكونوا تعلمون} هو الكتاب والحكمة ، وتنصيصاً على أن : {ما لم تكونوا} مفعولاً لا مبتدأ حتى لا يترقب السامع خبراً له فيضل فهمه في ذلك الترقب ، واعلم أن حرف العطف إذا جيء معه بإعادة عامل كان عاطفه عاملاً على مثله فصار من عطف الجمل لكن العاطف حينئذٍ أشبه بالمؤكد لمدلول العامل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 50}
وقال ابن عرفة :
قوله تعالى : {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ}.
قيل : إن هذا تكرار ، ففصل في أولها ثم (أجمل) بـ {ما لم تكونوا تعلمون} شمل الكتاب والحكمة. ومنهم من قال : إنّ العلم قسمان : علم يكون (الإنسان) بحيث لو (شحذ) (قريحته) وفكر فيه لأدركه من تلقاء نفسه بعقله (وفطرته) ، وعلم لايمكن للإنسان التوصل إليه من ذاته ولا يقبل أن يتعلمه وحده بعقله بوجه. وهذا هو المراد بقوله {وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} أي ما لم تكونوا قابلين لمعرفته بعقولكم. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 192}
فائدة
قال العلامة أبو السعود :(2/275)
{وَيُعَلّمُكُمُ الكتاب والحكمة} صفةٌ أخرى مترتبةٌ في الوجود على التلاوة وإنما وسَّطَ بينهما التزكية التي هي عبارةٌ عن تكميل النفسِ بحسَبِ القوةِ العملية وتهذيبِها المتفرِّعِ على تكميلها بحسَب القوة النظرية الحاصلِ بالتعليم المترتب على التلاوة للإيذان بأن كلاً من الأمور المترتبة نعمةٌ جليلةٌ على حِيالها مستوجبةٌ للشكر ، فلو رُوعيَ ترتيبُ الوجود كما في قوله تعالى : {وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آياتك وَيُعَلّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكّيهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} لتبادَر إلى الفهم كونُ الكلِّ نعمةً واحدةً كما مر نظيرُه في قصة البقرة ، وهو السرُّ في التعبير عن القرآن تارة بالآيات وأخرى بالكتابِ والحِكمة رمزاً إلى أنه باعتبار كلِّ عنوانٍ نعمةٌ على حِدةٍ ، ولا يقدح فيه شمولُ الحكمةِ لما في تضاعيف الأحاديثِ الشريفةِ من الشرائع ، وقولُه عز وجل : {وَيُعَلّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ} صريحٌ في ذلك فإن الموصولَ مع كونه عبارةً عن الكتاب والحِكمة قطعاً قد عُطف تعليمُه على تعليمها ، وما ذلك إلا لتفصيل فنونِ النعم في مقامٍ يقتضيه كما في قوله تعالى : {وَنَجَّيْنَاهُمْ مّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ} عقيب قوله تعالى : {نَجَّيْنَا هُودًا والذين ءامَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مّنَّا} والمراد بعدم علمِهم أنه ليس من شأنهم أن يعلموه بالكفر والنظر وغيرِ ذلك من طرق العلم لانحصار الطريقِ في الوحي. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 179}
وقال الشهيد سيد قطب ـ رحمه الله ـ :
{ويعلمكم الكتاب والحكمة}..(2/276)
وفيها شمول لما سبق من تلاوة الآيات وهي الكتاب ؛ وبيان للمادة الأصيلة فيه ، وهي الحكمة ، والحكمة ثمرة التعليم بهذا الكتاب ؛ وهي ملكة يتأتى معها وضع الأمور في مواضعها الصحيحة ، ووزن الأمور بموازينها الصحيحة ، وإدراك غايات الأوامر والتوجيهات.. وكذلك تحققت هذه الثمرة ناضجة لمن رباهم رسول الله - ـ صلى الله عليه وسلم ـ وزكاهم بآيات الله.
{ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون}..
وكان ذلك حقاً في واقع الجماعة المسلمة ، فقد التقطها الإسلام من البيئة العربية لا تعلم إلا أشياء قليلة متناثرة ، تصلح لحياة القبيلة في الصحراء ، أو في تلك المدن الصغيرة المنعزلة في باطن الصحراء. فجعل منها أمة تقود البشرية قيادة حكيمة راشدة ، خبيرة بصيرة عالمة.. وكان هذا القرآن - مع توجيهات الرسول المستمدة كذلك من القرآن - هو مادة التوجيه والتعليم. وكان مسجد رسول الله - ـ صلى الله عليه وسلم ـ الذي يتلى فيه القرآن والتوجيهات المستمدة من القرآن - هو الجامعة الكبرى التي تخرج فيها ذلك الجيل الذي قاد البشرية تلك القيادة الحكيمة الراشدة : القيادة التي لم تعرف لها البشرية نظيراً من قبل ولا من بعد في تاريخ البشرية الطويل.
وما يزال هذا المنهج الذي خرّج ذلك الجيل وتلك القيادة على استعداد لتخريج أجيال وقيادات على مدار الزمان لو رجعت الأمة المسلمة إلى هذا المعين ولو آمنت حقا بهذا القرآن ولو جعلته منهجاً للحياة لا كلمات تغنى باللسان لتطريب الآذان!. أ هـ {فى ظلال القرآن حـ 1 صـ 109}(2/277)
فائدة
قال الراغب إن قيل ما معنى ويعلمكم ما لم تكونوا تعلمون وهل ذلك إلا الكتاب والحكمة قيل عنى بذلك العلوم التى لا طريق إلى تحصيلها إلا من جهة الوحى على ألسنة الأنبياء ولا سبيل إلى إدراك جزئياتها وكلياتها إلا به ، وعنى بالحكمة والكتاب ما كان للعقل فيه مجال فى معرفة شىء منه ، وأعاد ذكر ويعلمكم مع قوله ما لم تكونوا تعلمون تنبيها على أنه مفرد عن العلم المتقدم ذكره. أ هـ
{روح البيان حـ 1 صـ 319}
كلام نفيس السعدى ـ رحمه الله ـ فى الآية الكريمة
يقول تعالى : إن إنعامنا عليكم باستقبال الكعبة وإتمامها بالشرائع والنعم المتممة ، ليس ذلك ببدع من إحساننا ، ولا بأوله ، بل أنعمنا عليكم بأصول النعم ومتمماتها ، فأبلغها إرسالنا إليكم هذا الرسول الكريم منكم ، تعرفون نسبه وصدقه ، وأمانته وكماله ونصحه.
{يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا} وهذا يعم الآيات القرآنية وغيرها ، فهو يتلو عليكم الآيات المبينة للحق من الباطل ، والهدى من الضلال ، التي دلتكم أولا على توحيد الله وكماله ، ثم على صدق رسوله ، ووجوب الإيمان به ، ثم على جميع ما أخبر به من المعاد والغيوب ، حتى حصل لكم الهداية التامة ، والعلم اليقيني.
{وَيُزَكِّيكُمْ} أي : يطهر أخلاقكم ونفوسكم ، بتربيتها على الأخلاق الجميلة ، وتنزيهها عن الأخلاق الرذيلة ، وذلك كتزكيتكم من الشرك ، إلى التوحيد ومن الرياء إلى الإخلاص ، ومن الكذب إلى الصدق ، ومن الخيانة إلى الأمانة ، ومن الكبر إلى التواضع ، ومن سوء الخلق إلى حسن الخلق ، ومن التباغض والتهاجر والتقاطع ، إلى التحاب والتواصل والتوادد ، وغير ذلك من أنواع التزكية.
{وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ} أي : القرآن ، ألفاظه ومعانيه ، {وَالْحِكْمَةَ} قيل : هي السنة ، وقيل : الحكمة ، معرفة أسرار الشريعة والفقه فيها ، وتنزيل الأمور منازلها.(2/278)
فيكون - على هذا - تعليم السنة داخلا في تعليم الكتاب ، لأن السنة ، تبين القرآن وتفسره ، وتعبر عنه ، {وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ} لأنهم كانوا قبل بعثته ، في ضلال مبين ، لا علم ولا عمل ، فكل علم أو عمل ، نالته هذه الأمة فعلى يده ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وبسببه كان ، فهذه النعم هي أصول النعم على الإطلاق ، ولهي أكبر نعم ينعم بها على عباده ، فوظيفتهم شكر الله عليها والقيام بها ؛ فلهذا قال تعالى : {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}.أ هـ
{تفسير السعدى صـ 74}
قوله تعالى {فَاذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ}
قال الفخر :
اعلم أن الله تعالى كلفنا في هذه الآية بأمرين : الذكر ، والشكر ، أما الذكر فقد يكون باللسان ، وقد يكون بالقلب ، وقد يكون بالجوارح ، فذكرهم إياه باللسان أن يحمدوه ويسبحوه ويمجدوه ويقرؤا كتابه ، وذكرهم إياه بقلوبهم على ثلاثة أنواع.
أحدها : أن يتفكروا في الدلائل الدالة على ذاته وصفاته ، ويتفكروا في الجواب عن الشبهة القادحة في تلك الدلائل.
وثانيها : أن يتفكروا في الدلائل الدالة على كيفية تكالي فهو أحكامه وأوامره ونواهيه ووعده ووعيده ، فإذا عرفوا كيفية التكليف وعرفوا ما في الفعل من الوعد ، وفي الترك من الوعيد سهل فعله عليهم.
(2/279)
وثالثها : أن يتفكروا في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة من ذرات المخلوقات كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم القدس ، فإذا نظر العبد إليها انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال وهذا المقام مقام لا نهاية له ، أما ذكرهم إياه تعالى بجوارحهم ، فهو أن تكون جوارحهم مستغرقة في الأعمال التي أمروا بها ، وخالية عن الأعمال التي نهوا عنها ، وعلى هذا الوجه سمى الله تعالى الصلاة ذكراً بقوله : {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} فصار الأمر بقوله : {اذكروني} متضمناً جميع الطاعات ، فلهذا روي عن سعيد بن جبير أنه قال : اذكروني بطاعتي فأجمله حتى يدخل الكل فيه ، أما قوله : {أَذْكُرْكُمْ} فلا بد من حمله على ما يليق بالموضع ، والذي له تعلق بذلك الثواب والمدح ، وإظهار الرضا والإكرام ، وإيجاب المنزلة ، وكل ذلك داخل تحت قوله : {أَذْكُرْكُمْ} انتهى.
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 130 ـ 131}
قال الإمام البقاعى :
{فاذكروني} أي لأجل إنعامي عليكم بهذا وبغيره {أذكركم} فأفتح لكم من المعارف وأدفع عنكم من المخاوف ما لا يدخل تحت حد {واشكروا لي} وحدي من غير شريك تشركون معي أزدكم ، وأكد هذه الإشارة بقوله {ولا تكفرون} أي أسلبكم. قال الحرالي : ولما كان للعرب ولع بالذكر لآبائهم ولوقائعهم ولأيامهم جعل سبحانه وتعالى ذكره لهم عوض ما كانوا يذكرون ، كما جعل كتابه عوضاً من إشعارهم وهز عزائهم لذلك بما يسرهم به من ذكره لهم - انتهى. {نظم الدرر حـ 1 صـ 276 ـ 277}
من أقوال العلماء فى الآية الكريمة
قال ابن عبّاس : اذكروني بطاعتي أذكركم بمعونتي بيانه قوله : {وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا} الآية.
سعيد بن جبير : بطاعتي أذكركم بمغفرتي بيانه {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}.(2/280)
فضيل بن عيّاض : فاذكروني بطاعتي أذكركم بثوابي بيانه {إنّ الّذين آمنوا وعملوا الصالحات إنّا لا نضيع أجر من أحسن عملاً أولئك لهم جنّات عدن} وروي عن النبيّ {ـ صلى الله عليه وسلم ـ} "من أطاع الله فقد ذكر الله وإنّ قلّت صلاته وصيامه وتلاوته القرآن".{شعب الإيمان ـ باب في محبة الله عز وجل ـ رقم 687}
وقيل : اذكروني بالتوحيد والإيمان أذكركم بالجنّات والدرجات بيانه : {وبشّر الّذين آمنوا... إلى جنات}.
وقال أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه : كفى بالتوحيد عبادة وكفى بالجنّة ثواباً.
ابن كيسان : اذكروني بالشكر أذكركم بالزّيادة : بيانه قوله {لَ ن شَكَرْتُمْ زِيدَنَّكُمْ}.
وقيل : اذكروني على ظهر الأرض أذكركم في بطنها.
قال الأصفي : رأيت أعرابياً واقفاً يوم عرفة بالموقف وهو يقول : ضجّت إليك الأصوات بضروب اللّغات يسئلونك الحاجات وحاجتي إليك أن تذكرني عند البلى إذا نسيني أهل الدّنيا.
وقيل : أذكروني بالطّاعات أذكركم بالمعافاة ودليله {مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حياةً طَيِّبَةً}.
وقيل : اذكرونى في الخلاء والملاء أذكركم في الجلاء والملأ بيانه ما روي في بعض الكتب إنّ الله قال : أنا عند من عبدني ،
فليظن بي ما شاء ،
وأنا معه إذا ذكرني ،
فمن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ،
ومن ذكرني في الملأ ذكرته في ملأ خير منه ،
ومن تقربّ إليّ شبراً تقرّبت له ذراعاً ،
ومن تقرّب إليّ ذراعاً ،
تقرّبت إليه باعاً ومن أتاني مشياً أتيته هرولة ،
ومن أتاني بقراب الأرض فضّة أتيته بمثلها مغفرة بعد أن لا يُشرك بي شيئاً.
وقيل : اذكرونى في النّعمة والرّخاء أذكركم في الشّدة والبلاء بيانه قوله {فلولا إنّه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون}.
قال سلمان الفارسي : إنّ العبد إذا كان له دُعاء في السّر ؛ فإذا انزل به البلاء قالت الملائكة : عبدك نزل به البلاء فيشفعون له فينجيه الله ،
(2/281)
فإذا لم يكن له دُعاء قالوا : الآن فلا تشفعون له. بيانه لفظة فرعون {الآن وقد عصيت من قبل}.
وقيل : اذكرونى بالتسليم والتفويض أذكركم بأصلح الأختبار. بيانه {وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ}.
وقيل : اذكرونى بالشوق والمحبّة أذكركم بالوصل والقربة.
وقيل : اذكرونى بالحمد والثناء أذكركم بالجزاء ،
وقيل : اذكرونى بالأوبة أذكركم بغفران الحوبة ،
وقيل : اذكرونى بالدُّعاء أذكركم بالعطاء ،
اذكرونى بالسؤال أذكركم بالنوّال ،
اذكرونى بلا غفلة أذكركم بلا مهلة ،
اذكرونى بالندّم أذكركم بالكرم ،
اذكرونى بالمعذرة أذكركم بالمغفرة ،
اذكرونى بالإرادة أذكركم بالأفادة ،
اذكرونى بالتنصّل أذكركم بالتفضل اذكرونى بالإخلاص أذكركم بالخلاص ،
اذكرونى بالقلوب أذكركم بكشف الكروب ،
اذكرونى بلا نسيان أذكركم بالأمان ،
اذكرونى بالأفتقار أذكركم بالاقتدار ،
اذكرونى بالأعدام والاستغفار أذكركم بالرّحمة والإغتفار ،
اذكرونى بالأيمان أذكركم بالجنان ،
اذكرونى بالأسلام أذكركم بالأكرام ،
اذكرونى بالقلب أذكركم برفع التعجب ،
اذكرونى ذكراً فانياً أذكركم ذكراً باقياً ،
اذكرونى بالابتهال أذكركم بالأفضال ،
اذكرونى بالظل أذكركم بعفو الزلل ،
اذكرونى بالاعتراف أذكركم بمحو الاقتراف ،
اذكرونى بصفاء السّر أذكركم بخالص البّر ،
اذكرونى بالصّدق أذكركم بالرّفق ،
اذكرونى بالصفَو أذكركم بالعفو ،
اذكرونى بالتعظيم أذكركم بالتكريم ،
اذكرونى بالتكبير أذكركم بالتطهير ،
اذكرونى بالتمجيد أذكركم بالمزيد ،
اذكرونى بالمناجاة أذكركم بالنجاة ،
اذكرونى بترك الجفاء اذكركم بحفظ الوفاء ،
اذكرونى بترك الخطأ أذكركم بحفظ الوفاء ،
اذكرونى بالجهد بالخلقة أذكركم بأتمام النعمة ،
اذكرونى من حيث أنتم أذكركم من حيث أنا ولذكر الله أكبر.
الربيع في هذه الآية : إنّ الله ذاكر من ذكره ،
وزائداً من شكره ،
ومعذّبُ من كفره.
(2/282)
وقال السّدي : فيها ليس من عبد يذكر الله إلاّ ذكره الله. لا يذكره مؤمن إلاّ ذكره بالرّحمة ،
ولا يذكره كافر إلاّ يذكره بعذاب.
وقال أبو عثمان النهدي : إنّي لأعلم حين يذكرني ربّي عزّ وجلّ ،
قيل : كيف ذلك ؟
قال : إنّ الله عزّ وجلّ قال : {اذكروني أذكركم} وإذا ذكرت الله تعالى ذكرني.
انتهى.( 1) {الكشف والبيان حـ 2 صـ 19 ـ 21}
________________
( 1) رحم الله الإمام الثعلبى فالآية تحتمل كل هذه الوجوه وزيادة لكن الأولى حملها على العموم إذ لا يوجد ما يستلزم التخصيص. والله أعلم(2/283)
قَوْله تَعَالَى : {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ}
قال الجصاص بعض أن ذكر بعض أقوال السلف فى الآية :
وَاللَّفْظُ مُحْتَمِلٌ لِهَذِهِ الْمَعَانِي ، وَجَمِيعُهَا مُرَادُ اللَّهِ تَعَالَى لِشُمُولِ اللَّفْظِ وَاحْتِمَالِهِ إيَّاهُ.
فَإِنْ قِيلَ : لَا يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الْجَمِيعُ مُرَادَ اللَّهِ تَعَالَى بِلَفْظِ وَاحِدٍ ؛ لِأَنَّهُ لَفْظٌ مُشْتَرَكٌ لِمَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ قِيلَ لَهُ : لَيْسَ كَذَلِكَ ؛ لِأَنَّ جَمِيعَ وُجُوهِ الذِّكْرِ عَلَى اخْتِلَافِهَا رَاجِعَةٌ إلَى مَعْنًى وَاحِدٍ.
فَهُوَ كَاسْمِ الْإِنْسَانِ يَتَنَاوَلُ الْأُنْثَى وَالذَّكَرَ ، وَالْأُخُوَّةُ تَتَنَاوَلُ الْإِخْوَةَ الْمُتَفَرِّقِينَ ، وَكَذَلِكَ الشَّرِكَةُ وَنَحْوُهَا ، وَإِنْ وَقَعَ عَلَى مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٍ فَإِنَّ الْوَجْهَ الَّذِي سُمِّيَ بِهِ الْجَمِيعُ مَعْنًى وَاحِدٌ.
وَكَذَلِكَ ذِكْرُ اللَّهِ تَعَالَى لَمَّا كَانَ الْمَعْنَى فِيهِ طَاعَتَهُ ، وَالطَّاعَةُ تَارَةً بِالذِّكْرِ بِاللِّسَانِ ، وَتَارَةً بِالْعَمَلِ بِالْجَوَارِحِ ، وَتَارَةً بِاعْتِقَادِ الْقَلْبِ ، وَتَارَةً بِالْفِكْرِ فِي دَلَائِلِهِ وَحُجَجِهِ ، وَتَارَةً فِي عَظَمَتِهِ ، وَتَارَةً بِدُعَائِهِ وَمَسْأَلَتِهِ ، جَازَ إرَادَةُ الْجَمِيعِ بِلَفْظٍ وَاحِدٍ ، كَلَفْظِ الطَّاعَةِ نَفْسِهَا جَازَ أَنْ يُرَادَ بِهَا جَمِيعُ الطَّاعَاتِ عَلَى اخْتِلَافِهَا إذَا وَرَدَ الْأَمْرُ بِهَا مُطْلَقًا نَحْوُ قَوْله تَعَالَى : {أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ} وَكَالْمَعْصِيَةِ يَجُوزُ أَنْ يَتَنَاوَلَ جَمِيعَهَا لَفْظُ النَّهْيِ.
فَقَوْلُهُ : {فَاذْكُرُونِي} قَدْ تَضَمَّنَ الْأَمْرَ بِسَائِرِ وُجُوهِ الذِّكْرِ ، وَمِنْهَا سَائِرُ وُجُوهِ طَاعَتِهِ وَهُوَ أَعَمُّ الذِّكْرِ ، وَمِنْهَا ذِكْرُهُ(2/284)
بِاللِّسَانِ عَلَى وَجْهِ التَّعْظِيمِ وَالثَّنَاءِ عَلَيْهِ وَالذِّكْرِ عَلَى وَجْهِ الشُّكْرِ وَالِاعْتِرَافِ بِنِعَمِهِ.
وَمِنْهَا ذِكْرُهُ بِدُعَاءِ النَّاسِ إلَيْهِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى دَلَائِلِهِ وَحُجَجِهِ وَوَحْدَانِيِّتِهِ وَحِكْمَتِهِ وَذِكْرُهُ بِالْفِكْرِ فِي دَلَائِلِهِ وَآيَاتِهِ وَقُدْرَتِهِ وَعَظَمَتِهِ ، وَهَذَا أَفْضَلُ الذِّكْرِ وَسَائِرُ وُجُوهِ الذِّكْرِ مَبْنِيَّةٌ عَلَيْهِ وَتَابِعَةٌ لَهُ وَبِهِ يَصِحُّ مَعْنَاهَا لِأَنَّ الْيَقِينَ وَالطُّمَأْنِينَةَ بِهِ تَكُونُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} يَعْنِي وَاَللَّهُ أَعْلَمُ ذِكْرَ الْقَلْبِ الَّذِي هُوَ الْفِكْرُ فِي دَلَائِلِ اللَّهِ تَعَالَى وَحُجَجِهِ وَآيَاتِهِ وَبَيِّنَاتِهِ ، وَكُلَّمَا ازْدَدْت فِيهَا فِكْرًا ازْدَدْت طُمَأْنِينَةً وَسُكُونًا.
وَهَذَا هُوَ أَفْضَلُ الذِّكْرِ لِأَنَّ سَائِرَ الْأَذْكَارِ إنَّمَا يَصِحُّ وَيَثْبُتُ حُكْمُهَا بِثُبُوتِهِ. أ هـ {أحكام القرآن ـ للجصاص حـ 1 صـ 114}(2/285)
بحث لطيف عن الذكر للعلامة ابن جزى ـ رحمه الله ـ
وبالجملة فهذه الآية بيان لشرف الذكر وبينها قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كما يرويه عن ربه أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني فإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي وإن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منهم والذكر ثلاثة أنواع ذكر بالقلب وذكر باللسان وبهما معا واعلم أن الذكر أفضل الأعمال على الجملة
وإن ورد في بعض الأحاديث تفضيل غيره من الأعمال كالصلاة وغيرها فإن ذلك لما فيها من معنى الذكر والحضور مع الله تعالى والدليل على فضيلة الذكر من ثلاثة أوجه الأول النصوص الواردة بتفضيله على سائر الأعمال قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم وخير لكم من أن تلقوا عدوكم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم قالوا بلى يا رسول الله قال ذكر الله وسئل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أي الأعمال أفضل قال ذكر الله قيل الذكر أفضل أم الجهاد في سبيل الله فقال لو ضرب المجاهد بسيفه في الكفار حتى ينقطع سي فهو يختضب دما لكان الذاكر أفضل منه الوجه الثاني أن الله تعالى حيث ما أمر بالذكر أو أثنى على الذكر اشترط فيه الكثرة فقال اذكروا الله ذكرا كثيرا والذاكرين الله كثيرا ولم يشترط ذلك في سائر الأعمال الوجه الثالث أن للذكر مزية هي له خاصة وليست لغيره وهي الحضور في الحضرة العلية والوصول إلى القرب بالذي عبر عنه ما ورد في الحديث من المجالسة والمعية فإن الله تعالى يقول أنا جليس من ذكرني ويقول أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني وللناس في المقصد بالذكر مقامان فمقصد العامة اكتساب الأجور ومقصد الخاصة القرب والحصور وما بين المقامين بون بعيد فكم بين من يأخذ أجره وهو من وراء حجاب وبين من يقرب حتى يكون من خواص الأحباب واعلم أن الذكر على أنواع كثيرة فمنها التهليل والتسبيح والتكبير والحمد والحوقلة والحسبلة وذكر كل اسم من أسماء الله تعالى والصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والاستغفار وغير ذلك ولكل ذكر خاصيته وثمرته وأما التهليل فثمرته التوحيد أعني التوحيد الخاص فإن التوحيد العام حاصل لكل مؤمن وأما التكبير فثمرته التعظيم والإجلال لذي الجلال وأما الحمد والأسماء التي معناها الإحسان والرحمة كالرحمن الرحيم والكريم والغفار وشبه ذلك فثمرتها ثلاث مقامات وهي الشكر وقوة(2/286)
الرجاء والمحبة فإن المحسن محبوب لا محالة وأما الحوقلة والحسبلة فثمرتهما التوكل على الله والتفويض إلى الله والثقة بالله وأما الأسماء التي معناها الاطلاع والإدراك كالعليم والسميع والبصير والقريب وشبه ذلك فثمرتها المراقبة وأما الصلاة على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فثمرتها شدة المحبة فيه والمحافظة على اتباع سنته وأما الاستغفار فثمرته الاستقامة على التقوى والمحافظةعلى شروط التوبة مع إنكار القلب بسبب الذنوب المتقدمة ثم إن ثمرة الذكر التي تجمع الأسماء والصفات مجموعة في الذكر الفرد وهو قولنا الله الله فهذا هو الغاية وإليه المنتهى.أهـ {التسهيل حـ1 صـ 63 ـ 64}
وقال السلمى :
وقال بعض العراقيين فى قوله : {اذكرونى أذكركم} قال : لك نسيبة من الحق يتحمل بها الموارد وهو ذكره إياك , فلولا ذكره إياك ما ذكرته.
وقيل : اذكرونى بجهدكم وطاقتكم لأقرن ذكركم بذكرى فيتحقق لكم الذكر.
قال سمنون : حقيقة الذكر أن ينسى كل شئ سوى مذكوره , لاستغراقه فيه فيكون أوقاته كلها ذكرًا وأنشد :
لا لأنِّى أنساك أكثر ذكراك
ولكنى بذاك يجرى لسانى.
وقيل : اذكرونى على الدوام لتطمئن قلوبكم بى, لأنه يقول : {ألا بذكر الله تطمئن القلوب} وقال بعضهم : أتم الذكر أن تشهد ذكر المذكور لك بدوام ذكرك له , قال الله جل من قائل : {اذكرونى أذكركم}.أهـ {حقائق التفسير صـ 68}.
وقال الفقيه أبو الليث السمرقندى ـ رحمه الله ـ
(2/287)
اعلم أن ذكر اللَّه تعالى أفضل العبادات لأن اللَّه تعالى جعل لسائر العبادات مقدار وجعل لها أوقاتاً ولم يجعل لذكر اللَّه تعالى مقدار ولا وقتا وأمر بالكثرة بغير مقدار وهو قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّه ذِكْراً كَثِيراً} يعني اذكروه في جميع الأحوال ، وتفسير الذكر في الأحوال كلها أن العبد لا يخلو من أربعة أحوال : إما أن يكون في الطاعة ، أو في المعصية ، أو في النعمة ، أو في الشدة ، فإن في الطاعة فينبغي أن يذكر اللَّه تعالى بالتوفيق ويسأل منه القبول ، وإن كان في المعصية فينبغي أن يدعو اللَّه بالامتناع ويسأله التوبة ، وإن كان في النعمة يذكره بالشكر ، وإن كان في الشدة يذكره بالصبر.واعلم أن في ذكر اللَّه تعالى خمس خصال محمودة ، أولها أن فيه رضا اللَّه تعالى ، والثاني أنه يزيد في الحرص على الطاعات ، والثالث أن فيه حرزا من الشيطان إذا كان ذاكرا اللَّه تعالى ، والرابع أن فيه رقة القلب ، والخامس أن يمنعه من المعاصي ، والله سبحانه وتعالى أعلم بالصواب. أ هـ
{تنبيه الغافلين صـ 392}.
فائدة
قال بعضهم : ذَكر اللهُ الذِّكر فى القرآن على عشرين وجهًا :
الأَوّل : ذِكْر اللِّسان {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ}.
الثانى : ذِكْر بالقلب {ذَكَرُواْ اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ}.
الثَّالث : بمعنى الوعظ {وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنفَعُ الْمُؤْمِنِينَ} {فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذِّكْرَى}.
الرّابع : بمعنى التوراة {فَاسْئَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ}.
الخامس : بمعنى القرآن {وَهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ}.
السّادس : بمعنى اللَّوح المحفوظ {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ}.
السَّابع : بمعنى رسالة الرّسول {أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ} أَى رسالة.
(2/288)
الثَّامن : بمعنى العِبْرة {أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً} أَى العِبَر.
التَّاسع : بمعنى الخَبَر {هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ وَذِكْرُ مَن قَبْلِي}.
العاشر : بمعنى الرّسول {قَدْ أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَّسُولاً}.
الحادى عشر : بمعنى الشَّرف {وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ} أَى شرف.
الثانى عشر : بمعنى التَّوبة {ذلك ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ}.
الثالث عشر : بمعنى الصَّلوات الخمس {فَاذْكُرُواْ اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُم}.
الرابع عشر : بمعنى صلاة العصر خاصّة {أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي}.
الخامس عشر : بمعنى صلاة الجمعة {فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ}.
السّادس عشر : بمعنى العُذْر من التَّقصير {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاَةَ فَاذْكُرُواْ اللَّهَ}.
السَّابع عشر : بمعنى الشَّفاعة {اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ}.
الثامن عشر : بمعنى التَّوحيد {وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي} {وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ}.
التَّاسع عشر : بمعنى ذكر المنَّة {اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ} ، {اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ}.
العشرون : بمعنى الطَّاعة والخِدمة {فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ} أَى اذكرونى بالطَّاعة أَذكركم بالجنَّة. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 3 صـ 274}
قوله تعالى {وَلَا تَكْفُرُونِ}
وقوله : {ولا تكفرون} نهي عن الكفران للنعمة ، والكفران مراتب أعلاها جحد النعمة وإنكارها ثم قصد إخفائها ، ثم السكوت عن شكرها غفلة وهذا أضعف المراتب وقد يعرض عن غير سوء قصد لكنه تقصير.
(2/289)
قال ابن عرقة : "ليس عطف قوله : {ولا تكفرون} بدليل على أن الأمر بالشيء ليس نهياً عن ضده وذلك لأن الأمر بالشكر مطلق (أي لأن الأمر لا يدل على التكرار فلا عموم له) فيصدق بشكره يوماً واحداً فلما قال {ولا تكفرون} أفاد النهي عن الكفر دائماً" أ هـ ، يريد لأن الفعل في سياق النهي يعم ، مثل الفعل في سياق النفي لأن النهي أخو النفي. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ 2صـ 51}
كلام نفيس فى هذا الموضع
قال الراغب : إن قيل ما الفرق بين شكرت لزيد وشكرت زيدا ؟
قيل شكرت له هو أن تعتبر إحسانه الصادر عنه فتثنى عليه بذلك وشكرته إذا لم تلتفت إلى فعله بل تجاوزت إلى ذكر ذاته دون اعتبار أحواله وأفعاله فهو أبلغ من شكرت له ، وإنما قال {واشكروا لى ولم يقل واشكرونى علما بقصورهم عن إدراكه بل عن إدراك آلائه كما قال تعالى {وإن تعدوا نعمة الله لا تحصوها} فأمرهم أن يعتبروا بعض أفعاله فى الشكر لله {ولا تكفرون} بجحد النعم وعصيان الأمر
فان قيل لم قال بعد {واشكروا لى ولا تكفرون} ولم يقتصر على قوله {واشكروا لى} قلنا لو اقتصر على قوله {واشكروا لى} لكان يجوز أن يتوهم أن من شكره مرة أو على نعمة ما فقد امتثل ولو اقتصر على قوله {ولا تكفرون} لكان يجوز أن يتوهم أن ذلك نهى عن تعاطى فعل قبيح دون حث على الفعل الجميل فجمع بينهما لإزالة هذا التوهم ، ولأن فى قوله {ولا تكفرون}تنبيها على أن ترك الشكر كفران.
فإن قيل : لم قال {ولا تكفرون} ولم يقل : ولا تكفروا لى ؟
قيل : خص الكفر به تعالى بالنهى عنه للتنبيه على أنه أعظم قباحة بالنسبة إلى كفر نعمه فإن كفران النعم قد يعفى عنه بخلاف الكفر به تعالى كذا فى تفسير الراغب الأصفهانى. أ هـ {روح البيان حـ 1صـ 320}(2/290)
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153)}
مناسبة الآية لما قبلها
ولما ختم الآيات الآمرة باستقبال البيت في الصلاة بالأمر بالشكر ومجانبة الكفر وكان ذلك رأس العبادة وفاعله شديد الافتقار إلى المعونة التفت إلى قوله تعالى في أم الكتاب : {إياك نعبد وإياك نستعين} [الفاتحة : 5] فأمرهم بما تضمن ذلك من الصبر والصلاة {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت : 45] عالماً بأنهم سيمتثلون حيث عصى بنو إسرائيل حين أمرهم بمثل ذلك في أول قصصهم بقوله : {وأقيموا الصلاة وآتوا الزكاة واركعوا مع الراكعين} [البقرة : 43] إلى أن قال : {واستعينوا بالصبر والصلاة وإنها لكبيرة إلا على الخاشعين} [البقرة : 45] فكان في ذلك إشارة إلى أنهم هم الخاشعون وحسن موقع هذه الآية كونها بعد أذى أهل الكتاب بنسبهم لهم إلى بطلان الدين بتغيير الأحكام ونحو ذلك من مُرّ الكلام كما في الآية الأخرى {ولتسمعن من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم ومن الذين أشركوا أذى كثيراً وإن تصبروا وتتقوا فإن ذلك من عزم الأمور} [آل عمران : 186] وكونها عقب الأمر بالذكر والشكر إيماء إلى أن ملاك كل منهما الصبر والصلاة فكأنه قيل : لا تلتفتوا إلى طعن الطاعنين في أمر القبلة فيشغلكم ذلك عن ذكري وشكري بل اصبروا وصلوا إليّ متوجهين إلى القبلة التي أمرتكم بها عالمين أن الصبر والصلاة نعم العون على كل ما ينوب من دين ودنيا ، وأرشق من هذا أن يقال : ولما علم من هذه الآيات إعضال ما بينهم وبين السفهاء وأمرهم بالدواء المنجح من الإعراض عنهم والإقبال على ذكره وشكره أتبع ذلك للإشارة إلى أن الأمر يصل إلى أشد مما توهموه فقال : يا أيها الذين آمنوا} مخاطباً لهم على وجه يشمل الكامل ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولعله صرف الخطاب عنه لما في السياق مما يحمي عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ مقامه العالي {استعينوا بالصبر} أي على ما تلقون منهم وعلى الإقبال إليّ لأكفيكم كل مهم {والصلاة} فإنها أكبر معين لأنها أجمع العبادات ، فمن أقبل بها(2/291)
على مولاه حاطه وكفاه لإعراضه عن كل ما سواه ، لأن ذلك شأن كل كبير فيمن أقبل بكليته عليه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1صـ 277}
وقال الفخر ـ رحمه الله ـ
اعلم أنه تعالى لما أوجب بقوله : {فاذكرونى} جميع العبادات ، وبقوله : {واشكروا لِي} ما يتصل بالشكر أردفه ببيان ما يعين عليهما فقال : {استعينوا بالصبر والصلاة} وإنما خصهما بذلك لما فيهما من المعونة على العبادات ، أما الصبر فهو قهر النفس على احتمال المكاره في ذات الله تعالى وتوطينها على تحمل المشاق وتجنب الجزع ، ومن حمل نفسه وقلبه على هذا التذليل سهل عليه فعل الطاعات وتحمل مشاق العبادات ، وتجنب المحظورات ومن الناس من حمل الصبر على الصوم ، ومنهم من حمله على الجهاد لأنه تعالى ذكر بعده : {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَن يُقْتَلُ فِى سَبيلِ الله} [البقرة : 154] وأيضاً فلأنه تعالى أمر بالتثبت في الجهاد فقال : {إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا} [الأنفال : 45] وبالتثبت في الصلاة أي في الدعاء فقال : {وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِى أَمْرِنَا وَثَبّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين} [آل عمران : 147].
إلا أن القول الذي اخترناه أولى لعموم اللفظ وعدم تقييده ، والاستعانة بالصلاة لأنها يجب أن تفعل على طريق الخضوع والتذلل للمعبود والإخلاص له ، ويجب أن يوفر همه وقلبه عليها وعلى ما يأتي فيها من قراءة فيتدبر الوعد والوعيد والترغيب والترهيب ومن سلك هذه الطريقة في الصلاة فقد ذلل نفسه لاحتمال المشقة فيما عداها من العبادات ولذلك قال : {إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر} [العنكبوت : 45] ولذلك نرى أهل الخير عند النوائب متفقين على الفزع إلى الصلاة ، وروي أنه عليه الصلاة والسلام كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4صـ 168 ـ 169}
سؤال : لم افتُتح الكلام بالنداء ؟ (2/292)
الجواب : افتُتح الكلام بالنداء لأن فيه إشعاراً بخبرٍ مهم عظيم ، فإن شأن الأَخبار العظيمة التي تَهُول المخاطبَ أن يقدَّم قبلَها ما يهيءُ النفس لقبولها لتستأنس بها قبل أن تفْجَأَها.
وفي افتتاح هذا الخطاب بالاستعانة بالصبر إيذان بأنه سيُعقب بالنَّدْب إلى عمل عظيم وبلْوى شديدة ، وذلك تهيئةٌ للجهاد ، ولعله إعداد لغزوة بدر الكبرى ، فإن ابتداء المغازي كان قُبيل زمن تحويل القبلة إذ كان تحويل القبلة في رجب أو شعبان من السنة الثانية للهجرة وكانت غزوة بُوَاطَ والعُشَيْرَةِ وبدْرٍ الأولى في ربيع وجمادى من السنة الثانية ولم يكن فيهما قتال ، وكانت بَدْرٌ الكبرى في رمضان من السنة الثانية فكانت بعد تحويل القبلة بنحو شهرين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2صـ 52}
قوله تعالى {إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}
قال البقاعى : (2/293)
ولما كانت الصلاة لا تقوم إلا بالصبر اقتصر على التعليل به فقال : {إن الله} أي الذي له الكمال كله {مع الصابرين} أي ومعلوم أن من كان الله سبحانه وتعالى معه فاز. قال الحرالي : وأيسر الصبر صبر النفس عن كسلها بأخذها بالنشاط فيما كلفت به {لا يكلف الله نفساً إلا ما آتاها} [الطلاق : 7] و{لا يكلف الله نفساً إلا وسعها} [البقرة : 286] فمتى يسر الله سبحانه وتعالى عليها الجد والعزيمة جعل لها فيما كانت تصبر عليه في الابتداء الاستحلاء فيه وخفت عنها وظيفة الصبر ، ومتى لم تصبر عن كسلها وعلى جدها تدنست فنالها عقوبات يكون الصبر عليها أشد من الصبر الأول ، كما أن من صبر عن حلو الطعام لم يحتج أن يصبر على مر الدواء ، فإن تحملت الصبر على عقوبات ضياع الصبر الأول تداركها نجاة من اشتداد العقوبة عليها ، وإن لم تتصبر على تلك العقوبات وقعت في مهالك شدائد العذاب فقيل لأهلها {فاصبروا أو لا تصبروا سواء عليكم} [الطور : 16] ثم قال : فبداية الدين صبر وخاتمته يسر ، فإن من كان الله سبحانه وتعالى معه رفع عنه مرارة الصبر بوضع حلاوة الصحبة التي تشعر بها كلمة مع - انتهى. {نظم الدرر حـ 1صـ 277 ـ 278}
سؤال : إن قيل لم قال {إن الله مع الصابرين} ولم يقل مع المصلين وقال فى الآية الأخرى {واستعينوا بالصبر والصلوة وإنها لكبيرة} فاعتبر الصلاة دون الصبر ؟
قيل لما كان فعل الصلاة أشرف وأعلى من الصبر إذ قد ينفك الصبر عن الصلاة ولا تنفك الصلاة عن الصبر ذكر هاهنا الصابرين فمعلوم أنه تعالى إذا كان مع الصابرين فهو لا محالة يكون مع المصلين بطريق الأولى وقال هناك لكبيرة فذكر الصلاة دون الصبر تنبيها على أنها أشرف منزلة من الصبر. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 321}.
فائدة
المعيّة على قسمين :
أحدهما : معيّة عامة ، وهي المعية بالعلم والقدرة ، وهذه عامة في حق كل أحد.(2/294)
والثاني : معيّة خاصة وهي المعيّة بالعَوْن والنصر ، وهذه خاصة بالمتقين والمحسنين والصابرين ، ولهذا قال الله تعالى : {إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ} [النحل : 128] وقال هاهنا : {إِنَّ الله مَعَ الصابرين} أي : بالعون والصبر. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 78}.
" بحث قيم فى الصبر "
ورد ذكر الصبر من القرآن في أكثر من سبعين موضعا وذلك لعظمة موقعه في الدين.
قال بعض العلماء : كل الحسنات لها أجر محصور من عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصبر فإنه لا يحصر أجره لقوله تعالى {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب}
وذكر الله للصابرين ثمانية أنواع من الكرامة
أولها المحبة قال {والله يحب الصابرين}
والثاني النصر قال {إن الله مع الصابرين}
والثالث غرفات الجنة قال {يجزون الغرفة بما صبروا}
والرابع الأجر الجزيل قال {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} والأربعة الأخرى المذكورة في هذه الآية ففيها البشارة قال {وبشر الصابرين}
والصلاة والرحمة والهداية {أولئك عليهم صلوات من ربهم ورحمة وأولئك هم المهتدون}
والصابرون على أربعة أوجه
صبر على البلاء وهو منع النفس من التسخيط والهلع والجزع
وصبر على النعم وهو تقييدها بالشكر وعدم الطغيان وعدم التكبر بها
وصبر على الطاعة بالمحافظة والدوام عليها
وصبر عن المعاصي بكف النفس عنها
وفوق الصبر التسليم وهو ترك الاعتراض والتسخيط ظاهرا وترك الكراهة باطنا
وفوق التسليم الرضا بالقضاء وهو سرور النفس بفعل الله وهو صادر عن المحبة وكل ما يفعل المحبوب محبوب.أ هـ {التسهيل ـ حـ 1 صـ 65}
من أجمع وأنفس ما قيل فى الصبر
وهو فى القرآن على ستَّة عشر نوعا : (2/295)
الأَوّل : الأَمر به نحو قوله تعالى : {يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ وَالصَّلاَةِ} ، وقوله تعالى : {اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ} ، وقوله تعالى : {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ} ، {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ}.
الثاني : النَّهى عن ضدّه كقوله : {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ} ، وقولهِ : {فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ} ، فإِن تَوْلية الأَدبار ترك الصّبر والمصابرة.
الثالث : الثَّناء على أَهله كقوله : {الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ} ، وقوله : {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَائِكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَأُولَائِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ}. وهو كثير النَّظائر فى التنزيل.
الرّابع : إِيجاب معيّته لهم المعيّةَ التى تتضَمّن حفظهم ونصرهم وتأْييدهم ، ليست معيَّة عامّة ، أَعنى مَعيَّة العِلْم والإِحاطة ، كقوله : {وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ}.
الخامس : إِيجاب محبّته لهم ، كقوله : {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} وقوله : {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}
السّادس : إِخباره بأَنَّ الصبر خيرلهم ، كقوله : {وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ} ، وقوله : {وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ}.
السّابع : إِيجابه الجزاء لهم بأَحسن ما كانوا يعملون.
الثامن : إِيجابه الجزاء لهم بغير حساب ، كقوله : {إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ}.
التاسع : إِطلاق البُشرَى لأَهل الصّبر ، كقوله : {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}.
(2/296)
العاشر : ضمان النَّصْر والمَدَدِ لهم ، كقوله : {بَلَى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِّنَ الْمَلائِكَةِ} وفى الحديث : "إِنَّ النَّصْرَ مع الصبر".
الحادى عشر : الإِخبار أَنَّ أَهل الصّبر مع أَهل العزائم ، كقوله تعالى : {وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأُمُورِ}.
الثانى عشر : الإِخبار أَنَّه ما يُلَقَّى الأَعمال الصّالحة وجزاءَها إِلاَّ أَهل الصّبر ، كقوله : {وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصَّابِرُونَ} ، وقوله : {ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}.
الثالث عشر : الإِخبار أَنَّه ينتفع بالآيات والعِبَر أَهلُ الصّبر ، كقوله تعالى : {وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَآ أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ، وقوله فى أَهل سبأ : {فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} ، وقوله فى سورة الشورى : {وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالأَعْلاَمِ إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.
الرّابع عشر : الإِخبار بأَنَّ الفوز بالمطلوب ، والنجاةَ من المرهوب ، ودخولَ الجنَّة إِنَّما نالوه بالصّبر ، كقوله تعالى : {وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ}.
(2/297)
الخامس عشر : يورث صاحبه الإِمامة. وإِنَّ بالصبر واليقين يُنال الإِمامة فى الدّين ، كقوله : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ}.
السّادس عشر : اقترانه بمقامات الإِسلام والإِيمان ، كما قرنه سبحانه باليقين وبالتَّقوى والتوكُّل والشكر ؛
ولهذا كان الصبر من الإِيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
ولا إِيمانَ لمن لا صَبْرَ له ، كما أَنَّه لا جَسَد لمن لا رأس له.
قال عمر بن الخطَّاب : خير عيش ما أَدركناه بالصّبر. وفى الحديث : "الصّبرُ ضِياء". وفيه : "من يتصبّر يُصَبّره الله". وأَمَر بالصّبر عند المصيبة ، وأَخبر أَنه عند الصَّدْمة الأُولى ، وأَمر المصاب بأَنفع الأُمور له وهو الاحتساب ، فإِنَّ ذلك يخفِّف مُصيبته ويوفّر أَجره. والجزع والسّخط والتشكِّى يزيد المصيبة ، ويُذهب الأَجر.
والصّبر على ثلاثة أَنواع : صَبْرٌ على طاعة الله ، وصبر عن معصية الله ، وصبر على امتحان الله.
فالأَولان : الصّبر على ما يتعلق بالكسب. والثالث : الصّبر على مالا كسب للعبد فيه.
(2/298)
وقال بعض المشايخ : كان صبر يوسف عن طاعة امرأَة العزيز أَكمل من صبره على إِلقاءِ إِخْوته إِيّاه فى الجُبّ ، وبيعهم [إِيّاه] ، وتفريقهم بينه وبين أَبيه ، فإِنَّ هذه أُمور جرَت عليه بغير اختياره ، لا كسب له فيها ، ليس للعبد فيها حيلة غير الصّبر. وأَمّا صبره عن المعصية فصبر اختيار ورضا ، ومحاربةٌ للنَّفس ، ولا سيّما مع أَسبابٍ تقوّى معها داعية الموافقة ؛ فإِنّه كان شابًّا ، وداعية الشابّ إِليها قوَّته ؛ وكان عَزَبًا ليس له ما يعوّضه ويَرُدّ شهوته ؛ وغريبًا ، والغريب لا يستحى فى بلدِ غُربته ممّا يستحى منه بين أَصحابه وأَهلِه ؛ ويحسبونه مملوكًا ، والمملوك ليس وازعهُ كوازع الحرّ ؛ والمرأَة جميلة وذات مَنْصِب ، وقد غاب الرّقيب ، وهى الدّاعية له إِلى نفسها ، والحريصة على ذلك أَشدّ الحرص ، ومع ذلك توعّدته بالسجن إِن لم يفعل. فمع هذه الدّواعى كلّها صبر اختيارًا ، وإِيثارًا لما عند الله. وأَين هذا من صبره فى الجُبّ على ما ليس من كسبه ؟!
والصّبر على أَداءِ الطَّاعات أَكمل من الصّبر على اجْتِنَاب المحرّمات ؛ فإِنَّ مصلحة فعل الطَّاعة أَحَبُّ إِلى الشَّارع من مصلحة ترك المعصية ، ومفسدة عدم الطاعة أَبغض وأَكره من مفسدة وجود المعصية.
ثمّ الصّبر ينقسم بنوع آخر من القسمة على ثلاثة أَنواع : صبر بالله ، وصبر لله ، وصبر مع الله.
فالأَوّل : الاستعانة به ، ورؤية أَنَّه هو المصبِّر ، وأَنَّ صبر العبد بربّه لا بنفسه ، كما قال تعالى : {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ} ، يعنى إِنْ لم يُصَبِّرك هو لم تصبر.
والثَّانى : أَن يكون الباعث على الصّبر محبّة الله وإِرادة وجهه ، والتقرّب إِليه ، لا إِظهار قوّة النفْس ، والاستحماد إِلى الخلق ، وغير ذلك من الأَغراض.
(2/299)
والثالث : دروان العبد الذى (مُنى مع) الأَحكام الدينيّة صابرًا نفسه معها ، سائرًا بسَيرها ، مقيمًا بإِقامتها ، يتوجّه معها أَينما توجّهت ركائبها ، وينزل حيث استقلَّت مضاربُها. فهذا معنى كونه صابرًا مع الله ، قد جعل نفسه وَقْفا على أَوامره ومحابّه. وهو أَشدّ أَنواع الصّبر وأَصبعها. وهو صب الصدّيقين.
قال ذو النُّون : الصبر : التباعد من المخالفات ، والسّكون عند تجرّع غُصص البليّات ، وإِظهار الغنى مع طول الفقر بساحات المعيشة. وقيل : الصبر : الوقوف مع البلاءِ بحسن الأَدب. وقيل : هو الفناءُ فى البلوَى ، بلا ظهور شكوَى. وقيل : إِلزام النَّفْس الهجومَ علىالمكاره. وقيل : المُقام مع البلاءِ بحسن الصّحبة كالمقام مع العافية.
وقال عمرو بن عثمان : هو الثبات مع الله ، وتلقِّى بلائه بالرُّحْب والسّعة. وقال الخّواص : هو الثبات على أَحكام الكتاب والسنة.
وقال يحيى بن مُعَاذ : صبر المحبّين أَشدّ من صبر الزاهدين. واعجبا كيف يصبرون! وأَنشد.
والصّبر يُحْمَدُ فى المواطن كلِّها إِلاَّ عليك فإِنَّه مذمومُ
وقيل : الصّبر هو الاستعانة بالله. وقيل : هو ترك الشكوَى. وقيل : الصّبر مثلُ اسمه مُرٌّ مَذاقته لكنْ عواقبه أَحلَى من العسلِ
وقيل : الصّبر أَن ترضى بتلَف نفسك فى رضا مَن تحبّه ، كما قيل :
سأَصبر كى ترضَى وأَتْلَفُ حسرةً وحَسْبِىَ أَن ترضى ويقتلنى صبرى
وقيل : مراتب الصّبر خمسة : صابر ، ومصطبر ، ومتصبّر ، وصَبُور ، وصبّار.
فالصّابر أَعمّها. والمصطبر : المكتسِب للصبر ، والمبتلَى به. والمتصبرّ : متكلِّف الصّبر حاملُ نفسِه عليه. والصّبور : العظيم الصّبر الَّذى صَبْره أَشدّ من صبر غيره. والصّبَار : الشديد الصّبر ، فهذا فى القَدْر والكمّ ، والَّذى قبله فى الوصف والكيف.
وقال علىّ بن أَبى طالب : الصّبر مطيَّة لا تَكْبُو.(2/300)
وقف رجل على الشِّبْلِىّ فقال : أَىّ الصّبر أَشدّ على الصّابرين ؟ فقال : الصّبر فى الله. فقال السّائل : لا. قال : مع الله. قال : لا. قال : فأَيش ؟ قال : الصّبر عن الله. فصرخ الشِّبلىّ صَرخةً كادت نفسه تتلف.
وقال الجَريرىّ : الصّبر أَلاَّ تفرق بين حال النعمة وحال المحنة ، مع سكون الخاطر فيهما. والتصبّر : السّكون مع البلاءِ ، مع وِجدان أَثقال المحْنَة.
وقال أَبو على الدّقَّاق : فاز الصّابرون بعز الدّاريَين ؛ لأَنهم نالوا مع الله معيَّته ؛ فإِنَّ اللهَ مَعَ الصّابرين.
وقيل فى قوله : {اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ} ، انتقال من الأَدنى إِلى الأَعلى. فالصبر دون المصابرة ، والمصابرة دون المرابطة : مفاعلة من الرّبط وهو الشدّ. وسمّى المرابِط مرابطًا لأَنَّ المرابِطين
يربِطون خيولهم ينتظرون الفَزَع. ثمّ قيل لكلّ منتظر ، قد ربط نفسه لطاعة ينتظرها : مرابِط. وقيل فى تفسيره : اصبروا بنفوسكم ، وصابروا بقلوبكم على البَلْوَى فى الله ، ورابطوا بأَسراركم على الشوق إِلى الله. وقيل : اصبروا فى الله ، وصابروا بالله ، ورابطوا مع الله لعلكم تفلحون فى دار البقاءِ. فالصبر مع نفسك ، والمصابرة بينك وبين عدوّك ، والمرابطة : الثبات وإِعداد العدّة ؛ كما أَن الرّباط ملازمة الثغر لئلاً يهجُمه العدوّ. فكذلك المرابَطة أَيضًا : لزوم ثَغْر القلب ؛ لئلاَّ يهجُم عليه الشيطان فيملكَه. أَو يُخربه أَو يشعِّثه.
وقيل : تَجَرَّعِ الصّبرَ ، فإِنّْ قَتَلَك قتلك شهيدًا ، وإِن أَحياك أَحياك عزيزًا حميدًا. وقيل : الصّبر لله عَناء ، وبالله بقاء ، وفى الله بلاء ، ومع الله وفاء ، وعن الله جفاء. والصّبر على الطَّلب عنوان الظَّفر ، وفى المِحَن عنوان الفَرَج.
(2/301)
وفى كتاب الأَدب للبخارىّ : سئل رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم عن الإِيمان فقال : "الصّبر والسّماحة". وهذا من أَجمع الكلام ، وأَعظمه برهانًا ، وأَوعاه لمقامات الإِيمان من أَوّلها إِلى آخرها ؛ فإِن النَّفس يراد منها شيئان : بذل ما أُمِرَت به وإِعطاؤه ، فالحامل عليه السّماحة ؛ وتركُ ما نُهيَتْ عنه والبعد عنه ، فاحامل عليه الصّبر. وقد أضمر الله سبحانه فى كتابه بالصّبر الجميل الذى لا شكو معه ، والصّفح الجميل الَّذى لا عِتاب معه ، والهجرِ الجميل الذى لا أَذى معه.
وقال ابن عُيَيْنَة فى قوله تعالى : {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ} : أَخذوا برأْس الأَمر فجعلهم رُءُوسًا.
واعلم أَنَّ الشكوى إِلى الله عزَّ وجلّ لا تُنافى الصّبر ؛ فإِنَّ يعقوب - ـ عليه السلام ـ وَعَد بالصّبر الجميل ، والنبىّ إِذا وَعَدَ لا يُخلف ، ثمّ قال : {إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ} ، وكذلك أَيّوب عليه السّلام أَخبر الله عنه أَنه وجده صابرًا مع قوله : {مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} ، وإِنَّمَا ينافى الصبر شكوى الله لا الشكوى إِلى الله ؛ كما رأَى بعضهم رجلاً يشكو إِلى آخر فاقةً وضرورة ، فقال : يا هذا ، تشكو من يَرْحَمُكَ إِلى مَنْ لا يرحمك! ثمّ أَنشده :
وإِذا اعْتَرَتْكَ بليّةٌ فاصبِر لها صَبْرَ الكريمِ فإِنَّه بك أَرحمُ
وإِذا شكوتَ إِلى ابن آدم إِنّما تشكو الرّحيم إِلى الَّذى لا يرحم
وقال الشيخ عبد الله الأَنصارىّ : الصّبر حبس النفْس على المكروه ، وعقل اللِّسان عن الشكوى.
وهو على ثلاث درجات :
الأُولى : الصّبر عن المعصية بمطالعة الوعيد. وأَحسن منها الصّبر عن المعصية حياءً.
الثانية : الصّبر على الطاعة بالمحافظة عليها دوامًا ، وبرعايتها إِخلاَصًا ، وبتحسينها عِلمًا.(2/302)
الثالثة : الصّبر فى البلاءِ بملاحظة حسن الجزاءِ ، وانتظار رَوْح الفَرَج ، وتهوِين البليّة بِعَدّ أَيادى المِنَن ، وتذكُّر سوالف النِّعم.
وأَضعف الصّبر ، الصَّبْرُ لله وهو صبر العامة.
وفوقه الصبر بالله وهو صبر المريدين. وفوقه الصبر على الله وهو صبر السّالكين.
ومعنى كلامه أَنّ صبر العامّة لله ، أَى رجاءَ ثوابه وخوف عقابه ، وصبر المريدين بالله ، أَى بقوّة الله ومعونته ، فهم لا يرون لأَنفسهم صبرًا ولا قوّة عليه ، بل حالهم التَّحقُّق بلا حول ولا قوّة إِلاَّ بالله عِلمًا ومعرفة وحالاً. وفوقها الصّبر على الله ، أَى على أَحكامه. هذا تقرير كلامه رحمه الله.
والصّواب أَنَّ الصّبر لله فوق الصّبر بالله ، وأَعلى درجة ، وأَجلّ شأْنًا ؛ فإِنَّ الصّبر لله متعلق بالإِلَهية ، والصّبر به متعلق بربوبيّته ، وما تعلق بالإِلَهية أَكمل وأَعلى مما تعلق بربوبيّته ، ولأَنَّ الصّبر له عبادة ، والصّبر به استعانة ، والاستعانة وسيلة ، والعبادة غاية ، والغاية مرادة لنفسها ، والوسيلة مرادة لغيرها ؛ ولأَنَّ الصّبر به مشترك ، بين المؤمن والكافر ، والبرّ والفاجر ، فكلّ من شهد الحقيقة الكونيّة صَبَر به ، وأَمّا الصّبر له فمنزلة الرُّسُل والأَنبياءِ والصّدِّيقين ؛ ولأَن الصّبر له صبر فيما هو حقّ له ، محبوب له ، مرضىّ له ، والصّبر [به] قد يكون فى ذلك ، وقد يكون فيما هو مسخوط له ، وقد يكون فى مكروه أَو مباح. فأَين هذا من هذا ؟!
وأَمّا تسمية الصّبر على أحكامه صبرًا عليه فلا مشاحّة فى العبارة بعد معرفة المعنى. والله أَعلم.
وقد يعبّر عن الانتظار بالصبر لمّا كان حق الانتظار أَلاَّ ينفكّ عن الصّبر ، بل هو نوع من الصّبر ؛ قال تعالى : {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ} أَى انتظر حكمه لك على الكافرين.
وقيل : الصّبر لفظ عامّ ، وربّما خُولِفَ بين أَسمائه بسبب اختلاف مواقعه. فإِن كان حَبْسُ النَّفس لمصيبة سُمِّىَ صبرًا لا غَيْر ، ويضادّه الجزع. وإِن كان فى محاربة سمّى شجاعة ، ويضادّه الجُبْن. وإِن كان فى نائبة مُضجرة سمّى رُحْب الصّدر ، ويضادّه الضَّجْر. وإِن كان فى إِمساك الكلام سُمِّىَ كتمانًا ، ويضادّه المَذْل. وقد سمّى الله تعالى كلّ ذلك صبرًا لقوله : {وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَآءِ والضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ} ، {وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَآ أَصَابَهُمْ}.
أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 3 صـ 380}.(2/303)
موعظة
لما رأيت نفسي في العلم حسنا فهي تقدمه على كل شيء وتعتقد الدليل وتفضل ساعة التشاغل به على ساعات النوافل وتقول : أقوى دليل لي على فضله على النوافل أني رأيت كثيرا ممن شغلتهم نوافل الصلاة والصوم عن نوافل العلم عاد ذلك عليهم بالقدح في الأصول فرأيتها في هذا الاتجاه على الجادة السهلة والرأي الصحيح
إلا أني رأيتها واقفة مع صورة التشاغل بالعلم فصحت بها : فما الذي أفادك العلم ؟ أين الخوف ؟ أين القلق ؟ أين الحذر ؟
أو ما سمعت بأخبار أخيار الأحبار في تعبدهم واجتهادهم ؟
أما كان الرسول صلى الله عليه وسلم سيد الكل ثم إنه قام حتى ورمت قدماه ؟
أما كان أبو بكر رضي الله عنه شجي النشيج كثير البكاء ؟
أما كان في خد عمر رضي الله عنه خطان من آثار الدموع ؟
أما كان عثمان رضي الله عنه يختم القرآن في ركعة ؟
أما كان علي رضي الله عنه يبكي بالليل في محرابه حتى تخضل لحيته بالدموع ؟ ويقول : [يا دنيا عري غيري ؟ ]
أما كان الحسن البصري يحيا على قوة القلق ؟
أما كان سعيد بن المسيب ملازما للمسجد فلم تفته صلاة في جماعة أربعين سنة ؟
أما صام الأسود بن يزيد حتى اخضر واصفر ؟
أما قالت بنت الربيع بن خيثم له : [مالي أرى الناس ينامون وأنت لا تنام] ؟ فقال : [إن أباك يخاف عذاب البيات ]
أما كان أبو مسلم الخولاني يعلق سوطا في المسجد يؤدب به نفسه إذا فتر ؟
أما صام يزيد الرقاشي أربعين سنة ؟ وكان يقول : والهفاة سبقني العابدون وقطع بي.
أما صام منصور بن المعتمر أربعين سنة ؟
أما كان سفيان الثوري يبكي الدم من الخوف ؟
أما كان إبراهيم بن أدهم يبول الدم من الخوف ؟ (2/304)
أما تعلمين أخيار الأئمة الأربعة في زهدهم وتعبدهم : أبو حنيفة ومالك والشافعي وأحمد ؟ فاحذري من الإخلاد إلى صورة العلم مع ترك العمل به فإنها حالة الكسالى الزمنى :
( وخذ لك منك على مهلة... ومقبل عيشك لم يدبر )
( وخف هجمة لا تقبل العثا... ر وتطوي الورود على المصدر )
( ومثل لنفسك أي الرعيل... يضمك في حلبة المحشر. أ هـ {صيد الخاطر صـ 69}(2/305)
قوله تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)}
سبب نزول الآية
قال الخازن :
نزلت فيمن قتل ببدر من المسلمين وكانوا أربعة عشر رجلاً ستة من المهاجرين وهم : عبيدة بن الحارث بن عبدالمطلب وعمير بن أبي وقاص بن أهيب بن عبد مناف بن زهرة الزهري أخو سعد بن أبي وقاص وذو الشمالين واسمه عمير بن عبد عمرو بن العاص بن نضلة بن عمرو بن خزاعة ثم بني غبشان وعاقل بن البكير من بني سعد بن ليث بن كنانة ومهجع مولى لعمر بن الخطاب ، وصفوان بن بيضاء من بني الحارث بن فهر ومن الأنصار ثمانية ، وهم سعد بن خيثمة ومبشر بن عبد بن المنذر ، ويزيد بن الحارث بن قيس بن فسحم وعمير بن الحمام ورافع بن المعلى وحارثة بن سراقة ، وعوف ومعوذ ابنا الحارث بن رفاعة بن سواد وهما ابنا عفراء وهي أمهما ، كان الناس يقولون لمن قتل في سبيل الله مات فلان وذهب عنه نعيم الدنيا ولذاتها فأنزل الله تعالى هذا الآية ، وقيل : إن الكفار والمنافقين قالوا : إن الناس يقتلون أنفسهم ظلماً لمرضاة محمد من غير فائدة فنزلت هذا الآية.
أ هـ {تفسير الخازن حـ 1صـ 95}.
وقال الثعالبى : (2/306)
سببها أن الناس قالوا فيمن قتل ببدر وأُحُدٍ من المؤمنين : مَاتَ فلانٌ ، ماتَ فلانٌ ، فكره اللَّه سبحانه ؛ أن تُحَطَّ منزلةُ الشهداءِ إِلى منزلة غيرهم ، فنزلَتْ هذه الآية ، وأيضاً : فإِن المؤمنين صَعْبٌ عليهم فراقُ إِخوانهم وقراباتِهِمْ ، فنزلَتِ الآيةُ مسلِّية لهم ، تعظِّم منزلة الشهداءِ ، وتخبر عن حقيقةِ حالِهِمْ ، فصاروا مغبوطين لا محزوناً لهم ؛ ويظهر ذلك من حديث أُمِّ حارثَةَ في السِّيَرِ.
: خرَّجه البخاريُّ في "صحيحه" عن أنسٍ ، قال : " أُصِيبَ حارثةُ يوم بَدْر أصابه غَرْبُ سَهْمٍ ، وهو غلامٌ ، فجاءَتْ أُمُّهُ إِلى النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقالَتْ : يا رسُولَ اللَّهِ ، قد عَرَفْتَ مَنْزِلَةَ حَارِثَةَ مِنِّي ، فَإِنْ يَكُ فِي الجَنَّةِ أَصْبِرْ ، وَأَحْتَسِب ، وَإِن تَكُن الأخرى ، ترى مَا أَصْنَعُ ، فَقَالَ : وَيْحَكِ ، أَوَ هُبِلْتِ ، أَو جَنَّةٌ وَاحِدَةٌ هَيَ ؛ إنَّهَا جِنَانٌ كَثِيرَةٌ ، وَإِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأعلى... " الحديثَ. انتهى.. أ هـ
{الجواهر الحسان حـ 1صـ 121}.
قوله تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}
قال الحرالي : فكأنه تعالى ينفي عن المجاهد مثال المكروه من كل وجه حتى في أن يقال عنه إنه ميت ، فحماه من القول الذي هو عندهم من أشد غرض أنفسهم لاعتلاق أنفسهم بجميل الذكر ، ثم قال وأبهم أمرهم في هذه السورة ونفى عنهم القول ، لأن هذه سورة الكتاب المدعو به الخلق وصرح بتفضيله في آل عمران لأنها سورة قيام الله الذي به تجلى الحق فأظهر غيب أمره في سورة إظهار أمره وأخفاه في سورة ظاهر دعوتهم - انتهى.(2/307)
ولما كان الحس قاصراً عما أخبر به سبحانه وتعالى قال منبهاً على ذلك {ولكن لا تشعرون} أنهم أحياء كما ترون النيام هموداً لا يتحركون ولا شعور لكم بمن فيهم ينظر ، أحلاماً من غيره ، فلا فخر أعظم من ذلك في الدنيا ولا عيش أرغد منه في الآخرة ، وأما المقتول من أعدائكم فليس له في الدنيا إلا الخزي والفضيحة بالقهر والذل والهوان والعذاب الذي لا آخر له في الآخرة. قال الحرالي : قال ذلك نفياً بكلمة لا ومثال الدوام ففيه إعلام بأن الذين آمنوا ليس في رتبتهم الشعور به أصلاً إلا أن يرقيهم الله بنماء سن القلوب وصفاء الأنفس إلى ما فوق ذلك من سن المؤمنين إلى سن المحسنين الذين يشهدون من الغيب ما لا يشهده من في رتبة الذين آمنوا - انتهى. وفي هذا إشارة إلى أن كون الله معهم لا يمنع أن يستشهد منهم شهداء ، بل ذلك من ثمرات كون الله معهم حيث يظفر من استشهد منهم بسعادة الأخرى ومن بقي بسعادة الدارين ، وتلخيص ذلك أن يقال إنه لما كان حاصل ما تقدم في هذه السورة أن أهل الأرض كلهم قريبهم وبعيدهم وثنيهم وكتابيهم مطبقون على عداوة أهل هذا الدين وكان كثيراً ما يأمرهم بالصبر على أذاهم اشتد تشوّف النفوس إلى أنه هل بعد هذا الكف من فعل ، فأشار إلى أنه سيأمر بعد الصبر على أذى اللسان بالصبر على جلاد السيف والسنان أمراً عاماً فقال عاطفاً هذا النهي على الأمر بالصبر ، أي اصبروا الآن على هذا الأذى ثم اصبروا إذا أمرتكم بالجهاد على وقع السيوف واقتحام الحتوف وفقد من يقتل منكم ولا تصفوهم بالموت ، ولعله فاجأهم بما تضمنته هذه الآية توطيناً لهم على القتل في سبيله وكان استشرافهم إلى الحرب قد كثر وبشرهم بأن القتيل فيه حي وإن رئي ميتاً تسلية لهم عن هذا الحادث العظيم والخطب الجسيم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1صـ 279}.(2/308)
سؤال : لم عطف النهى فى قوله تعالى {وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ} على الأمر فى الآية السابقة {اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ} ؟
الجواب : عطف النهي على الأمر قبله لمناسبة التعرض للغزو مما يتوقع معه القتل في سبيل الله ، فلما أمروا بالصبر عرفوا أن الموت في سبيل الله أقوى ما يصبرون عليه ، ولكن نبه مع ذلك على أن هذا الصبر ينقلب شكراً عندما يَرى الشهيد كرامته بعد الشهادة ، وعندما يوقن ذووه بمصيره من الحياة الأبدية ، فقوله : {ولا تقولوا} نهي عن القول الناشىء عن اعتقاد. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2صـ 53}.
وقال فى روح البيان :
قال عصام الدين قدم الترك على الفعل لأن التخلية قبل التحلية ولهذا قدم النفى فى كلمة التوحيد. أ هـ {روح البيان حـ 1صـ 321}.
فوائد
الفرق بين الشهيدِ وغيرهِ إِنما هو الرِّزْقُ ، وذلك أنَّ اللَّه تعالى فضَّلهم بدوام حالِهِمُ التي كانَتْ في الدنيا فرزَقهُم.(2/309)
: وللشهيدِ أحوالٌ شريفةٌ منها ما خرَّجه الترمذيُّ وابن ماجة عن النَّبِيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قَالَ : " لِلشَّهِيدِ عِنْد اللَّهِ سِتُّ خِصَالٍ ؛ يُغْفَرُ لَهُ فِي أَوَّلِ دَفْعَةٍ ، ويرى مَقْعَدَهُ مِنَ الجَنَّةِ ، وَيُجَارُ مِنْ عَذَابِ القَبْرِ ، وَيَأْمَنُ مِنَ الفَزَعِ الأَكْبَرِ ، وَيُوضَعُ على رَأْسِهِ تَاجُ الوَقَارِ ، اليَاقُوتَةُ مِنْهُ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا ، ومَا فِيهَا ، وَيُزَوَّجُ ثِنْتَيْنِ وَسَبْعِينَ زَوْجَةً مِنَ الحُورِ الْعِينِ ، وَيَشْفَعُ فِي سَبْعِينَ مِنْ أقْرِبَائِهِ " قال الترمذيُّ : هذا حديثٌ حَسَنٌ غريبٌ ، زاد ابن ماجَة : " ويحلى حُلَّةَ الإِيمَانِ " ، قال القرطبيُّ في "تذكرته" : هكذا وقع في نسخ الترمذيِّ وابن ماجة : "ستَّ خِصَالٍ" وهي في متن الحديث سَبْعٌ ، وعلى ما في ابن ماجة : "ويحلى حُلَّةَ الإِيمَانِ" تكون ثمانياً ، وكذا ذكره أبو بكر أحمد بن سَلْمَان النَّجَّاد بسنده عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " لِلشَّهِيدِ عِنْدَ اللَّهِ ثَمَانِ خِصَالٍ " انتهى. وخرَّج الترمذيُّ ، والنسائِيُّ عنْه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : " الشَّهِيدُ لاَ يَجِدُ أَلَمَ القَتْلِ إلاَّ كَمَا يَجِدُ أَحَدُكُمْ أَلَمَ القَرْصَةِ " انتهى.
: روي عن النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أنَّ أرْوَاحَ الشُّهَدَاءِ فِي حَوَاصِلِ طَيْرٍ خُضْرٍ تُعَلَّقُ مِنْ ثَمَرِ الجَنَّةِ " ، وروي : " أَنَّهُمْ فِي قُبَّةٍ خَضْرَاءَ " ، ورويَ : " أنهم في قَنَادِيلَ مِنْ ذَهَبٍ " ، إِلى كثير من هذا ، ولا محالة أنها أحوالٌ لِطَوَائِفَ ، أو للجميع في أوقات متغايرة.
: وكذا ذكر شَبِيبُ بن إِبراهيم في كتاب "الإِفصاح" أنَّ المنعَّمين على جهاتٍ مختلفةٍ ؛ بحسب مقاماتهم وتفاوتهم في أعمالهم ، قال صاحب "التذكرة" : وهذا قول حَسَنٌ ، وبه يجمع بين الأخبار حتى لا تتدافع انتهى.
(2/310)
قال : وجمهور العلماء على أنهم في الجَنَّة ؛ ويؤيِّده قولُ النبيِّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ لأمِّ حَارِثَةَ : "إِنَّهُ فِي الفِرْدَوْسِ الأعلى".
وقال مجاهد : هم خارجُ الجَنَّةِ ويعلَّقون من شجرِهَا ، وفي "مختصر الطبريِّ" ، قال : ونهى عزَّ وجَلَّ أنْ يقال لِمَنْ يقتلُ في سبيلِ اللَّهِ أمْوَاتٌ ، وأعْلَمَ سبحانه أنهم أحياءٌ ، ولكنْ لا شعورَ لَنَا بذلك ؛ إذ لا نُشَاهِدُ باطنَ أمرهم ، وخُصُّوا مِنْ بين سائر المُؤمنين ، بأنهم في البَرْزَخِ يرزَقُون من مطاعِم الجَنَّة ما يُرْزَقُ المؤمنون من أهْل الجنة على أنه قد ورد في الحديثِ : " إِنَّمَا نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ يُعَلَّقُ فِي شَجَرِ الجَنَّةِ " ، ومعنى : "يُعَلَّق" : يأكل ؛ ومنه قوله : ما ذقْتُ عَلاقاً ، أي : مأكلاً ، فقد عم المؤمنين ؛ بأنهم يرزقُونَ في البرزخ من رزق الجنة ، ولكن لا يمتنعُ أن يخصَّ الشهداء من ذلك بقَدْر لا يناله غيرهم ، واللَّه أعلم. انتهى.
وروى النسائيُّ أن رجلاً قال : " يَا رَسُولَ اللَّهِ ، مَا بَالُ المُؤْمِنِينَ يُفْتَنُون فِي قُبُورِهِمُ إِلاَّ الشَّهِيدَ ؟ قَالَ : كفى بِبَارِقَةِ السُّيُوفِ على رَأْسِهِ فِتْنَةً " انتهى.
، وحديثُ : " إِنَّمَا نَسَمَةُ المُؤْمِنِ طَائِرٌ " خرَّجه مالك رحمه اللَّه. قال الدَّاووديُّ : وحديث مالكٍ ، هذا أصحُّ ما جاء في الأرواح ، والذي روي أنها تجعل في حواصِلِ طيرٍ لا يصحُّ في النقل. انتهى.
قال أبو عُمَرَ بْنُ عبْدِ البَرِّ في "التمهيد" : والأشبه قولُ من قال : كَطَيْرٍ أو كصُوَرِ طيرٍ ؛ لموافقته لحديثِ "الموطَّإ" ، هذا وأسند أبو عمر هذه الأحاديثَ ، ولم يذكر مطعناً في إسنادها. انتهى. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1صـ 122}.
قوله تعالى {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ}(2/311)
{بل} للإضراب الإبطالي إبطالاً لمضمون المنهي عن قوله ، والتقدير بل هم أحياء ، وليس المعنى بل قُولوا هم أحياء لأن المراد إخبار المخاطبين هذا الخبرَ العظيمَ ، فقوله : "أحْيَآء" هو خبر مبتدأ محذوف وهو كلام مستأنف بعد {بل} الإضرابية.
وإنما قال : {ولكن لا تشعرون} للإشارة إلى أنها حياةٌ غير جسمية ولا مادِّيَّة بل حياة روحية ، لكنها زائدة على مطلق حياة الأرواح ، فإن للأرواح كلها حياة وهي عدم الاضمحلال وقبول التجسد في الحَشْر مع إحساس ما بكونها آيلة إلى نعيم أو جحيم ، وأما حياة الذين قتلوا في سبيل الله فهي حياة مشتملة على إدراكات التنعم بلذات الجنة والعوالم العلوية والانكشافات الكاملة ، ولذلك ورد في الحديث " إن أرواح الشهداء تجعل في حواصل طيور خضر ترعى من ثمر الجنة وتشرب من مائها ". والحكمة في ذلك أن اتصال اللذات بالأرواح متوقف على توسط الحواس الجسمانية ، فلما انفصلت الروح عن الجسد عُوِّضت جسداً مناسباً للجنة ليكون وسيلة لنعميها. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ 2صـ 53 ـ 54}.
سؤال : ما ماالمراد من قوله {بل إحياء} ؟
قال الماوردى :
في الآية تأويلان :
أحدهما : أنهم ليسوا أمواتاً وإن كانت أجسامهم أجسام الموتى بل هم عند الله أحياء النفوس منعّمو الأجسام.
والثاني : أنهم ليسوا بالضلال أمواتاً بل هم بالطاعة والهدى أحياء ، كما قال تعالى : {أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ في النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ في الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا} [الأنعام : 122] فجعل الضالَّ ميتاً ، والمُهْتَدي حياً.
ويحتمل تأويلاً ثالثاً : أنهم ليسوا أمواتاً بانقطاع الذكر عند الله وثبوت الأجر. أ هـ {النكت والعيون حـ 1صـ 109}.
وقد رجح القول الأول الإمام فخر الدين الرازى فقال :
اعلم أن أكثر العلماء على ترجيح القول الأول ، والذي يدل عليه وجوه.(2/312)
أحدها : الآيات الدالة على عذاب القبر ، كقوله تعالى : {قَالُواْ رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين} [غافر : 11] والموتتان لا تحصل إلا عند حصول الحياة في القبر ، وقال الله تعالى : {أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً} [نوح : 25] والفاء للتعقيب ، وقال : {النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أَدْخِلُواْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب} [غافر : 46] وإذا ثبت عذاب القبر وجب القول بثواب القبر أيضاً لأن العذاب حق الله تعالى على العبد والثواب حق للعبد على الله تعالى ، فاسقاط العقاب أحسن من إسقاط الثواب فحيثما أسقط العقاب إلى يوم القيامة بل حققه في القبر ، كان ذلك في الثواب أولى.
وثانيها : أن المعنى لو كان على ما قيل في القول الثاني والثالث لم يكن لقوله : {وَلَكِن لاَّ تَشْعُرُونَ} معنى لأن الخطاب للمؤمنين وقد كانوا لا يعلمون أنهم سيحيون يوم القيامة ، وأنهم ماتوا على هدى ونور ، فعلم أن الأمر على ما قلنا من أن الله تعالى أحياهم في قبورهم.
وثالثها : أن قوله : {وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم} [آل عمران : 170] دليل على حصول الحياة في البرزخ قبل البعث.
ورابعها : قوله عليه الصلاة والسلام : " القبر روضة من رياض الجنة أو حفرة من حفر النيران " والأخبار في ثواب القبر وعذابه كالمتواترة ، وكان عليه الصلاة والسلام يقول في آخر صلاته : " وأعوذ بك من عذاب القبر " وخامسها : أنه لو كان المراد من قوله : أنهم أحياء أنهم سيحيون ، فحينئذ لا يبقى لتخصيصهم بهذا فائدة ، أجاب عنه أبو مسلم بأنه تعالى إنما خصهم بالذكر لأن درجتهم في الجنة أرفع ومنزلتهم أعلى وأشرف لقوله تعالى : {وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مّنَ النبيين والصديقين والشهداء والصالحين} [النساء : 69] فأرادهم بالذكر تعظيماً.
واعلم أن هذا الجواب ضعيف وذلك لأن منزلة النبيين والصديقين أعظم مع أن الله تعالى ما خصهم بالذكر.أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 133}
سؤال : فإن قيل : فنحن نراهم موتى ، فما وجه النهي ؟
فالجواب أن المعنى : لا تقولوا : هم أموات لا تصل أرواحهم إلى الجنات ، ولا تنال من تحف الله ما لا يناله الأحياء ، بل هم أحياء ، أرواحهم في حواصل طير خضر تسرح في الجنة ، فهم أحياء من هذه الجهة ، وإن كانوا أمواتاً من جهة خروج الأرواح ، ذكره ابن الأنباري. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 161}(2/313)
كلام نفيس للعلامة ابن القيم فى هذا الموضع
قال رحمه الله :
إن الله سبحانه جعل الدور ثلاثا
دار الدنيا ودار البرزخ ودار القرار
وجعل لكل دار أحكاما تختص بها وركب هذا الإنسان من بدن ونفس وجعل أحكام دار الدنيا على الأبدان والأرواح تبعا لها ولهذا جعل أحكامه الشرعية مرتبة على ما يظهر من حركات اللسان والجوارح وإن أضمرت النفوس خلافه ، وجعل أحكام البرزخ على الأرواح والأبدان تبعا لها فكما تبعت الأرواح الأبدان في أحكام الدنيا فتألمت بألمها والتذت براحتها وكانت هى التي باشرت أسباب النعيم والعذاب تبعت الأبدان الأرواح في نعيمها وعذابها
والأرواح حينئذ هى التي تباشر العذاب والنعيم فالأبدان هنا ظاهرة والأرواح خفية والأبدان كالقبور لها والأرواح هناك ظاهرة والأبدان خفية في قبورها تجرى أحكام البرزخ على الأرواح فتسرى إلى أبدانها نعيما أو عذابا كما تجرى أحكام الدنيا على الأبدان فتسرى إلى أرواحها نعيما أو عذابا فأحط بهذا الموضع علما واعرفه كما ينبغى يزل عنك كل إشكال يورد عليك من داخل وخارج
وقد أرانا الله سبحانه بلط فهو رحمته وهدايته من ذلك أنموذجا في الدنيا من حال النائم فإن ما ينعم به أو يعذب في نومه يجرى على روحه أصلا والبدن تبع له وقد يقوى حتى يؤثر في البدن تأثيرا مشاهدا فيرى النائم في نومه أنه ضرب فيصبح وأثر الضرب في جسمه ويرى أنه قد أكل أو شرب فيستيقظ وهو يجد أثر الطعام والشراب في فيه ويذهب عنه الجوع والظمأ
(2/314)
وأعجب من ذلك أنك ترى النائم يقوم في نومه ويضرب ويبطش ويدافع كأنه يقظان وهو نائم لا شعور له بشىء من ذلك ، وذلك أن الحكم لما جرى على الروح استعانت بالبدن من خارجه ولو دخلت فيه لاستيقظ وأحس فإذا كانت الروح تتألم وتتنعم ويصل ذلك إلى بدنها بطريق الاستتباع فهكذا في البرزخ بل أعظم فإن تجرد الروح هنالك أكمل وأقوى وهى متعلقة ببدنها لم تنقطع عنه كل الانقطاع فإذا كان يوم حشر الأجساد وقيام الناس من قبورهم صار الحكم والنعيم والعذاب على الأرواح والأجساد ظاهرا باديا أصلا
ومتى أعطيت هذا الموضع حقه تبين لك أن ما أخبر به الرسول من عذاب القبر ونعيمه وضيقه وسعته وضمه وكونه حفرة من حفر النار أو روضة من رياض الجنة مطابق للعقل وأنه حق لا مرية فيه وإن من أشكل عليه ذلك فمن سوء فهمه وقلة علمه أتى كما قيل
وكم من عائب قولا صحيحا... وآفته من الفهم السقيم
وأعجب من ذلك أنك تجد النائمين في فراش واحد وهذا روحه في النعيم ويستيقظ وأثر النعيم على بدنه وهذا روحه في العذاب ويستيقظ وأثر العذاب على بدنه وليس عند أحدهما خبر عند الآخر فأمر البرزخ أعجب من ذلك. أ هـ {الروح ـ صـ 63 ـ 64}(2/315)
سؤال : إن قلت : هلا قيل : لمن قتل في سبيل الله بلفظ الماضي ؟
قال ابن عرفة أجيب عنه بوجهين : - الأول : أن ابن عطية قال : سبب نزولها أن الناس قالوا فيمن قتلوا ببدر وأحد مات فلان وفلان فكره الله تعالى أن يحط منزلة الشهداء إلى منزلة غيرهم فنزلت الآية. وغزوة بدر وأحد [هما] أعظم الغزوات وما بعدهما من الغزوات دونهما بلا شك فلو كان الفعل ماضيا لتوهم خصوصية هذه الفضيلة بمن قتل في الغزوتين فقط فأتى به مضارعا ليدل على عمومها فيمن بعدهم وفيهم من باب أحرى.
الثاني : لو قال : " قتل " لكان فيه إيحاش ووصم عليهم لأنهم كانوا (متأسفين) على من قتل منهم فيتذكرونهم بهذا ويزداد حزنهم عليهم ، ولا يقال : قتل فلان غالبا إلا فيمن يفتجع عليه أو يفرح لموته فيقال : لِمَنْ يُقْتَلُ ، ليعم على من يأتي ومن مضى ويسلم من هذا الإيحاش. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 195}(2/316)
سؤال : فإن قلت : ليس سائر المطيعين من المسلمين لله يصل إليهم من نعيم الجنة في قبورهم فلم خصص الشهداء بالذكر ؟ .
قلت : إنما خصهم لأن الشهداء فضلوا على غيرهم بمزيد النعيم وهو أنهم يرزقون من مطاعم الجنة ومآكلها وغيرهم ينعمون بما دون ذلك. وجواب آخر أنه رد لقول من قال : إن من قتل في سبيل الله قد مات وذهب عنه نعيم الدنيا ولذاتها فأخبر الله تعالى بقوله : {بل أحياء} بأنهم في نعيم دائم. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 95}
فصل
قال الآلوسى :
اختلفوا في المراد بالجسد ، فقيل : هو هذا الجسد الذي هدمت بنيته بالقتل ولا يعجز الله تعالى أن يحل به حياة تكون سبب الحس والإدراك وإن كنا نراه رمة مطروحة على الأرض لا يتصرف ولا يرى فيه شيء من علامات الأحياء ، فقد جاء في الحديث : (2/317)
" إن المؤمن يفسح له مد بصره ويقال له نم نومة العروس " مع أنا لا نشاهد ذلك إذ البرزخ برزخ آخر بمعزل عن أذهاننا وإدراك قوانا. وقيل : جسد آخر على صورة الطير تتعلق الروح فيه ، واستدل بما أخرجه عبد الرزاق عن عبد الله بن كعب بن مالك قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إن أرواح الشهداء في صور طير خضر معلقة في قناديل الجنة حتى يرجعها الله تعالى يوم القيامة " ولا يعارض هذا ما أخرجه مالك ، وأحمد ، والترمذي وصححه ، والنسائي ، وابن ماجه عن كعب بن مالك : " أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : إن أرواح الشهداء في أجواف طير خضر تعلق من ثمر الجنة أو شجر الجنة " ولا ما أخرجه مسلم في "صحيحه" عن ابن مسعود مرفوعاً " إن أرواح الشهداء عند الله في حواصل طيور خضر تسرح في أنهار الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى قناديل تحت العرش " لأن كونها في الأجواف أو في الحواصل يجامع كونها في تلك الصور إذ الرائي لا يرى سواها ، وقيل : جسد آخر على صور أبدانهم في الدنيا بحيث لو رأى الرائي أحدهم لقال : رأيت فلاناً وإلى ذلك ذهب بعض الإمامية واستدلوا بما أخرجه أبو جعفر مسنداً إلى يونس بن ظبيان قال : كنت عند أبي عبد الله جالساً فقال : ما تقول الناس في أرواح المؤمنين ؟ قلت : يقولون : في حواصل طير خضر في قناديل تحت العرش ، فقال أبو عبد الله : سبحان اللها المؤمن أكرم على الله تعالى من أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر يؤنس المؤمن إذا قبضه الله تعالى صير روحه في قالب كقالبه في الدنيا فيأكلون ويشربون ، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا. ووجه الاستدلال إذا كان المراد بالمؤمنين الشهداء ظاهر ، وأما إذا كان المراد بهم سائر من آمن فيعلم منه حال الشهداء وأن أرواحهم ليست في الحواصل بطريق الأولى ، وعندي أن الحياة في البرزخ ثابتة لكل من يموت من شهيد وغيره ، وأن الأرواح وإن كانت جواهر قائمة بأنفسها(2/318)
مغايرة لما يحس به من البدن لكن لا مانع من تعلقها ببدن برزخي مغاير لهذا البدن الكثيف ، وليس ذلك من التناسخ الذي ذهب إليه أهل الضلال. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 21}. (1 )
___________________
( 1) الأولى فى هذه الأمور وما شاكلها من سائر الأمور الغيبية تفويض العلم بحقيقتها وكيفيتها إلى صاحب الغيب فإن أذن لنا بوحى من كتاب أو سنة فعلى الرأس والعينين ، وإلا وجب التوقف والسكوت من باب مراعاة الأدب مع ملك الملوك والله أعلم وأحكم.(2/319)
سؤال :
قوله تعالى : {وَلا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ} الآية هذه الآية تدل بظاهرها على أن الشهداء أحياء غير أموات, وقد قال في آية أخرى لمن هو أفضل من كل الشهداء صلى الله عليه وسلم : {إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ}.
(2/320)
والجواب عن هذا أن الشهداء يموتون الموتة الدنيوية فتورث أموالهم وتنكح نساءهم بإجماع المسلمين, وهذه الموتة التي أخبر الله نبيه أنه يموتها صلى الله عليه وسلم وقد ثبت في الصحيح عن صاحبه الصديق رضي الله عنه أنه قال لما توفي صلى الله عليه وسلم : "بأبي أنت وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين, أما الموتة التي كتب الله عليك فقد متها" وقال : "من كان يعبد محمدا فإن محمدا قد مات". واستدل على ذلك بالقرآن ورجع إليه جميع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم التي ثبت في الحديث أنه يرد بها السلام على من سلم عليه فكلتاهما حياة برزخية ليست معقولة لأهل الدنيا, أما في الشهداء فقد نص تعالى على ذلك بقوله : {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ}, وقد فسرها النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم : "تجعل أرواحهم في حواصل طيور خضر ترتع في الجنة وتأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش فهم يتنعمون بذلك", وأما ما ثبت عنه صلى الله عليه وسلم من أنه لا يسلم عليه أحد إلا رد الله عليه روحه حتى يرد عليه السلام وأن الله وَكَّل ملائكته يبلغونه سلام أمته فإن تلك الحياة أيضا لا يعقل حقيقتها أهل الدنيا لأنها ثابتة له صلى الله عليه وسلم مع أن روحه الكريمة في أعلى عليين مع الرفيق الأعلى فوق أرواح الشهداء فتعلق هذه الروح الطاهرة التي هي في أعلى عليين بهذا البدن الشريف الذي لا تأكله الأرض يعلم الله حقيقته ولا يعلمها الخلق كما قال في جنس ذلك {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} ولو كانت كالحياة التي يعرفها آهل الدنيا لما قال الصديق رضي الله عنه أنه صلى الله عليه وسلم مات ولما جاز دفنه ولا نصب خليفة غيره ولا قتل عثمان ولا اختلف أصحابه ولا جرى على عائشة ما جرى ولسألوه عن الأحكام التي اختلفوا فيها بعده كالعول وميراث الجد والاخوة ونحو ذلك.
(2/321)
وإذا صرح القرآن بأن الشهداء أحياء في قوله تعالى بل أحياء, وصرح بأن هذه الحياة لا يعرف حقيقتها أهل الدنيا بقوله : {وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ}, وكان النبي صلى الله عليه وسلم أثبت حياته في القبر بحيث يسمع السلام ويرده وأصحابه الذين دفنوه صلى الله عليه وسلم لا تشعر حواسهم بتلك الحياة عرفنا أنها حياة لا يعقلها أهل الدنيا أيضا, ومما يقرب هذا للذهن حياة النائم فإنه يخالف الحي في جميع التصرفات مع أنه يدرك الرؤيا ويعقل المعاني والله تعالى أعلم.
قال العلامة ابن القيم رحمه الله تعالى في كتاب الروح ما نصه : "ومعلوم بالضرورة أن جسده صلى الله عليه وسلم في الأرض طرى مطرا وقد سأله الصحابة : كيف تعرض صلاتنا عليك وقد أرمت ؟ فقال : "إن الله حرم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء" ولو لم يكن جسده في ضريحه لما أجاب بهذا الجواب, وقد صح عنه "إن الله وكل بقبره ملائكة يبلغونه عن أمته السلام", وصح عنه أنه خرج بين أبي بكر وعمر وقال : "هكذا نبعث" هذا مع القطع بأن روحه الكريمة في الرفيق الأعلى في أعلى عليين مع أرواح الأنبياء, وقد صح عنه أنه رأى موسى يصلي في قبره ليلة الإسراء ورآه في السماء السادسة أو السابعة, فالروح كانت هناك ولها اتصال بالبدن في القبر وإشراف عليه وتعلق به بحيث يصلي في قبره ويرد سلام من يسلم عليه وهي في الرفيق الأعلى ولا تنافي بين الأمرين, فإن شأن الأرواح غير شأن الأبدان". انتهى محل الغرض من كلام ابن القيم بلفظه, وهو يدل على أن الحياة المذكورة غير معلومة الحقيقة لأهل الدنيا. قال تعالى : {بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لا تَشْعُرُونَ} والعلم عند الله.أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 29 ـ 30}(2/322)
قوله تعالى {وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155)}
مناسبة الآية لما قبلها
ولما كان من شأن الطين الذي منه البشر وما تولد منه أن لا يخلص عن الشوائب إلا بعد معاناة شديدة ، ألا ترى أن الذهب أصفاه وهو لا يخلو عن الغش ولا يعرى عما خالطه من الدنس إلا بالامتحان بشديد النيران! قال تعالى معلماً لهم بالتربية بما تحصل به التصفية بما تؤدي إليه مناصبة الكفار ومقارعة أهل دار البوار : {ولنبلونكم} عطفاً على ما أرشد إليه التقدير من نحو قوله : فلنأمركم بمقارعة كل من أمرناكم من قبل بمجاملته وليتمالأن عليكم أهل الأرض ولنبلونكم أي يصيبكم بأشياء إصابة تشبه فعل المختبر لأحوالكم ليظهر الصابر من الجزع. قال الحرالي : فالصبر الأول أي في {إن الله مع الصابرين} عن الكسل وعلى العمل ، والصبر الثاني أي في {وبشر الصابرين} على مصائب الدنيا ، فلذلك انتظم بهذه الآيات آية {ولنبلونكم} عطفاً وتجاوزاً لأمور يؤخذ بها من لم يجاهد في سبيل الله ضعفاً عن صبر النفس عن كره القتال {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القتال وهو كره لكم} [البقرة : 216] فمن لم يحمل الصبر الأول على الجهاد أخذ بأمور هي بلايا في باطنه تجاوزها الخطاب فانعطف عليها {ولنبلونكم بشيء من الخوف} وهو حذر النفس من أمور ظاهرة تضرها {والجوع} وهو غلبة الحاجة إلى الغذاء على النفس حتى تترامى لأجله فيما لا تتأمل عاقبته ، فإذا كان على غير غلبة مع حاجة فهو الغرث ، فلذلك في الجوع بلاء مّا والغرث عادة جارية. وقال أيضاً : الجوع فراغ الجسم عما به قوامه كفراغ النفس عن الأمنة التي لها قوام مّا ، فأفقدها القوامين في ذات نفسها بالخوف وفي بدنها بالجوع لما لم تصبر على كره الجهاد ، وقد كان ذلك لأهل الصبر عليه أهون من الصبر على الخوف والجوع ، وأيما كان أول نائلهم من هذا الابتلاء الخوف حيث خافوا الأعداء على أنفسهم فجاءهم إلى مواطنهم ، من لم يمش إلى طبيبه ليستريح جاء الطبيب لهلاكه ، وشتان بين خوف الغازي للعدو في عقره وبين خوف المحصر في(2/323)
أهله ، وكذلك شتان بين أرزاق المجاهد وتزويده وخير الزاد التقوى في سبيله لجهاده وبين جوع المتخلف في عيلته - انتهى. ونكر الشيء وما بعده حثاً على الشكر بالإشارة إلى أن كل ما أصاب منها ففي قدرة الله ما هو أعظم منه ، فعدم الإصابة به نعمة.
ولما كان الجوع قد يكون عن رياضة بين أنه عن حاجة بقوله : {ونقص} وهو التقاصر عن الكفاف {من الأموال} أي النعم التي كانت منها أغذيتهم. قال الحرالي : لأن ذلك عرف استعمالهم في لفظ المال. وقال أيضاً : والمال ما هو للمتمول بمنزلة الجزء منه عنده لماله لذلك منه ، فضاعف تعالى مثال البلاء في ذوات أنفسهم وأبدانهم ليقطع عنهم راحة تطلع الكفاية من الأموال في مقابلة ما ينال المجاهد من الغناء والرزق ، فالمجاهد آمن في جيشه متزود في رحله غانم من عدوه ، والمتخلف خائف في أهله جائع في عيلته ناقص المال من ذات يده - انتهى.
ولما كان ذلك قد يكون عن إفراط في الكثرة قال : {والأنفس} قال الحرالي : فيه إشعار بأن من جاهد كثر عدده ونما ولده ، وأن من تكاسل قل عدده ودرج خلفه ، وفي ضمنه إشعار بمنال المتكاسل حواصد من جوارف الآجال من الوباء والطاعون وغيره - انتهى. وقال : {والثمرات} التي هي نفس الأشجار التي بها قوام أنفس الأبدان تخصيصاً لها بالذكر ، لأنها أعظم أموال الأنصار الذين هم من أخص الناس بهذا الذكر لا سيما في وقت نزول هذه الآيات وهو أول زمان الهجرة.أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 280 ـ 281}
سؤال : فإن قيل إنه تعالى قال : {واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة : 152] والشكر يوجب المزيد على ما قال : {لَئِن شَكَرْتُمْ لازِيدَنَّكُمْ} فكيف أردفه بقوله : {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف} ؟ .(2/324)
والجواب من وجهين : الأول : أنه تعالى أخبر أن إكمال الشرائع إتمام النعمة ، فكان ذلك موجباً للشكر ، ثم أخبر أن القيام بتلك الشرائع لا يمكن إلا بتحمل المحن ، فلا جرم أمر فيها بالصبر.
الثاني : أنه تعالى أنعم أولاً فأمر بالشكر ، ثم ابتلى وأمر بالصبر ، لينال الرجل درجة الشاكرين والصابرين معاً ، فيكمل إيمانه على ما قال عليه الصلاة والسلام : " الإيمان نصفان : نصف صبر ونصف شكر " أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4صـ 136}
سؤال : ما الحكمة في تقديم تعريف هذا الابتلاء ؟
وأما الحكمة في تقديم تعريف هذا الابتلاء ففيها وجوه.
أحدها : ليوطنوا أنفسهم على الصبر عليها إذا وردت ، فيكون ذلك أبعد لهم عن الجزع ، وأسهل عليهم بعد الورود.
وثانيها : أنهم إذا علموا أنه ستصل إليهم تلك المحن ، اشتد خوفهم ، فيصير ذلك الخوف تعجيلاً للابتلاء ، فيستحقون به مزيد الثواب.
وثالثها : أن الكفار إذا شاهدوا محمداً وأصحابه مقيمين على دينهم مستقرين عليه مع ما كانوا عليه من نهاية الضر والمحنة والجوع ، يعلمون أن القوم إنما اختاروا هذا الدين لقطعهم بصحته ، فيدعوهم ذلك إلى مزيد التأمل في دلائله ، ومن المعلوم الظاهر أن التبع إذا عرفوا أن المتبوع في أعظم المحن بسبب المذهب الذي ينصره ، ثم رأوه مع ذلك مصراً على ذلك المذهب كان ذلك أدعى لهم إلى اتباعه مما إذا رأوه مرفه الحال لا كلفة عليه في ذلك المذهب.
ورابعها : أنه تعالى أخبر بوقوع ذلك الابتلاء قبل وقوعه ، فوجد مخبر ذلك الخبر على ما أخبر عنه فكان ذلك إخباراً عن الغيب فكان معجزاً.
وخامسها : أن من المنافقين من أظهر متابعة الرسول طمعاً منه في المال وسعة الرزق فإذا اختبره تعالى بنزول هذه المحن فعند ذلك يتميز المنافق عن الموافق لأن المنافق إذا سمع ذلك نفر منه وترك دينه فكان في هذا الاختبار هذه الفائدة.
وسادسها : أن إخلاص الإنسان حالة البلاء ورجوعه إلى باب الله تعالى أكثر من إخلاصه حال إقبال الدنيا عليه ، فكانت الحكمة في هذا الابتلاء ذلك.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4صـ 136}(2/325)
فروق لغوية دقيقة
الفرق بين البلاء والنقمة
أن البلاء يكون ضررا ويكون نفعا ، وإذا أردت النفع قلت أبليته وفي القرآن (وليبلى المؤمنين منه بلاء حسنا) ومن الضر بلوته وأصله أن تختبره بالمكروه وتستخرج ما عنده من الصبر ويكون ذلك ابتداء والنقمة لا تكون إلا جزاء وعقوبة وأصلها شدة الإنكار تقول نقمت عليه الأمر إذا أنكرته عليه وقد تسمى النقمة بلاء ، والبلاء لا يسمى نقمة إذا كان ابتداء والبلاء أيضا اسم للنعمة وفي كلام الأحنف : البلاء ثم الثناء أي النعمة ثم الشكر. أ هـ {الفروق فى اللغة صـ 206}(2/326)
فائدة فى تقديم الخوف على الجوع ونقص الأموال والأنفس والثمرات
قال ابن عرفة :
هذا ترق لأن الجوع أشد من الخوف.
فإن قلت : إنه أيضا أشد من النقص من الأموال.
قلت : الجواب أن النقص من الأموال أكثر وجودا فى النّاس من الجوع فهو أشد مفسدة والنقص من الأنفس بالمرض أو بالموت أشد من الجميع. أ هـ
{تفسير ابن عرفة صـ 196}
سؤال : من المخاطب فى الآية ؟
الجواب : وفيمن أُريد في هذه الآية أربعة أقوال. أحدها : أنهم أصحاب النبي خاصة ، قاله عطاء. والثاني : أنهم أهل مكة. والثالث : أن هذا يكون في آخر الزمان. قال كعب : يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلا تمرة. والرابع : أن الآية على عمومها (1). أ هـ {زاد المسير حـ 1صـ 162}
____________________
(1) هذا القول الأخير أولى بالقبول فالأصل حمل اللفظ على العموم ما لم يأت مخصص. والله أعلم بمراد كتابه.(2/327)
فوائد
اعلم أن كل ما يلاقيك من مكروه ومحبوب ، فينقسم إلى موجود في الحال وإلى ما كان موجوداً في الماضي وإلى ما سيوجد في المستقبل ، فإذا خطر ببالك موجود فيما مضى سمي ذكراً وتذكراً وإن كان موجوداً في الحال : يسمى ذوقاً ووجداً وإنما سمي وجداً لأنها حالة تجدها من نفسك وإن كان قد خطر ببالك وجود شيء في الاستقبال وغلب ذلك على قلبك ، سمي انتظاراً وتوقعاً ، فإن كان المنتظر مكروهاً حصل منه ألم في القلب يسمى خوفاً وإشفاقا ، وإن كان محبوباً سمي ذلك ارتياحاً ، والارتياح رجاء ، فالخوف هو تألم القلب لانتظار ما هو مكروه عنده ، والرجاء هو ارتياح القلب لانتظار ما هو محبوب عنده ، وأما الجوع فالمراد منه القحط وتعذر تحصيل القوت : قال القفال رحمه الله : أما الخوف الشديد فقد حصل لهم عند مكاشفتهم العرب بسبب الدين ، فكانوا لا يأمنون قصدهم إياهم واجتماعهم عليهم ، وقد كان من الخوف في وقعة الأحزاب ما كان ، قال الله تعالى : {هُنَالِكَ ابتلى المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً} [الأحزاب : 11] وأما الجوع فقد أصابهم في أول مهاجرة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى المدينة لقلة أموالهم ، حتى أنه ـ عليه السلام ـ كان يشد الحجر على بطنه ، وروى أبو الهيثم بن التيهان أنه ـ عليه السلام ـ لما خرج التقى مع أبي بكر قال : ما أخرجك ؟ قال : الجوع.(2/328)
قال : أخرجني ما أخرجك : وأما النقص في الأموال والأنفس فقد يحصل ذلك عند محاربة العدو بأن ينفق الإنسان ماله في الاستعداد للجهاد وقد يقتل ، فهناك يحصل النقص في المال والنفس وقال الله تعالى : {وجاهدوا بأموالكم وَأَنفُسِكُمْ} [التوبة : 41] وقد يحصل الجوع في سفر الجهاد عند فناء الزاد قال الله تعالى : {ذلك بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِى سَبِيلِ الله} [التوبة : 120] وقد يكون النقص في النفس بموت بعض الإخوان والأقارب على ما هو التأويل في قوله : {ولا تقتلوا أنفسكم} [النساء : 29] وأما نقص الثمرات فقد يكون بالجدب وقد يكون بترك عمارة الضياع للاشتغال بجهاد الأعداء ، وقد يكون ذلك بالإنفاق على من كان يرد على رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الوفود. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4صـ 136}(2/329)
قال الآلوسى :
قال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه : الخوف خوف الله تعالى والجوع صوم رمضان ، والنقص من الأموال الزكوات والصدقات ، ومن الأنفس الأمراض ، ومن الثمرات موت الأولاد ، وإطلاق الثمرة على الولد مجاز مشهور لأن الثمرة كل ما يستفاد ويحصل ، كما يقال : ثمرة العلم العمل ، وأخرج الترمذي من حديث أبي موسى وحسنه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " إذا مات ولد العبد قال الله تعالى للملائكة : أقبضتم ولد عبدي ؟ فيقولون : نعم ، فيقول : أقبضتم ثمرة قلبه ؟ فيقولون : نعم ، فيقول الله تعالى : ماذا قال عبدي ؟ فيقولون : حمدك واسترجع ، فيقول الله تعالى : ابنوا لعبدي بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد " واعترض ما قاله الإمام بعد تسلم أن الآية نزلت قبل فرضية الصوم والزكاة بأن خوف الله تعالى لم تزل قلوب المؤمنين مشحونة به قبل نزول الآية ، وكذا الأمراض وموت الأولاد موجودان قبل ، فلا معنى للوعد بالابتلاء بذلك ، وكذا لا معنى للتعبير عن الزكاة وهي النمو والزيادة بالنقص ، وأجيب بأن كون قلوب المؤمنين مشحونة بالخوف قبل لا ينافي ابتلاءهم في الاستقبال بخوف آخر ، فإن الخوف يتضاعف بنزول الآيات ، وكذا الأمراض ، وموت الأولاد أمور متجددة يصح الابتلاء بها في الآتي من الأزمان ، والتعبير عن الزكاة بالنقص لكونها نقصاً صورة وإن كانت زيادة معنى فعند الابتلاء سماها نقصاً ، وعند الأمر بالأداء سماها زكاة ليسهل أداؤها.أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 23}
سؤال : لماذا قال بشيء ولم يقل بأشياء ؟
الجواب : إنما قال : بشيء ولم يقل بأشياء لئلا يوهم أن أشياء تدل على ضروب من الخوف. وكذا الباقي فلما قال بشيء كان التقدير بشيء من الخوف ، وبشيء من الجوع. وقيل : معناه بشيء قليل من هذه الأشياء. أ هـ
{تفسير الخازن حـ 1صـ 95}
وقال فى روح البيان :
وإنما قلله لأن ما واقاهم منه أكثر بالنسبة إلى ما أصابهم بألف مرة. أ هـ
{روح البيان حـ 1صـ 325}(2/330)
وقال فى التحرير والتنوير :
وجيءَ بكلمة (شيءٍ) تهويناً للخبر المفجع ، وإشارة إلى الفرق بين هذا الابتلاء وبين الجوع والخوف اللذين سلطهما الله على بعض الأمم عقوبة ، كما في قوله : {فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون} [النحل : 112] ولذلك جاء هنا بكلمة (شيءٍ) وجاء هنالك بما يدل على الملابسة والتمكن ، وهو أن استعار لها اللباس الملازم لللاَّبس ، لأن كلمة (شيء) من أسماء الأجناس العالية العامَّة ، فإذا أضيفت إلى اسم جنس أو بينت به علم أن المتكلم ما زاد كلمة (شيء) قبل اسم ذلك الجنس إلاّ لقصد التقليل لأن الاقتصار على اسم الجنس الذي ذكره المتكلم بعدها لو شاء المتكلم لأغنى غَناءَها ، فما ذكر كلمة شيء إلاّ والقصد أن يدل على أن تنكير اسم الجنس ليس للتعظيم ولا للتنويع ، فبقي له الدلالة على التحقير. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2صـ 54}(2/331)
فروق لغوية دقيقة
الفرق بين الخوف والحذر والخشية والفزع
أن الخوف توقع الضرر المشكوك في وقوعه ومن يتيقن الضرر لم يكن خائفا له وكذلك الرجاء لا يكون إلا مع الشك ومن تيقن النفع لم يكن راجيا له والحذر توقي الضرر وسواء كان مظنونا أو متيقنا ، والحذر يدفع الضرر ، والخوف لا يدفعه ولهذا يقال خذ حذرك ولا يقال خذ خوفك
الفرق بين الخوف والخشية
أن الخوف يتعلق بالمكروه وبترك المكروه تقول خفت زيدا كما قال تعالى (يخافون ربهم من فوقهم) وتقول خفت المرض كما قال سبحانه (ويخافون سوء الحساب) والخشية تتعلق بمنزل المكروه ، ولا يسمى الخوف من نفس المكروه خشية ولهذا قال (ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب )
فإن قيل أليس قد قال (إني خشيت أن تقول فرقت بين إسرائيل) قلنا إنه خشي القول المؤدي إلى الفرقة والمؤدي إلى الشيء بمنزلة من يفعله وقال بعض العلماء : يقال خشيت زيدا ولا يقال خشيت ذهاب زيد
فإن قيل ذلك فليس على الأصل ولكن على وضع الخشية مكان الخوف وقد يوضع الشيء مكان الشيء إذا قرب منه
الفرق بين الخشية والشفقة
أن الشفقة ضرب من الرقة وضعف القلب ينال الإنسان ومن ثم يقال للأم إنها تشفق على ولدها أي ترق له وليست هي من الخشية والخوف في شيء ، والشاهد قوله تعالى (الذين هم من خشية ربهم مشفقون) ولو كانت الخشية هي الشفقة لما حسن أن يقول ذلك كما لا يسحن أن يقول : يخشون من خشية ربهم ومن هذا الأصل قولهم : ثوب شفق إذا كان رقيقا وشبهت به البداة ؛ لأنها حمرة ليست بالمحكمة فقولك أشفقت من كذا معناه ضعف قلبي عن احتماله
الفرق بين الخوف والرهبة(2/332)
أن الرهبة طول الخوف واستمراره ومن ثم قيل للراهب راهب لأنه يديم الخوف وأصله من قولهم جمل رهب إذا كان طويل العظام مشبوح الخلق والرهابة العظم الذي على رأس المعدة يرجع إلى هذا وقال علي بن عيسى : الرهبة خوف وقع على شريطة لا مخافة ، والشاهد أن نقيضها الرغبة وهي السلامة من المخاوف مع حصول فائدة ، والخوف مع الشك بوقوع الشرر والرهبة مع العلم به يقع على شريطة كذا وإن لم تكن الشريطة لم تقع.
الفرق بين الخوف والهلع والفزع
أن الفزع مفاجاة الخوف عند هجوم غارة أو صوت هدة وما أشبه ذلك وهو انزعاج القلب بتوقع مكروه عاجل وتقول فزعت منه فتعدية بمن وخفته فتعدية بنفسه فمعنى خفتة أي هو نفسه خوفي ومعنى فزعت منه أي هو ابتداء فزعي بنفسه فمعنى خفته أي هو نفسه خوفي ومعنى فزعت منه أي هو ابتداء فزعي لأن [من] لابتداء الغاية وهو يؤكد ما ذكرناه
وأما الهلع فهو أسوأ الجزع ، وقيل الهلوع على ما فسره الله تعالى في قوله تعالى (إن الإنسان خلق هلوعا إذا مسه الشر جزوعا وإذا مسه الخير منوعا) ولا يسمى هلوعا حتى تجمع فيه هذه الخصال
الفرق بين الخوف والهول
أن الهول مخافة الشيء لا يدري على ما يقحم عليه منه كهول الليل وهول البحر وقد هالني الشيء وهو هائل ولا يقال أمر مهول أن الشاعر في بيت من الخفيف
( ومهول من المناهل وحش
ذي عراقيب آجن مدفان )
وتفسير المهول أن فيه هولا والعرب إذا كان الشيء أنشى ء له يخرجونه على فاعل كقولهم دارع وإذا كان الشيء أنشى ء فيه أخرجوه على مفعول مثل محبون فيه ذلك ومديون عليه ذلك وهذا قول الخليل
الفرق بين الخوف والوجل(2/333)
أن الخوف خلاف الطمأنينة ، وجل الرجل يوجل وجلا وإذا قلت ولم يطمئن ويقال أنا من هذا على وجل ومن ذلك على طمأنينة ولا يقال على خوف في هذا الموضع وفي القرآن (الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم) أي إذا ذكرت عظمة الله وقدرته لم تطمئن قلوبهم إلى ما قدموه من الطاعة وظنوا أنهم مقصرون فاضطربوا من ذلك وقلقوا فليس الوجل من الخوف في شيء وخاف متعد ووجل غير متعد وصيغتاهما مختلفتان أيضا وذلك يدل على فرق بينهما في المعنى
الفرق بين الاتقاء والخشية
أن في الاتقاء معنى الاحتراس مما يخاف وليس ذلك في الخشية
الفرق بين الخوف والبأس والبؤس
أن البأس يجري على العدة من السلاح وغيرها ونحوه قوله تعالى (وأنزلنا الحديد فيه بأس شديد) ويستعمل في موضع الخوف مجازا فيقال لا بأس عليك ولا بأس في هذا الفعل أي لا كراهة فيه. أ هـ {الفروق فى اللغة صـ ـ 207 ـ 209}(2/334)
موعظة فى الخوف والرجاء
الإيمان بين الخوف والرجا والمرء بين الشدة والرخا والخوف يفعل فى الخائف مالا يفعل الرجا فى الراجى والخشية تميز تمييزا كافيا وافيا بين الهالك والناجى وأن دين الاسلام ورد بالمهلكات كما جاء بالمنجيات وأن النبي رغب وحذر وبشر وأنذر فهو المخبر الصادق بكلا الأمرين إخبارا لا يخفى على ذى عينين ولكن الشيطان الرجيم غرهم بالغفران والإحسان وكادتهم النفس الأمارة بالسوء ووعدتهم بالرضوان والجنان ودخل عليهم إبليس من باب الرجا حتى أضلهم عن طريق الهدى فقالوا سيغفر لنا كما قال من قبلهم من الأمم ولم يعلموا أن بطش ربهم لشديد الألم وأن الدار الآخرة منقسمة إلى قسمين رياض الجنة وحفر النار والعبد بين مخافتين إما أن يصير إلى النعيم بفضله سبحانه وإما أن يصار به عدلا منه إلى دار البوار وكل من قنع بالرجا ولم يلم بالخوف لم يعلم بعاقبة أمره ولم يعرف نفعه من ضره وإنما المؤمن الناجى من آمن بالله ورسوله واليوم الآخر وعمل صالحا وأقلع نفسه فى هذه الدار عما يوبقه ويهلكه عذبا كان أو مالحا
وفى حديث شداد بن أوس قال قال رسول الله {الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من أتبع نفسه هواها وتمنى على الله} قال فى مجالس الأبرار هذا الحديث من حسان المصابيح انتهى وما أحسن ما قال بعض العارفين
عجبت من شيخى ومن زهده... وذكره النار وأهوالها
يكره أن يشرب فى فضة... ويسرق الفضة إن نالها
ووعد المغفرة فى كتاب الله منوط بالايمان والعمل الصالح جميعا فمن أقر بلسانه أن الآخرة خير وأبقى ثم ترك العمل واشتغل بالمعاصى فهو من المغرورين بالدنيا والمسرورين بها والمحبين لها والكارهين للموت خيفة فوات لذتها لا خيفة فوات لذات الآخرة وحول عقابها فهؤلاء هم الذين غرتهم الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون(2/335)
وأما الذين غرهم بالله الغرور فهم الذين يعملون الأعمال ويشتغلون بالمنكرات ويقولون أن الله رحيم نرجو رحمته وكريم نتمنى مغفرته وهذا التمنى هو الغرور الذى غير الشيطان اسمه وسماه رجاء حتى خدع به كثيرا من الناس وقد شرح الله الرجاء بقوله الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا فى سبيل الله أولئك يرجون رحمة الله
وقيل للحسن قوم يقولون : نرجوا الله ويضيعون العمل فقال هيهات هيهات هلكت أمانيهم يتردون فيها من رجا شيئا طلبه ومن خاف شيئا هرب منه وكما لا ينبت فى الدنيا زرع إلا بالحرث كذلك لا يحصل فى الآخرة أجر وثواب إلا بالإيمان الخالص والعمل الصالح والنية الصادقة وإن الله تعالى كما كان غافر الذنوب وقابل التوبة فهو شديد العقاب أيضا وأنه مع كونه كريما رحيما خلد الكفار فى النار أبد الآباد مع أن كفرهم لا يضره بل سلط العذاب والمحن والأمراض والعلل والفقر والجوع على عباده في الدنيا مع كونه رحيما كريما قادرا على إزالتها
فمن كانت سنته فى عباده كذلك كيف يغتر به العبد ولا يخا فهو قد خوف عباده
ورجاء أكثر الخلق فى هذا الزمان هو سبب فتورهم عن العمل وإقبالهم على الدنيا وإعراضهم عن طاعة الله تعالى وإهمالهم للسعى للآخرة وهم لا يعلمون أنه غرور وليس برجاء وقد غلب الغرور على آخر هذه الأمة كما غلب الطاعة على أولها
قال الغزالى قد كان الناس فى الزمان الأول يواظبون على الطاعات والعبادات ويبالغون فى الاحتراز عن الشبهات والشهوات ومع ذلك كانوا يخافون على أنفسهم ويبكون فى الخلوات وأما الآن فنرى الخلق آمنين فرحين غير خائفين مع إصرارهم على المعاصى وانهماكهم فى الدنيا وإعراضهم عن(2/336)
طاعة الله ويزعمون أنهم واثقون بكرم الله تعالى وفضله وراجون لعفوه ومغفرته ويقولون نعمته واسعة ورحمته شاملة وأى شىء من معاصى العباد فى بحار مغفرته ويسمون تمنيهم واغترارهم رجاء ويقولون أن الرجا محمود فى الدين فكأنهم يزعمون أنهم عرفوا من كرم الله وفضله ما لم يعرفه الأنبياء والسلف الصالح انتهى
أ هـ {يقظة أولى الاعتبار صـ 19 ـ 22}(2/337)
عليك بالخوف من الله
إخواني : من علم عظمة الإله زاد وجله ومن خاف نقم ربه حسن عمله فالخوف يستخرج داء البطالة ويشفيه وهو نعم المؤدب للمؤمن ويكفيه
قال الحسن : صحبت أقواما كانوا لحسناتهم أن ترد عليهم أخوف منكم من سيئاتكم أن تعذبوا بها ووصف يوسف بن عبد الحسن فقال : كان إذا أقبل كأنه أقبل كأنه أقبل من دفن حميمه وإذا جلس كأنه أسير من يضرب عنقه وإذا ذكرت النار فكأنما لم تخلق إلا له
وكان سميط إذا وصف الخائفون يقول : أتاهم من الله وعيد وفدهم فناموا على خوف وأكلوا على تنغص
واعلم أن خوف القوم لو انفرد قتل غير أن نسيم الرجاء يروح أرواحهم وتذكر الإنعام يحيى أشباحهم
ولذلك روى : لو وزن خوف المؤمن ورجاؤه لاعتدلا
فالخوف للنفس سائق والرجاء لها قائد إن ونت على قائدها حثها سائقها وإن أبت على سائقها حركها قائدها مزيح الرجاء يسكن حر الخوف وسيف الخوف يقطع سيف - سوف - وإن تفكر في الإنعام شكر وأصبح للهم قد هجر وإن نظر في الذنوب حذر وبات جوف الليل يعتذر. أ هـ {الياقوتة صـ 91}(2/338)
قوله تعالى {وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ}
قال الماوردى :
{وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ} يحتمل ثلاثة أوجه :
أحدها : وبشر الصابرين على الجهاد بالنصر.
والثاني : وبشر الصابرين على الطاعة بالجزاء.
والثالث : وبشر الصابرين على المصائب بالثواب ، وهو أشبه لقوله من بعد :
{الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُوا : إِنَّا لِلَّهِ وإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} أ هـ
{النكت والعيون حـ 1صـ 210}
فائدة
قال حجة الإسلام الغزالي ـ رحمه الله ـ :
اعلم أن الصبر من خواص الإنسان ولا يتصور ذلك في البهائم والملائكة ، أما في البهائم فلنقصانها ، وأما في الملائكة فلكمالها ، بيانه أن البهائم سلطت عليها الشهوات ، وليس لشهواتها عقل يعارضها ، حتى يسمى ثبات تلك القوة في مقابلة مقتضى الشهوة صبراً ، وأما الملائكة فإنهم جردوا للشوق إلى حضرة الربوبية والابتهاج بدرجة القرب منها ولم يسلط عليهم شهوة صارفة عنها ، حتى تحتاج إلى مصادمة ما يصرفها عن حضرة الجلال بجند آخر ، وأما الإنسان فإنه خلق في ابتداء الصبا ناقصاً مثل البهيمة ، ولم يخلق فيه إلا شهوة الغذاء الذي هو محتاج إليه ، ثم يظهر فيه شهوة اللعب ، ثم شهوة النكاح ، وليس له قوة الصبر ألبتة ، إذ الصبر عبارة عن ثبات جند في مقابلة جند آخر ، قام القتال بينهما لتضاد مطالبهما أما البالغ فإن فيه شهوة تدعوه إلى طلب اللذات العاجلة ، والإعراض عن الدار الآخرة ، وعقلاً يدعوه إلى الإعراض عنها ، وطلب اللذات الروحانية الباقية ، فإذا عرف العقل أن الاشتغال بطلب هذه اللذات العاجلة ، عن الوصول إلى تلك اللذات الباقية ، صارت داعية العقل صادة ومانعة لداعية الشهوة من العمل ، فيسمى ذلك الصد والمنع صبراً ، ثم اعلم أن الصبر ضربان.
أحدهما : بدني ، كتحمل المشاق بالبدن والثبات عليه ، وهو إما بالفعل كتعاطي الأعمال الشاقة أو بالاحتمال كالصبر على الضرب الشديد والألم العظيم.
والثاني : هو الصبر النفساني وهو منع النفس عن مقتضيات الشهوة ومشتهيات الطبع ، ثم هذا الضرب إن كان صبراً عن شهوة البطن والفرج سمي عفة ، وإن كان على احتمال مكروه اختلفت أساميه عند الناس باختلاف المكروه الذي عليه الصبر ، فإن كان في مصيبة اقتصر عليه باسم الصبر ويضاده حالة تسمى الجزع والهلع ، وهو إطلاق داعي الهوى في رفع الصوت وضرب الخد وشق الجيب وغيرها وإن كان في حال الغنى يسمى ضبط النفس ويضاده حالة تسمى : البطر.(2/339)
وإن كان في حرب ومقاتلة يسمى : شجاعة ، ويضاده الجبن ، وإن كان في كظم الغيظ والغضب يسمى : حلماً ، ويضاده النزق ، وإن كان في نائبة من نوائب الزمان مضجرة سمي : سعة الصدر ، ويضاده الضجر والندم وضيق الصدر وإن كان في إخفاء كلام يسمى : كتمان النفس ويسمى صاحبه : كتوماً ، وإن كان عن فضول العيش سمي زهداً ، ويضاده الحرص وإن كان على قدر يسير من المال سمي بالقناعة ويضاده الشره وقد جمع الله تعالى أقسام ذلك وسمي الكل صبراً فقال : {الصابرين فِى البأساء} أي المصيبة.
{والضرآء} أي الفقر : {وَحِينَ البأس} أي المحاربة : {أولئك الذين صَدَقُواْ وأولئك هُمُ المتقون} [البقرة : 177] قال القفال رحمه الله ليس الصبر أن لا يجد الإنسان ألم المكروه ولا أن لا يكره ذلك لأن ذلك غير ممكن ، إنما الصبر هو حمل النفس على ترك إظهار الجزع ، فإذا كظم الحزن وكف النفس عن إبراز آثاره كان صاحبه صابراً ، وإن ظهر دمع عين أو تغير لون ، قال ـ عليه السلام ـ : " الصبر عند الصدمة الأولى " وهو كذلك ، لأن من ظهر منه في الابتداء ما لا يعد معه من الصابرين ثم صبر ، فذلك يسمى سلوا وهو مما لا بد منه قال الحسن : لو كلف الناس إدامة الجزع لم يقدروا عليه والله أعلم. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4صـ 137 ـ 138}
من المعانى الجليلة فى الآية
دلت هذه الآية على أمور.
أحدها : أن هذه المحن لا يجب أن تكون عقوبات لأنه تعالى وعد بها المؤمنين من الرسول وأصحابه.
وثانيها : أن هذه المحن إذا قارنها الصبر أفادت درجة عالية في الدين.
وثالثها : أن كل هذه المحن من الله تعالى خلاف قول الثنوية الذين ينسبون الأمراض وغيرها إلى شيء آخر ، وخلاف قول المنجمين الذين ينسبونها إلى سعادة الكواكب ونحوستها.(2/340)
ورابعها : أنها تدل على أن الغذاء لا يفيد الشبع ، وشرب الماء لا يفيد الري ، بل كل ذلك يحصل بما أجرى الله العادة به عند هذه الأسباب ، لأن قوله : {وَلَنَبْلُوَنَّكُم} صريح في إضافة هذه الأمور إلى الله تعالى وقول من قال : إنه تعالى لما خلق أسبابها صح منه هذاالقول ضعيف لأنه مجاز والعدول إلى المجاز لا يمكن إلا بعد تعذر الحقيقة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4صـ 139}
قوله تعالى {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)}
قال الفخر :
اعلم أن هذه المصائب قد تكون من فعل الله تعالى وقد تكون من فعل العبد ، أما الخوف الذي يكون من الله فمثل الخوف من الغرق والحرق والصاعقة وغيرها ، والذي من فعل العبد ، فهو أن العرب كانوا مجتمعين على عداوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وأما الجوع فلأجل الفقر ، وقد يكون الفقر من الله بأن يتلف أموالهم ، وقد يكون من العبد بأن يغلبوا عليه فيتلفوه ، ونقص الأموال من الله تعالى إنما يكون بالجوائح التي تصيب الأموال والثمرات ، ومن العدو إنما يكون لأن القوم لاشتغالهم لايتفرغون لعمارة الأراضي ، ونقص الأنفس من الله بالإماتة ومن العباد بالقتل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4صـ 140}
سؤال : ما الحكمة فى أنه تعالى عمم المصيبة ولم يضفها إلى نفسه ؟ (2/341)
الجواب : قال القاضي : إنه تعالى لم يضف هذه المصيبة إلى نفسه بل عمم وقال : {الذين إِذَا أصابتهم مُّصِيبَةٌ} فالظاهر أنه يدخل تحتها كل مضرة ينالها من قبل الله تعالى ، وينالها من قبل العباد ، لأن في الوجهين جميعاً عليه تكليفاً ، وإن عدل عنه إلى خلافه كان تاركاً للتمسك بأدائه فالذي يناله من قبله تعالى يجب أن يعتقد فيه أنه حكمة وصواب وعدل وخير وصلاح وأن الواجب عليه الرضا به وترك الجزع وكل ذلك داخل تحت قوله : {إِنَّا لِلَّهِ} لأن في إقرارهم بالعبودية تفويض الأمور إليه والرضا بقضائه فيما يبتليهم به ، لأنه لا يقضي إلا بالحق كما قال تعالى : {والله يَقْضِى بالحق والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَقْضُونَ بِشَىْء} [غافر : 20] أما إذا نزلت به المصيبة من غيره فتكليفه أن يرجع إلى الله تعالى في الانتصاف منه وأن يكظم غيظه وغضبه فلا يتعدى إلى ما لا يحل له من شفعاء غيظه ، ويدخل أيضاً تحت قوله : {إِنَّا لِلَّهِ} لأنه الذي ألزمه سلوك هذه الطريقة حتى لا يجاوز أمره كأنه يقول في الأول ، إنا الله يدبر فينا كيف يشاء ، وفي الثاني يقول : إنا لله ينتصف لنا كيف يشاء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4صـ 140}
قَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ مَسْعُودٍ : " لَأَنْ أَخِرَّ مِنْ السَّمَاءِ أَحَبُّ إلَيَّ مِنْ أَنْ أَقُولَ لِشَيْءٍ قَضَاهُ اللَّهُ تَعَالَى لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ " أ هـ {أحكام القرآن ـ للجصاص حـ 1 صـ 116}(2/342)
قوله تعالى {قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ}
قال أبو بكر الوراق {إِنَّا لِلَّهِ} إقرار منا له بالملك : {وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون} إقرار على أنفسنا بالهلاك ، واعلم أن الرجوع إليه ليس عبارة عن الانتقال إلى مكان أو جهة ، فإن ذلك على الله محال ، بل المراد أنه يصير إلى حيث لا يملك الحكم فيه سواه ، وذلك هو الدار الآخرة ، لأن عند ذلك لا يملك لهم أحد نفعاً ولا ضراً ، وما داموا في الدنيا قد يملك غير الله نفعهم وضرهم بحسب الظاهر ، فجعل الله تعالى هذا رجوعاً إليه تعالى ، كما يقال : إن الملك والدولة يرجع إليه لا بمعنى الانتقال بل بمعنى القدرة وترك المنازعة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4صـ 140}
وقال القرطبى :
جعل الله تعالى هذه الكلمات ملجأ لذوي المصائب ، وعصمة للممتَحنين ؛ لما جمعت من المعاني المباركة ؛ فإن قوله : "إنَّا لِلَّهِ" توحيد وإقرار بالعبودية والملك. وقوله : {وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعونَ} إقرار بالهلْك على أنفسنا والبعث من قبورنا ؛ واليقين أن رجوع الأمر كله إليه كما هو له. قال سعيد بن جبير رحمه الله تعالى : لم تعط هذه الكلمات نبيًّا قبل نبيّنا ، ولو عرفها يعقوب لما قال : يا أسَفي على يوسف. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2صـ 176}
فوائد جليلة
قال أبو بكر الرازي : اشتملت الآية على حكمين : فرض ونفل ، أما الفرض فهو التسليم لأمر الله تعالى ، والرضا بقضائه ، والصبر على أداء فرائضه ، لا يصرف عنها مصائب الدنيا وأما النفل فإظهاراً لقوله : {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ راجعون} فإن في إظهاره فوائد جزيلة منها أن غيره يقتدي به إذا سمعه ، ومنها غيظ الكفار وعلمهم بجده واجتهاده في دين الله والثبات عليه وعلى طاعته ، وحكي عن داود الطائي قال : الزهد في الدنيا أن لا يحب البقاء فيها ، وأفضل الأعمال الرضا عن الله ولا ينبغي للمسلم أن يحزن لأنه يعلم أن لكل مصيبه ثواباً.(2/343)
ولنختم تفسير هذه الآية ببيان الرضا بالقضاء فنقول : العبد إنما يصبر راضياً بقضاء الله تعالى بطريقتين : إما بطريق التصرف ، أو بطريق الجذب ، أما طريق التصرف فمن وجوه.
أحدها : أنه متى مال قلبه إلى شيء والتفت خاطره إلى شيء جعل ذلك الشيء منشأ للآفات فحينئذ ينصرف وجه القلب عن عالم الحدوث إلى جانب القدس فإن آدم ـ عليه السلام ـ لما تعلق قلبه بالجنة جعلها محنة عليه حتى زالت الجنة ، فبقي آدم مع ذكر الله ، ولما استأنس يعقوب بيوسف - عليهما السلام - أوقع الفراق بينهما حتى بقي يعقوب مع ذكر الحق ، ولما طمع محمد ـ عليه السلام ـ من أهل مكة في النصرة والإعانة صاروا من أشد الناس عليه حتى قال : " ما أوذي نبي مثل ما أوذيت " وثانيها : أن لا يجعل ذلك الشيء بلاء ولكن يرفعه من البين حتى لا يبقى لا البلاء ولا الرحمة فحينئذ يرجع العبد إلى الله تعالى.
وثالثها : أن العبد متى توقع من جانب شيئاً أعطاه الله تعالى بلا واسطة خيراً من متوقعه فيستحي العبد فيرجع إلى باب رحمة الله.
وأما طريق الجذب فهو كما قال ـ عليه السلام ـ : " جذبة من جذبات الحق توازي عمل الثقلين " ومن جذبه الحق إلى نفسه صار مغلوباً لأن الحق غالب لا مغلوب ، وصفة الرب الربوبية ، وصفة العبد العبودية ، والربوبية غالبة على العبودية لا بالضد ، وصفة الحق حقيقة ، وصفة العبد مجاز ، والحقيقة غالبة على المجاز لا بالضد ، والغالب يقلب المغلوب من صفة إلى صفة تليق به ، والعبد إذا دخل على السلطان المهيب نسي نفسه وصار بكل قلبه وفكره وحسه مقبلاً عليه ومشتغلاً به وغافلاً عن غيره ، فكيف بمن لحظ نصره حضرة السلطان الذي كان من عداه حقير بالنسبة إليه ، فيصير العبد هنالك كالفاني عن نفسه وعن حظوظ نفسه فيصير هنالك راضياً بأقضية الحق سبحانه وتعالى وأحكامه من غير أن يبقى في طاعته شبهة المنازعة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4صـ 140}(2/344)
فائدة
عن أم سلمة ـ رضى الله عنها ـ قالت : سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يقول : "ما من عبد تصيبه مصيبة فيقول : {إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ} اللهم أجُرني في مصيبتي واخلف لي خيرًا منها ، إلا آجره الله من مصيبته ، وأخلف له خيرا منها" قالت : فلما تُوُفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، فأخلف الله لي خيرا منه : رسولَ الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ.{صحيح مسلم برقم (918).}
لطيفة
قال القاسم : هذه إشارةٌ تدعو إلى الرضا بالقسمة والصبرِ على المحنةِ. قال : تحت كل محنة نعمةً وتحت كل أنوار النعمة نيران المحبة , ومدح قومًا فقال : {إذا أصابتهم مصيبة} سبقت الأمور بما جرت به الدهور لا يرد ذلك تقوى متقٍ ولا عصيان عاصٍ.أ هـ {حقائق التفسير ـ للسلمى صـ 70}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : {الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ}... الآية.
قابلوا الأمر بالصبر لا بل بالشكر لا بل بالفرح والفخر.
ومن طالع الأشياء مِلْكاً للحق رأى نفسه أجنبياً بينه وبين حكمه ؛ فمِنشِئُ الخَلْقِ أولى بالخَلْق من الخَلْق.
ويقال من شهد المصائب شهد نفسه لله وإلى الله ، ومن شاهد المُبْلِي عَلِمَ أن ما يكون من الله فهو عبد بالله ، وشتان بين من كان لله وبين من كان بالله ؛ الذي كان لله فصابرٌ واقفٌ ، والذي هو بالله فساقط الاختيار والحكم ، إنْ أثبته ثَبَتَ ، وإنْ محاه انمحى ، وإنْ حرَّكه تحرك ، وإن سَكَّنَه سَكَن ، فهو عن اختياراته فانٍ ، وفي القبضة مُصْرَّفٌ. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1صـ 140}
قوله تعالى {أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ}
قال الآلوسى :(2/345)
الصلاة في الأصل على ما عليه أكثر أهل اللغة الدعاء ومن الله تعالى الرحمة ، وقيل : الثناء ، وقيل : التعظيم ، وقيل : المغفرة ، وقال : الإمام الغزالي : الاعتناء بالشأن ، ومعناها الذي يناسب أن يراد هنا سواء كان حقيقياً أو مجازياً الثناء والمغفرة لأن إرادة الرحمة يستلزم التكرار ، ويخالف ما روي "نعم العدلان للصابرين الصلاة والرحمة" وحملها على التعظيم والاعتناء بالشأن يأباهما صيغة الجمع ثم إن جوزنا إرادة المعنيين بتجويز عموم المشترك أو الجمع بين الحقيقة والمجاز أو بين المعنيين المجازيين يمكن إرادة المعنيين المذكورين كليهما وإلا فالمراد أحدهما والرحمة تقدم معناها وأتى بعلى إشارة إلى أنهم منغمسون في ذلك وقد غشيهم وتجللهم فهو أبلغ من اللام ، وجمع (صلوات) للإشارة إلى أنها مشتملة على أنواع كثيرة على حسب اختلاف الصفات التي بها الثناء والمعاصي التي تتعلق بها المغفرة ، وقيل : للإيذان بأن المراد صلاة بعد صلاة على حد التثنية في "لبيك وسعديك" وفيه أن مجيء الجمع لمجرد التكرار لم يوجد له نظير ، والتنوين فيها وكذا فيما عطف عليها للتفخيم والتعرض لعنوان الربوبية مع الإضافة إلى ضميرهم لإظهار مزيد العناية بهم ، ومن ابتدائية ، وقيل : تبعيضية ، وثَمّ مضاف محذوف أي : من (صلوات) ربهم ، وأتى بالجملة اسمية للإشارة إلى أن نزول ذلك عليهم في الدنيا والآخرة. فقد أخرج ابن أبي حاتم ، والطبراني ، والبيهقي في "شعب الإيمان" عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه مرفوعاً : " من استرجع عند المصيبة جبر الله تعالى مصيبته ، وأحسن عقباه ، وجعل له خلفاً صالحاً يرضاه"(2/346)
{وَأُوْلئِكَ} إشارة كسابقه إلى الصابرين المنعوتين بما ذكر من النعوت ، والتكرير لإظهار كمال العناية بهم ، ويجوز أن يكون إشارة إليهم باعتبار حيازتهم ما ذكر من الصلوات والرحمة المترتبة على ما تقدم ، فعلى الأول المراد بالاعتداء في قوله عز شأنه {هُمُ المهتدون} هو الاهتداء للحق والصواب مطلقاً ، والجملة مقررة لما قبل كأنه قيل : وأولئك هم المختصون بالاهتداء لكل حق وصواب ، ولذلك استرجعوا واستسلموا لقضاء الله تعالى ، وعلى الثاني هو الاهتداء والفوز بالمطالب ، والمعنى : أولئك هم الفائزون بمطالبهم الدينية والدنيوية فإن من نال كما تزكية الله تعالى ورحمته لم يفته مطلب. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 24}(2/347)
وقال البقاعى :
{أولئك} خطاباً لنبيه واستحضاراً لهم بمحل بعد عن قربه وغيبة عن إقباله عليهم. قال : {عليهم صلوات} صلاة الله على عباده هي إقباله عليهم بعطفه إخراجاً لهم من حال ظلمة إلى رفعة نور ، قال : {هو الذي يصلي عليكم وملائكته ليخرجكم من الظلمات إلى النور} [الأحزاب : 43] فبصلاتهم عليهم إخراجهم من جهات ما أوقعهم في وجوه تلك الابتلاءات ، فلذلك كان ذلك صلوات بالجمع ولم يكن صلاة ليعدد ما أصابهم منه عدد تلك الابتلاءات ، وفي قوله تعالى : {من ربهم} إشعار بتدريجهم في ذلك بحكم تربية وتدارك الأحوال ما أصابهم ، قال تعالى : {ورحمة} إفراد لمنالها لهم بعد متقدم الصلوات عليهم ، فنالتهم الرحمة جمعاً حين أخرجتهم الصلوات أفراداً. قال تعالى : {وأولئك} إشارة إلى الذين نالتهم الصلوات والرحمة فأبقاهم مع ذلك في محل بعد في الحضرة وغيبة في الخطاب {هم المهتدون} فجاء بلفظ {هم} إشعاراً بصلاح بواطنهم عما جره الابتلاء من أنفسهم - انتهى. والذي يلوح لي أن أداة البعد في {أولئك} إشارة إلى علو مقامهم وعز مرامهم ، ولذا عبر عن هدايتهم بالجملة الاسمية على وجه يفهم الحصر ؛ والصلاة الإنعام بما يقتضي التشريف ، والرحمة الإنعام بما يقتضي العطف والتَحنّن - والله سبحانه وتعالى الموفق. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 282}
قال الفقيه أبو الليث السمرقندى :
والصلاة من الله تعالى على ثلاثة أشياء : توفيق الطاعة والعصمة عن المعصية ومغفرة الذنوب جميعاً ، فبالصلاة الواحدة تتكون لهم هذه الأشياء الثلاثة ، فقد وعد لهم الصلوات الكثيرة ، ومقدار ذلك لا يعلمه إلا الله. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 132}(2/348)
وقال العلامة ابن عاشور :
وأفيد مضمون الجملة الذي هو حصول الصلوات والرحمة والهدى للصابرين بطريقة التبشير على لسان الرسول تكريماً لشأنه ، وزيادة في تعلق المؤمنين به بحيث تحصل خيراتهم بواسطته ، فلذلك كان من لطائف القرآن إسنادُ البلوى إلى الله بدون واسطة الرسول ، وإسنادُ البِشارة بالخير الآتي من قِبَل الله إلى الرسول.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 57}
قوله تعالى {إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)}
سبب نزول الآية
سبب نزول هذه الآية أنه كان على الصفا والمروة صنمان إساف ونائلة ، وكان إساف على الصفا ونائلة على المروة ، وكان أهل الجاهلية يطوفون بين الصفا والمروة تعظيما للصنمين ويتمسحون بهما ، فلما جاء الإسلام وكسرت الأصنام كان المسلمون يتحرجون عن السعي بين الصفا والمروة لأجل الصنمين فأذن الله فيه وأخبر أنه من شعائر الله. أ هـ {تفسير البغوى حـ 1 صـ 173}.(2/349)
مناسبة الآية لما قبلها
الحج أخو الجهاد في المشقة والنزوح عن الوطن وقد سماه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أحد الجهادين مع أنه من أعظم مقاصد البيت المذكورة في هذه الآيات مناقبه المتلوة مآثره المنصوبة شعائره التي هي في الحقيقة دعائمه من الاعتكاف والصلاة والطواف المشار إلى حجه واعتماره بقوله : {مثابة للناس وأمناً} [البقرة : 125] فأفصح به بعد تلك الإشارة بعض الإفصاح إذ كان لم يبق من مفاخره العظمى غيره وضم إليه العمرة الحج الأصغر لمشاركتها له في إظهار فخاره وإعلاء مناره فقال : {إن الصفا والمروة} فهو كالتعليل لاستحقاق البيت لأن يكون قبلة ، وعرفهما لأنهما جبلان مخصومان معهودان تجاه الكعبة ، اسم الصفا من الصفوة وهو ما يخلص من الكدر ، واسم المروة من المرو وهو ما تحدد من الحجارة - قاله الحرالي. وخصهما هنا بالذكر إشارة إلى أن بركة الإقبال عليهما على ما شرع الله سبحانه وتعالى مفيدة لحياة القلوب بما أنزل على هذا الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ من الكتاب والحكمة الباقيين إلى آخر الدهر شفاء للقلوب وزكاة للنفوس زيادة للنعمة بصفة الشكر وتعليماً بصفة العلم كما كان الإقبال على السعي بينهما تسليماً لأمر الله مفيداً لحياة أبيه إسماعيل عليه الصلاة والسلام ونفع من بعده بما أنبع له من ماء زمزم الباقي إلى قيام الساعة طعام طعم وشفاء سقم ، وفي ذلك مع تقديم الصفا إشارة للبصراء من أرباب القلوب إلى أن الصابر لله المبشر فيما قبلها ينبغي أن يكون قلبه جامعاً بين الصلابة والصفا ، فيكون بصلابته الحجرية مانعاً من القواطع الشيطانية ، وبرقته الزجاجية جامعاً للوامع الرحمانية ، بعيداً عن القلب المائي بصلابته ، وعن الحجري بصفائه واستنارته. ومن أعظم المناسبات أيضاً كون سبيل الحج إذ ذاك كان ممنوعاً بأهل الحرب ، فكأنها علة لما قبلها وكأنه قيل : ولنبلونكم بما ذكر لأن الحج من أعظم شعائر هذا البيت الذي أمرتم باستقباله وهو مما يفرض عليكم وسبيله(2/350)
ممنوع بمن تعلمون ، فلنبلونكم بقتالهم لزوال مانع الحج وقتال غيرهم من أهل الكتاب وغيرهم لإتمام النعمة بتمام الدين وظهوره على كل دين. ومن أحسنها أيضاً أنه تعالى لما ذكر البلايا بنقص الأموال بسبب الذنوب {وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم} [الشورى : 30] أتبعها الدواء الجابر لذلك النقص ديناً ودنيا ، " فإن الحج والعمرة ينفيان الفقر والذنوب كما ينفي الكير خبث الذهب والفضة " رواه الإمام أحمد والترمذي والنسائي وابن خزيمة وابن حبان في صحيحهما عن عبد الله ابن مسعود رضي الله تعالى عنه عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ.
(2/351)
وقال الحرالي : لما تقدم ذكر جامعة من أمر الحج في قوله سبحانه وتعالى {ولأتم نعمتي عليكم} [البقرة : 150] من حيث أن النعمة المضافة إليه أحق بنعمة الدين وفي ضمنها نعمة الدنيا التي لم يتهيأ الحج إلا بها من الفتح والنصر والاستيلاء على كافة العرب كما قال تعالى فيما أنزل يوم تمام الحج الذي هو يوم عرفة {اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي} [المائدة : 3] وذلك بما أتم الله سبحانه وتعالى عليهم من نعمة تمام معالم الدين وتأسيس الفتح بفتح أم القرى التي في فتحها فتح جميع الأرض لأنها قيام الناس نظم تعالى بما تلاه من الخطاب تفصيلاً من تفاصيل أمر الحج انتظم بأمر الذين آمنوا من حيث ما في سبب إنزاله من التحرج للذين أعلموا برفع الجناح عنهم وهم طائفة من الأنصار كانوا يهلون لمناة وكانت مناة حذو قديد فتحرجوا من التطوف بين الصفا والمروة. وطائفة أيضاً خافوا أن يلحقهم في الإسلام بعملهم نحو ما كانوا يعملونه في الجاهلية نقص في عمل الإسلام ، فأعلمهم الله سبحانه وتعالى أن ذلك موضوع عنهم لمختلف نياتهم فإن الأعمال بالنيات ، فما نوي لله كان لله ولم يُبل فيه بموافقة ما كان من عاداتهم في الجاهلية ، وفي فقهه صحة السجود لله سبحانه وتعالى لمن أكره على السجود للصنم ، وفي طي ذلك صحة التعبد لله بكلمة الكفر لمن أكره عليها ، أذن ـ صلى الله عليه وسلم ـ غير مرة في أن يقول فيه قائل ما يوافق الكفار بحسن نية للقائل فيه ذلك ولقضاء حاجة له من حوائح دنياه عند الكفار ، فظهر بذلك كونه ـ صلى الله عليه وسلم ـ رحمة للعالمين ، يقبل الضمائر ولا يبالي بالظواهر في أحوال الضرائر ، فرفع الله سبحانه وتعالى عنهم الجناح بحسن نياتهم وإخلاصهم لله سبحانه وتعالى عملهم ، فبهذا النحو من التقاصر في هذه الرتبة انتظم افتتاح هذا الخطاب بما قبله من أحوال الذين آمنوا من المبتلين بما ذكر - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 283 ـ 284}(2/352)
وقال الفخر :
اعلم أن تعلق هذه الآية بما قبلها من وجوه.
أحدها : أن الله تعالى بين أنه إنما حول القبلة إلى الكعبة ليتم إنعامه على محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأمته بإحياء شرائع إبراهيم ودينه على ما قال : {وَلأُتِمَّ نِعْمَتِى عَلَيْكُمْ} [البقرة : 150] وكان السعي بين الصفا والمروة من شعائر إبراهيم على ما ذكر في قصة بناء الكعبة وسعى هاجر بين الجبلين فلما كان الأمر كذلك ذكر الله تعالى هذا الحكم عقيب تلك الآية.
وثانيها : أنه تعالى لما قال : {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْءٍ مّنَ الخوف والجوع} [البقرة : 155] إلى قوله : {وَبَشّرِ الصابرين} قال : {إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَائِرِ الله} وإنما جعلهما كذلك لأنهما من آثار هاجر وإسماعيل مما جرى عليهما من البلوى واستدلوا بذلك على أن من صبر على البلوى لا بد وأن يصل إلى أعظم الدرجات وأعلى المقامات.
وثالثها : أن أقسام تكليف الله تعالى ثلاثة.
أحدها : ما يحكم العقل بحسنه في أول الأمر فذكر هذا القسم أولاً وهو قوله : {اذْكُرُونِى أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ} [البقرة : 152] فإن كان عاقل يعلم أن ذكر المنعم بالمدح والثناء والمواظبة على شكره أمر مستحسن في العقول.
وثانيها : ما يحكم العقل بقبحه في أول الأمر إلا أنه بسبب ورود الشرع به يسلم حسنه ، وذلك مثل إنزال الآلام والفقر والمحن فإن ذلك كالمستقبح في العقول لأن الله تعالى لا ينتفع به ويتألم العبد منه فكان ذلك كالمستقبح إلا أن الشرع لما ورد به وبين الحكمة فيه ، وهي الإبتلاء والامتحان على ما قال : {وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَيْء مّنَ الخوف والجوع} [البقرة : 155] فحينئذ يعتقد المسلم حسنه وكونه حكمة وصواباً.(2/353)
وثالثها : الأمر الذي لا يهتدي لا إلى حسنه ولا إلى قبحه ، بل يراه كالعبث الخالي عن المنفعة والمضرة وهو مثل أفعال الحج من السعي بين الصفا والمروة ، فذكر الله تعالى هذا القسم عقيب القسمين الأولين ليكون قد نبه على جميع أقسام تكالي فهو ذاكراً لكلها على سبيل الاستيفاء والاستقصاء والله أعلم. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 142 ـ 143}
قوله تعالى {مِنْ شَعَائِرِ}
قال الفخر :
الشعائر إما أن نحملها على العبادات أو على النسك ، أو نحملها على مواضع العبادات والنسك ، فإن قلنا بالأول حصل في الكلام حذف ، لأن نفس الجبلين لا يصح وصفهما بأنهما دين ونسك ، فالمراد به أن الطواف بينهما والسعي من دين الله تعالى ، وإن قلنا بالثاني استقام ظاهر الكلام ، لأن هذين الجبلين يمكن أن يكونا موضعين للعبادات والمناسك وكيف كان فالسعي بين هذين الجبلين من شعائر الله ومن أعلام دينه ، وقد شرعه الله تعالى لأمة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ولإبراهيم ـ عليه السلام ـ قبل ذلك ، وهو من المناسك الذي حكى الله تعالى عن إبراهيم ـ عليه السلام ـ أنه قال : {وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا} [البقرة : 128]
واعلم أن السعي ليس عبادة تامة في نفسه بل إنما يصير عبادة إذا صار بعضاً من أبعاض الحج ، فلهذا السر بين الله تعالى الموضع الذي فيه يصير السعي عبادة فقال : {فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 143}(2/354)
وقال البقاعى :
{من شعائر الله} أي أعلام دين الملك الأعلى الذي دان كل شيء لجلاله. وقال الحرالي : وهي أي الشعائر ما أحست به القلوب من حقه ، وقال : والشعيرة ما شعرت به القلوب من أمور باطنة {ذلك ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب} [الحج : 32] وإنما ذكرها تعالى بالشعائر وعملها معلم من معالم الإسلام وحرمة من حرم الله لما كان حكم في أمر القلوب التي كان في ضمائرها تحرجهم فمن حيث ذكرها بالشعيرة صححها الإخلاص والنية. أ هـ
{نظم الدرر حـ 1 صـ 285}
قوله تعالى {فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا}
{البيت} ذكر البيت في الحج والمسجد الحرام في التوجه لانتهاء الطواف إلى البيت واتساع المصلى من حد المقام إلى ما وراءه لكون الطائف منتهياً إلى البيت وكون المصلي قائماً بمحل أدب يؤخره عن منتهى الطائف مداناة البيت ، وذكره تعالى بكلمة " من " المطلقة المستغرقة لأولي العقل تنكباً بالخطاب عن خصوص المتحرجين ، ففي إطلاقه إشعار بأن الحج لا يمنعه شيء مما يعرض في مواطنه من مكروه الدين لاشتغال الحاج بما هو فيه عما سواه ، ففي خفي فقهه إعراض الحاج عن مناكر تلك المواطن التي تعرض فيها بحسب الأزمان والأعصار ، ويؤكد ذلك أن الحج آية الحشر وأهل الحشر
{لكل امرىء منهم يومئذ شأن يغنيه} [عبس : 37] فكذلك حكم ما هو آيته ؛ وحج البيت إتيانه في خاتمة السنة من الشهور الذي هو شهر ذي الحجة أنه ختم العمر ، كما كان النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ حيث ختم الله سبحانه وتعالى عمره بعمل الحج ؛ قال سبحانه وتعالى {أو اعتمر} فذكر العمرة مع الحج لما كان الطواف بين الصفا والمروة من شعائر العملين. أ هـ
{نظم الدرر حـ 1 صـ 285}(2/355)
قال الآلوسى :
{فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} أي لا إثم عليه في أن يطوف. وأصل الجناح الميل ، ومنه {وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ} [الأتفال : 1 6] وسمي الاسم به لأنه ميل من الحق إلى الباطل. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 25}
سؤال : ما الحكمة في شرع هذا السعي ؟
الحكمة في شرع هذا السعي الحكاية المشهورة وهي أن هاجر أم إسماعيل حين ضاق بها الأمر في عطشها وعطش ابنها إسماعيل ـ عليه السلام ـ أغاثها الله تعالى بالماء الذي أنبعه لها ولابنها من زمزم حتى يعلم الخلق أنه سبحانه وإن كان لا يخلي أولياءه في دار الدنيا من أنواع المحن إلا أن فرجه قريب ممن دعاه فإنه غياث المستغيثين ، فانظر إلى حال هاجر وإسماعيل كيف أغاثهما وأجاب دعاءهما ، ثم جعل أفعالهما طاعة لجميع المكلفين إلى يوم القيامة ، وآثارهما قدوة للخلائق أجمعين ليعلم أن الله لا يضيع أجر المحسنين ، وكل ذلك تحقيق لما أخبر به قبل ذلك من أنه يبتلي عباده بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات إلا أن من صبر على ذلك نال السعادة في الدارين وفاز بالمقصد الأقصى في المنزلين.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 143 ـ 144}(2/356)
فائدة
أخرج البخاري عن عروة قال : سألت عائشة رضي الله عنها ، فقلت لها : أرأيت قول الله تعالى : "إن الصفا والمروة من شعائر الله ، فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما" فوالله ما على أحد جناح أن لا يطوف بالصفا والمروة ؟ قالت : بئس ما قلت يا بن أختي ، إن هذه لو كانت كما أولتها عليه كانت لا جناح عليه أن لا يتطوف بهما ، ولكنها أنزلت في الأنصار ، كانوا قبل أن يسلموا يهلون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عند المشلل ، فكان من أهل يتحرج أن يطوف بالصفا والمروة ، فلما أسلموا سألوا رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عن ذلك قالوا : يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوف بين الصفا والمروة ، فأنزل الله تعالى : "إن الصفا والمروة من شعائر الله" الآية. قالت عائشة رضي الله عنها : وقد سن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الطواف بينهما ، فليس لأحد أن يترك الطواف بينهما.
فصل
ظاهر قوله تعالى : {لا جُنَاحَ عَلَيْهِ} أنه لا إثم عليه ، والذي يصدق عليه أنه لا إثم في فعله يدخل تحته الواجب والمندوب والمباح ، ثم يمتاز كل واحد من هذه الثلاثة عن الآخر بقيد زائد ، فإذن ظاهر هذه الآية لا يدل على أن السعي بين الصفا والمروة واجب ، أو ليس بواجب ، لأن اللفظ الدال على القدر المشترك بين الأقسام لا دلالة فيه البتة على خصوصية من الرجوع إلى دليل آخر ، إذا عرفت هذا فنقول : مذهب الشافعي رحمه الله أن هذا السعي ركن ، ولا يقوم الدم مقامه ، وعند أبي حنيفة رحمه الله أنه ليس بركن ، ويقوم الدم مقامه ، وروي عن ابن الزبير ومجاهد وعطاء ، أن من تركه فلا شيء عليه ، حجة الشافعي رضي الله عنه من وجوه.(2/357)
أحدها : ما روي عن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : " إن الله كتب عليكم السعي فاسعوا " فإن قيل : هذا الحديث متروك الظاهر ، لأنه يقتضي وجوب السعي وهو العدو ، ذلك غير واجب قلنا : لا نسلم أن السعي عبارة عن العدو بدليل قوله : {فاسعوا إلى ذِكْرِ الله} [الجمعة : 9] والعدو فيه غير واجب ، وقال الله تعالى : {وَأَن لَّيْسَ للإنسان إِلاَّ مَا سعى} [النجم : 39] وليس المراد منه العدو ، بل الجد والاجتهاد في القصد والنية ، سلمنا أنه يدل على العدو ، ولكن العدو مشتمل على صفة ترك العمل به في حق هذه الصفة ، فيبقى أصل المشي واجباً.
وثانيها : ما ثبت أنه ـ عليه السلام ـ سعى لما دنا من الصفا في حجته ، وقال : " إن الصفا والمروة من شعائر الله ابدؤا بما بدأ الله به " فبدأ بالصفا فرقى عليه حتى رأى البيت ، وإذا ثبت أنه ـ عليه السلام ـ سعى وجب أن يجب علينا السعي للقرآن والخبر ، أما القرآن : فقوله تعالى : {واتبعوه} وقوله : {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعونى} [آل عمران : 31] وقوله : {لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِى رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب : 21] وأما الخبر فقوله ـ عليه السلام ـ : " خذوا عني مناسككم " والأمر للوجوب.
وثالثها : أنه أشواط شرعت في بقعة من بقاع الحرم ، أو يؤتى به في إحرام كامل فكان جنسها ركناً كطواف الزيارة ، ولا يلزم طواف الصدر لأن الكلام للجنس لوجوبه مرة ، واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بوجهين.
أحدهما : هذه الآية وهي قوله : {لاَّ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} وهذا لا يقال في الواجبات.
ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : {وَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} فبين أنه تطوع وليس بواجب.
وثانيهما : قوله : "الحج عرفة" ومن أدرك عرفة فقد تم حجه ، وهذا يقتضي التمام من جميع الوجوه ، ترك العمل به في بعض الأشياء ، فيبقى معمولاً به في السعي والجواب عن الأول من وجوه.
(2/358)
الأول : ما بينا أن قوله : {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ} ليس فيه إلا أنه لا إثم على فاعله ، وهذا القدر المشترك بين الواجب وغيره ، فلا يكون فيه دلالة على نفي الوجوب والذي يحقق ذلك قوله تعالى : {فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ} [النساء : 101] والقصر عند أبي حنيفة واجب ، مع أنه قال فيه : {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ} فكذا ههنا.
الثاني : أنه رفع الجناح عن الطواف بهما لا عن الطواف بينهما ، وعندنا الأول غير واجب ، وإنما الثاني هو الواجب.
الثالث : قال ابن عباس : كان على الصفا صنم وعلى المروة صنم وكان أهل الجاهلية يطوفون بهما ويتمسحون بهما فلما جاء الإسلام كره المسلمون الطواف بينهما لأجل الصنمين فأنزل الله تعالى هذه الآية ، إذا عرفت هذا فنقول انصرفت الإباحة إلى وجود الصنمين حال الطواف لا إلى نفس الطواف كما لو كان في الثوب نجاسة يسيرة عندكم ، أو دم البراغيث عندنا ، فقيل : لا جناح عليك أن تصلي فيه ، فإن رفع الجناح ينصرف إلى مكان النجاسة لا إلى نفس الصلاة.
الرابع : روي عن عروة أنه قال لعائشة : إني أرى أن لا حرج علي في أن لا أطوف بهما ، فقالت : بئس ما قلت لو كان كذلك لقال : أن لا يطوف بهما ، ثم حكى ما تقدم من الصنمين ، وتفسير عائشة راجح على تفسير التابعين ، فإن قالوا : قرأ ابن مسعود : (فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما) واللفظ أيضاً محتمل له كقوله : {يُبَيّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ} [النساء : 176] أي أن لا تضلوا ، وكقوله تعالى : {أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة} [الأعراف : 172] معناه : أن لا تقولوا ، قلنا : القراءة الشاذة لا يمكن اعتبارها في القرآن لأن تصحيحها يقدح في كون القرآن متواتراً.(2/359)
الخامس : كما أن قوله : {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ} لا يطلق على الواجب ، فكذلك لا يطلق على المندوب ، ولا شك في أن السعي مندوب ، فقد صارت الآية متروكة العمل بظاهرها.
وأما التمسك بقوله : {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا} فضعيف ، لأن هذا لا يقتضي أن يكون المراد من هذا التطوع هو الطواف المذكور أولاً ، بل يجوز أن يكون المقصود منه شيئاً آخر قال الله تعالى : {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} [البقرة : 184] ثم قال : {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} [البقرة : 184] فأوجب عليهم الطعام ، ثم ندبهم إلى التطوع بالخير فكان المعنى : فمن تطوع وزاد على طعام مسكين كان خيراً ، فكذا ههنا يحتمل أن يكون هذا التطوع مصروفاً إلى شيء آخر وهو من وجهين.
أحدهما : أنه يزيد في الطواف فيطوف أكثر من الطواف الواجب مثل أن يطوف ثمانية أو أكثر.
الثاني : أن يتطوع بعد حج الفرض وعمرته بالحج والعمرة مرة أخرى حتى طاف بالصفا والمروة تطوعاً وأما الحديث الذي تمسكوا به فنقول : ذلك الحديث عام وحديثنا خاص والخاص مقدم على العام ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 1 صـ 144 ـ 146}(2/360)
وقال الماوردى :
وليس في قوله : {فَلاَ جُنَاحَ} دليل على إباحته دون وجوبه ، لخروجه على سبب ، وهو أن الصفا كان عليه في الجاهلية صنم اسمه إساف ، وعلى المروة صنم اسمه نائلة ، فكانت الجاهلية إذا سعت بين الصفا والمروة طافوا حول الصفا والمروة تعظيماً لإساف ونائلة ، فلما جاء الإسلام وألغيت الأصنام تَكَرَّهَ المسلمون أن يُوَافِقُوا الجاهلية في الطواف حول الصفا والمروة ، مجانبةً لما كانوا عليه من تعظيم إساف ونائلة ، فأباح الله تعالى ذلك لهم في الإسلام لاختلاف القصد فقال : {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا}. وأما قراءة ابن مسعود ، وابن عباس : {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن لاَّ يَطَّوَّفَ بِهِمَا} ، فلا حجة فيها على سقوط فرض السعي بينهما لأن (لا) صلة في الكلام إذا تقدمها جَحْد ، كقوله تعالى : {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف : 12] بمعنى ما منعك أن تسجد ، وكما قال الشاعر :
ما كان يرضى رسول الله فعلهم... والطيبان أبو بكر ولا عُمَرُ. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 213}.(2/361)
قوله تعالى {وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا}
ولما كان الصحابة رضي الله تعالى عنهم لم يقصدوا بترك الطواف بينهما إلا الطاعة فأعلموا أن الطواف بينهما طاعة ، عبر بما يفيد مدحهم فقال تعالى : {ومن تطوع} قَالَ الحرالي : أي كلف نفسه معاهدة البر والخير من غير استدعاء له {خيراً} فيه إعلام بفضيلة النفقة في الحج والعمرة بالهدي ووجوه المرافق للرفقاء بما يفهمه لفظ الخير ، لأن عرف استعماله في خير الرزق والنفقة ، كما قال تعالى : {وإنه لحب الخير لشديد} [العاديات : 8] و{إن ترك خيراً} [البقرة : 180] ؛ ولما كان رفع الجناح تركاً عادلها في الخطاب بإثبات عمل خير ليقع في الخطاب إثبات يفيد عملاً حين لم يفد الأول إلا تركاً ، فمن تحقق بالإيمان أجزل نفقاته في الوفادة على ربه واختصر في أغراض نفسه ، ومن حرم النصف من دنياه اقتصر في نفقاته في وفادته على ربه وأجزل نفقاته في أغراض نفسه وشهوات عياله ، فذلك من أعلام المؤمنين وأعلام الجاهلين ، من وفد على الملك أجزل ما يقدم بين يديه ، وإنما قدمه بالحقيقة لنفسه لا لربه ، فمن شكر نعمة الله بإظهارها حين الوفادة ، عليه في آية بعثة إليه ولقائه له شكراً لله له ذلك يوم يلقاه ، فكانت هدايا الله له يوم القيامة أعظم من هديه إليه يوم الوفادة عليه في حجه وعمرته {فإن الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {شاكر} أي مجاز بالأعمال مع المضاعفة لثوابها ؛ قال الحرالي : وقوله : {عليم} فيه تحذير من مداخل الرياء والسمعة في إجزال النفقات لما يغلب على النفس من التباهي في إظهار الخير - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 287 ـ 288}.
فائدة
الذين قالوا : السعي واجب ، فسروا هذا التطوع بالسعي الزائد على قدر الواجب ومنهم من فسره بالسعي في الحجة الثانية التي هي غير واجبة وقال الحسن : المراد منه جميع الطاعات وهذا أولى لأنه أوفق لعموم اللفظ. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 1 صـ 146 ـ 147}
قوله تعالى : {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ}
قال الفخر : (2/362)
أما قوله تعالى : {فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ} فاعلم أن الشاكر في اللغة هو المظهر للأنعام عليه ، وذلك في حق الله تعالى محال ، فالشاكر في حقه تعالى مجاز ، ومعناه المجازي على الطاعة : وإنما سمي المجازاة على الطاعة شكراً لوجوه.
الأول : أن اللفظ خرج مخرج التلطف للعباد مبالغة في الإحسان إليهم ، كما قال تعالى : {مَّن ذَا الذى يُقْرِضُ الله قَرْضًا حَسَنًا} [البقرة : 245] وهو تعالى لا يستقرض من عوض ، ولكنه تلطف في الاستدعاء كأنه قيل : من ذا الذي يعمل عمل المقرض بأن يقدم فيأخذ أضعاف ما قدم.
الثاني : أن الشكر لما كان مقابلاً الإنعام أو الجزاء عليه سمي كل ما كان جزاء شكراً على سبيل التشبيه.
الثالث : كأنه يقول : أنا وإن كنت غنياً عن طاعتك إلا أني أجعل لها من الموقع بحيث لو صح على أن أنتفع بها لما ازداد وقعه على ما حصل وبالجملة فالمقصود بيان أن طاعة العبد مقبولة عند الله تعالى وواقعة موقع القبول في أقصى الدرجات.
وأما قوله : {عَلِيمٌ} فالمعنى أنه يعلم قدر الجزاء فلا يبخس المستحق حقه لأنه تعالى عالم بقدره وعالم بما يزيد عليه من التفضل ، وهو أليق بالكلام ليكون لقوله تعالى : {عَلِيمٌ} تعلق بشاكر ويحتمل أنه يريد أنه عليم بما يأتي العبد فيقوم بحقه من العبادة والإخلاص وما يفعله لا على هذا الحد ، وذلك ترغيب في أداء ما يجب على شروطه ، وتحذير من خلاف ذلك. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 147}(2/363)
من لطائف حجة الإسلام الغزالى فى الآية الكريمة
أنعم الله ـ عز وجل ـ على هذه الأمة بأن جعل الحج رهبانية لهم فشرف البيت العتيق بالإضافة إلى نفسه تعالى
ونصبه مقصدا لعباده وجعل ما حواليه حرما لبيته تفخيما لأمره
وجعل عرفات كالميزاب على فناء حوضه وأكد حرمة الموضع بتحريم صيده وشجره
ووضعه على مثال حضرة الملوك يقصده الزوار من كل فج عميق ومن كل أوب سحيق شعثا غبرا متواضعين لرب البيت ومستكينين له خضوعا لجلاله واستكانة لعزته مع الاعتراف بتنزيهه عن أن يحويه بيت أو يكتنفه بلد ليكون ذلك أبلغ في رقهم وعبوديتهم وأتم في إذعانهم وانقيادهم
ولذلك وظف عليهم فيها أعمالا لا تأنس بها النفوس ولا تهتدي إلى معانيها العقول كرمي الجمار بالأحجار والتردد بين الصفا والمروة على سبيل التكرار
وبمثل هذه الأعمال يظهر كمال الرق والعبودية
فإن الزكاة إرفاق ووجهه مفهوم وللعقل إليه ميل
والصوم كسر للشهوة التي هي آلة عدو الله وتفرغ للعبادة بالكف عن الشواغل
والركوع والسجود في الصلاة تواضع لله عز وجل بأفعال هي هيئة التواضع وللنفوس أنس بتعظيم الله عز وجل
فأما ترددات السعي ورمي الجمار وأمثال هذه الأعمال فلا حظ للنفوس ولا أنس فيها ولا اهتداء للعقل إلى معانيها فلا يكون في الإقدام عليها باعث إلا الأمر المجرد وقصد الامتثال للأمر من حيث إنه أمر واجب الإتباع فقط وفيه عزل للعقل عن تصر فهو صرف النفس والطبع عن محل أنسه فإن كل ما أدرك العقل معناه مال الطبع إليه ميلا ما فيكون ذلك الميل معينا للأمر وباعثا معه على الفعل فلا يكاد يظهر به كمال الرق والانقياد ولذلك قال صلى الله عليه وسلم في الحج على الخصوص لبيك بحجة حقا تعبدا ورقا ولم يقل ذلك في صلاة ولا غيرها(2/364)
وإذا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى ربط نجاة الخلق بأن تكون أعمالهم على خلاف هوى طباعهم وأن يكون زمامها بيد الشرع فيترددون في أعمالهم على سنن الانقياد وعلى مقتضى الاستعباد كان ما لا يهتدى إلى معانيه أبلغ أنواع التعبدات في تزكية النفوس وصرفها عن مقتضى الطباع والأخلاق مقتضى الاسترقاق
وإذا تفطنت لهذا فهمت أن تعجب النفوس من هذه الأفعال العجيبة مصدره الذهول عن أسرار التعبدات وهذا القدر كاف في تفهم أصل الحج إن شاء الله تعالى
وأما الشوق فإنما ينبعث بعد الفهم والتحقق بأن البيت بيت الله ـ عز وجل ـ وأنه وضع على مثال حضرة الملوك فقاصده قاصد إلى الله ـ عز وجل ـ وزائر له وأن من قصد البيت في الدنيا جدير بأن لا يضيع زيارته فيرزق مقصود الزيارة في ميعاده المضروب له وهو النظر إلى وجه الله الكريم في دار القرار من حيث إن العين القاصرة الفانية في دار الدنيا لا تتهيأ لقبول النظر إلى وجه الله عز وجل ولا تطيق احتماله ولا تستعد للاكتحال به لقصورها وأنها إن أمدت في الدار الآخرة بالبقاء ونزهت عن أسباب التغير والفناء استعدت للنظر والإبصار ولكنها بقصد البيت والنظر إليه تستحق لقاء رب البيت بحكم الوعد الكريم
فالشوق إلى لقاء الله عز وجل يشوقه إلى أسباب اللقاء لا محالة هذا مع أن المحب مشتاق إلى كل ماله إلى محبوبه إضافة والبيت مضاف إلى الله عز وجل فبالحرى أن يشتاق إليه لمجرد هذه الإضافة فضلا عن الطلب لنيل ما وعد عليه من الثواب الجزيل.(2/365)
وأما السعي بين الصفا والمروة في فناء البيت فإنه يضاهي تردد العبد بفناء دار الملك جائيا وذاهبا مرة بعد أخرى إظهارا للخلوص في الخدمة ورجاء للملاحظة بعين الرحمة كالذي دخل على الملك وخرج وهو لا يدري ما الذي يقضي به الملك في حقه من قبول أو رد فلا يزال يتردد على فناء الدار مرة بعد أخرى يرجو أن يرحم في الثانية إن لم يرحم في الأولى وليتذكر عند تردده بين الصفا والمروة تردده بين كفتي الميزان في عرصات القيامة وليمثل الصفا بكفة الحسنات والمروة بكفة السيئات وليتذكر تردده بين الكفتين ناظرا إلى الرجحان والنقصان مترددا بين العذاب والغفران. أ هـ {الإحياء حـ 1 صـ 266 ـ 270}(2/366)
قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال الحرالي : فانتظمت هذه الآية أي في ختمها لهذا الخطاب بما مضى في أوله من قوله : {ولا تلبسوا الحق بالباطل وتكتموا الحق وأنتم تعلمون} [البقرة : 42] فكانت البداية خاصة وكان الختم عاماً ، ليكون ما في كتاب الله أمراً على نحو ما كان أمر محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ومن تقدمه من الرسل خلقاً لينطبق الأمر على الخلق بدءاً وختماً انطباقاً واحداً ، فعم كل كاتم من الأولين والآخرين - انتهى. {نظم الدرر حـ 1 صـ 288}
وقال ابن عرفة : ووجه المناسبة هنا أنه لما تقدم الإخبار بحكم شرعي عقبه ببيان عقوبة العالم إذا كتم علمه. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 199}
سبب نزول الآية
قال أبو جعفر : يعني بقوله : "إنّ الذين يَكتمون مَا أنزلنا منَ البينات" ، علماءَ اليهود وأحبارَها ، وعلماءَ النصارى ، لكتمانهم الناسَ أمرَ محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وتركهم اتباعه وهم يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإنجيل.أ هـ
{تفسير الطبرى حـ 2 صـ 249}
وجه هذا القول كما ذكره الإمام الفخر :
واحتج من خص الآية بأهل الكتاب ، أن الكتمان لا يصح إلا منهم في شرع نبوة محمد عليه الصلاة والسلام ، فأما القرآن فإنه متواتر ، فلا يصح كتمانه ، قلنا : القرآن قبل صيرورته متواتراً يصح كتمانه ، والمجمل من القرآن إذا كان بيانه عند الواحد صح كتمانه وكذا القول فيما يحتاج المكلف إليه من الدلائل العقلية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 2 صـ 148}
وأجاب ابن عادل عن هذه الوجه بقوله :
والجواب : أنَّ القرآن الكريم قبل صَيْرُورَتِهِ متواتراً يَصِحُّ كتمانُهُ ، والكلامُ إنَّما هو فيما يحتاج المكلَّف إليه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 104}
وقال الخازن :(2/367)
قوله عز وجل : {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} نزلت في علماء اليهود الذين كتموا صفة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ وآية الرجم وغيرها من الأحكام التي كانت في التوراة. وقيل : إن الآية على العموم فيمن كتم شيئاً من أمر الدين لأن اللفظ عام والعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. أ هـ
{تفسير الخازن حـ 1 صـ 98}
وقد رجح الإمام فخر الدين الرازى أن الآية تتناول كل من كتم شيئاً من الدين واستدل له بوجوه :
أحدها : أن اللفظ عام والعارض الموجود ، وهو نزوله عند سبب معين لايقتضي الخصوص على ما ثبت في أصول الفقه أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
وثانيها : أنه ثبت أيضاً في أصول الفقه أن ترتيب الحكم على الوصف مشعر بكون الوصف علة لذلك الحكم لا سيما إذا كان الوصف مناسباً للحكم ، ولا شك أن كتمان الدين يناسبه استحقاق اللعن من الله تعالى ، وإذا كان هذا الوصف علة لهذا الحكم وجب عموم هذا الحكم عند عموم الوصف.
وثالثها : أن جماعة من الصحابة حملوا هذا اللفظ على العموم ، وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : من زعم أن محمداً عليه الصلاة والسلام كتم شيئاً من الوحي فقد أعظم الفرية على الله ، والله تعالى يقول : {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى} فحملت الآية على العموم ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لولا آيتان من كتاب الله ما حدثت حديثاً بعد أن قال الناس : أكثر أبو هريرة. وتلا : {إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى}.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 148}
قال الحافظ ابن كثير ـ رحمه الله ـ :
هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسلُ من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة والهدى النافع للقلوب ، من بعد ما بينه الله - تعالى -لعباده في كتبه ، التي أنزلها على رسله.
قال أبو العالية : (2/368)
نزلت في أهل الكتاب ، كتمُوا صفة محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ ثم أخبر أنهم. يلعنهم كلّ شيء على صنيعهم ذلك ، فكما أن العالم يستغفر له كلّ شيء ، حتى الحوت في الماء والطير في الهواء ، فهؤلاء بخلاف العلماء [الذين يكتمون] فيلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون. وقد ورد في الحديث المسند من طرق يشد بعضها بعضًا ، عن أبي هريرة ، وغيره : أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : "من سُئِل عن علم فكتمه ، ألجم يوم القيامة بلجام من نار". والذي في الصحيح عن أبي هريرة أنه قال : لولا آية في كتاب الله ما حدثتُ أحدًا شيئًا : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الآية.
وقال ابن أبي حاتم : حدثنا الحسن بن عرفة ، حدثنا عمار بن محمد ، عن ليث بن أبي سليم ، عن المنهال بن عمرو ، عن زاذان أبي عُمَر عن البراء بن عازب ، قال : كنا مع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جنازة ، فقال : "إن الكافر يضرب ضربة بين عينيه ، فيسمع كل دابة غير الثقلين ، فتلعنه كل دابة سمعت صوته ، فذلك قول الله تعالى : {أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} يعني : دواب الأرض".
[ورواه ابن ماجة عن محمد بن الصباح عن عمار بن محمد به].
وقال عطاء بن أبي رباح : كل دابة والجن والإنس. وقال مجاهد : إذا أجدبت الأرض قالت البهائم : هذا من أجل عُصاة بني آدم ، لعن الله عصاة بني آدم.
وقال أبو العالية ، والربيع بن أنس ، وقتادة {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعِنُونَ} يعني تلعنهم ملائكة الله ، والمؤمنون.
[وقد جاء في الحديث ، أن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحيتان ، وجاء في هذه الآية : أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون ، واللاعنون أيضًا ، وهم كل فصيح وأعجمي إما بلسان المقال ، أو الحال ، أو لو كان له عقل ، أو يوم القيامة ، والله أعلم]. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 472 ـ 473}(2/369)
قوله تعالى {يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159)}
قال أبو السعود :
{مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات} من الآيات الواضحة الدالةِ على أمر محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ {والهدى} أي والآياتِ الهاديةِ إلى كُنه أمرِه ووجوب اتباعِه والإيمانِ به ، عَبَّر عنها بالمصدر مبالغةً ولم يُجمَعْ مراعاةُ للأصل وهي المرادة بالبينات أيضاً والعطفُ لتغايُر العنوان كما في قوله عز وجل : {هُدًى لّلنَّاسِ وبينات} الخ وقيل : المراد بالهدى الأدلةُ العقلية ويأباه الإنزالُ والكتم. أ هـ
{تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 182}
وقال ابن عرفة : والبينات إما الأدلة ، والهدى نتائجها ، أو العكس. ويحتمل أن يكون البينات هو الأدلة الشرعية السمعية والهدى الدليل العقلي أو العكس.
قال ابن عرفة : وقع هذا الوعيد في هذه الآية مشوبا بالرجاء لقوله : {تَكْتُمُونَ} بلفظ المستقبل ولم يقل كتموا بالماضي (تنبيها على أن ما وقع منهم قبل ذلك معفو عنه لا يتناوله هذا الوعيد). ثم أكد هذا الرجاء برجاء آخر وهو أن الكتم الصادر منهم في المستقبل إنما يعاقبون عليه مع الإصرار عليه والمداومة لقوله :
{إِلاَّ الذين تَابُواْ}.
قال ابن عرفة : وكرر لفظ {يَلعَنُهُمُ} لوجهين : إما تشريفا لله بذكره وحده إشعارا بالتفاوت الذي بينه وبين (اللاّعنين) ، وإما تنبيها على أن لعنة الله تعالى أشد من لعنة (اللاّعنين) فهو إما للتفاوت بين اللّعنين ، وهذا كما قال ابن التلمساني في المسألة الثامنة من الباب الأول في حديث الخطيب القائل : " من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعصهما فقد غوى ". وتقدم جواب القرافي وعز الدين بن عبد السلام فيه.(2/370)
قال ابن عرفة : وفي الآية عندهم حجة (للعمل) بالإجماع السّكوتي لأن المجتهد إذا بلغه مذهب غيره في المسألة النازلة فإمّا أن يظهر له موافقته أو مخالفته فإن وافقه فهو المطلوب ، وإن ظهر له مخالفته وسكت بطل العمل بقوله لأنه عاص (في كتمه) العلم.
فإن قلت : تبقى منهم ثالث وهو أن لايظهر (له) في الحال موافقة ولا مخافة.
قلنا : لا يكون إذ ذاك مجتهدا. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 199}
فائدة
ما قيل في أحبار اليهود يقال مثله في علماء السوء من هذه الأمة ، الذين ملكتهم جيفة الدنيا ، وأسرهم الهوى ، الذين يقبضون الرّشَا على الأحكام ، فيكتمون المشهور الواضح ، ويحكمون بشهوة أنفسهم ، فأولئك يلعنهم اللاعنون ، وفي ذلك يقول ابن المبارك - رحمه الله - :
وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملوكُ... وأحْبَارُ سُوءٍ ورُهْبَانُهَا
وباعُوا النفوسَ ولم يَرْبَحُوا... ولم تغْلُ في البَيْع أثْمَانُهَا
لقدْ رتعَ القومُ في جِيفَةٍ... يَبِينُ لذِي العَقْلِ إنْتَانُهَا
وكان يحيى بن معاذ الرازي رضي الله عنه يقول لعلماء وقته : (يا معْشرَ العلماء ، ديارُكم هَامَانيَّة ، وملابِسُكُم قَارُونية ، ومَرَاكِبُكُم فرعونية وولائمُكُمْ جالوتية ، فأين السنّةُ المحمدية ؟ ). إلا مَن تاب وأصلح ما أفسد ، وبيَّن ما كتم ، فأولئك يتوب الله عليهم. أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 126}
كلام نفيس للإمام الجصاص فى هذا الموضع
بَابٌ فِي النَّهْيِ عَنْ كِتْمَانِ الْعِلْمِ قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} الْآيَةَ.(2/371)
وَقَالَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ : {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا} الْآيَةَ وَقَالَ : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} هَذِهِ الْآيُ كُلُّهَا مُوجِبَةٌ لِإِظْهَارِ عُلُومِ الدِّينِ وَتَبْيِينِهِ لِلنَّاسِ زَاجِرَةٌ عَنْ كِتْمَانِهَا ، وَمِنْ حَيْثُ دَلَّتْ عَلَى لُزُومِ بَيَانِ الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ فَهِيَ مُوجِبَةٌ أَيْضًا لِبَيَانِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ مِنْهُ ، وَتَرْكِ كِتْمَانِهِ لِقَوْلِهِ تَعَالَى : {يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} وَذَلِكَ يَشْتَمِلُ عَلَى سَائِرِ أَحْكَامِ اللَّهِ فِي الْمَنْصُوصِ عَلَيْهِ وَالْمُسْتَنْبَطِ لِشُمُولِ اسْمِ الْهُدَى لِلْجَمِيعِ.
وقَوْله تَعَالَى : {يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ الْكِتَابِ} يَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ لَا فَرْقَ فِي ذَلِكَ بَيْنَ مَا عُلِمَ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ أَوْ الدَّلِيلِ ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ الدَّلَالَةَ عَلَى أَحْكَامِ اللَّهِ تَعَالَى كَمَا فِيهِ النَّصُّ عَلَيْهَا.
وَكَذَلِكَ قَوْله تَعَالَى : {لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ} عَامٌّ فِي الْجَمِيعِ.
وَكَذَلِكَ مَا عُلِمَ مِنْ طُرُقِ إخْبَارِ الرَّسُولِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ انْطَوَتْ تَحْتَ الْآيَةِ ؛ لِأَنَّ فِي الْكِتَابِ الدَّلَالَةَ عَلَى قَبُولِ أَخْبَارِ الْآحَادِ عَنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ فَكُلُّ مَا اقْتَضَى الْكِتَابُ إيجَابَ حُكْمِهِ مِنْ جِهَةِ النَّصِّ أَوْ الدَّلَالَةِ فَقَدْ تَنَاوَلَتْهُ الْآيَةُ.(2/372)
وَلِذَلِكَ قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : " لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَدَّثْتُكُمْ " ثُمَّ تَلَا : {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى} فَأَخْبَرَ أَنَّ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ تَعَالَى وَقَالَ شُعْبَةُ عَنْ قَتَادَةَ فِي قَوْله تَعَالَى : {وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ} الْآيَةَ : " فَهَذَا مِيثَاقٌ أَخَذَهُ اللَّهُ عَلَى أَهْلِ الْعِلْمِ ، فَمَنْ عَلِمَ عِلْمًا فَلْيُعَلِّمْهُ ، وَإِيَّاكُمْ وَكِتْمَانَ الْعِلْمِ فَإِنَّ كِتْمَانَهُ هَلَكَةٌ ".
وَنَظِيرُهُ فِي بَيَانِ الْعِلْمِ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ ذِكْرُ الْوَعِيدِ لِكَاتِمِهِ قَوْله تَعَالَى : {فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إذَا رَجَعُوا إلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} وَقَدْ رَوَى حَجَّاجٌ ، عَنْ عَطَاءٍ ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ ، عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {مَنْ كَتَمَ عِلْمًا يَعْلَمُهُ جَاءَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مُلْجَمًا بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ} فَإِنْ قِيلَ : رُوِيَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي شَأْنِ الْيَهُودِ حِينَ كَتَمُوا مَا فِي كُتُبِهِمْ مِنْ صِفَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قِيلَ لَهُ : نُزُولُ الْآيَةِ عَلَى سَبَبٍ غَيْرِ مَانِعٍ مِنْ اعْتِبَارِ عُمُومِهَا فِي سَائِرِ مَا انْتَظَمَتْهُ ؛ لِأَنَّ الْحُكْمَ عِنْدَنَا لِلَّفْظِ لَا لِلسَّبَبِ ، إلَّا أَنْ تَقُومَ الدَّلَالَةُ عِنْدَنَا عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَارِ بِهِ عَلَى سَبَبِهِ. أ هـ
{أحكام القرآن ـ للجصاص حـ 1 صـ123ـ 124}(2/373)
وقال ابن العربى :
اسْتَدَلَّ بِهَا عُلَمَاؤُنَا عَلَى وُجُوبِ تَبْلِيغِ الْحَقِّ وَبَيَانِ الْعِلْمِ عَلَى الْجُمْلَةِ.
وَلِلْآيَةِ تَحْقِيقٌ هُوَ أَنَّ الْعَالِمَ إذَا قَصَدَ الْكِتْمَانَ عَصَى ، وَإِذَا لَمْ يَقْصِدْهُ لَمْ يَلْزَمْهُ التَّبْلِيغُ إذَا عَرَفَ أَنَّ مَعَهُ غَيْرَهُ.
قَالَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ : لَأُحَدِّثَنَّكُمْ حَدِيثًا لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا حَدَّثْتُكُمُوهُ : قَالَ عُرْوَةُ : الْآيَةَ {إنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنْ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ} قَالَ أَبُو هُرَيْرَةَ : إنَّ النَّاسَ يَقُولُونَ أَكْثَرَ أَبُو هُرَيْرَةَ ، وَاَللَّهِ لَوْلَا آيَةٌ فِي كِتَابِ اللَّهِ مَا حَدَّثْتُ شَيْئًا ، ثُمَّ تَلَا هَذِهِ الْآيَةَ ، وَكَانَ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا لَا يُحَدِّثَانِ بِكُلِّ مَا سَمِعَا مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إلَّا عِنْدَ الْحَاجَةِ إلَيْهِ.
وَكَانَ الزُّبَيْرُ أَقَلَّهُمْ حَدِيثًا مَخَافَةَ أَنْ يُوَاقِعَ الْكَذِبَ ؛ وَلَكِنَّهُمْ رَأَوْا أَنَّ الْعِلْمَ عَمَّ جَمِيعَهُمْ فَسَيُبَلِّغُ وَاحِدٌ إنْ تَرَكَ آخَرُ.(2/374)
فَإِنْ قِيلَ : فَالتَّبْلِيغُ فَضِيلَةٌ أَوْ فَرْضٌ ، فَإِنْ كَانَ فَرْضًا فَكَيْفَ قَصَّرَ فِيهِ هَؤُلَاءِ الْجِلَّةُ كَأَبِي بَكْرٍ ، وَعُمَرَ ، وَالزُّبَيْرِ ، وَأَمْثَالِهِمْ ، وَإِنْ كَانَ فَضِيلَةً فَلِمَ قَعَدُوا عَنْهَا ؟ فَالْجَوَابُ : أَنَّ مَنْ سُئِلَ فَقَدْ وَجَبَ عَلَيْهِ التَّبْلِيغُ لِهَذِهِ الْآيَةِ ؛ وَلِمَا رَوَى أَبُو هُرَيْرَةَ وَعَمْرُو بْنُ الْعَاصِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {مَنْ سُئِلَ عَنْ عِلْمٍ فَكَتَمَهُ أُلْجِمَ بِلِجَامٍ مِنْ نَارٍ} وَأَمَّا مَنْ لَمْ يُسْأَلْ فَلَا يَلْزَمُهُ التَّبْلِيغُ إلَّا فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ.
وَقَدْ قَالَ سَحْنُونٌ : إنَّ حَدِيثَ أَبِي هُرَيْرَةَ وَعَمْرٍو هَذَا إنَّمَا جَاءَ فِي الشَّهَادَةِ.
وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مَا أَشَرْنَا إلَيْهِ مِنْ أَنَّهُ إنْ كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُبَلِّغُ اُكْتُفِيَ بِهِ ، وَإِنْ تَعَيَّنَ عَلَيْهِ لَزِمَهُ ، وَسَكَتَ الْخُلَفَاءُ عَنْ الْإِشَارَةِ بِالتَّبْلِيغِ ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي الْمَنْصِبِ مَنْ يَرُدُّ مَا يَسْمَعُ أَوْ يُمْضِيهِ مَعَ عِلْمِهِمْ بِعُمُومِ التَّبْلِيغِ فِيهِ ، حَتَّى إنَّ عُمَرَ كَرِهَ كَثْرَةَ التَّبْلِيغِ ، وَسَجَنَ مَنْ كَانَ يُكْثِرُ الْحَدِيثَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ؛ وَقَدْ بَيَّنَّا تَحْقِيقَهُ فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ.
وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي فَضِيلَةِ التَّبْلِيغِ أَنَّهُ قَالَ : {نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مَقَالَتِي فَوَعَاهَا فَأَدَّاهَا كَمَا سَمِعَهَا}.
وَاَللَّهُ أَعْلَمُ. أ هـ {أحكام القرآن ـ لابن العربى حـ 1 صـ 73}(2/375)
قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ}
سؤال : لم أسقط فاء السبب فى كلمة {أولئك}
ولما كان المضارع دالاً على التجديد المستمر وكان الإصرار المتصل بالموت دالاً على سوء الجبلة أسقط فاء السبب إشارة إلى استحقاقهم للخزي في نفس الأمر من غير نظر إلى سبب فقال : {أولئك} أي البعداء البغضاء {يلعنهم الله} أي يطردهم الملك الأعظم طرد خزي وذل {ويلعنهم اللاعنون} أي كل من يصح منه لعن ؛ أي هم متهيؤن لذلك ثم يقع لهم ذلك بالفعل عند كشف الغطاء.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 289}
سؤال : لم وسط اسم الإشارة {أولئك} بين اسم {إنَّ} وخبرها ؟ ولم عبر باسم الإشارة البعيد ؟
الجواب : وقوله : {أولئك} إشارة إلى {الذين يكتمون} وسط اسم الإشارة بين اسم {إنَّ} وخبرها للتنبيه على أن الحكم الوارد بعد ذلك قد صاروا أحرياء به لأجل تلك الصفات التي ذكرت قبله بحيث إن تلك الصفات جعلتهم كالمشاهدين للسامع فأشير إليهم وهو في الحقيقة إشارة إلى أوصافهم ، فمن أجل ذلك أفادت الإشارة التنبيه على أن تلك الأوصاف هي سبب الحكم وهو إيماء للعلة على حد : {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة : 5].
واختير اسم إشارة البعيد ليكون أبعث للسامع على التأمل منهم والالتفات إليهم أو لأن اسم الإشارة بهذه الصيغة هو الأكثر استعمالاً في كلامهم.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 67}
قوله تعالى : {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون}
قال قتادة والربيع : المراد بـ "اللاعنون" الملائكة والمؤمنون.
قال ابن عطية : وهذا واضح جارٍ على مقتضى الكلام.
وقال مجاهد وعكرمة : هم الحشرات والبهائم يصيبهم الجدْب بذنوب علماء السوء الكاتمين فيلعنونهم.(2/376)
قال الزجاج : والصواب قول من قال : "اللاعنون" الملائكة والمؤمنون ؛ فأما أن يكون ذلك لدواب الأرض فلا يوقف على حقيقته إلا بنص أو خبر لازم ولم نجد من ذَيْنِك شيئاً.
قلت : قد جاء بذلك خبر رواه بن عازب رضي الله عنه قال : " قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ في قوله تعالى : {يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} قال. "دواب الأرض" " أخرجه ابن ماجه عن محمد بن الصباح أنبأنا عمار بن محمد عن ليث عن أبي المِنْهال عن زاذان عن البراء ؛ إسناد حسن.
فإن قيل : كيفَ جَمعَ مَن لا يعقل جَمع مَن يعقل ؟ .
قيل : لأنه أسند إليهم فعل من يعقل ؛ كما قال {رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف : 4] ولم يقل ساجدات ، وقد قال : {لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} [فصلت : 24] ، وقال : {وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ} [الأعراف : 198] ، ومثله كثير ، وسيأتي إن شاء الله تعالى. وقال البراء بن عازب وابن عباس : "اللاعنون" كل المخلوقات ما عدا الثقلين : الجن والإنس ؛ وذلك أن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " الكافر إذا ضُرب في قبره فصاح سمعه الكل إلا الثَّقَلَين ولعنه كل سامع " وقال ابن مسعود والسُّدي : هو الرجل يلعن صاحبه فترتفع اللعنة إلى السماء ثم تنحدر فلا تجد صاحبها الذي قيلت فيه أهلاً لذلك ، فترجع إلى الذي تكلم بها فلا تجده أهلاً فتنطلق فتقع على اليهود الذين كتموا ما أنزل الله تعالى ؛ فهو قوله : {وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} فمن مات منهم ارتفعت اللعنة عنه فكانت فيمن بقي من اليهود.أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 187}
سؤال : ما سر الالتفات إلى الغيبة ؟
الجواب : والالتفات إلى الغيبة بإظهار اسم الذات لتربية المهابة والإشعار بأن مبدأ صدور اللعن صفة الجلال المغايرة لما هو مبدأ الإنزال والتبيين من صفة الجمال. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 27}(2/377)
فوائد وفرائد نفيسة
قال العلامة الطاهر ابن عاشور :
واللعن الإبعاد عن الرحمة مع إذلال وغضب ، وأثره يظهر في الآخرة بالحرمان من الجنة وبالعذاب في جهنم ، وأما لعن الناس إياهم فهو الدعاء منهم بأن يبعدهم الله عن رحمته على الوجه المذكور ، واختير الفعل المضارع للدلالة على التجدد مع العلم بأنه لعنهم أيضاً فيما مضى إذ كل سامع يعلم أنه لا وجه لتخصيص لعنهم بالزمن المستقبل. وكذلك القول في قوله : {ويلعنهم اللاعنون} ، وكرر فعل {يلعنهم} مع إغناء حرف العطف عن تكريره لاختلاف معنى اللعنين فإن اللعن من الله الإبعاد عن الرحمة واللعن من البشر الدعاء عليهم عكس ما وقع في {إن الله وملائكته يصلون} [الأحزاب : 56] لأن التحقيق أن صلاة الله والملائكة واحدة وهي الذكر الحسن.
والتعريف في : {اللاعنون} للاستغراق وهو استغراق عرفي أي يلعنهم كل لاعن ، والمراد باللاعنين المتدينون الذين ينكرون المنكر وأصحابَه ويغضبون لله تعالى ويطلعون على كتمان هؤلاء فهم يلعنونهم بالتعيين وإن لم يطلعوا على تعيينهم فهم يلعنونهم بالعنوان العام أي حين يلعنون كل من كتم آيات الكتاب حين يتلون التوراة. 6 ولقد أخذ الله الميثاق على بني إسرائيل أن يبينوا التوراة ولا يخفوها كما قال : {وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه} [آل عمران : 187].(2/378)
وقد جاء ذكر اللعنة على إضاعة عهد الله في التوراة مرات وأشهرها العهد الذي أخذه موسى على بني إسرائيل في (حوريب) حسبما جاء في سفر الخروج في الإصحاح الرابع والعشرين ، والعهد الذي أخذه عليهم في (مؤاب) وهو الذي فيه اللعنة على من تركه وهو في سفر التثنية في الإصحاح الثامن والعشرين والإصحاح التاسع والعشرين ومنه : "أنتم واقفون اليوم جميعكم أما الرب إلهكم... لكي تدخلوا في عهد الرب وقسمه لئلا يكون فيكم اليوم منصرف عن الرب... فيكون متى يسمع كلام هذه اللعنة يتبرك في قلبه... حينئذٍ يحل غضب الرب وغيرته على ذلك الرجل فتحل عليه كل اللعنات المكتوبة في هذا الكتاب ويمحو الرب اسمه من تحت السماء ويفرزه الرب للشر من جميع أسباط إسرائيل حسب جميع لعنات العهد المكتوبة في كتاب الشريعة هذا... لنعمل بجميع كلمات هذه الشريعة". وفي الإصحاح الثلاثين : "ومتى أتت عليك هذه الأمور البركة واللعنة جعلتهما قدامك" وفيه : "أشهد عليكم اليوم السماء والأرض قد جعلت قدامك الحياة والموت ، البركة واللعنة".
فقوله تعالى : {ويلعنهم اللاعنون} تذكير لهم باللعنة المسطورة في التوراة فإن التوراة متلوة دائماً بينهم فكلما قرأ القارئون هذا الكلام تجددت لعنة المقصودين به ، والذين كتموا ما أنزل من البينات والهدى هم أيضاً يقرأون التوراة فإذا قرأوا لعنة الكاتمين فقد لعنوا أنفسهم بألسنتهم فأما الذين يلعنون المجرمين والظالمين غير الكاتمين ما أنزل من البينات والهدى فهم غير مشمولين في هذا العموم وبذلك كان الاستغراق المستفاد من تعريف اللاعنون باللام استغراقاً عرفياً(2/379)
واعلم أن لام الاستغراق العرفي واسطة بين لام الحقيقة ولام الاستغراق الحقيقي. وإنما عدل إلى التعريف مع أنه كالنكرة مبالغة في تحققه حتى كأنه صار معروفاً لأن المنكَّر مجهول ، أو يكون التعريف للعهد أي يلعنهم الذين لعنوهم من الأنبياء الذين أوصوا بإعلان العهد وأن لا يكتموه.
ولما كان في صلة {الذين يكتمون} إيماء كما قدمناه فكل من يفعل فعلاً من قبيل مضمون الصلة من غير أولئك يكون حقيقاً بما تضمنه اسم الإشارة وخبره فإن من مقاصد القرآن في ذكر القصص الماضية أن يعتبر بها المسلمون في الخير والشر ، وعن ابن عباس أن كل ما ذمّ الله أهلَ الكتاب عليه فالمسلمون محذَّرون من مثله ، ولذا قال أبو هريرة لما قال الناسُ أكثر أبو هريرة من الرواية عن رسول الله فقال : لولا آية في كتاب الله ما حدثتكم حديثاً بعد أن قال الناس أكثر أبو هريرة : {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} الآية وساق الحديث.(2/380)
فالعالم يحرم عليه أن يكتم من علمه ما فيه هُدى للناس لأن كتم الهدى إيقاع في الضلالة سواء في ذلك العلم الذي بلغ إليه بطريق الخبر كالقرآن والسنة الصحيحة والعلم الذي يحصل عن نظر كالاجتهادات إذا بلغت مبلغ غلبة الظن بأن فيها خيراً للمسلمين ، ويحرم عليه بطريق القياس الذي تومىء إليه العلة أن يبث في الناس ما يوقعهم في أوهام بأن يُلقنها وهو لا يحسن تنزيلها ولا تأويلها ، فقد قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ " حدثوا الناس بما يفْهمون أتحبُّون أنْ يكذَّب اللَّهُ ورسولهُ " وكذلك كل ما يعلم أن الناس لا يحسنون وضعَه. وفي "صحيح البخاري" أن الحجَّاج قال لأنس بن مالك حدثني بأشد عقوبة عاقبها النبي فذكر له أنس حديث العرنيين الذين قتلوا الراعي واستاقوا الذود فقطع النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ أيديهم وأرجلهم وسمل أعينهم وتركهم في الحرة يستقون فلا يسقون حتى ماتوا ، فلما بلغ ذلك الحسن البصري قال وددت أنه لم يحدثه ، أو يتلفقون من ظاهره ما يوافق هواهم فيجعلونه معذرة لهم فيما يعاملون به الناس من الظلم ، قال ابن عرفة في "التفسير" : لا يحل للعالم أن يذكر للظالم تأويلاً أو رخصة يتمادى منها إلى المفسدة كمن يذكر للظالم ما قال الغزالي في "الإحياء" من أن بيت المال إذا ضعف واضطر السلطان إلى ما يجهز به جيوش المسلمين لدفع الضرر عنهم فلا بأس أن يوظف على الناس العشر أو غيره لإقامة الجيش وسد الخلة ، قال ابن عرفة وذكر هذه المظلمة مما يحدث ضرراً فادحاً في الناس. وقد سأل سلطان قرطبة عبد الرحمن بن معاوية الداخل يحيى بن يحيى الليثي عن يوم أفطره في رمضان عامداً غلبته الشهوة على قربان بعض جواريه فيه فأفتاه بأنه يصوم ستين يوماً والفقهاء حاضرون ما اجترأوا على مخالفة يحيى فلما خرجوا سألوه لِمَ خصصته بأحد المخيرات فقال لو فتحنا له هذا الباب لوطىء كل يوم وأعتق أو أطعم فحملته على الأصعب لئلا يعود.(2/381)
قلت فهو في كتمه عنه الكفارتين المخير فيهما قد أعمل دليل دفع مفسدة الجرأة على حُرمة فريضة الصوم.
فالعالم إذا عين بشخصه لأن يبلغ علماً أو يبين شرعاً وجب عليه بيانه مثل الذين بعثهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لإبلاغ كتبه أو لدعوة قومهم ، وإن لم يكن معيناً بشخصه فهو لا يخلو إما أن يكون ما يعلمه قد احتاجت الأمة إلى معرفته منه خاصة بحيث يتفرد بعلمه في صقع أو بلد حتى يتعذر على أناس طلب ذلك من غيره أو يتعسر بحيث إن لم يعلمها إياه ضلت مثل التوحيد وأصول الاعتقاد ، فهذا يجب عليه بيانه وجوباً متعيناً عليه إن انفرد به في عصر أو بلد ، أو كان هو أتقن للعلم فقد روى الترمذي وابن ماجه عن أبي سعيد أن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال له : "إن الناس لكم تبع وإن رجالاً يأتونكم يتفهمون أو يتعلمون فإذا جاءوكم فاستوصوا بهم خيراً".(2/382)
وإن شاركه فيه غيره من أمثاله كان وجوبه على جميع الذين يعلمون ذلك على الكفاية ، وإما أن يكون ما يعلمه من تفاصيل الأحكام وفوائدها التي تنفع الناس أو طائفة منهم ، فإنما يجب عليه عيناً أو كفاية على الوجهين المتقدمين أن يبين ما دعت الحاجة إلى بيانه ، ومما يعد قد دعت الحاجة إلى بيانه أن تعين له طائفة من الناس ليعلمهم فحينئذٍ يجب عليه أن يعلمهم ما يرى أن في علمهم به منفعة لهم وقدرة على فهمه وحسن وضعه ، ولذلك وجب على العالم إذا جلس إليه الناس للتعلم أن يلقي إليهم من العلم ما لهم مقدرة على تلقيه وإدراكه ، فظهر بهذا أن الكتمان مراتب كثيرة وأن أعلاها ما تضمنته هذه الآية ، وبقية المراتب تؤخذ بالمقايسة ، وهذا يجيء أيضاً في جواب العالم عما يلقى إليه من المسائل فإن كان قد انفرد بذلك أو كان قد عين للجواب مثل من يعين للفتوى في بعض الأقطار فعليه بيانه إذا علم احتياج السائل ويجيء في انفراده بالعلم أو تعيينه للجواب وفي عدم انفراده الوجهان السابقان في الوجوب العيني والوجوب الكفائي. وفي غير هذا فهو في خيرة أو يجيب أو يترك. وبهذا يكون تأويل الحديث الذي رواه أصحاب "السنن الأربعة" أن(2/383)
النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " من سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجام من نار يوم القيامة " فخصص عمومه في الأشخاص والأحوال بتخصيصات دلت عليها الأدلة قد أشرنا إلى جماعها.
وذكر القرطبي عن سحنون أن الحديث وارد في كتمان الشاهد بحق شهادته.
والعهدة في وضع العالم نفسه في المنزلة اللائقة به من هذه المنازل المذكورة على ما يأنسه من نفسه في ذلك وما يستبرىء به لدينه وعرضه.
والعهدة في معرفة أحوال الطالبين والسائلين عليه ليجريها على ما يتعين إجراؤها عليه من الصور على ما يتوسمه من أحوالهم والأحوال المحيطة بهم ، فإن أشكل عليه الأمر في حال نفسه أو حال سائله فليستشر أهل العلم والرأي في الدين.
ويجب أن لا يغفل عن حكمة العطف في قوله تعالى : {والهدى} حتى يكون ذلك ضابطاً لما يفضي إليه كتمان ما يكتم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 68 ـ 71}
وقال الإمام القرطبى ـ رحمه الله ـ : (2/384)
وتحقيق الآية هو : أن العالم إذا قصد كتمان العلم عصى ، وإذا لم يقصده لم يلزمه التبليغ إذا عرف أنه مع غيره. وأمّا من سُئل فقد وجب عليه التبليغ لهذه الآية وللحديث. أما أنه لا يجوز تعليم الكافر القرآن والعلم حتى يُسلم ، وكذلك لا يجوز تعليم المبتدع الجدال والحِجاج ليجادل به أهل الحق ، ولا يُعلم الخصم على خصمه حجة يقطع بها ماله ، ولا السلطان تأويلاً يتطرّق به إلى مكاره الرعية ، ولا ينشر الرُّخص في السفهاء فيجعلوا ذلك طريقاً إلى ارتكاب المحظورات ، وترك الواجبات ونحو ذلك. يُرْوَى عن النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : " لا تمنعوا الحكمة أهلها فتظلموهم ولا تضعوها في غير أهلها فتظلموها " وروي عنه ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه قال : " لا تعلّقوا الدُّرّ في أعناق الخنازير " يريد تعليم الفقه من ليس من أهله. وقد قال سُحْنون : إن حديث أبي هريرة وعمرو بن العاص إنما جاء في الشهادة. قال ابن العربي : والصحيح خلافه ؛ لأن في الحديث " مَن سُئل عن علم " ولم يقل عن شهادة ، والبقاء على الظاهر حتى يرد عليه ما يزيله ؛ والله أعلم.
الثالثة : قوله تعالى : {مِنَ البينات والهدى} يعمّ المنصوص عليه والمستنبط ؛ لشمول اسم الهُدَى للجميع.
وفيه دليل على وجوب العمل بقول الواحد ؛ لأنه لا يجب عليه البيان إلا وقد وجب قبول قوله ، وقال : {إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ} [البقرة : 160] فحكم بوقوع البيان بخبرهم.
فإن قيل : إنه يجوز أن يكون كل واحد منهم منهيًّا عن الكتمان ومأموراً بالبيان ليكثر المخبرون ويتواتر بهم الخبر. قلنا : هذا غلط ؛ لأنهم لم ينهوا عن الكتمان إلا وهم ممن يجوز عليهم التواطؤ عليه ، ومن جاز منهم التواطؤ على الكتمان فلا يكون خبرهم موجباً للعلم ؛ والله تعالى أعلم.(2/385)
الرابعة : لما قال : {مِنَ البينات والهدى} دلّ على أن ما كان من غير ذلك جائز كَتْمه ، لاسيما إن كان مع ذلك خوف فإن ذلك آكد في الكتمان. وقد ترك أبو هريرة ذلك حين خاف فقال : حفِظت عن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ وِعاءَيْن ؛ فأما أحدهما فبثثته ، وأما الآخر فلو بثثته قُطع هذا البُلْعوم. أخرجه البخاري. قال أبو عبد اللَّه : البلعوم مجرى الطعام. قال علماؤنا : وهذا الذي لم يبثّه أبو هريرة وخاف على نفسه فيه الفتنة أو القتل إنما هو مما يتعلق بأمر الفتن والنص على أعيان المرتدين والمنافقين ، ونحو هذا مما لا يتعلّق بالبينات والهدى ؛ والله تعالى أعلم. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 186}
سؤال : فإنْ قيل : كيْفَ يلْعَنُهُ النَّاس أَجْمَعُونَ ، وأهْلُ [دينِهِ لا يلْعَنُونَه] ؟ .
فجوابُهُ منْ وجُوهٍ :
أحدها : أَنَّ أهل دينه يلْعَنُونه فِي الآخرة ؛ لقوله تعالى : {ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت : 25] قال أبو العَالِيَةِ : " يُوقَفُ الكافِرُ يَوْمَ القيامةِ ، فيلْعَنُهُ اللَّهُ ، ثم تَلْعَنُهُ الملائكةُ ، ثم تلْعَنُهُ النَّاسُ ".
وثانيها : قال قَتَادَةُ ، والرَّبِيع : أَرَادَ بالنَّاس أجْمَعِين المؤمِنِينَ ؛ كأنه لَمْ يَعْتَدَّ بغَيْرهم ، وحَكَم بأنَّ المؤمنين هُمُ النَّاس لا غَيْرُ.
وثالثها : أنَّ كُلَّ أحَدٍ يَلْعَنُ الجاهلَ ، والظالم ؛ لأنَّ قُبْحَ ذلك مُقَرَّرٌ في العُقُول فإذا كان في نَفسه [هو جاهلاً ، أو ظالماً ، وإنْ كَانَ لا يعلَمُ هو مِن نَفْسه كوْنَهُ كَذَلِكَ] كانَتْ لعنتُهُ على الجَاهِلِ والظَّالم تتناوَلُ نَفْسَهُ.
ورابعها : أَنَّ يُحْمَل وُقُوعُ اللَّعْنَة عَلَى اسْتحْقَاق اللَّعْنِ ، وحينئذ يَعُمُّ ذلك. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 110}
سؤال : لم قال : " اللاَّعِنُونَ " ، ولم يقل " اللاعِنَات " ؟ (2/386)
وقال : " اللاَّعِنُونَ " ، ولم يقل " اللاعِنَات " ؛ لأنَّه تعالَى وصَفَها بصفةِ مَنْ يعقلُ ، فجمعَها جَمْعَ مَنْ يعقلُ ؛ كقوله تعالى : {والشمس والقمر رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ} [يوسف : 4] و{ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ} [النمل : 18] {وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا} [فصلت : 21].
و {وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ} [يس : 40] وقيل : " كُلُّ شيْءٍ إِلاَّ الإنْسَ والجِنَّ " قاله ابنُ عَبَّاس. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 107}
سؤال : فإن قيل : كَيْفَ يصحُّ اللعْنُ من البهائِمِ ، والجَمَادَاتِ ؟
فالجواب مِنْ وجْهين :
الأول : على سبيلِ المُبَالغَةَ ، وهي أنَّها لو كانت [عاقلةً] ، لكانَتْ تَلْعَنُهُمْ.أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 107 ـ 108}
فصل فيما يتعلق بهذه الآية من الحكم
قال العلماء : لا يجوز لعن كافر معين لأن حاله عند الوفاة لا يعلم فلعله يموت على الإسلام وقد شرط الله في هذه الآية إطلاق اللعنة على من مات على الكفر ويجوز لعن الكفار يدل عليه قوله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها " وذهب بعضهم إلى جواز لعن إنساناً معين من الكفار ، بدليل جواز قتاله وأما العصاة من المؤمنين فلا يجوز لعنة أحد منهم على التعين وأما على الإطلاق فيجوز لما روي أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ قال : " لعن الله السارق يسرق البيضة والحبل فتقطع يده " ولعن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ الواشمة والمستوشمة وآكل الربا ومؤكله ولعن من غير منار الأرض ، ومن انتسب لغير أبيه وكل هذه في الصحيح. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 98}(2/387)
وقال أبو بَكْرٍ الرَّازِيُّ - رَضِيَ اللَّه عنه - : الآيَةُ الكريمة تدلُّ على أنَّ للمسلِمِين لعن مَنْ مات كَافِراً ، وَأَنَّ زوالَ التكْليف عَنْه بالمَوْتِ لا يُسْقِطُ عَنْه اللَّعْنة ؟ لأنَّ قوله تعالى : " وَالنَّاس أَجْمَعِينَ " أمرٌ لَنَا بلَعْنِهِ بَعْدَ مَوته ؛ وَهَذَا يدلُّ على أنَّ الكافر ، لَوْ جُنَّ ، لم يَكُنْ زَوَالُ التَّكْلِيفِ عَنْه مُسْقِطاً اللَّعْنةَ والبَرَاءة منْهُ ، وكذلك السَّبيلُ فيما يُوجِبُ المَدْحَ والموالاَةَ مِنَ الإِيمَان والصَّلاح ، فَمَوْتُ مَنْ كان كذلك أو [جنونُهُ لا يغيِّر] حكْمَهُ عَمَّا كان علَيْه قَبْلَ حُدُوث الحَالِ به. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 110 ـ 111}
فصل في هل يجوز لعن الكافر المعين
قال ابْنُ الْعَرَبيِّ : قَالَ لِي كثيرُ مِنْ أشْيَاخِي : إنَّ الكافرَ المُعَيَّن لا يجوزُ لَعْنُهُ ؛ لأنَّ حاله عنْد المُوَافَاةِ لا تُعْلَمُ ، وقَدْ شَرَط اللَّه تعالى في هذه الآية الكريمة في إطْلاَقِ اللَّعْنَةِ : المُوافَاةَ عَلَى الكُفْر.
وأمَّا ما رُويَ عَنِ النبيِّ - ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعَلَى آلِهِ وسلَّم ، وشَرَّفَ وكَرَّمَ ، ومَجَّدَ ، وَبَجَّلَ وعَظَّم - أَنَّه لَعَنَ أَقْوَاماً بأعْيَانِهِمْ مِن الكُفَّار ، فَإِنما كان ذَلِكَ ؛ لِعِلْمِهِ بمآلِهِمْ.
قال ابْنُ العَرَبِيِّ : والصحيحُ عنْدِي : جوازُ لَعْنِهِ ؛ لظاهر حَالِهِ ، ولجواز قَتْله وقتَالِهِ.(2/388)
وقد رُويَ عَنِ النبيِّ - ـ صلى الله عليه وسلم ـ وعَلَى آلِهِ وسلَّم ، وشَرَّفَ وكَرَّمَ ، ومَجَّدَ ، وَبَجَّلَ وعَظَّم - أنه قال : " اللَّهُمَّ ، إِنَّ عَمْرَو بْنَ الْعَاصِ هَجَانِي ، وَقَدْ عَلِمَ أَنِّي لَسْتُ بشَاعِرٍ ، فَألْعَنْهُ ، وأَهْجُهُ عَدَدَ مَا هَجَانِي " [فَلَعَنَهُ ، وإن كان الإيمانُ والدِّينُ والإسْلاَمُ مَآلَهُ ، وانتصف بقوله " عَدَدَ مَا هَجانِي "] ولم يَزِدْ ؛ لتعليم العَدْلِ والإنصافِ ، وأضَافَ الهَجْوَ إلى اللَّه تعالَى في باب الجَزَاءِ ، دون الابتداءِ بالوَصْف بذلك ؛ كما يضاف إليه المكْرُ والاسْتهْزَاءُ والخَديعةُ ، تعالَى عَنْ ذلك.
قال القُرْطُبِيُّ : أما لَعْنُ الكُفَّار جُمْلَةُ مِنْ غَيْر تَعْيين ، فلا خِلاَفَ ، فيه ؛ لِمَا روَى مَالِكٌ ، عن داوُدَ بْنِ الحُصيْنِ ، أنَّه سَمِعَ الأَعْرَجَ يقُولُ : " مَا أَدْرَكْتُ النَّاسَ إلاَّ وَهُمْ يَلْعَنُونَ الكَفَرَةَ فِي رَمَضانَ ، وَسَواءٌ كَانَتْ لَهْم ذِمَّةٌ أَوْ لَمْ تَكْنْ ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِوَاجِبٍ ، وَلَكِنَّهُ مُبَاحٌ ".{تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 111 ـ 112}
قوله تعالى {إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما بين جزاء الكاتمين استثنى منهم التائبين مبيناً لشرائط التوبة الثلاثة فقال {إلا الذين تابوا} بالندم على ارتكاب الذنب {وأصلحوا} بالعزم على عدم العود {وبينوا} ما كانوا كتموه فظهرت توبتهم بالإقلاع.(2/389)
ولما كان الإنسان يحب ما كان بسبب منه رغبهم في المتاب بعد توبتهم سبباً لتوبته ورحمته وإن كان ذلك كله مَنّاً منه في نفس الأمر فقال معبراً بالفاء : {فأولئك} العالو الرتبة {أتوب عليهم} أي أقبل توبتهم فأحفظهم بما يشعر به مثال الفعل الدائم فيما وفقتهم لابتدائه ، وفي الربط بالفاء إشارة إلى إسراع استنقاذ توبة الله عليهم من نار الخوف والندم رحمة منه لهم برفعهم إلى موطن الإنس ، لأن نار الخوف في الدنيا للمقترف رحمة من عذاب النار تفديه من نار السطوة في الآخرة ، من لم يحترق بنار المجاهدة أحرقته نار الخوف ، فمن لم يحترق بنار الخوف أحرقته نار السطوة - أفاده الحرالي. ولما كان من شأن الإنسان معاودة الذنوب لصفة النسيان ختم الآية بما دل على أن التقدير : فإني أحب التوابين فقال : {وأنا التواب} أي مرة بعد مرة لمن كر على الذنب ثم راجع التوبة كرة إثر كرة {الرحيم} لمن فعل ما يرضيني. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 290}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما بين عظيم الوعيد في الذين يكتمون ما أنزل الله كان يجوز أن يتوهم أن الوعيد يلحقهم على كل حال ، فبين تعالى أنهم إذا تابوا تغير حكمهم ، ودخلوا في أهل الوعد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4صـ 150}
سؤال ما نوع الاستثناء ؟
الجواب : في الاستثناءِ وَجْهَان :
أحدهما : أن يكون متَّصِلاً ، والمُسْتَثْنى منْه هو الضَّميرُ في " يلعنُهم ".
والثاني : أن يكُونَ منقطعاً ؛ لأنَّ الَّذين كَتَمُوا ، لُعِنُوا قَبْل أَنْ يَتُوبُوا. وإنَّما جَاءَ الاستثناءُ ؛ لبَيَانِ قَبْول التَّوْبَةِ ؛ لأنَّ قَوْماً من الكاتِمِينَ لَمْ يُلْعَنُوا ، نقل ذلك أبو البَقَاء.
قال بعضُهُمْ : " ولَيْسَ بشَيْءٍ ". أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 109}(2/390)
وقال الإمام الطاهر ابن عاشور :
وقوله : {إلا الذين تابوا} استثناء من {الذين يكتمون} أي فهم لا تلحقهم اللعنة ، وهو استثناء حقيقي منصوب على تمام الكلام من {الذين يكتمون ما أنزلنا} الخ.
وشُرط للتوبة أن يصلحوا ما كانوا أفسدوا وهو بإظهار ما كتموه وأن يبينوه للناس فلا يكفي اعترافهم وحدهم أو في خلواتهم ، فالتوبة هنا الإيمان بمحمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ فإنه رجوع عن كتمانهم الشهادة له الواردة في كتبهم وإطلاق التوبة على الإيمان بعد الكفر وارد كثيراً لأن الإيمان هو توبة الكافر من كفره ، وإنما زاد بعده {وأصلحوا وبينوا} لأن شرط كل توبة أن يتدارك التائب ما يمكن تداركه مما أضاعه بفعله الذي تاب عنه. ولعل عطف {وبينوا} على {أصلحوا} عطف تفسير.
وقوله : {فأولئك أتوب عليهم} جملة مستأنفة لغير بيان بل لفائدة جديدة لأنه لما استثنى {الذين تابوا} فقد تم الكلام وعلم السامع أن من تابوا من الكاتمين لا يلعنهم الله ولا يلعنهم اللاعنون ، وجيء باسم الإشارة مسند إليه يمثل النكتة التي تقدمت.
وقرنت الجملة بالفاء للدلالة على شيء زائد على مفاد الاستثناء وهو أن توبتهم يعقبها رضى الله عنهم.
وفي "صحيح البحاري" عن ابن مسعود قال رسول الله : " للَّهُ أَفْرَحُ بتوبة عبده من رجل نزل منزلاً وبه مهلكة ومعه راحلته عليها طعامه وشرابه فوضع رأسه فنام نومة فاستيقظ وقد ذهبت راحلته حتى اشتد عليه الحر والعطش أو ما شاء الله ، قال أرجع إلى مكاني فرجع فنام نومة ثم رفع رأسه فإذا راحلته عنده ".
فجاء في الآية نظم بديع تقديره إلاّ الذين تابوا انقطعت عنهم اللعنة فأتوب عليهم ، أي أرضى ، وزاد توسط اسم الإشارة للدلالة على التعليل وهو إيجاز بديع.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2صـ 71 ـ 72}(2/391)
فروق لغوية دقيقة
الفرق بين التوبة والاعتذار
أن التائب مقر بالذنب الذي يتوب منه معترف بعدم عذره فيه ، والمعتذر يذكر أن له في ما أتاه من المكروه عذرا ولو كان الاعتذار التوبة لجاز أن يقال اعتذر إلى الله كما يقال تاب إليه
وأصل العذر إزالة الشيء عن جهته ، اعتذر إلى فلان فعذره أي أزال ما كان في نفسه عليه في الحقيقة أو في الظاهر ، ويقال عذرته عذيرا ولهذا يقال من عذيري من فلان وتأويله من يأتيني عذر منه ومنه قوله تعالى (عذرا أو نذرا) والنذر جمع نذير
الفرق بين الندم والتوبة أن التوبة من الندم وذلك أنك قد تندم على الشيء ولا تعتقد قبحه ولا تكون التوبة من غير قبح فكل توبة ندم وليس كل ندم توبة
الفرق بين الاستغفار والتوبة أن الاستغفار طلب المغفرة بالدعاء والتوبة أو بغيرهما من الطاعة والتوبة الندم على الخطيئة مع العزم على ترك المعاودة فلا يجوز الاسغفار مع الإصرار لأنه مسلبة لله ما ليس من حكمه ومشيئتة ما لا تفعله مما قد نصب الدليل فيه وهو تحكم عليه كما يتحكم المتأمر المتعظم على غيره بأن يأمره بفعل ما أخره أنه لا يفعله. أ هـ {الفروق فى اللغة صـ 200}(2/392)
قوله تعالى {فأولئك أتوب عليهم}
{فأولئك أتوب عليهم} أقبل توبتهم بأن أسقط عنهم تجملاً وأضع مكانه الثواب تفضلاً بدلالة قوله {وأنا التواب الرحيم}
{إن الذين كفروا وماتوا} عام في كل من كان كذلك.
وقيل : مخصوص بهؤلاء الكاتمين. ذكر لعنتهم أحياء ثم لعنتهم أمواتاً إذا لم يتوبوا على هذا القول يكون إطلاق الكفر عليهم - وهم من أصحاب الكبائر - مجازاً تغليظاً ، أو يراد بالكفر جحود الحق وستره. أ هـ
{غرائب القرآن ورغائب الفرقان حـ 1صـ 281}
قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)}
مناسبة الآية لما قبلها
ولما لعن الكاتمين واستثنى منهم التائبين ذكر المصرّين معبراً عن كتمانهم بالكفر لتعم العبارة كل كفر فقال : {إن الذين كفروا} أي بهذا الكتمان وغيره {وماتوا وهم كفار} قال الحرالي : ففي إشعاره يسر توبة الكافرين وعسر توبة المنافقين من حيث صرح بذكر توبة الكاتم وتجاوز في الذكر توبة الكافر ، فكان الذين كفروا يتوبون إلا الأقل والذين يكتمون يتمادون إلا الأقل ، فلذلك وقع الاستثناء في الكاتم والتخصيص من الكافر - انتهى.
{نظم الدرر حـ 1صـ 290}
قال الفخر :
اعلم أن في الآية مسائل :
المسألة الأولى : أن ظاهر قوله تعالى : {إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} عام في حق كل من كان كذلك فلا وجه لتخصيصه ببعض من كان كذلك ، وقال أبو مسلم : يجب حمله على الذين تقدم ذكرهم ، وهم الذين يكتمون الآيات ، واحتج عليه بأنه تعالى لما ذكر حال الذين يكتمون ، ثم ذكر حال التائبين منهم ، ذكر أيضاً حال من يموت منهم من غير توبة ، وأيضاً أنه تعالى لما ذكر أن أولئك الكاتمين ملعونون حال الحياة ، بين في هذه الآية أنهم ملعونون أيضاً بعد الممات.(2/393)
والجواب عنه : أن هذا إنما يصح متى كان الذين يموتون من غير توبة لا يكونون داخلين تحت الآية الأولى ، فأما إذا دخلوا تحت الأولى : استغنى عن ذكرهم فيجب حمل الكلام على أمر مستأنف.
المسألة الثانية ؛ لما ذكر في الكلام أنه إذا مات على كفره صار الوعيد لازماً من غير شرط ولما كان المعلق على الشرط عدماً عند عدم الشرط ؛ علمنا أن الكافر إذا تاب قبل الموت لم يكن حاله كذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4صـ 151}(2/394)
وقال الآلوسى :
{إِن الذين كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ} الموصول للعهد كما هو الأصل ، والمراد به الذين كتموا وعبر عن الكتمان بالكفر نعياً عليهم به ، والجملة عديلة لما فيها (إلا) ولم تعطف عليها إشارة إلى كمال التباين بين الفريقين ، والآية مشتملة على الجمع والتفريق جمع الكاتمين في حكم واحد وهو أنهم ملعونون ثم فرق فقال : أما الذين تابوا فقد تاب الله تعالى عليهم وأزال عنهم عقوبة اللعنة ، وأما الذين ماتوا على الكتمان ولم يتوبوا عنه فقد استقرت عليهم اللعنة ولم تزل عنهم. وأورد كلمة الاستثناء في الجملة الأولى مع أنه ليس للإخراج عن الحكم السابق بل هو بمعنى لكن للدلالة على أن التوبة صارت مكفرة للعن عنهم فكأنهم لم يباشروا ولم يدخلوا تحته قاله بعض المحققين وفيه ارتكاب خلاف الظاهر في الاستثناء ، ولهذا قال البعض إن المراد بالجملة المستثنى منها بيان دوام اللعن واستمراره وعليه يدور الاستثناء المتصل ، وجملة {إِنَّ الذين كَفَرُواْ} الخ مستأنفة سيقت لتحقيق بقاء اللعن فيما وراء الاستثناء وتأكيد دوامه واستمراره على غير التائبين والاقتصار على ذكر الكفر في الصلة من غير تعرض لعدم التوبة والإصلاح والتبيين مبني على أن وجود الكفر مستلزم لعدمها جميعها كما أن وجودها مستلزم للإيمان الموجب لعدم الكفر ، ولذا لم يصرح بالإيمان في صفات التائبين ، والفرق بين الدوامين أن الأول : تجددي ، والثاني : ثبوتي ولا يخفى أن هذا أوفق بظاهر اللفظ وما ذكره بعض المحققين أجزل معنى وأعلى كعباً وأدق نظراً ، وقيل : الموصول عام للذين كتموا وغيرهم كما يقتضيه ظاهر الصلة ، والآية من باب التذييل فيدخل الكاتمون الذين ماتوا على الكتمان دخولاً أولياً ؛ واعترض بأن تقييد الوعيد بعدم التخفيف أعدل شاهد على أن الآية في شأن الكاتمين الذين ماتوا على ذلك لأنهم أشد الكفرة وأخبثهم فإن الوعيد في حق الكفرة مطلق الخلود في النار ، وأنت تعلم أن هذا في(2/395)
حيز المنع بل ما من كافر جهنمي إلا وحاله يوم القيامة طبق ما ذكر في الآية ولا أظنك في مرية من ذلك بعد سماع قوله تعالى : {إِنَّ المجرمين فِى عَذَابِ جَهَنَّمَ خالدون لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ} [الزخرف : 4 7 ، 75] فلا يبعد القول بحسن هذا القيل وإليه ذهب الإمام وكلام الطيبي يشير إلى حسنه وطيبه فتدبر. أ هـ
{روح المعانى حـ 2صـ 28}
وقال ابن عرفة :
قوله تعالى : {إِن الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُواْ...}.
منهم من قال : إنها مؤكدة لما قبلها لقوله {إِلاَّ الذين تَابُوا} فبقيت الآية عامة فيمن كفر ولم يتب يكون داخلا تحت الوعيد وهو مقتضى هذه الآية ، ومنهم من قال : أنها مؤسسة. وقرره بوجهين :
- الأول : أنّ اللّعنة في الأولى مطلقة تحتمل الدّوام والانقطاع وهنا مقيدة بالخلود والدوام.
- الثاني : أن العموم غير المخصوص بشيء أقوى دلالة من عموم خص بشيء ، فلذلك أعيدت هذه الآية. ونحو هذا (لابن رشد) في النكاح الثالث.
قال ابن عرفة : فإن قلت : هلا قيل : ماتوا كفارا. فهو أخص من قوله : {وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ} ؟
قال : وعادتهم يجيبون بوجهين :
الأول : أن هذا فيه فائدة البناء على المضمر ، وقد ذكروا أنه يفيد إما الاختصاص أو مطلق الرّبط ، قاله الزمخشري في {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار} - الثاني : أن الحال قيد في الجملة ، فهو من قسم التصور وقوله : {وَهُمْ كُفَّار} جملة من مسند ومسند إليه ، فيرجع إلى قسم التصديقات ، والتعبير بما هو من قسم التصديق أولى مما هو من قسم التصور لأنه يستلزم التصور (فيدل) على الأمرين.
قيل لابن عرفة : أو يجاب بأنه لو قيل " وماتوا كفارا " لكانت حالا ، والحال من شرطها الانتقال مع أن المراد : من ثبت ودام على كفره فقال : وكذلك " وهم كفار " والواو فيه واو الحال.(2/396)
( قيل لابن عرفة ، كيف عبر بهذا اللّفظ المقتضي للخصوص مع أن من مات كافرا بالإطلاق يناله هذا الوعيد) ؟
فقال : هذا وعيد خاص رتب على فعل خاص انتهى.
قوله تعالى : {أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة...}.
قال ابن عرفة : إن قلت : لم أعيد لفظ الفعل في الآية المتقدمة فقيل : {يَلعَنُهُمُ الله وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون} ولم يعد هنا ، فكرر هناك ما أسند إليه الاسم المعطوف عليه ولم يكرر هنا ، فهلا قيل : أولئك عليهم لعنة الله ولعنة الملائكة ولعنة الناس أجمعين فهو أولى ؟
قال : عادتهم يجيبون بأن الإسناد الأول للفاعل ، وهو واحد بذاته لايتعدد ، لأنه لا فاعل في الحقيقة إلا الله ، والإسناد الثاني إضافي فهو أمر نسبي ، والأمور النسبية الإضافية يمكن فيها التعدد كالوجود بالنسبة إلى القديم والحادث ، فلذلك لم يفد لفظ اللعنة هنا. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 201}
قوله تعالى {والناس أجمعين}
سؤال : لم قال هنا {والناس أجمعين} دون الآية السابقة ؟
الجواب : وإنما قال هنا {والناس أجمعين} لأن المشركين يلعنهم أهل الكتاب وسائر المتدينين الموحدين للخالق بخلاف الذين يكتمون ما أنزل من البينات فإنما يلعنهم الله والصالحون من أهل دينهم كما تقدم وتلعنهم الملائكة ، وعموم (الناس) عرفي أي الذين هم من أهل التوحيد. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ 2صـ 73}
فائدة
الآية تدل على جواز التخصيص مع التوكيد ، لأنه تعالى قال : {والناس أَجْمَعِينَ} مع أنه مخصوص على مذهب من قال : المراد بالناس بعضهم. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4صـ 151}
قوله تعالى {خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)}
{خالدين فِيهَا} أي في اللعنة ، وقيل في النار إلا أنها أضمرت تفخيماً لشأنها وتهويلاً كما في قوله تعالى : {إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر} [القدر : 1] والأول أولى لوجوه.(2/397)
الأول : أن الضمير إذا وجد له مذكور متقدم فرده إليه أولى من رده إلى ما لم يذكر.
الثاني : أن حمل هذا الضمير على اللعنة أكثر فائدة من حمله على النار ، لأن اللعنة هو الإبعاد من الثواب بفعل العقاب في الآخرة وإيجاده في الدنيا فكان اللعن يدخل فيه النار وزيادة فكان حمل اللفظ عليه أولى.
الثالث : أن قوله : {خالدين فِيهَا} إخبار عن الحال ، وفي حمل الضمير على اللعن يكون ذلك حاصلاً في الحال ، وفي حمله على النار لا يكون حاصلاً في الحال ، بل لا بد من التأويل ؛ فكان ذلك أولى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4صـ 152}
قوله : {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} والإنظار هو التأجيل والتأخير قال تعالى : {فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ} [البقرة : 280] والمعنى : إن عذابهم لا يؤجل ، بل يكون حاضراً متصلاً بعذاب مثله فكأنه تعالى أعلمنا أن حكم دار العذاب والثواب بخلاف حكم الدنيا فإنهم يمهلون فيها إلى آجال قدرها الله تعالى ، وفي الآخرة لا مهلة ألبتة فإذا استمهلوا لا يمهلون ، وإذا استغاثوا لا يغاثون وإذا استعتبوا لا يعتبون ، وقيل لهم ؛ {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} [المؤمنون : 108] نعوذ بالله من ذلك والحاصل أن هذه الصفات الثلاثة التي ذكرها الله تعالى للعقاب في هذه الآية دلت على يأس الكافر من الإنقطاع والتخفيف والتأخير. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4صـ 152}
وقال الماوردى :
{وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} يحتمل وجهين :
أحدهما : لا يؤخرون عنه ولا يمهلون.
والثاني : لا ينظر الله عز وجل إليهم فيرحمهم. أ هـ
{النكت والعيون حـ 1صـ 216}(2/398)
وقال فى روح البيان :
{ولا هم ينظرون} من الإنظار بمعنى الإمهال والتأجيل أى لا يمهلون للرجعة ولا للتوبة ولا للمعذرة أو يعذبون على الدوام والاستمرار وأن كل وجه من وجوه عذابهم يتصل بوجه آخر مثله أو أشد منه وأنهم لا يمهلون ولا يؤجلون ساعة ليستريحوا فيها أو من النظر بمعنى الانتظار أى لا ينتظرون ليعتذروا أو بمعنى الرؤية أى لا ينظر إليهم نظر رحمة ، وإنما خلدوا فى النار لأن نيتهم كانت عبادة الأصنام أبدا إن عاشوا فجوزوا بتأبيد العذاب.
وأما الدركات لأن النيات متفاوتة كالأعمال ، والتأديب فى الحكمة واجب ولما أساء الكفار بسوء الاعتقاد فى حقه تعالى أدبوا بالحرمان من الجنة والخلود فى النار. أ هـ {روح البيان حـ 1صـ 313}
سؤال : لم آثر الجملةِ الاسميةِ ؟
الجواب : وإيثارُ الجملةِ الاسميةِ لإفادة دوامِ النفي واستمراره أي لا يُمهلون ولا يُؤجّلون أو لا يُنتظرون ليعتذروا أو لا يُنظر إليهم نَظَر رحمة. أ هـ
{تفسير أبى السعود حـ 1صـ 183}(2/399)
فروق لغوية دقيقة
الفرق بين الكفر والإلحاد
أن الكفر اسم يقع على ضروب من الذنوب فمنها الشرك بالله ومنها الجحد للنبوة ومنها استحلال ما حرم الله ، وهو راجع إلى جحد النبوة وغير ذلك مما يطول الكلام فيه
وأصله التغطية ، والإلحاد اسم خص به اعتقاد نفي التقديم مع إظهار الإسلام وليس ذلك كفر الإلحاد ألا ترى أن اليهودي لا يسمى ملحدا وإن كان كافرا وكذلك النصراني
وأصل الإلحاد الميل ومنه سمي اللحد لأنه يحفر في جانب القبر.
الفرق بين الكفر والشرك
أن الكفر خصال كثيرة على ما ذكرنا وكل خصلة منها تضاد خصلة من الإيمان ؛ لأن العبد إذا فعل خصلة من الكفر فقد ضيع خصلة من الإيمان ، والشرك خصلة واحدة وهو إيجاد آلهة مع الله أو دون الله واشتقاقه ينبىء عن هذا المعنى ثم كثر حتى قيل لكل كفر شرك على وجه التعظيم له والمبالغة في صفته وأصله كفر النعمة لتضييعة حقوق الله وما يجب عليه من شكر نعمة فهو بمنزلة الكافر لها ونقيض الشرك في الحقيقة الإخلاص ثم لما استعمل في كل كفر صار نقيض الإيمان ، ولا يجوز أن يطلق اسم الكفر إلا لمن كان بمنزلة الجاحد لنعم الله وذلك لعظم ما معه من المعصية وهو اسم شرعي كما أن الايمان اسم شرعي. أ هـ {الفروق فى اللغة صـ 196}(2/400)
قوله تعالى {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان المراد أن الوحدة معتبرة في نفس الأمر في الإله الحق ، فلا يصح أصلاً أن يكون الإله الحق منقسماً بالنوع ولا بالشخص ولا بالوصف ولا بالفعل ولا بغير ذلك بوجه من الوجوه أعاد لفظ الإله فقال : {إله واحد} أي لا ينقسم بوجه من الوجوه لا بمجانسة ولا بغيرها وهو مع ذلك {لا إله إلا هو} فهذا تقرير للوحدانية بنفي غيره وإثباته فلا يصح بوجه ولا يمكن في عقل أن يصلح للإلهية غيره أصلاً فلا يستحق العبادة إلا هو لأنه {الرحمن} أي العام الرحمة بالنعم الزائلة لأوليائه وأعدائه {الرحيم} أي المخصص بالنعم الباقية لأوليائه ، فثبت بالتفرد بالألوهية أنه حائز بجميع العظمة وبيده مجامع الكبرياء والقهر ، وبوصفي الرحمة أنه مفيض لجلائل النعم ودقائقها فكل ما سواه إما نعمة أو منعم عليه ، فهو المخشي سطوته المرجو رحمته يغفر لمن يشاء ويلعن من كفر ويخلده في العذاب من غير أن يقدر غيره أن يعترض عليه في شيء من ذلك ؛ ولا يبعد عندي وإن بعد المدى أن تكون الواو في قوله {وإلهكم} عاطفة على قوله في أوائل السورة(2/401)
{وهو بكل شيء عليم} [البقرة : 29] قبل قوله {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة} [البقرة : 30] فإن التوحيد هو المقصود بالذات وعنه تنشأ جميع العبادات ، فلما قال أولاً {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة : 21] أتبعه في قوله {الذي خلقكم} [البقرة : 21] إلى آخره بوصف هو دليل استحقاقه للعبادة ، فلما قام الدليل قال : {فلا تجعلوا لله أنداداً} [البقرة : 22] إعلاماً بأنه لا شريك له في العبادة كما أنه قد تبين أنه لا شريك له في الخلق ، ثم أتبعه بما يليق لذلك المقام مما تقدم التنبيه عليه ، ثم رجع إليه قائلاً ثانياً {كيف تكفرون بالله وكنتم أمواتاً فأحياكم} [البقرة : 28] إلى آخرها فأعاد الدليل على وجه أبين من الأول وأبسط ، فلما تقرر على وجه لا مطعن فيه أمر الوحدانية والإعادة كان الأنسب ما أولاه من الآيات السابقة لما ذكر فيها من غير ذلك من المهمات إلى أن صار إلى ذكر الكاتمين والتائبين والمصرين وذكر ما أعد لكل من الجزاء فأتبع ذلك هذه الآية عاطفاً لها على ما ذكرته على وجه أصرح مما تقدم في إثبات التوحيد بياناً لما هو الحق وإشارة إلى أنه تعالى ليس كملوك الدنيا الذين قد يحول بينهم وبين إثابة بعض الطائعين وعقوبة بعض العاصين بعض أتباعهم ، فإنه واحد لا كفؤ له بل ولا مداني فلا مانع لنفوذ أمره ؛ ولا يستنكر تجويز هذا العطف لأنه جرت عادة البلغاء أن أحدهم إذا أراد إقامة الحج على شيء لأمر يرتبه عليه أن يبدأ بدليل كاف ثم يتبعه تقريب الثمرات المجتناة منه ثم يعود إلى تأكيده على وجه آخر لتأنس به النفوس وتسرّ به القلوب ، وربما كان الدليل طويل الذيول كثير الشعب ، فيشرح كل ما يحتاج إليه من ذيوله وما يستتبعه من شعبه ، فإذا استوفى ذلك ورأى أن الخصم لم يصل إلى غاية الإذعان أعاد له الدليل على وجه آخر عاطفاً له على الوجوه الأول تذكيراً بما ليس بمستنكر ذلك في مجاري عاداتهم ومباني(2/402)
خطاباتهم ؛ ومن تأمل مناظرات الباقلاني وأضرابه من أولي الحفظ الواسع والتبحر في العلم علم ذلك.
(2/403)
وقال الحرالي : ولما كان مضمون الكتاب دعوة الخلق إلى الحق ، والتعريف بحق الحق على الخلق ، وإظهار مزايا من اصطفاه الله تعالى ممن شملهم أصل الإيمان من ملائكته وأنبيائه ورسله ومن يلحق بهم من أهل ولايتهم ، وإظهار شواهد ذلك منهم وإقامة الحجة بذلك على من دونهم في إلزامهم أتباعهم ، وكان الضار للخلق إنما هو الشتات كان النافع لهم إنما هو الوحدة ، فلما أظهر لهم تعالى مرجعهم إلى وحدة أبوة آدم عليه الصلاة والسلام في جمع الذرية ووحدة أبوة إبراهيم عليه الصلاة والسلام في جمع الإسلام ووحدة أحمدية محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في جمع الدين فاتضح لهم عيب الشتات والتفرق وتحقق لهم شاهد النفع في الجمع إلى وحدات كان ذلك آية على أعظم الانتفاع بالرجوع إلى وحدة الإلهية في أمر الحق وفي إفهام ذلك وحدات ما يظن في ظاهر الوحدات الظاهرة من وحدة الروح ووحدة النفس والعقل فقال تعالى عطفاً على ما ظهر بناؤه من الوحدات الظاهرة وما أفاده إفهامها من الوحدات الباطنة : {وإلهكم إله واحد} فإذا قبح الشتات مع وحدة الأب الوالد فكيف به مع وحدة الأب المدّين! فكيف به مع وحدة النبي المكمل! فكيف به مع وحدة الإله الذي هو الرحمن الذي شمل خلقه رحمانية! الرحيم الذي اختص أولياءه وأصفياءه عناية فجمعهم بوحدته التي هي قائم كل وحدة دونه! فجميع أسمائه لها وحدة تنتهي وحدتها إلى وحدة الإله الذي انتهى إليه الإله وهو تعبد الظاهر لإلجاء المتعبد إليه في كل حاجاته وإقاماته الظاهرة والباطنة ، ولا أتم من وحدة ما لا يتصوره العقل ولا يدركه الحس في علو وحدة الغيب الذي لا يبدو فيه ذات فيكون لها أو فيها كميات ولا كيفيات ؛ ثم قال : وقد صح بالتجربة أن الراحة في حصبة الواحد وأن التعب في اتباع العدد لاختصاص كل واحد بقصد في التابع يتشاكس عليه لذلك حال اتباعهم ، فكان أعظم دعوة إلى جمع الخلق دعوتهم إلى جمع توحيد الإلهية انتظاماً بما دعوا إليه من الاجتماع في(2/404)
اسم الربوبية في قوله تعالى متقدماً
{يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة : 21] فإعلاء الخطاب من رتبة الربوبية إلى رتبة هذه الدعوة بالإلهية لتعلو من هذا الحد إلى الدعوة إلى الله الأحد الذي أحديته مركوزة في كافة فطر الخلق وجبلاتهم حين لم يقع الشرك فيه بوجه وإنما وقع في رتبة الإلهية ، فكان هذا أوسط الدعوة بالاجتماع في وحدة الإلهية وفي إضافة اسم الإله إليهم أتم تنزل بمقدار معقولهم من تعبدهم الذي هو تألّههم ؛ ولما كان في الإلهية دعوى كثرة توهم الضلال المبين أتبع ذلك بكلمة التوحيد بناء على اسمه المضمر في باطن ظاهر الإلهية فقال تعالى : {لا إله إلا هو} رداً على إضمار ما في الأول ولم يذكر اسمه المظهر ليكون للدعوة إليه رتبة عالية تكون هذه متوقلاً إليها ، ولما كان هذا التوحيد الإلهي أمر غيب من الإله أظهره سبحانه وتعالى بمظهر الرحمانية المحيطة الشاملة والرحيمية الاختصاصية لما عند الخلق من شاهد ذلك فيما يجدونه من أثر الرحمانية في دنياهم وآثارهم وما يجدون من آثار الرحيمية في اختصاصهم المزية في تضاعف رحمته ، فكان في مجموع هذه الآية أعظمية من غيب الإلهية إلى تمام اختصاص الرحيمية ، فلذلك كانت هذه الآية مع آية الإحاطة في أول آل عمران الجامعة لمقابلة ما في هذه الآية من خصوص الرحيمية مع خصوص مقابلها من وصف الانتقام الظاهر عن وصف العزة الذي أبداه قوله سبحانه وتعالى :
{والله عزيز ذو انتقام} [آل عمران : 4] فكانت هذه الآية لذلك مع {الم الله لا إله إلا هو الحي القيوم} [آل عمران : 1-2] اسم الله الأعظم المحيط بالغيب والشهادة جمعاً للرحمة والنقمة في الظاهر وإحاطة عظمة في الباطن ، فكان هذا الحد من علو الخطاب ابتداء رفع الخلق إلى التعلق باسم الله الأعظم الذي يرفعهم عن سفل تقيدهم بأنفسهم المحقّرة إظهاراً لمبدأ العناية بهذه الأمة الخاتمة - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1صـ 292 ـ 293}(2/405)
سؤال ما معنى الإله ؟
الجواب : والإله في كلام العرب هو المعبود ولذلك تعددت الآلهة عندهم وأطلق لفظ الإله على كل صنم عبدوه وهو إطلاق ناشىء عن الضلال في حقيقة الإله لأن عبادة من لا يغني عن نفسه ولا عن عابده شيئاً عبث وغلط ، فوصف الإله هنا بالواحد لأنه في نفس الأمر هو المعبود بحق فليس إطلاق الإله على المعبود بحق نقلاً في لغة الإسلام ولكنه تحقيق للحق.
وما ورد في القرآن من إطلاق جمع الآلهة على أصنامهم فهو في مقام التغليط لزعمهم نحو {فلولا نصرهم الذين اتخذوا من دون الله قرباناً آلهة بل ضلوا عنهم وذلك إفكهم وما كانوا يفترون} [الأحقاف : 28] ، والقرينة هي الجمع ، ولذلك لم يطلق في القرآن الإله بالإفراد على المعبود بغير حق ، وبهذا تستغنى عن إكداد عقلك في تكلفات تكلفها بعض المفسرين في معنى {وإلهكم إله واحد}.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2صـ 74}
قال الإمام الطبرى :
واختُلِف في معنى وَحدانيته تعالى ذكره ، فقال بعضهم : معنى وحدانية الله ، معنى نَفي الأشباه والأمثال عنه ، كما يقال : "فلان واحدُ الناس - وهو وَاحد قومه" ، يعني بذلك أنه ليسَ له في الناس مثل ، ولا له في قومه شبيه ولا نظيرٌ. فكذلك معنى قول : "اللهُ واحد" ، يعني به : الله لا مثل له ولا نظير.
فزعموا أن الذي دلَّهم على صحة تأويلهم ذلك ، أنّ قول القائل : "واحد" يفهم لمعان أربعة. أحدها : أن يكون"واحدًا" من جنس ، كالإنسان"الواحد" من الإنس. والآخر : أن يكون غير متفرِّق ، كالجزء الذي لا ينقسم. والثالث :
أن يكون معنيًّا به : المِثلُ والاتفاق ، كقول القائل : "هذان الشيئان واحد" ، يراد بذلك : أنهما متشابهان ، حتى صارَا لاشتباههما في المعاني كالشيء الواحد.
والرابع : أن يكون مرادًا به نفي النظير عنه والشبيه.
قالوا : فلما كانت المعاني الثلاثةُ من معاني"الواحد" منتفيةً عنه ، صح المعنى الرابع الذي وَصَفناه(2/406)
وقال آخرون : معنى"وحدانيته" تعالى ذكره ، معنى انفراده من الأشياء ، وانفراد الأشياء منه. قالوا : وإنما كان منفردًا وحده ، لأنه غير داخل في شيء ولا داخلٌ فيه شيء. قالوا : ولا صحة لقول القائل : "واحد" ، من جميع الأشياء إلا ذلك. وأنكر قائلو هذه المقالة المعاني الأربعةَ التي قالها الآخرون. أ هـ
{تفسير الطبرى حـ 3صـ 266}
وقال ابن جزى :
الواحد له ثلاثة معان كلها صحيحة في حق الله تعالى
أحدها أنه لا ثاني له فهو نفي للعدد
والآخر أنه لا شريك له
والثالث أنه لا يتبعض ولا ينقسم
وقد فسر المراد به هنا في قوله {لا إله إلا هو}
واعلم أن توحيد الخلق لله تعالى على ثلاث درجات
الأولي توحيد عامة المسلمين وهو الذي يعصم النفس من الهلك في الدنيا وينجي من الخلود في النار في الآخرة ، وهو نفي الشركاء والأنداد والصاحبة والأولاد والأشباه والأضداد
الدرجة الثانية توحيد الخاصة وهو أن يرى الأفعال كلها صادرة من الله وحده ويشاهد ذلك بطريق المكاشفة لا بطريق الاستدلال الحاصل لكل مؤمن وإنما مقام الخاص في التوحيد يغني في القلب بعلم ضروري لا يحتاج إلى دليل
وثمرة هذا العلم الانقطاع إلى الله والتوكل عليه وحده واطراح جميع الخلق فلا يرجو إلا الله ولا يخاف أحدا سواه إذ ليس يرى فاعلا إلا إياه ويرى جميع
الخلق في قبضة القهر ليس بيدهم شيء من الأمر فيطرح الأسباب وينبذ الأرباب
والدرجة الثالثة ألا يرى في الوجود إلا الله وحده فيغيب عن النظر إلى المخلوقات حتى كأنها عنده معدومة وهذا الذي تسميه الصوفية مقام الفناء بمعنى الغيبة عن الخلق حتى أنه قد يفنى عن نفسه وعن توحيده أي يغيب عن ذلك باستغراقه في مشاهدة الله. أ هـ {التسهيل حـ 1 صـ 66}(2/407)
فروق لغوية دقيقة
الفرق بين الفرد والواحد والوحدانية وما يجري مع ذلك
وفي الفرق بين ما يخالفة من الكل والجمع وما هو من قبيل الجمع من التأليف والتصنيف والنظم والتنضيد والممارسة والمجاورة والفرق بين ما يخالف ذلك من الفرق والفصل
الفرق بين الواحد والفرد
أن الفرد لا يفيد الانفراد من القران والواحد يفيد الانفراد في الذات أو الصفة ألا ترى أنك تقول فلان فرد في داره ولا تقول واحد في داره وتقول هو واحد أهل عصره تريد أنه قد انفرد بصفة ليس لهم مثلها وتقول الله واحد تريد أن ذاته منفردة عن المثل والشبه ، وسمي الفرد فردا بالمصدر يقال فرد يفرد فردا وهو فارد وفرد والفرد مثله
وقال علي بن عيسى ـ رحمه الله تعالى ـ :
الواحد ما لاينقسم في نفسه أو معنى في صفته دون جملته كإنسان واحد ودينار واحد وما لا ينقسم في معنى جنسه كنحو هذا الذهب كله واحد وهذا الماء كله واحد والواحد في نفسه ومعنى صفته بما لا يكون لغيره أصلا وهو الله جل ثناؤه
الفرق بين الانفراد والاختصاص
أن الاختصاص انفراد بعض الأشياء بمعنى دون غيره كالانفراد بالعلم والملك والانفراد تصحيح النفس وغير النفس وليس كذلك الاختصاص لأنه نقيض الاشتراك والانفراد نقيض الازدواد والخصة تحتمل الإضافة وغير الإضافة لأنها نقيض العامة فلا يكون الاختصاص إلا على الإضافة لأنه اختصاص بكذا دون كذا
الفرق بين الواحد والأوحد
أن الأوحد يفيد أنه فارق
غيره ممن شاركه في فن الفنون ومعنى من المعاني كقولك فلان أوحد دهره في الجود والعلم تريد أنه فوق أهله في ذلك
الفرق بين الفذ والواحد أن الفذ يفيد التقليل دون التوحيد يقال لا يأتينا فلان إلا في الفذ أي القليل ولهذا لا يقال لله تعالى فذ كما يقال له فرد
الفرق بين الواحد والمنفرد
أن المنفرد يفيد التخلي والانقطاع من القرناء ولهذا لا يقال لله ـ سبحانه وتعالى ـ منفرد كما يقال إنه متفرد(2/408)
معنى المتفرد في صفات الله تعالى المتخصص بتدبير الخلق وغير ذلك مما يجوز أن يتخصص به من صفاته وأفعاله
الفرق بين الواحد والوحيد والفريد
أن قولك الوحيد والفريد يفيد التخلي من الاثنين يقال فلان فريد ووحيد يعني أنه لا أنيس له ولا يوصف الله تعالى به لذلك
الفرق بين قولنا تفرد وبين قولنا توحد أنه يقال تفرد بالفضل والنبل وتوحد تخلى
الفرق بين الوحدة والوحدانية
أن الوحدة التخلي والوحدانية تفيد نفي الأشكال والنظائر ولا يستعمل في غير الله ولا يقال لله واحد من طريق العدد ولا يجوز أن يقال إنه ثان لزيد لأن الثاني يستعمل في ما يتماثل ولذلك لا يقال زيد ثان للحمار ولا يقال إنه أحد الأشياء لما في ذلك من الإيهام والتشبيه ولا يقال إنه بعض العلماء وإن كان وصفه بأنه عالم يفيد ما يفيد فيهم
الفرق بين واحد وأحد
أن معنى الواحد أنه لا ثاني له فلذلك لا يقال في التثنية واحدان كما يقال رجل ورجلان ولكن قالوا اثنان حين أرادوا أن كل واحد منهما ثان للآخر وأصل أحد أوحد مثل أكبر وإحدى مثل كبرى فلما وقعا اسمين وكانا كثيري الاستعمال
(2/409)
هربوا في إحدى الكبرى ليخف وحذفوا الواو ليفرق بين الاسم والصلة وذلك أن أوحد اسم وأكبر صفة والواحد فاعل من وحد يحد وهو واحد مثل وعد وهو واعد والواحد هو الذي لا ينقسم في وهم ولا وجود وأصله الانفراد في الذات على ما ذكرنا وقال صاحب العين الواحد أول العدد وحد الاثنين ما يبن أحدهما عن صاحبه بذكر أو عقد فيكون ثانيا له بعطفه عليه ويكون الأحد أولا له ولا يقال إن الله ثاني اثنين ولا ثالث ثلاثة لأن ذلك يوجب المشاركة في أمر تفرد به فقوله تعالى (ثاني اثنين إذا هما في الغار) معناه أنه ثاني اثنين في التناصر وقال تعالى (لقد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة) لأنهم أوجبوا مشاركته في ما ينفرد به من القدم والإلهية فأما قوله تعالى (إلا هو رابعهم) فمعناه أنه يشاهدهم كما تقول للغلام اذهب حيث شئت فأنا معك تريد أن خبره لا يخفى عليك. أ هـ {الفروق فى اللغة صـ 116 ـ 118}(2/410)
لطيفة
واعلم أنه سبحانه إنما خص هذا الموضع بذكر هاتين الصفتين لأن ذكر الإلهية الفردانية يفيد القهر والعلو فعقبهما بذكر هذه المبالغة في الرحمة ترويحاً للقلوب عن هيبة الإلهية ، وعزة الفردانية وإشعاراً بأن رحمته سبقت غضبه وأنه ما خلق الخلق إلا للرحمة والإحسان. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 160}
وقال ابن عرفة :
قال ابن عرفة : الإلاه في اصطلاح المتقدمين من الأصوليين هو الغني بذاته المفتقر غيره إليه ، وعند الأصوليين (المتأخرين) واللغويين هو المعبود تقربا ، وبه يفهم قوله عز وجل {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي} وقول إبراهيم لأبيه آزر {أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً} وقول الله عز وجل {ءأالهتنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ} قال ابن عطية : ومعناه نفي (المثل) والنظير. وقال أبو العالية : (نفى) التبعيض (والانقسام).
قال ابن عرفة : فعلى الأول نفي الكمّية المنفصلة وعلى الثاني نفي الكمية المتصلة ، ويحتمل الأمرين إن قلنا إن الوحدة ينطلق عليها بالتواطُؤ ، وإن كان إطلاقها عليها بالاشتراك فما يتم إلا على القول بتعميم المشترك ، وقوله : نفي للتبعيض والانقسام صوابه أن يقول : نفي لقابلية (الانقسام) بمعنى واحد ، أي (غير) معروض للانقسام فيخرج الجوهر الفرد لأنه لا ينقسم ، لكنه في حيز والحيز منقسم. فإذا قلنا غير معروض للانقسام انتفى الجوهر الذي في الحيز. أ هـ
{تفسير ابن عرفة صـ 203}
وقال الخازن : (2/411)
وحقيقة الواحد هو الشيء الذي لا يتبعض ولا ينقسم والواحد في صفة الله أنه واحد لا نظير له وليس كمثله شيء وقيل واحد في ألوهيته وربوبيته وليس له شريك لأن المشركين أشركوا معه الآلهة فكذبهم الله تعالى بقوله : {وإلهكم إله واحد} يعني لا شريك له في ألوهيته ولا نظير له في الربوبية والتوحيد ، هو نفي الشريك والقسيم والشبيه فالله تعالى واحد في أفعاله ولا شريك يشاركه في مصنوعاته وواحد في ذاته لا قسيم له وواحد في صفاته لا يشبهه شيء من خلقه {لا إله إلاّ هو} تقرير للوحدانية بنفي غيره من الألوهية وإثباتها له سبحانه وتعالى : {الرحمن الرحيم} يعني أنه المولى لجميع النعم وأصولها وفروعها فلا شيء سواه بهذه الصفة لأن كل ما سواه إما نعمة وأما منعم عليه. وهو المنعم على خلقه الرحيم بهم. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 99}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
شَرَّفهم غايةَ التشريف بقوله {وَإِلَهُكُمْ}. وإن شيوخ هذه الطائفة قالوا : علامةُ من يَعُدُّه من خاصَّ الخواص أن يقول له : عبدي ، وذلك أتمُّ من هذا بكثير لأن قوله : {وَإِلَهُكُمْ} : وإضافة نَعْتِهِ أتمُّ من إضافته إياك إلى نفسه لأن إلهيته لَكَ بلا عِلَّة ، وكونُك له عبد يُعوِّض كل نقصك وآفتك. ومتى قال لكم {وَإِلَهُكُمْ}.
حين كانت طاعتك وحركاتك وسكناتك أو ذاتك وصفاتك لا بل قبل ذلك أزل الأزل حين لا حِينَ ، ولا أوَانَ ، ولا رسم ولا حدثان.
و {الوَاحِدُ} من لا مِثْلَ له يدانيه ، ولا شكل يلاقيه. لا قسيم يجانسه ولا نديم يؤانسه. لا شريكَ يعاضده ولا مُعِين يساعده ولا منازعَ يعانده.
أحديُّ الحق صمديُّ العين ديموميُّ البقاء أبديُّ العز أزليُّ الذات.
واحدٌ في عز سنائه فَردٌ في جلال بهائه ، وِتْرٌ في جبروت كبريائه ، قديم في سلطان عِزِّه ، مجيد في جمال ملكوته. وكل مَنْ أطنب في وصفه أصبح منسوباً إلى العمى (ف) لولا أنه الرحمن الرحيم لتلاشى العبدُ إذا تعرَّض لعرفانه عند أول ساطعٍ من بادياتِ عزِّه. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 143}
تم الجزء الثانى من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الثالث وأوله قوله تعالى : {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}(2/412)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء الثالث
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{ يا قوم لا أسألكم عليه أجرا }(3/3)
الجزء الثالث
من الآية {164} من سورة البقرة
وحتى الآية { 184 } من نفس السورة(3/4)
قوله تعالى {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)}
سبب نزولها
في سبب نزولها ثلاثة أقوال. أحدها : أن المشركين قالوا للنبي : اجعل لنا الصفا ذهباً إن كنت صادقاً ؛ فنزلت هذه الآية ، حكاه السدي عن ابن مسعود ، وابن عباس. والثاني : أنهم لما قالوا : انسب لنا ربك وصفه ؛ فنزلت : {وإِلهكم إِله واحد} قالوا : فأرنا آية ذلك ؛ فنزلت : {إِن في خلق السماوات والأرض} إلى قوله : {يعقلون} رواه أبو صالح عن ابن عباس. والثالث : أنه لما نزلت {وإِلهكم إِله واحد} قال كفار قريش : كيف يسع الناس إِله واحد ؟ فنزلت هذه الآية ، قاله عطاء. أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 167}(3/5)
مناسبة الآية لما قبلها
ولما كان هذا المقام لا يصح إلا بتمام العلم وكمال القدرة نصب الأدلة على ذلك في هذه الآية الثالثة بأبسط مما في الآية الثانية كما كانت الثانية أبسط من الأولى وأجلى تبصيراً للجهال وتذكيراً للعلماء ؛ فكانت هذه الآية تفصيلاً لتينك الآيتين السابقتين ولم تدع حاجة إلى مثل هذه التفصيل في آية آل عمران ، لأن معظم المراد بها الدلالة على شمول القدرة وأما هذه فدليل على التفرد ، فكان لا بد من ذكر ما ربما أضيف إلى أسبابه القريبة تنبيهاً على أنه لا شريك له في شيء من ذلك وأن الكل بخلقه وإن أقام لذلك أسباباً ظاهرية فقال تعالى {إن في خلق السماوات والأرض} أي واختلافهما فإن خلق ما ذكر في الآية من نعمته على عباده كما ذكر في أول السورة ، ثم ذكر ما ينشأ عنهما فقال : {واختلاف} وهو افتعال من الخلف ، وهو ما يقع من افتراق بعد اجتماع في أمر من الأمور {الليل} قدمه لأنه الأصل والأقدم {وآية لهم الّليل} [يس : 37] {والنهار} وخلقهما ، فالآية من الاحتباك ، ذكر الخلق أولاً دليلاً على حذفه ثانياً والاختلاف ثانياً على حذفه أولاً. وقال الحرالي : ولما كان من سنة الله أن من دعاه إليه وإلى رسله بشاهد خرق عادة في خلق أو أمر عاجله بالعقوبة في الدنيا وجدد بعده أمة أخرى كما قال سبحانه وتعالى : {وما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون} [الإسراء : 59] وكانت هذه الأمة خاتمة ليس بعدها أمة غيرها أعفاها ربها من احتياجها إلى خرق العوائد ، قال عليه الصلاة والسلام " ما من نبي إلا وقد أوتي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر ، وإنما كان الذي آتاني الله وحياً أوحاه الله سبحانه وتعالى إليّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً " فكان أمر الاعتبار أعم إجابة وأسمح مخالفة وكفاها بما قد أظهره لها في خلقه بالإبداء والتسخير من الشواهد ، ليكونوا علماء منقادين لروح العلم لا لسلطان القهر ، فيكون ذلك من مزاياهم على غيرهم ، ولم(3/6)
يجبها إلى ما سألته من ذلك ، فلما وصل تعالى بدعوة الربوبية ذِكر الخلق والرزق وذكر الأرض بأنها فراش والسماء بأنها بناء على عادة العرب في رتبة حس ظاهر أعلاهم في هذا الخطاب بإيراد آياته وشواهده على علو رتبة معنى معقول فوق رتبة الأمر المحسوس السابق فقال : {إن في خلق السماوات والأرض} خطاباً مع من له نظر عقلي يزيد على نظر الحس باعتبار السماوات أفلاكها وعددها بشواهد نجومها حتى يتعرف أنها سماوات معدودة ، وذلك مما يظهر موقعه عند من له اعتبار في مخلوق السماوات ؛ ولما لم يكن للأرضين شواهد محسوسة بعددها كما في السماوات لم يجر ذكرها في القرآن إلا مفردة وجاء ذكر السماوات معددة لأهل النظر العقلي ومفردة لأهل النظر الحسي ، وأيسر معتبر ما بين السماوات والأرض في مقابلة حظيهما في كون السماوات في حد من العلو والصفاء والنورانية والحركة والأرض في مقابل ذلك من السفل والكثافة والظلمانية والسكون ، فيقع الاعتبار بحصول مشهود التعاون من مشهود التقابل ، وذلك مما يعجز الخلق فيعلمون أنه من أمر الحق ، لأن الخلق إنما يقع لهم التعاون بالمتناسب لا بالمتقابل ، فمن آلته الماء مثلاً تفسد عليه النار ، ومن آلته النار يفسد عليه الماء ، والحق سبحانه وتعالى أقام للخلق والموجودات والموالد آحاداً مجتمعة قد قهر فيها متنافرات موجودات الأركان وموجود خلق السماء والأرض المشهود تقابلهما ، فما وقع اجتماع النار بالماء على تقابل ما بين الحار والبارد ، واجتماع الهواء بالأرض على تقابل ما بين الكثيف واللطيف ، واجتماع الكل في شيء واحد من جسم واحد وعضو واحد حتى في جزء واحد من أدق أجزائه إلا بأمر يعجز عنه الخلق ولا يقدر عليه إلا الحق الذي يحار فيه الخلق ، فهو إذن إلههم الذي هو إله واحد ، آثاره موجودة في أنفسهم ، وشواهده مبصرة بأعينهم وحقائق تلك الشواهد بادية لعقولهم ، فكأنه سبحانه وتعالى أقرأهم ذكره الحكيم المرئي لأعينهم كشفاًً(3/7)
لغطاء أعينهم ليتميزوا عن الذين كانت أعينهم في غطاء عن ذكره.
ولما ذكر سبحانه وتعالى خلق متقابل العلو والسفل في ذكر السماوات والأرض نظم بها اختلاف الأفقين اللذين فيهما ظهور مختلفي الليل والنهار ليتريع اعتبارهم بين اعتبار الأعلى والأسفل والمشرق والمغرب فيقع شواهد الإحاطة بهم عليهم في توحيد ربهم وإرجاع ذلك إليه دون أن يعزي ذلك إلى شيء من دونه مما هو داخل في حصر موجود هذه الإحاطة من المحيط الأعلى والمحيط الأسفل والمحيط بالجوانب كلها من ملبس الآفاق من الليل والنهار خطابَ إجمال يناسب مورد السورة التي موضوعها إجمالات ما يتفسر فيها وفي سائر القرآن من حيث إنها فسطاطه وسنامه - انتهى.
ولما ذكر تعالى ما أنشأه سير الكواكب في ساحة الفلك أتبعه سير الفلك في باحة البحر فقال : {والفلك} وهو ما عظم من السفن في مقابلة القارب وهو المستخف منها. قال الحرالي : استوى واحده وجمعه ، حركات الواحد أولى في الضمير وحركات الجمع ثوان في الضمير من حيث إن الواحد أول والجمع ثان مكسر انتهى.
(3/8)
ولما أراد هنا الجمع لأنه أدل على القدرة وصف بأداة التأنيث فقال {التي تجري} بتقدير الله ، وحقق الأمر بقوله : {في البحر} أسند الجري إليها ومن المعلوم أنه لا جري لها حقيقة ولا فعل بوجه ترقية إلى اعتقاد مثل ذلك في النجوم إشارة إلى أنه لا فعل لها ولا تدبير كما يعتقد بعض الفلاسفة. وقال الحرالي : ولما ذكر سبحانه وتعالى جملة الخلق وجملة الاختلاف في الوجهين وصل بذلك إحاطة البحر بالأرض وتخلل البحار فيها لتوصل المنافع المحمولة في الفلك مما يوصل من منافع المشرق للمغرب ومنافع المغرب للمشرق ومنافع الشمال للجنوب وبالعكس ، فما حملت جارية شيئاً ينتفع به إلا قد تضمن ذكره مبهم كلمة {ما} في قوله تعالى : {بما ينفع الناس} وذكرهم باسم الناس الذي هو أول من يقع فيه الاجتماع والتعاون والتبصر بوجه ما أدنى ذلك في منافع الدنيا الذي هو شاهد هذا القول - انتهى.
ولما ذكر نفع البحر بالسفن ذكر من نفعه ما هو أعم من ذلك فقال : {وما أنزل الله} الذي له العظمة التامة {من السماء} أي جهتها باجتذاب السحاب له. ولما كان النازل منها على أنواع وكان السياق للاستعطاف إلى رفع الخلاف ذكر ما هو سبب الحياة فقال : {من ماء فأحيا به الأرض} بما ينبت منها ولما كان الإحياء يستغرق الزمن المتعقب للموت نفى الجار فقال : {بعد موتها} بعدمه.
(3/9)
ولما ذكر حياة الأرض بالماء أشار إلى أن حياة كل ذي روح به فقال {وبث} من البث وهو تفرقة أحاد مستكثرة في جهات مختلفة {فيها} بالخضب {من كل دابة} من الدبيب وهو الحركة بالنفس قال الحرالي : أبهم تعالى أمر الخلق والاختلاف والإجراء فلم يسنده إلى اسم من أسمائه يظهره ، وأسند إنزال الماء من السماء إلى اسمه العظيم الذي هو الله لموقع ظهور القهر على الخلق في استدرار أرزاق الماء واستجداده وقتاً بعد وقت بخلاف مستمر ما أبهم من خلق السماوات والأرض الدائم على حالة واختلاف الليل والنهار المستمر على وجهة واحتيال إجراء الفلك الماضي على حكم عادته ، فأظهر اسمه فيما يشهد به عليهم ضرورتهم إليه في كل حول ليتوجهوا في العبادة إلى علو المحل الذي منه ينزل الماء فينقلهم بذلك من عبادة ما في الأرض إلى عبادة من في السماء {ءأمنتم من في السماء أن يخسف بكم الأرض} [الملك : 16] وقال عليه الصلاة والسلام للأمة : " أين الله ؟ قالت : في السماء ، قال : أعتقها فإنها مؤمنة " فأذن أدنى الإيمان التوجه إلى عبادة من في السماء ترقياً إلى علو المستوى على العرش إلى غيب الموجود في أسرار القلوب ، فكان في هذه التوطئة توجيه الخلق إلى الإله الذي ينزل الماء من السماء وهو الله الذي لم يشرك به أحد سواه ليكون ذلك توطئة لتوحيد الإله ، ولذلك ذكر تعالى آية الإلهية التي هي الإحياء ، والحياة كل خروج عن الجمادية من حيث إن معنى الحياة في الحقيقة إنما هو تكامل في الناقص ، فالمهتزّ حي بالإضافة إلى الجماد ترقياً إلى ما فوق ذلك من رتب الحياة من نحو حياة الحيوان ودواب الأرض ، فلذلك ذكر تعالى الإحياءين بالمعنى ، وأظهر الاسم مع الأرض لظهوره في الحيوان ، فأظهر حيث خفي عن الخلق ، ولم يذكره حيث هو ظاهر للخلق ، فنبههم على الاعتبارين إنزال الماء الذي لهم منه شراب ومنه شجر وبه حياة الحيوان ومنه مرعاهم.
(3/10)
ولما ذكر سبحانه وتعالى بث ما هو السبب للنبات المسبب عن الماء ذكر بث ما هو سبب للسحاب السبب للمطر السبب للحياة فقال تعالى : {وتصريف الرياح} أي تارة صباً وأخرى دبوراً ومرة شمالاً وكرة جنوباً ، والتصريف إجراء المصرف بمقتضى الحكم عليه ، والريح متحرك الهوى في الأقطار {والسحاب} وهو المتراكم في جهة العلو من جوهر ما بين الماء والهواء المنسحب في الجو {المسخر} أي بها ، من التسخير وهو إجراء الشيء على مقتضى غرض ما سخر له {بين السماء والأرض} لا يهوى إلى جهة السفل مع ثقله بحمله بخار الماء ، كما تهوى بقية الأجرام العالية حيث لم يكن لها ممسك محسوس ولا ينقشع مع أن الطبع يقتضي أحد الثلاثة : فالكثيف يقتضي النزول واللطيف يقتضي الصعود ، والمتوسط يقتضي الانقشاع {لآيات} وقال الحرالي : لما ذكر تعالى الأعلى والأسفل ومطلع الليل والنهار من الجانبين وإنزال الماء أهواءً ذكر ما يملأ ما بين ذلك من الرياح والسحب الذي هو ما بين حركة هوائية إلى استنارة مائية إلى ما يلزم ذلك من بوادي نيراته من نحو صواعقه وجملة أحداثه ، فكان في هذا الخطاب اكتفاء بأصول من مبادىء الاعتبار ، فذكر السماء والأرض والآفاق وما بينهما من الرياح والسحب والماء المنزل الذي جملته قوام الخلق في عاجل دنياهم ، ليجعل لهم ذلك آية على علو أمر وراءه ويكون كل وجه منه آية على أمر من أمر الله فيكون آيات ، لتكون السماء آية على علو أمر الله فيكون أعلى من الأعلى ، وتكون الأرض آية على باطن أمر الله فيكون أبطن من الأبطن ، ويكون اختلاف الليل والنهار آية على نور بدوه وظلمة غيبته مما وراء أمر الليل والنار ، ويكون ما أنزل من الماء لإحياء الأرض وخلق الحيوان آية ما ينزل من نور علمه على القلوب فتحيا بها حياة تكون حياة الظاهر آية عليه ، ويكون تصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض آيات على تصريف ما بين أرض العبد الذي هو ظاهره وسمائه الذي هو(3/11)
باطنه ، وتسخير بعضه لبعض ليكون ذلك آية على علو الله على سمائه العلى في الحس وعلى سماء القلوب العلية في الوجدان ؛ فلجملة ذلك جعل تعالى صنوف هذه الاعتبارات {لآيات لقوم} وهم الذين يقومون في الأمر حق القيام ، ففيه إشعار بأن ذلك لا يناله من هو في سن الناس حتى يتنامى طبعه وفضيلة عقله إلى أن يكون من قوم يقومون في الاعتبار قيام المنتهضين في أمور الدنيا ، لأن العرب عرفت استعمالها في القوم إنما هو لأجل النجدة والقوة حتى يقولون : قوم أو نساء.
(3/12)
تقابلاً بين المعنيين ؛ وذكر تعالى العقل الذي هو نور من نوره هدى لمن أقامه من حد تردد حال الناس إلى الاستضاءة بنوره في قراءة حروف كتابه الحكيم التي كتبها بيده وأغنى الأميين بقراءة ما كتب لهم عن قراءة كتاب ما كتبه الخلق - انتهى ؛ فقال : {يعقلون} أي فيعلمون أن مصرف هذه الأمور على هذه الكيفيات المختلفة والوجوه المحكمة فاعل مختار وهو قادر بما يشاهد من إحياء الأرض وغيرها مما هو أكبر منه على بعث الموتى وغيره مما يريده وأنه مع ذلك كله واحد لا شريك له يمانعه العقلاء من الناس ، يعلمون ذلك بذلك فلا يتخذون أنداداً من دونه ولا يميلون عن جنابه الأعلى إلى سواه ، وقد اشتملت هذه الآية على جميع ما نقل البيهقي في كتاب الأسماء والصفات عن الحليمي أنه مما يجب اعتقاده في الله سبحانه وتعالى وهو خمسة أشياء : الأول إثباته سبحانه وتعالى لتقع به مفارقة التعطيل ، والثاني وحدانيته لتقع به البراءة عن الشرك - وهذان من قوله {وإلهكم إله واحد} [البقرة : 163] والثالث إثبات أنه ليس بجوهر ولا عرض لتقع به البراءة من التشبيه وهذا من قوله {لا إله إلا هو} [البقرة : 163] لأن من لا يسد غيره مسده لا شبيه له ، والرابع إثبات أن وجود كل ما سواه كان بإبداعه له واختراعه إياه لتقع به البراءة من قول من يقول بالعلة والمعلول وهذا من قوله {الرحمن الرحيم} [البقرة : 163] {إن في خلق السماوات والأرض} [البقرة : 164] ، والخامس أنه مدبر ما أبدع ومصرفه على ما يشاء لتقع به البراءة من قوله القائلين بالطبائع أو تدبير الكواكب أو تدبير الملائكة وهذا من قوله {وما أنزل الله من السماء من ماء} [البقرة : 164] إلى آخرها قال البيهقي : كأن أسماء الله سبحانه وتعالى جده التي ورد بها الكتاب والسنة وأجمع العلماء على تسميته بها منقسمة بين العقائد الخمس ، فليلحق بكل واحدة منهن بعضها ، وقد يكون منها ما يلتحق بمعنيين ويدخل في بابين(3/13)
أو أكثر - انتهى. وسبب تكثير الأدلة أن عقول الناس متفاوتة ، فجعل سبحانه وتعالى العالم وهو الممكنات الموجودة وهي جملة ما سواه الدالة على وجوده وفعله بالاختيار على قسمين : قسم من شأنه أن يدرك بالحواس الظاهرة ويسمى في عرف أهل الشرع الشهادة والخلق والملك ، وقسم لا يدرك بالحواس الظاهرة ويسمى الغيب والأمر والملكوت ، والأول يدركه عامة الناس والثاني يدركه أولو الألباب الذين عقولهم خالصة عن الوهم والوساوس ، فالله سبحانه وتعالى بكمال عنايته ورأفته ورحمته جعل العالم بقسميه محتوياً على جمل وتفاصيل من وجوه متعددة وطرق متكثرة تعجز القوى البشرية عن ضبطها يستدل بها على وحدانيته بعضها أوضح من بعض ليشترك الكل في المعرفة ، فيحصل لكل بقدر ما هيىء له ، اللهم إلا أن يكون ممن طبع على قلبه ، فذلك والعياذ بالله سبحانه وتعالى هو الشقي. أهـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 294 ـ 299}(3/14)
وقال العلامة أبو حيان فى البحر المحيط :
ومناسبة هذه الآية لما قبلها ، هو أنه لما ذكر تعالى أنه واحد ، وأنه منفرد بالإلهية ، لم يكتف بالإخبار حتى أورد دلائل الاعتبار. ثم مع كونها دلائل ، بل هي نعم من الله على عباده ، فكانت أوضح لمن يتأمل وأبهر لمن يعقل ، إذ التنبيه على ما فيه النفع باعث على الفكر. لكن لا تنفع هذه الدلائل إلا عند من كان متمكناً من النظر والاستدلال بالعقل الموهوب من عند الملك الوهاب ، وهذه الأشياء التي ذكرها الله ثمانية ، وإن جعلنا : وبث فيها ، على حذف موصول ، كما قدرناه في أحد التخريجين ، كانت تسعة ، وهي باعتبار تصير إلى أربعة : خلق ، واختلاف ، وإنزال ماء ، وتصريف.
فبدأ أولاً بالخلق ، لأنه الآية العظمى والدلالة الكبرى على الإلهية ، إذ ذلك إبراز واختراع لموجود من العدم الصرف. {أفمن يخلق كمن لا يخلق} {والذين يدعون من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون} ودل الخلق على جميع الصفات الذاتية ، من واجبية الوجود والوحدة والحياة والعلم والقدرة والإرادة ، وقدّم السماوات على الأرض لعظم خلقها ، أو لسبقه على خلق الأرض عند من يرى ذلك.
ثم أعقب ذكر خلق السماوات والأرض باختلاف الليل والنهار ، وهو أمر ناشىء عن بعض الجواهر العلوية النيرة التي تضمنتها السماوات. ثم أعقب ذلك بذكر الفلك ، وهو معطوف على الليل والنهار ، كأنه قال : واختلاف الفلك ، أي ذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية ، وهو أمر ناشىء عن بعض الأجرام السفلية الجامدة التي تضمنتها الأرض.
ثم أعقب ذلك بأمور اشترك فيها العالم العلوي والعالم السفلي ، وهو إنزال الماء من السماء ، ونشر ما كان دفيناً في الأرض بالأحياء. وجاء هذا المشترك مقدماً فيه السبب على المسبب ، فلذلك أعقب بالفاء التي تدل على السبب عند بعضهم.
(3/15)
ثم ختم ذلك بما لا يتم ما تقدمه من ذكر جريان الفلك وإنزال الماء وإحياء الموات إلا به ، وهو تصريف الرياح والسحاب. وقدم الرياح على السحاب ، لتقدم ذكر الفلك ، وتأخر السحاب لتأخر إنزال الماء في الذكر على جريان الفلك.
فانظر إلى هذا الترتيب الغريب في الذكر ، حيث بدأ أولاً باختراع السماوات والأرض ، ثم ثنى بذكر ما نشأ عن العالم العلوي ، ثم أتى ثالثاً بذكر ما نشأ عن العالم السفلي ، ثم أتى بالمشترك. ثم ختم ذلك بما لا تتم النعمة للإنسان إلا به ، وهو التصريف المشروح.
وهذه الآيات ذكرها تعالى على قسمين : قسم مدرك بالبصائر ، وقسم مدرك بالأبصار. فخلق السماوات والأرض مدرك بالعقول ، وما بعد ذلك مشاهد للأبصار. والمشاهد بالأبصار انتسابه إلى واجب الوجود ، مستدل عليه بالعقول ، فلذلك قال تعالى : {لآيات لقوم يعقلون} ، ولم يقل : لآيات لقوم يبصرون ، تغليباً لحكم العقل ، إذ مآل ما يشاهد بالبصر راجع بالعقل نسبته إلى الله تعالى. أ هـ البحر المحيط حـ 1 صـ 642}(3/16)
وقال العلامة ابن جزى :
واختلاف الليل والنهار أي اختلاف وصفهما من الضياء والظلام والطول والقصر ، وقيل إن أحدهما يخلف الآخر بما ينفع الناس من التجارة وغيرها وتصريف الرياح إرسالها من جهات مختلفة وهي الجهات الأربع وما بينهما وبصفات مختلفة فمنها ملقحة بالشجر وعقيم وصر وللنصر وللهلاك. أ هـ {التسهيل حـ 1 صـ 66 ـ 67}
وقال العلامة ابن عاشور :
موقع هاته الآية عقب سابقتها موقع الحجة من الدعوى ، ذلك أن الله تعالى أعلن أن الإله إله واحد لا إله غيره وهي قضية من شأنها أن تُتلقى بالإنكار من كثير من الناس فناسب إقامة الحجة لمن لا يقتنع فجاء بهذه الدلائل الواضحة التي لا يسع الناظر إلاّ التسليم إليها.
فإن هنا لمجرد الاهتمام بالخبر لِلَفْت الأنظار إليه ، ويحتمل أنهم نُزلوا منزلة من ينكر أن يكون في ذلك آيات (لقوم يعقلون) لأنهم لم يجروا على ما تدل عليه تلك الآيات. أهـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 76}
والمقصود من هاته الآية إثبات دلائل وجود الله تعالى ووحدانيته ولذلك ذكرت إثر ذكر الوحدانية لأنها إذا أثبتت بها الوحدانية ثبت الوجود بالضرورة. فالآية صالحة للرد على كفار قريش دُهريهم ومشركهم والمشركون هم المقصود ابتداء ، وقد قرر الله في هاته الآية دلائل كلها واضحة من أصناف المخلوقات وهي مع وضوحها تشتمل على أسرار يتفاوت الناس في دركها حتى يتناول كل صنف من العقلاء مقدار الأدلة منها على قدر قرائحهم وعلومهم. أهـ
{التحرير والتنوير حـ 2 صـ 77}
سؤال : لم قدم الليل على النهار ؟
والجواب : قدم الليل على النهار لسبقه في الخلق ، قال تعالى : {وآية لهم الليل نسلخ منه النهار} وقال قوم : إن النور سابق على الظلمة ، وعلى هذا الخلاف انبنى الخلاف في ليلة اليوم. فعلى القول الأول : تكون ليلة اليوم هي التي قبله ، وهو قول الجمهور ؛ وعلى القول الثاني : ليلة اليوم هي الليلة التي تليه ، وكذلك ينبني على اختلافهم في النهار ، اختلافهم في مسألة : لو حلف لا يكلم زيداً نهاراً.أ هـ {البحر المحيط حـ 1 صـ 639}
فوائد ولطائف
قال الخازن :
قيل : لما نزلت هذ الآية. قال المشركون : إن محمداً يقول : " إلهكم إله واحد فليأتنا بآية ن كان صادقاً "
فأنزل الله تعالى : {إن في خلق السماوات والأرض} وعلمه كيفية الاستدلال على وحدانية الصانع ، وردهم إلى التفكر في آياته والنظر في عجائب مصنوعاته وإتقان أفعاله ففي ذلك دليل على وحدانيته إذ لو كان في الوجود صانعان لهذه الأفعال ، لاستحال اتفاقهما على أمر واحد ولامتنع في أفعالهما التساوي في صفة الكمال فثبت بذاك أن خالق هذا العالم والمدبر له واحد قادر مختار ، فبين سبحانه وتعالى من عجائب مخلوقاته ثمانية أنواع أولها : إن في خلق السماوات والأرض وإنما جمع السماوات لأنها أجناس مختلفة كل سماء من جنس غير جنس الأخرى ووحد الأرض جنس واحد وهو التراب ، والآية في السماء هي سمكها وارتفاعها بغير عمد ، ولا علاقة وما يرى فيها من الشمس والقمر والنجوم ، والآية في الأرض مدها وبسطها على الماء ، وما يرى فيها من الجبال والبحار والمعادن والجواهر والأنهار والأشجار والثمار والنبات. النوع الثاني قوله تعالى : {واختلاف الليل والنهار} أي تعاقبهما في المجيء والذهاب وقيل اختلافهما في الطول والقصر والزيادة والنقصان والنور والظلمة.
وإنما قدم الليل على النهار لأن الظلمة أقدم.(3/17)
والآية في الليل والنهار أن انتظام أحوال العباد بسبب طلب الكسب والمعيشة يكون في النهار وطلب النوم والراحة يكون في الليل فاختلاف الليل والنهار إنما هو لتحصيل مصالح العباد.
والنوع الثالث قوله تعالى : {والفلك التي تجري في البحر} أي السفن واحدة وجمعه سواء ،
وسمي البحر بحراً لاتساعه وانبساطه ، والآية في الفلك تسخيرها وجريانها على وجه الماء وهي موقرة بالأثقال والرجال فلا ترسب وجريانها بالريح مقبلة ومدبرة ، وتسخير البحر لحمل الفلك مع قوة سلطان الماء ، وهيجان البحر فلا ينجي منه إلاّ الله تعالى.
النوع الرابع قوله تعالى : {بما ينفع الناس} يعني ركوبها والحمل عليها في التجارات لطلب الأرباح ، والآية في ذلك أن الله تعالى لو لم يقو قلب من يركب هذه السفن لما تم الغرض في تجاراتهم ، ومنافعهم وأيضاً فإن الله تعالى خص كل قطر من أقطار العالم بشيء معين ، وأحوج الكل إلى الكل فصار ذلك سبباً يدعوهم إلى اقتحام الأخطار في الأسفار من ركوب السفن وخوض البحر وغير ذلك فالحامل ينتفع ، لأنه يربح والمحمول إليه ينتفع بما حمل إليه.
النوع الخامس قوله تعالى : {وما أنزل الله من السماء من ماء} يعني المطر قيل أراد بالسماء السحاب.
سمي سماء لأن كل ما علاك فأظلك فهو سماء خلق الله الماء في السحاب ، ومنه ينزل إلى الأرض وقيل : أراد السماء بعينها خلق الله الماء في السماء ومنه ينزل إلى السحاب ثم منه إلى الأرض {فأحيا به} أي بالماء {الأرض بعد موتها} أي يبسها وجدبها.
سماه موتاً مجازاً لأنها إذا لم تنبت شيئاً ، ولم يصبها المطر فهي كالميتة ، والآية في إنزال المطر وإحياء الأرض به أن الله تعالى جعله سبباً لإحياء الجميع من حيوان ونبات ونزوله عند وقت الحاجة إليه بمقدار المنفعة ، وعند الاستسقاء والدعاء وإنزاله بمكان دون مكان.
(3/18)
النوع السادس قوله تعالى : {وبث} أي فرق {فيها} أي في الأرض {من كل دابة} قال ابن عباس : يريد كل ما دب على وجه الأرض من جميع الخلق من الناس وغيرهم ، والآية في ذلك أن جنس الإنسان يرجع إلى أصل واحد وهو آدم ثم ما فيهم من الاختلاف في الصور والأشكال والألوان والألسنة والطبائع والأخلاق والأوصاف إلى غير ذلك ثم يقاس على بني آدم سائر الحيوان.
النوع السابع قوله تعالى : {وتصريف الرياح} يعني في مهابِّها قبولاً ودبوراً وشمالاً وجنوباً ونكباء وهي الريح التي تأتي من غير مهب صحيح ، فكل ريح تختلف مهابها تسمى : نكباء.
وقيل : تصريفها في أحوال مهابها لينة وعاصفة وحارة وباردة.
وسميت ريحاً لأنها تريح.
قال ابن عباس : أعظم جنود الله الريح وقيل ما هبت ريح إلاّ لشفاء سقيم أو ضده.
وقيل : البشارة في ثلاث رياح الصبا والشمال والجنوب والدبور : هي الريح العقيم التي أهلكت بها عاد فلا بشارة فيها ، والآية في الريح أنها جسم لطيف لا يمسك ولا يرى وهي مع ذلك في غاية القوة تقلع الشجر والصخر وتخرب البنيان العظيم وهي مع ذلك حياة الوجود فلو أمسكت طرفة عين لمات كل ذي روح وأنتن ما على وجه الأرض.
النوع الثامن قوله تعالى : {والسحاب المسخر بين السماء والأرض} أي الغيم المذلل.
سمي سحاباً لسرعة سيره كأنه يسحب. والآية في ذلك أن السحاب مع ما فيه من المياه العظيمة التي تسيل منها الأدوية العظيمة يبقى معلقاً بين السماء والأرض ، ففي هذه الأنواع الثمانية المذكورة في هذه الآية دلالة عظيمة على وجود الصانع القادر المختار ، وأنه الواحد في ملكه فلا شريك له ولا نظير وهو المراد من قوله : {وإلهكم إله واحد لا إله إلاّ هو} وقوله : {لآيات} أي فيما ذكر من دلائل مصنوعات الدالة على وحدانيته.
(3/19)
قيل إنما جمع آيات لأن في كل واحد مما ذكر من هذه الآنواع آيات كثيرة تدل على أن لها خالقاً مدبراً مختاراً {لقوم يعقلون} أي ينظرون بصفاء عقولهم ويتفكرون بقلوبهم ، فيعلمون أن لهذه الأشياء خالقاً ومدبراً مختاراً وصانعاً قادراً على ما يريد. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 100}
أسئلة وأجوبة
سؤال : لماذا جمع السماوات وأفرد الأرض ؟
الجواب : وإنما جمع السماوات وأفرد الأرض للانتفاع بجميع أجزاء الأولى باعتبار ما فيها من نور كواكبها وغيره دون الثانية فإنه إنما ينتفع بواحدة من آحادها وهي ما نشاهده منها وقال أبو حيان : لم تجمع الأرض لأن جمعها ثقيل وهو مخالف للقياس ، ورب مفرد لم يقع في القرآن جمعه لثقله وخفة المفرد ، وجمع لم يقع مفرده كالألباب وفي "المثل السائر" نحوه ، وقال بعض المحققين : جمع السماوات لأنها طبقات ممتازة كل واحدة من الأخرى بذاتها الشخصية كما يدل عليه قوله تعالى : {فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سموات} [البقرة : 9 2] سواء كانت متماسة كما هو رأي الحكيم أو لا كما جاء في الآثار أن بين كل سماءين مسيرة خمسمائة عام مختلفة الحقيقة لما أن الاختلاف في الآثار المشار إليه بقوله تعالى : {وأوحى فِى كُلّ سَمَاء أَمْرَهَا} [فصلت : 2 1] يدل عليه ، ولم يجمع الأرض لأن طبقاتها ليست متصفة بجميع ذلك فإنها ، سواء كانت متفاصلة بذواتها ، كما ورد في الأحاديث من أن بين كل أرضين كما بين كل سماءين أو لا تكون متفاصلة كما هو رأي الحكيم غير مختلفة في الحقيقة اتفاقاً. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 31}
و قال ابن عرفة : وإنما جمعت السماوات وأفردت الأرضون مع أنها سبع لأنّ عدد السماوات يدرك بالرصد ، وطول الأعمار ، والكسوفات ، وأطوال البلاد وأعراضها ، وجري الكواكب ، والأرضون لا طريق لنا إلى إدراكها بوجه إلا من السمع ، لأن المشاهد لنا منها إنما هي أرض واحدة. أ هـ
{تفسير ابن عرفة صـ 205}(3/20)
سؤال : لم خص الفلك بالذكر ؟
خص الفلك بالذكر مع أن مقتضى المقام حينئذٍ أن يقال : والعجائب التي في البحر لأنه سبب الاطلاع على أحواله وعجائبه فكان ذكره ذكراً لجميع أحواله ، وطريقاً إلى العلم بوجوه دلالته ، ولذلك قدم على ذكر المطر والسحاب لأن منشأهما البحر في غالب الأمر ، وإلا فالمناسب بعد ذكر اختلاف الليل والنهار الذي هو من الآيات العلوية ذكر المطر والسحاب اللذين هما من كائنات الجو وعدم نظم الفلك في البين لكونها من الآيات السفلية.
وعندي أن هذا خلاف الظاهر جداً وإن جل قائله إذ يؤول المعنى إلى والبحر الذي تجري فيه الفلك بما ينفع الناس وهو قلب للنظم الكريم بغير داع إليه ولا دليل يعوّل عليه ، وأي مانع من كون الاستدلال باختلاف الفلك وذهابها مرة كذا ومرة كذا على حسب ما تحركها المقادير الإلهية ، أو بالفلك الجارية في البحر من حيث إنها جارية فيه موقرة مقبلة ومدبرة ، متعلقة بحبال الهواء على لطفه ، وكثافتها لا ترسب إلى قاع البحر مع تلاطم أمواجه واضطراب لججه ، وكون شيء من ذلك ليس حالاً لها في نفسها غير مسلم ، ووجه الترتيب على ما أرى أنه سبحانه ذكر أولاً : خلق أمرين علوي وسفلي ، واختلاف شيئين بمدخلية أمرين سماوي وأرضي ثانياً : إذ تعاقب الليل والنهار أو اختلافهما ازدياداً وانتقاصاً أو ظلمة ونوراً إنما هو بمدخلية سير الفلك وحيلولة جرم الأرض على كيفيتين مخصوصتين ، ثم عقب ذلك بما يشبه آيتي الليل والنهار السابح كل منهما في لجة بحر فلكه الدوار المسخر بالجريان فيه ذهاباً وإياباً بما ينفع الناس في أمر معاشهم وانتظام أحوالهم ، وهو الفلك التي تجري على كبد البحر بذلك ، ويختلف جريانها شرقاً وغرباً على حسب تسليك المقادير الإلهية لها في هاتيك المسالك ، فالآية حينئذٍ على حد قوله تعالى : (3/21)
{وَءايَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ والشمس تَجْرِى لِمُسْتَقَرّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم والقمر قدرناه مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم لاَ الشمس يَنبَغِى لَهَا أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِى فَلَكٍ يَسْبَحُونَ وَءايَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرّيَّتَهُمْ فِى الفلك المشحون} [يس : 7 3 ـ 41] إلا أن الفرق بين الآيتين أن الآيتين في الثانية ذكرتا متوسطتين صريحاً بين حديث الفلك وشأن الليل والنهار ، وفي الأولى تقدم ما يشعر بهما ويشير إليهما ، ثم عقب ذلك بما يشترك فيه العالم العلوي والعالم السفلي ، وله مناسبة لذكر البحر بل ولذكر الفلك التي تجري فيه بما ينفع الناس وهو إنزال الماء من السماء ونشر ما كان دفيناً في الأرض بالإحياء ، وفي ذلك النفع التام والفضل العام. أ هـ
{روح المعانى حـ 2 صـ 32}
سؤال : لم عقب تصريف الرياح بالسحاب ؟ ولم أخر تصريف الرياح وتسخير السحاب في الذكر عن جريان الفلك ؟
وتعقيب تصريف الرياح بالسحاب لأنه كالمعلول للرياح كما يشير إليه قوله تعالى : {الله الذى يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً} [الروم : 8 4] ولأن في جعله ختم المتعاطفات مراعاة في الجملة لما بدىء به منها لأنه أرضي سماوي فينتظم بدء الكلام وختمه ، وبما ذكرنا علم وجه الترتيب في الآية ، وقال بعض الفضلاء : لعل تأخير تصريف الرياح وتسخير السحاب في الذكر عن جريان الفلك وإنزال الماء مع انعكاس الترتيب الخارجي للإشعار باستقلال كل من الأمور المعدودة في كونها آية ولو روعي الترتيب الخارجي لربما توهم كون المجموع المرتب بعضه على بعض آية واحدة. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 33}
سؤال : لم خص الآيات الثمانية بالذكر مع أن سائر الأجسام والأعراض مستوية في الاستدلال بها على وجود الصانع ؟ (3/22)
الجواب : وإنما خص الآيات الثمانية بالذكر مع أن سائر الأجسام والأعراض مستوية في الاستدلال بها على وجود الصانع بل كل ذرّة من الذرات ، لأنها جامعة بين كونها نعماً على المكلفين على أوفر حظ ونصيب ومتى كانت الدلائل كذلك كانت أنجع في القلوب وأشد تأثير في الخواطر. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 183}
فائدة
و{تصريف الرياح} إرسالها عقيماً ومقحة وصراً ونصراً وهلاكاً ، ومنه إرسالها جنوباً وشمالاً وغير ذلك ، و{الرياح} جمع ريح ، وجاءت في القرآن مجموعة مع الرحمة مفردة مع العذاب ، إلا في يونس في قوله تعالى {وجرين بهم بريح طيبة} [يونس : 22] ، وهذا أغلب وقوعها في الكلام ، وفي الحديث : " كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إذا هبت الريح يقول : " اللهم اجعلها رياحاً ولاتجعلها ريحاً ".
قال القاضي أبو محمد عبد الحق رضي الله عنه : وذلك لأن ريح العذاب شديد ملتئمة الأجزاء كأنها جسم واحد ، وريح الرحمة لينة متقطعة فلذلك هي رياح وهو معنى " نشراً " ، وأفردت مع الفلك لأن ريح إجراء السفن إنما هي واحدة متصلة ، ثم وصفت بالطيب فزال الاشتراك بينها وبين ريح العذاب. أ هـ
{المحرر الوجيز حـ 1 صـ 233}
فائدة أخرى
وذكر لفظ {لقوم يعقلون} دون أن يقال للذين يعقلون أو للعاقلين لأن إجراء الوصف على لفظ قوم يومىء إلى أن ذلك الوصف سجية فيهم ، ومن مكملات قوميتهم ، فإن للقبائل والأمم خصائص تميزها وتشتهر بها كما قال تعالى : {وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} [التوبة : 56] ، وقد تكرر هذا في مواضع كثيرة من القرآن ومن كلام العرب ، فالمعنى إن في ذلك آيات للذين سجيتهم العقل ، وهو تعريض بأن الذين لم ينتفعوا بآيات ذلك ليست عقولهم براسخة ولا هي ملكات لهم وقد تكرر هذا في سورة يونس. أهـ
{التحرير والتنوير حـ 2 صـ 89}(3/23)
سؤالان :
قوله تعالى : "إن فى خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التى تجرى فى البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها". وفى سورة العنكبوت : "ولئن سألتهم من نزل من السماء ماء فأحيا به الأرض من بعد موتها ليقولن الله". وفى سورة الجاثية : "واختلاف اليل والنهار وما أنزل الله من السماء من رزق فأحيا به الأرض بعد موتها".
للسائل أن يسأل عن وجه اختصاص آية العنكبوت بمن دون الأخريين وعن قوله فى سورة الجاثية : "وما أنزل الله من السماء من رزق" فسمى الماء النازل من السماء رزقا بخلاف ما فى آيتى البقرة والعنكبوت.
والجواب عن الأول : أن زيادة"من" فى قوله فى العنكبوت : "من بعد موتها" زيادة بيان وتأكيد نوسب به ما تقدم من قوله"من نزل" فإن بنية فعل للمبالغة والتكثير وذلك مما يستجر البيان والتأكيد فنوسب بينهما ولما لم يقع فى الآيتين الأخرتين إلا لفظ"أنزل" ولا مبالغة فيها ولا تأكيد ولا انجر فى الكلام ما يعطيه لم يكن فيهما ما يستدعى زيادة"من" ليناسب بها فلم تقع فى الآيتين ولو قدر ورود عكس الواقع بزيادة"من" فى آيتى البقرة والجاثية وسقوطها فى آية البقرة لما ناسب ذلك أصلا فوضح تناسب الوارد وامتناع خلافه.
والجواب عن السؤال الثانى : إن آية الجاثية لما تأخرت فى الترتيب الذى استقر عليه القرآن كانت مظنة لبيان أن الرزق عن الماء قال تعالى : "ينبت لكم به الزرع والزيتون والنخيل والأعناب ومن كل الثمرات" وقال تعالى : "ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات وحب الحصيد والنخل باسقات لها طلع نضيد رزقا للعباد" ، فقال فى سورة الجاثية : "من رزق" تسمية للماء بما عنه يتسبب وتكون مبالغة فى بيان ما تقدم كما قال تعالى"وفى السماء روقكم وما توعدون". أ هـ ملاك التأويل صـ 74}(3/24)
كلام نفيس للإمام الفخر
قوله : {لآيَاتٍ} لفظ جمع فيحتمل أن يكون ذلك راجعاً إلى الكل ، أي مجموع هذه الأشياء آيات ويحتمل أن يكون راجعاً إلى كل واحد مما تقدم ذكره ، فكأنه تعالى بين أن في كل واحد مما ذكرنا آيات وأدلة وتقرير ذلك من وجوه.
أحدها : أنا بينا أن كل واحد من هذه الأمور الثمانية يدل على وجود الصانع سبحانه وتعالى من وجوه كثيرة.
وثانيها : أن كل واحد من هذه الآيات يدل على مدلولات كثيرة فهي من حيث إنها لم تكن موجودة ثم وجدت دلت على وجود المؤثر وعلى كونه قادراً ، لأنه لو كان المؤثر موجباً لدام الأثر بدوامه ، فما كان يحصل التغير ومن حيث أنها وقعت على وجه الإحكام والاتقان دلت على علم الصانع ، ومن حيث أن حدوثها اختص بوقت دون وقت دلت على إرادة الصانع ، ومن حيث أنها وقعت على وجه الأتساق والانتظام من غير ظهور الفساد فيها دلت على وحدانية الصانع ، على ما قال تعالى {لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ الله لَفَسَدَتَا} [الأنبياء : 22].
وثالثها : أنها كما تدل على وجود الصانع وصفاته فكذلك تدل على وجوب طاعته وشكره علينا عند من يقول بوجوب شكر المنعم عقلاً لأن كثرة النعم توجب الخلوص في الشكر.(3/25)
ورابعها : أن كل واحد من هذه الدلائل الثمانية أجسام عظيمة فهي مركبة من الأجزاء التي لا تتجزأ فذلك الجزء الذي يتقاصر الحس والوهم والخيال عن إدراكه قد حصل فيه جميع هذه الدلائل ، فإن ذلك الجزء من حيث إنه حادث ، فكان حدوثه لا محالة مختصاً بوقت معين ولا بد وأن يكون مختصاً بصفة معينة مع أنه يجوز في العقل وقوعه على خلاف هذه الأمور ، وذلك يدل على الافتقار إلى الصانع الموصوف بالصفات المذكورة ، وإذا كان كل واحد من أجزاء هذه الأجسام ومن صفاتها شاهداً على وجود الصانع ، لا جرم قال : إنها آيات وحاصل القول أن الموجود إما قديم وإما محدث ، أما القديم فهو الله سبحانه وتعالى ، وأما المحدث فكل ما عداه ، وإذا كان في كل محدث دلالة على وجود الصانع كان كل ما عداه شاهداً على وجوده مقراً بوحدانيته معترفاً بلسان الحال بإلهيته ، وهذا هو المراد من قوله : {وَإِن مّن شَىْءٍ إِلاَّ يُسَبّحُ بِحَمْدَهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ} [الإسراء : 44].
أما قوله تعالى : {لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ} فإنما خص الآيات بهم لأنهم الذين يتمكنون من النظر فيه ، والاستدلال به على ما يلزمهم من توحيد ربهم وعدله وحكمه ليقوموا بشكره ، وما يلزم عبادته وطاعته.
واعلم أن النعم على قسمين نعم دنيوية ونعم دينية ، وهذه الأمور الثمانية التي عدها الله تعالى نعم دنيوية في الظاهر ، فإذا تفكر العاقل فيها واستدل بها على معرفة الصانع صارت نعماً دينية لكن الانتفاع بها من حيث إنها نعم دنيوية لا يكمل إلا عند سلامة الحواس وصحة المزاج فكذا الانتفاع بها من حيث إنها نعم دينية لا يكمل إلا عند سلامة العقول وانفتاح بصر الباطن فلذلك قال : {لآيات لّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 183}
فائدة
قال العلامة الشنقيطى :
قوله تعالى : {إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض} الآية.(3/26)
لم يبين هنا وجه كونهما آية ، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله : {أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ والأرض مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ} [ق : 6-8] ، وقوله : {الذي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقاً مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتِ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير} [الملك : 3-5] ، وقوله في الأرض : {هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ وَإِلَيْهِ النشور} [الملك : 15].
قوله تعالى : {واختلاف الليل والنهار}.
لم يبين هنا وجه كون اختلافهما آية ، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ النهار سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفلاَ تُبْصِرُونَ وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ الليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [القصص : 71-73] ، إلى غير ذلك من الآيات. أ هـ
{أضواء البيان حـ 1 صـ 73}
قوله تعالى : {والسحاب المسخر بَيْنَ السمآء والأرض}.
(3/27)
لم يبين هنا كيفية تسخيره ، ولكنه بين ذلك في مواضع أخر كقوله : {وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْرىً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ المآء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُون} [الأعراف : 57] ، وقوله : {أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يُزْجِي سَحَاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ} [النور : 43].
من اللطائف العلمية فى الآية
مظاهر عظمة الله في الكون
آخر آية في المبحث الماضي دارت حول توحيد الله ، وهذه الآية تقدم الدليل على وجود الله ووحدانيته.
قبل أن ندخل في تفسير الآية ، لابدّ من مقدمة موجزة. حيثما كان "النظم والانسجام" ، فهو دليل على وجود العلم والمعرفة ، وأينما كان "التنسيق" فهو دليل على الوحدة. من هنا ، حينما نشاهد مظاهر النظم والانسجام في الكون من جهة ، والتنسيق ووحدة العمل فيه من جهة أخرى ، نفهم وجود مبدأ واحد للعلم والقدرة صدرت منه كل هذه المظاهر.
حينما نمعن النظر في الأغشية الستة للعين الباصرة ونرى جهازها البديع ، نفهم أن الطبيعة العمياء الصماء لا يمكن إطلاقاً أن تكون مبدأ مثل هذا الأثر البديع ، ثم حينما ندقق في التعاون والتنسيق بين هذه الأغشية ، والتنسيق بين العين بكل أجزائها وبين جسم الإنسان ، والتنسيق الفطري الموجود بين الإنسان وبين سائر البشر ، والتنسيق بين بني البشر وبين كل مجموعة نظام الكون ، نعلم أن كل ذلك صادر من مبدأ واحد ، وكل ذلك من آثار وقدرة ذات مقدسة واحدة.
ألا تدل القصيدة الجميلة العميقة المعنى على ذوق الشاعر وقريحته ؟!
ألا يدلّ التنسيق الموجود بين قصائد الديوان الواحد على أنها جميعاً صادرة من قريحة شاعر مقتدر واحد ؟
(3/28)
بعد هذه المقدمة نعود إلى تفسير الآية ، هذه الآية الكريمة تشير إلى ستة أقسام من آثار النظم الموجود في عالم الكون ، وكل واحد آية تدل على وحدانية المبدأ الأكبر. ـ (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ...)
من العلامات الدالة على ذات الله المقدسة وعلى قدرته وعلمه ووحدانيته ، السماء وكرات العالم العلوي ، أي هذه المليارات من الشموس المشرقة والنجوم الثابتة والسيارة ، التي ترى بالعين المجردة أو بالتلسكوبات ، ولا يمكن رؤية بعضها بأقوى أجهزة الإرصاد لبعدها الشاسع.... الشاسع للغاية ، والتي تنتظم مع بعضها في نظام دقيق مترابط.
وهكذا الأرض بما على ظهرها من حياة ، تتجلّى بمظاهر مختلفة وتتلبس بلباس آلاف الأنواع من النبات والحيوان.
ومن المدهش أن عظمة هذا العالم وسعته وامتداده تظهر أكثر كلما تقدّم العلم ، ولا ندري المدى الذي سيبلغه العلم في فهم سعة هذا الكون!
يقول العلم لنا اليوم :
إن في السماء آلافاً مؤلفة من المجرات ، ومنظومتنا الشمسية جزء من واحدة من المجرات ، وفي مجرتنا وحدها مئات الملايين من الشموس والنجوم السّاطعة ، وحسب دراسات العلماء يوجد بين هذه الكواكب مليون كوكب مسكون بمليارات الموجودات الحيّة!
حقاً ما أعظم هذا الكون! وما أعظم قدرة خالقه!!
(وَاخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ...)
من الدّلائل الأخرى على ذاته المقدسة وصفاته المباركة تعاقب الليل والنهار ، والظلمة والنور بنظام خاص ، فينقص أحدهما بالتدريج ليزيد في الآخر ، وما يتبع ذلك من تعاقب الفصول الأربعة ، وتكامل النباتات وسائر الأحياء في ظل هذا التكامل.
لو انعدم هذا التغيير التدريجي ، أو انعدم النظام في هذا التدريج ، أو انعدم تعاقب الليل والنهار لانمحت الحياة من وجه الكرة الأرضية ، ولو بقيت واستمرت ـ فرضاً ـ لأصابتها الفوضى والخبط
(وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْر بِمَا يَنْفَعُ النّاسَ)
(3/29)
الإنسان يمخر عباب البحار والمحيطات بالسفن الكبيرة والصغيرة ، مستخدماً هذه السفن للسفر ولنقل المتاع. وحركة هذه السفن خاصة الشراعية منها تقوم على عدّة أنظمة :
الأوّل ، نظام هبوب الرياح على سطح مياه الكرة الأرضية ، فهناك الرياح القارية التي تهبّ من القطبين الشمالي والجنوبي نحو خطّ الاستواء وبالعكس وتدعى "اليزه" و"كنتر اليزه" ؟؟ .
وهناك الرياح الإقليمية التي تهب وفق نظام معين ، وتعتبر قوة طبيعية لتحريك السفن نحو مقاصدها.
وهكذا خاصية الخشب ، أو خاصية القوّة الدافعة التي يسلطها الماء على الأجسام الغاطسة فيه ، فيجعل هذه السفن تطفو على سطح الماء.
أضف إلى ذلك خاصية القطبين المغناطيسيين للكرة الأرضية ، التي تساعد البحارة باستخدام البوصلة أن يعرفوا اتجاههم في وسط البحار ، إضافة إلى استفادتهم من نظام حركة الكواكب في معرفة جهة السير.
كل هذه الأنظمة تساعد على الاستفادة من الفلك ،
وتعطي دلي محسوساً على قدرة الله وعظمته ، وتعتبر آية من آيات وجوده.
استعمال المحركات الوقودية بدل الأشرعة في السفن اليوم ، لم يقلل أهمية هذه الظاهرة ، بل زادها عجباً ودهشة ، إذ نرى اليوم السفن العملاقة التي تشبه مدينة بجميع مرافقها ، تطفو على سطح الماء وتتنقل بفنادقها وساحات لعبها وأسواقها ، بل ومدارج للطائرات فيها... على ظهر البحار والمحيطات.
(وَمَا أَنْزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاء فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّة...).
من مظاهر قدرة الله وعظمته المطر الذي يحيي الأرض ، فتهتز ببركته وتنمو فيها النباتات وتحيا الدواب بحياة هذه النباتات ، وكل هذه الحياة تنتشر على ظهر الأرض من قطرات ماء لا حياة فيها.
(وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ...) ، لا على سطح البحار والمحيطات لحركة السفن فحسب ، بل على الجبال والهضاب والسهول أيضاً لتلقيح النباتات فتخرج لنا ثمارها اليانعة.(3/30)
وتارة تعمل على تحريك أمواج المحيطات بصورة مستمرة ومخضها مخض السقاء لإيجاد محيط مستعد لنمو وحياة الكائنات البحرية.
وأخرى تقوم بتعديل حرارة الجو وتلطيف المناخ بنقلها حرارة المناطق الاستوائية إلى المناطق الباردة ، وبالعكس.
وأحياناً تقوم بنقل الهواء الملوّث الفاقد للأوكسجين من المدن إلى الصحاري والغابات لمنع تراكم السموم في الفضاء.
أجل فهبوب الرياح مع كل تلك البركات والفوائد علامة أخرى على حكمة البارئ ولطفه الدائم.
(وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ والأَرْضِ...) والسحب المتراكمة في أعالي الجو ، المحمّلة بمليارات الأطنان من المياه خلافاً لقانون الجاذبية ، والمتحركة من نقطة إلى أخرى دون إيجاد خطر ، من مظاهر عظمة الله سبحانه.
إضافة إلى أن هذا الودق (المطر) الَّذي يخرج من خلال السحاب يحيي الأرض ، وبحياة الأرض تحيا النباتات والحيوانات والإِنسان ، ولولا ذلك لتحولت الكرة الأرضية إلى أرض مقفرة موحشة.
وهذا مظهر آخر لعلم الله سبحانه وقدرته.
وكل تلك العلامات والمظاهر (لآيَات لِقَوْم يَعْقِلُونَ) ، لا للغافلين الصم البكم العمي.أ هـ {الأمثل حـ صـ 347 ـ 359}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
تَعَرَّف إلى قلوب الطالبين من أصحاب الاستدلال وأرباب العقول بدلالات قدرته ، وأمارات وجوده ، وسمات ربوبيته التي هي أقسام أفعاله. ونبههم على وجود الحكمة ودلالات الوحدانية بما أثبت فيها من براهينَ تلطف عن العبارة ، ووجوهٍ من الدلالات تَدِقُّ عن الإشارة ، فما من عينٍ من العدم محصولة - من شخصٍ أو طلل ، أو رسم أو أثر ، أو سماء أو فضاء ، أو هواء أو ماءٍ ، أو شمسٍ أو قمر ، أو قَطْرٍ أو مطر ، أو رَمل أو حجرٍ ، أو نجم أو شجرٍ - إلا وهو على الوحدانية دليل ، ولِمَنْ يقصد وجوده سبيل. أهـ
{لطائف الإشارات حـ 1 صـ 144}(3/31)
الإعجاز العلمى فى تصريف الرياح
بقلم الدكتور / زغلول النجار
آيات الله البينات في تصريف الرياح , وأبدأ بذكر الرياح في القرآن الكريم.
الرياح في القرآن الكريم
المناطق المناخية على سطح الأرض ودورها فى تصريف الرياح يعرف (الريح) بأنه الهواء المتحرك , وجاء ذكر الريح في تسعة وعشرين (29) موضعا من القرآن الكريم منها (14) مرة بالمفرد (ريح ). وأربع (4) مرات بالصياغة (ريحا ), ومرة واحدة بالصياغة (ريحكم ), وعشر (10) مرات بصفة الجمع المعرف (الرياح ).
كما جاءت الاشارة الي الرياح بعدد من صفاتها مثل (الذاريات) وهي الرياح التي تذرو التراب وغيره لقوتها , و( العاصفات) وهي الرياح الشديدة المدمرة لمن ترسل عليهم , و( المرسلات) وهي الرياح المرسلة لعذاب الكافرين , والمشركين والمكذبين.
ومعظم الآيات القرآنية التي ذكر فيها ارسال (الريح) بالإفراد (أي بلفظ الواحد) جاءت في مقام العذاب ومعظم المواضع التي ذكرت فيها (الرياح) بلفظ الجمع جاءت في مقامات الرحمة والثواب.
ومن آيات ذكر الريح بالإفراد قول الله (تعالي) :
(1) مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر أصابت حرث قوم ظلموا أنفسهم فأهلكته وما ظلمهم الله ولكن أنفسهم يظلمون (آل عمران : 117).
(2) هو الذي يسيركم في البر والبحر حتي إذا كنتم في الفلك وجرين بهم بريح طيبة وفرحوا بها جاءتها ريح عاصف وجاءهم الموج من كل مكان وظنوا أنهم أحيط بهم دعوا الله مخلصين له الدين لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين (يونس : 22).
(3) مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا علي شيء ذلك هو الضلال البعيد
( إبراهيم : 18)
(4) أم أمنتم أن يعيدكم فيه تارة أخري فيرسل عليكم قاصفا من الريح فيغرقكم بما كفرتم ثم لا تجدوا لكم علينا به تبيعا (الإسراء : 69).
(5) ولسليمان الريح عاصفة تجري بأمره إلي الأرض التي باركنا فيها وكنا بكل شيء عالمين(3/32)
( الأنبياء : 81).
(6) حنفاء لله غير مشركين به ومن يشرك بالله فكأنما خر من السماء فتخطفه الطير أو تهوي به الريح في مكان سحيق (
الحج : 31)
(7) ولسليمان الريح غدوها شهر ورواحها شهر..( سبأ : 12)
(8) فسخرنا له الريح تجري بأمره رخاء حيث أصاب.( ص : 36).
(9) ومن آياته الجوار في البحر كالأعلام إن يشأ يسكن الريح فيظللن رواكد علي ظهره إن في ذلك لآيات لكل صبار شكور (الشوري : 33,32).
(10) فلما رأوه عارضا مستقبل أوديتهم قالوا هذا عارض ممطرنا بل هو ما استعجلتم به ريح فيها عذاب أليم.( الأحقاف : 34).
(11) وفي عاد إذ أرسلنا عليهم الريح العقيم
( الذاريات : 41).
(12) وأما عاد فأهلكوا بريح صرصر عاتية
( الحاقة : 6).
(13) ولئن أرسلنا ريحا فرأوه مصفرا لظلوا من بعده يكفرون (الروم : 51).
(14).. إذ جاءتكم جنود فأرسلنا عليهم ريحا وجنودا لم تروها (الأحزاب : 9).
(15) فأرسلنا عليهم ريحا صرصرا في أيام نحسات لنذيقهم عذاب الخزي في الحياة الدنيا ولعذاب الآخرة أخزي وهم لا ينصرون
( فصلت : 16).
(16) إنا أرسلنا عليهم ريحا صرصرا في يوم نحس مستمر.( القمر : 19).
ومن آيات ذكر (الرياح) بالجمع قول الله (تعالي) :
(1)... وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون.
( البقرة : 164).
(2) وهو الذي يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته حتي إذا أقلت سحابا ثقالا سقناه لبلد ميت فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات كذلك نخرج الموتي لعلكم تذكرون.
( الأعراف : 57).
(3) وأرسلنا الرياح لواقح فأنزلنا من السماء ماء فأسقيناكموه وما أنتم له بخازنين
( الحجر : 22).
(4).. فأصبح هشيما تذروه الرياح...
( الكهف : 45).
(5) وهو الذي أرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته وأنزلنا من السماء ماء طهورا
( الفرقان : 48).
(6)... ومن يرسل الرياح بشرا بين يدي رحمته..( النمل : 63).
(7) ومن آياته أن يرسل الرياح مبشرات...
( الروم : 46).(3/33)
(8) الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا...
) الروم : 48).
(9) والله الذي أرسل الرياح فتثير سحابا...
( فاطر : 9).
(10)... وتصريف الرياح آيات لقوم يعقلون
( الجاثية : 5).(3/34)
الإعجاز العلمى فى تصريف الرياح
تصريف الرياح في منظور العلوم المكتسبة
يعرف الريح بأنه الهواء المتحرك بالنسبة للأرض , والذي يمكن إدراكه إلي ارتفاع يصل إلي 65 كم تقريبا فوق مستوي سطح البحر , وإلي هذا الارتفاع تحكم حركة الرياح نفس العوامل التي تحكمها فوق سطح البحر وهي : الجاذبية الأرضية , قدر الاحتكاك بسطح الأرض , وتدرج معدلات الضغط الجوي , أما في المستويات الأعلي من ذلك فإن عوامل أخري تسود من مثل الكهربية الجوية , المغناطيسية , وعمليات المد والجزر الهوائيين.
وبما أن 99% من كتلة الغلاف الغازي للأرض تقع دون ارتفاع 50 كم فوق مستوي سطح البحر أي دون مستوي الركود الطبقي
(TheStratopause),
فإن دراسة حركة الرياح تتركز أساسا في هذا الجزء السفلي من الغلاف الغازي للأرض.
وتقسم الرياح بالنسبة إلي ارتفاعها عن سطح الأرض إلي ما يلي :
(1) رياح سطحية وتمتد من مستوي سطح البحر إلي بضعة كيلو مترات قليلة فوقه.
(2) رياح متوسطة وتمتد فوق الرياح السطحية إلي ارتفاع 35 كم فوق مستوي سطح البحر.
(3) ورياح مرتفعة وتمتد في المستوي من 35 إلي 65 كم فوق مستوي سطح البحر.
وتقسم الرياح السطحية حسب شدتها علي النحو التالي :
ويصف القرآن الكريم الصنفين الأول والثاني من هذا التصنيف باسم الريح الساكن , والأصناف من الثالث إلي السادس باسم الريح الطيبة , والأصناف من السابع إلي التاسع باسم الريح العاصف , والأصناف من التاسع إلي الثالث عشر باسم الريح القاصف , وهذا سبق قرآني بأكثر من عشرة قرون للمعرفة العلمية المكتسبة في هذا المجال.
ويمكن تصنيف الرياح بحسب القوي المحركة لها وأهمها التأثير المشترك للعوامل التالية : التوازن الإشعاعي للشمس , وتوزيع درجات الحرارة عبر خطوط العرض المختلفة , ودوران الأرض حول محورها أمام الشمس , بالإضافة إلي التضاريس الأرضية المختلفة.(3/35)
ويقدم كم الطاقة الشمسية التي تصل إلي الأرض الطاقة اللازمة لحركة الرياح , وذلك لأن أشعة الشمس التي تتعامد علي خط الاستواء وتميل ميلا كبيرا فوق القطبين تؤدي إلي التباين في توزيع درجات الحرارة علي سطح الأرض , هذا التباين الذي ينتج عنه حركة صاعدة للهواء الساخن حول خط الاستواء , وحركة هابطة للهواء البارد فوق القطبين.
كذلك فإن دوران الأرض حول محورها من الغرب إلي الشرق يؤدي إلي دفع الهواء المحيط بالمنطقة الاستوائية في اتجاه الغرب , والحقيقة أن الدورة الفعلية للرياح لها عدد من الخلايا بين خط الاستواء وكل قطب من قطبي الأرض , وعند تحرك كتلة من الهواء من فوق خط الاستواء باتجاه أحد القطبين فإنه نتيجة لحفظ العزم الزاوي للهواء المتحرك فوق أرض تدور فإن الهواء المتحرك في اتجاه القطب لابد أن ينحرف شرقا , والهواء المتحرك فوق خط الاستواء لابد أن ينحرف في اتجاه الغرب , وبالمثل الرياح السطحية تتجه إلي الشرق , بينما تتجه الرياح الوسطي إلي الغرب.
والنتيجة هي دورة عامة للرياح شديدة الانتظام حول الأرض , وذات عدة دوائر كبيرة بين خط الاستواء وكل قطب من قطبي الأرض منها دوائر حارة فوق المناطق الاستوائية , ودوائر باردة فوق القطبين , ودوائر معتدلة الحرارة بينهما , مع وجود عدد من الجبهات الهوائية بين تلك الدوائر , وبالإضافة إلي ذلك تتدخل الظروف الجغرافية المحلية فيكون الهواء دافئا ورطبا فوق المحيطات
(3/36)
المدارية , وحارا جافا فوق الصحاري , وباردا جافا فوق المناطق المكسوة بالجليد , وتتداخل هذه الكتل الهوائية , وتتكون بذلك السحب ومنها الممطر والعقيم وتحدث الاعاصير بمراحلها المختلفة وتتحرك كتل الهواء الساخن من المناطق الاستوائية في اتجاه القطبين , كما تتحرك كتل الهواء البارد من القطبين في اتجاه خطوط العرض العالية , في تموجات واضحة تظهر آثارها علي كل من أسطح البحار , وفي شواطئها (نيم البحر ), وفي تموجات أسطح الكثبان الرملية (علامات النيم) وغير ذلك من آثار حركات كل من الرياح وأمواج البحار.
ومن الظروف الجغرافية المحلية التي تؤثر في حركة الرياح تضاريس سطح الأرض مثل السلاسل الجبلية , والتلال , والهضاب , والسهول والمنخفضات , والكتل المائية المختلفة , ففي الصيف تسخن اليابسة بسرعة أكبر من المحيطات , وفي الشتاء يحتفظ ماء المحيطات بالحرارة لمدة أطول فتكون أدفأ من اليابسة , وينشأ عن تلك الفروق نسيم البر والبحر , كما ينشأ عن فروق التضاريس دورة الرياح بين الجبال والأودية والمنخفضات , وهذه الحركات الأفقية للكتل الهوائية تصاحبها حركات رأسية , فإذا ارتفعت درجة حرارة كتلة من الهواء بحيث تصبح أدفأ من الهواء المحيط بها , فإن الهواء الساخن يصعد إلي أعلي , فيتناقص ضغطه وتنخفض درجة حرارته , وتبدأ ما فيه من رطوبة في التكثف إذا وصلت درجة الحرارة إلي نقطة التشبع (نقطة تكون الندي ), وبذلك تتكون السحب وتتهيأ الفرص لهطول المطر بإذن الله.
من هذا العرض يتضح أن الرياح التي تبدو للمراقب من الناس هوجاء عاصفة لها في الحقيقة توزيع دقيق علي سطح الأرض , تحكمه قوانين شديدة الانضباط , وقد وصف القرآن الكريم هذه الدقة في التوزيع والانضباط في الحركة بوصف معجز هو تصريف الرياح , بمعني أن الرياح لا تتحرك هذه الحركات العديدة بذاتيتها , ولكن بقدرة الله الذي يصرفها بعلمه وبحكمته كيفما
(3/37)
يشاء , والرياح تقوم بدور رئيسي (بإذن الله) في تكوين السحب , وإنزال المطر , وإتمام دورة الماء حول الأرض وإلا فسد , وفي تفتيت الصخور وتعريتها , وتكوين التربة والرمال السافية وتحريكها , وفي تلطيف الجو وتكييفه , وتطهيره من الملوثات التي تحملها حركة الرياح جنوبا وشمالا في اتجاه قطبي الأرض وغير ذلك من المهام الرئيسية في جعل الأرض صالحة للعمران. فسبحان مصرف الرياح , ومجري السحاب , ومنزل القطر الذي أنزل في محكم كتابه , وعلي خاتم أنبيائه ورسله (صلي الله عليه وسلم) من قبل ألف وأربعمائة من السنين هذا الوصف المعجز (تصريف الرياح ), وهو وصف لم يدرك العلم الكسبي دلالته إلا في القرن العشرين وبعد مجاهدة استغرقت جهود آلاف من المتخصصين , وهو مع دقته يؤكد أن حركة الرياح وإن فهمنا بعض القوي الدافعة لها تبقي من جند الله , يجريها وفق مشيئته بالخير لمن يشاء من عباده , كما يجريها وفق إرادته لإبادة العاصين من الكفار والمشركين المتجبرين في الأرض والمحاربين لعباد الله فيها , ففهمنا لميكانيكية الحدث لا يخرجه عن إطار كونه من جند الله , خاضعا لإرادته ومشيئته , فالحمد لله الذي أنزل القرآن بعلمه , وعلمه خاتم أنبيائه ورسله , وأبقاه شاهدا علي حقيقة نبوته ورسالته , وحفظه بلغة وحيه حفظا كاملا علي مدي أربعة عشر قرنا أو يزيد وإلي يوم الدين , هاديا لطلاب الحق في كل مكان وزمان.
وصلي الله وسلم وبارك علي سيدنا محمد.
قضايا واراء
42231... السنة 126-العدد... 2002... يوليو... 22... 12 من جمادى الأولى 1423 هـ... الإثنين بقلم الدكتور / زغلول النجار.(3/38)
قوله تعالى {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165)}
مناسبة الآية لما قبلها
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما قرر التوحيد بالدلائل القاهرة القاطعة أردف ذلك بتقبيح ما يضاد التوحيد لأن تقبيح ضد الشيء مما يؤكد حسن الشيء ولذلك قال الشاعر : وبضدها تتبين الأشياء ، وقالوا أيضاً النعمة مجهولة ، فإذا فقدت عرفت ، والناس لا يعرفون قدر الصحة ، فإذا مرضوا ثم عادت الصحة إليهم عرفوا قدرها ، وكذا القول في جميع النعم ، فلهذا السبب أردف الله تعالى الآية الدالة على التوحيد بهذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 184}
وقال أبو السعود :
{وَمِنَ الناس مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله} بيانٌ لكمال ركاكةِ آراءِ المشركين إثرَ تقريرِ وحدانيتِه سبحانه وتحريرِ الآياتِ الباهرةِ المُلجئةِ للعقلاء إلى الاعتراف بها الفائضةِ باستحالة أن يشاركَه شيءٌ من الموجودات في صفة من صفات الكمالِ فضلاً عن المشاركة في صفات الألوهية. أ هـ
{تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 185}
وقال الإمام البقاعى ـ رحمه الله ـ : (3/39)
ولما نهضت الأدلة وسطعت البراهين وزاحت العلل والشكوك عاب من عبد سواه وفزع إلى غيره كما نهى عن الأنداد عقب الآية الأولى الداعية إلى العبادة مشيراً بختم التي قبل بيعقلون ، إلى أن هؤلاء ناس ضلت عقولهم وفالت آراؤهم وبين أنهم يتبرأ بعضهم من بعض يوم ينكشف حجاب الغفلة عن سرادق العظمة ويتجلى الجبار في صفة النقمة فقال سبحانه وتعالى عاطفاً على ما قدرته مما أرشد إليه المعنى : ومن ، أو يكون التقدير فمن الناس من عقل تلك الآيات فآمن بربه وفنى في حبه {ومن الناس من يتخذ} وهم من لا يعقل {من دون الله} الذي لا كفؤ له مع وضوح الأدلة {أنداداً} مما خلقه ، ادعوا أنهم شركاؤه ، أعم من أن يكونوا أصناماً أو رؤساء يقلدونهم في الكفر بالله والتحريم والتحليل من غير أمر الله {يحبونهم} من الحب وهو إحساس بوصلة لا يدرى كنهها {كحب الله} الذي له الجلال والإكرام بأن يفعلوا معهم من الطاعة والتعظيم فعل المحب كما يفعل من ذلك مع الله الذي لا عظيم غيره ، هذا على أنه من المبني للمفعول ويجوز أن يكون للفاعل فيكون المعنى كحبهم لله لأنهم مشركون {والذين آمنوا أشد حباً لله} الذي له الكمال كله من حب المشركين لأندادهم فأفاض عليهم من كماله ، لأنهم لا يعدلون به شيئاً في حالة من الحالات من ضراء أو سراء في بر أو بحر ، بخلاف المشركين فإنهم يعدلون في الشدائد إليه سبحانه وتعالى ، وإذا رأوا في الرخاء حجراً أحسن تركوا الأول وعبدوه ، وحبهم هوائي وحب المؤمنين عقلي. وقال الحرالي : ولما استحق القوم القائمون في أمر الله سبحانه وتعالى هذا الاعتبار بما آتاهم الله من العقل لم يكن من اتخذ من دون الله أنداداً مما يقال فيهم : قوم ، بل يقصرون إلى اسم النوس الذي هو تردد وتلدّد فكأنه سبحانه وتعالى عجب ممن لم يلحق بهؤلاء القوم في هذا الاعتبار الظاهرة شواهده البيّنة آثاره ، فأنبأ أن طائفة من الناس على المقابلة من ذلك الاعتبار الظاهر(3/40)
لنور العقل في أخذهم لمقابل العقل من الحزق الذي يقدم في موضع الإحجام ويحجم في موضع الإقدام ، ثم غلب ذلك عليهم حتى وصل إلى بواطنهم فصار حباً كأنه وصلة بين بواطنهم وقلوبهم وما اتخذوه من دون الله أنداداً ، ففيه إشعار بنحو مما أفصح به لبني إسرائيل في كون قلوبهم كالحجارة أو أشد قسوة ، ففي كرم هذا الخطاب في حق العرب ستر عليهم رعاية لنبيهم في أن يصرح عليهم بما صرح على بني إسرائيل ، ففي لحنه إشعار بأن من اتخذ نداً من دون الله فتلك لوصلة بين حال قلبه وحال ما اتخذ من دون الله ، فمن عبد حجراً فقلبه في القلوب حجر ومن عبد نباتاً فقلبه في القلوب نبات ، وكذا من عبد دابة {وأشربوا في قلوبهم العجل بكفرهم} [البقرة : 93] كذلك إلى ما يقع معبوداً من دون الله ما بين أعلى النيرين الذي هو الشمس إلى أدنى الأوثان إلى ما يقع في الخلق من عبادة بعضهم بعضاً من نحو عبادة الفراعنة والنماردة إلى ما يلحق بذلك من نحو رتبة العبادة باتباع الهوى الشائع موقعه في الأمم وفي هذه الأمة ، لأن من غلب عليه هوى شيء فقد عبده ، فكأن عابد الشمس قلبه سعير ، وعابد النار قلبه نار ، وعابد القمر قلبه زمهرير ، ومن عبد مثله من الخلق فقد عبد هواه {أرأيت من اتخذ إلهه هواه} [الفرقان : 43] فمن عبد الله فهو الذي علا عن سواه من المخلوقات فعادل سبحانه وتعالى خطاب الأولين المعتبرين العقلاء بهذا الصنف الذي انتهى أمرهم في الكفر إلى الحب من حيث اعتقلت بواطنهم بهم فيما شأنه أن يختص بالله من الخوف والرجاء والنصرة على الأعداء والإعانة للأولياء ، فلما توهموا فيهم مرجى الإلهية ، ومخافتها أحبوهم لذلك كحب الله ؛ لأن المتعبد مؤتمر ومبادر فالمبادر قبل الأمر محب ، والمجيب للأمر مطيع ، فالمحب أعلى في الطرفين - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1صـ 299 ـ 300}
قوله تعالى {من دون الله}
قال فى التحرير والتنوير : (3/41)
وقوله : {من دون الله} معناه مع الله لأن كلمة دون تؤذن بالحيلولة لأنها بمعنى وراء فإذا قالوا اتخذه دون الله فالمعنى أنه أفرده وأعرض عن الله وإذا قالوا اتخذه من دون الله فالمعنى أنه جعله بعض حائل عن الله أي أشركه مع الله لأن الإشراك يستلزم الإعراض عن الله في أوقات الشغل بعبادة ذلك الشريك. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ 2صـ 89}
سؤال ما معنى الند ؟
الجواب كما ذكره ابن عطية :
الند والنظير والمقاوم والموازي كان ضداً أو خلافاً أو مثلاً ، إذا قاوم من جهة فهو منها ند ، وقال مجاهد وقتادة : المراد بالأنداد الأوثان ، وجاء ضميرها في {يحبونهم} ضمير من يعقل لما أنزلت بالعبادة منزلة من يعقل ، وقال ابن عباس والسدي : المراد بالأنداد الرؤساء المتبعون يطيعونهم في معاصي الله تعالى. أ هـ
{المحرر الوجيز حـ 1صـ 234}
سؤال : ما المراد من الأنداد ؟
الجواب : قال الفخر :
اختلفوا في المراد بالأنداد على أقوال.
أحدها : أنها هي الأوثان التي اتخذوها آلهة لتقربهم إلى الله زلفى ، ورجوا من عندها النفع والضر ، وقصدوها بالمسائل ، ونذروا لها النذور ، وقربوا لها القرابين ، وهو قول أكثر المفسرين ، وعلى هذا الأصنام أنداد بعضها لبعض ، أي أمثال ليس إنها أنداداً لله ، أو المعنى : إنها أنداد لله تعالى بحسب ظنونهم الفاسدة.
وثانيها : إنهم السادة الذين كانوا يطيعونهم فيحلون لمكان طاعتهم ما حرم الله ، ويحرمون ما أحل الله ، عن السدي ، والقائلون بهذا القول رجحوا هذا القول على الأول من وجوه.
الأول : أن قوله : {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ الله} الهاء والميم فيه ضمير العقلاء.
الثاني : أنه يبعد أنهم كانوا يحبون الأصنام كمحبتهم الله تعالى مع علمهم بأنها لا تضر ولا تنفع.(3/42)
الثالث : أن الله تعالى ذكره بعد هذه الآية : {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} [البقرة : 166] وذلك لا يليق إلا بمن اتخذ الرجال أنداد وأمثالاً لله تعالى ، يلتزمون من تعظيمهم والانقياد لهم ، ما يلتزمه المؤمنون من الانقياد لله تعالى.
القول الثالث : في تفسير الأنداد قول الصوفية والعارفين ، وهو أن كل شيء شغلت قلبك به سوى الله تعالى ، فقد جعلته في قلبك نداً لله تعالى وهو المراد من قوله : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ} [الفرقان : 43]. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 184}
سؤال : فإن قيل : إذا كان المؤمنون أشد حباً لله فما معنى قوله : {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبّ الله} ؟
قيل له : يحتمل أن بعض المؤمنين حبهم مثل حبهم وبعضهم أشد حباً ، وفي أول الآية ذكر بعض المؤمنين ، وفي آخر الآية ذكر المؤمنين الذين هم أشد حباً لله. والحب لله أن يطيعوه في أمره وينتهوا عن نهيه ، فكل من كان أطوع لله فهو أشد حباً له. كما قال القائل :
لَوْ كَانَ حُبُّكَ صَاِدقاً لأَطَعْتَه... إِنَّ المُحْبَّ لِمَنْ يُحْبُّ مُطِيعُ.
أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 137}
سؤال : فإن قيل : العاقل يستحيل أن يكون حبه للأوثان كحبه لله ، وذلك لأنه بضرورة العقل يعلم أن هذه الأوثان أحجار لا تنفع ، ولا تضر ، ولا تسمع ، ولا تبصر ولا تعقل ، وكانوا مقرين بأن لهذا العالم صانعاً مدبراً حكيماً ولهذا قال تعالى : {وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله} [الزمر : 38] ومع هذا الاعتقاد كيف يعقل أن يكون حبهم لتلك الأوثان كحبهم لله تعالى ، وأيضاً فإن الله تعالى حكى عنهم أنهم قالوا : {مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرّبُونَا إِلَى الله زُلْفَى} [الزمر : 3] وإذا كان كذلك ، كان المقصود الأصلي طلب مرضات الله تعالى ، فكيف يعقل الاستواء في الحب مع هذا القول ؟ (3/43)
قلنا قوله : {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله} أي في الطاعة لها ، والتعظيم لها ، فالاستواء على هذا القول في المحبة لا ينافي ما ذكرتموه. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 185}
وقال فى التحرير والتنوير :
واعلم أن المراد إنكار محبتهم الأنداد من أصلها لا إنكار تسويتها بحب الله تعالى وإنما قيدت بمماثلة محبة الله لتشويهها وللنداء على انحطاط عقول أصحابها وفيه إيقاظ لعيون معظم المشركين وهم الذين زعموا أن الأصنام شفعاء لهم كما كثرت حكاية ذلك عنهم في القرآن فنبهوا إلى أنهم سووا بين محبة التابع ومحبة المتبوع ومحبة المخلوق ومحبة الخالق لعلهم يستفيقون فإذا ذهبوا يبحثون عما تستحقه الأصنام من المحبة وتطلبوا أسباب المحبة وجدوها مفقودة كما قال إبراهيم ـ عليه السلام ـ : {يا أَبَتِ لم تعبد ما لا يسمع ولا يُبصر ولا يغني عنك شيئاً} [مريم : 42] مع ما في هذه الحال من زيادة موجب الإنكار. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ 2صـ 91}
قوله تعالى {وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ}
قال الإمام البغوى ـ رحمه الله ـ :
{وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} أي أثبت وأدوم على حبه لأنهم لا يختارون على الله ما سواه والمشركون إذا اتخذوا صنما ثم رأوا أحسن منه طرحوا الأول واختاروا الثاني قال قتادة : إن الكافر يعرض عن معبوده في وقت البلاء ويقبل على الله تعالى كما أخبر الله عز وجل عنهم فقال : {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين}( 65-العنكبوت) والمؤمن لا يعرض عن الله في السراء
والضراء والشدة والرخاء.(3/44)
قال سعيد بن جبير : إن الله عز وجل يأمر يوم القيامة من أحرق نفسه في الدنيا على رؤية الأصنام أن يدخلوا جهنم مع أصنامهم فلا يدخلون لعلمهم أن عذاب جهنم على الدوام ، ثم يقول للمؤمنين وهم بين أيدي الكفار : "إن كنتم أحبائي فادخلوا جهنم" فيقتحمون فيها فينادي مناد من تحت العرش {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وقيل إنما قال {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} لأن الله تعالى أحبهم أولا ثم أحبوه ومن شهد له المعبود بالمحبة كانت محبته أتم قال الله تعالى : "يحبهم ويحبونه"( 54-المائدة ). أ هـ {تفسير البغوى حـ 1 صـ 178 ـ 179}
قال العلامة ابن عاشور :
والمقصود تنقيص المشركين حتى في إيمانهم بآلهتهم فكثيراً ما كانوا يُعرضون عنها إذا لم يجدوا منها ما أمَّلوه. فمورد التسوية بين المحبتين التي دل عليها التشبيه مخالف لمورد التفضيل الذي دل عليه اسم التفضيل هنا ، لأن التسوية ناظرة إلى فرط المحبة وقت خطورها ، والتفضيل ناظر إلى رسوخ المحبة وعدم تزلزلها ، وهذا مأخوذ من كلام "الكشاف" ومصرح به في كلام البيضاوي مع زيادة تحريره ، وهذا يغنيك عن احتمالات وتمحلات عرضت هنا لبعض المفسرين وبعض شراح "الكشاف".
روي أن امرأَ القيس لما أراد قتال بني أسد حين قتلوا أباه حُجْراً ملكَهم مر على ذي الخُلَصة الصَّنم الذي كان بتَبَالَة بين مكة واليَمنِ فاستقسم بالأزلام التي كانت عند الصَّنم فخرج له القدح الناهي ثلاث مرات فكَسَر تلك القِداح ورمى بها وجه الصَّنم وشتمه وأنشد :
لو كنتَ ياذَا الخلص المَوْتُورا... مِثلي وكانَ شيخك المقبورا
لم تَنْه عن قتل العُداة زورَا... ثم قصد بني أسد فظفِر بهم.
ورُوي أن رجلاً من بني مَلْكَان جاء إلى سَعْد الصَّنم بساحل جُدَّةَ وكان معه إبل فنفرت إبله لما رأت الصَّنم فغضب المَلْكاني على الصَّنم ورماه بحجَر وقال : (3/45)
أتينَا إلى سَعْد ليَجْمَع شملنا... فشتَّتنَا سَعْد فما نَحْنُ من سَعْد
وهلْ سَعْدٌ إلاَّ صَخْرَةٌ بتَنَوفَة... من الأرض لا تدعو لِغيَ ولا رُشد.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 92}
سؤال : لم أظهر الاسم الجليل ؟
الجواب : وإظهارُ الاسم الجليلِ في مقام الإضمارِ لتربية المهابة ، وتفخيمِ المضاف وإبانةِ كمال قُبحِ ما ارتكبوه. أ هـ
{تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 186}
سؤال : لم جيء بأفعل التفضيل بواسطة كلمة {أشد} ؟
الجواب : وإنما جيء بأفعل التفضيل بواسطة كلمة {أشد} قال التفتازاني : آثر {أشدُّ حباً} على أحَبُّ لأن أحب شاع في تفضيل المحبوب على محبوب آخر تقول : هو أحب إلي ، وفي القرآن : {قل إن كان أباءكم وأبناءكم وإخوانكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله}
[التوبة : 24] الخ. يعني أن فعل أحب هو الشائع وفعل حب قليل فلذلك خصوا في الاستعمال كلاً بمواقع نفياً للبس فقالوا : أحب وهو محب وأشد حباً وقالوا حبيب من حب وأحب إلى من حب أيضاً. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ 2 صـ 93}
أسئلة وأجوبة لابن عرفة
قوله تعالى : {يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ الله...}.
إن قلت : (هم) إنما كانوا يعبدونهم والعبادة أخص من المحبة لأن الواحد منا يحب ولده وأباه وأمه ولا (يعبدهم) فهلا قيل : يعبدونهم ؟
قلت : أجاب ابن عرفة بوجهين :
- الأول : أنه ذمهم على الوصف الأعم وهو المحبة ليفيد الذم على الأخص وهو العبادة من باب أحرى.
- الجواب الثاني : أنه عدل عن لفظ العبادة استعظاما له واستحقارا للأصنام أن تنسب إليهم العبادة.
قيل لابن عرفة : إن هذه الآية تدل على أن ارتباط الدليل بالمدلول عادي لا عقلي ، لأن هؤلاء (نظروا) فلم يؤمنوا ؟ (3/46)
فقال ابن عرفة : (لعلهم لم ينظروا أو نظروا فلم يهتدوا) للعثور على الوجه الذي منه يدل الدليل. قال : وهما مسألتان في أصول الدين. مسألة تخالف العلم مع التّمكن من مراد النظر الصحيح.
ومسألة (تخالف) العلم مع حصول النظر الصحيح فالآية إنما تدل على الأول لا على الثاني.أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 208}
بحث نفيس عن ماهية محبة العبد لله تعالى والشوق إليه
قال الإمام فخر الدين الرازى ـ عليه سحائب الرحمة والرضوان من الرحيم الرحمن ـ :
اعلم أنه لا نزاع بين الأمة في إطلاق هذه اللفظة ، وهي أن العبد قد يحب الله تعالى ، والقرآن ناطق به ، كما في هذه الآية ، وكما في قوله : {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة : 54] وكذا الأخبار ، روي أن إبراهيم ـ عليه السلام ـ قال لملك الموت ـ عليه السلام ـ وقد جاءه لقبض روحه : هل رأيت خليلاً يميت خليله ؟
فأوحى الله تعالى إليه : هل رأيت خليلاً يكره لقاء خليله ؟
فقال : يا ملك الموت الآن فاقبض ، وجاء أعرابي إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال : " يا رسول الله متى الساعة ؟ فقال ما أعددت لها ؟ فقال ما أعددت كثير صلاة ولا صيام ، إلا أني أحب الله ورسوله ، فقال عليه الصلاة والسلام : المرء مع من أحب " فقال أنس : فما رأيت المسلمين فرحوا بشيء بعد الإسلام فرحهم بذلك ، وروي أن عيسى ـ عليه السلام ـ مر بثلاثة نفر ، وقد نحلت أبدانهم ، وتغيرت ألوانهم ، فقال لهم : ما الذي بلغ بكم إلى ما أرى ؟
فقالوا : الخوف من النار ، فقال حق على الله أن يؤمن الخائف ، ثم تركهم إلى ثلاثة آخرين ، فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً ، فقال لهم : ما الذي بلغ بكم إلى هذا المقام ؟
(3/47)
قالوا : الشوق إلى الجنة ، فقال : حق على الله أن يعطيكم ما ترجون ثم تركهم إلى ثلاثة آخرين فإذا هم أشد نحولاً وتغيراً ، كأن وجوههم المرايا من النور ، فقال : كيف بلغتم إلى هذه الدرجة ، قالوا : بحب الله فقال عليه الصلاة والسلام : " أنتم المقربون إلى الله يوم القيامة " ،
وعند السدي قال : تدعى الأمم يوم القيامة بأنبيائها ، فيقال : يا أمة موسى ، ويا أمة عيسى ، ويا أمة محمد ، غير المحبين منهم ، فإنهم ينادون : يا أولياء الله ، وفي بعض الكتب : "عبدي أنا وحقك لك محب فبحقي عليك كن لي محباً".
واعلم أن الأمة وإن اتفقوا في إطلاق هذه اللفظة ، لكنهم اختلفوا في معناها ، فقال جمهور المتكلمين : إن المحبة نوع من أنواع الإرادة ، والإرادة لا تعلق لها إلا بالجائزات ، فيستحيل تعلق المحبة بذات الله تعالى وصفاته ، فإذا قلنا : نحب الله ، فمعناه نحب طاعة الله وخدمته ، أو نحب ثوابه وإحسانه ، وأما العارفون فقد قالوا : العبد قد يحب الله تعالى لذاته ، وأما حب خدمته أو حب ثوابه فدرجة نازلة ، واحتجوا بأن قالوا إنا وجدنا أن اللذة محبوبة لذاتها ، والكمال أيضاً محبوب لذاته ، أما اللذة فإنه إذا قيل لنا : لم تكتسبون ؟ قلنا : لنجد المال ، فإن قيل : ولم تطلبون المال ؟ قلنا : لنجد به المأكول والمشروب ، فإن قالوا : لم تطلبون المأكول والمشروب ؟ قلنا : لتحصل اللذة ويندفع الألم ،
فإن قيل لنا : ولما تطلبون اللذة وتكرهون الألم ؟
(3/48)
قلنا : هذا غير معلل ، فإنه لو كان كل شيء إنما كان مطلوباً لأجل شيء آخر ، لزم إما التسلسل ، وإما الدور ، وهما محالان ، فلا بد من الانتهاء إلى ما يكون مطلوباً لذاته ، وإذا أثبت ذلك فنحن نعلم أن اللذة مطلوبة الحصول لذاتها ، والألم مطلوب الدفع لذاته ، لا لسبب آخر ، وأما الكمال فلأنا نحب الأنبياء والأولياء لمجرد كونهم موصوفين بصفات الكمال ، وإذا سمعنا حكاية بعض الشجعان مثل رستم ، واستفنديار ، واطلعنا على كيفية شجاعتهم مالت قلوبنا إليهم ، حتى أنه قد يبلغ ذلك الميل إلى إنفاق المال العظيم في تقرير تعظيمه ، وقد ينتهي ذلك إلى المخاطرة بالروح ، وكون اللذة محبوبة لذاتها لا ينافي كون الكمال محبوباً لذاته ، إذا ثبت هذا فنقول : الذين حملوا محبة الله تعالى على محبة طاعته ، أو على محبة ثوابه ، فهؤلاء هم الذين عرفوا أن اللذة محبوبة لذاتها ، ولم يعرفوا أن الكمال محبوب لذاته ، أما العارفون الذين قالوا : إنه تعالى محبوب في ذاته ولذاته ، فهم الذين انكشف لهم أن الكمال محبوب لذاته ، وذلك لأن أكمل الكاملين هو الحق سبحانه وتعالى ، فإنه لوجوب وجوده : غنى عن كل ما عداه ، وكمال كل شيء فهو مستفاد منه ، وأنه سبحانه وتعالى أكمل الكاملين في العلم والقدرة ، فإذا كنا نحب الرجل العالم لكماله في علمه والرجل الشجاع لكماله في شجاعته والرجل الزاهد لبراءته عما لا ينبغي من الأفعال ، فكيف لا نحب الله وجميع العلوم بالنسبة إلى علمه كالعدم ، وجميع القدر بالنسبة إلى قدرته كالعدم وجميع ما للخلق من البراءة عن النقائص بالنسبة إلى ما للحق من ذلك كالعدم ، فلزم القطع بأن المحبوب الحق هو الله تعالى ، وأنه محبوب في ذاته ولذاته ، سواء أحبه غيره أو ما أحبه غيره ، واعلم أنك لما وقفت على النكتة في هذا الباب ، فنقول : العبد لا سبيل له إلى الاطلاع على الله سبحانه ابتداء ، بل ما لم ينظر في مملوكاته لا يمكنه الوصول إلى ذلك المقام ، (3/49)
فلا جرم كل من كان اطلاعه على دقائق حكمة الله وقدرته في المخلوقات أتم ، كان علمه بكماله أتم ، فكان له حبه أتم ، ولما كان لا نهاية لمراتب وقوف العبد على دقائق حكمة الله تعالى ، فلا جرم لا نهاية لمراتب محبة العباد لجلال حضرة الله تعالى ، ثم تحدث هناك حالة أخرى ، وهي أن العبد إذا كثرت مطالعته لدقائق حكمة الله تعالى ، كثر ترقيه في مقام محبة الله ، فإذا كثر ذلك صار ذلك سبباً لاستيلاء حب الله تعالى على قلب العبد ، وغوصه فيه على مثال القطرات النازلة من الماء على الصخرة الصماء فإنها مع لطافتها تثقب الحجارة الصلدة فإذا غاصت محبة الله في القلب تكيف القلب بكيفيتها ، واشتد ألفه بها وكلما كان ذلك الألف أشد كان النفرة عما سواه أشد لأن الالتفات إلى ما عداه يشغله عن الالتفات إليه والمانع عن حضور المحبوب مكروه فلا تزال تتعاقب محبة الله ، ونفرته عما سواه على القلب ، ويشتد كل واحد منهما بالآخر ، إلى أن يصير القلب نفوراً عما سوى الله تعالى ، والنفرة توجب الإعراض عما سوى الله ، والإعراض يوجب الفناء عما سوى الله تعالى فيصير ذلك القلب مستنيراً بأنوار القدس ، مستضيئاً بأضواء عالم العصمة فانياً عن الحظوظ المتعلقة بعالم الحدوث وهذا المقام أعلى الدرجات ، وليس له في هذا العالم مثال إلا العشق الشديد على أي شيء كان فإنك ترى من التجار المشغوفين بتحصيل المال من نسي جوعه وطعامه وشرابه عند استغراقه في حفظ المال فإذا عقل ذلك في ذلك المقام الخسيس فكيف يستبعد ذلك عند مطالعة جلال الحضرة الصمدية.
المسألة الثانية : في معنى الشوق إلى الله تعالى ، اعلم أن الشوق لا يتصور إلا إلى شيء أدرك من وجه ، ولم يدرك من وجه فأما الذي لم يدرك أصلاً ، فلا يشتاق إليه ، فإن لم ير شخصاً ولم يسمع وصفه ، لم يتصور أن يشتاق إليه ولو أدرك كماله لا يشتاق إليه ، ثم إن الشوق إلى المعشوق من وجهين.
(3/50)
أحدهما : أنه إذا رآه ثم غاب عنه اشتاق إلى استكمال خياله بالرؤية.
والثاني : أن يرى وجه محبوبه ولا يرى شعره ، ولا سائر محاسنه ، فيشتاق إلى أن ينكشف له ما لم يره قط ، والوجهان جميعاً متصوران في حق الله تعالى ، بل هما لازمان بالضرورة لكل العارفين ، فإن الذي اتضح للعارفين من الأمور الإلهية وإن كان في غاية الوضوح ، مشوب بشوائب الخيالات ، فإن الخيالات لا تفتر في هذا العالم عن المحاكاة والتمثيلات ، وهي مدركات للمعارف الروحانية ، ولا يحصل تمام التجلي إلا في الآخرة ، وهذا يقتضي حصول الشوق لا محالة في الدنيا فهذا أحد نوعي الشوق فيما اتضح اتضاحاً.
والثاني : أن الأمور الإلهية لا نهاية لها ، وإنما ينكشف لكل عبد من العباد بعضها ، وتبقى أمور لا نهاية لها غامضة ، فإذا علم العارف أن ما غاب عن عقله أكثر مما حضر فإنه لا يزال يكون مشتاقاً إلى معرفتها ، والشوق بالتفسير الأول ينتهي في دار الآخرة بالمعنى الذي يسمى رؤية ولقاء ومشاهدة ، ولا يتصور أن يكون في الدنيا ، وأما الشوق بالتفسير الثاني فيشبه أن لا يكون له نهاية ، إذ نهايته أن ينكشف للعبد في الآخرة جلال الله وصفاته ، وحكمته في أفعاله ، وهي غير متناهية ، والاطلاع على غير المتناهي على سبيل التفصيل محال ، وقد عرفت حقيقة الشوق إلى الله تعالى.
واعلم أن ذلك الشوق لذيذ لأن العبد إذا كان في الترقي حصل بسبب تعاقب الوجدان ، والحرمان ، والوصول ، والصد آلاماً مخلوطة بلذات ، واللذات محفوفة بالحرمان والفقدان ، كانت أقوى ، فيشبه أن يكون هذا النوع من اللذات مما لا يحصل إلا للبشر ، فإن الملائكة كمالاتهم حاضرة بالفعل ، والبهائم لا تستعد لها.
أما البشر فهم المترددون بين جهتي السفالة والعلو.
المسألة الثالثة : في بيان أن الذين آمنوا هم أشد حباً لله ، أما المتكلمون فقالوا : إن حبهم لله يكون من وجهين.
(3/51)
أحدهما : أنه ما يصدر منهم من التعظيم ، والمدح ، والثناء والعبادة خالصة عن الشرك وعما لا ينبغي من الاعتقاد ومحبة غيرهم ليست كذلك.
والثاني : أن حبهم لله اقترن به الرجاء والثواب والرغبة في عظيم منزلته والخوف من العقاب والأخذ في طريق التخلص منه ، ومن يعبد الله ويعظمه على هذا الحد تكون محبته لله أشد ، وأما العارفون فقالوا : المؤمنون هم الذين عرفوا الله بقدر الطاقة البشرية ، وقد دللنا على أن الحب من لوازم العرفان فكلما كان عرفانهم أتم وجب أن تكون محبتهم أشد. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 185 ـ 187}
سؤال : فإن قيل : كيف يمكن أن يقال محبة المؤمنين لله تعالى أشد مع أنا نرى الهنود يأتون بطاعات شاقة لا يأتي بشيء منها أحد من المسلمين ولا يأتون بها إلا لله تعالى ثم يقتلون أنفسهم حباً لله ؟ .
والجواب من وجوه.
أحدها : أن الذين آمنوا لا يتضرعون إلا إلى الله بخلاف المشركين فإنهم يعدلون إلى الله عند الحاجة ، وعند زوال الحاجة ، يرجعون إلى الأنداد ، قال تعالى : {فَإِذَا رَكِبُواْ فِى الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} [العنكبوت : 6] إلى آخره والمؤمن لا يعرض عن الله في الضراء والسراء والشدة والرخاء ، والكافر قد يعرض عن ربه ، فكان حب المؤمن أقوى.
وثانيها : أن من أحب غيره رضي بقضائه ، فلا يتصرف في ملكه ، فأولئك الجهال قتلوا أنفسهم بغير إذنه ، أما المؤمنون فقد يقتلون أنفسهم بإذنه ، وذلك في الجهاد.
وثالثها : أن الإنسان إذا ابتلي بالعذاب الشديد لا يمكنه الاشتغال بمعرفة الرب ، فالذي فعلوه باطل.
ورابعها : قال ابن عباس : إن المشركين كانوا يعبدون صنماً ، فإذا رأوا شيئاً أحسن منه تركوا ذلك وأقبلوا على عبادة الأحسن.
وخامسها : أن المؤمنين يوحدون ربهم ، والكفار يعبدون مع الصنم أصناماً فتنقص محبة الواحد ، أما الإله الواحد فتنضم محبة الجميع إليه. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 187}(3/52)
كلام نفيس للعلامة ابن القيم فى الآية الكريمة
هذا قلب المؤمن توحيد الله وذكر رسوله مكتوبان فيه لا يتطرق إليهما محو ولا إزالة ولما كانت كثرة ذكر الشيء موجبة لدوام محبته ونسيانه سببا لزوال محبته أو إضعافها وكان سبحانه هو المستحق من عبادة نهاية الحب مع نهاية التعظيم بل الشرك الذي لا يغفره الله تعالى هو أن يشرك به في الحب والتعظيم فيحب غيره ويعظم من المخلوقات غيره كما يحب الله تعالى ويعظمه قال تعالى {ومن الناس من يتخذ من دونه الله اندادا يحبونهم كحب الله والذين آمنوا اشد حبا لله} [البقرة 165] فأخبر سبحانه أن المشرك يحب الند كما يحب الله تعالى وأن المؤمن أشد حبا لله من كل شيء وقال أهل النار في النار {تالله إن كنا لفي ضلال مبين إذ نسويكم برب العالمين} [الشعراء 97 ـ 98] ومن المعلوم أنهم إنما سووهم به سبحانه في الحب والتأله والعبادة وإلا فلم يقل أحد قط أن الصنم أو غيره من الأنداد مساو لرب العالمين في صفاته وفي أفعاله وفي خلق السماوات والأرض وفي خلق عباده أيضا ، وإنما كانت السوية في المحبة والعبادة
وأضل من هؤلاء وأسوأ حالا من سوى كل شيء بالله سبحانه في الوجود وجعله وجود كل موجود كامل أو ناقص فإذا كان الله قد حكم بالضلال والشقاء لمن سوى بينه وبين الأصنام في الحب مع اعتقادههم تفاوت ما بين الله وبين خلقه في الذات والصفات والأفعال فكيف بمن سوى الله بالموجودات في جميع ذلك وزعم أنه ما عبد غير الله في كل معبود ؟؟!!!
أهـ {جلاء الأفهام صـ 305 ـ صـ 306 }(3/53)
من لطائف ونفائس الإمام القشيرى فى الآية الكريمة
{وَمِنَ النَّاسِ مَن يّتَّخِذُ مِن دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ}.
هؤلاء قوم لم يجعلهم الحق سبحانه أهل المحبة ، فَشَغَلهم بمحبة الأغيار حتى رضوا لأنفسهم أن يحبوا كل ما هَوَتَهْ أنفسهم ، فرضوا بمعمولٍ لهم أن يعبدوه ، ومنحوت - من دونه - أن يحبوه.
قوله جلّ ذكره : {وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ العَذَابَ أَنَّ القُوَّةَ للهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللهَ شَدِيدُ العَذَابِ}.
ليس المقصود من هذا ذكر محبة الأغيار للأصنام ، ولكن المراد منه مدح المؤمنين على محبتهم ، ولا تحتاج إلى كثير محبة حتى تزيد على محبة الكفار للأصنام ، ولكن من أحبَّ حبيباً استكثر ذكره ، بل استحسن كل شيء منه.
ويقال وجه رجحان محبة المؤمنين لله على محبة الكفار لأصنامهم أن (هذه) محبة الجنس للجنس ، وقد يميل الجنس إلى الجنس ، وتلك محبةُ من ليس بجنسٍ لهم فذلك أعزُّ وأحق.
ويقال إنهم أحبوا ما شاهدوه ، وليس بعجيب محبة ما هو لك مشهود ، وأمَّا المؤمنون فإنهم أحبوا من حَالَ بينهم وبين (شهوده) رداء الكبرياء على وجهه.
ويقال الذين آمنوا أشد حباً لله لأنهم لا يتبرأون من الله سبحانه وإنْ عَذَّبَهُم. والكافر تبرأ من الصنم والصنمُ من الكافر كما قال تعالى : {إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا} الآية.
ويقال محبة المؤمنين حاصلة من محبة الله لهم فهي أتم ، قال تعالى : {يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} [المائدة : 54] ومحبتهم للأصنام من قضايا هواهم.
(3/54)
ويقال محبة المؤمنين أتمُّ وأشدُّ لأنها على موافقة الأمر ، ومحبة الكفار على موافقة الهوى والطبع ، ويقال إنهم كانوا إذا صلحت أحوالهم ، واتسعت ذات يدهم اتخذوا أصناماً أحسن من التي كانوا يعبدونها قبل ذلك في حال فقرهم ؛ فكانوا يتخذون من الفضة - عند غناهم - أصناماً ويهجرون ما كان من الحديد... وعلى هذا القياس! وأمَّا المؤمنون فأشَدُّ حباً لله لأنهم عبدوا إلهاً واحداً في السّراء والضراء. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 144 ـ 145}
من أجمع ما قيل فى المحبة
ولَو عَذَّبْتَني في النارِ حتْماً... دخلتُ مُطاوعاً وسْطَ الجَحِيمِ
إذا كَانَ الجَحِيمُ رِضَاك عَنِّي... فَمَا ذاكَ الجَحِيمُ سِوَى نَعِيمِ
الإشارة : المحبةُ : مَيلٌ دائم بقلب هائم ، أو مراقبة الحبيب في المشهد والمغيب ، أو مواطأةُ القلب لمراد الرب ، أو خوف ترك الخدْمة مع إقامة الحُرْمة ، أو اسْتِقْلالُ الكثير من نفسك واستكثارُ القليل مِنْ حبيبك ، أو معانقة الطاعة ومباينة المخالفة ، وقال الشِّبْلِي : (أن تَغَار على المحبوب أن يحبه مثلك) والمحب على الحقيقة من لا سلطان على قلبه لغير محبوبه ، ولا مشيئة له غير مشيئته ، وقال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه : (المحبة أخْذَةٌ من الله لقلب عبده المؤمن عن كل شيء سواه ، فترى النفس مائلة لطاعته ، والعقل متحصّناً بمعروفه ، والروح مأخوذة في حضرته ، والسر مغموراً في مشاهدته ، والعبد يستزيد من محبته فيزداد ، ويفاتح بما هو أعذب من لذيذ مناجاته ، فيكسي حلل التقريب على بساط القربة ، ويَمَسُّ أبكارَ الحقائق وثيبات العلوم ، فمن أجل ذلك قالوا : أولياء الله عرائس ، ولا يَرَى العرائسَ المجرمون.
..) الخ كلامه.
واعلم أن محبة العبد لمولاه سببُها شيئان : (3/55)
أحدهُما : نظر العبد لإحسان الله إليه وضروب امتنانه عليه ، وجُبِلَت القلوبُ على حب من أحسن إليها ، وهذا هو المسمى بحب الهوى ، هو مكتسب ، لأن الإنسان مغمور بإحسانات الله إليه ، ومتمكن من النظر فيها ، فكلما طالَع منةً مِنْ مِنَن الله التي لا تقبل الحصر ولا العدَّ ، كان ذلك كحَبة زُرعت في أرض قلبه الطيب الزكي ، فلا يزال يطالع مِنّةً بعد منّة ، وكلُّ منّة أعظم من التي قبلها ، لأنه كلما طالع المنن تنوّر قلبه وزداد إيماناً ، وكشف من دقائق المنن ما لم يكن يُكشف له قبلُ ، وظهر له خفايا المنن ، وعظمت محبته.
الثاني : كشْف الحجب ، وإزالة الموانع عن ناظر القلب ، حتى يرى جمال الحقّ وكماله ، والجمال محبوب بالطبع ، وهذان هما اللذان قصدت رابعة العدوية - رضي الله عنها - :
أُحِبُّكَ حُبَّين : حُبَّ الهَوَى... وحُبّاً لأنك أهلٌ لِذَاكَ
فأمَّالذي هو حُبُّ الهَوى... فَشُغْلي بِذِكْرِك عمَّن سِوَاكَ
وأمَّا الذي أنتَ أهلٌ لهُ... فكَشْفُكِ لِلْحُجْبِ حتى أراكَ
فَلا الحمدُ في ذَا ولا ذَاك لي... ولَكِنْ لكَ الحَمْدُ في ذَا وذاكَ
(3/56)
وإنما خَصَّصَتْ الحُبَّ الناشئ عن شهود الجمال بالأهلية دون الأول ، وإن كان أهلاً للجميع ؛ لأن هذا منه إليه ، لا كسب للعبد فيه ، والآخر فيه كسب ، وعمل العبد معلول ، وقولها : (فشغلي بذكر عمن سواك) من باب التعبير بالمسبب عن السبب ، والأصل : فثمرته شغلي بذكرك عمن سواك ، فهو مسبب عن المحبة لأنفسنا ، وقولها أيضاً (كشفك للحجب حتى أراك) ، من باب التعبير بالسبب عن المسبب ، والأصل ، فبسببه كشفك للحجب حتى رأيتك بعينَيْ قلبي. وقولها : (فلا الحمد...) الخ ، إخبار منها بأن الحُبَّيْن معاً منه وإليه وبه في الحقيقة ، لا كسب لها في واحد منهما باعتبار الحقيقة ، بل هو الحامد والمحمود ، وإدراك التفاوت بين المقامين ، - أعْني بين المحبة الناشئة عن شهود الإحسان ، والناشئة عن شهود الجمال - ضروري عند كل ذائق ، وأن الثانية أقوى. قاله في شرح الشريشية.
قال ابن جُزَيّ : اعلم أن محبة العبد لربه على درجتين ؛ أحدهما : المحبة العامة ، التي لا يخلو منها كل مؤمن ، وهي واجبة ، والأخرى : المحبة الخاصة التي ينفرد فيها العلماء الربَّانيون ، والأولياء والأصفياء ، وهي أعلى المقامات ، وغاية المطلوبات ، فإنَّ سائر مقامات الصالحين : كالخوف والرجاء والتوكل ، وغير ذلك ، مَبْنِيَةٌ على حظوظ النفس ، ألا ترى أن الخائف إنما يخاف على نفسه ، والراجي إنما يرجوا منفعة نفسه ، بخلاف المحبة ، فإنها من أجل المحبوب فليست من المعاوضة.
(3/57)
واعلم أن سببَ محبةِ الله : معرفتُه ، فتقوى المحبة على قدر المعرفة ، وتضعف على قدر ضعف المعرفة ، فإن الموجب للمحبة أحد أمرين أو كلاهما إذا اجتمعا ، ولا شك أنهما اجتمعا في حق الله تعالى على غاية الكمال ؛ فالموجب الأول : الحسن والجمال ، والآخر الإحسان والإجمال ، فأما الجمال فهو محبوب بالطبع ، فإن الإنسان بالضرورة يجب كل ما يُستحسن ، ولا جمالَ مثلُ جمال الله تعالى ، في حكمته البالغة وصنائعه البديعة ، وصفاته الجميلة الساطعة الأنوار ، التي تَرُوق العقول وتبهج القلوب ، وإنما يُدْرَك جمالُه تعالى بالبصائر لا بالأبصار.
وأما الإحسان فقد جبلت القلوب على حب من أحسن إليها ، وإحسان الله إلى عباده متواتر ، وإنعامُه عليهم باطن وظاهر ، {وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللَّهِ لاَ تُحْصُوهَآ} [إبراهيم : 34] ، ويكفيك أنه يُحسن إلى المطيع والعاصي ، وإلا المؤمن والكافر ، وكل إحسان ينبس إلى غيره فهو في الحقيقة منه وحدَه ، فهو المستحق للمحبة وحده.
واعلم أن محبة الله إذا تمكنت من القلب ظهرت آثارها على الجوارح ، من الجد في طاعته ، والنَّشَطِ لخدمته ، والحرص على مرضاته والتلذذ بمناجاته ، والرضا بقضائه ، والشوق إلى لقائه ، والأُنْس بذكره ، والاسْتِيحَاش مِنْ غيره ، والفرار من الناس ، والانفراد في الخلوات ، وخروج الدنيا من القلب ، ومحبة كل ما يحب الله ، وكل من يحب الله ، وإيثار الله على كل ما سواه.
قال الحارث المحاسبي : (المحبة ميلك إلى المحبوب بِكُلِّيتِكَ ، ثم إيثارك له على نفسك ورُوحك ، ثم موافقته سرّاً وجهراً ، ثم علمك بتقصيرك في حبه).
قلت : ظاهره أن المحبة أعلى من المعرفة ، والتحقيق أن المعرفة أعلى من جميع المقامات ؛ لأنها لا تبقى معها بقية من الحجاب أصلاً ، بخلاف المحبة ، فإنها تكون بقية الحجاب ، ألا ترى أن المحب يستوحش من الخلق ، والعارف لا يستوحش من شيء لمعرفته في كل شيء.
(3/58)
قال في الحِكَم : " إنما استوحشَ العُبَّاد والزهاد من كل شيء لغيبتهم عن الله في كل شيء ، ولو عرفوا الله في كل شيء ما استوحشوا من شيء ". وأيضاً. العارف أكمل أدباً من المحب ؛ لأن المعرفة إنما تحصُل بعد كمال التهذيب والتدريب ، وقد تحصل المحبة قبل كمال التهذيب ، مع أن المعرفة هي غاية المحبة ونهايتها ، والله تعالى أعلم.أ هـ {البحر المديد حـ 1 صـ 131}
بحث جامع فى المحبة للعلامة الفيروزابادى
( بصيرة فى الحب والمحبة )
ولا يُحدّ المحبّة بحدّ أَوضح منها ، والحدود لا تزيدها إِلاَّ خفاءً وجفاءً فحدّها وجودها. ولا توصف المحبّة بوصف أَظهر من المحبّة ، وإِنَّما يتكلَّم النَّاس فى أَسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأَحكامها ، فحدودهم ورسومهم دارت على هذه الستّة.
وهذه المادّة تدور فى اللُّغة على خمسة أَشياءَ : أَحدها الصّفاء والبياض ومنه قيل حَبَب الأَسنان لبياضها ونضارتها. الثانى : العُلُوّ والظُّهور ومنه حَبَب الماءِ وحَبَابه وهو ما يعلوه من النفاخات عن المطر ، وحَبب الكأْس منه. الثالث : اللُّزوم والثبات ومنه حَبَّ البعير وأَحبّ إِذا برك فلم يقُم. الرَّابع : اللُّباب والخلوص. ومنه حَبّة القلب لِلبّه وداخله. ومنه الحَبّة لواحدة الحبوب إِذا هى أَصل الشئ ومادَّته وقوامه. الخامس : الحفظ والإِمساك ومنه حُبّ الماءِ للوعاءِ الَّذى يُحفظ فيه ويمسكه ، وفيه معنى الثُّبوت أَيضاً.(3/59)
ولا ريب أَنَّ هذه الخمسة من لوازم المحبّة ، فإِنَّها صفاءُ المودّة وهَيَجان إِرادة القلب وعلوّها وظهورها منه لتعلُّقها بالمحبوب المراد وثبوت إرادة القلب للمحبوب ولزومها لزوم لا تفارق ، ولإِعطاءِ المحبّ محبوبه لبّه وأَشرف ما عنده وهو قلبه ، ولاجتماع عَزَماته وإِرادته وهُمومه على محبوبه. فاجتمعت فيها المعانى الخمسةُ. ووضعوا لمعناها حرفين مناسبين للشَّئ غاية المناسبة : الحاء الَّتى من أَقصى الحَلق والباء للشفة الَّتى هى نهايته ، فللحاءِ الابتداء وللباء الانتهاء ، وهذا شَأْن المحبّة وتعلُّقها بالمحبوب ، فإِنَّ ابتداءَها منه وانتهاءَها إِليه.
ويقال فى فعله : حبَبت فلاناً بمعنى أَصبت حَبَّة قلبه ، نحو شَغَفته وكَبَدته وفأَدته ، وأَحببت فلاناً جعلت قلبى مُعَرَّضاً لأَن يُحِبّه. لكن وضع فى التعارف محبوب موضعَ مُحَبّ واستعمل حبَبت أَيضاً فى معنى أَحببت ، ولم يقولوا مُحَبّ إِلاَّ قليلاً قال :
ولقد نزلتِ فلا تظنى غيره منى بمنزلة المُحَبّ المكرم
وأَعطَوْا الحُبّ حركة الضمّ الَّتى هى أَشدّ الحركات وأَقواها ، مطابَقة لشِدّة حركة مسمَّاة وقوّتها ، وأَعطَوُا الحِبّ وهو المحبوب حركة الكسر لخفَّتها عن الضمَّة ، وذلك لخفَّة ذكر المحبوب على قلوبهم وأَلسنتهم مع إِعطائه حكم نظائره كنِهْد وذِبْح للمنهود والمذبوح وحِمْل للمحمول ، فتأَمّل هذا اللُّطف والمطابقة والمناسبة العجيبة بين اللَّفظ والمعنى يُطلعْك على قَدْر هذه اللغة الشريفة وإِنَّ لها لشأْنا ليس كسائر اللغات.(3/60)
وقد ذكر الله تعالى ذلك فى مواضع كثيرة من التنزيل الحميدىّ منها {فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ} {وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ} {إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ} {وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} {وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ} {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ} {إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ} {فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ} {إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ} {وَلَاكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ} وقال تعالى {وَاللَّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ} {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ} وقال تعالى {إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ} أَى آثروه عليه. وحقيقة الاستحباب أَن يتحرّى الإِنسانُ فى الشئ أَن يحبّه. واقتضى تعديتُه بعَلى معنى الإِيثار ، وفى الحديث الصّحيح "إِذا أَحبّ الله عبداً دعا جَبْرئيلَ فقال : إِنى أُحِبُّ فلاناً فأَحِبَّه فيحبّه جبرئيل ، ثم ينادى فى السّماءِ فيقول : إِنَّ الله يحبّ فلاناً فأَحِبُّوه فيحبّه أَهْلُ السّماءِ ، ثمّ يوضَع له القَبولُ فى الأَرض" وفى البُغْض ذُكِر مثل ذلك. وفى الصّحيح أَيضاً : "ثلاث مَن كُنَّ فيه وَجَد بهنّ حلاوة الإِيمان : أَن يكون الله ورسولُه أَحبَّ إِليه مِمَّا سواهما ، وأَن يحبّ المرءُ لا يحبّه إِلاَّ لله" ، وفى صحيح البخارىّ : "يقول الله تعالى : مَن عادى لى وليّاً فقد آذَنْتُهُ بالحرب ، وما تقرب إِلىّ بالنَّوافل حتَّى أُحبّه. فَإِذَا أَحببته كنت سمعَه الَّّى يسمع به ، وبصرَه الَّذى يبصر به ، ويدَه الَّتى يبطِش بها ورجلَه التى يمشى بها. وإِن سأَلنى أَعطيته ولئن استعاذنى لأُعيذنَّه. وفى(3/61)
الصّحيحين من حديث أَمير السّريَّة الذى كان يقرأُ {قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ} لأَصحابه فى كلِّ صلاة وقال : لأَنَّها صفة الرّحمن وأَنا أُحبّ أَن أَقرأَ بها فقال النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم : "أَخبروه أَنَّ الله يحبّه" وعن التِّرمذى عن أَبى الدَرداءِ يرفعه : "كان مِن دعاءِ داود عليه السّلام : اللهمّ إِنِّى أَسأَلك حبّك وحبّ من يحبّك ، والعملَ الَّذى يبلِّغنى حبَّك. اللَّهم اجعل حُبّك أَحبّ إِلىّ من نفسى وأَهلى ، ومن الماء البارد". وفيه أَيضاً من حديث عبد الله بن يزيد الخَطْمِىِّ أَنَّ النبىّ صلَّى الله عليه وسلَّم كان يقول فى دعائه : "اللهمّ ارزقنى حبّك وحبّ من يحبّك وحبّ مَن ينفعنى حبُّه عندك. اللهمّ ما رزقتنى ممّا أُحبّ فاجعله قوّة لى فيما تحبّ ، وما زَوَيت عنِّى ممّا أُحبّ فاجعله فراغاً لى فيما يحبّ".
والقرآن والسنَّة مملوءَان بذكر مَن يحبّ اللهُ سبحانه من عباده ، وذكر ما يحبّه من أَعمالهم وأَقوالهم وأَخلاقهم. فلا يلتفت إِلى مَن أَوَّل محبّته تعالى لعباده بإِحسانه إِليهم وإِعطائهم الثواب ، ومحبّةَ العباد له تعالى بمحبّته طاعته والازدياد من الأَعمال لينالوا به الثواب ، فإِن هذا التأْويل يؤدّى إِلى إِنكار المحبّة ، ومتى بطلت مسأَلة المحبّة بطلت جميع مقامات الإِيمان والإِحسان ، وتعطَّلت منازلُ السَّيْر ، فإِنَّها رُوح كلِّ مَقَام ومنزلةٍ وعمل ، فإِذا خلا منها فهو ميّت ، ونسبتها إِلى الأَعمال كنسبة الإِخلاص إِليها ، بل هى حقيقة الإِخلاص ، بل هى نفس الإِسلام ، فإِنَّه الاستسلام بالذُّل والحُبّ والطَّاعة لله. فمن لا محبَّة له لا إِسلام له البتَّة.
(3/62)
ومراتب المحبّة عشرة : الأَوّل العلاقة والإِرادة والصبابة ، والغرام وهو الحبّ اللاَّزم للقلب ملازمةَ الغريم لغريمه ، ثمّ الوُدّ وهو صفو المحبّة وخالصها ولُبّها ، ثمّ الشغَف ، شُغِفَ بكذا فهو مشغوف أَى وَصَل الحُبّ شَغَاف قلبه وهو جِلدة رقيقة على القلب ، ثمّ العشق وهو الحبّ المفرط الَّذى يُخاف على صاحبه منه ، وبه فسّر {وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ} ثمّ التَتَيُّم وهو المحبّة والتذلُّل ، تَيَّمه الحُبّ أَى عَبَّده وذَلَّله وتَيْم الله عَبْد الله ، ثمَّ التعبّد وهو فوق التتيُّم فإِنَّ العبد الذى مَلَك المحبوبُ رِقَّه فلم يبق له شئ من نفسه البتَّة ، بل كلُّه لمحبوبه ظاهراً وباطناً. ولمَّا كَمّل سيّد ولد آدم هذه المرتبة وصفه الله بها فى أَشرف مقاماته بقوله {سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً} وفى مقام الدّعوة {وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ} وفى مقام التحدّى {وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا} وبذلك استحقّ التقدّم على الخلائق فى الدّنيا والآخرة. العاشر : مرتبة الخُلَّة الَّتى استحقّ التقدّم على الخلائق فى الدّنيا والآخرة. العاشر : مرتبة الخُلَّة الَّتى انفرد بها الخيلان إِبراهيم ومحمّد عليهما الصّلاة والسّلام ؛ كما صحّ عنه "إِنَّ اللهَ اتَّخذنى خليلاً كما اتَّخَذَ إِبراهيم خليلاً" وقال "لو كنت متَّخِذاً من أَهل الأَرض خليلاً لاتَّخذتُ أَبا بكر خليلاً ولكن صاحبكم خليل الرّحمن" والخلَّة هى المحبّة الَّتى تخلَّلْت روح [المحب] وقلبه حتى لم يبق فيه موضع لغير محبوبه.
(3/63)
والأَسبابُ الجالبة للمحبة عشرة : الأَول : قراءَة القرآن بالتَّدبّر والتفهُّم لمعانيه وتفطُّن مراد الله منه. الثانى : التَّقَرّب إِلى الله تعالى بالنَّوافل بعد الفرائض ؛ فإِنَّها توصِّل إِلى درجة الحبوبيَّة بعد المحبّة. الثالث : دوام ذكره على كلِّ حال باللٍّسان والقلب والعلم والحال فنصيبه من المحبّة على قدر نصيبه من هذا الذكر. الرابع : ايثار مَحَابِّه على محابّك عند غلبات الهوى. الخامس : مطالعة القلب لأَسمائه وصفاته ومشاهدتها وتقلُّبه فى رياض هذه المعرفة ومباديها فمن عرَف الله بأَسمائه وصفاته وأَفعاله أَحبّه لا محالة. السادس مشاهدة بِرّه وإِحسانه ونِعمه الظَّاهرة والباطنة. السابع : وهو من أَعجبها - انكسار القلب بكلِّيَّته بيْن يديه. الثامن : الخَلْوة به وقت النُّزول الإِلهىّ لمناجاته وتلاوة كلامه ، والوقوف بالقالب والقلب بين يديه ، ثم خَتْم ذلك بالاستغفار والتَّوبة. التَّاسع : مجالسة المحبّين والصّادقين والتقاطُ أُطايب ثمرات كلامهم وأَلاَّ يتكلم إِلاَّ إِذا ترجّحت مصلحةُ الكلام وعَلِم أَنَّ فيه مزيداً لحالِهِ. العاشر : مباعدة كلِّ سبب يحول بين القلب وبين الله عزَّ وجَلَّ.
فمن هذه الأَسباب وصل المحبّون إِلى منازل المحبّة ، ودخلوا على الحبيب وفى ذلك أَقول :
تِلاوةُ فهمٍ معْ لزوم نوافل وذكرٌ دواماً وانكسارٌ بقلبه
وإِيثار ما يُرْضِى شهودَ عطائه ووقت نزول الحقّ يخلو بربّه
مطالعة الأَسما مجالسة القُدَى مجانبه الأَهوا جوالب حُبه
أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 2 صـ 312 ـ 315}(3/64)
لطيفة
قال سهل بن عبد الله : علامة حُبِّ الله حب القرآن ، وعلامة حب القرآن حب النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، وعلامة حب النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ حب السنة ، وعلامة حب الله وحب القرآن وحب النبيّ وحب السنة حب الآخرة ، وعلامة حب الآخرة أن يحب نفسه ، وعلامة حب نفسِه أن يبغض الدنيا ، وعلامة بغض الدنيا ألا يأخذ منها إلا الزّاد والبُلْغَة,
بدائع وروائع من مدارج السالكين
منزلة المحبة وهي.
المنزلة التي فيها تنافس المتنافسون وإليها شخص العاملون وإلى علمها شمر السابقون وعليها تفانى المحبون وبروح نسيمها تروح العابدون فهي قوت القلوب وغذاء الأرواح وقرة العيون وهي الحياة التي من حرمها فهو من جملة الأموات والنور الذي من فقده فهو في بحار الظلمات والشقاء الذي من عدمه حلت بقلبه جميع الأسقام واللذة التي من لم يظفر بها فعيشه كله هموم وآلام.
ص -7- وهي روح الإيمان والأعمال والمقامات والأحوال التي متى خلت منها فهي كالجسد الذي لا روح فيه تحمل أثقال السائرين إلى بلاد لم يكونوا إلا بشق الأنفس بالغيها وتوصلهم إلى منازل لم يكونوا بدونها أبدا واصليها وتبوؤهم من مقاعد الصدق مقامات لم يكونوا لولاها داخليها وهي مطايا القوم التي مسراهم على ظهورها دائما إلى الحبيب وطريقهم الأقوم الذي يبلغهم إلى منازلهم الأولى من قريب تالله لقد ذهب أهلها بشرف الدنيا والآخرة إذ لهم من معية محبوبهم أوفر نصيب وقد قضى الله يوم قدر مقادير الخلائق بمشيئته وحكمته البالغة أن المرء مع من أحب فيالها من نعمة على المحبين سابغة تالله لقد سبق القوم السعاة وهم على ظهور الفرش نائمون وقد تقدموا الركب بمراحل وهم في سيرهم واقفون
من لي بمثل سيرك المدلل تمشي رويدا وتجي في الأول أجابوا منادي الشوق إذ نادى بهم حي على الفلاح وبذلوا نفوسهم في طلب الوصول إلى محبوبهم وكان بذلهم بالرضى والسماح وواصلوا إليه المسير بالإدلاج والغدو والرواح تالله لقد حمدوا عند الوصول سراهم وشكروا مولاهم على ما أعطاهم وإنما يحمد القوم السرى عند الصباح. أ هـ
{مدارج السالكين حـ 3 صـ 6 ـ 7}(3/65)
موعظة
روض نفسك
يا هذا : طهر قلبك من الشوائب فالمحبة لا تلقى إلا في قلب طاهر إما رأيت الزارع يتخير الأرض الطيبة ويسقيها ويرويها ثم يثيرها ويقلبها وكلما رأى حجرا ألقاه وكلما شاهد ما يؤذي نحاه ثم يلقي فيها البذر ويتعاهدها من طوارق الأذى ؟ وكذلك الحق عز وجل إذا أراد عبدا لوداده حصد من قلبه شوك الشرك وطهره من أوساخ الرياء والشك ثم يسقيه ماء التوبة والإنابة ويثيره بمسحأة الخوف والإخلاص فيستوي ظاهره وباطنه في التقى ثم يلقي فيه بذر الهدى فيثمر حب المحبة فحينئذ تحمد المعرفة وطنا ظاهرا وقوتا طاهرا فيسكن لب القلب ويثبت به سلطانها في رستاق البذر فيسري من بركاتها إلى العين ما يفضها عن سوى المحبوب وإلى الكف ما يكفها عن المطلوب وإلى اللسان ما يحبسه عن فضول الكلام وإلى القدم ما يمنعه من سرعة الإقدام فما زالت تلك النفس الطاهرة رائضها العلم ونديمها الحلم وسجنها الخوف وميدانها الرجاء وبستانها الخلوة وكنزها القناعة وبضاعتها اليقين ومركبها الزهد وطعامها الفكر وحلواها الأنس وهي مشغولة بتوطئة رحلها لرحيلها وعين أملها ناظرة إلى سبيها فإن صعد حافظاها فالصحيفة نقية وإن جاء البلاء فالنفس صابرة تقية وإن أقبل الموت وجدها من الغش خلية فيا طوبى لها إذا نوديت يوم القيامة : {يا أيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى ربكراضية مرضية}. أ هـ {الياقوتة صـ 97}(3/66)
قوله تعالى {وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَلَوْ يَرَى الذين ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ العذاب أَنَّ القوة لِلَّهِ جَمِيعًا} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : اعلم أن في قراءة هذه الآية أبحاثاً :
البحث الأول : قرأ نافع وابن عمر : (ولو ترى) بالتاء المنقوطة من فوق خطاباً للنبي ـ عليه السلام ـ ، كأنه قال : لو ترى يا محمد الذين ظلموا ، والباقون بالياء المنقوطة من تحت على الإخبار عمن جرى ذكرهم كأنه قال : ولو يرى الذين ظلموا أنفسهم باتخاذ الأنداد ، ثم قال بعضهم : هذه القراءة أولى ، لأن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ والمسلمين قد علموا قدر ما يشاهده الكفار ، ويعاينون من العذاب يوم القيامة ، أما المتوعدون في هذه الآية فهم الذين لم يعلموا ذلك ، فوجب إسناد الفعل إليهم.
البحث الثاني : اختلفوا في {يرون} فقرأ ابن عامر : (يرون) بضم الياء على التعدية وحجته قوله تعالى : {كذلك يُرِيهِمُ الله أعمالهم حسرات عَلَيْهِمْ} والباقون (يرون) بالفتح على إضافة الرؤية إليهم.
البحث الثالث : اختلفوا في {أن} فقرأ بعض القراء (إن) بكسر الألف على الاستئناف وأما القراء السبع فعلى فتح الألف فيها.(3/67)
البحث الرابع : لما عرفت أن {يَرَى الذين ظَلَمُواْ} قرىء تارة بالتاء المنقوطة من فوق وأخرى بالياء المنقوطة من تحت ، وقوله : {أَنَّ القوة} قرىء تارة بفتح الهمزة من (أن) وأخرى بكسرها حصل ههنا أربع احتمالات.
الاحتمال الأول : أن يقرأ {وَلَوْ يَرَى} بالياء المنقوطة من تحت مع فتح الهمزة من (أن) والوجه فيه أنهم أعملوا يرون في القوة والتقدير : ولو يرون أن القوة لله : ومعناه ، ولو يرى الذين ظلموا شدة عذاب الله وقوته لما اتخذوا من دونه أنداداً فعلى هذا جواب (لو) محذوف وهو كثير في التنزيل كقوله : {وَلَوْ تَرَى إِذَا وُقِفُواْ عَلَى النار} [الأنعام : 27] ، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون فِى غَمَرَاتِ الموت} [الأنعام : 93] ، {وَلَوْ أَنَّ قُرْانًا سُيّرَتْ بِهِ الجبال} [الرعد : 31] ويقولون : لو رأيت فلاناً والسياط تأخذ منه ، قالوا : وهذا الحذف أفخم وأعظم لأن على هذا التقدير يذهب خاطر المخاطب إلى كل ضرب من الوعيد فيكون الخوف على هذا التقدير مما إذا كان عين له ذلك الوعيد.
الاحتمال الثاني : أن يقرأ بالياء المنقوطة من تحت مع كسر الهمزة من (إن) والتقدير ولو يرى الذين ظلموا عجزهم حال مشاهدتهم عذاب الله لقالوا : إن القوة لله.
الاحتمال الثالث : أن تقرأ بالتاء المنقوطة من فوق ، مع فتح الهمزة من (أن) وهي قراءة نافع وابن عامر قال الفراء : الوجه فيه تكرير الرؤية والتقدير فيه ولو ترى الذين ظلموا إذا يرون العذاب ترى أن القوة لله جميعاً.
الاحتمال الرابع : أن يقرأ بالتاء المنقوطة من فوق ، مع كسر الهمزة ، وتقديره : ولو ترى الذين ظلموا إذ يرون العذاب لقلت أن القوة لله جميعاً ، وهذا أيضاً تأويل ظاهر جيد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 188}(3/68)
وقال البقاعى :
وفي قوله " ترى " بالتاء إقبالاً على النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ تعجيب له بما ينالهم مما أصابوه ، وفيه إشعار بأن ذلك من أمر يعلو أمره إلى محل رؤيته التي هي أتم الرؤية ، وفي قوله {يرى} بالياء تحسر عليهم يشعر بأن منالهم من رؤية العذاب مما كان يزجرهم عما هم عليه لو رأوه - انتهى.
{نظم الدرر حـ 1 صـ 301}
سؤال : إن قيل : كيف جاء قوله : {وَلَوْ يَرَى الذين ظَلَمُواْ} وهو مستقبل مع قوله : {إِذْ يَرَوْنَ العذاب} و( إذ) للماضي ؟
قلنا : إنما جاء على لفظ المضي لأن وقوع الساعة قريب.
قال تعالى : {وَمَا أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ} [النحل : 77] وقال : {لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ} [الشورى : 17] وكل ما كان قريب الوقوع فإنه يجري مجرى ما وقع وحصل وعلى هذا التأويل قال تعالى : {وَنَادَى أصحاب الجنة} [الأعراف : 44] وقول المقيم : قد قامت الصلاة يقول ذلك قبل إيقاعه التحريم للصلاة لقرب ذلك وقد جاء كثير في التنزيل من هذا الباب قال تعالى : {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ} [الأنعام : 27] ، {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظالمون} [سبأ : 31] ، {وَلَوْ ترى إِذْ فَزِعُواْ} [سبأ : 51] ، {وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى} [الأنفال : 50]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 189}
قوله تعالى {الذين ظلموا}
قال فى التحرير والتنوير : (3/69)
و {الذين ظلموا} هم الذين اتخذوا من دون الله أنداداً فهو من الإظهار في مقام الإضمار ليكون شاملاً لهؤلاء المشركين وغيرهم ، وجعل اتخاذهم الأنداد ظلماً لأنه اعتداء على عدة حقوق فقد اعتدوا على حق الله تعالى من وجوب توحيده ، واعتدوا على من جعلوهم أنداداً لله على العقلاء منهم مثل الملائكة وعيسى ، ومثل ود وسواع ويغوث ويعوق ونسر ، فقد ورد في "الصحيح" عن ابن عباس أنهم كانوا رجالاً صالحين من قوم نوح فلما ماتوا اتخذ قومهم لهم تماثيل ثم عبدوها ، ومثل (اللات) يزعم العرب أنه رجل كان يلت السويق للحجيج وأن أصله اللات بتشديد التاء ، فبذلك ظلموهم إذ كانوا سبباً لهول يحصل لهم من السؤال يوم القيامة كما قال الله تعالى : {وإذ قال الله يا عيسى ابن مريم أأنت قلت للناس اتخذوني وأمي إلهين من دون الله} [المائدة : 116] وقال : {ويوم يحشرهم جميعاً ثم يقول للملائكة أهوؤلاء إياكم كانوا يعبدون} [سبأ : 40] الآية وقال : {ويوم يحشرهم وما يعبدون من دون الله فيقول أأنتم أضللتم عبادي هئلاء أم هم ضلوا السبيل} [الفرقان : 17] الآية ، وظلموا أنفسهم في ذلك بتعريضها للسخرية في الدنيا وللعذاب في الآخرة وظلموا أعقابهم وقومهم الذين يتبعونهم في هذا الضلال فتمضي عليه العصور والأجيال ، ولذلك حذف مفعول {ظلموا} لقصد التعميم ، ولك أن تجعل {ظلموا} بمعنى أشركوا كما هو الشائع في القرآن قال تعالى عن لقمان : {إن الشرك لظلم عظيم} [لقمان : 13] وعليه فالفعل منزَّل منزلة اللازم لأنه صار كاللقب. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ 2 صـ 93 ـ 94}
وقال الشيخ الشنقيطى :
قوله تعالى : {وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب} الآية.(3/70)
المراد بالذين ظلموا الكفار وقد بين ذلك بقوله في آخر الآية : {وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار} [البقرة : 167] ، ويدل لذلك قوله تعالى عن لقمان مقرراً له : {يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} [لقمان : 13] ، وقوله جل وعلا : {والكافرون هُمُ الظالمون} [البقرة : 254] ، وقوله : {وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظالمين} [يونس : 106]. أ هـ {أضواء البيان حـ 1صـ 74}
قوله تعالى {وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب}
قال القرطبى :
في الآية إشكال وحذف ؛ فقال أبو عبيد : المعنى لو يرى الذين ظلموا في الدنيا عذاب الآخرة لعلموا حين يرونه أن القُوّة لله جميعاً. و"يرى" على هذا من رؤية البصر. قال النحاس في كتاب "معاني القرآن" له : وهذا القول هو الذي عليه أهل التفسير. وقال في كتاب "إعراب القرآن" له : وروي عن محمد بن يزيد أنه قال : هذا التفسير الذي جاء به أبو عبيد بعيد ، وليست عبارته فيه بالجيدة ؛ لأنه يقدّر : ولو يرى الذين ظلموا العذاب ؛ فكأنه يجعله مشكوكاً فيه وقد أوجبه الله تعالى ؛ ولكن التقدير وهو قول الأخفش : ولو يرى الذين ظلموا أن القوّة لله.
(3/71)
و "يرى" بمعنى يعلم ؛ أي لو يعلمون حقيقة قوّة الله عزّ وجلّ وشدّة عذابه ؛ ف "يرى" واقعة على أن القوّة لله ، وسدّت مَسدّ المفعولين. و"الذين" فاعل "يرى" ، وجواب "لو" محذوف ؛ أي ليتبيّنُوا ضرر اتخاذهم الآلهة ؛ كما قال عزّ وجلّ : {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ} [الأنعام : 27] ، {وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار} [الأنعام : 30] ولم يأت لـ "لَوْ" جواب. قال الزهري وقتادة : الإضمار أشدّ للوعيد ؛ ومثله قول القائل : لو رأيتَ فلاناً والسياط تأخذه! ومن قرأ بالتاء فالتقدير : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه واستعظامهم له لأقرّوا أن القوّة لله ؛ فالجواب مضمر على هذا النحو من المعنى وهو العامل في "أنّ". وتقدير آخر : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم العذاب وفزعهم منه لعلمت أن القوّة لله جميعاً. وقد كان النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ علم ذلك ، ولكن خوطب والمراد أمّته ؛ فإن فيهم من يحتاج إلى تقوية علمه بمشاهدة مثل هذا. ويجوز أن يكون المعنى : قل يا محمد للظالم هذا. وقيل : "أنّ" في موضع نصب مفعول من أجله ؛ أي لأن القوة لله جميعاً. وأنشد سيبويه :
وأغفرُ عوراءَ الكريم ادخاره... وأَعْرِضُ عن شتم اللئيم تكَرُّما
أي لادخاره ؛ والمعنى : ولو ترى يا محمد الذين ظلموا في حال رؤيتهم للعذاب لأنّ القوّة لله لعلمت مبلغهم من النكال ولاستعظمت ما حَلَّ بهم. ودخلت "إذ" وهي لمَا مضى في إثبات هذه المستقبلات تقريباً للأمر وتصحيحاً لوقوعه. أ هـ
{تفسير القرطبى حـ 2 صـ 205}(3/72)
قوله تعالى {إذ يرون}
قال البقاعى :
{إذ يرون} أي الوقت الذي يبصرون فيه العذاب ، أي الأكبر الذي لا عذاب مثله ؛ كما أفهمه تعريفه بأل ، ثم بينه بقوله {إن القوة} وهي مُنّة الباطن التي يجدها المقتدر منشأ لما يبديه ظاهره وما يبديه ظاهره قدرة القوى جمعها وأصلها والقدرة ظاهرها وتفصيل إنشائها لله جميعاً ، فإنه لا شيء أشق على الإنسان من أن يرى خصمه نافذ الأمر منفرداً بالعز في كل معنى لا سيما إذا كان جباراً متكبراً شديد البطش ممن عصاه ، كما يشير إليه قوله : {وإن الله شديد العذاب} ولا سيما إذا كان العاصي له قد أساء إليه بالإساءة إلى أوليائه وبالغ حتى لم يدع للصلح موضعاً. وقال الحرالي : موضع الرؤية في الحقيقة هو أن القوة لله جميعاً سلباً عن جميع أندادهم الذين أحبوهم وعن أنفسهم ، كما قال قائلهم {نحن أولو قوة وأولو بأس شديد} [النمل : 33] لكن لما كان رؤيتهم لذلك عن رؤية مشهود العذاب الذي هو أتم العذاب ذكر العذاب الذي هو ظاهر مرأى أن القوة لله جميعاً ، وفي {إن القوة} إعلام باطلاعهم يوم هذه الرؤية على بواطن أندادهم وسلبها ما شأن البواطن أن تتحلى به من القوة من حيث وصفهم لهم بالحب الباطن أطلعهم على سلب قواهم الباطنة بالرؤية التي هي باطن البصر الذي هو باطن النظر ، ولما ذكر أمر القوة عطف عليه ما هو أمر القدرة فقال {وإن الله شديد العذاب} إكمالاً للخطاب بظاهره ، واستأنف معه الاسم العظيم لإظهار ما بين غايتي الباطن والظاهر في أمر القدرة والقوة ، ليكون مع المنظر الظاهر بالقدرة اسم أظهره واستأن فهو قدم ذكره كما كان مع المرأى الباطن بالقوة اسماً أضاف إليه وأنهى له ليقع ماولى أول الخطاب مقابل ما ختم به الخطاب ، فينعطف أوله على آخره وآخره على أوله باطناً لظاهر وظاهراً لباطن في المتعاطفين جميعاً في قوله {إن القوة لله جميعاً وإن الله شديد العذاب} انتهى أو يقال : إذ يرون العذاب الذي يتوعدون به الآن لأن القوة لله جميعاً فلا(3/73)
مانع له من إتيانهم به ، كما تبين في الآيتين قبلها أنه لا كفؤ له وأنه كامل القدرة شامل العلم ، والجواب محذوف لتهويله لذهاب وهم المتوعد إلى كل ضرب من أنواع التوعد ، ولو ذكر ضرب منه لأمكن أن يوطن نفسه عليه ، فالتقدير : لو رأيت أو رأوا ذلك الوقت الذي يشاهدون فيه تلك العظمة لرأيت أو لرأوا أمراً فظيعاً هائلاً شاغلاً لهم عن اتخاذ الأنداد ومحبتها وغير ذلك من الظلم ، وحذف الجواب للعلم به كما حذف من أمثاله. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 302}
قوله تعالى {جميعا}
{وجميعاً} استعمل في الكثرة والشدة فقوة غيره كالعدم وهذا كاستعمال ألفاظ الكثرة في معنى القوة وألفاظ القلة في معنى الوهن كما في قول تأبط شراً :
قليلُ التشكي للمُلِمِّ يصيبُه... كثيرُ الهوى شتَّى النَّوى والمسالك
أراد شديد الغرام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ2 صـ 95}
قوله تعالى {وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب}
قال الآلوسى :
وفائدة هذه الجملة المبالغة في تهويل الخطب وتفظيع الأمر ، فإن اختصاص القوة به تعالى لا يوجب شدة العذاب لجواز تركه عفواً مع القدرة عليه. أ هـ
{روح المعانى حـ 1 صـ 35}
سؤال : لم حذف جواب {لو} ؟
وجواب {لو} محذوف لقصد التفخيم وتهويل الأمر لتذهب النفس في تصويره كل مذهب ممكن ونظيره {ولو ترى إذ الظالمون في غمَرَات الموت} [الأنعام : 93] {ولو ترى إذ وقفوا على النار} [الأنعام : 27] {ولو أن قرءاناً سيرت به الجبال} [الرعد : 31] ، قال المرزوقي عند قول الشَّمَيْذَرِ الحارثي :
وقد ساءني ما جرَّتتِ الحرب بيننا... بنِي عَمِّنا لو كان أمراً مُدَانِيا
"حَذْفُ الجواب في مثل هاته المواضع أبلغ وأدل على المراد بدليل أن السيد إذا قال لعبده لئن قمتُ إليك ثم سكتَ تزاحم على العبد من الظنون المعترضة للتوعد ما لا يتزاحم لو نص على ضرببٍ من العذاب". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 93 ـ 94}(3/74)
قوله تعالى {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166)}
مناسبة الآية لما قبلها
اعلم أنه تعالى لما بين حال من يتخذ من دون الله أنداداً بقوله : {وَلَوْ يَرَى الذين ظَلَمُواْ إِذْ يَرَوْنَ العذاب} [البقرة : 165] على طريق التهديد زاد في هذا الوعيد بقوله تعالى : {إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا} فبين أن الذين أفنوا عمرهم على عبادتهم واعتقدوا أنهم أوكد أسباب نجاتهم فإنهم يتبرأون منهم عند احتياجهم إليهم ونظيره قوله تعالى : {يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً} [العنكبوت : 25] وقال أيضاً : {الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين} [الزخرف : 67] وقال : {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} [الأعراف : 38] وحكى عن إبليس أنه قال : {إِنّى كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ} [إبراهيم : 22]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ4 صـ 189}
واختلفوا في المراد بهؤلاء المتبوعين على وجوه.
أحدها : أنهم السادة والرؤساء من مشركي الإنس ، عن قتادة والربيع وعطاء.
وثانيها : أنهم شياطين الجن الذين صاروا متبوعين للكفار بالوسوسة عن السدي.
وثالثها : أنهم شياطين الجن والإنس.(3/75)
ورابعها : الأوثان الذين كانوا يسمونها بالآلهة والأقرب هو الأول لأن الأقرب في الذين اتبعوا أنهم الذين يصح منهم الأمر والنهي حتى يمكن أن يتبعوا وذلك لا يليق بالأصنام ، ويجب أيضاً حملهم على السادة من الناس لأنهم الذين يصح وصفهم من عظمهم بأنهم يحبونهم كحب الله دون الشياطين ويؤكده قوله تعالى : {إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا} [الأحزاب : 67] ، وقرأ مجاهد الأول على البناء للفاعل ، والثاني على البناء للمفعول أي تبرأ الاتباع من الرؤساء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ4 صـ 190}
ذكروا في تفسير التبرؤ وجوهاً.
أحدها : أن يقع منهم ذلك بالقول.
وثانيها : أن يكون نزول العذاب بهم ، وعجزهم عن دفعهم عن أنفسهم فكيف عن غيرهم فتبرؤا.
وثالثها : أنه ظهر فيهم الندم على ما كان منهم من الكفر بالله والإعراض عن أنبيائه ورسله فسمي ذلك الندم تبرؤا والأقرب هو الأول ، لأنه هو الحقيقة في اللفظ. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ4 صـ 190}
{إذ} ظرف وقع بدل اشتمال من ظرف {إذ يرون العذاب} [البقرة : 165] أي لو تراهم في هذين الحالين حال رؤيتهم العذاب وهي حالة فظيعة وتشتمل على حال اتخاذ لهم وتبرىء بعضهم من بعض وهي حالة شنيعة وهما حاصلان في زمن واحد.(3/76)
وجيء بالفعل بعد (إذ) هنا ماضياً مع أنه مستقبل في المعنى لأنه إنما يحصل في الآخرة تنبيهاً على تحقق وقوعه فإن درجتَ على أن إذ لا تخرج عن كونها ظرفاً للماضي على رأي جمهور النحاة فهي واقعة موقع التحقيق مثل الفعل الماضي الذي معها فتكون ترشيحاً للتبعية ، وإن درجت على أنها ترد ظرفاً للمستقبل وهو الأصح ونسبه في "التسهيل" إلى بعض النحاة ، وله شواهد كثيرة في القرآن قال تعالى : {ولقد صدقكم الله وعده إذ تحسونهم بإذنه} [آل عمران : 152] على أن يكون {إذ تحسونهم} هو الموعود به وقال : {فسوف يعلمون إذ الأغلال في أعناقهم} [غافر : 71] فيكون المجاز في فعل {تَبرَّأ} خاصة.
والتبرؤ تكلف البراءة وهي التباعد من الأمر الذي من شأن قُرْبه أن يكون مضراً ولذلك يقال تبارآ إذا أبعد كلٌ الآخر من تبعةٍ محققة أو متوقعة. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ2 صـ 96}
قوله تعالى {وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ}
قال الفخر :
ذكروا في تفسير الأسباب سبعة أقوال.
الأول : أنها المواصلات التي كانوا يتواصلان عليها ، عن مجاهد وقتادة والربيع.
الثاني : الأرحام التي كانوا يتعاطفون بها عن ابن عباس وابن جريج.
الثالث : الأعمال التي كانوا يلزمونها عن ابن زيد والسدي.
والرابع : العهود والحلف التي كانت بينهم يتوادون عليها ، عن ابن عباس.
الخامس : ما كانوا يتواصلون به من الكفر وكان بها انقطاعهم عن الأصم.
السادس : المنازل التي كانت لهم في الدنيا عن الضحاك والربيع بن أنس.
السابع : أسباب النجاة تقطعت عنهم والأظهر دخول الكل فيه ، لأن ذلك كالنفي فيعم الكل فكأنه قال : وزال عنهم كل سبب يمكن أن يتعلق به وأنهم لا ينتفعون بالأسباب على اختلافها من منزلة وسبب ونسب وخلف وعقد وعهد ، وذلك نهاية ما يكون من اليأس فحصل فيه التوكيد العظيم في الزجر. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ4 صـ 190}
سؤال : ما المراد بالأسباب ؟ (3/77)
الجواب : أصل السبب في اللغة الحبل قالوا : ولا يدعى الحبل سبباً حتى ينزل ويصعد به ، ومنه قوله تعالى : {فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السماء} [الحج : 15] ثم قيل لكل شيء وصلت به إلى موضع أو حاجة تريدها سبب.
يقال : ما بيني وبينك سبب أي رحم ومودة ، وقيل للطريق : سبب لأنك بسلوكه تصل الموضع الذي تريدها ، قال تعالى : {فَأَتْبَعَ سَبَباً} [الكهف : 85] أي طريقاً ، وأسباب السماوات : أبوابها لأن الوصول إلى السماء يكون بدخولها ، قال تعالى مخبراً عن فرعون : {لَّعَلّى أَبْلُغُ الأسباب أسباب السموات} [غافر : 36 ، 37] قال زهير :
ومن هاب أسباب المنايا تناله.
ولو رام أسباب السماء بسلم
والمودة بين القوم تسمى سبباً لأنهم بها يتواصلون.
أما قوله تعالى : {وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تبرؤا مِنَّا} فذلك تمن منهم لأن يتمكنوا من الرجعة إلى الدنيا وإلى حال التكليف فيكون الاختيار إليهم حتى يتبرؤن منهم في الدنيا كما تبرؤا منهم يوم القيامة ، ومفهوم الكلام أنهم تمنوا لهم في الدنيا ما يقارب العذاب فيتبرؤن منهم ولا يخلصونهم ولا ينصرونهم كما فعلوا بهم يوم القيامة وتقديره : فلو أن لنا كرة فنتبرأ منهم وقد دهمهم مثل هذا الخطب كما تبرؤا منا والحالة هذه لأنهم إن تمنوا التبرأ منهم مع سلامة فليس فيه فائدة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ4 صـ 190}
فائدة لغوية
الباءُ في " بهم " فيها أربعةُ أوْجُه :
أحدها : أَنَّها للحالِ ، أي : تقطَّعَتْ موصُولةً بهم الأسْبَاب ؛ نحو : " خَرَجَ بِثِيَابِهِ ".
الثَّانِي : أن تكُونَ للتعديَة ، اي : قَطَّعَتْهُم الأَسْبَابُ ؛ كما تقول : تَفَرَّقَتْ بهم الطُّرُقُ ، أي : فَرَّقَتْهُمْ.
الثالث : أن تكون للسببيّة ، أي : تقطَّعت [بسبَب كُفْرهمُ الأَسْبَابُ الَّتي كانُوا يرْجُون بها النَّجَاةَ].(3/78)
الرابع : أن تكون بمعنى " عَنْ " [أي : تقطَّعت عنْهُم ، كقوله {فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيراً} [الفرقان : 59] ، أي : عنهُ] وكقول علْقَمَةَ في ذلك : [الطويل]
882 - فَإِنَّ تَسْأَلُونِي بِالنِّسَاءِ فإِنَّنِي... بَصِيرٌ بِأَدْوَاءِ النِّسِاءِ طَبيبُ
أي : عن النِّسَاء. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 144 ـ 145}
وقال البقاعى :
والسبب ما يتوصل به إلى حصول ، في الأصل الحبل ، ثم قيل لكل مقصد. قال الحرالي : وفيه إشعار بخلوّ بواطنهم من التقوى ومن استنادهم إلى الله سبحانه وتعالى في دنياهم ، وأنهم لم يكونوا عقلوا إلا تسبب بعضهم ببعض فتقطعت بهم الأسباب ولم يكن لهم ، لأن ذلك واقع بهم في أنفسهم لا واقع لهم في غيرهم ، فكأنهم كانوا نظام أسباب تقطعت بهم فانتثروا منها ، وأسبابهم وصل ما بينهم في الدنيا التي لم تثبت في الآخرة ، لأنها من الوصل الفانية لا من الوصل الباقية لأن متقاضى ما في الدنيا ما كان منه بحق فهو من الباقيات الصالحات وما كان منه عن هوى فهو من الفاني الفاسد - انتهى. {نظم الدرر حـ 1 صـ 303}(3/79)
لطيفة بلاغية
وقوله {وتقطعت بهم الأسباب} تمثيلية شبهت هيئتهم عند خيبة أملهم حين لم يجدوا النعيم الذي تعبوا لأجله مدةَ حياتهم وقد جاءَ إبانه في ظنهم فوجدوا عوضه العذاب ، بحال المرتقى إلى النخلة ليجتنى الثمر الذي كد لأجله طول السنة فتقطع به السبب عند ارتقائه فسقط هالكاً ، فكذلك هؤلاء قد علم كلهم حينئذٍ أن لا نجاة لهم فحالهم كحال الساقط من علو لا ترجى له سلامة ، وهي تمثيلية بديعة لأنها الهيئة المشبهة تشتمل على سبْعة أشياء كل واحد منها يصلح لأن يكون مشَّبهاً بواحد من الأشياء التي تشتمل عليها الهيئة المشبه بها وهي : تشبيه المشرك في عبادته الأصنام واتباع دينها بالمرتقى بجامع السعي ، وتشبيه العبادة وقبول الآلهة منه بالحبل الموصل ، وتشبيه النعيم والثواب بالثمرة في أعلى النخلة لأنها لا يصل لها المرء إلا بعد طول وهو مدة العمر ، وتشبيه العمر بالنخلة في الطول ، وتشبيه الحرمان من الموصول للنعيم بتقطع الحبل ، وتشبيه الخيبة بالبعد عن الثمرة ، وتشبيه الوقوع في العذاب بالسقوط المهلك. وقلما تأتي في التمثيلية صلوحية أجزاء التشبيه المركب فيها لأن تكون تشبيهات مستقلة ، والوارد في ذلك يكون في أشياء قليلة كقول بشار الذي يُعد مثالاً في الحُسن
: ... كأنَّ مُثار النَّقْع فوقَ رؤسِنا
وأسيافَنَا لَيْلٌ تَهَاوَى كَواكِبُهْ... فليس في البيت أكثر من تشبيهات ثلاثة.
فالباء في (بهم) للملابسة أي تقطعت الأسباب ملتبسة بهم أي فسقطوا ، وهذا المعنى هو محل التشبيه لأن الحبل لو تقطع غير ملابس للمرتقى عليه لما كان في ذلك ضر إذ يمسك بالنخلة ويتطلب سبباً آخر ينزل فيه ، ولذلك لم يقل وتقطعت أسبابُهم أو نحوه ، فمن قال إن الباء بمعنى عَن أو للسببية أو التعدية فقد بَعد عن البلاغة ، وبهذه الباء تقوَّم معنى التمثيلية بالصاعد إلى النخلة بحبل وهذا المعنى فائت في قول امرىء القيس
: ... تقطَّعَ أسبابُ اللُّبانة والهَوى(3/80)
عَشِيَّةَ جاوَزْنا حَمَاةَ وشَيْزَرَا... وقوله : {وقال الذين اتبعوا} أظهر في مقام الإضمار لأن ضميري الغيبة اللذيْن قبله عائدان إلى مجموع الفريقين ، على أن في صلة {الذين اتبعوا} تنبيهاً على إغاظة المتبوعين وإثارة حسرتهم وذلك عذاب نفساني يضاعِفُ العذاب الجثماني وقد نبه عليه قوله : {كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم}.
و (لو) في قوله : {لو أن لنا كرة} مستعملة في التمني وهو استعمال كثير لحرف (لو) وأصلها الشرطية حُذف شرطها وجوابُها واستعيرت للتمني بعلاقة اللزوم لأن الشيء العسير المَنال يكثر تمنيه ، وسَدَّ المصدر مسد الشرط والجواب ، وتقدير الكلام لو ثبتت لنا كرة لتبرأنا منهم وانتصب ما كان جواباً على أنه جواب التمني وشاع هذا الاستعمال حتى صار من معاني لو وهو استعمال شائع وأصله مجاز مرسل مركب وهو في الآية مرشح بنصب الجواب. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ2 صـ 97 ـ 98}
قوله تعالى {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)}
قال الآلوسى : (3/81)
{وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً} أي لو ثبت لنا عودة ورجوع إلى الدنيا. {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ} أي من المتبوعين {كَمَا تَبَرَّءواْ مِنَّا} تمنوا الرجوع إلى الدنيا حتى يطيعوا الله تعالى فيتبرءوا من متبوعيهم في الآخرة إذا حشروا جميعاً مثل تبرىء المتبوعين منهم مجازاة لهم بمثل صنيعهم ، أي كما جعلوا بالتبري غائظين متحيرين على متابعتهم نجعلهم أيضاً بالتبري غائظين متحيرين على ما حصل لنا بترك متابعتهم ، ولذا لم يتبرءوا منهم قبل تمني الرجوع لأنه لا يغيظ المتبوعين حيث تبرءوا من الأتباع أو لا ، ومن هنا يظهر وجه القراءة على البناء للفاعل لأن تبرؤ الأتباع من المتبوعين بالآخرة بالانفصال عنهم بعد ما تبين لهم عدم نفعهم ، وذلك لا يغيظ المتبوعين لاشتغال كل منهم بما يقاسيه ، فلذا تمنوا الرجوع إلى الدنيا ليتبرءوا منهم تبرؤاً يغيظهم. وأما قوله سبحانه : {كَمَا تَبَرَّءواْ} فلا يقتضي إلا وقوع التبرؤ من المتبوعين وهو منصوص في آية أخرى ولا يقتضي أن يكون مذكوراً فيما سبق ، وقيل : إن الأتباع بعد أن تبرءوا من المتبوعين يوم القيامة تمنوا الكرة إلى الدنيا مع متبوعيهم ليتبرءوا منهم فيها ويخذلوهم فيجتمع لهم ذل الدنيا والآخرة ويحتاج هذا التوجيه إلى اعتبار التغليب في {لَنَا} أي لنا ولهم ، إذ التبرؤ في الدنيا إنما يتصور إذا رجع كلتا الطائفتين. أ هـ
{روح المعانى حـ 2 صـ 36}
قوله تعالى {كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا}
فائدة
الكاف في كما تبرءوا للتشبيه استعملت في المجازاة لأن شأن الجزاء أن يماثل الفعل المجازي قال تعالى : {وجزاؤا سيئة سيئة مثلها} [الشورى : 40] ، وهذه الكاف قريبة من كاف التعليل أو هي أصلها وأحسن ما يظهر فيه معنى المجازاة في غير القرآن قول أبي كبير الهذلي
: ... أهُزُّ بهِ في ندوة الحي عطفه(3/82)
كما هَزَّ عِطفي بالهِجان الأوارك... ويمكن الفرق بين هذه الكاف وبين كاف التعليل أن المذكور بعدها إن كان من نوع المشبه كما في الآية وبيت أبي كبير جُعلت للمجازاة ، وإن كان من غير نوعه وما بعد الكاف باعثٌ على المشبه كانت للتعليل كما في قوله تعالى : {واذكروه كما هداكم} [البقرة : 198].
والمعنى أنهم تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا بعدما علموا الحقيقة وانكشف لهم سوء صنيعهم فيدعوهم الرؤساء إلى دينهم فلا يجيبونهم ليَشفوا غيظهم من رؤسائهم الذين خذلوهم ولتحصل للرؤساء خيبة وانكسار كما خيبوهم في الآخرة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ2 صـ 99}
سؤال : فإن قلت هم إذا رجعوا رجعوا جميعاً عالمين بالحق فلا يدعوهم الرؤساء إلى عبادة الأوثان حتى يمتنعوا من إجابتهم.
قلتُ باب التمني واسع فالأتباع تمنوا أن يعودوا إلى الدنيا عالمين بالحق ويعود المتبوعون في ضلالهم السابق وقد يقال اتهم الأتباع متبوعيهم بأنهم أضلوهم على بصيرة لعلمهم غالباً والأتباع مغرورون لجهلهم فهم إذا رجعوا جميعاً إلى الدنيا رجع المتبوعون على ما كانوا عليه من التضليل على علم بناء على أن ما رأوه يوم القيامة لم يزعهم لأنهم كانوا من قبل موقنين بالمصير إليه ورجع الأتباع عالمين بمكر المتبوعين فلا يطيعونهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ2 صـ 99}
قوله تعالى {كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ}
سؤال : ما المراد بالأعمال ؟
في المراد بالأعمال أقوال.
الأول : الطاعات يتحسرون لم ضيعوها عن السدي.
الثاني : المعاصي وأعمالهم الخبيثة عن الربيع وابن زيد يتحسرون لم عملوها.
الثالث : ثواب طاعاتهم التي أتوا بها فأحبطوه بالكفر عن الأصم.(3/83)
الرابع : أعمالهم التي تقربوا بها إلى رؤسائهم من تعظيمهم والانقياد لأمرهم ، والظاهر أن المراد الأعمال التي اتبعوا فيها السادة ، وهو كفرهم ومعاصيهم ، وإنما تكون حسرة بأن رأوها في صحيفتهم ، وأيقنوا بالجزاء عليها ، وكان يمكنهم تركها والعدول إلى الطاعات ، وفي هذا الوجه الإضافة حقيقية لأنهم عملوها ، وفي الثاني مجاز بمعنى لزمهم فلم يقوموا به. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 191}
وقال الخازن :
وقيل : يرفع لهم منازلهم في الجنة فيقال لهم تلك مساكنكم لو أطعتم الله ثم تقسم بين المؤمنين فذلك حين يتحسرون ويندمون على ما فاتهم ولا ينفعهم الندم. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 101}
سؤال : لم أضيفت الأعمال إليهم ؟
الجواب : وأضيفت هذه الأعمال إليهم من حيث هم مأمورون بها ، وأما إضافة الفاسدة إليهم فمن حيث عملوها. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 236}
قوله تعالى {حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ}
والحسرة أعلى درجات الندامة والهم بما فات ، وهي مشتقة من الشيء الحسير الذي قد انقطع وذهبت قوته كالبعير والبصر ، وقيل هي من حسر إذا كشف ، ومنه قول النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " يحسر الفرات عن جبل من ذهب". أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 236}
وقال العلامة ابن عاشور :
وجملة {كذلك يريهم الله أعمالهم حسرات عليهم} تذييل وفذلكة لقصة تبَري المتبوعين من أتباعهم.
والإشارة في قوله : {كذلك يريهم الله} للإراءة المأخوذة من {يريهم} على أسلوب {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً} [البقرة : 143].(3/84)
والمعنى أن الله يريهم عواقب أعمالهم إراءً مثل هذا الإراءِ إذ لا يكون إراءٌ لأعمالهم أوقعَ منه فهو تشبيه الشيء بنفسه باختلاف الاعتبار كأنه يُرام أن يريهم أعمالهم في كيفية شنيعة فلم يوجد أشنعُ من هذه الحالة ، وهذا مثل الإخبار عن المبتدأ بلفظه في نحو شِعْرِي شِعْرى ، أو بمرادفه نحو والسفاهة كاسمها ، وقد تقدم تفصيله عند قوله تعالى : {وكذلك جعلناكم أمةً وسطاً}.
والإراءة هنا بصرية ولذلك فقوله : {حسرات عليهم} حال من {أعمالهم} ومعنى {يريهم الله أعمالهم} يريهم ما هو عواقب أعمالهم لأن الأعمال لا تدرك بالبصر لأنها انقضت فلا يحسُّون بها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 99 ـ 100}
قوله تعالى {وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار}
قال البقاعى :
{وما هم} أي بفائت خروجهم بل هم وإن خرجوا من السعير إلى الزمهرير يعودون إليه {بخارجين من النار} يوماً من الأيام ولا ساعة من الساعات بل هم خالدون فيها على طول الآباد ومر الأحقاب ، بخلاف عصاة المؤمنين فإنهم إذا خرجوا منها لم يعودوا إليها. قال الحرالي : وفيه إشعار بقصدهم الفرار منها والخروج كما قال سبحانه وتعالى : {كلما أرادوا أن يخرجوا منها أعيدوا فيها} [السجدة : 20] فأنبأ تعالى أن وجهتهم للخروج لا تنفعهم ، فلم تبق لهم منّة تنهضهم منها حتى ينتظم قطع رجائهم من منة أنفسهم بقطع رجائهم ممن اعتلقوا به من شركائهم ولم يكن {وما هم منها بمخرجين} [الحجر : 48] كما قال في أهل الجنة للإشعار بأن اليأس والانقطاع واقع منهم على أنفسهم ، فكما كان بوادي أعمالهم في الدنيا من أنفسهم عندهم جرى نبأ جزائها على حد ذلك في المعنى كما قال : أعمال أهل الجنة عندهم من توفيق ربهم جرى ذكر جزائهم على حد ذلك من المعنى بحسب ما يقتضيه اختلاف الصيغتين - انتهى.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 204}
وقال الآلوسى : (3/85)
{وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار} المتبادر في أمثاله حصر النفي في المسند إليه نحو {وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الذين ءامَنُواْ} [هود : 9 2] {وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ} [هود : 1 9] ففيه إشارة إلى عدم خلود عصاة المؤمنين الداخلين في قوله تعالى : {والذين ءامَنُواْ أَشَدُّ حُبّا لِلَّهِ} [البقرة : 165] في النار ، وإذا أريد من {الذين ظَلَمُواْ} [البقرة : 165] الكفار مطلقاً دون المشركين فقط كان الحصر حقيقياً ، ويكون المقصود منه المبالغة في الوعيد بأنه لا يشاركهم في الخلود غيرهم ، فإن الشركة تهوّن العقوبات ، وقيل : إن المقصود نفي أصل الفعل لأنه اللائق بمقام الوعيد لا حصر النفي إذ ليس المقام مقام تردد ونزاع في أن الخارج هم أو غيرهم على الشركة أو الانفراد وإن كان صحيحاً بالنظر إلى العصاة إلا أنه غير إلى ما ترى إفادة للمبالغة في الخلود ، والإقناط عن الخلاص ، والرجوع إلى الدنيا ، وزيادة الباء وإخراج ذواتهم من عداد الخارجين لتأكيد النفي ، وأنت تعلم أنه إذا لم يعتبر في الحصر حال المخاطب لم يبق فيه ما يقال سوى أن ظواهر بعض الآيات تقتضي عدم إرادة الحصر ، ومن ذلك قوله تعالى : {يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بخارجين مِنْهَا} [المائدة : 7 3]. أ هـ
{روح المعانى حـ 2 صـ 37}
فائدة
قال الإمام فخر الدين الرازى :
أما قوله تعالى : {وَمَا هُم بخارجين مِنَ النار} فقد احتج به الأصحاب على أن أصحاب الكبيرة من أهل القبلة يخرجون من النار فقالوا : إن قوله {وَمَا هُمْ} تخصيص لهم بعدم الخروج على سبيل الحصر فوجب أن يكون عدم الخروج مخصوصاً بهم ، وهذه الآية تكشف عن المراد بقوله : {وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين وَمَا هُمَ عَنْهَا بِغَائِبِينَ} [الانفطار : 14 16] وثبت أن المراد بالفجار ههنا الكفار لدلالة هذه الآية عليه. أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 4 صـ 191 ـ 192}(3/86)
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال الإمام البقاعى : (3/87)
ولما عجب سبحانه وتعالى من الضالين وبين من مآلهم ما يزجر مثله من له أدنى عقل فكانوا بذلك في عداد المقبل بعد الإدبار والمذعن بعد الاستكبار أقبل على الكل كما فعل في آية التوحيد الأولى فقال {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} إقبال متلطف بعموم الإذن في تناول ما أبدعه لهم ورحمهم به في هذا الملكوت المذكور في ضمن ما نصب من الأدلة تذكيراً لهم بالنعمة وتودداً إليهم بجميع ما يوجب المحبة وإشارة إلى أنه هو الذي خلق لهم ما تقربوا به إلى غيره مما ادعوه نداً من البحيرة والسائبة والوصيلة وما شاكلها فقال {يا أيها الناس} وإن اختصرت فقل : لما أقام سبحانه وتعالى الدليل على الوحدانية بما خلق من المنافع وصنف الناس صنفين ضال معطوف دال بعطفه على غير مذكور على مهتد معطوف عليه وختم بتأبيد عذاب الضال أقبل على الصنفين إقبال متلطف مترفق مستعطف منادياً لهم إلى تأبيد نفعهم قائلاً : {يا أيها الناس} أي كافة. وقال الحرالي : لما استوفى سبحانه وتعالى ذكر أمر الدين إلى أنهاه من رتبة دين الإسلام الذي رضيه وكان الدين هو غذاء القلوب وزكاة الأنفس نظم به ذكر غذاء الأبدان من الأقوات ليتم بذكر النماءين نماء الذوات ظاهرها البدني وباطنها الديني ، لما بين تغذي الأبدان وقوام الأديان من التعاون على جمع أمري صلاح العمل ظاهراً وقبوله باطناً ، قال عليه الصلاة والسلام : " لا يقبل الله عملاً إلا بالورع الشافي " ؛ وكما قيل : ملاك الدين الورع ، وهلاكه الترف ، ونقصه السرف ؛ فكما انتظم الكتاب قصر الخلق على أفضل متصرفاتهم في التدين اتصل به قصرهم على أفضل مأكلهم في التقوت ، ولما ذكر الدين في رتبتي صنفين من الناس والذين آمنوا انتظم به ذكر المأكل في صنفيهما فقال {يا أيها الناس} فانتظم بخطاب قوله تعالى {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} لما بين العبادة والمأكل من الالتزام - انتهى.
(3/88)
ولما كانت رتبة الناس من أدنى المراتب في خطابهم أطلق لهم الإذن تلطفاً بهم ولم يفجأهم بالتقييد فقال مبيحاً لهم ما أنعم به عليهم {كلوا} ولما كان في الأرض ما لا يؤكل قال : {مما في الأرض} أي مما بينا لكم أنه من أدلة الوحدانية
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 204 ـ 205}
وقال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما بين التوحيد ودلائله ، وما للموحدين من الثواب وأتبعه بذكر الشرك ومن يتخذ من دون الله أنداداً ، ويتبع رؤساء الكفر أتبع ذلك بذكر إنعامه على الفريقين وإحسانه إليهم وأن معصية من عصاه وكفر من كفر به لم تؤثر في قطع إحسانه ونعمه عنهم ، فقال : {يا أيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الأرض} أ هـ
{مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 3}
قال الخازن :
قوله عز وجل : {يا أيها الناس كلوا في الأرض حلالاً طيباً} نزلت في ثقيف وخزاعة وعامر بن صعصعة وبني مدلج فيما حرموا على أنفسهم من الحرث والأنعام والبحيرة والسائبة والوصيلة والحام. أ هـ
{تفسير الخازن حـ 1صـ 101}
قوله تعالى {كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض}
قال ابن عرفة :
قوله تعالى : {ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً...}.
قال ابن عرفة : هذا الأمر إما للوجوب أي أوجب الله علينا الأكل لأنّ به قوام الأجسام ، أو لوجوب الأكل من الحلال. وإما للندب أو للإباحة وفيه دليل على أنّ الأشياء على الحظر ، أو على الإباحة. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 211}
قوله تعالى {مما في الأرض}
ومِن في قوله : {مما في الأرض} للتبعيض ، فالتبعيض راجع إلى كون المأكول بعضاً من كل نوع وليس راجعاً إلى كون المأكول أنواعاً دون أنواع ، لأنه يفوت غرض الآية ، فما في الأرض عام خصصه الوصف بقوله : {حلالاً طيباً} فخرجت المحرمات الثابت تحريمها بالكتاب أو السنة. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ 2 صـ 102}
قوله تعالى {حلالا}(3/89)
الحلال المباح الذي انحلت عقدة الحظر عنه وأصله من الحل الذي هو نقيض العقد ومنه : حل بالمكان إذا نزل به ، لأنه حل شد الارتحال للنزول وحل الدين إذا وجب لانحلال العقدة بإنقضاء المدة ، وحل من إحرامه ، لأنه حل عقدة الإحرام ، وحلت عليه العقوبة ، أي وجبت لانحلال العقدة بالمانعة من العذاب والحلة الإزار والرداء ، لأنه يحل عن الطي للبس ، ومن هذا تحلة اليمين ، لأنه عقدة اليمين تنحل به ، واعلم أن الحرام قد يكون حراماً لخبثه كالميتة والدم والخمر ، وقد يكون حراماً لا لخبثه ، كملك الغير إذا لم يأذن في أكله فالحلال هو الخالي عن القيدين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 3}
قوله تعالى {طيبا}
الطيب في اللغة قد يكون بمعنى الطاهر والحلال يوصف بأنه طيب ، لأن الحرام يوصف بأنه خبيث قال تعالى : {قُل لاَّ يَسْتَوِى الخبيث والطيب} [المائدة : 100] والطيب في الأصل هو ما يستلذ به ويستطاب ووصف به الطاهر والحلال على جهة التشبيه ، لأن النجس تكرهه النفس فلا تستلذه والحرام غير مستلذ ، لأن الشرع يزجر عنه وفي المراد بالطيب في الآية وجهان الأول : أنه المستلذ لأنا لو حملناه على الحلال لزم التكرار فعلى هذا إنما يكون طيباً إذا كان من جنس ما يشتهي لأنه إن تناول ما لا شهوة له فيه عاد حراماً وإن كان يبعد أن يقع ذلك من العاقل إلا عند شبهة والثاني : المرادمنه المباح وقوله يلزم التكرار قلنا : لا نسلم فإن قوله : {حلالا} المراد منه ما يكون جنسه حلالاً وقوله {طَيّباً} المراد منه لا يكون متعلقاً به حق الغير فإن أكل الحرام وإن اسطابه الآكل فمن حيث يفضي إلى العقاب يصير مضرة ولا يكون مستطاباً ، كما قال تعالى : {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء : 10].
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 3 ـ 4}(3/90)
وقال فى التحرير والتنوير :
وفي هذا الوصف معنى عظيم من الإيماء إلى قاعدة الحلال والحرام فلذلك
قال علماؤنا : إن حكم الأشياء التي لم ينص الشرع فيها بشيء أن أصل المضار منها التحريم وأصل المنافع الحل ، وهذا بالنظر إلى ذات الشيء بقطع النظر عن عوارضه كتعلق حق الغير به الموجب تحريمه ، إذ التحريم حينئذٍ حكم للعارض لا للمعروض.
وقد فسر الطيب هنا بما يبيحه الشرع وهو بعيد لأنه يفضي إلى التكرار ، ولأنه يقتضي استعمال لفظ في معنى غير متعارف عندهم. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ 2 صـ 102}
أصل الحليّة
هذه الآية تدل على أنّ الأصل في كل الأغذية الموجودة على ظهر الأرض الحليّة ، والمستثناة هي الأغذية المحرمة.
من هنا فإن الحرمة تحتاج إلى دليل لا الحلية. وهذا ما يقتضيه أيضاً طبيعة الخليقة. إذ لابدّ من وجود تنسيق بين القوانين التشريعية والقوانين التكوينية.
بعبارة أوضح ما خلقه الله لابدّ أن ينطوي على فائدة لعباده. من هنا فلا معنى أن يكون الأصل الأوّلى للأطعمة على ظهر الأرض التحريم. فكل غذاء إذن حسب هذه الآية الكريمة حلال ما لم تثبت حرمته بدليل صحيح ، ومادام لا يشكل ضرراً على الفرد والمجتمع. أ هـ {الأمثل حـ 1 صـ 355}
وقال الآلوسى : (3/91)
وقوله تعالى : {طَيّباً} صفة {حلالا} ومعناه كما قال الإمام مالك ما يجده فم الشرع لذيذاً لا يعا فهو لا يكرهه ، أو تراه عينه طاهراً عن دنس الشبهة ، وفائدة وصف الحلال به تعميم الحكم كما في قوله تعالى : {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِى الارض} [الأنعام : 8 3] ليحصل الرد على من حرم بعض الحلالات ، فإن النكرة الموصوفة بصفة عامة تعم بخلاف غير الموصوفة ، وقال الإمام الشافعي رضي الله تعالى عنه : المراد به ما تستطيبه الشهوة المستقيمة الناشئة من المزاج الصحيح ، ورد بأن ما لا تستطيبه إما حلال لا شبهة فيه فلا منع وإلا خرج بقيد الحلال ، وأجيب بأن المراد بالحلال ما نص الشارع على حله وبهذا ما لم يرد فيه نص ولكنه مما يستلذ ويشتهيه الطبع المستقيم ، ولم يكن في الشرع ما يدل على حرمته كاسكار وضرر ، والأولى نظراً للمقام أن يقال إن التقييد ليس للاحتراز عما تستطيبه الشهوة الفاسدة بل لكونه معتبراً في مفهومه إذ لا يقال الطيب واللذيذ إلا على ما تستلذه الشهوة المستقيمة وتكون فائدة التوصيف حينئذٍ التنصيص على إباحة ما حرموه ، والقول بأن في الآية على هذا التفسير إشارة إلى النهي عن الأكل على امتلاء المعدة والشهوة الكاذبة لأن ذلك لا يستطيب لا يستطيب لأن الطعام اللذيذ المأكول كذلك مما تستطيبه الشهوة إلا أنه ليس مأكولاً بالشهوة المستقيمة ، وبين المعنيين بعد بعيد كما قاله بعض المحققين واستدل بعضهم بالآية على أن من حرم طعاماً مثلاً فهو لاغ ولا يحرم عليه ، وفيه خفاء لا يخفى.
أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 39}
قوله تعالى {وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}(3/92)
قال ابن السكيت فيما رواه عنه الجبائي الخطوة والخطوة بمعنى واحد وحكى عن الفراء : خطوت خطوة والخطوة ما بين القدمين كما يقال : حثوت حثوة ، والحثوة اسم لما تحثيت ، وكذلك غرفت غرفة والغرفة اسم لما اغترفت ، وإذا كان كذلك فالخطوة المكان المتخطى كما أن الغرفة هي الشيء المغترف بالكف فيكون المعنى : لا تتبعوا سبيله ولا تسلكوا طريقه لأن الخطوة اسم مكان ، وهذا قول الزجاج وابن قتيبة فانهما قالا : خطوات الشيطان طر فهو إن جعلت الخطوة بمعنى الخطوة كما ذكره الجبائي فالتقدير : لا تأتموا به ولا تقفوا أثره والمعنيان مقاربان وإن اختلف التقديران هذا ما يتعلق باللغة ، وأما المعنى فليس مراد الله ههنا ما يتعلق باللغة بل كأنه قيل لمن أبيح له الأكل على الوصف المذكور احذر أن تتعداه إلى ما يدعوك إليه الشيطان وزجر المكلف بهذا الكلام عن تخطي الحلال إلى الشبه كما زجره عن تخطيه إلى الحرام لأن الشيطان إنما يلقي إلى المرء ما يجري مجرى الشبهة فيزين بذلك ما لا يحل له فزجر الله تعالى عن ذلك ، ثم بين العلة في هذا التحذير ، وهو كونه عدواً مبيناً أي متظاهر بالعداوة ، وذلك لأن الشيطان التزم أموراً سبعة في العداوة أربعة منها في قوله تعالى : {وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءَاذَانَ الأنعام وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله} [النساء : 119] وثلاثة منها في قوله تعالى : {لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صراطك المستقيم ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أيمانهم وَعَن شَمَائِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكرين} [الأعراف : 16 17] فلما التزم الشيطان هذه الأمور كان عدواً متظاهراً بالعداوة فلهذا وصفه الله تعالى بذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 4}
وقال الماوردى : (3/93)
{وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} وهي جمع خطوة ، واختلف أهل التفسير في المراد بها على أربعة أقاويل :
أحدها : أن خطوات الشيطان أعماله ، وهو قول ابن عباس.
والثاني : أنها خطاياه وهو قول مجاهد.
والثالث : أنها طاعته ، وهو قول السدي.
والرابع : أنها النذور في المعاصي. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 220}
وقال العلامة ابن عاشور :
واللام في {الشيطان} للجنس ، ويجوز أن تكون للعهد ، ويكون المراد إبليسَ وهو أصل الشياطين وآمرهم فكل ما ينشأ من وسوسة الشياطين فهو راجع إليه لأنه الذي خطا الخطوات الأولى. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 103}
طريقة الوسوسة الشّيطانية
الآية الكريمة تحدثت عن أمر الشيطان : فقالت : (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ...) وهذا الأمر هو الوسوسة الشيطانية. وقد يطرح سؤال بشأن هذه الأوامر الشيطانية إذ لا يحسّ الإنسان بأمر خارجي يصدر إليه حين يرتكب السيئات ، ولا يتلمس سعياً شيطانياً لإضلاله.
الجواب هو أن هذه "الوسوسة" تأثير خفي عبّرت عنه بعض الآيات بالإيحاء : (وَإِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيَائِهِمْ)(486). والإيحاء من "الوحي" الذي هو تأثير غيبي خفي أو التأثيرات اللاواعية أحياناً.
وثمّة فرق بين "الإلهام الإلهي" و"الوسوسة الشيطانية" هو أن الإلهام الإلهي لانسجامه مع الفطرة الإنسانية ومع تركيب الجسم والروح ، يترك في النفس حالة انبساط وانشراح.
بينما الوسوسة الشيطانية لتناقضها مع الفطرة الإنسانية السليمة ، تجعل القلب يحسّ بظلام وانزعاج وثقل. وإن لم يحدث فيه مثل هذا الإحساس قبل ارتكاب السيئة فإنه يحسّ بها بعد الارتكاب. هذا هو الفرق بين الإلهامات الشيطانية والإلهامات الإلهية. أ هـ {الأمثل حـ 1 صـ 356}
قوله تعالى {إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ}(3/94)
ومعنى المبين الظاهر العداوة من أبان الذي هو بمعنى بان وليس من أبان الذي همزته للتعدية بمعنى أظهر لأن الشيطان لا يُظهر لنا العداوة بل يلبس لنا وسوسته في لباس النصيحة أو جلب الملائم ، ولذلك سماه الله وليّاً فقال : {ومن يتخذ الشيطان ولياً من دون الله فقد خسر خسراناً مبيناً} [النساء : 119] ، إلاّ أن الله فضحه فلم يبق مسلم تروج عليه تلبيساته حتى في حال اتِّباعه لخطواته فهو يعلم أنها وساوسه المضرة إلاّ أنه تغلبه شهوته وضعف عزيمته ورقة ديانته.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 104}
لطيفة
الحرام - وإنْ اسْتُلِذَّ في الحال - فهو وبيء في المآل ، والحلال - وإن اسْتُكْرِه في الحال - فهو مريء في المآل.
والحلال الصافي ما لم ينسَ مُكْتَسِبُه الحقَّ في حال اكتسابه.
ويقال الحلال ما حصله الجامع له والمكتسب على شهود الحق في كل حال.
وكلُّ ما يحملك على نسيان الحق أو عصيان الحق فهو من خطوات الشيطان.
أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 146}(3/95)
بحث نفيس فى الحلال
قال الأستاذ أبو الحسن الحرالي في كتاب العروة في حرف الحلال : وجه إنزال هذا الحرف توسيع الاستمتاع بما خلق الله في الأرض من نعمة وخيره الموافقة لطباعهم وأمزجتهم وقبول نفوسهم في جميع جهات الاستمتاع من طعام وشراب ولباس ومركب ومأوى وسائر ما ينتفع به مما أخرج الله سبحانه وتعالى ومما بثه في الأرض وما عملت أيديهم في ذلك من صنعة وتركيب ومزج ليشهدوا دوام لبس الخلق الجديد في كل خلق على حسب ما منه فطر خلقه ؛ ولما كان الإنسان مخلوقاً من صفاوة كل شيء توسع له بجهات الانتفاع بكل شيء إلا ما استثنى منه بحرف الحرام ووجهه كما استثنى لآدم أكل الشجرة من متسع رغد الجنة فكان له المتاع بجميعه إلا ما أضر ببدنه أو خبث نفسه أو ران على علم قلبه وذلك بأن يسوغ له طبعاً وتحسن مغبّته في أخلاق نفسه ويسنده قلبه لمنعمه الذي يشهد منه بداياته وتكملاته تجربة ثم كمل القرآن ذلك بإخلاصه للمنعم من غير أثر لما سواه فيه وجامع منزله بحسب ترتيب القرآن قوله تعالى {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة : 29] ومن أوائله بحسب ترتيب - البيان والله سبحانه وتعالى أعلم {هو الذي أنزل لكم من السماء ماء لكم منه شراب ومنه شجر فيه تسيمون} [النحل : 10] الآية وسائر الآيات الواردة في سورة النحل وفي سورة يس إذ هي القلب الذي منه مداد القرآن كله في قوله تعالى : {وآية لهم الأرض الميتة أحييناها وأخرجنا منها حباً فمنه يأكلون} [يس : 23] الآيات إلى سائر ما في القرآن من نحوه ، ومن متسع خلال هذا الحرف وقعت الفتنة على الخلق بما زين لهم منه {زين للناس حب الشهوات من النساء والبنين} [آل عمران : 14] الآية ووجه فتنته أن على قدر التبسط فيه يحرم من طيب الآخرة {أذهبتم طيباتكم في حياتكم الدنيا واستمتعتم بها} [الأحقاف : 20] " إنما يلبس هذه من لا خلاق له في الآخرة " {فاستمتعوا بخلاقهم} [التوبة : 69] ومن رؤية سوء هذا المخبر نشأ(3/96)
زهد الزاهدين ، ومن رؤية حسن المتجر وربحه وتضاعفه إلى ما لا يدرك مداه ونعيمه في بيع خلاق الدنيا بخلاق الآخرة نشأ ورع المتورعين ؛ فاستراحت قلوبهم بالزهد ، وانكفؤوا بالورع عن الكد ، وتفرغت قلوبهم وأعمالهم لبذل الجد في سبيل الحمد ، وتميز الشقي من السعيد بالرغبة فيه أو عنه ، فمن رغب في الحلال شقي ومن رغب عنه سعد ؛ وهو الحرف الذي قبض بسطه حرف النهي حتى لم يبق لابن آدم حظ فيما زاد على جلف الطعام وهي كسرة وثوب يستره وبيت يكنه ، وما زاد عليه متجر إن أنفقه ربحه وقدم عليه وإن ادخره خسره وندم عليه ؛ ولذلك لم يأذن الله سبحانه وتعالى لأحد في أكله حتى يتصف بالطيب للناس الذين هم أدنى المخاطبين بانسلاخ أكثرهم من العقل والشكر والإيمان {يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} [البقرة : 168] ومحا اسمه عن الذين آمنوا وهم الذين لا يثبتون ولا يدومون على خير أحوالهم بل يخلصون وذلك في قوله تعالى
(3/97)
{يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم} [البقرة : 172] وهو ما طيبه حرف النهي علماً ، وبرىء من حوادّ القلوب طمأنينة ، وتمم وأنهى صفوة للمرسلين فقال {يا أيها الرسل كلوا من الطيبات} [المؤمنون : 51] وورد جواباً لسؤالهم في قوله تعالى {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات} [المائدة : 4] ؛ فمن آثر حرف النهي على حرف الحلال فقد تزكى واتبع الأحسن وصح هداه وصفا لبّه ومن آثر حرف الحلال على حرف النهي فقد تدسّى وحرم هدى الكتب وعلم الحكمة ومزيد التأبيد بما فاته من التزكية وتورط فيه من التدسية والله يقول الحق وهو يهدي السبيل. ثم قال فيما به تحصل قراءته : اعلم أن الإنسان لما كان جامعاً كان بكل شيء منتفعاً أما في حال السعة فمع استثناء أشياء يسيرة مما يضره من جهة نفسه أو غيره أو ربه على ما ذكر في الفصل الأول أي حرف الحرام {هو الذي خلق لكم ما في الأرض جميعاً} [البقرة : 29] {قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً} [الأنعام : 145] الآية : وأما في حال الضرورة فبغير استثناء البتة {فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه} [البقرة : 173] ؛ {فمن اضطر في مخمصة غير متجانف لإثم فإن الله غفور رحيم} [المائدة : 3] ؛ والذي تحصل به قراءة هذا الحرف أما من جهة القلب فمعرفة حكمة الله في المتناول من مخلوقاته ومعرفة أخص منافعها مما خلقه ، ليكون غذاء في سعة أو ضرورة وإداماً أو فاكهة أو دواء كذلك ؛ ومعرفة موازنة ما بين الانتفاع بالشيء ومضرته واستعماله على حكم الأغلب من منفعته ، أو اجتنابه على حكم الأغلب من مضرته {قل فيهما إثم كبير ومنافع للناس وإثمهما أكبر من نفعهما} [البقرة : 219] وذلك مدرك عن الله سبحانه وتعالى باعتبار العقل وإدراك الحس في مخلوقاته كما أدركه الحنيفيون ، كان الصديق رضي الله تعالى عنه قد حرم الخمر على نفسه في الجاهلية ، وكان إذا أخذ عليه في ذلك يقول : والله لو أصبت(3/98)
شيئاً أشتريه بمالي كله يزيد في عقلي لفعلت فكيف أشتري بمالي شيئاً ينقص من عقلي! وكان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ كثيراً ما ينبه على حكمة الله سبحانه وتعالى في الأشياء التي بها تتناول أو تجتنب عملاً بقوله تعالى
(3/99)
{يزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة} [آل عمران : 164] فقال لطلحة رضي الله تعالى عنه وقد ناوله سفرجلة " تذهب بطخاء الفؤاد " وقال لأبي هريرة رضي الله تعالى عنه وهو رمد في خبز الشعير والسلق : " كل من هذا فإنه أوفق لك " وقال في التمر والقثاء : " حر هذا يكسر برد هذا " وقال لرمد : " أتأكل التمر وأنت رمد " وقال لعائشة رضي الله تعالى عنها في الماء المشمس : " لا تفعلي يا حميراء! فإنه يولد البرص " وقال : " استاكوا بكل عود ما خلا الآس والرمان فإنهما يهيجان عرق الجذام " وقال لامرأة استطلقت بالشُّبْرُم : " حار جار ، ألا استطلقت بالسنا ؟ فإنه لو كان شيء يذهب الداء لأذهبه السنا " إلى غير ذلك مما إذا أباحه أو حظره نبه على حكمته. وكانت عائشة رضي الله تعالى عنها تقول للمريض : اصنعوا له خزيرة فإنها مَجَمّة لفؤاد المريض وتذهب بعض الحزن. ومثل ذلك كثير من كلام العلماء رضي الله تعالى عنهم ومجربات الحكماء ومعارف الحكماء الحنفاء ، قال الشافعي رحمه الله تعالى في قوله سبحانه وتعالى {يحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث} [الأعراف : 157] الطيبات ما استطابته نفوس العرب ، والخبائث ما استخبثته نفوس العرب ؛ هذا من جهة القلب وأما من جهة النفس فسخاؤها بما يقع فيه الاشتراك من المنتفعات المحللات ، لأن الشحّ بالحلال عن مستحقه محظر له على المختص به الضيافة على أهل الوبر {وإذا حضر القسمة أولو القربى واليتامى والمساكين فارزقوهم منه} [النساء : 8] {وآت ذا القربى حقه والمسكين وابن السبيل} [الروم : 38] {فكلوا منها وأطعموا القانع والمعتر} [الحج : 36] وكذلك صبرها عما تشتهيه من المضرات من الوجوه المذكورة {إنما الخمر والميسر} [المائدة : 90] إلى قوله {لعلكم تفلحون} {ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم} [النساء : 2] {ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون} [الحشر : 9 والتغابن : 16] وكذلك التراضي وطيب(3/100)
النفس فيما يقع فيه الاشتراك {إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم} [النساء : 29] {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً فكلوه هنيئاً مريئاً} [النساء : 4] هذه الشروط الثلاثة من السخاء والصبر والتراضي في النفس ، وأما في العمل وتناول اليد فأول ذلك ذكر الله والتسمية عند كل متناول ، لأن كل شيء لله فما تنوول باسمه أخذ بإذنه وما تنوول بغير اسمه أخذ تلصصاً على غير وجهه وشارك الشيطان في تناوله فتبعه المتناول معه في خطواته وشاركهم في الأموال والأولاد ؛ جاء أعرابي وصبي ليأكلا طعاماً بين أيدي النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بغير تسمية فأخذ بأيديهما وقال " إن الشيطان جاء ليستحل بهما هذا الطعام ، والذي نفسي بيده! إن يده في يدي مع أيديهما " فسمى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ وأكل ثم أطلقها وقال :
(3/101)
" كلا باسم الله " وقال لغلام آكل : " يا غلام! سمّ الله " والثاني التناول باليمين ، لأن الشيطان يأكل بشماله ويشرب بشماله ، واليمين خادم ما علا من الجسد والشمال خادم ما سفل منه. والثالث أن يتناول تناول تقنّع وترفع عن تناول النهبة " كان رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يأكل بثلاثة أصابع " " ويشرب مصّاً في ثلاث " وقال : " هو أبرأ وأمرأ وأهنأ " وقال : " الكُباد من العبّ " والرابع الاكتفاء بما دون الشبع لما في ذلك من حسن اغتذاء البدن وحفظ الحواس الظاهرة والباطنة ؛ ومن علامات الساعة ظهور السمن عن الأكل في الرجال ؛ و" ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطن " و" ما دخلت الحكمة معدة ملئت طعاماً " و" المؤمن يأكل في معّى واحد والكافر يأكل في سبعة أمعاء " لتوكل المؤمن في قوامه ولا تكال الكافر على الغذاء في قوته : " وحسب المؤمن لقيمات يقمن صلبه ، فإن كان ولا بد فاعلاً فثلث للطعام وثلث للشراب وثلث للنفس " انتهى. قلت : ولعل المراد أن الكافر يأكل شبعاً فيأكل ملأ بطنه لأن الأمعاء كما قالوا سبعة ، والمؤمن يأكل تقوتاً فيأكل في معّى واحد وهو سبع بطنه ، فإن لم يكن ففي معاءين وشيء وهو الثلث - والله سبحانه وتعالى أعلم. قال الحرالي : والخامس حمد الله تعالى في الختام ، لأن من لم يحمد الله في الختام كفر بنعمته. ومن حمد غير الله آمن بطاغوته ؛ فبهذه الأمور معرفة في القلب وحالاً في النفس وآداباً في العمل تصح قراءة حرف الحلال ويحصل خير الدنيا ويتمدد الأساس لبناء خير الآخرة ، والله سبحانه وتعالى ولي التوفيق - انتهى.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 306 ـ 312}
قوله تعالى : {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بالسوء والفحشاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}(3/102)
قال الفخر :
وأما قوله تعالى : {إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بالسوء والفحشاء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فهذا كالتفصيل لجملة عداوته ، وهو مشتمل على أمور ثلاثة أولها : السوء ، وهو متناول جميع المعاصي سواء كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح أو من أفعال القلوب وثانيها : الفحشاء وهي نوع من السوء ، لأنها أقبح أنواعه ، وهو الذي يستعظم ويستفحش من المعاصي وثالثها : {أَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} وكأنه أقبح أنواع الفحشاء ، لأنه وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر ، فصارت هذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى : {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان} فيدخل في الآية أن الشيطان يدعو إلى الصغائر والكبائر والكفر والجهل بالله. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 4}(3/103)
وقال العلامة الآلوسى :
{إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بالسوء والفحشاء} استئناف لبيان كيفية عداوته وتفصيل لفنون شره وإفساده وانحصار معاملته معهم في ذلك ، أو علة للعلة بضم ، وكل من هذا شأنه فهو عدو مبين أو علة للأصل بضم ، وكل من هذا شأنه لا يتبع فيكون الحكم معللاً بعلتين العداوة والأمر بما ذكر وليس الأمر على حقيقته لا لأن قوله تعالى : {إِنَّ عِبَادِى لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الإسراء : 65] ينافي ذلك لكونه مبنياً على أن المعتبر في الأمر العلو كما هو مذهب المعتزلة وإلا فمجرد الاستعلاء لا ينافي أن يكون له سلطان ، وعلى أن يكون عبادي لعموم الكل بدليل الاستثناء ، وعلى أن الخطاب في {يَأْمُرُكُمْ} لجميع الناس لا للمتبعين فقط ، ولا منافاة أيضاً بل لأنا نجد من أنفسنا أنه لا طلب منه للفعل منا وليس إلا التزيين والبعث فهو استعارة تبعية لذلك ويتبعها الرمز إلى أن المخاطبين بمنزلة المأمورين المنقادين له ، وفيه تسفيه رأيهم وتحقير شأنهم ، ولا يرد أنه إذا كان الأمر بمعنى التزيين فلا بد أن يقال : يأمر لكم ، وإن كان بمعنى البعث فلا بد أن يقال : يأمركم على السوء أو للسوء إذ المذكور لفظ الأمر فلا بد من رعاية طريق استعماله. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 39}
قال ابن عادل :
قوله : {إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فهذه كالتَّفصيل لجملة عداوته ، وهو مشتمل على أمور ثلاثةٍ :
أولها : السُّوء ، وهو : متناول جميع المعاصي ، سواءٌ كانت تلك المعاصي من أفعال الجوارح ، أو من أفعال القلوب.
وسُمِّي السُّوء سوءاً ؛ لأنَّه يسوء صاحبه بسوء عواقبه ، وهو مصدر : " سَاءَهُ يَسُوءُهُ سُوءاً ومَسَاءَةً " إذا أحزنه ، و" سُؤْتُهُ ، فَسِيءَ " إذا أحزنته ، فحزن ؛ قال تعالى : {سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ} [الملك : 27] ؛ قال الشَّاعر : [السريع](3/104)
وإنْ يَكُ هَذَا الدَّهْرُ قَدْ سَاءَنِي... فَطَالَمَا قَدْ سَرِّنِي الدَّهْرُ
أَلأَمْرُ عِنْدِي فِيهِمَا وَاحِدٌ... لِذَاكَ شُكْرٌ وَلِذَا صَبْرُ
وثانيها : الفحشاء : وهو مصدر من الفحش ؛ كالبأساء من البأس ، والفحش : قبح المنظر.
قال امْرُؤ القَيْسِ : [الطويل]
وَجِيدٍ كَجِيدٍ الرِّئْمِ لَيْسَ بِفَاحِشٍ... إذَا هِيَ نَصَّتْهُ وَلاَ وَلاَ بِمُعَطَّلِ
وتوسِّع فيه ، حتَّى صار يعبر به عن كلِّ مستقبحٍ معنى كان أو عيناً.
والفَحْشَاءُ : نوعٌ من السُّوء ، كأنَّها أقبح أنواعه ، وهي : ما يستعظم ، ويستفحش من المعاصي.
وثالثها : {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} فكأنَّه أقبح الأشياء ؛ لأنَّ وصف الله تعالى بما لا ينبغي من أعظم أنواع الكبائر ، فهذه الجملة كالتفسير لقوله تعالى : {وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان}.
فدلَّت الآية الكريمة على أنَّ الشيطان يدعو إلى الصَّغائر والكبائر ، والكفر ، والجهل بالله.
وروي عن ابن عبَّاس - رضي الله عنهما - أنَّه قال : " الفَحْشَاءُ " من المعاصي : ما فيه حَدٌّ ، والسُّوء من الذُّنوب ما لا حَدَّ فيه.
وقال السُّدِّيُّ : هي الزِّنا.
وقيل : هي البخل ، {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ} من تحريم الحرث والأنعام.
وقال مُقَاتِلٌ : كلُّ ما في القرآن من ذكر الفحشاء ، فإنَّه الزِّنا ، إلاَّ قوله : {الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء} [البقرة : 368] فإنه منع الزكاة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 155 ـ 156}
فائدة بلاغية
{إنما يأمركم} تمثيلية بتشبيه حاله وحالهم في التسويل والوسوسة وفي تلقيهم ما يوسوس لهم بحال الآمِر والمأمور ويكون لفظ يأمر مستعملاً في حقيقته مفيداً مع ذلك الرمزَ إلى أنهم لا إرادة لهم ولا يملكون أمر أنفسهم وفي هذا زيادة تشنيع لحالهم وإثارة للعداوة بين الشيطان وبينهم. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ 2 صـ 104 ـ 105}(3/105)
قوله تعالى {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون}
وقوله : {وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون} يشير إلى ما اختلقه المشركون وأهلُ الضلال من رسوم العبادات ونسبة أشياء لدين الله ما أَمَر الله بها. وخصه بالعطف مع أنه بعض السوء والفحشاء لاشتماله على أكبر الكبائر وهو الشرك والافتراء على الله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 105}
وقال العلامة الشنقيطى ـ رحمه الله ـ :
قوله تعالى : {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
لم يبين هنا هذا الذي يقولونه عليه بغير علم ، ولكنه فصله في مواضع أخر فذكر أن ذلك الذي يقولونه بغير علم هو : أن الله حرم البحائر والسوائب ونحوها ، وأن له أولاداً ، وأن له شركاء ، سبحانه وتعالى عن ذلك علواً كبيراً. فصرح بأنه لم يحرم ذلك بقوله : {مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب} [المائدة : 103] ، وقوله : {وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله افترآء عَلَى الله} [الأنعام : 140] الآية ، وقوله : {قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً} [يونس : 59] الآية ، وقوله : {وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَام} [النحل : 116] ، إلى غير ذلك من الآيات. ونزه نفسه عن الشركاء المزعومة بقوله : {سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس : 18] ونحوها من الآيات ، ونزه نفسه عن الأولاد المزعومة بقوله : {وَقَالُواْ اتخذ الله وَلَداً سُبْحَانَه} [البقرة : 116] الآية ، ونحوها من الآيات فظهر من هذه الآيات تفصيل ما أجمل في اسم الموصول الذي هو ما ، من قوله : {وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ}.
أ هـ {أضواء البيان حـ 1 صـ 77}(3/106)
فصل في بيان أن الشيطان لا يأمر إلا بالقبائح.
دلَّت الآية على أنَّ الشطان لا يأمر إلا بالقبائح ؛ لأنَّ الله تعالى ذكره بكلمة " إنَّمَا " وهي للحصر.
وقد قال بعضهم : إن الشيطان قد يدعو إلى الخير ؛ لكن لغرض أن يجره منه إلى الشَّرِّ ؛ وذلك على أنواع : إمَّا أن يجرَّه من الأفضل إلى الفاضل ، ليتمكَّن من أن يجره من الفاضل الشَّرِّ ، وإمَّا أن يجرَّه من الفاضل السهل إلى الأفضل الأشقِّح ليصير ازدياد المشقَّة سبباً لحصول النُّفرة عن الطَّاعات بالكلِّيَّة.
وتناولت الآية الكريمة جمع المذاهب الفاسدة ، بل تناولت مقلِّد الحقِّ ؛ لأنَّ!ه قال مالا يعلمه ؛ فصار مستحقّاً للذَّمِّ ؛ لاندراجاه تحتهذا الذَّمِّ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 156}
سؤال : فإن قلت : كيف كان الشيطان آمراً مع قوله : {لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سلطان} [الحجر : 42] ؟
قلت : شبه تزيينه وبعثه على الشر بأمر الآمر ، كما تقول : أمرتني نفسي بكذا. وتحته رمز إلى أنكم منه بمنزلة المأمورين لطاعتكم له وقبولكم وساوسه ؛ ولذلك قال : {وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتّكُنَّ ءاذَانَ الأنعام وَلآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيّرُنَّ خَلْقَ الله} [النساء : 119] وقال الله تعالى : {إِنَّ النفس لأَمّارَةٌ بالسوء} [يوسف : 53] لما كان الإنسان يطيعها فيعطيها ما اشتهت. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 239}
فائدة
ينحصر ما يدعو الشيطان إليه ابن آدم ويوسوس له فى ست مراتب
المرتبة الأولى مرتبة الكفر والشرك ومعاداة رسوله فإذا ظفر بذلك من ابن آدم برد أنينه واستراح من تعبه معه ؛ لأنه حصل منتهى أمنيته وهذا أول ما يريده من العبد
المرتبة الثانية البدعة هى أحب إليه من الفسوق والمعاصى لأن المعصية يتاب منها والبدعة لا يتاب منها لأن صاحبها يظنها حقيقة صحيحة فلا يتوب
فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الثالثة وهى الكبائر على اختلاف أنواعها(3/107)
فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الرابعة وهى الصغائر التى إذا اجتمعت صارت كبيرة والكبائر ربما أهلكت صاحبها كما قال ـ عليه السلام ـ " إياكم ومحقرات الذنوب " فإن مثل ذلك مثل قوم نزلوا بفلاة من الأرض فجاء كل واحد يعود حطب حتى أوقدوا نارا عظيمة وطبخوا وشبعوا
فإذا عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة الخامسة وهى اشتغاله بالمباحات التى لا ثواب فيها ولا عقاب بل عقابها فوات الثواب الذى فات عليه باشتغاله بها فإن عجز عن ذلك انتقل إلى المرتبة السادسة وهى أن يشغله بالعمل المفضول عما هو أفضل منه ليزيح عنه الفضيلة ويفوته ثواب العمل الفاضل فيجره من الفاضل إلى المفضول ومن الأفضل إلى الفاضل ليتمكن من أن يجره من الفاضل إلى الشرور بما يجره من الفاضل السهل إلى الافضل الأشق كمائة ركعة بالنسبة إلى ركعتين ليصير ازدياد المشقة سببا لحصول النفرة عن الطاعة بالكلية
وإنما خلق الله إبليس ليتميز به الخبيث من الطيب فخلق الله الأنبياء لتقتدى بهم السعداء وخلق إبليس لتقتدى به الأشقياء ويظهر الفرق بينهما ، فإبليس دلال وسمسار على النار والخلاف وبضاعته الدنيا ولما عرضها على الكافرين قيل ما ثمنها قال ترك الدين فاشتروها بالدين وتركها الزاهدون واعرضوا عنها ، والراغبون فيها لم يجدوا فى قلوبهم ترك الدين ولا الدنيا فقالوا له أعطنا مذاقة منها حتى ننظر ما هى فقال إبليس : أعطونى رهنا فأعطوه سمعهم وأبصارهم ولذا يحب أرباب الدنيا استماع أخبارها ومشاهدة زينتها لأن سمعهم وبصرهم رهن عند إبليس فأعطاهم المذاقة بعد قبض الرهن فلم يسمعوا من الزهاد عيب الدنيا ولم يبصروا قبائحها بل استحسنوا زخارفها ومتاعها فلذلك قيل حبك الشىء يعمى ويصم ، فعلى العاقل أن يزهد ويرغب عن الدنيا ولا يقبل منها إلا الحلال الطيب.
قال الحسن البصرى الحلال الطيب ما لا سؤال فيه يوم القيامة وهو ما لا بد منه. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 339 ـ 340}(3/108)
قوله تعالى {وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آَبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170)}
مناسبة الآية لما قبلها
ولما نهاهم سبحانه وتعالى عن متابعة العدو ذمهم بمتابعته مع أنه عدو من غير حجة بل بمجرد التقليد للجهلة فقال عاطفاً على {ومن الناس} معجباً منهم
{وإذا قيل} أي من أي قائل كان. ولما كان الخطاب للناس عامة وكان أكثرهم مقلداً ولا سيما للآباء أعاد الضمير والمراد أكثرهم فقال : {لهم اتبعوا} أي اجتهدوا في تكليف أنفسكم الرد عن الهوى الذي نفخه فيها الشيطان ، وفي قوله له {ما أنزل الله} أي الذي له العلم الشامل والقدرة التامة انعطاف على ذلك الكتاب لا ريب فيه وما شاكله {قالوا بل} أي لا نتبع ما أنزل الله بل {نتبع} أي نجتهد في تبع {ما ألفينا} أي وجدنا ، قال الحرالي : من الإلفاء وهو وجدان الأمر على ما ألفه المتبصر فيه أو الناظر إليه {عليه آباءنا} أي على ما هم عليه من الجهل والعجز ، قال : ففيه إشعار بأن عوائد الآباء منهية حتى يشهد لها شاهد أبوة الدين ففيه التحذير في رتب ما بين حال الكفر إلى أدنى الفتنة التي شأن الناس أن يتبعوا فيها عوائد آبائهم - انتهى.
ولما أبوا إلا إلف وهاد التقليد فدنوا عن السمو إلى عداد أولي العلم بالنظر السديد أنكر عليهم سبحانه وتعالى ذلك فقال مبكتاً لهم : {أولو} أي أيتبعون أباءهم والحال أنه {كان آباؤهم لا يعقلون} ببصائر قلوبهم {شيئاً} من الأشياء المعقولة {ولا يهتدون} بأبصار عيونهم إلى شيء من الأشياء المحسوسة.
(3/109)
ولما كان التقدير : فمثلهم حينئذ كمن تبع أعمى في طريق وعر خفي في فلوات شاسعة كثيرة الخطر عطف عليه ما يرشد إلى تقديره من قوله منبهاً على أنهم صاروا بهذا كالبهائم بل أضل لأنها وإن كانت لا تعقل فهي تسمع وتبصر فتهتدي إلى منافعها.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 312ـ 313}
قال الفخر :
اعلم أنهم اختلفوا في الضمير في قوله : {لَهُمْ} على ثلاثة أقوال أحدها : أنه عائد على {مِنْ} في قوله : {مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ الله أَندَادًا} [البقرة : 165] وهم مشركو العرب ، وقد سبق ذكرهم وثانيها : يعود على {الناس} في قوله : {يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس} [البقرة : 21] فعدل عن المخاطبة إلى المغايبة على طريق الالتفات مبالغة في بيان ضلالهم ، كأنه يقول للعقلاء : انظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يقولون وثالثها : قال ابن عباس : نزلت في اليهود ، وذلك حين دعاهم رسول الله إلى الإسلام ، فقالوا : نتبع ما وجدنا عليه آباءنا ، فهم كانوا خيرا منا ، وأعلم منا ، فعلى هذا الآية مستأنفة ، والكناية في {لَهُمْ} تعود إلى غير مذكور ، إلا أن الضمير قد يعود على المعلوم ، كما يعود على المذكور.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 6}
وقال الآلوسى :
{وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَا أَنزَلَ الله} الضمير للناس والعدول عن الخطاب إلى الغيبة للتنبيه على أنهم لفرط جهلم وحمقهم ليسوا أهلاً للخطاب بل ينبغي أن يصرف عنهم إلى من يعقله ، وفيه من النداء لكل أحد من العقلاء على ضلالتهم ما ليس إذا خوطبوا بذلك. أ هـ {روح المعانى حـ 2صـ 40}(3/110)
قوله تعالى {قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا}
قال الفخر :
{أَلْفَيْنَا} بمعنى وجدنا ، بدليل قوله تعالى في آية أخرى {بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءَنَا} [لقمان : 21] ويدل عليه أيضاً قوله تعالى : {وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لدى الباب} [يوسف : 25] وقوله : {إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ ءَابَاءهُمْ ضَالّينَ} [الصافات : 69]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 6}
قوله تعالى {أَوَلَوْ كَانَ آَبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ}
الواو في {أَولَوْ} واو العطف ، دخلت عليها همزة الاستفهام المنقولة إلى معنى التوبيخ والتقريع ، وإنما جعلت همزة الاستفهام للتوبيخ ، لأنها تقتضي الإقرار بشيء يكون الإقرار به فضيحة ، كما يقتضي الاستفهام الإخبار عن المستفهم عنه.(3/111)
الثانية : تقرير هذا الجواب من وجوه أحدها : أن يقال للمقلد : هل تعترف بأن شرط جواز تقليد الإنسان أن يعلم كونه محقاً أم لا ؟ فإن اعترفت بذلك لم نعلم جواز تقليده إلا بعد أن تعرف كونه محقاً ، فكيف عرفت أنه محق ؟ وإن عرفته بتقليد آخر لزم التسلسل ، وإن عرفته بالعقل فذاك كاف ، فلا حاجة إلى التقليد ، وإن قلت : ليس من شرط جواز تقليده أن يعلم كونه محقاً ، فاذن قد جوزت تقليده ، وإن كان مبطلاً فإذن أنت على تقليدك لا تعلم أنك محق أو مبطل وثانيها : هب أن ذلك المتقدم كان عالماً بهذا الشيء إلا أنا لو قدرنا أن ذلك المتقدم ما كان عالماً بذلك الشيء قط وما اختار فيه ألبتة مذهباً ، فأنت ماذا كنت تعمل ؟ فعلى تقدير أن لا يوجد ذلك المتقدم ولا مذهبه كان لا بد من العدول إلى النظر فكذا ههنا وثالثها : أنك إذا قلدت من قبلك ، فذلك المتقدم كيف عرفته ؟ أعرفته بتقليد أم لا بتقليد ؟ فإن عرفته بتقليد لزم إما الدور وإما التسلسل ، وإن عرفته لا بتقليد بل بدليل ، فإذا أوجبت تقليد ذلك المتقدم وجب أن تطلب العلم بالدليل لا بالتقليد ، لأنك لو طلبت بالتقليد لا بالدليل ، مع أن ذلك المتقدم طلبه بالدليل لا بالتقليد كنت مخالفاً له ، فثبت أن القول بالتقليد يفضي ثبوته إلى نفيه فيكون باطلاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 7}
فصل في المراد بالآية
والمعنى : " أَيَتَّبِعُونَ آباءَهُمْ ، وإن كانوا جُهَّالاً لا يَعْقِلُون شيئاً " ، لفظه عامٌّ ، ومعناه الخصوص ؛ لأنهم كانوا لا يعقلون كثيراً من أمور الدنيا ؛ فدلَّ هذا على أنهم لا يعقلون شيئاً من الدِّين ، ولا يهتدون إلى كيفيَّة اكتسابه. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 159}(3/112)
سؤال :
قوله تعالى : "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا" وفى سورة لقمان : "وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا" فللسائل أن يسأل عن الفرق ووجه اختصاص كل من الموضعين بالواو فيه ؟
والجواب : أنه لا يقال ألفى بمعنى وجد التى فى قولهم : وجدت الضالة فتتعدى إلى واحد ولا يقال ألفى بمعنى وجد التى بمعنى علم متعديا إلى اثنتين وما يقع منتصبا بعد مفعوله فى مثل قولك : ألفيت زيدا عالما فإنما انتصابه على الحال بدليل أنه لا يوجد إلا نكرة. فوجد لفظ مشترك يقال بمعنى العلم وبمعنى العثور على الشئ والذى هو الوجدان تقول من هذا وجدت الضالة أى عثرت عليها وإذا تقرر هذا فنقول إنه قد تقدم قبل آية البقرة قوله تعالى : "يا أيها الناس كلوا مما فى الأرض حلالا طيبا ولا تتبعوا خطوات الشيطان" ، ثم قال : "إنما يأمركم بالسوء والفحشاء وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون" وخطوات الشيطان وأمره أهواء مضلة ، وذلك كله فى طرف نقيض من مقتضى العلم وحصل من هذا أن الشيطان هو الذى يأمرهم ويدعوهم إلى أن يقولوا على الله ما لا يعلمون فحصل من هذا أنه لا علم عندهم ولا توهم علم ، وإنهم اعتمدوا اتباع آبائهم فيما يأمر به الشيطان فناسب هذا قولهم"بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا" لأن ما ألفوا عليه آباءهم وجدان لا علم معه حاصلا ولا متوهما فناسب جوابهم ما عليه حالهم وما هم عليه ولما تقدم فى سورة لقمان قوله تعالى : "ومن الناس من يجادل فى الله بغير علم ولا هدى ولا كتاب منير" فحصل ذكر"علم" وإن كان منفيا ولأن جدالهم ينبئ أنهم توهموا أن ذلك علم وأنهم على شئ فقد حصل من مجادلتهم أنهم يظنون أنهم على علم كما قال تعالى : "يحسبون أنهم على شئ" ولا يجادل إلا متعلق بشبهة يظن أنها علم فناسبه قوله تعالى مخبرا عنهم : "بل نتبع ما وجدنا عليه آباءنا" لاشتراك لفظ وجد إذ يكون بمعنى العلم.
(3/113)
وجواب ثان : هو أن ألفى أكثر حروفا من وجد فناسب لفظ ألفى طول آية البقرة وناسب لفظ وجد إيجاز آية لقمان مراعاة لفظية ملحوظة فى البلاغة فحصل التناسب فى اللفظ والمعنى والله أعلم بما أراد. أ هـ ملاك التأويل صـ 75}(3/114)
سؤال :
قوله تعالى : {أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ}. هذه الآية الكريمة تدل بظاهرها على أن الكفار لا عقول لهم أصلا لأن قوله شيئا نكرة في سياق النفي فهي تدل على العموم وقد جاءت آيات أخر تدل على أن الكفار لهم عقول يعقلون بها في الدنيا كقوله تعالى : {وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ}. والجواب أنهم يعقلون أمور الدنيا دون أمور الآخرة كما بينه تعالى بقوله : {وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ}.أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 31}(3/115)
سؤال : لم عبر هنا بقوله {أو لو كان آباؤهم لا يعقلون شيئا} وفي المائدة {لا يعلمون}
الجواب : لأن العلم أبلغ درجة من العقل ولهذا جاز وصف الله به ولم يجز وصفه بالعقل فكانت دعواهم في المائدة أبلغ لقولهم {حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا} فادعوا النهاية بلفظ حسبنا فنفى ذلك بالعلم وهو النهاية وقال في البقرة {بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا} ولم تكن النهاية فنفى بما هو دون العلم لتكون كل دعوى منفية بما يلائمها والله أعلم. أ هـ {أسرار التكرار صـ 38}(3/116)
بحث قيم فى {التقليد}
تعلّق قوم بهذه الآية في ذمّ التقليد لذمّ الله تعالى الكفارَ باتباعهم لآبائهم في الباطل ، واقتدائهم بهم في الكفر والمعصية. وهذا في الباطل صحيح ، أما التقليد في الحق فأصل من أصول الدِّين ، وعصْمةٌ من عِصم المسلمين يلجأ إليها الجاهل المقصِّر عن دَرْك النظر.
واختلف العلماء في جوازه في مسائل الأصول على ما يأتي ؛ وأما جوازه في مسائل الفروع فصحيح.
الرابعة : التقليد عند العلماء حقيقته قبول قول بلا حجة ؛ وعلى هذا فَمَن قَبِل قول النبيّ ـ صلى الله عليه وسلم ـ من غير نظر في معجزته يكون مُقَلِّداً ؛ وأمّا من نظر فيها فلا يكون مُقَلِّداً. وقيل : هو اعتقاد صحة فُتْيَا مَن لا يعلم صحة قوله. وهو في اللغة مأخوذ من قِلادة البعير ؛ فإن العرب تقول : قَلَّدت البعير إذا جعلت في عنقه حبلاً يُقاد به ؛ فكأن المقلِّد يجعل أمره كله لمن يقوده حيث شاء ؛ وكذلك قال شاعرهم :
وقلِّدوا أمركم لله دَرّكُم... ثَبْتَ الجَنان بأمر الحرب مضطّلعَا
الخامسة : التقليد ليس طريقاً للعلم ولا مُوصّلا له ، لا في الأصول ولا في الفروع ؛ وهو قول جمهور العقلاء والعلماء ؛ خلافاً لما يحكى عن جُهّال الحشوية والثّعلبية من أنه طريق إلى معرفة الحق ، وأن ذلك هو الواجب ، وأن النظر والبحث حرام ؛ والاحتجاج عليهم في كتب الأصول.(3/117)
السادسة : فرض العامي الذي لا يشتغل باستنباط الأحكام من أصولها لعدم أهليته فيما لا يعلمه من أمر دينه ويحتاج إليه أن يقصد أعلم مَن في زمانه وبلده فيسأله عن نازلته فيمتثل فيها فتواه ؛ لقوله تعالى : {فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ} [النحل : 43 ، الأنبياء : 7] ، وعليه الاجتهاد في أعلم أهل وقته بالبحث عنه ، حتى يقع عليه الاتفاق من الأكثر من الناس. وعلى العالم أيضاً فرض أن يقلد عالماً مثله في نازلة خفي عليه فيها وجه الدليل والنظر ، وأراد أن يجدّد الفكر فيها والنظر حتى يقف على المطلوب ، فضاق الوقت عن ذلك ، وخاف على العبادة أن تفوت ، أو على الحكم أن يذهب ، سواء كان ذلك المجتهد الآخر صحابياً أو غيره ؛ وإليه ذهب القاضي أبو بكر وجماعة من المحققين.
السابعة : قال ابن عطية : أجمعت الأمة على إبطال التقليد في العقائد. وذكر فيه غيره خلافاً كالقاضي أبي بكر بن العربي وأبي عمرو عثمان بن عيسى بن درباس الشافعي. قال ابن درباس في كتاب "الانتصار" له : وقال بعض الناس يجوز التقليد في أمر التوحيد ؛ وهو خطأ لقوله تعالى : {إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ} [الزخرف ، 22]. فذمّهم بتقليدهم آباءهم وتركهم اتباع الرسل ؛ كصنيع أهل الأهواء في تقليدهم كبراءهم وتركهم اتباع محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دينه ؛ ولأنه فرض على كل مكلّف تعلُّم أمر التوحيد والقطع به ؛ وذلك لا يحصل إلا من جهة الكتاب والسُّنة ، كما بيّناه في آية التوحيد ، والله يهدي من يريد.
(3/118)
قال ابن درباس : وقد أكثر أهل الزَّيْغ القولَ على مَن تمسّك بالكتاب والسُّنة أنهم مقلِّدون. وهذا خطأ منهم ، بل هو بهم أَلْيَق وبمذاهبهم أَخْلَق ؛ إذ قبلوا قول ساداتهم وكبرائهم فيما خالفوا فيه كتاب الله وسُنّة رسوله وإجماع الصحابة رضي الله عنهم ؛ فكانوا داخلين فيمن ذَمّهم الله بقوله : {رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا} [الأحزاب : 67] إلى قوله : {كَبِيراً} وقوله : {إِنَّا وَجَدْنَا آباءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُون} [الزخرف : 23]. ثم قال لنبيّه : {قُلْ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ} [الزخرف : 24] ثم قال لنبيّه ـ عليه السلام ـ {فانتقمنا مِنْهُمْ} الآية. فبيّن تعالى أن الهُدَى فيما جاءت به رسله عليهم السلام. وليس قول أهل الأثر في عقائدهم : إنا وجدنا أئمتنا وآباءنا والناس على الأخذ بالكتاب والسُّنة وإجماع السلف الصالح من الأمة ، من قولهم : إنا وجدنا آباءنا وأطعنا سادتنا وكبراءنا بسبيل ؛ لأن هؤلاء نَسبوا ذلك إلى التنزيل وإلى متابعة الرسول ؛ وأولئك نَسبوا إفْكَهم إلى أهل الأباطيل ، فازدادوا بذلك في التضليل ؛ ألا ترى أن الله سبحانه أثنى على يوسف ـ عليه السلام ـ في القرآن حيث قال : {إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بالله وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ ذلك مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس}
(3/119)
[يوسف : 38]. فلما كان آباؤه عليه وعليهم السلام أنبياءَ متّبِعين للوحي وهو الدين الخالص الذي ارتضاه الله ، كان اتباعه آباءه من صفات المدح. ولم يجىء فيما جاءوا به ذكر الأعراض وتعلّقها بالجواهر وانقلابها فيها ؛ فدلّ على أن لا هُدَى فيها ولا رشد في واضعيها.
قال ابن الحصّار : وإنما ظهر التلفّظ بها في زمن المأمون بعد المائتين لما تُرجمت كتب الأوائل وظهر فيها اختلافهم في قدم العالَم وحدوثه. واختلافهم في الجوهر وثبوته ، والعَرَض وماهيّته ؛ فسارع المبتدعون ومَن في قلبه زَيغ إلى حفظ تلك الاصطلاحات ، وقصدوا بها الإغراب على أهل السُّنة ، وإدخال الشُّبه على الضعفاء من أهل المِلّة. فلم يزل الأمر كذلك إلى أن ظهرت البِدْعة ، وصارت للمبتدِعة شِيعة ، والتبس الأمر على السلطان ؛ حتى قال الأمير بخلق القرآن ، وجبر الناس عليه ، وضرب أحمد بن حنبل على ذلك.
فانتدب رجال من أهل السُّنة كالشيخ أبي الحسن الأَشْعَرِي وعبد اللَّه بن كُلاَّب وابن مجاهد والمحاسبي وأضرابهم ؛ فخاضوا مع المبتدِعة في اصطلاحاتهم ، ثم قاتلوهم وقتلوهم بسلاحهم. وكان مَن دَرجَ من المسلمين من هذه الأمة متمسّكين بالكتاب والسُّنة ، معرضين عن شُبَه الملحدين ، لم ينظروا في الجوهر والعَرض ؛ على ذلك كان السَّلف.
قلت : ومن نظر الآن في اصطلاح المتكلمين حتى يناضل بذلك عن الدِّين فمنزلته قريبة من النبّيين. فأمّا مَن يهجن من غلاة المتكلمين طريق منَ أخذ بالأثر من المؤمنين ، ويحض على درس كتب الكلام ، وأنه لا يعرف الحق إلا من جهتها بتلك الاصطلاحات فصاروا مذمومين لنقضهم طريق المتقدّمين من الأئمة الماضين ؛ والله أعلم. وأما المخاصمة والجدال بالدليل والبرهان فذلك بيّن في القرآن.
أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 211 ـ 214}(3/120)
قوله تعالى {وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)}
مناسبة الآية لما قبلها
اعلم أنه تعالى لما حكى عن الكفار أنهم عند الدعاء إلى اتباع ما أنزل الله تركوا النظر والتدبر ، وأخلدوا إلى التقليد ، وقالو : {بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ ءَابَاءنَا} [البقرة : 170] ضرب لهم هذا المثل تنبيهاً للسامعين لهم إنهم إنما وقعوا فيما وقعوا فيه بسبب ترك الإصغاء ، وقلة الإهتمام بالدين ، فصيرهم من هذا الوجه بمنزل الأنعام ، ومثل هذا المثل يزيد السامع معرفة بأحوال الكفار ، ويحقر إلى الكافر نفسه إذا سمع ذلك ، فيكون كسراً لقلبه ، وتضييقاً لصدره ، حيث صيره كالبهيمة فيكون في ذلك نهاية الزجر والردع لمن يسمعه عن أن يسلك مثل طريقه في التقليد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5صـ 8}(3/121)
وقال العلامة الشيخ الطاهر بن عاشور :
لما ذكر تلقيَهم الدعوة إلى اتباع الدين بالإعراض إلى أن بلغ قوله : {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا} [البقرة : 170] ، وذكر فساد عقيدتهم إلى أن بلغ قوله : {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً} [البقرة : 165] الآية ، فالمراد بالذين كفروا المضروب لهم المثل هنا هو عين المراد من {الناس} في قوله : {ومن الناس من يتخذ من دون الله أنداداً} وعين المراد من {الذين ظلموا} في قوله : {ولو يرى الذين ظلموا} [البقرة : 165] ، وعين الناس في قوله : {يأيها الناس كلوا مما في الأرض حلالاً طيباً} [البقرة : 168] ، وعين المراد من ضمير الغائب في قوله : {وإذا قيل لهم} [البقرة : 170] ، عُقّب ذلك كله بتمثيللِ فظيع حالهم إبلاغاً في البيان واستحضاراً لهم بالمثال ، وفائدة التمثيل تقدمت عند قوله تعالى : {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} [البقرة : 17]. وإنما عطفه بالواو هنا ولم يفصله كما فصل قوله : {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} لأنه أريد هنا جعل هذه صفة مستقلة لهم في تلقي دعوة الإسلام ولو لم يعطفه لما صح ذلك. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ 2 صـ 110 ـ 111}(3/122)
قال القرطبى :
شبّه تعالى واعظ الكفار وداعيهم وهو محمد ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالراعي الذي يَنْعِق بالغنم والإبل فلا تسمع إلا دعاءه ونداءه ، ولا تفهم ما يقول : هكذا فسّره ابن عباس ومجاهد وعِكرمة والسّدي والزجاج والفَرّاء وسيبويه ؛ وهذه نهاية الإيجاز. قال سيبويه : لم يُشبَّهوا بالناعق إنما شُبّهوا بالمنعوق به. والمعنى : ومثَلك يا محمد ومَثَل الذين كفروا كَمَثل الناعق والمنعوق به من البهائم التي لا تفهم ؛ فحذف لدلالة المعنى. وقال ابن زيد : المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم الآلهة الجماد كمثل الصائح في جَوْف الليل فيجيبه الصَّدَى ؛ فهو يصيح بما لا يسمع ، ويجيبه ما لا حقيقة فيه ولا منتفع. وقال قُطْرب : المعنى مثل الذين كفروا في دعائهم ما لا يفهم ، يعني الأصنام ، كمثل الراعي إذا نَعَقَ بغنمه وهو لا يدري أين هي. قال الطبري : المراد مثل الكافرين في دعائهم آلهتهم كمثل الذي ينعق بشيء بعيد فهو لا يسمع من أجل البعد ؛ فليس للناعق من ذلك إلا النّداء الذي يُتعبه ويُنْصِبه. ففي هذه التأويلات الثلاثة يشبّه الكفار بالناعق الصائح ، والأصنام بالمنعوق به. والنّعيق : زجر الغنم والصياح بها ؛ يقال : نَعَق الراعي بغنمه يَنْعِق نَعِيقاً ونُعاقاً ونَعَقاناً ؛ أي صاح بها وزجرها. قال الأخطل :
انْعِق بضأنك يا جريرُ فإنما... مَنّتك نفسك في الخلاء ضلالاَ
قال القُتَبِيّ : لم يكن جرير راعي ضأن ، وإنما أراد أن بني كُليب يُعَيَّرون برعي الضأن ، وجرير منهم ؛ فهو في جهلهم. والعرب تضرب المثل براعي الغنم في الجهل ويقولون : " أجهل من راعي ضأن". قال القتبِيّ : ومن ذهب إلى هذا في معنى الآية كان مذهباً ، غير أنه لم يذهب إليه أحد من العلماء فيما نعلم.
والنداء للبعيد ، والدعاء للقريب ؛ ولذلك قيل للأذان بالصلاة نداء لأنه للأباعد.
أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 214 ـ 215}(3/123)
قال الفخر :
للعلماء من أهل التأويل في هذه الآية طريقان أحدهما : تصحيح المعنى بالإضمار في الآية والثاني : إجراء الآية على ظاهرها من غير إضمار ، أما الذين أضمروا فذكروا وجوها الأول : وهو قول الأخفش والزجاج وابن قتيبة ، كأنه قال : ومثل من يدعو الذين كفروا إلى الحق كمثل الذي ينعق ، فصار الناعق الذي هو الراعي بمنزل الداعي إلى الحق ، وهو الرسول عليه الصلاة والسلام وسائر الدعاة إلى الحق وصار الكفار بمنزلة الغنم المنعوق بها ووجه التشبيه أن البهيمة تسمع الصوت ولا تفهم المراد ، وهؤلاء الكفار كانوا يسمعون صوت الرسول وألفاظه ، وما كانوا ينتفعون بها وبمعانيها لا جرم حصل وجه التشبيه الثاني : مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم من الأوثان كمثل الناعق في دعائه ما لا يسمع كالغنم ، وما يجرى مجراه من الكلام والبهائم لا تفهم : فشبه الأصنام في أنها لا تفهم بهذه البهائم ، فإذا كان لا شك أن ههنا المحذوف هو المدعو ، وفي القول الذي قبله المحذوف هو الداعي ، وفيه سؤال ، وهو أن قوله : {إِلاَّ دُعَاء وَنِدَاء} لا يساعد عليه لأن الأصنام لا تسمع شيئاً الثالث : قال ابن زيد : مثل الذين كفروا في دعائهم آلهتهم كمثل الناعق في دعائه عند الجبل ، فإنه لا يسمع إلا صدى صوته فإذا قال : يا زيد يسمع من الصدى : يا زيد.
فكذلك هؤلاء الكفار إذا دعو هذه الأوثان لا يسمعون إلا ما تلفظوا به من الدعاء والنداء.
الطريق الثاني : في الآية وهو إجراؤها على ظاهرها من غير إضمار وفيه وجهان أحدهما : أن يقول : مثل الذين كفروا في قلة عقلهم في عبادتهم لهذه الأوثان ، كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم فكما أنه يقضي على ذلك الراعي بقلة العقل ، فكذا ههنا الثاني : مثل الذين كفروا في اتباعهم آباءهم وتقليدهم لهم ، كمثل الراعي إذا تكلم مع البهائم فكما أن الكلام مع البهائم عبث عديم الفائد ، فكذا التقليد عبث عديم الفائدة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 8}(3/124)
وقال فى التحرير والتنوير :
والمثل هنا لَمَّا أضيف إلى {الذين كفروا} كان ظاهراً في تشبيه حالهم عند سماع دعوة النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إياهم إلى الإسلام بحال الأنعام عند سماع دعوة من ينعق بها في أنهم لا يفهمون إلاّ أن النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يدعوهم إلى متابعته من غير تبصر في دلائل صدقه وصحة دينه ، فكلٌّ من الحالة المشبهة والحالة المشبه بها يشتمل على أشياء : داعٍ ومدعو ودعوة ، وفَهْم وإعراض وتصميم ، وكل من هاته الأشياء التي هي أجزاء التشبيه المركب صالح لأن يكون مشبهاً بجزء من أجزاء المشبه به ، وهذا من أبدع التمثيل وقد أوجزتْه الآية إيجازاً بديعاً ، والمقصود ابتداءً هو تشبيه حال الكفار لا محالة ، ويستتبع ذلك تشبيه حال النبي وحال دعوته ، وللكفار هنا حالتان : إحداهما حالة الإعراض عن داعي الإسلام ، والثانية حالة الإقبال على عبادة الأصنام ، وقد تضمنت الحالتين الآيةُ السابقة وهي قوله : {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه أباءنا} [البقرة : 170] وأعظمه عبادة الأصنام ، فجاء هذا المَثَل بياناً لما طُوي في الآية السابقة.
(3/125)
فإن قلت : مقتضى الظاهر أن يقال : ومثل الذين كفروا كمثل غَنَم الذي ينعق ؛ لأن الكفار هم المشبهون والذي ينعق يُشبههُ داعي الكفار فلماذا عدل عن ذلك ؟ وهل هذا الأسلوب يدل على أن المقصود تشبيه النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ في دعائه لهم بالذي ينعق ؟ قلت : كِلاَ الأمرين منتف ؛ فإن قوله : {ومثل الذين} ، صريح في أنه تشبيه هيئة بهيئة كما تقدم في قوله تعالى : {مثلهم كمثل الذي استوقد} [البقرة : 17] ، وإذا كان كذلك كانت أجزاء المركبين غير منظور إليها استقلالاً وأيَّها ذكرتَ في جانب المركب المشبَّه والمربه المشبه به أجزأك ، وإنما كان الغالب أن يبدءَوا الجملة الدالة على المركب المشبه به بما يقابل المذكور في المركب المشبه نحو : {مثلهم كمثل الذي استوقد ناراً} وقد لا يلتزمون ذلك ، فقد قال الله تعالى : {مثل ما ينفقون في هذه الحياة الدنيا كمثل ريح فيها صر} [آل عمران : 117] الآية. والذي يقابل {ما ينفقون} في جانب المشبه به هو قوله : {حرث قوم} [آل عمران : 117] وقال : {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل الله كمثل حبة أنبتت سبع سنابل} [البقرة : 261] وإنما الذي يقابل {الذين ينفقون} في جانب المشبه به هو زارع الحبة وهو غير مذكور في اللفظ أصلاً وقال تعالى : {كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر فمثله كمثل صفوان عليه تراب} [البقرة : 264] الآية ، والذي يقابل الصفوانَ في جانب المشبه هو المال المنفَق لا الذي ينفق ، وفي الحديث الصحيح " مَثَل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استأجر أجراء " الخ ، والذي يقابل الرجل الذي استأجر في جانب المشبه هو الله تعالى في ثوابه للمسلمين وغيرهم ممن آمن قبلنا ، وهو غير مذكور في جانب المشبه أصلاً ، وهو استعمال كثير جداً ، وعليه فالتقديرات الواقعة للمفسرين هنا تقادير لبيان المعنى ، والآية تحتمل أن يكون المراد تشبيه حال المشركين في إعراضهم(3/126)
عن الإسلام بحال الذي ينعق بالغنم ، أو تشبيه حال المشركين في إقبَالهم على الأصنام بحال الداعي للغنم ، وأيّاً ما كان فالغنم تسمع صوت الدعاء والنداء ولا تفهم ما يتكلم به الناعق ، والمشركون لم يهتدوا بالأدلة التي جاء بها النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيكون قوله : {إلا دعاء ونداء} من تكملة أوصاف بعض أجزاء المركب التمثيلي في جانب المشبه به ، وذلك صالح لأن يكون مجرد إتمام للتشبيه إن كان المراد تشبيه المشركين بقلة الإدراك ، ولأَنْ يكون احتراساً في التشبيه إن كان المراد تشبيه الأصنام حين يدعوها المشركون بالغنم حين ينعق بها رُعاتها فهي لا تسمع إلاّ دُعاء ونداء ، ومعلوم أن الأصنام لا تسمع لا دعاء ولا نداء فيكون حينئذٍ مثل قوله تعالى : {فهي كالحجارة أو أشد قسوة} [البقرة : 74] ثم قال : {وإن من الحجارة لما يتفجر منه الأنهار} [البقرة : 74].
وقد جوز المفسرون أن يكون التمثيل على إحدى الطريقتين ، وعندي أن الجمع بينهما ممكن ولعله من مراد الله تعالى ؛ فقد قدمنا أن التشبيه التمثيلي يحتمل كل ما حَمَّلْتُه من الهيئة كلها ، وهيئةُ المشركين في تلقي الدعوة مشتملة على إعراض عنها وإقبال على دينهم كما هو مدلول قوله تعالى : {وإذا قيل لهم اتبعوا ما أنزل الله قالوا بل نتبع} [البقرة : 170] الآية ، فهذه الحالة كلها تشبه حال الناعق بما لا يَسمع ، فالنبي يدعوهم كناعققٍ بغنم لا تفقه دليلاً ، وهم يدعون أصنامهم كناعق بغنم لا تفقه شيئاً.
ومن بلاغة القرآن صلوحية آياته لمعان كثيرة يفرضها السامع.أ هـ
{التحرير والتنوير حـ 2 صـ 111 ـ 112}(3/127)
كلام نفيس للبقاعى
{ومثل} وبين الوصف الذي حملهم على هذا الجهل بقوله : {الذين كفروا} أي ستروا ما يعلمون من عظمة الله سبحانه وتعالى وقدرته وعلمه وحكمته بما عندهم من الهوى في أنهم لا يسمعون من الدعاء إلا جرس النغمة ودوي الصوت من غير إلقاء أذهان ولا استبصار {كمثل} قال الحرالي : المثل ما يتحصل في باطن الإدراك من حقائق الأشياء المحسوسة فيكون ألطف من الشيء المحسوس فيقع لذلك جالياً لمعنى مثل المعنى المعقول ويكون الأظهر منهما مثلاً للأخفى ، فلذلك يأتي استجلاء المثل بالمثل ، ليكون فيه تلطيف للظاهر المحسوس وتنزيل للغائب المعلوم ؛ ففي هذه الآية يقع الاستجلاء بين المثلين لا بين الممثولين لتقارب المثلين يعني وهو وجه الشبه وتباعد الممثولين ، وفي ذكر هذين المثلين تقابل يفهم مثلين آخرين ، فاقتضى ذلك تمثيلين في مثل واحد كأن وفاء اللفظ الذي أفهمه هذا الإيجاز مثل الذين كفروا ومثل راعيهم كمثل الراعي ومثل ما يرعى من البهائم وهو من أعلى خطاب فصحاء العرب ، ومن لا يصل فهمه إلى جمع المثلين يقتصر على تأويله بمثل واحد فيقدر في الكلام : ومثل داعي الذين كفروا {كمثل الذي ينعق} أي يصيح ، وذلك لأن التأويل يحمل على الإضمار والتقدير ، والفهم يمنع منه ويوجب فهم إيراد القرآن على حده ووجهه ؛ وقال : {بما} أي بسبب شيء من البهائم التي {لا} عقل لها فهو {يسمع إلا دعاء} أي من الناطق فيما يدعي إليه من قوام غذائه ونسله {ونداء} فيما ساق إليه بمحل دعائه من حيث إن النداء يشعر بالبعد والدعاء يشعر بالشروع في القصد - انتهى.(3/128)
فالكافرون في كونهم لا يرجعون عن غيهم لما يسمعون من الأدلة وهم أولو عقل وسمع وبصر كالبهم التي تسمع وتبصر ولكنها لكونها لا تعقل لا ترجع بالكلام لأنها لا تسمع إلا ظاهر الصوت ولا تفهم ما تحته بل بالحجر والعصا ، فإن الراعي إذا أراد رجوعها عن ناحية صاح بها ورمى بحجر إلى ما أمامها فترجع ، فهي محل مثلهم الذي هو عدم الإدراك ، والبهم في كونها لا ترجع بالنداء بل بقارع كالأصم الأبكم الأعمى الذي لا يرجع إلا بقارع يصكه في وجهه فينكص على عقبه فهو محل مثلها ، وداعيهم في كونه يتكلم فلا يؤثر كلامه مع المبالغة فيه كراعي البهم فهو موضع مثله ، وراعي البهم من حيث إن بهمه لا ترجع إلا بضربة بالحجر أو غيره كالسوط الذي يقمع به الأصم أو كضارب الأصم المذكور فهو محل مثله ؛ فلذلك كانت نتيجة التمثيل قوله : {صم} أي لا يسمعون {بكم} أي لا ينطقون {عمي} أي لا يبصرون ، وقد علم بهذا أن الآية من الاحتباك حذف من الأول مثل الداعي لدلالة الناعق عليه ومن الثاني المنعوق به لدلالة المدعوين عليه. ولما كان موجود إدراك العقل هو حقائق المحسوسات وقد نفى عنهم الحس المدرك للمحسوسات ترتب عليه قوله {فهم} بالفاء ربطاً وتعقيباً
وتسبيباً {لا يعقلون} لأنهم لا ينتفعون بعقولهم كما أن هذا الأصم كذلك ، ونفاه بلا النافية للممتنع وصيغة المضارع المنبئة عن الدوام - قاله الحرالي.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 313 ـ 314}
قوله تعالى {كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً}
والنعق نداء الغنم وفعله كضربَ ومنَع ولم يُقرأ إلاّ بكسر العين فلعل وزن ضرب فيه أفصح وإن كان وزن منَع أقيس ، وقد أخذ الأخطل معنى هذه الآية في قوله يصف جريراً بأن لا طائل في هجائه الأخطلَ
: ... فانْعِقْ بضأْنك يا جرير فإنما(3/129)
منَّتْك نفسُك في الظلام ضلالا... والدعاء والنداء قيل بمعنى واحد ، فهو تأكيد ولا يصح ، وقيل الدعاء للقريب والنداء للبعيد ، وقيل الدعاء ما يُسمع والنداء قد يسمع وقد لا يسمع ولا يصح.
والظاهر أن المراد بهما نوعان من الأصوات التي تفهمها الغنم ، فالدعاء ما يخاطب به الغنم من الأصوات الدالة على الزجر وهي أسماء الأصوات ، والنداء رفع الصوت عليها لتجتمع إلى رعاتها ، ولا يجوز أن يكونا بمعنى واحد مع وجود العطف ؛ لأن التوكيد اللفظي لا يعطف فإن حقيقة النداء رفع الصوت لإسماع الكلام ، أو المراد به هنا نداء الرِّعاء بعضهم بعضاً للتعاون على ذود الغنم. أ هـ
{التحرير والتنوير حـ 2 صـ 112 ـ 113}
كلام جامع فى الآية الكريمة
قال ابن عادل ـ رحمه الله ـ :
وقد اختلف النَّاس في هذه الآية اختلافاً كثيراً ، ولا سبيل إلى معرفة الإعراب إلاَّ بعد معرفتة المعنى المذكور في الآية الكريمة ، وقد اختلفوا في ذلك :
فمنهم من قال : معناها : أنَّ المثل مضروبٌ بتشبيه الكافر بالنَّاعق ، ومنهم من قال : هو مضروبٌ بتَشْبيه الكافر بالمَنْعوق به ، ومنهم مَنْ قال : هو مضْروبٌ بتشبيه داعي الكفر بالنَّاعق ، ومنهم مَنْ قال : هو مضروب بتشبيه الدَّاعي والكافر بالنَّاعق ، والمنعوق به ، فهذه أربعة أقوالٍ.
فعلى القول الأول : يكون التقدير : " وَمَثَلُ الَّذينَ كَفَرُوا في قِلَّة فَهْمِهِمْ ، كَمَثَلِ الرُّعَاة يُكَلِّمُون البُهْمَ والبُهْمُ لا تَعْقِلُ شيئاً ".
وقيل : يكون التقدير : " وَمَثَلُ الَّذين كَفَروا في دُعائهم آلِهَتَهُمْ التي لا تَفْقَهُ دُعَاءَهُم ، كَمَثَلِ النَّاعِقِ بِغَنَمِهِ ؛ لا ينتفع من نَعِيقِهِ بشَيءٍ غير أنَّه في عناءٍ " ؛ وكذلك الكافرُ ليس له من دعائه آلهته إلاَّ العناء ؛ كما قال تعالى : {إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ} [فاطر : 14].(3/130)
قال الزَّمَخْشَرِيُّ لمَّا ذكر هذا القول : " إلاَّ أنَّ قوله : " إلاَّ دُعاءً وَنِدَاءً " ، لا يساعد عليه ؛ لأنَّ الأصنام لا تَسْمَعُ شيئاً ".
قال أبُو حَيَّان - رحمه الله- : " ولحظ الزمخشريُّ في هذا القول تمام التشبيه من كُلِّ جهة ، فكما أنَّ المنعوق به لا يَسْمَعُ إلاَّ دعاءً ونداءً ، فكذلك مدعُوُّ الكافِرِ مِنَ الصَّنم ، والصَّنَم لا يَسْمَعُ ، فضَعُف عنده هذا القوْلُ " قال : " ونحْنُ نقولُ : التشْبيهُ وقَعَ في مُطْلَق الدُّعاء في خُصوصيَّات المدعُوِّ ، فتَشْبِيهُ الكَافِر في دعائِهِ الصَّنَمَ بِالنَّاعِقِ بالبهيمة ، لا في خصوصيَّات المنعُوق به " ، وقال ابنُ زَيْدٍ في هذا القَوْلِ - أعني : قولَ مَنْ قال : التقديرُ : ومَثَلُ الذين كَفَرُوا في دُعَائِهِمْ آلهتَهُم - : إنَّ الناعق هنا ليس المراد به الناعق بالبهائم ، وإنَّما المراد به الصائح في جوف الجبل ، فيجيبه الصَّدى ، فالمعنى : بما لا يسمع منه الناعقُ إلاَّ دعاء نفسه ، ونداءها ، فعلى هذا القول : يكون فاعل " يَسْمَعُ " ضميراً عائداً على " الَّذِي يَنْعِقُ " ويكون العائد على " مَا " الرابط للصِّلة بالموصُول محذوفاً ؛ لفَهْم المعنى ، تقديره : " بِمَا لاَ يَسْمَعُ مِنْهُ " وليس فيه شرط جوازِ الحَذْف ؛ فإنه جُرَّ بحرف غير ما جُرَّ به لموصول ، وأيضاً : فقد اختلف متعلَّقاهما إلاَّ أنه قد ورد ذلك في كلامهم ، وأمَّا على القولين الأوَّلين ، فيكون فاعل " يَسْمَعُ " ضميراً يعود على " ما " الموصولة ، وهو المنعوقُ به.
وقيل : المراد بـ " الَّذِين كَفَرُوا " المتبُوعُون ، لا التابعون ، المعنى : " مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في دعائِهِمْ اتباعَهُمْ ، وكوْنِ أتباعِهِمْ لا يَحْصُل لهم منهم إلاَّ الخَيْبَة ، كمثل النَّاعق بالغَنَم ، فعلى هذه الأقوال كلِّها : يكون " مَثَل " مبتدأً و" كَمَثَلِ " خبره ، وليس في الكلام حذفٌ إلاَّ جهة التَّشبيه.(3/131)
وعلى القول الثاني من الأقوال الأربعة المتقدِّمة : فقيل : معناه : " وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في دُعَائِهِمْ إلى الله تعالى ، وعَدَمِ سماعِهِمْ إِيَّاه ، كَمَثَلِ بَهَائم الَّذِي يَنْعِقُ " فهو على حذفِ قَيْدٍ في الأوَّل ، وحَذْف مضافٍ في الثاني.
وقيل : التقدير : " ومَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا في عَدَم فَهْمهم عَنِ اللَّهِ ورسُولِهِ ، كَمَثَلِ المنْعُوق بِهِ منَ البَهَائم الَّتي لا تَفْقَهُ من الأَمْر والنَّهْي غَيْر الصَّوْت " فيرادُ بالذي يَنْعِقُ : الذي يُنْعَقُ بِهِ ، ويكون هذا من القَلْبِ ، وقال قائلٌ : " هذا كما تقولون : " دَخَلَ الخَاتَمُ في يَدِي ، والخُفُّ في رِجْلِي " وتقولون : " فُلاَنٌ يَخَافُكَ ؛ كَخَوْفِ الأَسَدِ " ، أي : كَخَوْفِهِ الأَسَدَ ، وقال تعالى : {مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة} [القصص : 76] وإنَّما العصبة تنوء بالمفاتح ". وإلى هذا ذهب الفرَّاء ، وأبو عُبَيْدَة ، وجماعةٌ إلاَّ أنَّ القلب لا يقع على الصَّحيح إلاَّ في ضرورة أو ندورٍ.
وأمَّا على القول الثَّالث ، وهو قولُ الأخفش ، والزَّجَّاج ، وابْنِ قُتَيْبَة ، فتقديره : " ومَثَلُ داعي الَّذين كَمَثَلِ النَّاعق بغَنَمه ؛ في كَوْن الكافِرِ لا يَفْهَمُ ممَّا يُخَاطِبُ به داعيَهُ إلاَّ دَوِيَّ الصَّوْت ، دون إلقاءِ فكرٍ وذهنٍ ؛ كما أنَّ البيهمةَ كذلك ، فالكلامُ على حذف مضافٍ من الأوَّل.أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 163 ـ 164}
فصل في المراد بـ " مَا لاَ يَسْمَعُ "
قال الزَّمَخْشَرِيُّ : ويجوزُ أن يرادَ بـ " مَا لاَ يَسْمَعُ " الأصمُّ الأصْلَج الذي لا يَسْمَعُ من كلام الرَّافِعِ صَوْتَهُ بِكَلاَمِهِ إلاَّ النِّداءَ والصَّوتَ ، لا غير ؛ من غير فهم للحرف ، وهذا جنوح إلى جواز إطلاق " ما " على العقلاء ، أو لما تنزَّل هذا منزلة من لا يسمع من البهائم ، أوقع عليه " مَا ".(3/132)
وأما على القول الرابع - وهو اختيار سيبويه في هذه الآية - : فتقديره عنده : " مَثَلُكَ يَا مُحَمَّدُ ، ومَثَلُ الذين كَفَرُوا ، كَمَثَل النَّاعق والمنْعُوقِ به " ، واختلف النَّاس في فهم كلام سيبويه ، فقائل : هو تفسير معنى ، وقيل : تفسير إعرابٍ ، فيكون في الكلام حذفان : حذف من الأوَّل ، وهو حذف " دَاعِيهم " ، وقد أثبت نظيره في الثاني ، وحذفٌ من الثَّاني ، وهو حذف المنعوق ، وقد أثبت نظيره في الأول ؛ فشبَّه داعِيَ الكُفَّار براعي الغنم في مخاطبته من لا يفهم عنه ، وشبَّه الكفَّار بالغنم في كونهم لا يسمعون مما دعوا إليه ، إلاَّ أصواتاً لا يعرفون ما وراءها ، وفي هذا الوجه حذف كثير ؛ إذ فيه حذف معطوفين ؛ إذ التقدير الصناعيُّ : " وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا ودَاعِيهِمْ كمثل الذي يَنْعِقُ بالمَنْعُوقِ به ".
وقد ذهب إليه جماعةٌ ، منهم : أبو بكر بن طاهر ، وابن خروفٍ ، والشَّلوبين ؛ قالوا : العرب تستحسن هذا ، وهو من بديع كلامها ؛ ومثله قوله : [{وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء} [النمل : 12]] تقديره : " وأَدْخِل يَدَكَ في جَيْبِكَ ، تدْخُلْ ، وأَخْرِجْها تَخْرُجْ " ؛ فحذف " تَدْخُل " ؛ لدلالة " تَخْرُج " وحَذَف " وأَخْرجْهَا " ؛ لدلالة " وأَدْخِلْ " ، قالوا : ومثله قوله :
وَإِنِّي لَتَعْرُونِي لِذِكْرَاكِ فَتْرَةٌ... كَمَا انْتَفَضَ العُصْفُورُ بَلَّلَهُ القَطْرُ
لم يرد أن يشبِّه فترته بانتفاض العصفور حين بلَّله القطر ؛ لأنَّمها ضدَّان ؛ إذ هما حركةٌ وسكونٌ ، ولكنَّ تقديره : أنِّي إذا ذكرته ، عراني انتفاضٌ ، ثمَّ أفتر ؛ كما أن العصفور إذا بلَّله القطر ، عراه فترةٌ ، ثم ينتفض ، غير أنَّ وجيب قلبه واضطرابه قبل الفترة ، وفترة العصفور قبل انتفاضه.(3/133)
وهذه الأقوال كلُّهَا ، إنَّما هي على القول بتشبيه مفرد بمفرد ، ومقابلة جزء من الكلام السَّابق بجزء من الكلام المشبَّه به.
أمَّا إذا كان التشبيه من باب تشبيه جملةٍ بجملةٍ ، فلا ينظر في ذلك إلى مقابلة الألفاظ المفردة ، بل ينظر إلى المعنى ، وإلى هذا نحا أبو القاسم الراغب ؛ قال الرَّاغب : " فلمَّا شبَّه قصَّة الكافرين في إعراضهم عن الدَّاعي لهم إلى الحقِّ ، بقصَّة النَّاعق قدَّم ذكر النَّاعق ؛ لينبني عليه ما يكون منه ، ومن المنعوق به ".
والكاف ليست بزائدةٍح خلافاً لبعضهم ؛ فإنَّ الصِّفة ليست عين الصِّفة الأخرى ، فلا بُدَّ من الكاف ؛ حتى أنه لو جاء الكلام دون الكاف ، اعتقدنا وجودها تقديراً تصحيحاً للمعنى.
وقد تلخَّص ممَّا تقدَّم : أنَّ " مَثَلُ الَّذِينَ " مبتدأٌ ، و" كَمَثَلِ الَّذِي " خبره : إمَّا من غير اعتقاد حذف ، أو على حذف مضافٍ من الأوَّل ، أي : " مثلُ : " داعي الَّذين " ، أو من الثَّاني ، أي : " كَمَثَلِ بَهَائِم الَّذِي " ، أو على حذفين : حذف من الأوَّل ما أثبت نظيره في الثَّاني ، ومن الثَّاني ما أثبتَ نظيره في الأوَّل ؛ كما تقدَّم تحريره.
والنعيق دعاء الرَّاعي ، وتصويته بالغنم ؛ قال الأخطل في ذلك : [الكامل]
فَانْعِقْ بِضَأْنِكَ يَا جَرِيرُ فَإِنَّمَا... مَنَّتْكَ نَفْسُكَ في الخَلاَءِ ضَلالاَ
قال القتيبيُّ : لم يكن جرير راعي ضأنٍ ، وإنَّما أراد أنَّ بني كُلَيبٍ يُعَيَّرُونَ برعْيِ الضأن ، وجرير منهم ؛ فهو من جَهَلتهم ، والعرب تضرب المثل في الجهل براعي الضَّأن ، ويقولون : أجْهَلُ من رَاعِي ضَأْنٍ. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 164 ـ 166}
سؤالٌ ذكره عليُّ بن عيسى ، وهو هل هذا من باب التَّكرار لمَّا اختلف اللَّفظ ، فإنَّ الدعاء والنِّداء واحدٌ ؟
والجواب : أنه ليس كذلك ؛ فإن الدعاء طلب الفعل ، والنداء إجابة الصَّوت.(3/134)
وقال القرطبيُّ - رحمه الله - : النداء للبعيد ، والدعاء للقريب ، وكذلك قيل للأذان بالصلاة نداءٌ ؛ لأنه للأباعد ، وفي هذا نظر ؛ لأنَّ النبيَّ - ـ عليه السلام ـ قال : " الخِلافَةُ في قُرَيْشٍ ، والحُكْمُ في الأَنْصَارِ ، والدَّعْوَةُ في الحَبَشَةِ "
قال ابنُ الأثِير في " النَّهَايَة " : أراد بالدَّعوة الأذان ، وجعله في الحبشة ؛ تفضيلاً لمؤذِّنه بِلالٍ ، وقال شاعر الجاهليَّة : [الوافر]
فَلَسْتُ بِصَائِمٍ رَمَضَانُ عُمْرِي... وَلَسْتُ بِآكِلٍ لَحْمَ الأَضَاحِي
وَلَسْتُ بِقَائِمٍ كالعِيرِ يَدْعُوا... قُبَيْلَ الصُّبْحِ حَيَّ عَلَى الفَلاَحِ
أراد أذان الصُّبح ، وقد تضمُّ النون في النِّداء ، والأصل الكسر. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 167}
قوله تعالى {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} فاعلم أنه تعالى لما شبههم بالبهائم زاد في تبكيتهم ، فقال : {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْىٌ} لأنهم صاروا بمنزلة الصم في أن الذي سمعوه كأنهم لم يسمعوه وبمنزلة البكم في أن لا يستجيبوا لما دعوا إليه وبمنزلة العمى من حيث أنهم أعرضوا عن الدلائل فصاروا كأنهم لم يشاهدوها ، قال النحويون {صُمٌّ} أي هم صم وهو رفع على الذم ، أما قوله : {فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ} فالمراد العقل الاكتسابي لأن العقل المطبوع كان حاصلاً لهم قال : العقل عقلان مطبوع ومسموع.
ولما كان طريق اكتساب العقل المكتسب هو الاستعانة بهذه القوى الثلاثة فلما أعرضوا عنها فقدوا العقل المكتسب ولهذا قيل : من فقد حساً فقد علماً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 8}
قوله تعالى {فهم لا يعقلون}(3/135)
وقوله : {فهم لا يعقلون} تقريع كمجيء النتيجة بعد البرهان ، فإن كان ذلك راجعاً للمشركين فالاستنتاج عقب الاستدلال ظاهر لخفاء النتيجة في بادىء الرأي ، أي إن تأملتم وجدتموهم لا يعقلون ؛ لأنهم كالأنعام والصمِّ والبكمِ الخ ، وإن كان راجعاً للأصنام فالاستنتاج للتنبيه على غباوة المشركين الذين عبدوها. ومجيء الضمير لهم بضمير العقلاء تهكم بالمشركين لأنهم جعلوا الأصنام في أعلى مراتب العقلاء كما تقدم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 113}
فائدة
طريق الاكتساب الاستعانة بالحواس ولهذا قيل : من فقد حساً فقد علماً. فلما فقدوا فائدة الحواس فكأنهم عدموها خلقة ، قال شابور بن أردشير : العقل نوعان : مطبوع ومسموع. فلا يصلح واحد منهما إلا بصاحبه فإن أحدهما بمنزلة العين والآخر بمثابة الشمس ولا يكمل الإبصار إلا بتعاونهما. وقال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ " إن لكل شيء دعامة ودعامة عمل المرء عقله " فبقدر عقله تكون عبادته لربه. أما سمعتم قول الله عز وجلّ حكاية عن الفجار ؟ {لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير} [الملك : 10] وقال : " ما اكتسب المرء مثل عقل يهدي صاحبه إلى هدى ويرده عن ردى ". أ هـ
{غرائب القرآن ورغائب الفرقان حـ1 صـ 398}(3/136)
موعظة
على العاقل أن يتدارك حاله بسلوك طريق الرضى والندم على مضى ، ويزكى نفسه عن سفساف الأخلاق ويصفى قلبه إلى أن تنعكس إليه أنوار الملك الخلاق ، وذلك لا يحصل غالبا إلا بتربية كامل من أهل التحقيق ؛ لأن المرء محجوب عن ربه ، وحجابه الغفلة وهى وإن كانت لا ترفع ولا تزول إلا بفضل الله تعالى لكنه بأسباب كثيرة ولا اهتداء إلى علاج المرض إلا باشارة حكيم حاذق ، وذلك هو المرشد الكامل فإذا يزول الرين عن القلب وتنفتح روزنة البال إلى الغيب فيكون إقرار السالك تحقيقا لا تقليدا ، وتوحيده تجريدا وتفريدا ، فحينئذ يعكس الأمر فيكون أصم عن سماع أخبار ما سوى المحبوب الحقيقى ، أبكم عن إفشاء سر الحقيقة ، أعمى عن رؤية الأغيار فى هذه الدار الفانية.
اللهم خلصنا من التقليد وأوصلنا إلى حقيقة التوحيد إنك حميد مجيد.أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 344}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
عدموا سمع الفهم والقبول ، فلم ينفعهم سمع الظاهر ، فنزلوا منزلة البهائم في الخلوِّ عن التحصيل ، ومَنْ رضي أن يكون كالبهيمة لم يقع عليه كثير قيمة. أ هـ
{لطائف الإشارات حـ1 صـ 147}(3/137)
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) }
مناسبة الآية لما قبلها
قال الفخر :
اعلم أن هذه الآية شبيهة بما تقدم من قوله : {كُلُواْ مِمَّا فِى الأرض حلالا طَيّباً} [البقرة : 168] ثم نقول : إن الله سبحانه وتعالى تكلم من أول السورة إلى ههنا في دلائل التوحيد والنبوة واستقصى في الرد على اليهود والنصارى ، ومن هنا شرع في بيان الأحكام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 5}
وقال البقاعى :
ولما أخبر سبحانه وتعالى أن الدعاء لا يزيدهم إلا نفوراً رقي الخطاب من الناس إلى أعلى منهم رتبة فقال آمراً لهم أمر إباحة أيضاً وهو إيجاب في تناول ما يقيم البينة ويحفظها : {يا أيها الذين آمنوا كلوا}. وقال الحرالي : لما كان تقدم الخطاب في أمر الدين في رتبتين أولاهما {يا أيها الناس اعبدوا ربكم} [البقرة : 21] وثانيتهما {يا أيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا} [البقرة : 104] فأمر الناس فيه بالعبادة وأمر الذين آمنوا بحسن الرعاية مع النبي صلى الله عليه وسلم ، كذلك هنا أمر الناس بالأكل مما في الأرض ونهى عن اتباع خطوات الشيطان ، وأشعر الخطاب بأنهم ممن يتوجه الشيطان نحوهم للأمر بالسوء والفحشاء والقول بالهوى ، وأمر الذين آمنوا بالأكل {من طيبات} فأعرض في خطابهم عن ذكر الأرض لتناولهم الرزق من السماء ، فإن أدنى الإيمان عبادة من في السماء واسترزاق من في السماء كما قال للسوداء : (3/138)
" أين الله ؟ قالت : في السماء ، قال : أعتقها فإنها مؤمنة " قال سبحانه وتعالى : {وفي السماء رزقكم} [الذاريات : 22] ، فأطعم الأرضيين وهم الناس مما في الأرض وأطعم السماويين وهم الذين آمنوا من رزق السماء كذلك ، وخص هذا الخطاب بلفظ الحلال لما كان آخذاً رزقه من السماء متناولاً طيبة لبراءته من حال مما في الأرض مما شأنه ضر في ظاهر أو أذى في باطن ، ولذلك " ولو كانت الدنيا دماً عبيطاً لكان قوت المؤمن منها حلالاً " ، فالمسترزق من السماء يصير المحرم له حلالاً لأخذه منه عند الضرورة تقوتاً لا تشهّياً ، ويصير الحلال له طيباً لاقتناعه منه بالكفاف دون التشهي {يسألونك ماذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات} [المائدة : 4] وفي مورد هذين الخطابين بيان أن كلمة {للناس} واقعة على سن من أسنان القلوب وكلمة {الذين آمنوا} واقعة على سن فوقه وليس يقع على عموم يشمل جميع الأسنان القلبية ، فتوهم ذلك من أقفال القلوب التي تمنع تدبر القرآن ، لأن خطاب القرآن يتوجه لكل أولي سن على حسب سن قلوبهم ، لا يصلح خطاب كل سن إلا له يتقاصر عنه من دونه ولا يحتاج إليه من فوقه ، وهي أسنان متعددة : سن الإنسان ثم سن الناس ، ثم سن الذين آمنوا ، ثم سن الذين يؤمنون ، ثم سن المؤمنين ، ثم سن المؤمنين حقاً ، ثم سن المحسنين ؛ هذه أسنان سبعة خطاباتها مترتبة بعضها فوق بعض ، ومن وراء ذلك أسنان فوقها من سن الموقنين وما وراء ذلك إلى أحوال أثناء هذه الأسنان من حال الذين أسلموا والمسلمين ومن يوصف بالعقل والذكر والفكر والسماع وغير ذلك من الأوصاف التي تلازم تلك الأسنان في رتب متراقية لا يشمل أدناها أعلاها ولا ينهض أدناها لرتبة خطاب أعلاها إلى ما وراء ذلك من خصوص خطاب النبي صلى الله عليه وسلم فيه بما لا يليق إلا به وبمن هو منه من إله ، وفي انتظام تفصيل هذه الرتب جامعة لما يقع من معناه في سائر القرآن - انتهى. ولما كانت هذه الرتبة كما تقدم
(3/139)
أرفع من رتبة الناس خص في خطابهم بعد بيان أن ما لم يحل خبيث فقال : {من طيبات} ولم يأت بذلك العموم الذي تألف به {الناس}.
ولما كانوا في أول طبقات الإيمان نبههم على الشكر بقوله في مظهر العظمة : {ما رزقناكم} وأخلصناه لكم من الشبه ، ولا تعرضوا لما فيه دنس كما أحله المشركون من المحرمات ، ولا تحرموا ما أحلوا منها من السائبة وما معها ثم صرح به في قوله آمراً أمر إيجاب : {واشكروا لله} أي وخصوا شكركم بالمنعم الذي لا نعمة إلا منه ، وهذا بخلاف ما يأتي في سورة المؤمنين خطاباً لأعلى طبقات الخلّص وهم الرسل.
ولما كان الشكر لا يصح إلا بالتوحيد علقه باختصاصهم إياه بالعبادة فقال : {إن كنتم إياه} أي وحده {تعبدون} فإن اختصاصه بذلك سبب للشكر ، فإذا انتفى الاختصاص الذي هو السبب انتفى الشكر ، وأيضاً إذا انتفى المسبب الذي هو الشكر انتفى الاختصاص لأن السبب واحد ، فهما متساويان يرتفع كل واحد منهما بارتفاع الآخر. وقال الحرالي : ولما كان هذا الخطاب منتظماً لتناول الطيب والشكر وحقيقته البذل من الطيب فشكر كل نعمة إظهارها على حدها من مال أو جاه أو علم أو طعام أو شراب أو غيره وإنفاق فضلها والاقتناع منها بالأدنى والتجارة بفضلها لمبتغى الأجر وإبلاغها إلى أهلها لمؤدي الأمانة لأن أيدي العباد خزائن الملك الجواد " دعوا الناس يرزق الله بعضهم من بعض ". فلما كان ذلك لا يتم إلا بمعرفة الله سبحانه وتعالى المخلف على من أنفق كما قال {وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه} نبهوا على عهدهم الذي لقنوه في سورة الفاتحة في قوله {إياك نعبد وإياك نستعين} فقيل لهم : كلوا واشكروا إن كنتم إياه تعبدون ؛ فمن عرف الله بالكرم هان عليه أن يتكرم ومن عرف الله بالإنعام والإحسان هان عليه أن يحسن وهو شكره لله ، من أيقن بالخلف جاد بالعطية - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 314
ـ 316}
وقال البيضاوى : (3/140)
لما وسع الأمر على الناس كافة وأباح لهم ما في الأرض سوى ما حرم عليهم ، أمر المؤمنين منهم أن يتحروا طيبات ما رزقوا ويقوموا بحقوقها فقال : {واشكروا للَّهِ }. أ هـ {تفسير البيضاوى حـ 1 صـ 494}
فائدة
اعلم أن الأكل قد يكون واجباً ، وذلك عند دفع الضرر عن النفس ، وقد يكون مندوباً ، وذلك أن الضيف قد يمتنع من الأكل إذا انفرد وينبسط في ذلك إذا سوعد ، فهذا الأكل مندوب ، وقد يكون مباحاً إذا خلا عن هذه العوارض ، والأصل في الشيء أن يكون خالياً عن العوارض ، فلا جرم كان مسمى الأكل مباحاً وإذا كان الأمر كذلك كان قوله {كُلُواْ} في هذا الموضع لا يفيد الإيجاب والندب بل الإباحة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 9}
لطيفة
قال السمرقندى :
: في هذه الآية بيان فضل هذه الأمة ، لأنه تعالى خاطبهم بما خاطب به أنبياءه عليهم الصلاة والسلام لأنه قال لأنبيائه : {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صالحا إِنِّى بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون : 51] ، وقال لهذه الأمة {كُلُواْ مِن طيبات مَا رزقناكم} وقال في أول الآية : {ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِى الارض حلالا طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُواْ خطوات الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ} [البقرة : 168]. فلما أمر الله تعالى بأكل هذه الأشياء التي كانوا يحرمونها على أنفسهم. قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : إن لم يكن هذه الأشياء محرمة فالمحرمات ما هي ؟
أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 140}
وقال الخازن : (3/141)
والطيب هو الحلال عن أبي هريرة رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إن الله طيب ولا يقبل إلاّ الطيب وإن الله أمر المؤمنين بما أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحاً وقال : يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يده إلى السماء : يا رب يا رب ومطعمه حرام ومشربه حرام وملبسه حرام وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك " قوله : أشعث أغبر هو البعيد العهد بالدهن والغسل والنظافة. وقيل الطيب المستلذ من الطعام فلعل قوماً تنزهوا عن أكل المستلذ من المطاعم فأباح الله تعالى لهم ذلك {واشكروا لله} يعني على نعمه {إن كنتم إياه تعبدون} أي اشكروا الله الذي رزقكم هذه النعم إن كنتم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه إلهكم لا غيره وقيل إن كنتم عارفين بالله وبنعمه فاشكروه عليها. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 103}
قوله تعالى {مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ }
سؤال : لم أسند الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة ؟
الجواب كما ذكره أبو حيان :
ما رزقناكم : فيه إسناد الرزق إلى ضمير المتكلم بنون العظمة ، لما في الرزق من الامتنان والإحسان. وإذا فسر الطيبات بالحلال ، كان في ذلك دلالة على أن ما رزقه الله ينقسم إلى حلال وإلى حرام ، بخلاف ما ذهبت إليه المعتزلة. أ هـ {البحر المحيط حـ 1 صـ 659}
فصل في الوجوه التي وردت عليها كلمة " الطَّيِّب " في القرآن قالوا : " والطَّيِّبُ " ورد في القرآن الكريم على أربعة أوجهٍ :
أحدها : الطَّيِّبات بمعنى الحلال ؛ قال الله تعالى : {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} [النساء : 2] ، أي : لا تتبدَّلوا الحرام بالحلال.
الثاني : الطيِّب بمعنى الطَّاهر ؛ قال تبارك وتعالى : {فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً} [النساء : 43] ، وقال تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر : 10].(3/142)
الثالث : الطَّيِّب : معناه الحسن ، أي : الكلام الحسن للمؤمنين.
وقوله : {واشكروا للَّهِ} أَمْرٌ ، وليس بإباحةٍ ، بمعنى أنه يجب اعتقاد مستحقّاً إلى التعظيم ، وإظهار الشُّكْر باللِّسان ، أو بالأفعال ، إن وجدت هنا له تهمةٌ.
[ الرابع : ذكر الله وتلاوة القرآن والأمر بالمعروف ، قال تعالى : {إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب} [فاطر : 10]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 168 ـ 169}
قال ابن كثير :
يقول تعالى آمرا عباده المؤمنين بالأكل من طَيبات ما رزقهم تعالى ، وأن يشكروه على ذلك ، إن كانوا عبيده ، والأكل من الحلال سبب لتقبل الدعاء والعبادة ، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبولَ الدعاء والعبادة ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمامُ أحمد :
حدثنا أبو النضر ، حدثنا الفُضَيل بن مرزوق ، عن عدَيِّ بن ثابت ، عن أبي حازم ، عن أبي هريرة
قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "أيها الناس ، إن الله طيب لا يقبل إلا طيبًا ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين ، فقال : {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ} [المؤمنون : 51] وقال : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} ثم ذكر الرجل يطيلُ السفر أشعث أغبر ، يمدُّ يديه إلى السماء : يا رب ، يا رب ، ومطعمه حرام ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغُذي بالحرام ، فأنى يستجاب لذلك".
ورواه مسلم في صحيحه ، والترمذي من حديث [فضيل] بن مرزوق أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 481}
فائدة
قال الفخر : (3/143)
احتج الأصحاب على أن الرزق قد يكون حراماً بقوله تعالى : {مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم} فإن الطيب هو الحلال فلو كان كل رزق حلالاً لكان قوله : {مِن طَيّبَاتِ مَا رزقناكم} معناه من محللات ما أحللنا لكم ، فيكون تكراراً وهو خلاف الأصل ، أجابوا عنه بأن الطيب في أصل اللغة عبارة عن المستلذ المستطاب ، ولعل أقواماً ظنوا أن التوسع في المطاعم والاستكثار من طيباتها ممنوع منه.
فأباح الله تعالى ذلك بقوله : كلوا من لذائذ ما أحللناه لكم فكان تخصيصه بالذكر لهذا المعنى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 9}
لطيفة
الحلال ما لا تَبِعَه عليه ، والطيب الذي ليس لمخلوقٍ فيه مِنَّة ، وإذا وجد العبد طعاماً يجتمع فيه الوصفان فهو الحلال الطيب.
وحقيقة الشكر عليه ألا تتنفس في غير رضاء الحق ما دام تبقى فيك القوة لذلك الطعام. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 147}
قال ابن عرفة :
هنا سؤال وهو أنه قال في الآية الأخرى {ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات} ولم يقل من طيبات ما رزقناكم مع أن تلك خطاب للرسل (فهو كان يكون) أولى بهذا اللفظ ؟ وعادتهم يجيبون بوجيهن :
- الأول : أمّا إذا قلنا : إن الرزق لا يطلق إلا على الحلال فنقول : لمّا كان الأنبياء معصومين أمروا أمرا مطلقا من غير تعيين الحلال وغيرهم ليس بمعصوم ، فقيد الإذن في الأكل له بالحلال فقط فيكون الطيب على هذا المراد به المستلذ.
- الجواب الثاني : الرسل في مقام كمال التوحيد ونسبة كل الأشياء إلى الله عز وجل وأما غيرهم فليس كذلك فقد يذهل حين اقتطاف الثمرة ويظن أنها من الشجرة ويغفل عن كون الله تعالى هو الذي أخرجها منها وأنبتها فقيل لهم {كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ} حتى يعتقدوا حين التناول أن ذلك الرزق كله من عند الله وليس للمتسبب فيه صنع بوجه.
أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 215}
قوله تعالى {واشكروا لله }
قال الفخر : (3/144)
قوله : {واشكروا للَّهِ} أمر : وليس بإباحة فإن قيل : الشكر إما أن يكون بالقلب أو باللسان أو بالجوارح ، أما بالقلب فهو إما العلم بصدور النعمة عن ذلك المنعم ، أو العزم على تعظيمه باللسان وبالجوارح ، أما ذلك العلم فهو من لوازم كمال العقل ، فإن العاقل لا ينسى ذلك فإذا كان ذلك العلم ضرورياً فكيف يمكن إيجابه ، وأما العزم على تعظيمه باللسان والجوارح فذلك العزم القلبي مع الإقرار باللسان والعمل بالجوارح ، فإذا بينا أنهما لا يجيبان كان العزم بأن لا يجب أولى ، وأما الشكر باللسان فهو إما أن يقر بالاعتراف له بكونه منعما أو بالثناء عليه فهذا غير واجب بالاتفاق بل هو من باب المندوبات ، وأما الشكر بالجوارح والأعضاء فهو أن يأتي بأفعال دالة على تعظيمه ، وذلك أيضاً غير واجب ، وإذا ثبت هذا فنقول : ظهر أنه لا يمكن القول بوجوب الشكر
قلنا الذي تلخص في هذا الباب أنه يجب عليه اعتقاد كونه مستحقاً للتعظيم وإظهار ذلك باللسان أو بسائر الأفعال إن وجدت هناك تهمة.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 9}
سؤال : لم عدل عن الضمير إلى الاسم الظاهر فى قوله تعالى {وَاشْكُرُوا لِلَّهِ} ؟
والعدول عن الضمير إلى الاسم الظاهر لأن في الاسم الظاهر إشعاراً بالإلاهية فكأنه يومِىء إلى ألاَّ تشكر الأصنام ؛ لأنها لم تَخلُق شيئاً مما على الأرض باعتراف المشركين أنفسهم فلا تستحق شكراً. وهذا من جعل اللقب ذا مفهوم بالقرينة ؛ إذ الضمير لا يصلح لِذلك إلاّ في مواضع.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 114}
وأجاب أبو حيان عن هذا السؤال بقوله :
لأن هذا الاسم الظاهر متضمن لجميع الأوصاف التي منها وصف الأنعام والزرق والشكر ، ليس على هذا الإذن الخاص ، بل يشكر على سائر الإنعامات والامتنانات التي منها هذا الامتنان الخاص. أ هـ {البحر المحيط حـ 1 صـ 659}
قوله تعالى{إن كنتم إياه تعبدون }
قال الفخر :
في هذه الآية وجوه : (3/145)
أحدها : {واشكروا للَّهِ} إن كنتم عارفين بالله وبنعمه ، فعبر عن معرفة الله تعالى بعبادته ، إطلاقاً لإسم الأثر على المؤثر وثانيها : معناه : إن كنتم تريدون أن تعبدوا الله فاشكروه ، فإن الشكر رأس العبادات وثالثها : {واشكروا للَّهِ} الذي رزقكم هذه النعم {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي إن صح أنكم تخصونه بالعبادة وتقرون أنه سبحانه المنعم لا غيره. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 9}
وقال فى التحرير والتنوير :
{إن كنتم إياه تعبدون} أي اشكروه على ما رزقكم إن كنتم ممن يتصف بأنه لا يعبد إلاّ الله أي إن كنتم هذا الفريق وهذه سجيتكم ، ومن شأن كان إذا جاءت وخبرها جملة مضارعية أن تدل على الاتصاف بالعنوان لا على الوقوع بالفعل مثل قوله : {إن كنتم للرؤيا تعبرون} [يوسف : 43] أي إن كان هذا العلم من صفاتكم ، والمعنى إن كنتم لا تشركون معه في العبادة غيره فاشكروه وحده. فالمراد بالعبادة هنا الاعتقاد بالإلاهية والخضوع والاعتراف وليس المراد بها الطاعات الشرعية. وجواب الشرط محذوف أغني عنه ما تقدم من قوله {واشكروا}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 114}
لطيفة
قال القُشَيْرِيُّ : قال أهل العلْمِ بالأصول : نِعَمُ اللَّهِ تعالى على ضربَيْن : نعمةُ نَفْعٍ ، ونعمةُ دَفْعٍ ، فنعمةُ النفْعِ : ما أولاهم ، ونعمةُ الدفع : ما زوى عنهم ، وليس كلُّ إِنعامه سبحانه انتظام أسبابِ الدنيا ، والتمكُّنَ منها ، بل ألطافُ اللَّه تعالى فيما زوى عنهم من الدُّنْيَا أكثرُ ، وإن قرب العبد من الربِّ تعالى على حسب تباعُدِهِ من الدنيا. انتهى من "التَّحْبير". أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 129}
قال السعدى : (3/146)
هذا أمر للمؤمنين خاصة ، بعد الأمر العام ، وذلك أنهم هم المنتفعون على الحقيقة بالأوامر والنواهي ، بسبب إيمانهم ، فأمرهم بأكل الطيبات من الرزق ، والشكر لله على إنعامه ، باستعمالها بطاعته ، والتقوي بها على ما يوصل إليه ، فأمرهم بما أمر به المرسلين في قوله {يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا}.
فالشكر في هذه الآية ، هو العمل الصالح ، وهنا لم يقل "حلالا "لأن المؤمن أباح الله له الطيبات من الرزق خالصة من التبعة ، ولأن إيمانه يحجزه عن تناول ما ليس له.
وقوله {إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} أي : فاشكروه ، فدل على أن من لم يشكر الله ، لم يعبده وحده ، كما أن من شكره ، فقد عبده ، وأتى بما أمر به ، ويدل أيضا على أن أكل الطيب ، سبب للعمل الصالح وقبوله ، والأمر بالشكر ، عقيب النعم ؛ لأن الشكر يحفظ النعم الموجودة ، ويجلب النعم المفقودة كما أن الكفر ، ينفر النعم المفقودة ويزيل النعم الموجودة.
أ هـ {تفسير السعدى صـ 81}
قوله تعالى {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)}(3/147)
مناسبة الآية لما قبلها
ولما قيد الإذن لهم بالطيب من الرزق افتقر الأمر إلى بيان الخبيث منه ليجتنب فبين صريحاً ما حرم عليهم مما كان المشركون يستحلونه ويحرمون غيره وأفهم حل ما عداه وأنه كثير جداً ليزداد المخاطب شكراً فقال : {إنما حرم عليكم}. وقال الحرالي : ولما كان إدراك المؤمنين لمقتضى الخطاب فوق إدراك الناس خاطبهم تعالى بذكر ما حرم عليهم فناظر ذلك ما نهى عنه الناس من اتباع خطوات الشيطان فقال : {إنما حرم} [البقرة : 173] وأجرى إضماره على الاسم العظيم الأول إعلاماً بأن الذي أذن لهم إنما حرم عليهم ما لا يصلح لهم بكل وجه لشدة مضرته عليهم في إحاطة ذواتهم ظاهرها وباطنها ، لما ذكر أن المحرم إما لحرمته علواً كالبلد الحرام وتحريم الأمر ، أو لحرمته دناءة كتحريم هذه المحرمات ، ففي كلمة " إنما " نفي لمتوهمات ما يلحقه التحريم بما دون المذكور هنا كأن قائلاً يقول : حرم كذا وحرم كذا من نحو ما حرمته الكتب الماضية أو حرمته الأهواء المختلفة أو حرمه نظر علمي كالذي حرمه إسرائيل على نفسه ، فكان الإفهام لرد تلك المحرمات كلها - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 316}
وقال العلامة ابن عاشور فى الآية الكريمة
استئناف بياني ، ذلك أن الإذْن بأكْلِ الطيبات يثير سؤال مَن يسأل ما هي الطيبات فجاء هذا الاستئناف مبيِّناً المحرماتِ وهي أضداد الطيبات ، لتُعرف الطيبات بطريق المضادة المستفادة من صيغة الحصر ، وإنما سُلك طريق بيان ضد الطيبات للاختصار ؛ فإن المحرمات قليلة ، ولأن في هذا الحصر تعريضاً بالمشركين الذين حرموا على أنفسهم كثيراً من الطيبات وأحلوا الميتة والدم ، ولما كان القصر هنا حقيقياً لأن المخاطب به هم المؤمنون وهم لا يعتقدون خلاف ما يُشرع لهم ، لم يكن في هذا القصر قلبُ اعتقادِ أحدٍ وإنما حصل الرد به على المشركين بطريقة التعريض.. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 115}
قال الفخر : (3/148)
اعلم أن كلمة {إِنَّمَا} على وجهين أحدهما : أن تكون حرفاً واحداً ، كقولك : إنما داري دارك ، وإنما مالي مالك الثاني : أن تكون (ما) منفصلة من : إن ، وتكون (ما) بمعنى الذي ، كقولك : إن ما أخذت مالك ، وإن ما ركبت دابتك ، وجاء في التنزيل على الوجهين ، أما على الأول فقوله : {إِنَّمَا الله إله واحد وَإِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} [هود : 12] وأما على الثاني فقوله : {إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ} [طه : 69] ولو نصبت كيد ساحر على أن تجعل {إِنَّمَا} حرفاً واحداً كان صواباً ، وقوله : {إِنَّمَا اتخذتم مّن دُونِ الله أوثانا مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ} [العنكبوت : 25] تنصب المودة وترفع على هذين الوجهين ، واختلفوا في حكمها على الوجه الأول ، فمنهم من قال {إِنَّمَا} تفيد الحصر واحتجو عليه بالقرآن والشعر والقياس ، أما القرآن فقوله تعالى : {إِنَّمَا الله إله واحد} [النساء : 171] أي ما هو إلا إله واحد ، وقال : {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاءِ والمساكين} [التوبة : 60] أي لهم لا لغيرهم وقال تعالى لمحمد : {قُلْ إِنَّمَا أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ} [الكهف : 110] أي ما أنا إلا بشر مثلكم ، وكذا هذه الآية فإنه تعالى قال في آية أخرى {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ} [الأنعام : 145] فصارت الآيتان واحدة فقوله : {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ} في هذه الآية مفسر لقوله : {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا} إلا كذا في تلك الآية ، وأما الشعر فقوله الأعشى :
ولست بالأكثر منهم حصى.. وإنما العزة للكاثر
وقول الفرزق :
أنا الذائد الحامي الذمار وإنما.. يدافع عن أحسابه أنا أو مثلى
(3/149)
وأما القياس ، فهو أن كلمة {إن} للإثبات وكلمة {مَا} للنفي فإذا اجتمعا فلا بد وأن يبقيا على أصليهما ؛ فإما أن يفيدا ثبوت غير المذكور ، ونفي المذكور وهو باطل بالاتفاق ، أو ثبوت المذكور ، ونفي غير المذكور وهو المطلوب ، واحتج من قال : إنه لا يفيد الحصر بقوله تعالى : {إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ} ولقد كان غيره نذيراً ، وجوابه معناه : ما أنت إلا نذير فهو يفيد الحصر ، ولا ينفي وجود نذير آخر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 11}
قال الفخر :
قال الواحدي : الميتة ما فارقته الروح من غير زكاة مما يذبح ، وأما الدم فكانت العرب تجعل الدم في المباعر وتشويها ثم تأكلها ، فحرم الله الدم وقوله : {لَحْمَ الخنزير} أراد الخنزير بجميع أجزائه ، لكنه خص اللحم لأنه المقصود بالأكل وقوله : {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} قال الأصمعي : الإهلال أصله رفع الصوت فكل رافع صوته فهو مهل ، وقال ابن أحمر :
يهل بالفدفد ركبانها.. كما يهل الراكب المعتمر
هذا معنى الإهلال في اللغة ، ثم قيل للمحرم مهل لرفعه الصوت بالتلبية عند الإحرام ، هذا معنى الإهلال ، يقال : أهل فلان بحجة أو عمرة أي أحرم بها ، وذلك لأنه يرفع الصوت بالتلبية عند الإحرام ، والذابح مهل ، لأن العرب كانوا يسمون الأوثان عند الذبح ، ويرفعون أصواتهم بذكرها ومنه : استهل الصبي ، فمعنى قوله : {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} يعني ما ذبح للاصنام ، وهو قول مجاهد ، والضحاك وقتادة ، وقال الربيع بن أنس وابن زيد : يعني ما ذكر عليه غير اسم الله ، وهذا القول أولى ، لأنه أشد مطابقة للفظ. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 11}(3/150)
فائدة
قوله وما أهل به لغير الله}قدم {به} في هذه السورة وأخرها في المائدة والأنعام 145 والنحل 115
لأن تقديم الباء الأصل فإنها تجري مجرى الهمزة والتشديد في التعدي فكانت كحرف من الفعل فكان الموضع الأول أولى بما هو الأصل ليعلم ما يقتضيه اللفظ ثم قدم فيما سواها ما هو المستنكر وهو الذبح لغير الله وتقديم ما هو الغرض أولى ولهذا جاز تقديم المفعول على الفاعل والحال على ذي الحال والظرف على العامل فيه إذا كان ذلك أكثر للغرض في الإخبار. أ هـ {أسرار التكرار فى القرآن صـ 39}(3/151)
قوله تعالى {حرم عليكم الميتة}
قال البغوى :
والميتة كل ما لم تدرك ذكاته مما يذبح. أ هـ {تفسير البغوى حـ 1 صـ 183}
فائدة
قال ابن عادل :
الجمهور على تخفيف " المَيْتَة " في جميع القرآن ، وأبو جعفر بالتَّشديد ، وهو الأصل ، وهذا كما تقدَّم في أنَّ " الميْت " مخفَّفٌ من " المَيِّت " ، وأن أصله " مَيْوتٌ " ، وهما لغتان ، وسيأتي تحقيقه في سورة آل عمران عند قوله : {وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت} [آل عمران : 27].
ونقل عن قدماء النحاة ، أنَّ " المَيْتَ " بالتَّخفيف : من فارقت روحه جسده ، وبالتشديد : من عاين أسباب الموت ، ولم يمت. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 170 ـ 171}. بتصرف.
سؤال : فإن قلت في الميتات ما يحل وهو السمك والجراد. قلت : قصد ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه في العادة. ألا ترى أن القائل إذا قال : أكل فلان ميتة ، لم يسبق الفهم إلى السمك والجراد ؟ كما لو قال : أكل دماً ، لم يسبق إلى الكبد والطحال. ولاعتبار العادة والتعارف قالوا : من حلف لا يأكل لحماً ، فأكل سمكاً ، لم يحنث ، وإن أكل لحماً في الحقيقة. وقال الله تعالى : {لتأكلوا منه لحماً طرياً} وشبهوه بمن حلف لا يركب دابة ، فركب كافراً ، لم يحنث وإن سماه الله دابة في قوله : {إن شر الدواب عند الله الذين كفروا }. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 240 ـ 241}(3/152)
واستدرك أبو حيان على الزمخشرى فى هذا الجواب فقال :
وملخص ما يقوله : إن السمك والجراد لم يندرج في عموم الميتة من حيث الدلالة ، وليس كما قال. وكيف يكون ذلك ، وقد روي عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : " أحلت لنا ميتتان " ؟ فلو لم يندرج في الدلالة ، لما احتيج إلى تقرير شرعي في حله ، إذ كان يبقى مدلولاً على حله بقوله : {كلوا من طيبات ما رزقناكم} وليس من شرط العموم ما يتفاهمه الناس ويتعارفونه فى العادة ، كما قال الزمخشري ، بل لو لم يكن للمخاطب شعور ألبتة ، ولا علم ببعض أفراد العام ، وعلق الحكم على العام ، لاندرج فيه ذلك الفرد الذي لا شعور للمخاطب به. مثال ذلك ما جاء في الحديث : " نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل كل ذي ناب من السباع " فهذا علق الحكم فيه بكل ذي ناب. والمخاطب ، الذين هم العرب ، لا علم لهم ببعض أفراد ذي الناب ، وذلك الفرد مندرج في العموم يقضي عليه بالنهي ، كما في بلادنا ، بلاد الأندلس ، حيوان مفترس يسمى عندهم بالدب وبالسمع ، وهو ذو أنياب يفترس الرجل ويأكله ، ولا يشبه الأسد ، ولا الذئب ، ولا النمر ، ولا شيئاً مما يعرفه العرب ، ولا نعلمه خلق بغير بلاد الأندلس. فهذا لا يذهب أحد إلى أنه ليس مندرجاً في عموم النهي عن أكل كل ذي ناب ، بل شمله النهي ، كما شمل غيره مما تعاهده العرب وعرفوه ، لأن الحكم نيط بالعموم وعلق به ، فهو معلق بكل فرد من أفراده ، حتى بما كان لم يخلق ألبتة وقت الخطاب ، ثم خلق شكلاً مبايناً لسائر الأشكال ذوات الأنياب ، فيندرج فيه ، ويحكم بالنهي عنه. وإنما تمثيل الزمخشري بالإيمان ، فللإيمان أحكام منوطة بها ، ويؤول التحقيق فيها إلى أن ذلك تخصيص للعموم بإرادة خروج بعض الأفراد منه.
. أ هـ {البحر المحيط حـ 1 صـ 661}
كلام نفيس فى الآية الكريمة للإمام البقاعى :(3/153)
المعنى والله سبحانه وتعالى أعلم أنكم حرمتم الوصيلة والسائبة وغيرهما مما أحله الله وأحللتم الميتة والدم وغيرهما حرمه الله سبحانه وتعالى ولم يحرم الله عليكم من السائبة وما معها مما حرمتموه ولا غيره مما استحللتموه إلا ما ذكرته هذه الآية ؛ وقال {الميتة} أي التي سماها بذلك أهل العرف ، وهي ما فارقه الروح من غير ذكاة شرعية وهو مما يذكى. قال الحرالي : وهي ما أدركه الموت من الحيوان عن ذبول القوة وفناء الحياة ، وهي أشد مفسد للجسم لفساد تركيبها بالموت وذهاب تلذذ أجزائها وعتقها وذهاب روح الحياة والطهارة منها. {والدم} أي الجاري لأنه جوهر مرتكس عن حال الطعام ولم يبلغ بعد إلى حال الأعضاء ، فهو ميتة من خاص حياته مرتكس في جوهره إلاّ من طيب الله كليته كما في محمد صلى الله عليه وسلم وفيمن نزع عنه خبث الظاهر والباطن طبعاً ونفساً. {ولحم الخنزير} لأذاه للنفس كما حرم ما قبله لمضرتهما في الجسم ، لأن من حكمة الله في خلقه أن من اغتذى جسمه بجسمانية شيء اغتذت نفسه بنفسانية ذلك الشيء " الكبر والخيلاء في الفدادين أهل الوبر ، والسكينة في أهل الغنم " فلما جعل في الخنزير من الأوصاف الذميمة حرم على من حوفظ على نفسه من ذميم الأخلاق ؛ واللحم ما لحم بين أخفى ما في الحيوان من وسط عظمه وما انتهى إليه ظاهره من سطح جلد ، وعرف غلبة استعماله على رطبة الأحمر ، وهو هنا على أصله في اللغة يجمع اللحم الأحمر والشحم والأعصاب والعروق إلى حد الجلد وما اشتمل عليه ما بين الطرفين من أجزاء الرطوبات ، وإذا حرم لحمه الذي هو المقصود بالأكل وهو أطيب ما فيه كان غيره من أجزائه أولى بالتحريم.
(3/154)
ولما حرم ما يضر الجسم ويؤذي النفس حرم ما يرين على القلب فقال : {وما أهل} والإهلال رفع الصوت لرؤية أمر مستعظم {به} أي رفع رافع الصوت بسببه ذابحاً {لغير الله} أي الذي لا كفؤ له بوجه. قال الحرالي : لأن ما لم يذكر عليه اسم الله أخذ من يد من ذكر عليه اسمه وليس ذلك خالقه ومالكه ، إنما خالقه ومالكه الله الذي جعل ذكر اسمه عليه إذناً في الانتفاع به وذكر على إزهاق الروح من هي من نفخته لا من لا يجد للدعوى فيها سبيلاً من الخلق. وذكر الإهلال إعلام بأن ما أعلن عليه بغير اسم الله هو أشد المحرم ، ففي إفهامه تخفيف الخطاب عما لا يعلم من خفي الذكر " قالوا : يا رسول الله! إن ناساً يأتوننا بلحام لا ندري أسموا الله عليها أم لا. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " سموا الله أنتم وكلوا " "
فكان المحرم ليس ما لم يعلم أن اسم الله ذكر عليه بل الذي علم أن غير اسم الله قد أعلن به عليه ، وفي تقدم إضمار المحرم في قوله {به} تأكيد لمعناه لأنهم يقدمون ما هم به أهم وهم ببيانه أعنى ، قال صلى الله عليه وسلم : " ابدؤوا بما بدأ الله به " ، فلما كانت هذه الآية جامعة أي التحريم أظهر فيها تقديم العناية بالمحرم وهي في الإبلاغ أنهى معنى من الذي أخر فيها هذا الضمير.
(3/155)
ولما كان هذا الدين يسراً لا عسر فيه ولا حرج ولا جناح رفع حكم هذا التحريم عن المضطر ، ولما كان شأن الاضطرار أن يشمل جمعاً من الخلق أنبأهم تعالى بأن هذا الذي رفع عنهم من التحريم لا يبرأ من كلية الأحكام بل يبقى مع هذه الرخصة موقع الأحكام في البغي والعدوان فقال : {فمن اضطر} أي أحوجه محوج وألجأه ملجىء بأي ضرورة كانت إلى أكل شيء مما حرم بأن أشرف على التلف فأكل من شيء منه حال كونه {غير باغ} أي قاصد فساداً بمكيدة يكيد بها لضعفه آخذاً من تلك الميتة هو أقوى منه كأن يحيله على غيرها خداعاً منه ليستأثر عليه بالأحسن منها {ولا عاد} على غيره بأن يكون أقوى منه فيدفعه عنها ، ولا مجاوز لسد الرمق وإزالة الضرورة ؛ ويدخل في الآية أن من بغى على إمام أو قصد بضربه في الأرض فساداً أو عدا على أحد ظلماً فحصل له بسبب ذلك مخمصة لا يحل له ما كان حراماً لأن في ذلك إعانة له على معصيته ، فإن تاب استباح {فلا إثم عليه} لا من التحريم الأول ولا من الحكم الآخر ، ولو كان رفع الإثم دون هذين الاشتراطين لوقع بين المضطرين من البغي والتسلط ما مثله لا يحل لغير المضطرين ، فانتفى الإثم على صحة من الأمرين وارتفاع الحكمين ، ففي السعة يجتنب ما يضر وفي الضرورة يؤثر ضرورة الجسم لقوامه على حكم الكتاب في إقامته ؛ وفي إفهامه أن من اضطر لشيء مما حرم عليه فأكله لم تنله مضرة ، لأن الله سبحانه وتعالى إذا أباح شيئاً أذهب ضره " إن الله لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليها " ففيه تنبيه لتغيير هذه الأعيان للمضطر عما كانت عليه حتى تكون رخصة في الظاهر وتطييباً في الباطن ، فكما رفع عنه حكمها الكتابي يتم فضله فيرفع عنه ضرها الطبيعي.
(3/156)
ثم علل هذا الحكم مرهباً مرغباً بقوله : {إن الله} فأتى بهذا الاسم المحيط إشارة إلى عموم هذا الحكم للمضطر والموسع ، وفي قوله : {غفور} إشعار بأنه لا يصل إلى حال الاضطرار إلى ما حرم عليه أحد إلاّ عن ذنب أصابه ، فلولا المغفرة لتممت عليه عقوبته ، لأن المؤمن أو الموقن لا تلحقه ضرورة ، لأن الله سبحانه وتعالى لا يعجزه شيء وعبد الله لا يعجزه ما لا يعجز ربه {وإن كانوا من قبل أن ينزل عليهم من قبله لمبلسين} [الروم : 49] فاليأس الذي يحوج إلى ضرورة إنما يقع لمن هو دون رتبة اليقين ودون رتبة الإيمان " جهز رسول الله صلى الله عليه وسلم جيشاً ففنيت أزوادهم فأقاموا أياماً يتقوتون بيسير حتى تقوتوا بتمرة تمرة فأخرج الله لهم العنبر دابة من البحر " فلم يحوجهم في ضرورتهم إلى ما حرم عليهم بل جاءهم في ضرورتهم بما هو أطيب ماكلهم في حال السعة من صيد البحر الذي " هو الطهور ماؤه الحل ميتته " وفي قوله : {رحيم} إنباء بأن من اضطر فأصاب مما اضطر إليه شيئاً لم يبغ فيه ولم يعد تناله من الله رحمة توسعه من أن يضطر بعدها إلى مثله فيغفر له الذنب السابق الذي أوجب الضرورة ويناله بالرحمة الموسعة التي ينال بها من لم يقع منه ما وقع ممن اضطر إلى مثله - انتهى {نظم الدرر حـ 1 صـ 316 ـ 319}
فائدة
قال العلماء : لو أن مسلماً ذبح ذبيحة ، وقصد بذبحها التقرب إلى غير الله صار مرتداً وذبيحته ذبيحة مرتد ، وهذا الحكم في غير ذبائح أهل الكتاب ، أما ذبائح أهل الكتاب ، فتحل لنا لقوله تعالى : {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة : 5]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 11}
سؤال : ما الحكمة من تحريم الميتة ؟
الجواب كما ذكره الشيخ الطاهر بن عاشور : (3/157)
اعلم أن حكمة تحريم الميتة فيما أرى هي أن الحيوان لا يموت غالباً إلاّ وقد أصيب بعلة والعلل مختلفة وهي تترك في لحم الحيوان أجزاء منها فإذا أكلها الإنسان قد يخالط جزءاً من دمه جراثيم الأمراض ، مع أن الدم الذي في الحيوان إذا وقفت دورته غلبت فيه الأجزاء الضارة على الأجزاء النافعة ، ولذلك شرعت الذكاة لأن المذكى مات من غير علة غالباً ولأن إراقة الدم الذي فيه تجعل لحمه نقياً مما يخشى منه أضرار.
ومن أجل هذا قال مالك في الجنين : إن ذكاته ذكاة أمه ؛ لأنه لاتصاله بأجزاء أمه صار استفراغ دم أمه استفراغاً لدمه ولذلك يموت بموتها فسلم من عاهة الميتة وهو مدلول الحديث الصحيح " ذكاة الجنين ذكاة أمه " وبه أخذ الشافعي ، وقال أبو حنيفة لا يؤكل الجنين إذا خرج ميتاً فاعتبر أنه ميتة لم يذكَّ ، وتناول الحديث بما هو معلوم في الأصول ، ولكن القياس الذي ذكرناه في تأييد مذهب مالك لا يقبل تأويلاً.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 117}
قوله تعالى {ولحم الخنزير}
قال العلامة ابن عاشور :
ولحم الخنزير هو لحم الحيوان المعروف بهذا الاسم. وقد قال بعض المفسرين : إن العرب كانوا يأكلون الخنزير الوحشي دون الإنسي ، أي لأنهم لم يعتادوا تربية الخنازير وإذا كان التحريم وارداً على الخنزير الوحشي فالخنزير الإنسي أوْلى بالتحريم أو مساوٍ للوحشي.
وذِكر اللحم هنا لأنه المقصود للأكل فلا دلالة في ذكره على إباحة شيء آخر منه ولا على عدمها ، فإنه قد يعبر ببعض الجسم على جميعه كقوله تعالى عن زكرياء {رب إني وهن العظْم مني} [مريم : 4] ، وأما نجاسته ونجاسة شعره أو إباحتها فذلك غرض آخر ليس هو المراد من الآية.(3/158)
وقد قيل في وجه ذكر اللحم هنا وتركه في قوله : {إنما حرم عليكم الميتة} وجوه قال ابن عطية : إن المقصد الدلالة على تحريم عينه ذُكِّيَ أم لم يُذَكَّ اه. ومراده بهذا ألا يتوهم متوهم أنه إنما يحرم إذا كان ميتة وفيه بعد ، وقال الألوسي خصه لإظهار حرمته ، لأنهم فضلوه على سائر اللحوم فربما استعظموا وقوع تحريمه اه. يريد أن ذكره لزيادة التغليظ أي ذلك اللحم الذي تذكرونه بشراهة ، ولا أحسب ذلك ، لأن الذين استجادوا لحم الخنزير هم الروم دون العرب ، وعندي أن إقحام لفظ اللحم هنا إما مجرد تفنن في الفصاحة وإما للإيماء إلى طهارة ذاته كسائر الحيوان ، وإنما المحرم أكله لئلا يفضي تحريمه بالناس إلى قتله أو تعذيبه ، فيكون فيه حجة لمذهب مالك بطهارة عين الخنزير كسائر الحيوان الحي ، وإما للترخيص في الانتفاع بشعره لأنهم كانوا يغرزون به الجلد.
وحكمة تحريم لحم الخنزير أنه يتناول القاذورات بإفراط فتنشأ في لحمه دودة مما يقتاته لا تهضمها معدته فإذا أصيب بها آكله قتلته.
(3/159)
ومن عجيب ما يتعرض له المفسرون والفقهاء البحث في حرمة خنزير الماء وهي مسألة فارغة إذ أسماء أنواع الحوت روعيت فيها المشابهة كما سموا بعض الحوت فرس البحر وبعضه حمام البحر وكلب البحر ، فكيف يقول أحد بتأثير الأسماء والألقاب في الأحكام الشرعية وفي "المدونة" توقَّف مالك أن يجيب في خنزير الماء وقال : أنتم تقولون خنزير. قال ابن شَأْس : رأى غير واحد أن توقُّف مالك حقيقة لعموم {أحل لكم صيد البحر} [المائدة : 96] وعموم قوله تعالى : {ولحم الخنزير} ورأى بعضهم أنه غير متوقِّف فيه حقيقة ، وإنما امتنع من الجواب إنكاراً عليهم تسميتهم إياه خنزيراً ولذلك قال أنتم تسمونه خنزيراً يعني أن العرب لم يكونوا يسمونه خنزيراً وأنه لا ينبغي تسميته خنزيراً ثم السؤال عن أكله حتى يقول قائلون أكلوا لحم الخنزير ، أي فيرجع كلام مالك إلى صون ألفاظ الشريعة ألا يُتَلاعَب بها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 118 ـ 119}
سؤال : فإن قلت : هلا قيل : إنما حرم عليكم لحم الميتة كما قال : لحم الخنزير ؟
قلت : الجواب عن ذلك أن الخنزير غير مقدور عليه إلا بالاصطياد ، والاصطياد فيه في غالب أمره إنما يكون للحمه ، فعلق بما هو المقصود فيه غالبا بخلاف الميتة فإن النفوس تفر منها وتكره لحمها فالمحرم جميعها. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 215}
قوله تعالى {وما أهل به لغير الله}
قال فى التحرير والتنوير :
أُهِلَّ في الآية مبني للمجهول أي ما أهل عليه المهل غير اسم الله ، وضمن (أهل) معنى تقرب فعدي لمتعلقه بالباء وباللام مثل تقرب ، فالضمير المجرور بالباء عائد إلى {ما أهل} ، وفائدة هذا التضمين تحريم ما تقرب به لغير الله تعالى سواء نودي عليه باسم المتقرب إليه أم لا ، والمراد بغير الله الأصنام ونحوها.(3/160)
وأما ما يذبحه سودان بلدنا بنية أن الجن تشرب دمه ولا يذكرون اسم الله عليه زعماً بأن الجن تفر من نورانية اسم الله فالظاهر أنه لا يجوز أكله وإن كان الذين يفعلونه مسلمين ولا يخرجهم ذلك عن الإسلام. وقال ابن عرفة في "تفسيره" : الأظهر جواز أكله لأنه لم يهل به لغير الله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 120}
سؤال : سمي الذبح إهلالاً ؟
الجواب : إنما سمي الذبح إهلالاً لأنهم كانوا إذا أرادوا ذبح ما قربوه لآلهتهم ذكروا عنده اسم آلهتهم وجهروا به أصواتهم ، فسمي كل ذابح جَهَر بالتسمية أو لم يجهر مُهِلاً ، كما سمي الإحرام إهلالاً لرفع أصواتهم عنده بالتلبية حتى صار اسماً له وإن لم يرفع عنده صوت.
أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 222}
سؤال :
قوله تعالى : {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} الآية. هذه الآية تدل بظاهرها على جميع أنواع الدم حرام, ومثلها قوله تعالى في سورة النحل : {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ} الآية, وقوله في سورة المائدة : {حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ} الآية. وقد ذكر في آية أخرى ما يدل على أن الدم لا يحرم إلا إذا كان مسفوحا وهي قوله تعالى في سورة الأنعام : {إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً} الآية.(3/161)
والسبب, كما هنا وسواء عندهم تأخر المطلق عن المقيد في سورة الأنعام وهى نزلت قبل النحل مع أنهما مكيتان آيات معروفة, والدليل على أن الأنعام قبل النحل قوله تعالى في النحل : {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ} الآية, والمراد به ما قص عليه في الأنعام بقوله : {وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ} الآية وأما كون الأنعام نزلت قبل البقرة والمائدة فواضح لأن الأنعام مكية بالإجماع والمائدة من آخر ما نزل من القرآن ولم ينسخ منها شيء لتأخرها, وعلى هذا فالدم إذا كان غير مسفوح كالحمرة التي تظهر في القدر من أثر تقطيع اللحم فهو ليس بحرام لحمل المطلق على المقيد وعلى هذا كثير من العلماء, وما ذكرنا من عدم النسخ في المائدة قال به جماعة وهو على القول بأن قوله تعالى : {فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ} الآية.
وقوله : {أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ} غير منسوخين صحيح وعلى القول بنسخهما لا يصح على الإطلاق, والعلم عند الله تعالى.
أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 32 ـ 33}
قوله تعالى {فَمَنِ اضْطُرَّ }
قال الفخر :
إن الاضطرار ليس من أفعال المكلف ، حتى يقال إنه {لا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإذن لا بد ههنا من إضمار وهو الأكل والتقدير : فمن اضطر فأكل فلا إثم عليه والحذف ههنا كالحذف في قوله : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} [البقرة : 184] أي فأفطر فحذف فأفطر وقوله : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ} [البقرة : 196] ومعناه فحلق ففدية ، وإنما جاز الحذف لعلم المخاطبين بالحذف ، ولدلالة الخطاب عليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 12}
فائدة
قال ابن عرفة : (3/162)
البغي غالب إطلاقه في اللّسان على ابن آدم (والعدوان غالب إطلاقه على غير ابن آدم).
فيقال : عدا عليه السّبع ولا يقال : بغى عليه ، ويقال : بغى فلان على فلان فالبغي خاص بالعاقل والتعدي مشترك ، وغالب إطلاقه على غير العاقل ، وفرق المنطقيون بين حرف السّلب وحرف العدول فحرف السلب " لا " وحرف العدول " غير " وجعلوا قولك : الحائط لا يبصر سلبا وزيد لاَ يبصر عدولا ، فجاءت هذه الآية على هذا المنوال لاقتران " غير " بالبغي الخاص بالعاقل واقتران " لا " بالتعدي الذي كثر اطلاقه على غير العاقل حتى اشتهر به وغلب عليه. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 215}
أسئلة وأجوبة
أما قوله : {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} ففيه سؤالان أحدهما : أن الأكل في تلك الحالة واجب وقوله : {لا إِثْمَ عَلَيْهِ} يفيد الإباحة الثاني : أن المضطر كالملجأ إلى الفعل والملجأ لا يوصف بأنه لا إثم عليه ، قلنا : قد بينا في تفسير قوله : {فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا} [البقرة : 158] أن نفي الإثم قدر مشترك بين الواجب والمندوب والمباح ، وأيضاً فقوله تعالى : {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} معناه رفع الحرج والضيق ، واعلم أن هذا الجائع إن حصلت فيه شهوة الميتة ، ولم يحصل فيه النفرة الشديدة فإنه يصير ملجأ إلى تناول ما يسد به الرمق كما يصير ملجأ إلى الهرب من السبع إذا أمكنه ذلك ، أما إذا حصلت النفرة الشديدة فإنه بسبب تلك النفرة يخرج عن أن يكون ملجأ ولزمه تناول الميتة على ما هو عليه من النفار ، وههنا يتحقق معنى الوجوب.
أما قوله تعالى : في آخر الآية : {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} ففيه إشكال وهو أنه لما قال : {فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ} فكيف يليق أن يقول بعده : {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} فإن الغفران إنما يكون عند حصول الإثم.
(3/163)
والجواب : من وجوه أحدها : أن المقتضى للحرمة قائم في الميتة والدم ، إلا أنه زالت الحرمة لقيام المعارض ، فلما كان تناوله تناولا لما حصل فيه المقتضى للحرمة عبر عنه بالمغفرة ، ثم ذكر بعده أنه رحيم ، يعني لأجل الرحمة عليكم أبحت لكم ذلك وثانيها : لعل المضطر يزيد على تناول الحاجة ، فهو سبحانه غفور بأن يغفر ذنبه في تناول الزيادة ، رحيم حيث أباح في تناول قدر الحاجة وثالثها : أنه تعالى لما بين هذه الأحكام عقبها بكونه غفوراً رحيماً لأنه غفور للعصاة إذا تابوا ، رحيم بالمطيعين المستمرين على نهج حكمه سبحانه وتعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 13}
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور :
وقوله : {إن الله غفور رحيم} تذييل قصد به الامتنان ، أي إن الله موصوف بهذين الوصفين فلا جرم أن يغفر للمضطر أكل الميتة لأنه رحيم بالناس ، فالمغفرة هنا بمعنى التجاوز عما تمكن المؤاخذة عليه لا بمعنى تجاوز الذنب ، ونحوه قوله صلى الله عليه وسلم في رؤيا القليب " وفي نزعه ضعف والله يغفر له ". ومعنى الآية : أن رفع الإثم عن المضطر حكم يناسب من اتصف بالمغفرة والرحمة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 121 ـ 122}
وقال السعدى :
ولما كان الحل مشروطا بهذين الشرطين ، وكان الإنسان في هذه الحالة ، ربما لا يستقصي تمام الاستقصاء في تحقيقها - أخبر تعالى أنه غفور ، فيغفر ما أخطأ فيه في هذه الحال ، خصوصا وقد غلبته الضرورة ، وأذهبت حواسه المشقة.
وفي هذه الآية دليل على القاعدة المشهورة : "الضرورات تبيح المحظورات "فكل محظور ، اضطر إليه الإنسان ، فقد أباحه له ، الملك الرحمن. [فله الحمد والشكر ، أولا وآخرا ، وظاهرا وباطنا]. أ هـ {تفسير السعدى صـ 81}
وقال ابن عرفة :
قوله تعالى : {فلآ إِثْمَ عَلَيْهِ...}.(3/164)
لا ينفى إلاّ ما هو في مادة الثبوت ووجود الإثم هنا غير متصور لأن الأكل من الميتة في هذه الحالة واجب لإقامة الرمق قال : فأجاب بأن المراد لا عقوبة عليه أو لا ذم عليه. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 216}
اختلفوا في حد الحرام.
قال المتقدمون : إنه ما عوقب فاعله. قال بعضهم : والصحيح أنه ما ذم فاعله لأن العقوبة قد ترفع بالتوبة ، فعلى الأول معنى الآية فلا عقوبة عليه ، وعلى الثاني معناها فلا ذم عليه.
قال ابن عرفة : وفي الآية دليل على أن العام في الأشخاص عام في الأزمنة والأحوال ، وهو الصحيح ، ولولا ذلك لما احتيج إلى استثناء المضطر منه ، واختلفوا في الآية ، فقيل : إنها خاصة بسفر الطاعة ، وقيل عامة فيه وفي سفر المعصية لأنه لو لم يبح للعاصي أكل الميتة للزم أن يضاف إلى عصيانه بالسفر عصيان آخر بقتله نفسه ؟
وأجاب بعض الناس عن ذلك ، بأن عصيان السفر يرتفع بالتوبة وهي (ممكنة) حينئذ قال ابن عرفة : وفي الآية حجة للمشهور وهو أنّ العاصي بالسفر (لا يباح له أكل الميتة ). أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 217}
فائدة
34 - قوله في هذه السورة فلا إثم عليه 173 وفي السور الثلاث بحذفها لأنه لما قال في الموضع الأول فلا إثم عليه صريحا كان نفي الإثم في غيره تضمينا لأن قوله غفور رحيم يدل على أنه لا إثم عليه
35 - قوله {إن الله غفور رحيم} في هذه السورة خلاف سورة الأنعام فإن فيها {فإن ربك غفور رحيم}
لأن لفظ الرب تكرر في الأنعام مرات ولأن في الأنعام قوله {وهو الذي أنشأ جنات معروشات} 141 الآية}
وفيها ذكر الحبوب والثمار وأتبعها بذكر الحيوان من الضأن والمعز والإبل وبها تربية الأجسام فكان ذكر الرب فيها أليق. أ هـ {أسرار التكرار فى القرآن صـ 39}(3/165)
فوائد ونفائس ومسائل
قال الفخر :
الفصل الثاني
في تحريم الدم ، وفيه مسألتان
المسألة الأولى : الشافعي رضي الله عنه حرم جميع الدماء سواء كان مسفوحاً أو غير مسفوح وقال أبو حنيفة : دم السمك ليس بمحرم ، أما الشافعي فإنه تمسك بظاهر هذه الآية ، وهو قوله : {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمَ الخنزير} وهذا دم فوجب أن يحرم ، وأبو حنيفة تمسك بقوله تعالى : {قُل لا أَجِدُ فِى مَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلا أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَّسْفُوحًا} [الأنعام : 145] فصرح بأنه لم يجد شيئاً من المحرمات إلا هذه الأمور ، فالدم الذي لا يكون مسفوحاً وجب أن لا يكون محرماً بمقتضى هذه الآية فإذن هذه الآية خاصة وقوله : {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} عام والخاص مقدم على العام ، أجاب الشافعي رضي الله عنه بأن قوله : {قُل لا أَجِدُ فِيمَا أُوْحِىَ إِلَىَّ مُحَرَّمًا} ليس فيه دلالة على تحليل غير هذه الأشياء المذكورة في هذه الآية ، بل على أنه تعالى ما بين له إلا تحريم هذه الأشياء ، وهذا لا ينافي أن يبين له بعد ذلك تحريم ما عداها ، فلعل قوله تعالى : {إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الميتة} نزلت بعد ذلك ، فكان ذلك بياناً لتحريم الدم سواء كان مسفوحاً أو غير مسفوح ، إذا ثبت هذا وجب الحكم بحرمة جيمع الدماء ونجاستها فتجب إزالة الدم عن اللحم ما أمكن ، وكذا في السمك ، وأي دم وقع في الماء والثوب فإنه ينجس ذلك المورود.
الفصل الثالث
في الخنزير ، وفيه مسائل : (3/166)
المسألة الأولى : أجمعت الأمة على أن الخنزير بجميع أجزائه محرم ، وإنما ذكر الله تعالى لحمه لأن معظم الإنتفاع متعلق به ، وهو كقوله : {إِذَا نُودِىَ للصلاة مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ الله وذروا البيع} [الجمعه : 9] فخص البيع بالنهي لما كان هو أعظم المهمات عندهم ، أما شعر الخنزير فغير داخل في الظاهر وإن أجمعوا على تحريمة وتنجيسه ، واختلفوا في أنه هل يجوز الانتفاع به للخرز ، فقال أبو حنيفة ومحمد : يجوز ، وقال الشافعي رحمه الله : لا يجوز ، وقال أبو يوسف : أكره الخرز به ، وروي عنه الإباحة ، حجة أبي حنيفة ومحمد أنا نرى المسلمين يقرون الأساكفة على استعماله من غير نكير ظهر منهم ، ولأن الحاجة ماسة إليه ، وإذا قال الشافعي في دم البراغيث ، أنه لا ينجس الثوب لمشقة الإحتراز فهلا جاز مثله في شعر الخنزير إذا خرز به ؟ .
المسألة الثانية : اختلفوا في خنزير الماء ، قال ابن أبي ليلى ومالك والشافعي والأوزاعي : لا بأس بأكل شيء يكون في البحر ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا يؤكل ، حجة الشافعي قوله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ} [المائدة : 96] وحجة أبي حنيفة أن هذا خنزيرفيحرم لقوله تعالى : {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير} [المائدة : 3] وقال الشافعي : الخنزير إذا أطلق فإنه يتبادر إلى الفهم خنزير البر لا خنزير البحر ، كما أن اللحم إذا أطلق يتبادر إلى الفهم لحم غير السمك لا لحم السمك بالاتفاق ولأن خنزير الماء لا يسمى خنزيراً على الإطلاق بل يسمى خنزير الماء.
المسألة الثالثة : للشافعي رضي الله عنه قولان : في أنه هل يغسل الإناء من ولغ الخنزير سبعاً ؟ أحدها : نعم تشبيها له بالكلب والثاني : لا لأن ذلك التشديد إنما كان فطما لهم عن مخالطة الكلاب وهم ما كانوا يخالطون الخنزير فظهر الفرق.
الفصل الرابع
في تحريم ما أهل به لغير الله
(3/167)
من الناس من زعم أن المراد بذلك ذبائح عبدة الأوثان الذين كانوا يذبحون لأوثانهم ، كقوله تعالى : {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} [المائدة : 3] وأجازوا ذبيحة النصراني إذا سمى عليها باسم المسيح ، وهو مذهب عطاء ومكحول والحسن والشعبي وسعيد بن المسيب ، وقال مالك والشافعي وأبو حنيفة وأصحابه لا يحل ذلك والحجة فيه أنهم إذا ذبحوا على اسم المسيح فقد أهلوا به لغير الله ، فوجب أن يحرم وروي عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : إذا سمعتم اليهود والنصارى يهلون لغير الله فقلا تأكلوا وإذا لم تسمعوهم فكلوا فإن الله تعالى قد أحل ذبائحهم ، وهو يعلم ما يقولون ، واحتج المخالف بوجوه الأول : إنه تعالى قال : {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} [المائدة : 5] وهذا عام ، الثاني : أنه تعالى قال : {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} فدل على أن المراد بقوله : {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} هو المراد بقوله : {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} الثالث : أن النصراني إذا سمى الله تعالى وإنما يريد به المسيح فإذا كانت إرادته لذلك لم تمنع حل ذبيحته مع أنه يهل به لغير الله فكذلك ينبغي أن يكون حكمه إذا أظهر ما يضمره عند ذكر الله وإرادته المسيح.
والجواب عن الأول : أن قوله : {وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ} عام وقوله : {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} خاص والخاص مقدم على العام وعن الثاني : أن قوله : {وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب} لا يقتضي تخصيص قوله : {وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ الله} لأنهما آيتان متباينتان ولا مساواة بينهما وعن الثالث : أنا إنما كلفنا بالظاهر لا بالباطن ، فإذا ذبحه على اسم الله وجب أن يحل ، ولا سبيل لنا إلى الباطن.
الفصل الخامس
(3/168)
القائلون بأن كلمة {إِنَّمَا} للحصر اتفقوا على أن ظاهر الآية يقتضي أن لا يحرم سوى هذه الأشياء لكنا نعلم أن في الشرع أشياء أخر سواها من المحرمات فتصير كلمة {إِنَّمَا} متروكة الظاهر في العمل ومن قال إنها لا تفيد الحصر فالإشكال زائل.
الفصل السادس
في "المضطر" وفيه مسائل :
(3/169)
المسألة الأولى : قال الشافعي رضي الله عنه : قوله تعالى : {فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} معناه أن من كان مضطراً ولا يكون موصوفاً بصفة البغي ، ولا بصفة العدوان ألبتة فأكل ، فلا إثم عليه وقال أبو حنيفة معناه فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد في الأكل فلا إثم عليه فخصص صفة البغي والعدوان بالأكل ويتفرع على هذا الاختلاف أن العاصي بسفره هل يترخص أم لا ؟ فقال الشافعي رضي الله عنه لا يترخص لأنه موصوف بالعدوان فلا يندرج تحت الآية وقال أبو حنيفة بل يترخص لأنه مضطر غير باغ ولا عاد في الأكل فيندرج تحت الآية ، واحتج الشافعي على قوله بهذه الآية وبالمعقول ، أما الآية فهي أنه سبحانه وتعالى حرم هذه الأشياء على الكل بقوله : {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} [المائدة : 3] ثم أباحها للمضطر الذي يكون موصوفاً بإنه غير باغ ولا عاد ، والعاصي بسفره غير موصوف بهذه الصفة لأن قولنا : فلان ليس بمتعد نقيض لقولنا : فلان متعد ويكفي في صدقة كونه متعدياً في أمر ما من الأمور سواء كان في السفر ، أو في الأكل ، أو في غيرهما ، وإذا كان اسم المتعدي يصدق بكونه متعدياً في أمر ما أي أمر كان وجب أن يكون قولنا : فلان غير معتدلا يصدق إلا إذا لم يكن متعدياً في شيء من الأشياء ألبتة ، فاذن قولنا : غير باغ ولا عاد لا يصدق إلا إذا انتفى عنه صفة التعدي من جميع الوجوه ، والعاصي بسفره متعد بسفره ، فلا يصدق عليه كونه غير عاد ، وإذا لم يصدق عليه ذلك وجب بقاؤه تحت الآية وهو قوله : {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم} أقصى ما في الباب أن يقال : هذا يشكل بالعاصي في سفره ، فإنه يترخص مع أنه موصوف بالعدوان لكنا نقول : إنه عام دخله التخصيص في هذه الصورة ، والفرق بين الصورتين أن الرخصة إعانة على السفر فإذا كان السفر معصية كانت الرخصة إعانة على المعصية ، أما إذا لم يكن السفر في نفسه معصية لم تكن الإعانة عليه إعانة على المعصية
(3/170)
فظهر الفرق ، واعلم أن القاضي وأبا بكر الرازي نقلاً عن الشافعي أنه قال في تفسير قوله : {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} أي باغ على إمام المسلمين ، ولا عاد بأن لا يكون سفره في معصية ، ثم قالا.
تفسير الآية غير باغ ولا عاد في الأكل أولى مما ذكره الشافعي رضي الله عنه ، وذلك لأن قوله : {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} شرط والشرط بمنزلة الاستثناء في أنه لا يستقل بنفسه فلا بد من تعلقه بمذكور وقد علمنا أنه لا مذكور إلا الأكل لأنا بينا أن معنى الآية فمن اضطر فأكل غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه وإذا كان كذلك وجب أن يكون متعلقاً بالأكل الذي هو في حكم المذكور دون السفر الذي هو ألبتة غير مذكور.
(3/171)
واعلم أن هذا الكلام ضعيف ، وذلك لأنا بينا أن قوله : {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} لا يصدق إلا إذا انتفى عنه البغي والعدوان في كل الأمور ، فيدخل فيه نفي العدوان بالسفر ضمنا ، ولا نقول : اللفظ يدل على التعيين وأما تخصيصه بالأكل فهو تخصيص من غير ضرورة ، فكان على خلاف الأصل ، ثم الذي يدل على أنه لا يجوز صرفه إلى الأكل وجوه أحدها : أن قوله : {غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ} حال من الاضطرار ، فلا بد وأن يكون وصف الاضطرار باقيا مع بقاء كونه غير باغ ولا عاد فلو كان المراد بكونه غير باغ ولا عاد كونه كذلك في الأكل لاستحال أن يبقى وصف الاضطرار معه لأن حال الأكل لا يبق وصف الاضطرار وثانيها : أن الإنسان ينفر بطبعه عن تناول الميتة والدم ، وما كان كذلك لم يكن هناك حاجة إلى النهي عنه فصرف هذا الشرط إلى التعدي في الأكل يخرج الكلام عن الفائدة وثالثها : أن كونه غير باغ ولا عاد يفيد نفي ماهية البغي ونفي ماهية العدوان ، وهذه الماهية إنما تنتفي عند انتفاء جميع أفرادها والعدوان في الأكل أحد أفراد هذه الماهية وكذا العدوان في السفر فرد آخر من أفرادها فاذن نفي العدوان يقتضي نفي العدوان من جميع هذه الجهات فكان تخصيصه بالأكل غير جائز ، وأما الشافعي رضي الله عنه فإنه لا يخصصه بنفي العدوان في السفر بل يحمله على ظاهره ، وهو نفي العدوان من جميع الوجوه ، ويستلزم نفي العدوان في السفر وحينئذ يتحقق مقصوده ورابعها : أن الاحتمال الذي ذكرناه متأيد بآية أخرى وهي قوله تعالى : {فَمَنِ اضطر فِى مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة : 3] وهو الذي قلناه من أن الآية تقتضي أن لا يكون موصوفاً بالبغي والعدوان في أمر من الأمور ، واحتج أبو حنيفة رضي الله عنه بوجوه أحدها : قوله تعالى في آية أخرى {وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ} [الأنعام : 119] وهذا الشخص مضطر فوجب أن يترخص(3/172)
وثانيها : قوله تعالى : {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً} [النساء : 29] وقال : {وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة} [البقرة : 195] والامتناع من الأكل سعى في قتل النفس وإلقاء النفس في التهلكة ، فوجب أن يحرم
وثالثها : روي أنه عليه السلام رخص للمقيم يوماً وليلة ، وللمسافر ثلاثة أيام ولياليها ولم يفرق فيه بين العاصي والمطيع
ورابعها : أن العاصي بسفره إذا كان نائماً فأشرف على غرق أو حرق يجب على الحاضر الذي يكون في الصلاة أن يقطع صلاته لإنجائه من الغرق أو الحرق فلأن يجب عليه في هذه الصورة أن يسعى في إنقاذ المهجة أولى
وخامسها : أن يدفع أسباب الهلاك ، كالفيل ، والجمل الصؤل ، والحية ، والعقرب ، بل يجب عليه ، فكذا ههنا
وسادسها : أن العاصي بسفره إذا اضطر فلو أباح له رجل شيئا من ماله فإنه يحل له ذلك بل يجب عليه فكذا ههنا والجامع دفع الضرر عن النفس
وسابعها : أن المؤنة في دفع ضرر الناس أعظم في الوجوب من كل ما يدفع المرء من المضار عن نفسه ، فكذلك يدفع ضررالهلاك عن نفسه بهذا الأكل وإن كان عاصياً ،
وثامنها : أن الضرورة تبيح تناول طعام الغير من دون الرضا بل على سبيل القهر ، وهذا التناول محرم لولا الاضطرار فكذا ههنا أجاب الشافعي عن التمسك بالعمومات بأن دليلنا النافي للترخص أخص من دلائلهم المرخصة والخاص مقدم على العام ، وعن الوجوه القياسية بأنه يمكنه الوصول إلى استباحة هذه الرخص بالتوبة وإذا لم يتب فهو الجاني على نفسه ، ثم عارض هذه الوجوه بوجه قوي وهو أن الرخصة إعانة على السفر فإذا كان السفر معصية كانت الرخصة إعانة على المعصية وذلك محال لأن المعصية ممنوع منها والإعانة سعي في تحصيلها والجمع بينهما متناقص والله أعلم.
(3/173)
المسألة الثانية : قال الشافعي وأبو حنيفة وأصحابه : لا يأكل المضطر من الميتة إلا قدر ما يمسك رمقه ، وقال عبد الله بن الحسن العنبري : يأكل منها ما يسد جوعه ، وعن مالك : يأكل منها حتى يشبع ويتزود ، فإن وجد غني عنها طرحها ، والأقرب في دلالة الآية ما ذكرناه أولا لأن سبب الرخصة إذا كان الإلجاء فمتى ارتفع الإلجاء ارتفعت الرخصة ، كما لو وجد الحلال لم يجز له تناول الميتة لارتفاع الإلجاء إلى أكلها لوجود الحلال ، فكذلك إذا زال الاضطرار بأكل قدر منه فالزائد محرم ، ولا اعتبار في ذلك بسد الجوعة على ما قاله العنبري ، لأن الجوعة في الابتداء لا تبيح أكل الميتة إذا لم يخف ضرراً بتركه ، فكذا ههنا ، ويدل عليه أيضاً أنه لو كان معه من الطعام مقدار ما إذا أكله أمسك رمقه لم يجز له أن يتناول الميتة ، فإذا أكل ذلك الطعام وزال خوف التلف لم يجز له أن يأكل الميتة ، فكذا إذا أكل من الميتة ما زال معه خوف الضرر وجب أن يحرم عليه الأكل بعد ذلك.
المسألة الثالثة : اختلفوا في المضطر إذا وجد كل ما يعد من المحرمات ، فالأكثرون من العلماء خيروه بين الكل لأن الميتة والدم ولحم الخنزير سواء في التحريم والاضطرار ، فوجب أن يكون مخيراً في الكل وهذا هو الأليق بظاهر هذه الآية وهو أولى من قول من أوجب أن يتناول الميتة دون لحم الخنزير أعظم شأناً في التحريم.
(3/174)
المسألة الرابعة : اختلفوا في المضطر إلى الشرب إذا وجد خمراً ، أو من غص بلقمة فلم يجد ماء يسيغه ووجد الخمر ، فمنهم من أباحه بالقياس على هذه الصورة ، فإن الله تعالى إنما أباح هذه المحرمات إبقاء للنفس ودفعاً للهلاك عنها ، فكذلك في هذه الصورة وهذا هو الأقرب إلى الظاهر ، والقياس وهو قول سعيد بن جبير وأبي حنيفة ، وقال الشافعي رضي الله عنه : لا يشرب لأنه يزيده عطشاً وجوعاً ويذهب عقله ، وأجيب عنه بأن قوله : لا يزيده إلا عطشاً وجوعاً مكابرة ، وقوله : يزيل العقل فكلامنا في القليل الذي لا يكون كذلك.
المسألة الخامسة : اختلفوا إذا كانت الميتة يحتاج إلى تناولها للعلاج إما بانفرادها أو بوقوعها في بعض الأدوية المركبة ، فأباحه بعضهم للنص والمعنى ، أما النص فهو أنه أباح للعرنيين شرب أبوال الإبل وألبانها للتداوي ، وأما المعنى فمن وجوه الأول : أن الترياق الذي جعل فيه لحوم الأفاعي مستطاب فوجب أن يحل لقوله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات} [المائدة : 4] غاية ما في الباب أن هذا العموم مخصوص ولكن لا يقدح في كونه حجة الثاني : أن أبا حنيفة لما عفا عن قدر الدرهم من النجاسة لأجل الحاجة ، والشافعي عفا عن دم البراغيث للحاجة فلم لا يحكمان بالعفو في هذه الصورة للحاجة الثالث : أنه تعالى أباح أكل الميتة لمصلحة النفس فكذا ههنا ، ومن الناس من حرمه واحتج بقوله عليه السلام : " إن الله تعالى لم يجعل شفاء أمتي فيما حرم عليهم " وأجاب الأولون بأن التمسك بهذا الخبر إنما يتم لو ثبت أنه يحرم عليه تناوله ، والنزاع ليس إلا فيه.
المسألة السادسة : اختلفوا في التداوي بالخمر ، واعلم أن الحاجة إلى ذلك التداوي إن انتهت إلى حد الضرورة فقد تقدم حكمه في المسألة الرابعة ، فإن لم تنته إلى حد الضرورة فقد تقدم حكمه في المسألة الخامسة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 21 ـ 22}
فائدة
قال الخازن : (3/175)
والمضطر على ثلاثة أقسام : إما بإكراه أو بجوع في مخمصة أو بفقر لا يجد شيئاً البتة فإن التحريم يرتفع مع وجود هذه الأقسام بحكم الاستثناء في قوله : فلا إثم عليه وتباح له الميتة فأما الإكراه فيبيح ذلك إلى زوال الإكراه وأما المخمصة فلا يخلو إن كانت دائمة فلا خلاف في جواز الشبع منها ، وإن كانت نادرة فاختلف العلماء فيه وللشافعي قولان أحداهما أنه يأكل ما يسد به الرمق ، وبه قال أبو حنيفة. والثاني يأكل قدر الشبع ، وبه قال مالك.
أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 104}
لطيفة
قوله {وَمَآ أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ} قدَّم (به) فى هذه السورة ، وأَخّرها فى المائدة ، والأَنعام ، والنحل ؛ لأَن تقديم الباءِ الأَصلُ ؛ فإِنها تجرى مَجْرى الأَلِف والتشيديِ فى التَّعدِّى ، وكان كحرف من الفعل ، وكان الموضع الأَول أَوْلى بما هو الأَصل ؛ ليُعلم ما يقتضيه اللفظُ ، ثم قدم فيما سواها ما هو المُسْتنكر ، وهو الذبح لغير الله ، وتقديمُ ما هو الغرض أَولى. ولهذا جاز تقديم المفعول على الفاعل ، والحال على ذى الحال ، والظرف على العامل فيه ؛ إِذا كان (أَكثر فى) الغرض فى الإِخبار.
قوله {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} (بالفاءِ وفى السور الثلاث بغير فاء) لأَنه لمّا قال فى الموضع الأَوّل : {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} صريحاً كان النفى فى غيره تضميناً ؛ لأَنّ قوله : {غَفُورٌ رَحِيمٌ} يدلّ على أَنه لا إِثم عليه.
قوله {إِنَّ اللهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} ، وفى الأَنعام {فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ} لأَن لفظ الرب تكرر فى الأَنعام (مرات ولأَن فى الأَنعام).
أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 1 صـ 103}(3/176)
فوائد ودقائق
قال فى ملاك التأويل :
قوله تعالى"إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه إن الله غفور رحيم" ، وجاء فى ثلاثة مواضع"وما أهل لغير الله به" أولها فى سورة المائدة : "حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به" ، والثانى فى سورة الانعام : "قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير فإنه رجس أو فسقا أهل لغير الله به" ، والثالث فى سورة النحل : "فكلوا مما رزقناكم حلالا طيبا واشكروا نعمة الله إن كنتم إياه تعبدون إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به".
يتعلق بهذه الآى الأربع خمسة سؤالات : أحدها تقديم المجرور الذى هو"به" فى سورة البقرة وتأخيره فيما سواها الثانى تخصيص آية البقرة بقوله تعالى : "فلا إثم عليه" ، الثالث : تخصيص آية الانعام بقوله"فإن ربك غفور رحيم" ، الرابع : زيادة ما زيد فى آية المائدة من المحرمات ، الخامس : تخصيص آية المائدة بقوله تعالى"فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم".
والجواب عن الأول : أن العرب مهما اعتنت بشئ أو قصدت به قصد زيادة من تأكيد أو تشريف قدمته أو قدمت ضميره وليس من كلامهم إجراء هذه الاغراض مجرى غيرها فلكل مقام مقال ألا ترى قول قائلهم : إياك أعنى وقول مجاوبه : وعنك أعرض وأنشد سيبويه رحمه الله :(3/177)
لتقربن قربا جلديا ما دام فيهن فصيل حيا فتقديم فيهن يحرز معنى لا يحرزه التأخير وقال تعالى : "ولم يكن له كفوا أحد" وبسط هذا فى مظانه وقال تعالى : "فبذلك فليفرحوا" وقال تعالى : "إياك نعبد وإياك نستعين" وهو كثير فى المضمرات والظروف والمجرورات ومن نحوه قوله تعالى : "وكانوا فيه من الزاهدين" وقوله تعالى : "إنى لعملكم من القالين" ولكون هذا فى صلة الموصول تكلف بعض النحويين فى تعلقه تقدير اسم فاعل يفسره ما بعد الموصول وإذا حقق رجع إلى الأول قال سيبويه رحمه الله : "كأنهم يقدمون الذى هو أهم لهم وهم ببيانه أعنى". وآية البقرة قد تقدم قبلها قوله تعالى : "يا أيها الناس كلوا مما فى الأرض" وقوله نعالى : "يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم" ، فورد تعريفهم بذكر ما أبيح لهم وورد ما يقصد إيجابه وندبيته وإن كان إنما يراد بها هنا الاباحة مفتتحا بنداء المخاطبين ومعقبا فيه ما أعملوا بإباحته لهم بالأمر بالشكر الجليل تلك النعمة وعظيم التوسعة فيها من قوله تعالى : "مما فى الأرض" وقوله"من طيبات ما رزقناكم" فلتوسعة الإحسان والإنعام ما أمروا بالشكر. فلما تحصل بهذه المقاصد الجليلة ما ليس فى شئ من تلك المواضع والآيات الأخر وخص ما ذكره بعد بما حرم عليهم بكلمة"إنما" المقتضية الحصر والرافعة لضعف المفهوم حسب ما تقرر من الأصول إذ ليس قوله"إنما الولاء لمن أعتق" مثل قوله"فيما سقت السماء العشر" ، "وفى سائمة الغنم الزكاة" فى قوة المفهوم المسمى بدليل الخطاب فلما تحصل فى هذه الآية ما أشير اليه من تأكيد هذا المحرم ما ليس فى الآى الأخر ناسبه تقديم المضمر المجرور فى قوله"وما أهل به لغير الله" ليكون الكلام بتقديم المجرور بقوة أن لو قيل : إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير والمهل به لغير الله وهذا مقصود الكلام ولم يكن تأخير المجرور ليحرز هذا الذى قدرناه ولا ليناسب ما تقدم فجرى الكلام كله من أول القصة إلى آخرها على أسلوب من(3/178)
البلاغة ملحوظ فى آخره وأوله. أما الآى الأخر فليس فيها ما ما فى هذه فتأخر الضمير المجرور إلى محله الذى هو موضعه إذ لم يقصد هذا القصد ولم يكن ليلائمه التقديم ولهذا المجموع وما جرى فى الآية من الإطناب الجليل أعقب هذا الكلام بقوله"فلا إثم عليه" ليناسب ما ذكر ووقع الاكتفاء فى غيرها بما فيها كل ذلك على ما يناسب وهذا هو الجواب عن السؤال الثانى.
والجواب عن السؤال الثالث : إن الله سبحانه وتعالى لما قدم فى آية الأنعام وجرى من قدم ذكره وتعنيفهم بقوله"أم كنتم شهداء إذ وصاكم الله بهذا فمن أظلم ممن افترى على الله كذبا ليضل الناس بغير علم". أتبعه بقوله" قل لا أجد فى ما أوحى إلى محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا أو لحم خنزير" ثم قال"فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن ربك..." وهذا التفات لأن الجارى على لا أجد فيما أوحى إلى أن لو قيل فإن ربى أو فإن الله فعدل الخطاب التفاتا فقيل"فإن ربك" لأن الكلام إذا تنوع حرك الخواطر إلى تفهمه فقال تعالى : "فإن ربك" ومع قصد الالتفات لم يعدل فيه عند تخصيص الخطاب لأنه موضع تعنيف وزجر لمن تقدم فورد الالتفات باسم الربوبية مع الإضافة إلى ضمير خطابه صلى الله عليه وسلم ولم يقل : فإن الله وكان يكون فيه الالتفات لما قصد فيه من نحو الوارد فى قوله : "ذلك بأن الله مولى الذين آمنوا وأن الكافرين لا مولى لهم" ، وما ورد من مثله ليكون ذلك معرفا بمكانته عليه السلام وتحكيما للإعراض عنهم وعدم التفاتهم وتناسب آخر الكلام وأوله.
(3/179)
والجواب عن السؤال الرابع والخامس : أن آية المائدة من آخر ما نزل فورد فيها استيفاء ما حكم سبحانه بتحريمه وإلحاقه بالميتة والدم ولحم الخنزير أعقب الكلام بقوله"فمن اضطر فى مخمصة غير متجانف لإثم" تتميا لبيان حال المضطر ومظنة الاضطرار زيادة على ما ورد فى الآى الأخر ليرتفع ما عسى أن يكون باقيا فيها من إجمال أو إشكال ليجرى مع قوله"اليوم أكملت لكم دينكم..الآية. أ هـ {ملاك التأويل صـ 77 ـ 79}(3/180)
من لطائف الإعجاز العلمى
قال العلامة وحيد ادين خان :
لو أنك سألت طبيبا : ما السبب وراء احمرار الدم ؟
لأجاب : لأن في الدم خلايا حمراء ، حجم كل خلية منها من البوصة!
- حسنا ولكن لماذا تكون هذه الخلايا حمراء ؟
- في هذه الخلايا مادة تسمى (الهميوجلوبين) وهى مادة تحدث لها الحمرة حين تختلط بالأكسجين فى القلب.
- هذا جميل. ولكن من أين تأتى هذه الخلايا التي تحمل الهميوجلوبين ؟
- إنها تصنع في كبدك.
- عجيب! ولكن كيف ترتبط هذه الأشياء الكثيرة من الدم والخلايا والكبد وغيرها بعضها ببعض ارتباطا كليا ، وتسير نحو أداء واجبها المطلوب بهذه الدقة الفائقة ؟
- هذا ما نسميه بقانون الطبيعة.
- ولكن ما المراد بقانون الطبيعة هذا ، يا سيدي الطبيب ؟
- المراد بهذا القانون هو الحركات الداخلية العمياء للقوى الطبيعية والكيماوية.
- ولكن لماذا تهدف هذه القوى دائما إلى نتيجة معلومة ؟ وكيف تنظم نشاطها حتى تطير الطيور في الهواء ، ويعيش السمك في الماء ، ويوجد إنسان في الدنيا بجميع ما لديه من الإمكانات والكفاءات العجيبة المثيرة ؟
- لا تسألني عن هذا ، فإن علمي لا يتكلم إلا عن : (ما يحدث) وليس له أن يجيب : (لماذا يحدث ؟ ). أ هـ {الإسلام يتحدى ـ لوحيد الدين خان صـ 25}
علم الأغذية(3/181)
إن قائمة الأغذية التي يقررها القرآن الكريم تحرم (الدم) ، وكان الإنسان غافلا عن أهمية هذا التحريم ، ولكن التحليلات التي أجريت للدم قد أكدت أن هذا القانون كان مبنيا علي أهمية خاصة بالنسبة إلي الصحة. فالتحليل يثبت أن (الدم) يحتوي كمية كبيرة من (حمض البوليك) Uric Acid ، وهو مادة سامة تضر بالصحة لو استعملت غذاء. وهذا هو السر في الطريقة الخاصة التي أمر بها القرآن في ذبح الحيوانات. والمراد من (الذبح) في المصطلح الإسلامي هو الذبح بطريقة معينة حني يخرج سائر الدم من جسم الحيوان ، وهي أن نقطع الوريد الرئيسي. الذي يوجد في العنق فقط. وأن نمتنع عن قطع الأوردة الأخرى ، حني يمكن استمرار علاقة المخ بالقلب إلي أن يموت الحيوان ، لكيلا يكون سبب الموت الصدمة العنيفة التي وجهت إلي أحد أعضاء الحيوان الرئيسية ، كالدماغ أو القلب أو الكبد ، والمقصود من هذا هو أن الدماء تتجمد في العروق وتسري إلي أجزاء الجسم لو مات الحيوان في الحال-علي إثر صدمة عنيفة- وهكذا يتسمم اللحم كله ، نتيجة سريان (حمض البوليك) في أنحائه.
ولقد حرم القرآن لحم (الخنزير) ولم يعرف الإنسان في الماضي شيئا عن أسرار هذا التحريم ، ولكنه يعرف اليوم أن لحم الخنزير يسبب أمراضا كثيرة ، لأنه يحتوي أكبر كمية من (حمض البوليك) بين سائر الحيوانات علي ظهر الأرض أما الحيوانات الأخرى غير الخنزير فهي تفرز هذه المادة بصفة مستمرة عن طريق البول. وجسم الإنسان يفرز90% من هذه المادة بمساعدة (الكليتين). ولكن الخنزير لا يتمكن من إخراج (حمض البوليك) إلا بنسبة اثنين في المائة(2%) ، والكمية الباقية تصبح جزءا من لحمه ولذلك يشكو الخنزير من آلام المفاصل ، والذين يأكلون لحمه هم الآخرون يشكون من آلام المفاصل والروماتيزم(181) ، وما إلي ذلك من الأمراض المماثلة(182). أ هـ
{الإسلام يتحدى ـ صـ 180}
بحوث
1 ـ فلسفة تحريم اللحوم المحرمة :
(3/182)
الأغذية المحرمة التي ذكرتها الآية الكريمة أعلاه لها ـ كسائر المحرمات الإلهية ـ فلسفتها الخاصة. وقد شرّعت انطلاقاً من خصائص الإنسان جسمياً وروحياً. والروايات الإِسلامية ذكرت علل بعض هذه الأحكام ، والعلوم الحديثة أماطت اللثام أيضاً عن بعض هذه العلل.
ولعل هذه المفاسد تعود إلى أن جهاز الهضم لا يستطيع أن يصنع من الميتة دماً سالماً حياً ، إضافة إلى أن الميتة مرتع أنواع الميكروبات ، والإِسلام اعتبر الميتة نجسة ، كي يبتعد عنها المسلم فضلا عن عدم تناولها.
والمحرّم الثاني في هذه الآية "الدم" ، وشرب الدم له مفاسد أخلاقية وجسمية ، فهو وسط مستعد تماماً لتكاثر أنواع الميكروبات.
الميكروبات التي تدخل البدن تتجه أول ما تتجه إلى الدم ، وتتخذه مركزاً لنشاطها ، ولذلك اتخذت الكرات البيضاء مواقعها في الدم للوقوف بوجه توغل هذه الأحياء المجهرية في الدم المرتبط بكل أجزاء الجسم.
وحين يتوقف الدم عن الحركة وتنعدم الحياة فيه ، يتوقف نشاط الكرات البيض أيضاً ، ويصبح الدم بذلك وسطاً صالحاً لتكاثر الميكروبات دون أن تواجه عقبة في التكاثر.
ولذلك نستطيع القول إن الدم ـ حين يتوقف عن الحركة ـ يكون أكثر أجزاء جسم الإنسان والحيوان تلوثاً.
ومن جهة أخرى ثبت اليوم في علم الأغذية ، أن الأغذية لها تأثير على الأخلاق والمعنويات عن طريق التأثير في الغدد وإيجاد الهورمونات. ومنذ القديم ثبت تأثير شرب الدم تشديد قسوة الإنسان ، وأصبح ذلك مضرب الأمثال.
ثالث : المحرمات المذكورة في الآية "لحم الخنزير".
الخنزير ـ حتى عند الأوروبيين المولعين بأكل لحمه ـ رمز التحلل الجنسي. وهو حيوان قذر للغاية ، وتأثير تناول لحمه على التحلل الجنسي لدى الإنسان مشهود.
حرمة تناول لحمه صرحت بها شريعة موسى(عليه السلام) أيضاً ، وفي الأناجيل شُبّه المذنبون بالخنزير ، كما أن هذا الحيوان مظهر الشيطان في القصص.
(3/183)
ومن العجيب أن أُناساً يرون بأعينهم قذارة هذا الحيوان حتى إنه يأكل عذرته ، ويعلمون احتواء لحمه على نوعين خطرين من الديدان ، ومع ذلك يصرّون على أكله.
دودة "التريشين" التي تعيش في لحم هذا الحيوان تتكاثر بسرعة مدهشة ، وتبيض في الشهر الواحد خمسة عشر ألف مرة ، وتسبب للإنسان أمراضاً متنوعة كفقر الدم ، والغثيان ، وحمّى خاصة ، والإسهال ، وآلام المفاصل ، وتوتر الأعصاب ، والحكّة ، وتجمع الشحوم داخل البدن ، والإحساس بالتعب ، وصعوبة مضغ الطعام وبلعه ، والتنفس و....
وقد يوجد في كيلو واحد من لحم الخنزير (400) مليون دودة من هذه الديدان!! ولذلك أقدمت بعض البلدان الأوروبية في السنوات الماضية على منع تناول لحم هذا الحيوان.
وهكذا تتجلى عظمة الأحكام الإلهية بمرور الأيّام أكثر فأكثر.
يقول البعض :
إن العلم تطور بحيث استطاع أن يقضي على ديدان هذا الحيوان ، ولكن على فرض أننا استطعنا بواسطة العقاقير ، أو بالاستفادة من الحرارة الشديدة في طبخه ، إلاّ أن أضراره الأخرى ستبقى. وقد ذكرنا أن للأطعمة تأثيراً على أخلاق الإِنسان عن طريق تأثيرها على الغدد والهورمونات وذلك الأصل علمي مسلّم ، وهو أن لحم كل حيوان يحوي صفات ذلك الحيوان أيضاً.
من هنا تبقى للحم الخنزير خطورته في التأثير على التحلل الجنسي للآكلين ، وهي صفة بارزة في هذا الحيوان.
ولعل تناول لحم هذا الحيوان أحد عوامل التحلّل الجنسي في أوربا.
رابع المحرمات في الآية (مَا أُهلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللهِ) ، وهي الحيوانات التي تذبح على غير اسم الله ، كالتي كانت تقدم للأصنام في الجاهلية.
(3/184)
وتحريم لحوم هذه الحيوانات لا يلزم بالضرورة أن تكون لها أضرار صحية حتى يقال : إن ذكر اسم الله أو غير الله حين الذبح لا ربط له بالأمور الصّحية. فليس من الحتم أن تكون للحم آثار صحية حتى تكون محرمة ؛ لأن المحرمات في الإسلام لها أبعاد مختلفة ، فتارة بسبب الصحة وحفظ البدن وأخرى يكون للتحريم جانب معنوي وأخلاقي وتربوي ، فهذه اللحوم تبعد الإنسان عن الله ، ولها تأثير نفسي وتربوي سلبي على الآكل ، لأنها من سنن الشرك والوثنية وتعيد إلى الذهن تلك التقاليد الخرافية.
2 ـ التكرار والتأكيد
تحريم المواد الأربع المذكورة تكرر في أربع سور من القرآن ، سورتين مكيتين (الأنعام ، 145 والنحل ، 115) وسورتين مدنيتين (البقرة ، 173 والمائدة ، 3).
ييبدو أن تحريم هذه اللحوم أعلن أولا في أوائل البعثة ، ثم أعلن ثانية في أواخر إقامة الرّسول(صلى الله عليه وآله وسلم) في مكة ، وتكرر الإعلان ثالثة في أوائل الهجرة إلى المدينة ، ثم أُعيد التأكيد رابعة في أواخر عمر الرّسول في سورة المائدة وهي آخر سور القرآن.
كل هذا التأكيد يعود إلى أهمية الموضوع وإلى ما في هذه المواد من أخطار جسمية وروحية ، وإلى اتساع نطاق تلوث النّاس آنئذ بها.أ هـ {الأمثل حـ1 صـ 363 ـ 365}
اكتشاف جرثومة جديدة في لحم الخنزير
حوار مع الدكتور/جون لارسن كبير أطباء المستشفي الرسمي في كوبنهاجن
اكتشاف جرثومة جديدة في لحم الخنزير :
·هيئة الإعجاز : بلغنا أنكم اكتشفتم جرثومة جديدة في لحم الخنزير ، فهل هذا صحيح ؟
(3/185)
·الدكتور لارسن : الكلام الذي صرحت به يدور حول جرثومة خطيرة يحملها الخنزير ، وأنا لم أنشر الكثير عن هذا الموضوع غير ما كتب في الصحف والمجلات الطبية لأنه ليس بالشيء الجديد بل معروف في معظم أنحاء العالم ، وبالنسبة للأمريكيين فإنهم لم يعلنوا صراحة عن وجود هذه الجرثومة في الخنزير. ولكن كعادتهم ينتظرون حتى تحدث عدوى للمرض بشكل وبائي فينتبهون إليه ، ومثال ذلك : حدوث عدوى مفاجئة في مدرسة بها 500 طفل فجأة أصيبوا بمرض واحد واستحقت الاهتمام فأخذوا يبحثون عن الأسباب!! ونحن لسنا كالأمريكيين في أبحاثنا بل نبحث في الصغيرة مثل الكبيرة لأننا نعتقد أن الوباء يبدأ من عدوى صغيرة ، والشواهد على ذلك كثيرة.
وهذا المرض الذي تسببه هذه الجرثومة يظهر بأعراض ثلاثة :
1- الإسهال الشديد.
2- آلام بالمعدة تشبه أعراض الزائدة الدودية.
3- حمى مصحوبة بارتفاع درجة الحرارة لفترة من الوقت.
وتكمن خطورة هذا المرض في أنه يظهر بأعراض أمراض أخرى مثل روماتيزم المفاصل والذي يبدأ بالآلام في العظام ، وقد ينتهي إلى روماتيزم القلب أو إلى روماتيزم الكلى ، كما قد تظهر أعراض تتداخل مع بعض الأمراض الجلدية.. وهذا ما كان يهمني كثيراً في استمرار البحث عن حقيقة هذا المرض ، ويشاركني في ذلك بعض الأطباء بمدينة (مالمو) بالسويد وفنلندا.
عند دراسة عدة أمراض وبائية وجد أن الجرثومة التي اكتشفتها في الخنزير من مجموعة جراثيم اليارسينيا (Yarsinia) وهي موجودة في الطبيعة من حولنا ولكن لا يُعرف حتى الآن كيف تتم العدوى بها.
بطبيعة الحال فإن هذه الجرثومة التي تسبب هذا الوباء لا توجد في الدانمارك فقط إذن كيف تحصل العدوى بهذه الجرثومة من الطبيعة ؟ .. لا يوجد أمامنا إلا مصدر واحد هو الخنزير. ومن العجيب- عند إجراء التجارب المعملية على الخنزير- أن نجد أنه الناقل لهذه الجرثومة.
(3/186)
وفي الدانمارك قامت مجموعة من العلماء من مدرسة الزراعة العليا وليس لها صلة بأبحاثي اكتشفت أنه يوجد بكتيريا هذا المرض بنسبة 25% في الخنزير.
كما قام شخص آخر في بلكجيكا بجمع ألسنة الخنازير من المسالخ ومحلات اللحوم ووجد أن هذه البكتيريا يتراوح وجودها في هذه الألسنة ما بين 80-90%. وكذلك أثبتت الأبحاث في تشيكوسلوفاكيا وألمانيا وكندا وأمريكا وفي إيطاليا مع أنها دول ذات نسبة أقل في عدد الخنازير.
في ضوء ذلك حاولت تبرئة موقفي وإعلان الحقيقة للناس ولكني وجدت المعارضة التي أسكتتني من جانب السلطات المسؤولة. وأنا أقف الآن بمفردي أمام هذا الأمر ، لقد قمت بفحص أكثر من 60إلى 70 ألف حالة ، ولما حدث سوء الفهم ولم يقف بجانبي أحد أظهرت ما دل عليه العلم وسأظل أنادي بما توصلت إليه أبحاثي رغم ذلك فأنا رجل علم أولاً وأخيراً وإن لم يقبل الناس ما أخرج من نتائج ، ولقد حاولت أن أناقش الموضوع مع وزارة الزراعة الدانماركية ولكن بدون جدوى ، مع العلم أن هذه البكتيريا ليس خاصة بالدانمارك بل هي موجوده أيضاً في هولندا وعدد من الدول الأخرى.
·هيئة الإعجاز : هل تنتقل العدوى بهذه الجرثومة من جراء تناول قطعة معينة من لحم الخنزير فقط أم أنه يحمل عدوى في كل أجزائه ؟
·الدكتور جون لارسن : جوابي أنها توجد في لسان الخنزير ، ولكن من يأكل لسان الخنزير ؟؟ ثم كيف يباع وكيف يستعمل ؟ من الواضح أن اللسان لا يباع بكثرة في المحلات على هيئته ولكن يدخل في صناعة بعض المنتجات التي نأكلها كوجبات باردة! ونستطيع أن نتصور ذلك بسهولة إذا علمنا أن أكثر من 14 : 13 مليون لسان خنزير سنوياً تدخل في أنتاج هذه الوجبات الباردة.
(3/187)
ولقد قمت بسؤال هيئة الأطباء البيطريين المشرفة على اتحاد مربي ومنتجي اللحوم الدانماركية عن لسان الخنزير ، وأين يستعمل وفي ماذا ؟ ولكن لم أحصل على الجواب الكافي مع الأسف! وأنا أستطيع أن أعطي الإجابة الواضحة إن توفرت لدي الإمكانيات المساعدة على الاستمرار في البحث في مواجهة اتحاد مربي ومنتجي اللحوم الدانماركية القوي ، وإني لأقف وحدي في الواجه ، وحتى كثير من الزملاء من الأطباء يقفون ضدي ، مع أنني في واقع الأمر لم آت بشيء جديد ، غير أني قمت باكتشاف السبب لمرض موجود فعلاً. وأرى أن السبب الرئيسي في عدم اهتمام السلطات بالأمر هو اقتصادي أولاً وأخيراً حيث أن الدانمارك تعد من أكبر الدول المصدرة للحم الخنزير.
ويسعدني أني أرى في هذه الأيام نتيجة للجهود المتواصلة آثاراً طبية ومساعدات محفزة ، فهناك في فنلندا- على سبيل المثال- مجموعة مكثفة من العلماء بإمكانيات أفضل من عندنا ولديهم اتصالات أكبر للبحث عن دورة حياة هذا الميكروب ، وأنشط هذه المجموعات في مدينة (Turin) ، إذ عندهم معلومات وافية بخصوص دورة الميكروب المسبب للمرض.
·هيئة الإعجاز العلمي : هل توجد هذه البكتيريا في حيوانات أخرى غير الخنزير ؟
·الدكتور لارسن : وجدت هذه البكتيريا في الكلاب في بعض الحالات الخاصة التي اكتشفت وجودها بنفسي ، وبالنسبة لوجود حيوانات أخرى في البيئة تحمل نفس المرض الوبائي ، فأقول إنه لا يوجد حيوان يؤكل لحمه غير الخنزير يحمل هذه البكتريا ، فالماعز على سبيل المثال لم يثبت وجود هذا النوع من البكتيريا فيه.
وبعد أن شرح لنا الدكتور جون لارسن بعض الأمثلة الموضحة لحالات مختلفة وقعت في بعض الدول طرح عليه هذا السؤال :
هيئة الإعجاز : هل يحمل اللبن كذلك هذه البكتيريا المسببة لهذا المرض ؟
(3/188)
·الدكتور جون لارسن : أثبتت البحوث الأمريكية وجود هذه البكتريا في الماء وفي كثير من الأطعمة ، ولكن عندما يتناولها الإنسان فإنها ليست قوية بالدرجة التي في فم الخنزير ، لأن فم الخنزير فقط يعد بيئة صالحة لنموها.
·هيئة الإعجاز : يعالج الخنزير الدانماركي بالبنسيلين والمضادات الحيوية الكثيرة ومع ذلك يحمل هذه البكتيريا ، فهل هذا يعني أن الخنزير يحمل أمراضاً كثيرة غير ما ذكرت ؟
·الدكتور جون لارسن : لا نستطيع أن نقول إن الخنزير خال من الأمراض برغم أنه يعالج بالمضادات الحيوية الكثيرة ، وفي الإحصائيات الأخيرة ظهر لنا أيضاً وجود عدوى جديدة بالدودة الشرطية في الدانمارك والمعروف أن دورتها لا تتم إلا في الإنسان والخنزير!!
تعليق الهيئة : صدق الله القائل سبحانه في كتابة : {حُرّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَآ أُهِلّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدّيَةُ وَالنّطِيحَةُ وَمَآ أَكَلَ السّبُعُ إِلاّ مَا ذَكّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بِالأزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ..}( المائدة آية3).
الخنزير رجس مبنى ومعنى
تحريم لحم الخنزير
أورد النص القرآني تحريم لحم الخنزير في أربع مواضع : 1ـ قوله تعالى : (إنما حرم عليكم الميتة ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله ). البقرة /173
2ـ وقوله تعالى : (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ).المائدة 3
3ـ وقوله : ( قل لا أجد فيما أوحي إلي محرماً على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دماً مسفوحاً أو لحم خنزير ، فإنه رجس) الأنعام ـ 145
ـ وقوله : (إما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ن فمن اضطر غير باغ ولا عاد فإن الله غفور رحيم ). النحل 115.
(3/189)
يقول القرطبي : لا خلاف أن جملة الخنزير محرم إلا الشعر فإنه يجوز الخرازة به.
الأضرار الصحية لتناول لحم الخنزير
الفرق بين لحم الخنزير وغيره من اللحوم :
يحتوي لحم الخنزير على كمية كبيرة من الدهون ويمتاز باندحال الدهن ضمن الخلايا العضلية للحمه علاوة على تواجدها خارج الخلايا في الأنسجة الضامة بكثافة عالية ن في.
أهم حين أن لحوم الأنعام تكون الدهون فيها مفصولة عن النسيج العضلي ولا تتوضع خلاياه وإنما تتوضع خارج الخلايا وفي الأنسجة الضامة.
وقد أثبتت الدراسات العلمية أن الإنسان عندما يتناول دهون الحيوانات آكلة العشب فإن دهونها تستحلب في أمعائه وتمتص ، وتتحول في جسمه فأن استحلابها عسير في أمعائه وإن جزيئات الغليسرين الثلاثية لدهن الخنزير تمتص هي دون أي تحول وتترسب في أنسجة الإنسان كدهون حيوانية أو خنزيرية.
و الكلوسترول الناجم عن تحلل لحم الخنزير في البدن يظهر في الدم على شكل كولسترول جزئي كبير الذرة يؤدي بكثيرة إلى ارتفاع الضغط الدموي وإلى تصلب الشرايين وهما من عوامل الخطورة التي تمهد لاحتشاء العضلة القلبية.و قد وجد البروفسور roff أن الكولسترول المتواجد في خلايا السرطان الجوالة يشابه الكولسترول المتشكل عند تناول لحم الخنزير.
و لحم الخنزير غني بالمركبات الحاوية على نسب عالية من الكبريت وكلها تؤثر على قابلية امتصاص الأنسجة الضامة للماء كالإسفنج مكتسبة شكلاً كيسياً واسعاً وهذا يؤدي إلى تراكم المواد المخاطية في الأوتار والأربطة والغضاريف بين الفقرات ، وإلى تنكس في العظام.
و الأنسجة الحاوية على الكبريت تتخرب بالتعفن منتجة روائح كريهة فواحة لانطلاق غاز كبريت الهدروجين. وقد لوحظ أن الآنية الحاوية على لحم الخنزير ، على الرغم من أنها محكمة السد إلا أنه يتعين إخراجها من الغرفة بعد عدة أيام نظراً للروائح الكريهة النتنة وغير المحتملة الناجمة عنهاً.
(3/190)
و بالمقارنة فإن لحوماً أخرى مختلفة خضعت لنفس التجربة ، فإن لحم البقر كان أبطأ تعفنا من لحم الخنزير ولم تنطلق منه تلك الروائح النتنة ، ويحتوي لحم الخنزير على نسبة عالية من هرمون النمو والتي لها تأثير أكيد للتأهب للإصابة بخامة النهايات علاوة على تأثيره في زيادة نمو البطن (الكرش) وزيادة معدل النمو وخاصة نمو الأنسجة المهيئة للنمو والتطور السرطاني.و حسب دراسات roffo فإن تلك الوجبة الدسمة الحاوية على لحم الخنزير تعتبر الأساس في التحول السرطاني للخلايا لاحتوائها على هرمون النمو علاوة على أثرها في رفع كولسترول الدم.
الأمراض التي ينقلها الخنزير
لقد حرمت الشريعة الإسمية لحم الخنزير ، ونفذها المتدينون امتثالاً لأمر الله الخالق سبحانه وطاعة له دون أن يناقشوا العلة من التحريم ، لكن العلماء المحدثين توصلوا إلى نتائج مدهشة في هذا المجال : أليس من المدهش أن نعلم أن الخنزير مرتع خصب لأكثر من 450 مرضاً وبائياً ، وهو يقوم بدور الوسيط لنقل 57 منها إلى الإنسان ، عدا عن الأمراض التي يسببها أكل لحمه من عسرة هضم وتصلب للشرايين وسوها. والخنزير يختص بمفرده بنقل 27 مرضاً وبائياً إلى الإنسان وتشاركه بعض الحيوانات الأخرى في بقية الأمراض لكنه يبقى المخزن والمصدر الرئيسي لهذه الأمراض : منها الكلب الكاذب وداء وايل والحمى اليابانية والحمى المتوهجة والحميرة الخنزيرية والإلهاب السحائي وجائحات الكريب وأنفلونزا الخنزير وغيرها.
الميتة.. أولى الخبائث المحرمة
قال تعالى : (إنما حرم عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل به لغير الله فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه ). البقرة /173
حكمة التحريم
(3/191)
تنفذ الجراثيم إلى الميتة من الأمعاء والجلد والفتحات الطبيعية لكن الأمعاء هي المنفذ الأكثر مفعمة بالجراثيم ، لكنها أثناء الحياة تكون عرضة للبلعمة ولفعل الخمائر التي تحلها. أما بعد موت الحيوان فإنها تنمو وتحل خمائرها الأنسجة وتدخل جدر المعي ومنها تنفذ إلى الأوعية الدموية واللمفاوية.. أما الفم والأنف والعينين والشرج فتصل إليها الجراثيم عن طريق الهواء أو الحشرات والتي تضع بويضاتها عليها. أما الجلد فلا تدخل الجراثيم عبره إلا إذا كان متهتكاً كما في المتردية والنطيحة وما شابهها.
وإن احتباس دم الميتة ، كما ينقص من طيب اللحم ويفسد مذاقه فإنه يساعد على انتشار الجراثيم وتكاثرها فيه.
و كلما طالت المدة بعد هلاك الحيوان كان التعرض للضرر أشد عند أكل الميتة لأن تبدل لحمها وفسادها وتفسخه يكون أعظم ، إذ إنه بعد 3ـ4 ساعات من الموت يحدث ما يسمى بالمصل الجيفي (التيبس الرمي) حيث تتصلب العضلات لتكون أحماض فيها كحمض الفسفور
واللبن والفورميك ثم تعود القلوية للعضلات فيزول التيبس وذلك بتأثير التعفنات الناتجة عن التكاثر الجرثومي العفني التي تغزو الجثة بكاملها.
هذا وينشأ عن تفسخ وتحلل جثمان الميتة مركبات سامة ذات روائح كريهة ن كما أن الغازات الناتجة عن التفسخ تؤدي إلى انتفاخ الجثة خلال بضع ساعات ، وهي أسرع في الحيوانات آكلة العشب من إبل وضأن وبقر وغيرها كما تعطي بعض الجراثيم أثناء تكاثرها مواد ملونة تعطي اللحم منظراً غير طبيعي ولوناً إلى الأخضر أو السواد وقوامه ألين من اللحم العادي.
الميتة بمرض : قد تصاب البهائم بمرض جرثومي يمنع تناول لحمها ولو كانت مذكاة تكون الحرمة أشد فيما لو مات الحيوان بذلك المرض لانتشار الجراثيم في جثته عن طريق الدم المحتبس وتكاثرها بشدة وزيادة مفرزاتها السمية وأهم هذه الأمراض :
(3/192)
السل : كثير التصادف في البقر ثم الدواجن من الطيور وقليل في الضأن وتوصي كتب الطب بإحراق جثة الحيوان المصاب بالسل الرئوي وسل الباريتوان وكذا إذ وجدت الجراثيم في عشلات الحيوان أو عقده اللمفاوية.
الجمرة الخبيثة : الحيوان الذي يصاب بالجمرة يجب أن لا يمس ن وأن يحرق ويدفن حتى لا تنتشر جراثيمه وتنتقل العدوى إلى الحيوان وإلى البشر.
الميتة هرماً : كلما كبر سن الحيوان تصلبت وتليفت وأصبحت عسرة الهضم ، علاوة على احتباس الدم في الجثة الميتة مما يجعل لحمها أسرع تفسخاً.
الميتة إختناقاَ : الأختناق انعصار الحلق بما يسد مسالك الهواء. ومن علامات احتقان الملتحمة في عين الدابة ووجود نزوف تحتها وجحوظ العينين وزرقة الشفتين. ، ويؤكد علم الحة عدم صلاحية المنخنقة للأكل لفساد لحمها وتغير شكله إذ يصبح لونه أحمر قاتما ً.
الميتة دهساً أو رضاً : وهي انواع أشار إليها القرآن الكريم بقوله : (والموقوذة والمتردية والنطيحة) أما ما أكل السبع ، فقد يميتها رضاً أو خنقاً وكما ينجس الدم في جثتها ، علاوة على أن الرضوض تجعل الدم ينتشر تحت وداخل اللحم والأنسجة المرضوضة ، لذا يسود لون اللحم ويصبح لزجاً كريه الرائحة غير صالح للأكل. ويزيد الطين بلة انتشار الجراثيم من خلال السحجات والأنسجة المتهالكة ن فتنتشر بسرعة خلال اللحم المرضوض وتتكاثر فيه بسرعة وتعجل تحلله وفساده.
أ هـ {روائع الطب الإسلامى}
قوله تعالى {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى : (3/193)
ولما كان في بيان هذه المحرمات الإشارة إلى عيب من استحلها من العرب وترك ما أمر به من الطيبات جهلاً وتقليداً تلاها بتكرير عيب الكاتمين لما عندهم من الحق مما أنزل في كتابهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم وأمر الحج وأمر القبلة وغيرها مما يصدق هذا الكتاب الذي لا ريب فيه خوفاً على انقطاع ما كان يهدي إليهم لرئاستهم من دينهم على وجه عائب لهم لاستحلالهم أكل السحت على علم مبين أنهم استحقوا الذم من وجهين : أحدهما نفس الأكل على هذا الوجه المؤدي إلى الإعراض عن الطيبات والموافقة للعرب ، الثاني كونه على كتمان ما يعلمون من الحق فقال : {إن الذين يكتمون} مؤكداً لذمهم بأنواع التأكيد ، ولقد بدع إيلاؤه لصفتي المغفرة والرحمة كما ختم آية الكتمان الأولى بوصفي التوبة والرحمة ، فكان مع ما فيه من الترغيب من قبيل الاحتراس أي إنه إعانة لا يغفر لمثل هؤلاء إلا أن اتصفوا بما أشارت إليه الآية الأولى من التوبة. قوله : {ما أنزل الله} بإسناد الإنزال إلى اسمه الأعظم لإحاطة الكتاب بمختلفات الأحكام {من الكتاب} أي من حدوده وأحكامه وغير ذلك مما أشارت إليه الآية الأولى بالبينات والهدى من الحكم والأحكام.
ولما كان من الكتم ما يكون لقصد خير ، فكم من كلمة حق أريد بها باطل! قيده بقوله : {ويشترون به ثمناً} قال الحرالي : والثمن ما لا ينتفع بعينه حتى يصرف إلى غيره من الأعواض ، فالإيعاد على ما يتضمن جهل الكاتم وحرصه باستكسابه بالعلم وإجرائه في غير ما أجراه الله تعالى على ألسنة أنبيائه {وما أسألكم عليه من أجر }
[ الشعراء : 109] ولما كان كل ما لم يثبت من خير الدنيا في الآخرة وإن جل حقيراً قال : {قليلاً} هذا المراد لا تقييده بالقليل.
(3/194)
ولما كانوا قد بعدوا عن مواطن الرحمة ببخلهم بما لا ينقصه الإنفاق أشار إليهم بأداة البعد فقال : {أولئك} وفي خطاب النبي صلى الله عليه وسلم به إشعار بوقوع ذلك من طائفة من أمته حرصاً على الدنيا {ما يأكلون} أي في هذه الحال على ما دلت عليه ما. ولما كان الأكل يطلق على مجرد الإفساد حقق معناه بقوله : {في بطونهم} جمع بطن وهو فضاء جوف الشيء الأجوف لغيبته عن ظاهره الذي هو ظهر ذلك البطن {إلا النار} كما أحاط علمه سبحانه وتعالى بالغيب إن ذلك على الحقيقة وبصره لعيون أهل الكشف الذين يرون العواقب في الأوائل والغيب في الشهادة ، وفي ذكره بصيغة الحصر نفي لتأويل المتأول بكونه سبباً وصرف له إلى وجه التحقيق الذي يناله الكشف ويقصر عنه الحس ، فكانوا في ذلك كالحذر الذي يجعل يده في الماء الحار ولا يحس به فيشعر ذلك بموت حواس هؤلاء عن حال ما تناولوه.
ولما قدم الوعيد في الثمن لكونه الحامل على الكتم أتبعه وعيد نفس الكتم فقال : {ولا يكلمهم الله} أي الملك الأعظم الذي من كلمه أقبل كل شيء عليه كلاماً يدل على مرضى لكونهم لم يكلموا الناس بما كتب عليهم وقال : {يوم القيامة} تأكيداً لما أشارت إليه ما من أن المراد بالذي قبله الحال {ولا يزكيهم} أي يطهرهم من دنس الذنوب أو يثنى عليهم أو ينمي أعمالهم بما يحصل لهم من الميثاق في يوم التلاق كما يزكي بذلك من يشاء من عبادة لأنهم كتموا عن العباد ما يزكيهم وفي هذا تعظيم لذنب كتموا العلم {ولهم} مع هذا العذاب {عذاب أليم} لما أوقعوا فيه الناس من التعب بكتمهم عنهم ما يقيمهم على المحجة السهلة. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 319 ـ 321}
وقال الشيخ ابن عاشور فى مناسبة الآية لما قبلها : (3/195)
عود إلى محاجَّة أهل الكتاب لاَحِقٌ بقوله تعالى : {إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى} [البقرة : 159] بمناسبة قوله : {إنما حرم عليكم الميتة والدم} [البقرة : 173] تحذيراً للمسلمين مما أحدثه اليهود في دينهم من تحريم بعض ما أحل الله لهم وتحليل بعض ما حرم الله عليهم ؛ لأنهم كانوا إذا أرادوا التوسيع والتضييق تركوا أن يَقْرؤا من كتابهم ما غَيَّروا العمل بأحكامه كما قال تعالى : {تجعلونه قراطيس تبدونها وتخفون كثيراً} [الأنعام : 91] كما فعلوا في ترك قراءة حكم رجم الزاني في التوراة حين دعا النبي صلى الله عليه وسلم أحد اليهود ليقرأ ذلك الحكم من التوراة فوضع اليهودي يده على الكلام الوارد في ذلك كما أخرجه البخاري في كتاب الحدود ، ولجريانه على مناسبة إباحة ما أبيح من المأكولات جاء قوله هنا {أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار} لقصد المشاكلة.
وفي هذا تهيئة للتخلص إلى ابتداء شرائع الإسلام ؛ فإن هذا الكلام فيه إبطال لما شرعه أهل الكتاب في دينهم فكون التخلص ملوناً بلوني الغَرض السابق والغرض اللاحق. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 122}
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في رؤساء اليهود ؛ كعب بن الأشرف ، وكعب بن أسد ، ومالك بن الصيف ، وحيي بن أخطب ، وأبي ياسر بن أخطب ، كانوا يأخذون من أتباعهم الهدايا ، فلما بعث محمد عليه السلام خافوا انقطاع تلك المنافع ، فكتموا أمر محمد عليه السلام وأمر شرائعه فنزلت هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 23}(3/196)
اختلفوا في أنهم أي شيء كانوا يكتمون ؟ فقيل : كانوا يكتمون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته والبشارة به ، وهو قول ابن عباس وقتادة والسدي والأصم وأبي مسلم ، وقال الحسن : كتموا الأحكام وهو قوله تعالى : {إِنَّ كَثِيراً مّنَ الأحبار والرهبان لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} [التوبة : 34 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 23}
اختلفوا في كيفية الكتمان ، فالمروى عن ابن عباس : أنهم كانوا محرفين يحرفون التوراة والإنجيل ، وعند المتكلمين هذا ممتنع ، لأنهما كانا كتابين بلغا في الشهرة والتواتر إلى حيث يتعذر ذلك فيهما ، بل كانوا يكتمون التأويل ، لأنه قد كان فيهم من يعرف الآيات الدالة على نبوة محمد عليه السلام ، وكانوا يذكرون لها تأويلات باطلة ، ويصرفونها عن محاملها الصحيحة الدالة على نبوة محمد عليه السلام ، فهذا هو المراد من الكتمان ، فيصير المعنى : إن الذين يكتمون معاني ما أنزل الله من الكتاب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 23}
قال العلامة ابن كثير : (3/197)
يقول تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ} [مما يشهد له بالرسالة] {مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ} يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتبهم التي بأيديهم ، مما تشهد له بالرسالة والنبوة ، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم إياهم ، فخشوا -لعنهم الله -إن أظهروا ذلك أن يَتَّبعه الناس ويتركوهم ، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك ، وهو نزرٌ يسير ، فباعوا أنفسهم بذلك ، واعتاضوا عن الهدى واتباع الحق وتصديق الرسول والإيمان بما جاء عن الله بذلك النزر اليسير ، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة ؛ أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صِدْقَ رسوله ، بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات ، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه ، وصاروا عونًا له على قتالهم ، وباؤوا بغضب على غضب ، وذمهم الله في كتابه في غير موضع. من ذلك هذه الآية الكريمة : {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنزلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلا} وهو عرض الحياة الدنيا {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلا النَّارَ} أي : إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق نارا تأجج في بطونهم يوم القيامة. كما قال تعالى : {إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا} [النساء : 10] وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : "الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة ، إنما يُجَرْجرُ في بطنه نار جهنم".
أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 484}
فائدة فى قوله تعالى
{إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً..}.
(3/198)
قال ابن عرفة : عطفه بالواو مع أن الشراء مسبوق عن الكتم فهلا عطف بالفاء ؟
وأجاب عن ذلك بأن المراد الذمّ على كل وصف منهما لا على واحد فقط. وجعل الثمن مشترى فإما أن يتجوز في لفظ " يَشْتَرُونَ " فيجعل بمعنى يبيعون أو في لفظ " ثمنا " بمعنى مثمون قليلا ؟
وهذا إن حملنا اللّفظ على حقيقته اللّغوية فنقول يصح : إطلاق الثمن على المشترى وعلى عوضه وإن نظرنا الاصطلاح فيجيء ما قلناه.
قيل لابن عرفة : ظاهره منع أخذ الأجرة على تعليم القرآن لأنه من كتم ما أنزل الله ؟
فقال ابن عرفة : أباح له أخذ الأجرة عليه كما أباح له ثمن الماء لأجل المشقة ، (وكما) أباح له أخذ ثمن الطّعام في الأعوام التي هي مسبغة مع أنه يجب عليه إعطاؤه والواجب إنما هو تعليمه وإعطاؤه ما عنده سواء كان بالثمن أو بغيره وليس الواجب عليه بذل ما عنده بلا ثمن وهذه أمور جعلية لا عقلية. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 218}
قوله تعالى {وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا}
سؤال : لم سماه قليلاً ؟
إنما سماه قليلاً إما لأنه في نفسه قليل ، وإما لأنه بالإضافة إلى ما فيه من الضرر العظيم قليل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 23}
قوله تعالى {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ}
سؤال : لم جيء باسم الإشارة فى قوله تعالى : {أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار} ؟
الجواب : جيء باسم الإشارة لإشهارهم لئلا يخفى أمرهم على الناس وللتنبيه على أن ما يخبر به عن اسم الإشارة استحقوه بسبب ما ذكر قبلَ اسم الإشارة ، كما تقدم في قوله تعالى : {أولئك على هدى من ربهم} [البقرة : 5] ، وهو تأكيد للسببية المدْلول عليها بالموصول.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 121 ـ }
سؤال : (3/199)
قال بعضهم : ذكر البطن ههنا زيادة بيان لأنه يقال أكل فلان المال إذا بدره وأفسده وقال آخرون : بل فيه فائدة فقوله : {فِي بُطُونِهِمْ} أي ملء بطونهم يقال : أكل فلان في بطنه وأكل في بعض بطنه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 24}
سؤال : ما وجه الجمع بين قوله تعالى : {أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار...}.
قال تعالى في سورة الغاشية {لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ} ؟
وأجاب ابن عرفة : بأن الضريع طعامهم ولا يأكلون منه وإنما تكون المعارضة إن لو قيل ليس لهم أكل (إلا) الضريع أو يكون باختلاف الحالات في الأوقات (أو يكون) الضريع نارا فأكلهم للضريع أكل للنار ، والأكل المضغ فهو في الفم لا في البطن لكن روعي السبب. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 218}
قوله تعالى {أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}
قال الفخر : (3/200)
قيل : إن أكلهم في الدنيا وإن كان طيباً في الحال فعاقبته النار فوصف بذلك كقوله : {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِى بُطُونِهِمْ نَاراً} [النساء : 10] عن الحسن والربيع وجماعة من أهل العلم ، وذلك لأنه لما أكل ما يوجب النار فكأنه أكل النار ، كما روي في حديث آخر " الشارب من آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم " وقوله : {إِنّى أَرَانِى أَعْصِرُ خَمْرًا} [يوسف : 36] أي عنباً فسماه باسم ما يؤول إليه وقيل : إنهم في الآخرة يأكلون النار لأكلهم في الدنيا الحرام عن الأصم وثانيها : قوله تعالى : {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله} فظاهره : أنه لا يكلمهم أصلا لكنه لما أورده مورد الوعيد فهم منه ما يجري مجرى العقوبة لهم ، وذكروا فيه ثلاثة أوجه الأول : أنه قد دلت الدلائل على أنه سبحانه وتعالى يكلمهم ، وذلك قوله : {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [الحجر : 92 93] وقوله : {فَلَنَسْئَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْئَلَنَّ المرسلين} [الأعراف : 6] فعرفنا أنه يسأل كل واحد من المكلفين ، والسؤال لا يكون إلا بكلام فقالوا : وجب أن يكون المراد من الآية أنه تعالى لا يكلمهم بتحية وسلام وإنما يكلمهم بما يعظم عنده من الغم والحسرة من المناقشة والمساءلة وبقوله : {اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلّمُونِ} [المؤمنون : 108] الثاني : أنه تعالى لا يكلمهم وأما قوله تعالى : {فَوَرَبّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [الحجر : 92] فالسؤال إنما يكون من الملائكة بأمره تعالى وإنما كان عدم تكليمهم يوم القيامة مذكوراً في معرض التهديد لأن يوم القيامة هو اليوم الذي يكلم الله تعالى فيه كل الخلائق بلا واسطة فيظهر عند كلامه السرور في أوليائه ، وضده في أعدائه ، ويتميز أهل الجنة بذلك من أهل النار فلا جرم كان ذلك من أعظم الوعيد
(3/201)
الثالث : أن قوله : {وَلاَ يُكَلّمُهُمُ} استعارة عن الغضب لأن عادة الملوك أنهم عند الغضب يعرضون عن المغضوب عليه ولا يكلمونه كما أنهم عند الرضا يقبلون عليه بالوجه والحديث وثالثها : قوله : {وَلاَ يُزَكّيهِمْ} وفيه وجوه الأول : لا ينسبهم إلى التزكية ولا يثني عليهم الثاني : لا يقبل أعمالهم كما يقبل أعمال الأزكياء الثالث : لا ينزلهم منازل الأزكياء ورابعها : قوله : {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} واعلم أن الفعيل قد يكون بمعنى الفاعل كالسميع بمعنى السامع والعليم بمعنى العالم ، وقد يكون بمعنى المفعول كالجريح والقتيل بمعنى المجروح والمقتول ، وقد يكون بمعنى المفعل كالبصير بمعنى المبصر والأليم بمعنى المؤلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 24}
كلام نفيس للعلامة ابن عاشور فى هذا الموضع :
وفعل {يأكلون} مستعار لأخذ الرُّشَا المعبر عنها بالثمن والظاهر أنه مستعمل في زمان الحال ، أي ما يأكلون وقت كتمانهم واشترائهم إلاّ النارَ لأنه الأصل في المضارع.
والأكل مستعار للانتفاع مع الإخفاء ، لأن الأكل انتفاع بالطعام وتغييب له فهو خفي لا يَظهر كحال الرشوة ، ولما لم يكن لآكل الرشوة على كتمان الأحكام أكْلُ نار تعين أن في الكلام مجازاً ، فقيل هو مجاز عقلي في تعلق الأكل بالنار وليست هي له وإنما له سببها أعني الرشوة ، قال التفتازاني : وهو الذي يوهمه ظاهر كلام "الكشاف" لكنه صرح أخيراً بغيره ، وقيل هو مجاز في الطَّرَف بأن أطلق لفظ النار على الرشوة إطْلاقاً للاسم على سببه قال التفتازاني : وهو الذي صرح به في "الكشاف" ونظَّره بقول الأعرابي يوبخ امرأته وكان يَقْلاَها : ... أَكَلْتُ دَماً إنْ لم أَرُعْككِ بِضَرَّةٍ(3/202)
بعيدةٍ مَهْوَى القُرْطِ طيبةِ النَّشْر... أراد الحلف بطريقة الدعاء على نفسه أن يأكل دماً أي دية دَممٍ فقد تضمن الدعاءَ على نفسه بقتل أحد أقاربه وبذهاب مروءته ، لأنهم كانوا يتعيرون بأخذ الديَة عن القتيل ولا يرضون إلاّ بالقَوَد.
واختار عبد الحكيم أنه استعارة تمثيلية شبهت الهيئة الحاصلة من أكلهم الرُّشا بالهيئة المنتزعة من أكلهم النار وأطلق المركب الدال على الهيئة المشبه بها على الهيئة المشبهة.
قلت : ولا يضر كون الهيئة المشبه بها غيرَ محسوسة لأنها هيئة متخيلة كقوله : (أعلامُ ياقوْت نشرن على رماححٍ من زبرجد) فالمركب الذي من شأنه أن يدل على الهيئة المشبهة أن يقال : أولئك ما يأخذون إلاّ أخذاً فظيعاً مُهلكاً فإن تناولها كتناول النار للأكل فإنه كلَّه هلاك من وقت تناولها باليد إلى حصولها في البطن ، ووجه كون الرشوة مهلكة أن فيها اضمحلال أمر الأمة وذهاب حرمة العلماء والدين فتكون هذه الاستعارة بمنزلة قوله تعالى : {وكنتم على شفا حفرة من النار فأنقذكم منها} [آل عمران : 103] أي على وشك الهَلاك والاضمحلال.
والذي يدعو إلى المصير للتمثيلية هو قوله تعالى : {في بطونهم} فإن الرشوة لا تؤكل في البطن فيتعين أن يكون المركب كله استعارة ، ولو جعلت الاستعارة في خصوص لفظ النار لكان قوله : {يأكلون في بطونهم} مستعملاً في المركب الحقيقي ، وهو لا يصح ، ولولا قوله {في بطونهم} لأمكن أن يقال : إنَّ {يأكلون} هنا مستعمل حقيقة عرفية في غصب الحق ونحو ذلك.
وجوزوا أن يكون قوله : {يأكلون} مستقبلاً ، أي ما سيأكلون إلاّ النار على أنه تهديد ووعيد بعذاب الآخرة ، وهو وجيه ، ونكتة استعارة الأكل هنا إلى اصطلائهم بنار جهنم هي مشاكلة تقديرية لقوله : {يشترون به ثمناً قليلاً} فإن المراد بالثمن هنا الرشوة ، وقد شاع تسمية أخذ الرشوة أكلاً.
(3/203)
وقوله : {ولا يكلمهم الله} نفي للكلام والمراد به لازم معناه وهو الكناية عن الغضب ، فالمراد نفي كلام التكريم ، فلا ينافي قوله تعالى : {فوربك لنسألنهم أجمعين عما كانوا يعملون} [الحجر : 93].
وقوله : {ولا يزكيهم} أي لا يُثني عليهم في ذلك المجمع ، وذلك إشعار لهم بأنهم صائرون إلى العذاب ؛ لأنه إذا نفيت التزكية أعقبها الذم والتوبيخ ، فهو كناية عن ذمهم في ذلك الجمع إذ ليس يومئذٍ سكوت. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 121 ـ 122}
فائدة
قال الفخر :
اعلم أن هذه الآية مشتملة على مسائل :
المسألة الأولى : أن علماء الأصول قالوا : العقاب هو المضرة الخالصة المقرونة بالإهانة فقوله : {وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يُزَكّيهِمْ} إشارة إلى الإهانة والاستخفاف ، وقوله : {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} إشارة إلى المضرة وقدم الإهانة على المضرة تنبيهاً على أن الإهانة أشق وأصعب.
المسألة الثانية : دلت الآية على تحريم الكتمان لكل علم في باب الدين يجب إظهاره.
المسألة الثالثة : العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فالآية وإن نزلت في اليهود لكنها عامة في حق كل من كتم شيئاً من باب الدين يجب إظهاره فتصلح لأن يتمسك بها القاطعون بوعيد أصحاب الكبائر والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 25}
فائدة
قال فى روح البيان :
اعلم أن فى هذه الآيات وعيدا عظيما لكل من يكتم الحق لغرض فاسد دنيوى فليحذروا أى العلماء أن يكتموا الحق وهم يعلمون وإنما يكتمونه عن الملوك والأمراء والوزراء وأرباب الدنيا(3/204)
إما خوفا من اتضاع مرتبتهم ونقصان قدرهم عندهم وإما طموحا إلى إحسانهم أو لأنهم شركاؤهم فى بعض أحوالهم من حب الدنيا وجمعها والحرص فى طلبها أو طلب مناصبها وحب رياستها أو بالتنعم فى المأكول والمشروب والملبوس والمركوب والمسكن والأوانى وآلات البيت والأمتعة والزينة فى كل شىء والخدم والخيول وغير ذلك ، فعند ذلك يداهنون ويأكلون ثمنا قليلا ولا يأكلون إلا نار الحرص والشهوة والحسد التى تطلع على الأفئدة وتأكل الحسنات كما تأكل النار الحطب
واعلم أن فى كل عمل وفعل وقول يصدر من العبد على خلاف الشرع شررا يجتنى من نار السعير فتحصل فى قلب العبد تلك النار فى الحال وفى التى تصدر من العبد على وفق الشرع شررا يجتنى من نار المحبة فتظهر فى القلب فتحرق كل محبوب غير الله فى قلب كما أن نار السعير تحرق فى القلب الحسنات والأخلاق الحميدة فيأكلون نارا فى الحال وإنما قال ما يأكلون فى بطونهم إلا النار ؛ لأن فسادهم كان فى باطل فكان عذابهم فى البطون ، وإنما لا يكلمهم الله يوم القيامة لأنهم كتموا كلام الله فى الدنيا ولا تكلموه بالصدق فكان جزاء سيئة سيئة مثلها وإنما لا يزكيهم لأن تزكية النفس للإنسان مقدرة من الإيمان والأعمال الصالحة بصدق النية من تهذيب الأخلاق بآداب الشرع فأولئك المداهنون من العلماء هم الذين اشتروا حب الدنيا بهدى إظهار الحق وآثروا الخلق على الحق والمداهنة على أفضل الجهاد قال ـ عليه السلام ـ " إن أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر " وإنما كانت أفضل لأن الجهاد بالحجة والبرهان جهاد أكبر بخلاف الجهاد بالسيف والسنان فإنه جهاد أصغر ومدار كتمان الحق حب الدنيا وحبها رأس كل خطيئة.(3/205)
قال الحسن إن الزبانية إلى فسقة حملة القرآن أسرع منهم عبدة الأوثان فيقولون ربنا ما بالنا يتقدمون إلينا فيقول الله ليس من يعلم كمن لا يعلم فمن اشترى الدنيا بالدين فقد وقع فى خسران مبين وكان دائما فى منازعة الشيطان ، كما حكى أن رجلا قال للشيخ أبى مدين :
ما يريد منا الشيطان ـ شكاية منه ـ ؟
فقال الشيخ : إنه جاء قبلك وشكا منك وقال أعلم أنه سيشكونى ولكن الله ملكنى الدنيا فمن نازعنى فى ملكى لا أتسلى بدون إيمانه فمن كف يده عن الدنيا وزينتها فقد استراح من تعبها ومحنتها. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 348 ـ 349}
فائدة
قوله تعالى {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب ويشترون به ثمنا قليلا أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار ولا يكلمهم الله يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم} 174 الآية في السورة على هذا النسق وفي آل عمران {أولئك لا خلاق لهم في الآخرة ولا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم}
لأن المنكر في هذه السورة أكثر فالمتوعد فيها أكثر ، وإن شئت قلت زاد في آل عمران {ولا ينظر إليهم} في مقابلة {ما يأكلون في بطونهم إلا النار}. أ هـ {أسرار التكرار فى القرآن صـ 40}
قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذكر جزاءهم أتبعه ترجمة حالهم مؤكداً لبعدهم فقال : {أولئك الذين اشتروا} أي لجاجاً وتمادياً في الغي {الضلالة} عن طريق الخير {بالهدى} ولما ذكر حالهم في الدنيا أتبعه أمر الآخرة فقال : {والعذاب} بارتكابهم هذه الموبقة {بالمغفرة} التي كانت تنجيهم إذا محت صغائرهم لو سلموا من هذه العضلة التي كانت سبباً لضلال خلق كثير فكان عليهم وزرهم. ولما جعل سبحانه وتعالى أول مأكلهم ناراً وآخر أمرهم عذاباً وترجمة حالهم عدم المغفرة فكان بذلك أيضاً أوسط حالهم ناراً سبب عنه التعجيب من أمرهم بحبسهم أنفسهم في ذلك الذي هو معنى الصبر لالتباسهم بالنار حقيقة أو بموجباتها من غير مبالاة فقال : {فما أصبرهم} أي ما أشد حبسهم أنفسهم أو ما أجرأهم {على النار} التي أكلوها في الدنيا فأحسوا بها في الأخرى - ذكر كثيراً من ذلك الحرالي غير أني تصرفت فيه ؛ وإذا جعلته مجازاً كان مثل قولك لمن عاند السلطان : ما أصبرك على السجن الطويل والقيد الثقيل! تهديداً له. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 321}
قال الفخر :(3/206)
اعلم أنه تعالى لما وصف علماء اليهود بكتمان الحق وعظم في الوعيد عليه ، وصف ذلك الجرم ليعلم أن ذلك العقاب إنما عظم لهذا الجرم العظيم ، واعلم أن الفعل إما أن يعتبر حاله في الدنيا أو في الآخرة ، أما في الدنيا فأحسن الأشياء الاهتداء والعلم وأقبح الأشياء الضلال والجهل فلما تركوا الهدى والعلم في الدنيا ، ورضوا بالضلال والجهل ، فلا شك أنهم في نهاية الخيانة في الدنيا ، وأما في الآخرة فأحسن الأشياء المغفرة ، وأخسرها العذاب ، فلما تركوا المغفرة ورضوا بالعذاب ، فلا شك أنهم في نهاية الخسارة في الآخرة وإذا كانت صفتهم على ما ذكرناه ، كانوا لا محالة أعظم الناس خساراً في الدنيا وفي الآخرة ، وإنما حكم تعالى عليهم بأنهم اشتروا العذاب بالمغفرة ، لأنهم لما كانوا عالمين بما هو الحق ، وكانوا عالمين بأن في إظهاره وإزالة الشبهة عنه أعظم الثواب ، وفي إخفائه وإلقاء الشبهة فيه أعظم العقاب ، فلما أقدموا على إخفاء ذلك الحق كانوا بائعين للمغفرة بالعذاب لا محالة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 25}
قوله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى}
إن جعلت {أولئك} مبتدأً ثانياً لجملة هي خبر ثان عن المبتدأ الأول وهو اسم {إن} في قوله : {إن الذين يكتمون ما أنزل الله من الكتاب} [البقرة : 174] فالقول فيه كالقول في نظيره وهو {أولئك ما يأكلون في بطونهم إلا النار} [البقرة : 174] ونكتة تكريره أنه للتنبيه على أن المشار إليه جدير بأحكام أخرى غير الحكم السابق وأن تلك الأحكام لأهميتها ينبغي ألا تجعل معطوفة تابعة للحكم الأول بل تفرد بالحكمية.(3/207)
وإن جعلته مبتدأ مستقلاً مع جملته فالجملة مستأنفة استئنافاً بيانياً لبيان سبب انغماسهم في عذاب النار ؛ لأنه وعيد عظيم جداً يستوجب أن يسأل عنه السائل فيبين بأنهم أخذوا الضلال ونبذوا الهدى واختاروا العذاب ونبذوا المغفرة ، ومجيء المسند إليه حينئذٍ اسم إشارة لتفظيع حالهم ؛ لأنه يشير لهم بوصفهم السابق وهو كتمان ما أنزل الله من الكتاب.
ومعنى اشتراء الضلالة بالهدى في كتمان الكتاب أن كل آية أخفوها أو أفسدوها بالتأويل فقد ارتفع مدلولها المقصود منها وإذا ارتفع مدلولها نسي العمل بها فأقدم الناس على ما حذرتهم منه ، ففي كتمانهم حق رُفع وباطل وُضع.
ومعنى اشتراء العذاب بالمغفرة أنهم فعلوا ذلك الكتمان عن عمد وعلم بسوء عاقبته ، فهم قد رضوا بالعذاب وإضاعة المغفرة فكأنهم استبدلوا بالمغفرة العذاب. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 124 ـ 125}
وقال أبو حيان :
وفي لفظ اشتروا إشعار بإيثارهم الضلالة والعذاب ، لأن الإنسان لا يشتري إلا ما كان له فيه رغبة ومودة. واختيار وذلك يدل على نهاية الخسارة ، وعدم النظر في العواقب. أ هـ {البحر المحيط حـ 1 صـ 668}
قوله تعالى {والعذاب بالمغفرة}
سؤال : لم أفردت المغفرة ؟
قال ابن عرفة : وإنما أفردت المغفرة (إشارة) إلى أن مغفرة واحدة (تكفي) في رفع العذاب وإن تعدد ، وهذا دليل على أن التوبة من الكفر قطعية القبول وأنّها تَجُبّ ما قبلها ، قال الله تعالى : {قُل لِّلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ يُغْفَرْ لَهُمْ مَّا قَدْ سَلَفَ} قوله تعالى : {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار}. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 219}
قولُهُ {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار} في " ما " هذه خمسةُ أقْوالٍ :
أحدها : وهو قول سيبويه ، والجُمهُور : أَنَّها نكرةُ تامَّةُ غير موصُولة ، ولا موصوفةٍ ، وَأَنَّ معناها التعجُّب ، فإذَا قُلْتَ : " مَا أَحْسَنَ زَيْداً " ، فمعناهُ : شيءٌ صَيَّرَ زَيْداً حَسَناً.(3/208)
الثاني : قولُ الفراء - رحمه الله تعالى - أَنَّهَا استفهاميَّةٌ صَحِبَها معنى التعجُّب ؛ نحو " كَيْف تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ ".
قال عطَاءٌ ، والسُّدِّيُّ : هو " ما " الاستفهام ، معناه : ما الَّذي صَبَّرهم على النَّار ؟ وأيُّ شيء صَبَّرهم على النَّار ؛ حتى تَرَكوا الحَقَّ ، واتبعوا البَاطِلَ.
قال الحَسَن ، وقَتادة : " والله ما لهم عَلَيْها من صَبْر ، ولكنْ ما أجرأهم على العمل الَّذي يقرِّبهم إلى النار " وهي لغة يَمَنية معروفةٌ.
قال الفراء : أخبرني الكسائيُّ قال : أخبرني قاضي " اليَمَنِ " أَنَّ خَصْمَينِ اخْتَصَمَا إلَيْهِ فوجَبَتِ اليمينُ على أحدهِمَا ، فحلَفَ ، فَقَالَ لَهُ صَاحِبُهُك ما أصْبَرَكَ عَلَى اللَّهِ ؟ أي : ما أجرأك عليه.
وحكي الزَّجَّاجُّ : ما أبقاهُمْ على النَّار ، من قولِهِم : " مَا أَصْبَرَ فُلاَناً على الحَبْس " ، أي : ما أبقاهُ فيه.
والثالث : ويُعْزَى له أيضاً : أنها نكرةٌ موصوفةٌ وهي على الأقوال الأربعة في مَحَلِّ رفع بالابتداءِ ، وخبرها على القَوْلين الأولَيْن : الجملةُ الفعليَّة بعدَها ، وعلى قوْلي الأخْفَش] : يكون الخبر مَحذوفاً فإنَّ الجملة بعدها إما أن تكون صلةً ، أو صفةً وكذلك اختلفُوا في أفْعَل الواقع بعدها ، أهو اسمٌ ؟ وهو قول الكوفيِّن ، أم فعل ؟ وهو الصحيحُ ، ويترتَّب على هذا الخلاَفِ خلافٌ في نصْب الاسْمِ بعده ، هَلْ هو مفعولٌ به ، أو مشبَّهة بالمعفول به ، ولكلٍّ مِنَ المذْهَبَين دلائلُ ، واعتراضات وأجوبةٌ ليس هذا موضعها.
والمراد بالتعجُّب هنا ، وفي سائر القُرْآن : الإعلامُ بحالهم ؛ إنَّها ينبغي أنْ يتعجَّب منها ، إلا فالتعجب مستحيلٌ في حقِّه تعالى ، ومعنى عَلَى النَّارِ ، أي : على عمل أهْل النار ، قاله الكِسَائيُّ ، وهذا من مجاز الكَلاَمِ.(3/209)
الخامس : أنَّها نافيةٌ ، أَي : {فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار }. نقله أَبُو البقاء. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 187 ـ 188}
وقال العلامة ابن عاشور :
وقوله : {فما أصبرهم على النار} تعجيب من شدة صبرهم على عذاب النار ، ولما كان شأن التعجيب أن يكون ناشئاً عن مشاهدة صبرهم على العذاب وهذا الصبر غير حاصل في وقت نزول هاته الآية بني التعجيب على تنزيل غير الواقع منزلة الواقع لشدة استحضار السامع إياه بما وصف به من الصفات الماضية ، وهذا من طرق جعل المحقق الحصول في المستقبل بمنزلة الحاصل ، ومنه التعبير عن المستقبل بلفظ الماضي وتنزيل المتخيل منزلة المشاهد كقول زهير
: ... تَبَصَّر خليلي هلْ ترى من ظَعائن
تَحَملْنَ بالعَلْياءِ من فَوْققِ جُرْثَم... بعد أن ذكر أنه وقف بالدار بعد عشرين حجة ، وقول مالك بن الرَّيْب
: ... دَعاني الهَوى من أَهل ودِّي وجيرتي
بذي الطَّيِّسَيْن فالتفتُّ ورائيا... وقريب منه قوله تعالى : {كلا لو تعلمون علم اليقين ، لترون الجحيم} [التكاثر : 5 6] على جعل {لترون} جواب {لو}. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 125}
وقال ابن عرفة :
{فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار}.
( قال ابن عطية عن جماعة : أظهروا التعجب (من) صبرهم على النار لما عملوا عمل) (من وطّن نفسه عليها) أي ما أجرأهم على النّار. وحكى عن المقتضب للمبرد أنه تقرير واستفهام من قولك مصبور أي محبوس أي ما أشد حبسهم في النار أو ما أحبسهم في النار.
قال ابن عرفة : وهذا أصوب لأن الأول يقتضي أن لهم اختيارا وجلادة على الصبر على النّار وهذا مدح لهم بالقوة والجلادة.
والثاني يقتضي أن حبسهم فيها اضطرار ليس لهم فيه اختيار بوجه.
قيل لابن عرفة : إنّما التعجّب من أسباب صبرهم على النار ؟ (3/210)
فقال : أسباب الصبر (محبوبة) مستلذة ، لا يتعجب (منها) كما قال " حُفَّتِ الجَنَّةُ بِالمكَارِهِ وَحُفَّتِ النَّارُ بِالشَّهَوَاتِ ". أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 219 }
بحث في التعجب
وهو استعظام الشيء مع خفاء سبب حصول عظم ذلك الشيء فما لم يوجد المعنيان لا يحصل التعجب هذا هو الأصل ، ثم قد تستعمل لفظة التعجب عند مجرد الاستعظام من غير خفاء السبب أو من غير أن يكون للعظمة سبب حصول ، ولهذا أنكر شريح قراءة من قرأ {بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخُرُونَ} [الصافات : 12] بضم التاء من عجبت ، فإنه رأى أن خفاء شيء ما على الله محال قال النخعي : معنى التعجب في حق الله تعالى مجرد الاستعظام ، وإن كان في حق العباد لا بد مع الاستعظام من خفاء السبب كما أنه يجوز إضافة السخرية والاستهزاء والمكر إلى الله تعالى ، لا بالمعني الذي يضاف إلى العباد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 26}
قوله تعالى {ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما ذكر جزاءهم وشرح حالهم والتعجيب من أمرهم ذكر السبب الموجب لهذا الإبعاد العظيم والتهديد الكبير فقال : {ذلك} مشيراً بأداة البعد {بأن الله} فذكر الاسم الأعظم أيضاً الذي معناه أن له جميع صفات الكمال تعظيماً للمقام {نزّل الكتاب} أي الجامع لأنواع الهدى {بالحق} منجماً تقريباً للأفهام وتدريباً للخاص والعام ، وهو صالح لإرادة القرآن والتوراة أي الثابت الكامل في الثبات ، فمن كتمه فقد حاول نفي ما أثبته الله تعالى فقد ضاد الله في ملكه ، ومن خالف فيه وهو الذي لا شبهة تلحقه فقد عد الواضح ملبساً فقد أبعد المرمى.(3/211)
ولما كان التقدير : فاختلفوا ، أتبعه قوله : {وإن الذين اختلفوا} أي خالف بعضهم بعضاً {في الكتاب} نفسه أي لا في فهمه ، وهذه العبارة تدل على أن الاختلاف قول بعض في الكتاب كله أو في شيء منه هو باطل والإقرار ببعض أحكامه والإنكار لبعضها وتحريف الكلم عن مواضعه ونحو هذا {لفي شقاق} لكون كل واحد منهم في شق {بعيد} جداً عن شق أهل الحق ، ولذلك خاف الصحابة رضوان الله تعالى عليهم من اختلاف أهل هذا الدين في القرآن كما اختلف اليهود والنصارى فجمعوهم على مصحف واحد ، فليس الاختلاف في وجوه الروايات وأنحاء الفهم من ذلك ؛ وقد وقع كما ترى تنبيه المشركين من العرب بدون ما تضمنه تنبيه بني إسرائيل من التقريع والتوبيخ لفرقان ما بينهم ، لأن كفر المشركين عن جهل وكفر أولئك عن تعنت بعد تكرر مشاهدة الآيات ، ومن تدبر القرآن وطالع التوراة علم طول مكث موسى عليه الصلاة والسلام فيهم يتلو عليه التوراة على حسب تنزيلها شيئاً فشيئاً وأنهم كانوا مع ذلك كلما شاهدوا آية أحدثوا كفراً وخلعوا شكراً وسألوا غيرها عناداً ومكراً {وجعلنا قلوبهم قاسية} [المائدة : 13] وقد مر من أول السورة عن التوراة كثير من ذلك وسيأتي إن شاء الله تعالى بقيته في المواضع اللائقة به من آيات القرآن. وقال الإمام أبو جعفر بن الزبير : ومتى بين شيء في الكتاب العزيز من أحوال النصارى فليس على ما ورد من مثله في اليهود لما ذكر أي من أن كفرهم تعنت ، وخطاب مشركي العرب فيما أشير إليه دون خطاب الفريقين إذ قد تقدم لهم ما لم يتقدم للعرب وبشروا في كتبهم وليس لمشركي العرب مثل ذلك ؛ والزيغ عن الهدى شامل للكل وليسوا في شيء من الصراط المستقيم مع أن أسوأ الأحوال حال من أضله الله على علم ؛ وهنا انتهى ذكر ما حذر منه ونهى عنه من أراد سلوك الصراط المستقيم وبيان حال من حاد عنه وتنكبه وظن أنه على شيء وضم مفترق أصناف الزائغين في أصناف ثلاثة وهم اليهود والنصارى وأهل
(3/212)
الشرك ، وبهم يلحق سائر من تنكب فيلحق باليهود منافقو أمتنا ممن ارتاب بعد إظهار إيمانه وفعل أفاعيلهم من المكر والخديعة والاستهزاء ، ويلحق بالنصارى من اتصف بأحوالهم ، وبالمشركين من جعل لله سبحانه وتعالى نداً واعتقد فعلاً لغيره على غير طريقة الكسب.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 321 ـ 322}
سؤال : أين المشار إليه فى قوله {ذلك} ؟
الجواب : اختلفوا في أن قوله : {ذلك} إشارة إلى ماذا ؟ فذكروا وجهين :
الأول : أنه إشارة إلى ما تقدم من الوعيد ، لأنه تعالى لما حكم على الذين يكتمون البينات بالوعيد الشديد ، بين أن ذلك الوعيد على ذلك الكتمان إنما كان لأن الله نزل الكتاب بالحق في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، وأن هؤلاء اليهود والنصارى لأجل مشاقة الرسول يخفونه ويوقعون الشبهة فيه ، فلا جرم استحقوا ذلك الوعيد الشديد ، ثم قد تقدم في وعيدهم أمور : أحدها : أنهم اشتروا العذاب بالمغفرة وثانيها : اشتروا الضلالة بالهدى وثالثها : أن لهم عذاباً أليماً ورابعها : أن الله لا يزكيهم وخامسها : أن الله لا يكلمهم فقوله : {ذلك} يصلح أن يكون إشارة إلى كل واحد من هذه الأشياء ، وأن يكون إشارة إلى مجموعها.
الثاني : أن {ذلك} إشارة إلى ما يفعلونه من جراءتهم على الله في مخالفتهم أمر الله ، وكتمانهم ما أنزل الله تعالى ، فبين تعالى أن ذلك إنما هو من أجل أن الله نزل الكتاب بالحق ، وقد نزل فيه أن هؤلاء الرؤساء من أهل الكتاب لا يؤمنون ولا ينقادون ، ولا يكون منهم إلا الإصرار على الكفر ، كما قال : {إِنَّ الذين كَفَرُواْ سَوَاء عَلَيْهِمْ ءأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة : 6]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 29}
سؤال : ما المراد من الكتاب ؟ (3/213)
المراد من الكتاب يحتمل أن يكون هو التوراة والإنجيل المشتملين على بعث محمد صلى الله عليه وسلم ، ويحتمل أن يكون هو القرآن ، فإن كان الأول كان المعنى : وإن الذين اختلفوا في تأويله وتحريفه لفي شقاق بعيد ، وإن كان الثاني كان المعنى وإن الذين اختلفوا في كونه حقاً منزلاً من عند الله لفي شقاق بعيد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 29}
قوله تعالى {بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب }
{بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب} أي جنس الكتاب {بالحق} أي ملتبساً به فلا جرم أن يكون من يرفضه بالتكذيب والكتمان ويركب متنَ الجهل والغَواية مُبتلىً بمثل هذا من أفانينِ العذاب. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 192}
قوله تعالى {وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ}
كلام نفيس للإمام الفخر فى هذا الموضع :
إن الذين اختلفوا قيل : هم الكفار أجمع اختلفوا في القرآن ، والأقرب حمله على التوراة والإنجيل اللذين ذكرت البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم فيهما ، لأن القوم قد عرفوا ذلك وكتموه وحرفوا تأويله ، فإذا أورد تعالى ما يجري مجرى العلة في إنزال العقوبة بهم فالأقرب أن يكون المراد كتابهم الذي هو الأصل عندهم دون القرآن الذي إذا عرفوه فعلى وجه التبع لصحة كتابهم ، أما قوله : {بالحق} فقيل : بالصدق ، وقيل : ببيان الحق.(3/214)
وأما قوله : {وَإِنَّ الذين اختلفوا فِى الكتاب} فاعلم أنا وإن قلنا : المراد من الكتاب هو القرآن ، كان اختلافهم فيه أن بعضهم قال : إنه كهانة ، وآخرون قالوا : إنه سحر ، وثالث قال : رجز ، ورابع قال : إنه أساطير الأولين وخامس قال : إنه كلام منقول مختلق ، وإن قلنا : المراد من الكتاب التوراة والإنجيل فالمراد باختلافهم يحتمل وجوهاً أحدها : أنهم مختلفون في دلالة التوراة على نبوة المسيح ، فاليهود قالوا : إنها دالة على القدح في عيسى والنصارى قالوا إنها دالة على نبوته وثانيها : أن القوم اختلفوا في تأويل الآيات الدالة على نبوة محمد صلى الله عليه وسلم فذكر كل واحد منهم له تأويلاً آخر فاسداً لأن الشيء إذا لم يكن حقاً واجب القبول بل كان متكلفاً كان كل أحد يذكر شيئاً آخر على خلاف قول صاحبه ، فكان هذا هو الإختلاف وثالثها : ما ذكره أبو مسلم فقال : قوله : {اختلفوا} من باب افتعل الذي يكون مكان فعل ، كما يقال : كسب واكتسب ، وعمل واعتمل ، وكتب واكتتب ، وفعل وافتعل ، ويكون معنى قوله : {الذين اختلفوا فِى الكتاب} الذين خلفوا فيه أي توارثوه وصاروا خلفاء فيه كقوله :
{فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ} [الأعراف : 169] وقوله : {إِنَّ فِى اختلاف اليل والنهار} [يونس : 6] أي كل واحد يأتي خلف الآخر ، وقوله : {وَهُوَ الذى جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً لّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ} [الفرقان : 62] أي كل واحد منهما يخلف الآخر ، وفي الآية تأويل ثالث ، وهو أن يكون المراد بالكتاب جنس ما أنزل الله والمراد بالذين اختلفوا في الكتاب الذين اختلف قولهم في الكتاب ، فقبلوا بعض كتب الله وردوا البعض وهم اليهود والنصارى حيث قبلوا بعض كتب الله وهو التوراة والإنجيل وردوا الباقي وهو القرآن.
(3/215)
أما قوله : {لَفِى شِقَاقٍ بَعِيدٍ} ففيه وجوه أحدها : أن هؤلاء الذين يختلفون في كيفية تحريف التوراة والإنجيل لأجل عداوتك هم فيما بينهم في شقاق بعيد ومنازعة شديدة فلا ينبغي أن تلتفت إلى اتفاقهم على العداوة فإنه ليس فيما بينهم مؤالفة وموافقة وثانيها : كأنه تعالى يقول لمحمد هؤلاء وإن اختلفوا فيما بينهم فإنهم كالمتفقين على عداوتك وغاية المشاقة لك فلهذا خصهم الله بذلك الوعيد وثالثها : أن هؤلاء الذين اتفقوا على أصل التحريف واختلفوا في كيفية التحريف فإن كل واحد منهم يكذب صاحبه ويشاقه وينازعه ، وإذا كان كذلك فقد اعترفوا بكذبهم بقولهم فلا يكون قدحهم فيك قادحاً فيك ألبتة ، والله أعلم.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 30}
فائدة
ووصف الشقاق بالبعيد مجاز عقلي أي بعيد صاحبُه عن الوفاق كقوله تعالى : {ولا يزالون مختلفين} [هود : 118]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 127}
وقال أبو حيان :
ووصف الشقاق بالبعد ، إما لكونه بعيداً عن الحق ، أو لكونه بعيداً عن الألفة. أو كنى به عن الطول ، أي في معاداة طويلة لا تنقطع. وهذا الاختلاف هو سبب اعتقاد كل طائفة أن كتابها هو الحق ، وأن غيره افتراء ، وقد كذبوا في ذلك. كتب الله يشبه بعضها بعضاً ، ويصدق بعضها بعضاً. أ هـ {البحر المحيط حـ 1 صـ 670}
وقال ابن عرفة :
هم كلهم في شق واحد بعيد عن شق الحق ، ولا يؤخذ منه أن المصيب واحد لأنّ المراد المختلفين في الكتب/ من أهل البدع وكلهم على الباطل. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 219}
ومن لطائف الإمام القشيرى فى الآية
إن الذين آثروا الغَيْرَ على الغيب ، والخَلْقَ على الحقِّ ، والنَفْسَ على الأُنْسِ ، ما أقسى قلوبهم ، وما أوقح محبوبهم ومطلوبهم ، وما أخس قدرهم ، وما أفضح لذوي الأبصار أمرهم! ذلك بأن الله نَزَّل الكتاب بالحق ، وأمضى القضاء والحكم فيه بالصدق ، وأوصلهم إلى مَالَهُ أَهَّلَهُمْ ، وأثْبَتَهُم على الوجه الذي عليه جَبَلَهُمْ. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 148}(3/216)
قوله تعالى {لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آَمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآَتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآَتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما بين سبحانه وتعالى كفر أهل الكتاب الطاعنين في نسخ القبلة بتكذيب الرسول صلى الله عليه وسلم وكتمان الحق وغير ذلك إلى أن ختم بكفرهم بالاختلاف في الكتاب وكتمان ما فيه من مؤيدات الإسلام اتبعه الإشارة إلى أن أمر الفروع أحق من أمر الأصول لأن الفروع ليست مقصودة لذاتها ، والاستقبال الذي جعلوا من جملة شقاقهم أن كتموا ما عندهم من الدلالة على حقيته وأكثروا الإفاضة في عيب المتقين به ليس مقصوداً لذاته ، وإنما المقصود بالذات الإيمان فإذا وقع تبعته جميع الطاعات من الصلاة المشترط فيها الاستقبال وغيرها فقال تعالى : {ليس البر} أي الفعل المرضي الذي هو في تزكية النفس كالبر في تغذية البدن {أن تولوا وجوهكم} أي في الصلاة {قبل المشرق} الذي هو جهة مطالع الأنوار {والمغرب} الذي هو جهة أفوالها أي وغيرهما من الجهات المكانية ، فإن ذلك كله لله سبحانه وتعالى كما مضى عند أول اعتراضهم التصريح بنسبة الكل إليه {فأينما تولوا فثم وجه الله} [البقرة : 115 ]
(3/217)
ولما كان قد تبين للمتقين كما ذكر قبل ما يخرج عن الصراط المستقيم وحذروا منه ليجتنبوه عقبه بما يلزمهم ليعملوه فابتدأ من هنا بذكر الأحكام إلى قوله {آمن الرسول} [البقرة : 258] وبدأ ذلك بما بدأ به السورة وفصل لهم كثيراً مما كلفوه مما أجمله قبل ذلك ففصل الإيمان تفصيلاً لم يتقدم فقال : {ولكن البر من} أي إيمان من ، ولعله عبر بذلك إفهاماً لأن فاعل ذلك نفسه بر أي أنه زكى حتى صار نفس الزكاة {آمن بالله} الذي دعت إليه آية الوحدانية فأثبت له صفات الكمال ونزهه عن كل شائبة نقص مما على ذلك من دلائل أفعاله. ولما كان من أهم خلال الإيمان القدرة على البعث والتصديق به لأنه يوجب لزوم الخير والبعد عن الشر قال : {واليوم الآخر} الذي كذب به كثير من الناس فاختل نظامهم ببغي بعضهم على بعض ، فالأول مبرأ عن الأنداد وهذا مبعد عن أذى العباد.
ولما كان هذا إيمان الكمل وكان أكثر الناس نيام العقول لا يعرفون شيئاً إلا بالتنبيه وضُلال البصائر يفترقون إلى الهداية ذكر سبحانه وتعالى الهداة الذين جعلهم وسائط بينه وبين عباده بادئاً بالأول فالأول فقال : {والملائكة} أي الذين أقامهم فيما بينه وبين الناس وهم غيب محض {والكتاب} الذي ينزلون به على وجه لا يكون فيه ريب أعم من القرآن وغيره {والنبيين} الذين تنزل به عليهم الملائكة ، لكونهم خلاصة الخلق ، فلهم جهة ملكية يقدرون بها على التلقي من الملائكة لمجانستهم إياهم بها ، وجهة بشرية يتمكن الناس بها من التلقي منهم ، ولهم من المعاني الجليلة الجميلة التي صرفهم الله فيها بتكميل أبدانهم وأرواحهم ما لا يعلمه إلا هو فعليهم الصلاة والسلام والتحية والإكرام.(3/218)
قال الحرالي : ففيه أي الإيمان بهم وبما قبلهم قهر النفس للإذعان لمن هو من جنسها والإيمان بغيب من ليس من جنسها ليكون في ذلك ما يزع النفس عن هواها - انتهى. وكذا فضل سبحانه وتعالى الصدقة ، وفي تعقيب الإيمان بها إشعار بأنها المصدقة له فمن بخل بها كان مدعياً للإيمان بلا بينة ، وإرشاد إلى أن في بذلها سلامة من فتنة المال {إنما أموالكم وأولادكم فتنة} [التغابن : 15] لأن من آمن وتصدق كان قد أسلم لله روحه وماله الذي هو عديل روحه فصار عبد الله حقاً ، وفي ذلك إشارة إلى الحث على مفارقة كل محبوب سوى الله سبحانه وتعالى في الله. قال الحرالي : فمن ظن أن حاجته يسدها المال فليس براً ، إنما البر الذي أيقن أن حاجته إنما يسدها ربه ببره الخفي - انتهى. فلذلك قال : {وآتى المال} أي الذي أباحه بعد جعله دليلاً عليه كرم نفس وتصديق إيمان بالاعتماد في الخلف على من ضمن الرزق وهو على كل شيء قدير ؛ وأشار إلى أن شرط الإيمان به إيثاره سبحانه وتعالى على كل شيء بقوله : {على حبه} أي إيتاء عالياً فيه حب الله على حبه المال إشارة إلى التصدق في حال الصحة والشح بتأميل الغنى وخشية الفقر ؛ وأشار إلى أنه لوجهه لا لما كانوا يفعلونه في الجاهلية من التفاخر فقال : {ذوي القربى} أي لأنهم أولى الناس بالمعروف لأن إيتاءهم صدقة وصلة {واليتامى} من ذوي القربى وغيرهم لأنهم أعجز الناس {والمساكين} لأنهم بعدهم في العجز ويدخل فيهم الفقراء بالموافقة {وابن السبيل} لعجزهم بالغربة ، وإذا جعلنا ذلك أعم من الحال والمآل دخل فيه الغازي {والسآئلين} لأن الأغلب أن يكون سؤالهم عن حاجة ويدخل الغارم {وفي الرقاب} قال الحرالي : جمع رقبة وهو ما ناله الرق من بني آدم فالمراد الرقاب المسترقة التي يرام فكها بالكتابة وفك الأسرى منه ، وقدم عليهم أولئك لأن حاجتهم لإقامة البينة.(3/219)
ولما ذكر سبحانه وتعالى مواساة الخلق وقدمها حثاً على مزيد الاهتمام بها لتسمح النفس بما زين لها حبه من المال اتبعها حق الحق فقال : {وأقام الصلاة} التي هي أفضل العبادات البدنية ولا تكون إلا بعد سد أود الجسد ولا تكون إقامتها إلا بجميع حدودها والمحافظة عليها. ولما ذكر ما يزكي الروح بالمثول بين يدي الله سبحانه وتعالى والتقرب بنوافل الصدقات ذكر ما يطهر المال وينميه وهو حق الخلق فقال : {وآتى الزكاة} وفي الاقتصار فيها على الإيتاء إشعار بأن إخراج المال على هذا الوجه لا يكون إلا من الإخلاص.
ولما أتم الإيمان وما يصدق دعواه في الجملة شرع في كمال ذلك فعطف على أول الكلام ما دل بعطفه كذلك على أنه مقصود لذاته فإنه جامع لدخوله في جميع ما تقدمه فقال : {والموفون بعهدهم} قال الحرالي : من الإيفاء وهو الأخذ بالوفاء نجاز الموعود في أمر المعهود - انتهى.
وبين قوله : {إذا عاهدوا} أن المطلوب ما ألزموا أنفسهم به للحق أو الخلق تصريحاً بما أفهمه ما قبله. ولما قطع الوفاء تعظيما له لدخوله فيما قبل فعل كذلك في الصبر لذلك بعينه فقال : {والصابرين} وفيه رمز إلى معاملته بما كان من حقه لو عطف على {من آمن} لو سيق على الأصل. قال الحرالي : وفيه إشعار بأن من تحقق بالصبر على الإيثار فكان شاكراً تحقق منه الصبر في الابتلاء والجهاد تأييداً من الله سبحانه وتعالى لمن شكره ابتداء بإعانته على الصبر والمصابرة انتهاء ، كأنه لما جاد بخير الدنيا على حبه أصابه الله ببلائها تكرمة له ليوفيه حظه من مقدوره في دنياه فيكون ممن يستريح عند موته وبأنه إن جاهد ثبت بما يحصل في نفس الشاكر الصابر من الشوق إلى لقاء الله سبحانه وتعالى تبرؤاً من الدنيا وتحققاً بمنال الخير من الله - انتهى.(3/220)
وعين أشد ما يكون الصبر فيه فقال : {في البأسآء} أي عند حلول الشدة بهم في أنفسهم من الله سبحانه وتعالى بلا واسطة أو منه بواسطة العباد {والضرآء} بحصول الضر في أموالهم وبقية أحوالهم من احتقار الناس لهم ونحوه ، وفسرها في القاموس بالشدة والنقص في الأموال والأنفس فهو حينئذ أعم ليكون الأخص مذكوراً مرتين.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 322 ـ 324}
فصل في اختلافهم في عموم هذا الخطاب وخصوصه.
قال الفخر :
اختلف العلماء في أن هذا الخطاب عام أو خاص فقال بعضهم : أراد بقوله : {لَّيْسَ البر} أهل الكتاب لما شددوا في الثبات على التوجه نحو بيت المقدس فقال تعالى : ليس البر هذه الطريقة ولكن البر من آمن بالله وقال بعضهم : بل المراد مخاطبة المؤمنين لما ظنوا أنهم قد نالوا البغية بالتوجه إلى الكعبة من حيث كانوا يحبون ذلك فخوطبوا بهذا الكلام ، وقال بعضهم بل هو خطاب للكل لأن عند نسخ القبلة وتحويلها حصل من المؤمنين الإغتباط بهذه القبلة وحصل منهم التشدد في تلك القبلة حتى ظنوا أنه الغرض الأكبر في الدين فبعثهم الله تعالى بهذا الخطاب على استيفاء جميع العبادات والطاعات ، وبين أن البر ليس بأن تولوا وجوهكم شرقاً وغرباً ، وإنما البر كيت وكيت ، وهذا أشبه بالظاهر إذ لا تخصيص فيه فكأنه تعالى قال : ليس البر المطلوب هو أمر القبلة ، بل البر المطلوب هذه الخصال التي عدها. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 31}
قوله تعالى {لَّيْسَ البر }(3/221)
قرأ حمزة وحفص عن عاصم {لَّيْسَ البر} بنصب الراء ، والباقون بالرفع ، قال الواحدي : وكلا القراءتين حسن لأن اسم {لَّيْسَ} وخبرها اجتمعا في التعريف فاستويا في كون كل واحد منهما اسماً ، والآخر خبراً ، وحجة من رفع {البر} أن اسم {لَّيْسَ} مشبه بالفاعل ، وخبرها بالمفعول ، والفاعل بأن يلي الفعل أولى من المفعول ، ومن نصب {البر} ذهب إلى أن بعض النحويين قال : {أن} مع صلتها أولى أن تكون اسم {لَّيْسَ} لشبهها بالمضمر في أنها لا توصف كما لا يوصف المضمر ، فكان ههنا اجتمع مضمر ومظهر ، والأولى إذا اجتمعا أن يكون المضمر الاسم من حيث كان أذهب في الاختصاص من المظهر ، وعلى هذا قرىء في التنزيل قوله : {كَانَ عاقبتهما أَنَّهُمَا فِى النار} [الحشر : 12] وقوله : {مَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلا أَن قَالُواْ} [الأعراف : 82] {وَمَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ} [الجاثية : 25] والاختيار رفع البر (1) ؛ لأنه روي عن ابن مسعود أنه قرأ : {لَّيْسَ البر بِأَنَّ} والباء تدخل في خبر ليس. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 31}
____________________
(1) هذا القول فيه نظر لأن القراءة بنصب {البر} قراءة متواترة كالقراءة بالرفع. والله أعلم.(3/222)
وقال ابن عادل :
قرأ الجُمْهُور برفع " البِرُّ " وحمزة ، وحفصٌ عن عاصم بنصبه ، فقراءةُ الجُمْهُور على أنَّه اسمُ " لَيْسَ " و" أَنْ تُولُّوا " خبرها في تأويل مصدّرٍ ، أي : ليس البِرُّ تَوْلِيَتكُمْ ، ورجِّحت هذه القراءةُ مِنْ حيث إنَّه ولي الفعل مرفوعة قَبْل منصوبه ، وأَمَّا قراءة حمزة وحَفْصٍ ف " البرُّ " الخبرٌ مقدَّمٌ ، و" أَنْ تُوَلُّوا " اسمُها في تأويل مصدرٍ ، ورجِّحت هذه القراءة بأنَّ المصدر المؤَوَّل أعرفُ من المحلَّى بالألف واللام ؛ لأنَّهُ يشبه الضَّمير ، من حيث إِنَّهُ لا يوصَفُ ؛ ولا يوصف به ، والأعْرَفُ ينبغي أنْ يُجْعَل الاسْمَ وغيْر الأعْرَفِ الخَبَرِ ؛ وتقديمُ خَبَر " لَيْسَ " على اسمها قليلٌ ؛ حتى زَعَم منْعَهُ جماعةٌ [منْهم ابنُ دَرَسْتَوَيْهِ ، قال : لأنَّها تشبه " مَا " المجازيَّة ولأَنَّها حرفٌ على قول جماعةٍ ، لكنه] محجوج بهذه القراءة المتواترة ، وبقول الشاعر [الطويل ]
910 - سَلِي إِنْ جَهِلْتِ النَّاسَ عَنَّا وَعَنْهُمْ... فَلَيْسَ سَوَاءَ عَاِمٌ وَجَهُولُ
وقال آخر : [الطويل ]
911 - أَلَيْسَ عَظِيماً أَنْ تُلِمُ مُلِمَّةٌ... وَلَيْسَ عَلَيْنَا فِي الخُطُوبِ مُعَوَّلُ
وفي مصحف أُبَيٍّ ، وعبْد الله " بِأَنْ تُوَلُّوا " بزيادةِ الباء ، وهي واضحة ؛ فإن الباء تزادُ في خبر " لَيْسَ " كثيراً. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 191}
وقال العلامة ابن عاشور : (3/223)
وقرأ الجمهور {ليس البرُّ} برفع {البر} على أنه اسم {ليس} والخبر هو {أَن تُولُّوا} وقرأه حمزة وحفص عن عاصم بنصب {البرَّ} على أن قوله : {أن تولوا} اسمُ {ليس} مؤخر ، ويكثر في كلام العرب تقديم الخبر على الاسم في باب كان وأخواتها إذا كان أحد معمولي هذا الباب مركباً من أنْ المصدرية وفعلِها كان المتكلم بالخيار في المعمول الآخر بين أن يرفعه وأن ينصبه وشأن اسم {ليس} أن يكون هو الجدير بكونه مبتدأ به ، فوجه قراءة رفع {البر} أن البر أمر مشهور معروف لأهل الأديان مرغوب للجميع فإذا جعل مبتدأ في حالة النفي أصغت الأسماع إلى الخبر ، وأما توجيه قراءة النصب فلأن أمر استقبال القبلة هو الشغل الشاغل لهم فإذا ذُكر خبره قبلهُ ترقب السامع المبتدأ فإذا سمعه تقرر في علمه.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 128 ـ 129}
البر اسم جامع للطاعات ، وأعمال الخير المقربة إلى الله تعالى ، ومن هذا بر الوالدين ، قال تعالى : {إِنَّ الأبرار لَفِى نَعِيمٍ * وَإِنَّ الفجار لَفِى جَحِيمٍ} [الانفطار : 13ـ 14] فجعل البر ضد الفجور وقال : {وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان} [المائدة : 2] فجعل البر ضد الإثم فدل على أنه اسم عام لجميع ما يؤجر عليه الإنسان وأصله من الاتساع ومنه البر الذي هو خلاف البحر لاتساعه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 32}
وقال فى التحرير والتنوير :
البِرّ سعة الإحسان وشدة المرضاة والخير الكامل الشامل ولذلك توصف به الأفعال القوية الإِحسان فيقال : بر الوالدين وبر الحج وقال تعالى : {لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون} [آل عمران : 92] ، والمراد به هنا بر العبد ربه بحسن المعاملة في تلقي شرائعه وأوامره.(3/224)
ونفيُ البر عن استقبال الجهات مع أن منها ما هو مشروع كاستقبال الكعبة : إما لأنه من الوسائل لا من المقاصد فلا ينبغي أن يكون الاشتغال به قصارى همة المؤمنين ولذلك أسقطه الله عن الناس في حال العجز والنسيان وصلوات النوافل على الدابة في السفر ، ولذلك قال : {ولكن البر من آمن} إلخ فإن ذلك كله من أهم مقاصد الشريعة وفيه جماع صلاح النفس والجماعة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 128}
فصل في المشار إليه بالضمير
قال القفال : قد قيل في نزول هذه الآية أقوال ، والذي عندنا أنه أشار إلى السفهاء الذين طعنوا في المسلمين وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها مع أن اليهود كانوا يستقبلون المغرب ، والنصارى كانوا يستقبلون المشرق ، فقال الله تعالى : إن صفة البر لا تحصل بمجرد استقبال المشرق والمغرب ، بل البر لا يحصل إلا عند مجموع أمور أحدها : الإيمان بالله وأهل الكتاب أخلوا بذلك ، أما اليهود فقولهم : بالتجسيم ولقولهم : بأن عزيراً ابن الله ، وأما النصارى ، فقولهم : المسيح ابن الله ، ولأن اليهود وصفوا الله تعالى بالبخل ، على ما حكى الله تعالى ذلك عنهم بقوله : {قَالُواْ إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاء} [آل عمران : 181] وثانيها : الإيمان باليوم الآخر واليهود أخلوا بهذا الإيمان حيث قالوا : {وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُودًا أَوْ نصارى} [البقرة : 111] وقالوا : {لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّامًا مَّعْدُودَةً} [البقرة : 80] والنصارى أنكروا المعاد الجسماني ، وكل ذلك تكذيب باليوم الآخر وثالثها : الإيمان بالملائكة ، واليهود أخلوا ذلك حيث أظهروا عداوة جبرل عليه السلام ورابعها : الإيمان بكتب الله ، واليهود والنصارى قد أخلوا بذلك ، لأن مع قيام الدلالة على أن القرآن كتاب الله ردوه ولم يقبلوه قال تعالى : (3/225)
{وَإِن يَأْتُوكُمْ أسارى تفادوهم وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ} [البقرة : 85] وخامسها : الإيمان بالنبيين واليهود أخلوا بذلك حيث قتلوا الأنبياء ، على ما قال تعالى : {وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق} [البقرة : 61] وحيث طعنوا في نبوة محمد صلى الله عليه وسلم وسادسها : بذل الأموال على وفق أمر الله سبحانه واليهود وأخلوا بذلك لأنهم يلقون الشبهات لطلب المال القليل كما قال {واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً} [البقرة : 187] وسابعها : إقامة الصلوات والزكوات واليهود كانوا يمنعون الناس منها وثامنها : الوفاء بالعهد ، واليهود نقضوا العهد حيث قال : {أَوْفُواْ بِعَهْدِى أُوفِ بِعَهْدِكُمْ} [البقرة : 40 ]
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 33}(3/226)
ههنا سؤال : وهو أنه تعالى نفى أن يكون التوجه إلى القبلة براً ثم حكم بأن البر مجموع أمور أحدها الصلاة ولا بد فيها من استقبال فيلزم التناقض ولأجل هذا السؤال اختلف المفسرون على أقوال الأول : أن قوله : {لَّيْسَ البر} نفي لكمال البر وليس نفياً لأصله كأنه قال ليس البر كله هو هذا ، البر اسم لمجموع الخصال الحميدة واستقبال القبلة واحد منها ، فلا يكون ذلك تمام البر الثاني : أن يكون هذا نفياً لأصل كونه براً ، لأن استقبالهم للمشرق والمغرب كان خطأ في وقت النفي حين ما نسخ الله تعالى ذلك ، بل كان ذلك إثماً وفجوراً لأنه عمل بمنسوخ قد نهى الله عنه ، وما يكون كذلك فإنه لا يعد في البر الثالث : أن استقبال القبلة لا يكون براً إذا لم يقارنه معرفة الله ، وإنما يكون براً إذا أتي به مع الإيمان ، وسائر الشرائط كما أن السجدة لا تكون من أفعال البر ، إلا إذا أتي بها مع الإيمان بالله ورسوله ، فأما إذا أتي بها بدون هذا الشرط ، فإنها لا تكون من أفعال البر ، روي أنه لما حولت القبلة كثر الخوض في نسخها وصار كأنه لا يراعي بطاعة الله إلا الإستقبال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية كأنه تعالى قال ما هذا الخوض الشديد في أمر القبلة مع الإعراض عن كل أركان الدين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 33}
قوله تعالى {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله }
قال ابن عادل :
قوله {ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله} في هذه الآية خَمْسَة أوجه :
أحدها : أن " البِرَّ " اسم فاعل من : بَرَّ يَبَرُّ ، فهو " برُّ " والأصل : " بَرِرٌ " بكسر الراء الأولى بزنة " فطِنٍ " فلمَّا أريد الإدغام ، نقلت كسرة الرَّاء إلى الباء بعد سكبها حركتها ؛ فعلى هذه القراءة : لا يحتاج الكلام إلى حذف وتأويلٍ ؛ لأنَّ البِرَّ من صفات الأعيان ؛ كأنه قيل : " وَلكِنَّ الشخْصَ البِرَّ مَنْ آمن ".(3/227)
الثاني : أنَّ في الكلام حذف مضافٍ من الأوَّل ، تقديره : " ولكنَّ ذا البِرِّ من آمن " ؛ كقوله تعالى : {والعاقبة للتقوى} [طه : 132] أي : لذي التقوى ؛ وقوله {هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله والله} [آل عمران : 163] أي : ذوو درجاتٍ ، قاله الزَّجَّاج.
الثالث : أن يكون الحذف من الثاني : أي : " وَلكِنَّ البِرَّ بِرُّ مَنْ آمَنَ " وهذا تخريجُ سيبويه ، واختياره ، وإنَّما اختاره ؛ لأنَّ السابق ، إنَّما هو نفي كون البِرِّ هو تولية الوجهِ قبل المشرق والمغرب ، فالذي يستدركُ ، إنَّما هو من جنس ما ينفى ؛ ونظير ذلك : " لَيْسَ الكَرَمُ أنْ تَبْذُلَ دِرْهَماً ، ولكَّن الكَرَمَ بذل الآلاَفِ " ولا يناسبُ : " ولكِنَّ الكَرِيمَ مَنْ يَبْذُلُ الآلاَفَ " وحذف المضاف كثيرٌ في الكلام ، كقوله : {وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل} [البقرة : 93] ، أي : حُبَّ العجل ، ويقولون : الجود حاتم ، والشعير زهير ، والشجاعة عنترة ، [وقال الشاعر : [الطويل ]
فَإِنَّما هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ
أي : ذات إقبالٍ ، وذات إدبار.
وقال النَّابغة : [المتقارب ]
913 - وَكَيْفَ نُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ... خِلاَلَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ
أي : كخلالة أبي مرحب] ، وهذا اختيار الفرَّاء ، والزَّجَّاج ، وقطرب.
وقال أبو عليٍّ : ومثل هذه الآية الكريمة قوله : {أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج} [التوبة : 19] ، ثم قال : {كَمَنْ آمَنَ بالله} [التوبة : 19] ؛ ليقع التمثيل بين مصدرين ، أو بين فاعلين ؛ إذ لا يقع التمثيل بين مصدرٍ ، وفاعلٍ.
الرابع : أن يطلق المصدر على الشَّخص مبالغةً ؛ نحو : رجل عدل.
ويحكى عن المبرِّد : " لو كنت ممَّن يقرأ القرآن ، لقرأت " وَلَكِنَّ البَرَّ " بفتح الباء " وإنَّما قال ذلك ؛ لأن " البَرَّ " اسم فاعل ، نقول بَرَّ يَبَرُّ ، فهو بَارٌّ ، فتارة تأتي به على فاعل ، وتارة على فعل.(3/228)
الخامس : أن المصدر وقع موقع اسم الفاعل ، نحو : رجل عدلٌ ، أي : عادل ، كما قد يقع اسم الفاعل موقعه ، نحو : أقائماً ، وقد قعد الناس ؛ في قولٍ ، هذا رأي الكوفيين ، والأولى فيه ادِّعاء أنه محذوفٌ من فاعلٍ ، وأن أصله : بارٌّ ، فجعل " برّاً " ، وأصله كـ " سِرٍّ " ، و" رَبٌّ " أصله " رابٌّ " ، وقد تقدم.
وجعل الفراء " مَنْ آمَنَ " واقعاً موقع الإيمان ، فأوقع اسم الشخص على المعنى كعكسه ؛ كأنه قال : " وَلَكِنَّ البِرَّ الإيمانُ باللَّهِ " قال : والعَرَبُ تجعل الاسم خبراً للفعل ، وأنشد في ذلك : [الطويل ]لَعَمْرُكَ مَا الفِتْيَانُ أَنْ تَنْبُتَ اللِّحَى... وَلَكِنَّمَا الفِتْيَانُ كُلُّ فَتًى نَدِي
جعل نبات اللحية خبراً للفتيان ، والمعنى : لعمرك ما الفتوَّة أن تنبت اللِّحى.
وقرأ نافعٌ ، وابن عامر : " وَلَكِن البِرُّ " هنا وفيما بعد بتخفيف " لَكِنْ " وبرفع " البِرُّ " ، والباقون بالتَّشديد ، والنَّصب ، وهما واضحتان ممَّا في قوله : {ولكن الشياطين كَفَرُواْ} [البقرة : 102].
وقرئ : " وَلِكنَّ البَارَّ " بالألف ، وهي تقوِّي أنَّ " البِرَّ " بالكسر المراد به اسم الفاعل ، لا المصدر.
قال أبو عُبَيْدَةَ : " البِرُ " هاهنا بمعنى البَارِّ ، كقوله : {والعاقبة للتقوى} [طه : 132] أي : للمتَّقين ، ومنه قوله تعالى : {إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً} [الملك : 30] أي : غائراً ، وقالت الخنساء : [البسيط ]
وَإِنَّمَا هِيَ إقْبَالٌ وَإِدْبَارُ... أي : مقبلة ومدبرة والعمل لكل خير هو بر ، وقيل : البر : كل عمل خير يفضي بصاحبه إلى الجنة ، قال تعالى : {إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ} [الإنسان : 13 ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 195 ـ 197}
وقال الآلوسى :(3/229)
{ولكن البر مَنْ ءامَنَ بالله} تحقيق للحق بعد بيان بطلان الباطل ، وال في البر إما للجنس فيكون القصر ادعائياً لكمال ذلك الجنس في هذا الفرد ، وإما للعهد أي ما ينبغي أن يهتم به ويعتني بشأنه ويجد في تحصيله ، والكلام على حذف مضاف أي برّ من آمن إذ لا يخبر بالجثة عن المعنى ويجوز أن لا يرتكب الحذف ويجعل المصدر بمعنى اسم الفاعل أو يقال باطلاق البر على البار مبالغة ، والأول أوفق لقوله : {لَّيْسَ البر} وأحسن في نفسه لأنه كنزع الخف عند الوصول إلى الماء ولأن المقصود من كون ذي البر من آمن إفادة أن البر إيمانه فيؤول إلى الأول. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 45}
فوائد ونفائس وأسئلة وأجوبة
قال الفخر :
اعلم أن الله تعالى اعتبر في تحقق ماهية البر أموراً الأول : الإيمان بأمور خمسة أولها : الإيمان بالله ، ولن يحصل العلم بالله إلا عند العلم بذاته المخصوصة والعلم بما يجب ويجوز ويستحيل عليه ، ولن يحصل العلم بهذه الأمور إلا عند العلم بالدلالة الدالة عليها فيدخل فيه العلم بحدوث العالم ، والعلم بالأصول التي عليها يتفرع حدوث العالم ، ويدخل في العلم بما يجب له من الصفات العلم بوجوده وقدمه وبقائه ، وكونه عالماً بكل المعلومات ، قادراً على كل الممكنات حياً مريداً سمعياً بصيراً متكلماً ، ويدخل في العلم بما يستحيل عليه العلم بكونه منزهاً عن الحالية والمحلية والتحيز والعرضية ، ويدخل في العلم بما يجوز عليه اقتداره على الخلق والإيجاد وبعثة الرسل وثانيها : الإيمان باليوم الآخر ، وهذا الإيمان مفرع على الأول ، لأنا ما لم نعلم كونه تعالى عالماً بجميع المعلومات ولم نعلم قدرته على جميع الممكنات لا يمكننا أن نعلم صحة الحشر والنشر وثالثها : الإيمان بالملائكة ورابعها : الإيمان بالكتب وخامسها : الإيمان بالرسل ، وههنا سؤالات :(3/230)
السؤال الأول : إنه لا طريق لنا إلى العلم بوجود الملائكة ولا إلى العلم بصدق الكتب إلا بواسطة صدق الرسل ، فإذا كان قول الرسل كالأصل في معرفة الملائكة والكتب فلم قدم الملائكة والكتب في الذكر على الرسل ؟ .
الجواب : أن الأمل وإن كان كما ذكرتموه في عقولنا وأفكارنا ، إلا أن ترتيب الوجود على العكس من ذلك ، لأن الملك يوجد أولاً ، ثم يحصل بواسطة تبليغة نزول الكتب ، ثم يصل ذلك الكتاب إلى الرسول ، فالمراعي في هذه الآية ترتيب الوجود الخارجي ، لا ترتيب الاعتبار الذهني.
السؤال الثاني : لم خص الإيمان بهذه الأمور الخمسة ؟
الجواب : لأنه دخل تحتها كل ما يلزم أن صدق به ، فقد دخل تحت الإيمان بالله : معرفته بتوحيده وعدله وحكمته ، ودخل تحت اليوم الآخر : المعرفة بما يلزم من أحكام الثواب والعقاب والمعاد ، إلى سائر ما يتصل بذلك ، ودخل تحت الملائكة ما يتصل بأدائهم الرسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليؤديها إلينا إلى غير ذلك مما يجب أن يعلم من أحوال الملائكة ، ودخل تحت الكتاب القرآن ، وجميع ما أنزل الله على أنبيائه ، ودخل تحت النبيين الإيمان بنبوتهم ، وصحة شرائعهم ، فثبت أنه لم يبق شيء مما يجب الإيمان به إلا دخل تحت هذه الآية ، وتقرير آخر : وهو أن للمكلف مبدأ ووسطاً ونهاية ، ومعرفة المبدأ والمنتهي هو المقصود بالذات ، وهو المراد بالإيمان بالله واليوم الآخر ، وأما معرفة مصالح الوسط فلا تتم إلا بالرسالة وهي لا تتم إلا بأمور ثلاثة : الملائكة الآتين بالوحي ، ونفس ذلك الوحي وهو الكتاب ، والموحى إليه وهي الرسول ؟
السؤال الثالث : لم قدم هذا الإيمان على أفعال الجوارح ، وهو إيتاء المال ، والصلاة ، والزكاة.
الجواب : للتنبيه على أن أعمال القلوب أشرف عند الله من أعمال الجوارح. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 35}
سؤال : ما نوع {أل} فى قوله {والكتاب }(3/231)
وتعريف {والكتاب} تعريف الجنس المفيد للاستغراق أي آمن بكُتب الله مثل التوراة والإنجيل والقرآن ، ووجه التعبير بصيغة المفرد أنها أخف مع عدم التباس التعريف بأن يكون للعهد ؛ لأن عطف (النبيين) على (الكتاب) قرينة على أن اللام في (الكتاب) للاستغراق فأوثرت صيغة المفرد طلباً لخفة اللفظ. وما يُظن من أن استغراق المفرد المعرف باللام أشمل من استغراق الجمع المعرف بها ليس جارياً على الاستعمال. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2صـ 129}
قوله تعالى {وآتى المال على حبه}
قال الفخر :
الأمر الثاني من الأمور المعتبرة في تحقق مسمى البر قوله : {وآتى المال على حبه} وفيه مسائل : (3/232)
المسألة الأولى : اختلفوا في أن الضمير في قوله : {على حُبّهِ} إلى ماذا يرجع ؟ وذكروا فيه وجوهاً الأول : وهو قول الأكثرين أنه راجع إلى المال ، والتقدير : وآتى المال على حب المال ، قال ابن عباس وابن مسعود : وهو أن تؤتيه وأنت صحيح شحيح ، تأمل الغنى ، وتخشى الفقر ، ولا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت : لفلان كذا ولفلان كذا ، وهذا التأويل يدل على أن الصدقة حال الصحة أفضل منها عند القرب من الموت ، والعقل يدل على ذلك أيضاً من وجوه أحدها : أن عند الصحة يحصل ظن الحاجة إلى المال وعند ظن قرب الموت يحصل ظن الاستغناء عن المال ، وبذل الشيء عند الاحتياج إليه أدل على الطاعة من بذله عند الاستغناء عنه على ما قال : {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران : 92] وثانيها : أن إعطاءه حال الصحة أدل على كونه متيقناً بالوعد والوعيد من إعطاءه حال المرض والموت وثالثها : أن إعطاءه حال الصحة أشق ، فيكون أكثر ثواباً قياساً على ما يبذله الفقير من جهد المقل فإنه يزيد ثوابه على ما يبذله الغني ورابعها : أن من كان ماله على شرف الزوال فوهبه من أحد مع العلم بأنه لو لم يهبه لضاع فإن هذه الهبة لا تكون مساوية لما إذا لم يكن خائفاً من ضياع المال ثم إنه وهبه منه طائعاً وراغباً فكذا ههنا وخامسها : أنه متأيد بقوله تعالى : {لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ} [آل عمران : 92] وقوله : {وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبّهِ} [الإنسان : 80] أي على حب الطعام ، وعن أبي الدرداء أنه صلى الله عليه وسلم قال : " مثل الذي تصدق عند الموت مثل الذي يهدي بعدما شبع "
القول الثاني : أن الضمير يرجع إلى الإيتاء كأنه قيل : يعطي ويحب الإعطاء رغبة في ثواب الله.
القول الثالث : أن الضمير عائد على اسم الله تعالى ، يعني يعطون المال على حب الله أي على طلب مرضاته.(1)
____________________
(1) واستدل الجصاص لهذا الوجه بقوله تعالى {قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني}{ أحكام القرآن للجصاص ـ حـ 1 صـ 162}(3/233)
المسألة الثانية : اختلفوا في المراد من هذا الإيتاء فقال قوم : إنها الزكاة وهذا ضعيف وذلك لأنه تعالى عطف الزكاة عليه بقوله : {وأقام الصلاة وآتى الزكاة} ومن حق المعطوف والمعطوف عليه أن يتغايرا ، فثبت أن المراد به غير الزكاة ، ثم إنه لا يخلوا إما أن يكون من التطوعات أو من الواجبات ، لا جائز أن يكون من التطوعات لأنه تعالى قال في آخر الآية : {أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ المتقون} وقف التقوى عليه ، ولو كان ذلك ندباً لما وقف التقوى عليه ، فثبت أن هذا الإيتاء ، وإن كان غير الزكاة إلا أنه من الواجبات ثم فيه قولان :
القول الأول : أنه عبارة عن دفع الحاجات الضرورية مثل إطعام المضطر ، ومما يدل على تحقق هذا الوجوب النص والمعقول ، أما النص فقوله عليه الصلاة والسلام " لايؤمن بالله واليوم الآخر من بات شبعاناً وجاره طاو إلى جنبه " وروي عن فاطمة بنت قيس : أن في المال حقاً سوى الزكاة ، ثم تلت {وآتى المال على حبه} وحكي عن الشعبي أنه سئل عمن له مال فأدى زكاته فهل عليه شيء سواه ؟ فقال : نعم يصل القرابة ، ويعطي السائل ، ثم تلا هذه الآية ، وأما العقل فإنه لا خلاف أنه إذا انتهت الحاجة إلى الضرورة ، وجب على الناس أن يعطوه مقدار دفع الضرورة وإن لم تكن الزكاة واجبة عليهم ، ولو امتنعوا من الإعطاء جاز الأخذ منهم قهراً ، فهذا يدل على أن هذا الإيتاء واجب ، واحتج من طعن في هذا القول بما روي عن علي رضي الله عنه أنه قال : إن الزكاة نسخت كل حق.(3/234)
والجواب : من وجوه الأول : أنه معارض بما روي أنه عليه الصلاة والسلام قال : " في المال حقوق سوى الزكاة " وقول الرسول أولى من قول علي الثاني : أجمعت الأمة على أنه إذا حضر المضطر فإنه يجب أن يدفع إليه ما يدفع الضرر ، وإن كان قد أدى الزكاة بالكمال الثالث : المراد أن الزكاة نسخت الحقوق المقدرة ، أما الذي لا يكون مقدراً فإنه غير منسوخ بدليل أنه يلزم التصدق عند الضرورة ، ويلزم النفقة على الأقارب ، وعلى المملوك ، وذلك غير مقدر ، فإن قيل : هب أنه صح هذا التأويل لكن ما الحكمة في هذا الترتيب ؟ قلنا فيه وجوه أحدها : أنه تعالى قدم الأولى فالأولى لأن الفقير إذا كان قريباً فهو أولى بالصدقة من غيره من حيث أنه يكون ذلك جامعاً بين الصلة والصدقة ، ولأن القرابة من أوكد الوجوه في صرف المال إليه وذلك يستحق به الإرث ويحجر بسببه على المالك في الوصية ، حتى لا يتمكن من الوصية إلا في الثلث ، ولذلك كانت الوصية للأقارب من الواجبات على ما قال {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت }(3/235)
[ آل عمران : 180] الآية ، وإن كانت تلك الوصية قد صارت منسوخة إلا عند بعضهم ، فلهذه الوجوه قدم ذا القربى ، ثم أتبعه تعالى باليتامى ، لأن الصغير الفقير الذي لا والد له ولا كاسب فهو منقطع الحيلة من كل الوجوه ، ثم أتبعهم تعالى بذكر المساكين لأن الحاجة قد تشتد بهم ، ثم ذكر ابن السبيل إذ قد تشتد حاجته عند اشتداد رغبته إلى أهله ، ثم ذكر السائلين وفي الرقاب لأن حاجتهما دون حاجة من تقدم ذكره وثانيها : أن معرفة المرء بشدة حاجة هذه الفرق تقوى وتضعف ، فرتب تعالى ذكر هذه الفرق على هذا الوجه لأن علمه بشدة حاجة من يقرب إليه أقرب ، ثم بحاجة الأيتام ، ثم بحاجة المساكين ، ثم على هذا النسق وثالثها : أن ذا القربى مسكين ، وله صفة زائدة تخصه لأن شدة الحاجة فيه تغمه وتؤذي قلبه ، ودفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير ، فلذلك بدأ الله تعالى بذي القربى ، ثم باليتامى ، وأخر المساكين لأن الغم الحاصل بسبب عجز الصغار عن الطعام والشراب أشد من الغم الحاصل بسبب عجز الكبار عن تحصيلهما فأما ابن السبيل فقد يكون غنياً ، وقد تشتد حاجته في الوقت ، والسائل قد يكون غنياً ويظهر شدة الحاجة وأخر المكاتب لأن إزالة الرق ليست في محل الحاجة الشديدة.
القول الثاني : أن المراد بإيتاء الماء ما روي أنه عليه الصلاة والسلام عند ذكره للإبل قال : " إن فيها حقاً " هو إطراق فحلها وإعارة ذلولها ، وهذا بعيد لأن الحاجة إلى إطراق الفحل أمر لا يختص به ابن السبيل والسائل والمكاتب.
القول الثالث : أن إيتاء المال إلى هؤلاء كان واجباً ، ثم إنه صار منسوخاً بالزكاة ، وهذا أيضاً ضعيف لأنه تعالى جمع في هذه الآية بين هذا الإيتاء وبين الزكاة.(3/236)
المسألة الثالثة : أما ذوو القربى فمن الناس من حمل ذلك على المذكور في آية النفل والغنيمة والأكثرون من المفسرين على ذوي القربى للمعطين ، وهو الصحيح لأنهم به أخص ، ونظيره قوله تعالى : {وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يُؤْتُواْ أُوْلِى القربى} [النور : 22].(3/237)
واعلم أن ذوي القربى هم الذين يقربون منه بولادة الأبوين أو بولادة الجدين ، فلا وجه لقصر ذلك على ذوي الرحم المحرم على ما حكى عن قوم لأن المحرمية حكم شرعي أما القرابة فهي لفظة لغوية موضوعة للقرابة في النسب وإن كان من يختص بذلك يتفاضل ويتفاوت في القرب والبعد ، أما اليتامى ففي الناس من حمله على ذوي اليتامى ، قال : لأنه لا يحسن من المتصدق أن يدفع المال إلى اليتيم الذي لا يميز ولا يعرف وجوه منافعه ، فإنه متى فعل ذلك يكون مخطئاً بل إذا كان اليتيم مراهقاً عارفاً بمواقع حظه ، وتكون الصدقة من باب ما يؤكل ويلبس ولا يخفى على اليتيم وجه الانتفاع به جاز دفعها إليه ، هذا كله على قول من قال : اليتيم هو الذي لا أب له مع الصغر ، وعند أصحابنا هذا الاسم قد يقع على الصغير وعلى البالغ والحجة فيه قوله تعالى : {وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} [النساء : 20] ومعلوم أنهم لا يؤتون المال إلا إذا بلغوا ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمى : يتيم أبي طالب بعد بلوغه ، فعلى هذا إن كان اليتيم بالغاً دفع المال إليه ، وإلا فيدفع إلى وليه ، وأما المساكين ففيه خلاف سنذكره إن شاء الله تعالى في سورة التوبة والذي نقوله هنا : إن المساكين أهل الحاجة ، ثم هم ضربان منهم من يكف عن السؤال وهو المراد ههنا ، ومنهم من يسأل وينبسط وهو المراد بقوله : {والسائلين} وإنما فرق تعالى بينهما من حيث يظهر على المسكين المسكنة مما يظهر من حاله ، وليس كذلك السائل لأنه بمسألته يعرف فقره وحاجته ، وأما ابن السبيل فروي عن مجاهد أنه المسافر ، وعن قتادة أنه الضيف لأنه إنما وصل إليك من السبيل ، والأول أشبه لأن السبيل اسم للطريق وجعل المسافر ابناً له للزومه إياه كما يقال لطير الماء : ابن الماء ويقال للرجل الذي أتت عليه السنون : ابن الأيام.
وللشجعان : بنو الحرب.
وللناس : بنو الزمان.
قال ذو الرمة : (3/238)
وردت عشاء والثريا كأنها.. على قمة الرأس ابن ماء محلق
وأما قوله : {والسائلين} فعني به الطالبين ، ومن جعل الآية في غير الزكاة أدخل في هذه الآية المسلم والكافر ، روى الحسن بن علي رضي الله عنهما أنه عليه الصلاة والسلام قال : " للسائل حق حتى ولو جاء على فرس " وقال تعالى : {فِى أموالهم حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لَّلسَّائِلِ والمحروم} [المعارج : 24]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 35 ـ 37}
قوله تعالى {والمسكين وابن السبيل}
قال الآلوسى :
{والمساكين} جمع مسكين وهو الدائم السكون لما أن الحاجة أسكنته بحيث لا حراك به أو دائم السكون والالتجاء إلى الناس ، وتخصيصه بمن لا شيء له أو بمن لا يملك ما يقع موقعاً من حاجته خارج عن مفهومه {وابن السبيل} أي المسافر كما قاله مجاهد وسمي بذلك لملازمته الطريق في السفر أو لأن الطريق تبرزه فكأنها ولدته وكأن إفراده لانفراده عن أحبابه ووطنه وأصحابه فهو أبداً يتوق إلى الجمع ، ويشتاق إلى الربع ، والكريم يحن إلى وطنه حنين الشارف إلى عطنه ، أو لأنه لما لم يكن بين أبناء السبيل ، والمعطي تعارف غالباً يهون أمر الإعطاء ويرغب فيه أفردهم ليهون أمر إعطائهم وليشير إلى أنهم وإن كانوا جمعاً ينبغي أن يعتبروا كنفس واحدة فلا يضجر من إعطائهم لعدم معرفتهم وبعد منفعتهم فليفهم. أ هـ {روح المعانى حـ 2صـ 46}
قوله تعالى{وَفِي الرقاب }
قال الفخر :
أما قوله : {وَفِي الرقاب} ففيه مسألتان.
المسألة الأولى : {الرقاب} جمع الرقبة وهي مؤخر أصل العنق ، واشتقاقها من المراقبة ، وذلك أن مكانها من البدن مكان الرقيب المشرف على القوم ، ولهذا المعنى يقال : أعتق الله رقبته ولا يقال أعتق الله عنقه ، لأنه لما سميت رقبة كأنها تراقب العذاب ، ومن هذا يقال للتي لا يعيش ولدها : رقوب ، لأجل مراعاتها موت ولدها.(3/239)
المسألة الثانية : معنى الآية : ويؤتي المال في عتق الرقاب ، قال القفال : واختلف الناس في الرقاب المذكورين في آية الصدقات ، فقال قائلون : إنه يدخل فيه من يشتريه فيعتقه ، ومن يكون مكاتبها فيعينه على أداء كتابته ، فهؤلاء أجازوا شراء الرقاب من الزكاة المفروضة ، وقال قائلون : لا يجوز صرف الزكاة إلا في اعانة المكاتبين ، فمن تأول هذه الآية على الزكاة المفروضة فحينئذ يبقى فيه ذلك الاختلاف ، ومن حمل هذه الآية على غير الزكاة أجاز الأمرين فيها قطعاً ، ومن الناس من حمل الآية على وجه ثالث وهو فداء الأسارى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 38}
الأمر الثالث : من الأمور المعتبرة في تحقق ماهية البر قوله : {وأقام الصلاة وآتى الزكاة} وذلك قد تقدم ذكره. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 38}
كلام جامع ونفيس فى الآية الكريمة(3/240)
قال الإمام أبو الحسن الحرالي في العروة : وجه إنزال هذا الحرف حمل الخلق على صدق التذلل لله سبحانه وتعالى إثر التطهير من رجزهم ليعود بذلك وصل ما انقطع وكشف ما انحجب وهو حرف العبادة المتلقاة بالإيمان المثابر عليها بسابق الخوف المبادر لها تشوقاً بصدق المحبة ، فالعابد من ساقه الخوف إليها والعارف من قاده الحب لها وهو بناء ذو عمود وأركان وله حظيرة تحوطه ، فأما عموده فافراد التذلل لله سبحانه وتعالى توحيداً وطليعته آية ما كان نحو قوله سبحانه وتعالى {اعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً} [النساء : 36] طهرهم حرف الزجر من رجز عبادة إله آخر فأثبت لهم حرف الأمر التفريد حتى لا يشركوا معه في التذلل شيئاً أي شيء كان آخر ، وهو أول ما أقام الله من بناء الدين ولم يفرض غيره نحو العشر من السنين في إنزال ما أنزل بمكة وسن مع فرضه الركن الأول وهو الصلاة ، وبدئت بالوضوء عملاً من حذو تطهير القلب والنفس بحرف النهي وأعقب بالصلاة عملاً من حذو طهور القلب بالتوحيد بين يدي الرب سبحانه وتعالى ، فالوضوء وجه عمل حرف الزجر والصلاة وجه عمل حرف الأمر ، وسن على تأسيس بدار الحب لتبدو قوة الإيمان في مشهود ملازمة خدمة الأبدان. فكان أقواهم إيماناً أكثرهم وأطولهم صلاة وقنوتاً ، من أحب ملكاً خدمه ولازمه ، ولا تخدم الملوك بالكسل والتهاون وإنما تخدم بالجهد والتذلل ، فكانت الصلاة علم الإيمان تكثر بقوته وتقل بضعفه ، لأنها لو فرضت لم يظهر فيها تفاوت قوة الإيمان وصدق الحق كما لا يظهر بعد فرضها إلا في النوافل ، ولإجهاد النبي صلى الله عليه وسلم نفسه وبدنه في ذلك أنزل عليه {ما أنزلنا عليك القرآن لتشقى * إلا تذكرة لمن يخشى * تنزيلاً ممن خلق الأرض والسماوات العلى * الرحمن على العرش استوى} [طه : 2-5] - إلى قوله {الله لا إله إلا هو له الأسماء الحسنى*} [طه : 8] هذا التوحيد وإظهاره هو كان يومئذ المقصود الأول وذلك قبل إسلام(3/241)
عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه وعمر موفي أربعين من عدد المؤمنين ، فلما دخل الإسلام من لا يبعثه الحب والاستراحة على الصلاة بعد عشر أو نحوها فرضت الصلاة فاستوى في فرضها المحب والخائف ، وسن رسول الله صلى الله عليه وسلم التطوع على ما كان أصلها ، وذلك صبيحة ليلة الإسراء ، وأول منزل هذا الحرف والله سبحانه وتعالى أعلم في فرض هذا الركن أو من أول منزله قوله تعالى : {أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل وقرآن الفجر} [الإسراء : 78] اختص لهم بها أوقات الرحمة وجنبهم به أوقات الفتنة ومنه جميع آي إقامة الصلاة وإتمامها.(3/242)
الركن الآخر الصوم وهو إذلال النفس لله سبحانه وتعالى بإمساكها عن كل ما تشوف إليه من خاص أمرها نهاراً للمقتصر ودواماً للمعتكف ، وهو صلة بين العبد وبين نفسه ووصل لشتاته في ذاته ، وأول ما أنزل هذا الركن من هذا الحرف بالمدينة بعد مدة من الهجرة وأول منزله {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم} [البقرة : 183] وإنما فرض والله سبحانه وتعالى أعلم بالمدينة لأنهم لما آمنوا من عداوة الأمثال والأغيار وعام الفتنة بالمدينة عادت الفتنة خاصة في الأنفس بالتبسط في الشهوات وذلك لا يليق بالمؤمنين المؤثرين للدين على الدنيا ، ثم أنزل الله سبحانه وتعالى إتمامه بقوله تعالى : {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} [البقرة : 185] إلى ما يختص من الآي بأحكام الصيام. الركن الآخر الزكاة وهو كسر نفس الغني بما يؤخذ بأخذه منه من حق أصنافها إظهاراً لأن المشتغلين بالدين آثر عند الله سبحانه وتعالى من المقيمين على الأموال وليميز بها الذين آمنوا من المنافقين لتمكنهم من الرياء في العمود والركنين ، ولم يشهد الله سبحانه وتعالى بالنفاق جهراً أعظم من شهادته على مانع الزكاة ، ومن منع زكاة المال عن الخلق كان كمن امتنع عن زكاة قُواه بالصلاة من الحق ، فلذلك لا صلاة لمن لا زكاة له ، وكما كانت الزكاة حباً قبل فرضها كذلك كان الإنفاق لما زاد على الفضل عزماً مشهوراً عندهم لا يعرفون غيره ولا يشعرون في الإسلام بسواه ، فلما شمل الإسلام أخلاط وشحت النفوس فرضت الزكاة وعين أصنافها ، وذلك بالمدينة حين اتسعت أموالهم وكثر خير الله عندهم وحي عم نفاق قوم بها أنفة من حط رئاستهم بتذلل الإسلام لله والنصفة بخلق الله وتبين فيها الخطاب مرة لأرباب الأموال بقوله تعالى : {وآتوا الزكاة} [البقرة : 43] لتكون لهم قربة إذا آتوها سماحاً ومرة للقائم بالأمر بقوله تعالى : {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة : 103] حين يؤنس(3/243)
من نفوسهم شح وشدد الله سبحانه وتعالى فيها الوعيد في القرآن جبراً لضعف أصنافها ونسق لذلك جميع ما أنزل في بيان النفقات والصدقات بداراً عن حب أو ائتماراً عن خوف. الركن الآخر الحج وهو حشر الخلق من أقطار الأرض للوقوف بين يدي ربهم في خاتم منيتهم ومشارفة وفاتهم ليكون لهم أمنة من حشر ما بعد مماتهم ، فكمل به بناء الدين وذلك في أواخر سني الهجرة ومن آخر المنزل بالمدينة ، وأول خطابه {ولله على الناس حج البيت} [آل عمران : 97] بتنبيهه على أذان إبراهيم عليه الصلاة والسلام {وأذن في الناس بالحج يأتوك رجالاً} [الحج : 27] إلى ما أنزل في أمر الحج وأحكامه الحظيرة الحائط وهي الجهاد ، ولم تزل مصاحبة الأركان كلها إما مع ضعف كما بمكة أو مع قوة كما في المدينة ، ومن أول تصريح منزله {أذن للذين يقاتلون بأنهم ظلموا} [الحج : 39] إلى قوله {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} [التوبة : 36] {قاتلوا الذين يلونكم من الكفار} [التوبة : 123] إلى قوله : {جاهد الكفار والمنافقين} [التوبة : 73] إلى انتهاء قتال أهل الكتاب في قوله تعالى {قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر} [التوبة : 29] الآية إلى تمام المنزل في شأنه في قوله تعالى {وقاتلوهم حتى لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله} [الأنفال : 39] وهذا تمام حرف الأمر ؛ ولكل في ذلك الظاهر في الإسلام موقع حدوده في الإيمان وموقع في الإحسان لدى ثلاثتها الذي هو كمال الدين كله ، ذلك من تنزل القرآن من بين إفصاح وإفهام في هذا الحرف ، وهو وفاء الدين والتعبد لله رب العالمين. ثم قال فيما به تحصل قراءة حرف الأمر : اعلم أن الوفاء بقراءة حرف النهي تماماً يفرغ لقراءة حرف الأمر ، لأن المقتنع في معاش الدنيا يتيسر له التوسع في عمل الأخرى ، والمتوسع في متاع الدنيا لا يمكنه التوسع في عمل الأخرى لما بينهما من التضار والتضاد ، والذي تحصل به قراءة(3/244)
هذا الحرف أما من جهة القلب فالتوحيد والإخلاص ، وأعم ذلك البراءة من الشرك العظيم لئلا يتخذ مع الله إلهاً آخر ، لأن المشرك في الإلهية لا تصح منه المعاملة بالعبادة {مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون مما كسبوا على شيء} [إبراهيم : 18] وأخص منه الإخلاص بالبراءة من الشرك الجلي بأن لا يرى لله سبحانه وتعالى شريكاً في شيء من أسمائه الظاهرة ، لأن المشرك في سائر أسمائه الظاهرة لا يصح له القبول ، والذي يحلف به عبد الله بن عمر رضي الله تعالى عنه : لو أن لأحدهم مثل أحد ذهباً فأنفقه ما قبل الله منه حتى يؤمن بالقدر ، ولكل عمل من المأمورات خصوص اسم في الإخلاص كإخلاص المنفق بأن الإنعام من الله سبحانه وتعالى لا من العبد المنفق ، وكإخلاص المجاهد بأن النصر من الله سبحانه وتعالى لا من العبد المجاهد {وما النصر إلاّ من عند الله} [آل عمران : 126 والأنفال : 10] وكذلك سائر الأعمال يخصها الإخلاص في اسم من الأسماء يكون أملك بذلك العمل ، وأما من جهة أحوال النفس فأولها وأساسها طمأنينة النفس بربها في قوامها من غير طمأنينة لشيء سواه ، فمتى اطمأنت النفس بما تقدر عليه وما لها من منة أو بما تملكه من مملوك أو بما تستند إليه من غير رُدت جميع عباداتها لما اطمأنت إليه وكتب اسمها على وجهه وكانت أمته لا أمة ربها وكان المرء عبده لا عبد ربه " تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة " وهذا هو الذي أحبط عمل العاملين من حيث لا يشعرون ، وأما من جهة ما يخص كل واحد من الأوامر في أحوال النفس فما يناسبه من أحوالها وأخلاقها كاجتماعها في الصلاة بأن لا تصغي لوسواس الشيطان وأن لا تتحدث في تسويلها ، وكسماحها وسخائها في الإنفاق وإيتاء الزكاة ، وكصبرها في الصوم والصوم الصبر كلّه ، ويصحبها كل ذلك في الحج مع زيادة اليقين ، ويصحبها الجميع في الجهاد مع غريزة الشجاعة ، هذا من جهة حال النفس(3/245)
وأما من جهة العمل وأحوال الجوارح فإن أدب الناطق بكلمة الشهادة أن يجمع حواسه إلى قلبه ويحضر في قلبه كل جارحة فيه وينطق بلسانه عن جميع ذاته أحوال نفس وجوارح بدن حتى يأخذ كل عضو منه وكل جارحة فيه وكل حال لنفسه قسطه منها كما أشار إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم واعلم أن بذلك " تتحات عنه الذنوب كما يتحات الورق عن الشجر " فلم يقرأ تهليل القرآن من لم يكن ذلك حاله فيه وكذلك في تشهد الأذان ، وبذلك يهدم التهليل سيئاته في الإسلام كما هدم من المخلص به جرائم الكفران ، " سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يؤذن فلما قال : الله أكبر الله أكبر ، قال : على الفطرة ، فلما قال : لا إله إلاّ الله ، قال : خرجت من النار " وأما أدب الصلاة فخشوع الجوارح والهدو في الأركان وإتمام كل ركن بأذكاره المخصوصة به وجمع الحواس إلى القلب كحاله في الشهادة حتى لا يحقق مدرك حاسة غفلة ، وأما أدب الإنفاق فحسن المناولة ، كان النبي صلى الله عليه وسلم يناول السائل بيده ولا يكله إلى غيره الإسرار أتم {وإن تخفوها وتؤتوها الفقراء فهو خير لكم} [البقرة : 271] وينفق من كل شيء بحسب ما رزقه مياومة أو مشاهرة أو مسانهة {ومما رزقناهم ينفقون} [البقرة : 3] وأما أدب الصوم فالسحور مؤخراً والفطر معجلاً ، وصوم الأعضاء كلها عن العدل فأحرى عن الجور وترك العناية بما يفطر عليه إلى ما بعد الزوال والأخذ فيه لشهوة العيال ؛ وأما أدب الحج فاستطابة الزاد والاعتماد على ما بيد الله لا على حاصل ما بيد العبد ، وهو تزود التقوى والرفع مع الرفيق والرفق بالظهر وتحسين الأخلاق والإنفاق في الهدي وهو الثج والإعلان بالتلبية وهو العج ، وتتبع أركانه على ما تقتضيه أحكامه وإقامة شعائره على معلوم السنة لا على معهود العادة ، وأما أدب الجهاد فاستطابة الزاد وإصلاح العدة ومياسرة الخلطاء وحسن القيام على الخيل وتطييب علفها تصفية وورعاً وتناوله بيده " كان رسول(3/246)
الله صلى الله عليه وسلم يتناول علف فرسه بيده ويمسحه بردائه " والتزام ما يجد معه المنة من أن يكون فارساً أو راجلاً أو رامحاً أو نابلاً ، من تكلف غير ما يجد منته فقد ضيع الحق وعمل بالتكليف ، والصمت عند اللقاء وغض البصر عن النظر إلى الأعداء ، وقال صلى الله عليه وسلم " إذا أكثبوكم فارموهم ولا تسلوا السيوف حتى يغشوكم " ، وكف اليد عما للغير فيه حق وهو الغلول ، وأن لا يدعوا للبراز وأن يجيب إذا دعي وقال صلى الله عليه وسلم : " يقول الله عزّ وجلّ : عبدي كل عبدي الذي يذكر الله وهو ملاق قرنه " ولكل أمر وتلبس بمأمور أدب يخصه على ما يستقرأ من السنن النبوية وآثار الخلفاء وصالحي الأمراء فبهذه الأمور من إخلاص القلب وطيب النفس وأدب الجوارح ، فيصح قراءة حرف الأمر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم - انتهى. أهـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 325 ـ 330}
الأمر الرابع : قوله تعالى : {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عاهدوا} وفيه مسألتان :
المسألة الأولى : في رفع والموفون قولان أحدها : أنه عطف على محل {من آمن} تقديره لكن البر المؤمنون والموفون ، عن الفراء والأخفش الثاني : رفع على المدح على أن يكون خبر مبتدأ محذوف تقديره : وهم الموفون.(3/247)
المسألة الثانية : في المراد بهذا العهد قولان الأول : أن يكون المراد ما أخذه الله من العهود على عباده بقولهم ، وعلى ألسنة رسله إليهم بالقيام بحدوده ، والعمل بطاعته ، فقبل العباد ذلك من حيث آمنوا بالأنبياء والكتب ، وقد أخبر الله تعالى عن أهل الكتاب أنهم نقضوا العهود والمواثيق وأمرهم بالوفاء بها فقال : {يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم} [البقرة : 40] فكان المعنى في هذه الأية أن البر هو ما ذكر من الأعمال مع الوفاء بعهد الله ، لا كما نقض أهل الكتاب ميثاق الله وما وفوا بعهوده فجحدوا أنبياءه وقتلوهم وكذبوا بكتابه ، واعترض القاضي على هذا القول وقال : إن قوله تعالى : {والموفون بِعَهْدِهِمْ} صريح في إضافة هذا العهد إليهم ، ثم إنه تعالى أكد ذلك بقوله : {إِذَا عاهدوا} فلا وجه لحمله على ما سيكون لزومه ابتداء من قبله تعالى.
الجواب عنه : أنه تعالى وإن ألزمهم هذه الأشياء لكنهم من عند أنفسهم قبلوا ذلك الإلزام والتزموه ، فصح من هذا الوجه إضافة العهد إليهم.
القول الثاني : أن يحمل ذلك على الأمور التي يلتزمها المكلف ابتداء من عند نفسه.(3/248)
واعلم أن هذا العهد إما أن يكون بين العبد وبين الله ، أو بينه وبين رسول الله ، أو بينه وبين سائر الناس أما الذي بينه وبين الله فهو ما يلزمه بالنذور والإيمان ، وأما الذي بينه وبين رسول الله فهو الذي عاهد الرسول عليه عند البيعة من القيام بالنصرة والمظاهرة والمجاهدة وموالاة من والاه ومعاداة من عاداه ، وأما الذي بينه وبين سائر الناس فقد يكون ذلك من الواجبات مثل ما يلزمه في عقود المعاوضات من التسليم والتسلم ، وكذا الشرائط التي يلتزمها في السلم والرهن ، وقد يكون ذلك من المندوبات مثل الوفاء بالمواعيد في بذل المال والإخلاص في المناصرة ، فقوله تعالى : {والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عاهدوا} يتناول كل هذه الأقسام فلا معنى لقصر الآية على بعض هذه الأقسام دون البعض ، وهذا الذي قلناه هو الذي عبر المفسرون فقالوا : هم الذين إذا واعدوا أنجزوا وإذا حلفوا ونذروا وفوا ، وإذا قالوا صدقوا ، وإذا ائتمنوا أدوا ، ومنهم من حمله على قوله تعالى : {وَمِنْهُمْ مَّنْ عاهد الله لَئِنْ ءاتانا مِن فَضْلِهِ} [التوبة : 75] الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 38}
وقال الآلوسى :
{والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عاهدوا} عطف على {مَنْ ءامَنَ} ولم يقل وأوفى كما قبله إشارة إلى وجوب استقرار الوفاء ، وقيل : رمزاً إلى أنه أمر مقصود بالذات ، وقيل : إيذاناً بمغايرته لما سبق فإنه من حقوق الله تعالى والسابق من حقوق الناس ، وعلى هذا فالمراد بالعهد ما لا يحلل حراماً ولا يحرم حلالاً من العهود الجارية فيما بين الناس ، والظاهر حمل العهد على ما يشمل حقوق الحق وحقوق الخلق ، وحذف المعمول يؤذن بذلك ، والتقييد بالظرف للإشارة إلى أنه لا يتأخر إيفاؤهم بالعهد عن وقت المعاهدة ، وقيل : للإشارة إلى عدم كون العهد من ضروريات الدين وليس للتأكيد كما قيل : به أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 47}
فصل في بلاغة قوله " والمُوفُونَ " دون " وأَوْفَى "(3/249)
قال الرَّاغب : وإنَّما لم يقل " وأوْفَى " ؛ كما قال " وأَقَامَ " ؛ لأمرين :
أحدهما : اللفظ ، وهو أن الصِّلة ، متى طالت ، كان الأحسن أن يعطف على الموصول ، دون الصلة ؛ لئلاَّ يطول ويقبح.
والثاني : أنَّه ذكر في الأول ما هو داخل في حيِّز الشريعة ، وغير مستفاد إلا منها والحكمة العقليَّة تقتضي العدالة دون الجور ، ولما ذكر وفاء العهد ، وهو مما تقضي به العقول المجرَّدة ، صارعطفه على الأوَّل أحسن ، ولما كان الصَّبر من وجه مبدأ الفضائل ، ومن وجه : جامعاً للفضائل ؛ إذ لا فضيلة إلا وللصَّبر فيها أثر بليغ - غيَّر إعرابه تنبيهاً على هذا المقصد ؛ وهذا كلام حسن. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 212 }
الأمر الخامس : من الأمور المعتبرة في تحقق ماهية البر
قوله تعالى : {والصابرين فِى البأساء والضراء وَحِينَ البأس} [البقرة : 177] وفيه مسائل : المسألة الأولى : في نصب الصابرين أقوال.
الأول : قال الكسائي هو معطوف على {ذَوِى القربى} كأنه قال : وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين : قال النحويون : إن تقدير الآية يصير هكذا : ولكن البر من آمن بالله وآتى المال على حبه ذوي القربى والصابرين ، فعلى هذا قوله : {والصابرين} من صلة من قوله : {والموفون} متقدم على قوله : {والصابرين} فهو عطف على {مِنْ} فحينئذ قد عطفت على الموصول قبل صلته شيئاً ، وهذا غير جائز لأن الموصول مع الصلة بمنزلة اسم واحد ، ومحال أن يوصف الاسم أو يؤكد أو يعطف عليه إلا بعد تمامه وانقضائه بجميع أجزائه ، أما إن جعلت قوله : {والموفون} رفعاً على المدح ، وقد عرفت أن هذا الفصل غير جائز ، بل هذا أشنع لأن المدح جملة فإذا لم يجز الفصل بالمفرد فلأن لا يجوز بالجملة كان ذلك أولى.(3/250)
فإن قيل : أليس جاز الفصل بين المبتدأ والخبر بالجملة كقول القائل : إن زيداً فافهم ما أقول رجل عالم ، وكقوله تعالى : {إِنَّ الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً} [الكهف : 30] ثم قال : {أولئك} ففصل بين المتبدأ والخبر بقوله : {إِنَّا لاَ نُضِيعُ} قلنا : الموصول مع الصلة كالشيء الواحد فالتعلق الذي بينهما أشد من التعلق بين المبتدأ والخبر ، فلا يلزم من جوازه الفصل بين المبتدأ والخبر جواز بين الموصول والصلة.
القول الثاني : قول الفراء : إنه نصب على المدح ، وإن كان من صفة من ، وإنما رفع الموفون ونصب الصابرين لطول الكلام بالمدح ، والعرب تنصب على المدح وعلى الذم إذا طال الكلام بالنسق في صفة الشيء الواحد ، وأنشد الفراء :
إلى الملك القرم وابن الهمام.. وليث الكتيبة في المزدحم
وقالوا فيمن قرأ : {حَمَّالَةَ الحطب} [المسد : 4] بنصب {حَمَّالَةَ} أنه نصب على الذم ، قال أبو علي الفارسي : وإذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن تخالف بإعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها ، لأن هذا الموضع من مواضع الإطناب في الوصف والإبلاغ في القول ، فإذا خولف بإعراب الأوصاف كان المقصود أكمل ، لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان ، وعند الاتحاد في الإعراب يكون وجهاً واحداً ، وجملة واحدة.
واعلم أن من الناس من قرأ {والموفين ، والصابرين} ومنهم من قرأ {والموفون ، والصابرون}. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 39}
وقال الآلوسى : (3/251)
{والصابرين فِى البأساء والضراء} نصب على المدح بتقدير أخص أو أمدح وغير سبكه عما قبله تنبيها على فضيلة الصبر ومزيته على سائر الأعمال حتى كأنه ليس من جنس الأول ، ومجيء القطع في العطف مما أثبته الأئمة الأعلام ووقع في الكتاب أيضاً واستحسنه الأجلة وجعلوه أبلغ من الاتباع وقد جاء في النكرة أيضاً كقول الهذلي :
ويأوي إلى نسوة عطل... وشعثا مراضيع مثل السعالى
أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 47}
أما قوله : {فِى البأساء} قال ابن عباس : يريد الفقر ، وهو اسم من البؤس {والضراء} قال : يريد به المرض ، وهما اسمان على فعلاء ولا أفعل لهما ، لأنهما ليسا بنعتين {وَحِينَ البأس} قال ابن عباس رضي الله عنهما يريد القتال في سبيل الله والجهاد ، ومعنى البأس في اللغة الشدة يقال : لا بأس عليك في هذا ، أي لا شدة {بِعَذَابٍ بَئِيسٍ} [الأعراف : 165] شديد ثم تسمى الحرب بأساً لما فيها من الشدة والعذاب يسمى بأساً لشدته قال تعالى : {فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا} [غافر : 84] {فَلَمَّا أَحَسُّواْ بَأْسَنَا} [الأنبياء : 12] {فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله} [غافر : 29].
ثم قال تعالى : {أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا} أي أهل هذه الأوصاف هم الذين صدقوا في إيمانهم ، وذكر الواحدي رحمه الله في آخر هذه الآية مسألة وهي أنه قال هذه الواوات في الأوصاف في هذه الآية للجمع ، فمن شرائط البر وتمام شرط البار أن تجتمع فيه هذه الأوصاف ، ومن قام به واحد منها لم يستحق الوصف بالبر ، فلا ينبغي أن يظن الإنسان أن الموفي بعهده من جملة من قام بالبر وكذا الصابر في البأساء بل لا يكون قائماً بالبر ، إلا عند استجماع هذه الخصال ، ولذلك قال بعضهم : هذه الصفة خاصة للأنبياء عليهم السلام ، لأن غيرهم لا تجتمع فيه هذه الأوصاف كلها ، وقال آخرون : هذه عامة في جميع المؤمنين ، وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 39}(3/252)
قوله تعالى {وَحِينَ البأس }
{وَحِينَ البأس} أي وقت القتال وجهاد العدو وهذا من باب الترقي في الصبر من الشديد إلى الأشد لأن الصبر على المرض فوق الصبر على الفقر والصبر على القتال فوق الصبر على المرض ، وعدى الصبر على الأولين بفي لأنه لا يعد الإنسان من الممدوحين إذا صبر على شيء من ذلك إلا إذا صار الفقر والمرض كالظرف له وأما إذا أصاباه وقتاً مّا وصبر فليس فيه مدح كثير إذ أكثر الناس كذلك وأتى بحين في الأخير لأن القتال حالة لا تكاد تدوم في أغلب الأوقات.
أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 47}
قوله تعالى {أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا }
قال الآلوسى
{أُولَئِكَ الذين صَدَقُوا} في إيمانهم أو طلب البر. {وَأُولَئِكَ هُمُ المتقون} عذاب الله تعالى بتجنب معاصيه وامتثال أوامره ، وأتى بخبر أولئك الأولى : موصولاً بفعل ماض إيذاناً بتحقق اتصافهم به وإن ذلك قد وقع منهم واستقر ، وغاير في خبر الثانية : ليدل على أن ذلك ليس بمتجدد بل صار كالسجية لهم ، وأيضاً لو أتى به على طبق سابقه لما حسن وقوعه فاصلة. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 48}
فائدة
قال القرطبيُّ : تضمَّنت هذه الآية الكريمة ستَّ عشرة قاعدةً من أُمَّهات الأحكام :
الإيمان بالله وبأسمائه ، وصفاته ، والحشر ، والنشر ، والصراط ، والحوض ، والشَّفاعة ، والجنة ، والنار ، والملائكة ، والرُّسل ، والكتب المنزلة ، وأنَّها حقٌّ من عند الله ؛ كما تقدم ، والنَّبيين ، وإنفاق المال فيما يعنُّ له من الواجب ، والمندوب ، وإيصال القرابة ، وترك قطعهم ، وتفقُّد اليتيم ، وعدم إهماله المساكين كذلك ، ومراعاة ابن السبيل ، وهو : المسافر المنقطع به ، وقيلك الضعيف ، والسُّؤَّال ، وفكّ الرقاب ، والمحافظة على الصَّلوات ، وإيتاء الزَّكاة ، والوفاء بالعهود ، والصَّبر في الشَّدائد ، وكلُّ قاعدةٍ من هذه القواعد تحتاج إلى كتاب. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 241}
وقال العلامة ابن عاشور : (3/253)
فلله هذا الاستقراء البديع الذي يعجز عنه كل خطيب وحكيم غير العلام الحكيم. وقد جمعت هذه الخصال جماع الفضائل الفردية والاجتماعية الناشىء عنها صلاح أفراد المجتمع من أصول العقيدة وصالحات الأعمال.
فالإيمان وإقام الصلاة هما منبع الفضائل الفردية ، لأنهما ينبثق عنهما سائر التحليات المأمور بها ، والزكاة وإيتاء المال أصل نظام الجماعة صغيرها وكبيرها ، والمواساة تقوى عنها الأخوة والاتحاد وتسدد مصالح للأمة كثيرة ويبذل المال في الرقاب يتعزز جانب الحرية المطلوبة للشارع حتى يصير الناس كلهم أحراراً. والوفاء بالعهد فيه فضيلة فردية وهي عنوان كمال النفس ، وفضيلة اجتماعية وهي ثقة الناس بعضهم ببعض.
والصبر فيه جماع الفضائل وشجاعة الأمة ولذلك قال تعالى هنا : {أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون} فحصر فيهم الصدق والتقوى حصراً ادعائياً للمبالغة ، ودلت على أن المسلمين قد تحقق فيهم معنى البر ، وفيه تعريض بأن أهل الكتاب لم يتحقق فيهم ، لأنهم لم يؤمنوا ببعض الملائكة وبعض النبيئين ، ولأنهم حرموا كثيراً من الناس حقوقهم ، ولم يفوا بالعهد ، ولم يصبروا.
وفيها أيضاً تعريض بالمشركين إذ لم يؤمنوا باليوم الآخر ، والنبيين ، والكتب وسلبوا اليتامى أموالهم ، ولم يقيموا الصلاة ، ولم يؤتوا الزكاة.
ونصب (الصابرين) وهو معطوف على مرفوعات نصبٌ على الاختصاص على ما هو المتعارف في كلام العرب في عطف النعوت من تخيير المتكلم بين الاتباع في الإعراب للمعطوف عليه وبين القطع قاله الرضي ، والقطع يكون بنصب ما حقه أن يكون مرفوعاً أو مجروراً وبرفع ما هو بعكسه ليظهر قصد المتكلم القطع حين يختلف الإعراب ؛ إذ لا يعرف أن المتكلم قصد القطع إلاّ بمخالفة الإعراب ، فأما النصب فبتقدير فعل مدح أو ذم بحسب المقام ، والأظهر تقدير فعل أخُص لأنه يفيد المدح بين الممدوحين والذم بين المذمومين.
(3/254)
وقد حصل بنصب (الصابرين) هنا فائدتان : إحداهما عامة في كل قطع من النعوت ، فقد نقل عن أبي علي الفارسي أنه إذا ذكرت الصفات الكثيرة في معرض المدح أو الذم فالأحسن أن يخالف إعرابها ولا تجعل كلها جارية على موصوفها لأن هذا من مواضع الإطناب فإذا خولف إعراب الأوصاف كان المقصود أكمل لأن الكلام عند اختلاف الإعراب يصير كأنه أنواع من الكلام وضروب من البيان. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 122 ـ 123}
وقال الآلوسى
هذا والآية كما ترى مشتملة على خمس عشرة خصلة وترجع إلى ثلاثة أقسام ، فالخمسة الأولى منها تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل صحة الاعتقاد ، وآخرها قوله : {والنبيين} وافتتحها بالإيمان بالله واليوم الآخر لأنهما إشارة إلى المبدأ والمعاد اللذين هما المشرق والمغرب في الحقيقة فليتئم مع ما نفاه أولاً غاية الالتئام ، والستة التي بعدها تتعلق بالكمالات النفسية التي هي من قبيل حسن معاشرة العباد وأولها {لَّيْسَ البر} وآخرها {وَفِي الرقاب} والأربعة الأخيرة تتعلق بالكمالات الإنسانية التي هي من قبيل تهذيب النفس وأولها {لَّيْسَ البر} وآخرها {وَحِينَ البأس} ولعمري من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان ونال أقصى مراتب الإيقان. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 48}
فوائد وأسئلة وأجوبة فى الآية الكريمة لابن عرفة
قال ابن عرفة : ومن لوازم الإيمان بالملائكة الإيمان بعصمتهم وأنهم (أجسام). وصوب المقترح في شرح الإرشاد القول بثبوت الجسمية لهم بالسمع لا بالعقل ، كأنه اختار ثبوت الجوهر المفارق سمعا لا عقلا.
قوله تعالى : {واليوم الأخر...}.
قوله تعالى : {والنبيين...}.
قال ابن عرفة : (النبي) أعمّ من الرسول ، وثبوت الأعم لا يستلزم ثبوت الأخص ، فما يلزم من الإيمان بالنبي الإيمان بالرسول فهلا قيل المرسلين ؟ (3/255)
والجواب : أن ذلك باعتبار الوصف ، لأن وصف النبوة أعم من وصف الرسالة. وترتب الحكم هنا عليهم من حيث ذواتهم لا من حيث أوصافهم ، وعرف بالألف واللاّم الدالة على العموم فيدخل في ضمنه الأخص بلا شك فهو كقولك كل حيوان في الدار.
قيل لابن عرفة : أو يجاب بأن الإيمان باليوم الآخر والملاَئِكَة وَالكِتَابِ يستلزم الإيمان بالرسول ؟
فقال : لايحتاج إلى هذا والجواب ما قلناه.
فإن قلت : لم جمع الكل وأفرد ابن السبيل ؟
قلنا : لِكثرتهم باعتبار الوجود الخارجي وقلة ابن السبيل ، وقرىء {لَيْسَ البِرَّ} بالنصب.
قال ابن عرفة : و" أَنْ تُوَلُّوا " اسم ليس إما لكون " أَن " وما بعدها أعرف المعارف أو لأن التولية معلومة والبر مجهول أي ليست التولية برا.
قوله تعالى : {وَفِي الرقاب...}.
قوله تعالى : {والموفون بِعَهْدِهِمْ...}.
قال ابن عرفة : إن قلت : هلا قيل : بعهودهم فهذا أبلغ من الوفاء ، فالعهد الواحد لا يستلزم الوفاء (بالعهود) بخلاف العكس ؟
فالجواب : أنه يستلزم من ناحية أنّ المكلف إذا عاهد هو وغيره ووفى غيره بالعهود وبِهِ فإنه قد حصل الوفاء بالعهد على الإطلاق بخلاف ما إذا عاهد وحده ولم يوف فإنّه لم يقع في الوجود وفاء بالعهد ، فتعظم العقوبة والذم.
فإن قلت : ما فائدة قوله {إِذَا عَاهَدُواْ} ولو أسقط لكان الكلام مستقلاّ صحيحا ؟
فالجواب عن ذلك : أنّه أفاد سرعة الوفاء فالعهد به (يعقب) العهد منهم فهُم بنفس أن يعاهدوا يبادرون إلى الوفاء بالعهد.
قوله تعالى : {والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس...}.
(3/256)
البَأْسَاءُ هو الفقر ، والضَّرّاءُ هو المرض ، وحين البأس أي حين القتال وهذا ترق ، لأن وقوع الفقر والحاجة (في) الناس أكثر من وقوع القتال فالصبّر على القتال أشد لغرابته ، وقلة وقوعه ، ودونه الصبر على المرض ودونه الصبر على الفقر ، ولهذا تجد الفقراء الأصحاء أكثر عددا من المرضى ، والمرضى أكثر عددا من الفرسان المقاتلين.
فإن قلت : لم قال " في البأساء " فعداه بفي ولم يقل وفي البأس وكان يقال : والصابرين حين البأساء وحين الضراء ؟
فالجواب عن ذلك : أنه لما كان وقوع القتال أقلها وجودا بالنسبة إلى غيره كان الصبر عليه أغرب وأعجب فالمراد بالصابرين من حصل الوصف الكامل من الصبر ولو عدي بفي لتناول من حصل منه مطلق الصبر ، وهو الصابر في أول جزء من أجزاء القتال لأنه حينئذ يصدق بأول جزء ، فقيل : " وَحِينَ البَأْسِ " (ليفيد) كمال الصبر من أول القتال إلى آخره وأما الفقر والمرض فكلاهما أكثري الوقوع فلا غرابة فيهما فلم يحتج إلى التنبيه على كمال الصبر فيه.
قال سيدنا علي رضي الله تعالى عنه : " الصبر رأس كل عبادة وإذا ذهب رأس الشيء ذهب ذلك الشيء ". وذكر بعضهم أن العهد يكون بالقول وبالفعل كمن يحدث حديثا وهو مترقب (لمن) يسمعه فهذا كالعهد في عدم نقله عنه والتحدث به.
قوله تعالى : {أولئك الذين صَدَقُواْ...}.
كرر لفظ أُوْلئِكَ تنبيها على أن كل وصف من هذا كاف في حصول المدح والثناء لا المجموع.
قيل لابن عرفة : احتجّ بها بعض الأصوليين على أن هذه الأمور واجبة ؟
ابن عرفة : الصحيح عند الأصوليين أن الواجب ما ذمّ تاركه فالواجب إنما يستفاد من الذم على الترك لا من المدح على الفعل لأن ذلك قدر مشترك بين الواجب والمندوب.
(3/257)
قيل لابن عرفة : هذه الآية حجة على أن (ابن قتيبة) في قوله : إن الخبر المستقبل إذا طابق مخبره فإنما يسمّى موافقة و( وفاقا) ولايسمى صدقا ، وقد سماه هنا صدقا فقال : والصدق هنا المراد به المطابقة المطلقة.
( فقال ابن عرفة : بل هي حجة له لأنه يجعل {أولئك الذين صَدَقُواْ} راجعا للماضي ويجعل {الموفون بِعَهْدِهِمْ} راجعا للأمر المستقبل فيكون الكلام تأسيسا وعلى قولكم " أنتم " يكون تأكيدا والتأسيس أولى من التأكيد). أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 221 ـ 222}
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178)}
سبب النزول وفيه ثلاثة أوجه :
أحدها : أن سبب نزوله إزالة الأحكام التي كانت ثابتة قبل مبعث محمد عليه السلام ، وذلك لأن اليهود كانوا يوجبون القتل فقط ، والنصارى كانوا يوجبون العفو فقط ، وأما العرب فتارة كانوا يوجبون القتل ، وأخرى يوجبون الدية لكنهم كانوا يظهرون التعدي في كل واحد من هذين الحكمين ، أما في القتل فلأنه إذا وقع القتل بين قبيلتين إحداهما أشرف من الأخرى ، فالأشراف كانوا يقولون : لنقتلن بالعبد منا الحر منهم ، وبالمرأة منا الرجل منهم ، وبالرجل منا الرجلين منهم ، وكانوا يجعلون جراحاتهم ضعف جراحات خصومهم ، وربما زادوا على ذلك على ما يروى أن واحداً قتل إنساناً من الأشراف ، فاجتمع أقارب القاتل عند والد المقتول ، وقالوا : ماذا تريد ؟ فقال إحدى ثلاث قالوا : وما هي ؟ قال : إما تحيون ولدي ، أو تملأون داري من نجوم السماء ، أو تدفعوا إلى جملة قومكم حتى أقتلهم ، ثم لا أرى أني أخذت عوضاً.
(3/258)
وأما الظلم في أمر الدية فهو أنهم ربما جعلوا دية الشريف أضعاف دية الرجل الخسيس ، فلما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم أوجب رعاية العدل وسوى بين عباده في حكم القصاص وأنزل هذه الآية.
والرواية الثانية : في هذا المعنى وهو قول السدي : إن قريظة والنضير كانوا مع تدينهم بالكتاب سلكوا طريقة العرب في التعدي.
والرواية الثالثة : أنها نزلت في واقعة قتل حمزة رضي الله عنه.
والرواية الرابعة : ما نقلها محمد بن جرير الطبري عن بعض الناس ورواها عن علي بن أبي طالب وعن الحسن البصري أن المقصود من هذه الآية بيان أن بين الحرين والعبدين والذكرين والأنثيين يقع القصاص ويكفي ذلك فقط ، فأما إذا كان القاتل للعبد حراً ، أو للحر عبداً فإنه يجب مع القصاص التراجع ، وأما حر قتل عبداً فهو قوده ، فإن شاء موالي العبد أن يقتلوا الحر قتلوه بشرط أن يسقطوا ثمن العبد من دية الحر ، ويردوا إلى أولياء الحر بقية ديته ، وإن قتل عبداً حراً فهو به قود ، فإن شاء أولياء الحر قتلوا العبد وأسقطوا قيمة العبد من دية الحر ، وأدوا بعد ذلك إلى أولياء الحر بقية ديته ، وإن شاؤا أخذوا كل الدية وتركوا قتل العبد ، وإن قتل رجل امرأة فهو بها قود ، فإن شاء أولياء المرأة قتلوه وأدوا نصف الدية ، وإن قتلت المرأة رجلاً فهي به قود ، فإن شاء أولياء الرجل قتلوها وأخذوا نصف الدية ، وإن شاؤا أعطوا كل الدية وتركوها ، قالوا فالله تعالى أنزل هذه الآية لبيان أن الاكتفاء بالقصاص مشروع بين الحرين والعبدين والانثيين والذكرين فأما عند إخلاف الجنس فالاكتفاء بالقصاص غير مشروع فيه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 41}(3/259)
مناسبة الآية لما قبلها
ولما تقدم أن شرط رفع الإثم عن المضطر ترك العدوان وكان العدوان في ذلك وفي غيره ربما أدى إلى القتل وتلا ذلك بما استتبعه كما تقدم إلى أن ختم بهذه الآية وختمها بمدح الصبر والصدق في دعوى الإيمان والوفاء بالعهد وكل شيء وكان من جملة ما خالف فيه أهل الكتاب العهد أمر سفك الدماء فغيروه كله أو بعضه على ما أشار إليه تعالى بقوله {وإذ أخذنا ميثاقكم لا تسفكون دماءكم} [البقرة : 84] الآيات وكان الصبر على بذل الروح أعظم الصبر وفعله أعظم مصدق في الإيمان والاستسلام للقصاص أشد وفاء بالعهد أخبر المؤمنين بما أوجب عليهم من ذلك وما يتبعه فقال تعالى ملذذاً لهم بالإقبال عليهم بالخطاب {يا أيها الذين آمنوا} أي ادعوا الإيمان بألسنتهم ، ولما حصل التعديل بها وقع سابقاً من التأديب فعلم المخاطبون أن الحكم إنما هو لله بني للمجهول قوله : {كتب عليكم} أي فرض في الكتاب وقد سمعتم إنذاري للذين اختلفوا في الكتاب ، والذي عين إرادة الفرض أن الكتب استفاض في الشرع في معناه وأشعر به التعبير بعلى {القصاص} أي المساواة في القتل والجراحات لأنه من القص وهو تتبع الأثر. قال الحرالي : كأنه يتبع بالجاني إثر ما جنى فيتبع إثر عقوبته إثر جنايته - انتهى. {في القتلى} أي في سائر أمور القتل فمن قتل بشيء قتل به ، ومن قتل على كيفية قتل بمثلها ، كأن قطع يداً فسرى إلى النفس فتقطعه ، فإن سرى وإلا جززنا رقبته لتكون الآية عامة مخصوصة في بعض الصور ، ومتى لم يقل بالعموم كانت مجملة والتخصيص أولى من الإجمال ، فصدقوا دعواكم الإيمان مما يعمل الأئمة الاستيفاء وغيرهم بالانقياد فيه ولا تكونوا كأهل الكتاب الذين اختلفوا في كتابهم فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه ، وأيضاً لما ذكر إيتاء المال على حبه وكان قد ذكر أن البار هو المؤمن بالكتاب وكان من الكتاب بذل الروح المعلوم حبها عقبه به إشارة إلى أن المال عديلها لا يؤتى لأجل الله إلاّ بمحض الإيمان(3/260)
كما أن الروح لا تبذل إلا بذلك.
ولما كان أهل الكتاب قد بدلوا حكم التوراة في القصاص الذي أشير بآية المائدة إلى أنه كتب عليهم العدل فيه فكان من كان منهم أقوى جعل لقومه في ذلك فضلاً فكان بنو النضير كما نقله ابن هشام في السيرة يأخذون في قتلاهم الدية كاملة وبنو قريظة نصف الدية وكان بعضهم كما نقله البغوي في سورة المائدة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما يقتل النفس بالنفس أشار سبحانه وتعالى إلى مخالفتهم في هذا الجور مبيناً للمساواة : {الحر بالحر} ولا يقتل بالعبد لأن ذلك ليس بأولى من الحكم المذكور ولا مساوياً بقتل العبد به لأنه أولى ولا بالحكم فهو مفهوم موافقة.
ولما قدم هذا لشرفه تلاه بقوله : {والعبد بالعبد} تعظيماً للذكورية ، وكذا يقتل بالحر لأنه أولى ، ولا يقتل الحر بالعبد لأنه ليس مساوياً للحكم {والأنثى بالأنثى} وتقتل الأنثى بالذكر والذكر بها ، لأن كلًّ منهما مساوٍ للآخر وفاقا للأصل المؤيد بقوله صلى الله عليه وسلم " النساء شقائق الرجال " احتياطاً للدماء التي انتهاكها أكبر الكبائر بعد الشرك ، ونقصت الدية النصف إن كانت بدل الدم وفاقاً لقوله تعالى {وللرجال عليهن درجة} [البقرة : 228] وتنبيهاً على انحطاط حرمة الأموال عن حرمة الدماء على أن تصيب مفهوم الآية أنه لا يقتل بالمقتول إلا قاتله ، وإذا تأملت قوله {القتلى} دون أن يقول : القتل. علمت ذلك. قال الحرالي : لأن أخذ غير الجاني ليس قصاصاً بل اعتداء ثانياً ولا ترفع العدوى بالعدوى إنما ترفع العدوى بالقصاص على نحوه وحده - انتهى. وكذا أخذ غير المساوي اعتداء فلا يقتل مسلم بكافر بما أفهمه القصاص ، وتقييد الحكم بأهل الإيمان مع قوله سبحانه وتعالى {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} [الحشر : 20] في أمثالها من الآيات. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 330 ـ 332}
قال العلامة ابن عاشور : (3/261)
أعيد الخطاب بيأيُّها الذين آمنوا لأن هذا صنف من التشريع لأحكام ذات بال في صلاح المجتمع الإسلامي واستتباب نظامه وأمنه حين صار المسلمون بعد الهجرة جماعةً ذات استقلال بنفسها ومديِنتها ، فإن هاته الآيات كانت من أول ما أنزل بالمدينة عام الهجرة كما ذكره المفسرون في سبب نزولها في تفسير قوله تعالى بعدَ هذا : {وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم} [البقرة : 190] الآية.
تلك أحكام متتابعة من إصلاح أحوال الأفراد وأحوال المجتمع ، وابتُدىء بأحكام القصاص ، لأن أعظم شيء من اختلال الأحوال اختلالُ حفظ نفوس الأمة ، وقد أفرط العرب في إضاعة هذا الأصل ، يَعلم ذلك مَنْ له إلمام بتاريخهم وآدابهم وأحوالهم ، فقد بلغ بهم تطرفهم في ذلك إلى وشك الفناء لو طال ذلك فلم يتداركهم الله فيه بنعمة الإسلام ، فكانوا يغير بعضهم على بعض لغنيمة أنعامه وعبيده ونسائه فيدافع المُغَار عليه وتتلف نفوس بين الفريقين ثم ينشأ عن ذلك طلب الثارات فيسعى كل من قتل له قتيل في قَتْل قاتِل وليِّه وإن أعوزه ذلك قتل به غيره من واحدٍ كفءٍ له ، أو عدد يراهم لا يوازونه ويسمون ذلك بالتكايل في الدم أي كأنَّ دم الشريف يُكال بدماء كثيرة فربما قدروه باثنين أو بعشرة أو بمائة ، وهكذا يدور الأمر ويتزايد تزايداً فاحشاً حتى يصير تفانياً قال زهير :
تَدَارَكْتُمَا عَبْساً وذُبْيَانَ بعدَما... تَفانَوْا ودَقُّوا بينهم عِطْرَ مَنْشِم
(3/262)
وينتقل الأمر من قبيلة إلى قبيلة بالولاء والنسب والحلف والنصرة ، حتى صارت الإحن فاشية فتخاذلوا بينهم واستنصر بعض القبائل على بعض فوجد الفرس والروم مدخلاً إلى التفرقة بينهم فحكموهم وأرْهبوهم ، وإلى هذا الإشارة والله أعلم بقوله تعالى : {واذكروا نعمة الله عليكم... حتى فأنقذكم منها} [البقرة : 231] أي كنتم أعداء بأسباب الغارات والحروب فألف بينكم بكلمة الإسلام ، وكنتم على وَشْك الهلاك فأنقذكم منه فضَرب مثلاً للهلاك العاجل الذي لا يُبقي شيئاً بحفرة النار فالقائم على حافتها ليس بينه وبين الهلاك إلاّ أقلُّ حركة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 134 ـ 135}
قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ }
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} فمعناه : فرض عليكم فهذه اللفظة تقتضي الوجوب من وجهين : أحدهما : أن قوله تعالى : {كتب} يفيد الوجوب في عرف الشرع قال تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} وقال : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت إِن تَرَكَ خَيْرًا الوصية} [البقرة : 180] وقد كانت الوصية واجبة ومنه الصلوات المكتوبات أي المفردات ، وقال عليه السلام : " ثلاث كتبن علي ولم تكتب عليكم " والثاني : لفظة {عَلَيْكُمْ} مشعرة بالوجوب كما في قوله تعالى : {وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت} [آل عمران : 97] وأما القصاص فهو أن يفعل بالإنسان مثل ما فعل ، من قولك : اقتص فلان أثر فلان إذا فعل مثل فعله ، قال تعالى {فارتدا على ءاثَارِهِمَا قَصَصًا} [الكهف : 64] وقال تعالى : {وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصّيهِ} [القصص : 11] أي اتبعي أثره ، وسميت القصة قصة لأن بالحكاية تساوي المحكي ، وسمي القصص لأنه يذكر مثل أخبار الناس ، ويسمى المقص مقصاً لتعادل جانبيه.(3/263)
أما قوله تعالى : {فِي القتلى} أي بسبب قتل القتلى ، لأن كلمة {فِى} قد تستعمل للسببية كقوله عليه السلام : " في النفس المؤمنة مائة من الإبل " إذا عرفت هذا فصار تقدير الآية : يا أيها الذين آمنوا وجب عليكم القصاص بسبب قتل القتلى ، فدل ظاهر الآية على وجوب القصاص على جميع المؤمنين بسبب قتل جميع القتلى ، إلا أنهم أجمعوا على أن غير القاتل خارج من هذا العموم وأما القاتل فقد دخله التخصيص أيضاً في صور كثيرة ، وهي إذا قتل الوالد ولده ، والسيد عبده وفيما إذا قتل المسلم حربياً أو معاهداً ، وفيما إذا قتل مسلم خطأ إلا أن العام الذي دخله التخصيص يبقى حجة فيما عداه.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 41}
كلام نفيس للخازن فى هذه الآية :
القصاص المساواة والمماثلة في القتل والدية والجراح من قص الأثر إذا اتبعه فالمفعول به يتبع ما فعل فيفعل به مثل ذلك ، فلو قتل رجل رجلاً بعصا أو خنقه أو شدخ رأسه بحجر فمات فيقتل بمثل الذي قتل به وهو قول مالك والشافعي وأحدى الروايتين عن أحمد وقيل يقتل بالسيف وهو قول أبي حنيفة والرواية الثانية عن أحمد {الحر بالحر والعبد وبالعبد والأنثى بالأنثى} ومعناه أنه إذا تكافأ الدمان من الأحرار المسلمين أو العبيد من المسلمين أو الأحرار من المعاهدين أو العبيد منهم فيقتل كل صنف إذ قتل بمثله الذكر بالذكر والأنثى بالأنثى وبالذكر ولا يقتل مؤمن بكافر ولا حر بعبد ولا والد بولد ويقتل الذمي بالمسلم والعبد بالحر والولد بالوالد هذا مذهب مالك والشافعي وأحمد ويدل عليه ما روى البخاري في صحيحه عن أبي جحيفة قال : سألت علياً هل عندكم من النبي صلى الله عليه وسلم شيء سوى القرآن قال لا والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلاّ أن يؤتى الله عبداً فهماً في القرآن وما في هذه الصحيفة قلت : وما في هذه الصحيفة قال : العقل وفك الأسير وأن لا يقتل مؤمن بكافر ، وقد أخرج مسلم عن علي نحو هذا من غير رواية أبي جحيفة.(3/264)
العقل هنا هو الدية والعاقلة الجماعة من أولياء القاتل الذين يعقلون. عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " لا تقام الحدود في المساجد ، ولا يقتل الوالد بالولد " أخرجه الترمذي ، وذهب أصحاب الرأي إلى أن المسلم يقتل الذمي والحر بالعبد وهذه الآية مع الأحاديث حجة لمذهب الشافعي ومن وافقه ويقولون هي مفسرة لما أبهم في قوله : " النفس بالنفس " وأن تلك واردة لحكاية ما كتب على بني إسرائيل في التوراة وهذه الآية خطاب للمسلمين بما كتب عليهم وذهب أصحاب الرأي إلى أن هذه منسوخة بقوله " النفس بالنفس " وتقتل الجماعة بالواحد يدل عليه ما روى البخاري في صحيحه عن ابن عمر أن غلاماً قتل غيلة فقال عمر : لو اشترك فيه أهل صنعاء لقتلتهم به. قال البخاري وقال مغيرة بن حكيم عن أبيه : أن أربعة قتلوا صبياً فقال عمر مثله. وروى مالك في الموطا عن ابن المسيب أن عمر قتل نفراً خمسة أو سبعة برجل واحد قتلوه غيلة وقال : لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلهم جميعاً. الغيلة أن يقتل الرجل خديعة ومكراً من غير أن يعلم ما يراد به. وقوله لقتلهم لو تمالأ أي تعاونوا واجتمعوا عليه.
(3/265)
وقوله تعالى : {فمن عفي له من أخيه شيء} أي ترك له وصفح عنه من الواجب عليه وهو القصاص في قتل العمد ، ورضي بالدية أو العفو عنها ، أو قبول الدية في قتل العمد من أخيه أي من دم أخيه وأراد بالأخ ولي المقتول ، وإنما قيل له أخ لأنه لابسه من قبل أنه ولي الدم والمطالب به. وقيل : إنما ذكره بلفظ الأخوة ليعطف احدهما على صاحبه بما هو ثابت بينهما من الجنسية وأخوة الإسلام. وفي قوله شيء دليل على أن بعض الأولياء إذا عفا سقط القود وثبتت الدية لأن شيئاً من الدم قد بطل {فاتباع بالمعروف} أي فليتبع الولي القاتل بالمعروف فلا يأخذ أكثر من حقه ولا يعنفه {وأداء إليه بإحسان} أي على القاتل أداء الدية إلى ولي الدم من غير مماطلة ، أمر كل واحد منهما بالإحسان فيما له وعليه وقيل في تقدير الآية : وإذا عفا ولي الدم عن شيء يتعلق بالقاتل ، وهو وجوب القصاص فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف وليؤد ما وجب عليه من الدية إلى ولي الدم بإحسان من غير مطل ولا مدافعة. وفي الآية دليل على أن القاتل لا يصير كافراً وأن الفاسق مؤمن ووجه ذلك من وجوه : الأول إن الله تعالى خاطبه بعد القتل بالإيمان وسماه مؤمناً بقوله : {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم القصاص} فسماه مؤمناً حال ما وجب عليه من القصاص.
وإنما وجب عليه بعد صدور القتل منه وقتل العمد والعدوان من الكبائر بالإجماع فدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن.
الوجة الثاني : أنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وولي الدم بقوله : {فمن عفي له من أخيه شيء} أراد بالأخوة أخوة الإيمان فلولا أن الإيمان باق على القاتل لم تثبت له الأخوة.
الوجه الثالث : أنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل ، والعفو لا يليق إلاّ عن المؤمن لا عن الكافر. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 107}
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور : (3/266)
القصاص بوزن فِعال وهو وزن مصدر فَاعَلَ من القص وهو القطع ومنه قولهم : طائر مقصوص الجناح ومنه سمي المقص لآلة القص أي القطع وقصة الشعر بضم القاف ما يقص منه لأنه يجري في حقين متبادلين بين جانبين يقال قاصّ فلان فلاناً إذا طرح من دين في ذمته مقداراً بدين له في ذمة الآخر فشبه التناصف بالقطع لأنه يقطع النزاع الناشب قبله ، فلذلك سمي القَود وهو تمكينُ ولي المقتول من قَتل قاتِل مولاه قصاصاً قال تعالى : {ولكم في القصاص حياة} [البقرة : 179] ، وسميت عقوبة من يجرح أحداً جُرحاً عمداً عدواناً بأن يُجْرح ذلك الجارح مثل ما جَرح غيره قصَاصاً قال تعالى : {والجروح قصاص} [المائدة : 45] وسموا معاملة المعتدي بمثل جرمه قصاصاً {والحرمت قصاص} [البقرة : 194] ، فماهية القصاص تتضمن ماهية التعويض والتماثل.
فقوله تعالى : {كتب عليكم القصاص في القتلى} يتحمّل معنى الجزاء على القتل بالقتل للقاتل وتتحمل معنى التعادل والتماثل في ذلك الجزاء بما هو كالعوض له والمِثل ، وتتحمل معنى أنه لا يقتل غير القاتل ممن لا شركة له في قتل القتيل فأفاد قوله : {كتب عليكم} حق المؤاخذة بين المؤمنين في قتل القتلى فلا يذهب حق قتيل باطلاً ولا يُقتل غير القاتل باطلاً ، وذلك إبطال لما كانوا عليه في الجاهلية من إهمال دم الوضيع إذا قتله الشريف وإهمال حق الضعيف إذا قتله القَوي الذي يُخشى قومه ، ومن تَحَكُّمهم بطلب قتل غير القاتل إذا قَتَل أحد رجُلاً شريفاً يطلبون قتل رجل شريف مثله بحيث لا يقتلون القاتل إلاّ إذا كان بواء للمقتول أي كفءا له في الشرف والمجد ويعتبرون قيمة الدماء متفاوتة بحسب تفاوت السودد والشرف ويُسمون ذلك التفاوت تكَايُلاً من الكيل ، قالت ابنة بهدل بن قرقة الطائي تستثير رهطها على قتل رجل قتل أباها وتَذكر أنها ما كانت تقنع بقتله به لولا أن الإسلام أبطل تكايل الدماء :
(3/267)
أَمَا فِي بَنِي حِصْننٍ من ابننِ كريهة... مِنَ القوْم طَلاَّببِ الترَّاتتِ غَشَمْشَمِ
فيَقتُلَ جَبْراً بامرىءٍ لم يكن له... بَوَاءً ولكن لا تَكايُلَ بالدَّم
قال النبي صلى الله عليه وسلم " المسلمون تتكافأ دماؤهم ".
وقد ثبت بهذه الآية شرع القصاص في قتل العمد ، وحكمة ذلك ردع أهل العدوان عند الإقدام على قتل الأنفس إذا علموا أن جزاءهم القتل ، فإن الحياة أعز شيء على الإنسان في الجبلة فلا تعادل عقوبةٌ القتلَ في الردع والانزجار ، ومن حكمة ذلك تطمين أولياء القتلى بأن القضاء ينتقم لهم ممَّن اعتدى على قتيلهم قال تعالى : {ومن قتل مظلوماً فقد جعلنا لوليه سلطاناً فلا يسرف في القتل إنه كان منصوراً} [الإسراء : 33] أي لئلا يتصدى أولياء القتيل للانتقام من قاتل مولاهم بأنفسهم ؛ لأن ذلك يفضي إلى صورة الحرب بين رهطين فيكثر فيه إتلاف الأنفس كما تقدم في الكلام على صدر الآية ، ويأتي عند قوله تعالى : {ولكم في القصاص حياة} [البقرة : 179].
وأول دم أقيد به في الإسلام دم رجل من هذيل قتله رجل من بني ليث فأقاد منه النبي صلى الله عليه وسلم وهو سائر إلى فتح الطائف بموضع يقال له : بَحْرَةُ الرُّغَاء في طريق الطائف وذلك سنة ثمان من الهجرة.
و {في} من قوله : {في القتلى} ، للظرفية المجازية والقصاص لا يكون في ذوات القتلى ، فتعين تقدير مضاف وحذفُه هنا ليشمل القصاص سائر شؤون القتلى وسائر معاني القصاص فهو إيجاز وتعميم.
وجمع {القتلى} باعتبار جمع المخاطبين أي في قتلاكم ، والتعريف في القتلى تعريف الجنس ، والقتيل هو من يقتله غيره من الناس والقتل فعل الإنسان إماتة إنسان آخر فليس الميت بدون فعل فاعل قتيلاً.(3/268)
وجملة {الحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} بيان وتفصيل لجملة {كُتبَ عليكم القصاص في القتلى} فالباء في قوله : {بالحر} وما بعده ، متعلقة بمحذوف دل عليه معنى القصاص والتقدير الحر يقتصُّ أو يقتل بالحر الخ ومفهوم القيد مع ما في الحر والعبد والأنثى من معنى الوصفية يقتضي أن الحر يقتل بالحر لا بغيره والعبد يقتل بالعبد لا بغيره ، والأنثى تقتل بالأنثى لا بغيرها.
وقد اتفق علماء الإسلام على أن هذا المفهوم غير معمول به باطراد ، لكنهم اختلفوا في المقدار المعمول به منه بحسب اختلاف الأدلة الثابتة من الكتاب والسنة وفي المراد من هذه الآية ومحمل معناها ، ففي "الموطأ" "قال مالك أحسن ما سمعت في هذه الآية أن قوله تعالى : {الحر بالحر والعبد بالعبد} فهؤلاء الذكور وقوله : {والأنثى بالأنثى} أن القصاص يكون بين الإناث كما يكون بين الذكور والمرأة الحرة تقتل بالمرأة الحرة كما يقتل الحر بالحر والأمة تقتل بالأمة كما يقتل العبد بالعبد والقصاص يكون بين النساء كما يكون يبن الرجال. والقصاص أيضاً يكون بين الرجال والنساء". أي وخُصَّت الأنثى بالذكر مع أنها مشمولة لعموم الحر بالحر والعبد لئلا يتوهم أن صيغة التذكير في قوله : {الحر} وقوله : {العبد} مراد بها خصوص الذكور.
قال القرطبي عن طائفة أن الآية جاءت مبينة لحكم النوع إذا قتل نوعه فبيّنت حكم الحر إذا قتل حراً والعبد إذا قتل عبداً والأنثى إذا قتلت أنثى ولم يتعرض لأحد النوعين إذا قتل الآخر ، فالآية محكمة وفيها إجمال يبيّنه قوله تعالى : {وكتبنا عليهم فيها أن النفس} [المائدة : 45] الآية اه. وعلى هذا الوجه فالتقييد لبيان عدم التفاضل في أفراد النوع ، ولا مفهوم له فيما عدا ذلك من تفاضل الأنواع إثباتاً ولا نفياً. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 135 ـ 138}(3/269)
سؤالان : فإن قيل : قولكم هذه الآية تقتضي وجوب القصاص فيه إشكالان الأول : أن القصاص لو وجب لوجب إما على القاتل ، أو على ولي الدم ، أو على ثالث ، والأقسام الثلاثة باطلة ، وإنما قلنا : إنه لا يجب على القاتل لأن القاتل لا يجب عليه أن يقتل نفسه ، بل يحرم عليه ذلك ، وإنما قلنا : إنه غير واجب على ولي الدم لأن ولي الدم مخير في الفعل والترك ، بل هو مندوب إلى الترك بقوله : {وَأَن تَعْفُواْ أَقْرَبُ للتقوى} [البقرة : 237] والثالث أيضاً باطل لأنه يكون أجنبياً عن ذلك القتل والأجنبي عن الشي لا تعلق له به.
السؤال الثاني : إذا بينا أن القصاص عبارة عن التسوية فكان مفهوم الآية إيجاب التسوية وعلى هذا التقدير لا تكون الآية دالة على إيجاب القتل ألبتة ، بل أقصى ما في الباب أن الآية تدل على وجوب رعاية التسوية في القتل الذي يكون مشروعاً وعلى هذا التقدير تسقط دلالة الآية على كون القتل مشرعاً بسبب القتل.
والجواب عن السؤال الأول : من وجهين الأول : أن المراد إيجاب إقامة القصاص على الإمام أو من يجرى مجراه ، لأنه متى حصلت شرائط وجوب القود فإنه لا يحل للإمام أن يترك القود لأنه من جملة المؤمنين ، والتقدير : يا أيها الأئمة كتب عليكم استيفاء القصاص إن أراد ولي الدم استيفاءه والثاني : أنه خطاب مع القاتل والتقدير : يا أيها القاتلون كتب عليكم تسليم النفس عند مطالبة الولي بالقصاص وذلك لأن القاتل ليس له أن يمتنع ههنا وليس له أن ينكر ، بل للزاني والسارق الهرب من الحد ولهما أيضاً أن يستترا بستر الله ولا يقرأ ، والفرق أن ذلك حق الآدمي.
وأما الجواب عن السؤال الثاني : فهو أن ظاهر الآية يقتضي إيجاب التسوية في القتل والتسوية في القتل صفة القتل وإيجاب الصفة يقتضي إيجاب الذات ، فكانت الآية مفيدة لإيجاب القتل من هذا الوجه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 42}
إشكال وجوابه للعلامة الطاهر ابن عاشور(3/270)
ما وجه تخصيص الأنثى بعد قوله تعالى : {الحر بالحر والعبد بالعبد} ؟ وهل تخرج الأنثى عن كونها حرة أو أمة بعد ما تبين أن المراد بالحر والعبد الجنسان ؛ إذ ليس صيغة الذكور فيها للاحتراز عن النساء منهم ؛ فإن (ال) لمّا صيرته اسم جنس صار الحكم على الجنس وبطل ما فيه من صيغة تأنيث كما يبطل ما فيه من صيغة جمع إن كانت فيه.
ولأجل هذا الإشكال سألت العلامة الجد الوزير رحمه الله عن وجه مجيء هذه المقابلة المشعرة بألا يقتص من صنف إلاّ لقتل مماثله في الصفة فترك لي ورقة بخطه فيها ما يأتي : الظاهر والله تعالى أعلم أن الآية (يعني آية سورة المائدة) نزلت إعلاماً بالحكم في بني إسرائيل تأنيساً وتمهيداً لحكم الشريعة الإسلامية ، ولذلك تضمنت إناطة الحكم بلفظ النفس المتناول للذكر والأنثى الحر والعبد الصغير والكبير ، ولم تتضمن حكماً للعبيد ولا للإناث ، وصدرت بقوله {وكتبنا عليهم فيها} [المائدة : 45] ، والآية الثانية (يعني آية سورة البقرة) صدرت بقوله : {كتب عليكم} وناط الحكم فيها بالحرية المتناولة للأصناف كلها ثم ذكر حكم العبيد والأناث رداً على من يزعم أنه لا يقتص لهم ، وخصص الأنثى بالأنثى للدلالة على أن عدمها معصوم ، وذلك لأنه إذا اقتص لها من الأنثى ولم يقتص لها من الذكر صار الدم معصوماً تارة لذاته غير معصوم أخرى وهذا من لطف التبليغ حيث كان الحكم متضمناً لدليله ، فقوله : كتب القتل والقتال علينا... وعلى الغانيات جر الذيول
حكم جاهلي اه.
(3/271)
يعني أن الآية لم يقصد منها إلاّ إبطال ما كان عليه أمر الجاهلية من ترك القصاص لشرف أو لقلة اكتراث ، فقصدت التسوية بقوله {الحر بالحر والعبد بالعبد} أي لا فضل لحر شريف على حر ضعيف ولا لعبيد السادة على عبيد العامة وقصدت من ذكر الأنثى إبطال ما كان عليه الجاهلية من عدم الاعتداد بجناية الأنثى واعتبارها غير مؤاخذة بجناياتها ، وأراد بقوله : حكم جاهلي أنه ليس جارياً على أحكام الإسلام ؛ لأن البيت لعمر ابن أبي ربيعة وهو شاعر إسلامي من صدر الدولة الأموية.
فإن قلت : كان الوجه ألا يقول : {بالأنثى} المشعر بأن الأنثى لا تقتل بالرجل مع إجماع المسلمين على أن المرأة يقتص منها للرجل. قلت : الظاهر أن القيد خرج مخرج الغالب ، فإن الجاري في العرف أن الأنثى لا تقتل إلاّ أنثى ، إذ لا يتثاور الرجال والنساء فذكر {بالأنثى} خارج على اعتبار الغالب كمخرج وصف السائمة في قول النبي صلى الله عليه وسلم " في الغنم السائمة الزكاة " والخلاصة أن الآية لا يلتئم منها معنى سليم من الإشكال إلاّ معنى إرادة التسوية بين الأصناف لقصد إبطال عوائد الجاهلية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 138 ـ 139}
سؤال : قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} هذه الآية تدل بظاهرها على أن القصاص أمر حتم لابد منه بدليل قوله تعالى كتب عليكم لأن معناه فرض وحتم عليكم مع أنه تعالى ذكر أيضا أن القصاص ليس بمتعين لأن ولي الدم بالخيار في قوله تعالى : {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} الآية. والجواب ظاهر وهو أن فرض القصاص إلزامه فيما إذا لم يعف أولياء الدم أو بعضهم , كما يشير إليه قوله تعالى : {وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ} الآية. أ هـ {دفع إيهام الاضطراب صـ 35}
فائدة
قال الفخر : (3/272)
اتفقوا على أن هذا القاتل إذا لم يتب وأصر على ترك التوبة ؛ فإن القصاص مشروع في حقه عقوبة من الله تعالى وأما إذا كان تائباً فقد اتفقوا على أنه لا يجوز أن يكون عقوبة وذلك لأن الدلائل دلت على أن التوبة مقبولة قال تعالى : {وَهُوَ الذى يَقْبَلُ التوبة عَنْ عباده ويعفو عن السيآت} [الشورى : 25] وإذا صارت التوبة مقبولة امتنع أن يبقى التائب مستحقاً لعقاب ، ولأنه عليه السلام قال : " التوبة تمحو الحوبة " فثبت أن شرع القصاص في حق التائب لا يمكن أن يكون عقوبة ثم عند هذا اختلفوا فقال أصحابنا : يفعل الله ما يشاء ولا اعتراض عليه في شيء وقالت المعتزلة إنما شرع ليكون لطفاً به ثم سألوا أنفسهم فقالوا : إنه لا تكلف بعد القتل فكيف يكون هذا القتل لطفاً به ؟ وأجابوا عنه بأن هذا القتل فيه منفعة لولي المقتول من حيث التشفي ومنفعة لسائر المكلفين من حيث يزجر سائر الناس عن القتل ، ومنفعة للقاتل من حيث إنه متى علم أنه لا بد وأن يقتل صار ذلك داعياً له إلى الخير وترك الإصرار والتمرد.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 43}
قوله تعالى {الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى} ففيه قولان :
القول الأول : إن هذه الآية تقتضي أن لا يكون القصاص مشروعاً إلا بين الحرين وبين العبدين وبين الأنثيين.(3/273)
واحتجوا عليه بوجوه الأول : أن الألف واللام في قوله : {الحر} تفيد العموم فقوله : {الحر بِالْحُرّ} يفيد أن يقتل كل حر بالحر ، فلو كان قتل حر بعبد مشروعاً لكان ذلك الحر مقتولاً لا بالحر وذلك ينافي إيجاب أن يكون كل حر مقتولاً بالحر الثاني : أن الباء من حروف الجر فيكون متعلقاً لا محالة بفعل ، فيكون التقدير : الحر يقتل بالحر والمبتدأ لا يكون أعم من الخبر ، بل إما أن يكون مساوياً له أو أخص منه ، وعلى التقديرين فهذا يقتضي أن يكون كل حر مقتولاً بالحر وذلك ينافي كون حر مقتولاً بالعبد الثالث : وهو أنه تعالى أوجب في أول الآية رعاية المماثلة وهو قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} فلما ذكر عقيبة قوله : {الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد} دل ذلك على أن رعاية التسوية في الحرية والعبدية معتبرة ، لأن قوله : {الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد} خرج مخرج التفسير لقوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} وإيجاب القصاص على الحر بقتل العبد إهمال لرعاية التسوية في هذا المعنى ، فوجب أن لا يكون مشروعاً فإن احتج الخصم بقوله تعالى :
(3/274)
{وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس} [المائدة : 45] فجوابنا أن الترجيح معنا لوجهين أحدهما : أن قوله : {وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النفس بالنفس} شرع لمن قبلنا ، والآية التي تمسكنا بها شرع لنا ولا شك أن شرعنا أقوى في الدلالة من شرع من قبلنا وثانيهما : أن الآية التي تمسكنا بها مشتملة على أحكام النفوس على التفصيل والتخصيص ، ولا شك أن الخاص مقدم على العام ، ثم قال أصحاب هذا القول مقتضى ظاهر هذه الآية أن لا يقتل العبد إلا بالعبد ، وأن لا تقتل الأثنى إلا بالأنثى ، إلا أنا خالفنا هذا الظاهر لدلالة الاجتماع ، وللمعنى المستنبط من نسق هذه الآية ، وذلك المعنى غير موجود في قتل الحر بالعبد ، فوجب أن يبقى ههنا على ظاهر اللفظ ، أما الإجماع فظاهر ، وأما المعنى المستنبط فهو أنه لما قتل العبد بالعبد فلأن يقتل بالحر وهو فوقه كان أولى ، بخلاف الحر فإنه لما قتل بالحر لا يلزم أن يقتل بالعبد الذي هو دونه ، وكذا القول في قتل الأثنى بالذكر ، فأما قتل الذكر بالأنثى فليس فيه إلا الإجماع والله أعلم.
(3/275)
القول الثاني : أن قوله تعالى : {الحر بِالْحُرّ} لا يفيد الحصر ألبتة ، بل يفيد شرع القصاص بين المذكورين من غير أن يكون فيه دلالة على سائر الأقسام ، واحتجوا عليه بوجهين الأول : أن قوله : {والأنثى بالأنثى} يقتضي قصاص المرأة الحرة بالمرأة الرقيقة ، فلو كان قوله : {الحر بِالْحُرّ والعبد بالعبد} مانعاً من ذلك لوقع التناقض الثاني : أن قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} جملة تامة مستقلة بنفسها وقوله : {الحر بِالْحُرّ} تخصيص لبعض جزئيات تلك الجملة بالذكر وإذا تقدم ذكر الجملة المستقلة كان تخصيص بعض الجزئيات بالذكر لا يمتنع من ثبوت الحكم في سائر الجزئيات بل ذلك التخصيص يمكن أن يكون لفوائد سوى نفي الحكم عن سائر الصور ، ثم اختلفوا في تلك الفائدة فذكروا فيها وجهين الأول : وهو الذي عليه الأكثرون أن تلك الفائدة بيان إبطال ما كان عليه أهل الجاهلية على ما روينا في سبب نزول هذه الآية أنهم كانوا يقتلون بالعبد منهم الحر من قبيلة القاتل ، ففائدة التخصيص زجرهم عن ذلك.
(3/276)
واعلم أن للقائلين بالقول الأول أن يقولوا قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} هذا يمنع من جواز قتل الحر بالعبد لأن القصاص عبارة عن المساواة ، وقتل الحر بالعبد لم يحصل فيه رعاية المساواة لأنه زائد عليه في الشرف وفي أهلية القضاء والإمامة والشهادة فوجب أن لا يكون مشروعاً ، أقصى ما في الباب أنه ترك العمل بهذا النص في قتل العالم بالجاهل والشريف بالخسيس ، إلا أنه يبقى في غير محل الإجماع على الأصل ، ثم إن سلمنا أن قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} يوجب قتل الحر بالعبد ، إلا أنا بينا أن قوله : {بِالْحُرّ والعبد بالعبد} يمنع من جواز قتل الحرب بالعبد ؛ هذا خاص وما قبله عام والخاص مقدم على العام لا سيما إذا كان الخاص متصلاً بالعام في اللفظ فإنه يكون جارياً مجرى الاستثناء ولا شك في وجوب تقديمه على العام.
الوجه الثاني : في بيان فائدة التخصيص ما نقله محمد بن جرير الطبري عن علي بن أبي طالب والحسن البصري ، أن هذه الصور هي التي يكتفي فيها بالقصاص ، أما في سائر الصور وهي ما إذا كان القصاص واقعاً بين الحر والعبد ، وبين الذكر والأنثى ، فهناك لا يكتفي بالقصاص بل لا بد فيه من التراجع ، وقد شرحنا هذا القول في سبب نزول هذه الآية ، إلا أن كثيراً من المحققين زعموا أن هذا النقل لم يصح عن علي بن أبي طالب وهو أيضاً ضعيف عند النظر لأنه قد ثبت أن الجماعة تقتل بالواحد ولا تراجع ، فكذلك يقتل الذكر بالأنثى ولا تراجع ، ولأن القود نهاية ما يجب في القتل فلا يجوز وجوب غيره معه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 44 ـ 45}
قوله تعالى {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء }
المناسبة
قال البفاعى : (3/277)
ولما فتح سبحانه وتعالى لنا باب الرحمة بالقصاص منبهاً على تبكيت أهل الكتاب وكان ذلك من حكم التوراة لكن على سبيل الحتم وكان العفو على النصارى كذلك أظهر في الفرقان زيادة توسعة بوضع هذا الإصر عنا بالتخيير بينهما. قال الحرالي : نقلاً من عقاب الآخرة إلى ابتلاء الدنيا ونقلاً من ابتلاء الدنيا في الدم إلى الكفارة بأخذ حظ من المال كما كان في الفداء الأول لذبح إبراهيم عليه الصلاة والسلام من ولده فقال : {فمن عفي له} عن جنايته من العفو وهو ما جاء بغير تكلف ولا كره - انتهى. وعبر بالبناء للمفعول إشارة إلى أن الحكم يتبع العفو من أي عاف كان له العفو في شيء من الحق ولو كان يسيراً وهو معنى قوله : {من أخيه شيء} أي أي شيء كان من العفو بالنزول عن طلب الدم إلى الدية ، وفي التعبير بلفظ الأخ كما قال الحرالي تأليف بين الجاني والمجني عليه وأوليائه من حيث {ما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ} [النساء : 92] وإن لم يكن خطأ الطبع فهو خطأ القصد من حيث لم يقصد أن يقتل مؤمناً إنما قصد أن يقتل عدوّاً وشاتماً أو عادياً على أهله وماله أو ولده.
فإذا انكشف حجاب الطبع عاد إلى أخوة الإيمان {فاتباع} أي فالأمر في ذلك اتباع من ولي الدم {بالمعروف} فيه توطين النفس على كسرها عن حدة ما تجره إليها أحقاد الجنايات ، والمعروف ما شهد عيانة لموافقته وبقبول موقعه بين الأنفس فلا يلحقها منه تنكر.
ولما أمر المتبع أمر المؤدي فقال {وأدآء إليه بإحسان} لئلا يجمع بين جنايته أو جناية وليه وسوء قضائه ، وفي إعلامه إلزام لأولياء الجاني بالتذلل والخضوع والإنصاف لأولياء المقتول بما لهم من السلطان {فقد جعلنا لوليه سلطاناً} [الإسراء : 22] فيراقبون فيهم رحمة الله التي رحمهم بها فلم يأخذ الجاني بجنايته - انتهى.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 332}
قال الفخر : (3/278)
أما قوله تعالى : {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء فاتباع بالمعروف وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بإحسان} فاعلم أن الذين قالوا : موجب العمد أحد أمرين إما القصاص وإما الدية تمسكوا بهذه الآية وقالوا الآية تدل على أن في هذه القصة عافياً ومعفواً عنه ، وليس ههنا إلا ولي الدم والقاتل ، فيكون العافي أحدهما ولا يجوز أن يكون هو القاتل لأن ظاهر العفو هو إسقاط الحق وذلك إنما يتأتى من الولي الذي له الحق على القتل ، فصار تقدير الآية : فإذا عفي ولي الدم عن شيء يتعلق بالقاتل فليتبع القاتل ذلك العفو بمعروف ، وقوله : {شَىْء} مبهم فلا بد من حمله على المذكور السابق وهو وجوب القصاص إزالة للإبهام ، فصار تقدير الآية إذا حصل العفو للقاتل عن وجوب القصاص ، فليتبع القاتل العافي بالمعروف ، وليؤد إليه مالاً بإحسان ، وبالإجماع لا يجب أداء غير الدية ، فوجب أن يكون ذلك الواجب هو الدية ، وهذا يدل على أن موجب العمد هو القود أو المال ، ولو لم يكن كذلك لما كان المال واجباً عند العفو عن القود ، ومما يؤكد هذا الوجه قوله تعالى : {ذلك تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ} أي أثبت الخيار لكم في أخذ الدية ، وفي القصاص رحمة من الله عليكم ، لأن الحكم في اليهود حتم القصاص والحكم في النصارى حتم العفو فخف عن هذه الأمة وشرع لهم التخيير بين القصاص والدية ، وذلك تخفيف من الله ورحمة في حق هذه الأمة لأن ولي الدم قد تكون الدية آثر عنده من القود إذا كان محتاجاً إلى المال ، وقد يكون القود آثر إذا كان راغباً في التشفي ودفع شر القاتل عن نفسه ، فجعل الخيرة له فيما أحبه رحمة من الله في حقه.
فإن قيل : لا نسلم أن العافي هو ولي الدم وقوله العفو إسقاط الحق وذلك لا يليق إلا بولي الدم.
(3/279)
قلنا : لا نسلم أن العفو هو إسقاط الحق ، بل المراد من قوله : {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء} أي فمن سهل له من أخيه شيء ، يقال : أتاني هذا المال عفواً صفواً ، أي سهلاً ، ويقال : خذ ما عفا ، أي ما سهل ، قال الله تعالى : {خُذِ العفو} فيكون تقدير الآية : فمن كان من أولياء الدم وسهل له من أخيه الذي هو القاتل شيء من المال فليتبع ولي الدم ذلك القاتل في مطالبة ذلك المال وليؤد القاتل إلى ولي الدم ذلك المال بالإحسان من غير مطل ولا مدافعة ، فيكون معنى الآية على هذا التقدير : إن الله تعالى حث الأولياء إذا دعوا إلى الصلح من الدم على الدية كلها أو بعضها أن يرضوا به ويعفوا عن القود.
سلمنا أن العافي هو ولي الدم ، لكن لم لا يجوز أن يقال : المراد هو أن يكون القصاص مشتركاً بين شريكين فيعفو أحدهما فحينئذ ينقلب نصيب الآخر مالاً فالله تعالى أمر الشريك الساكت باتباع القاتل بالمعروف ، وأمر القاتل بالأداء إليه بإحسان.
سلمنا أن العافي هو ولي الدم سواء كان له شريك أو لم يكن ، لكن لم لا يجوز أن يقال : إن هذا مشروط برضا القاتل ، إلا أنه تعالى لم يذكر رضا القاتل لأنه يكون ثابتاً لا محالة لأن الظاهر من كل عامل أنه يبذل كل الدنيا لغرض دفع القتل عن نفسه لأنه إذا قتل لا يبقى له لا النفس ولا المال أما بذل المال ففيه إحياء النفس ، فلما كان هذا الرضا حاصلاً في الأعم الأغلب لا جرم ترك ذكره وإن كان معتبراً في النفس الأمر.
(3/280)
والجواب : حمل لفظ العفو في هذه الآية على إسقاط حق القصاص أولى من حمله على أن يبعث القاتل المال إلى ولي الدم ، وبيانه من وجهين الأول : أن حقيقة العفو إسقاط الحق ، فيجب أن لا يكون حقيقة في غيره دفعاً للاشتراك ، وحمل اللفظ في هذه الآية على إسقاط الحق أولى من حمله على ما ذكرتم ، لأنه لما تقدم قوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} كان حمل قوله : {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء} على إسقاط حق القصاص أولى ، لأن قوله : {شَىْء} لفظ مبهم وحمل هذا المبهم على ذلك المعنى الذي هو المذكور السابق أولى الثاني : أنه لو كان المراد بالعفو ما ذكرتم ، لكان قوله : {فاتباع بالمعروف وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بإحسان} عبثاً لأن بعد وصول المال إليه بالسهولة واليسر لا حاجة به إلى اتباعه ، ولا حاجة بذلك المعطي إلى أن يؤمر بأداء ذلك المال بالإحسان.
وأما السؤال الثاني فمدفوع من وجهين الأول : أن ذلك الكلام إنما يتمشى بفرض صورة مخصوصة ، وهي ما إذا كان حق القصاص مشتركاً بين شخصين ثم عفا أحدهما وسكت الآخر ، والآية دالة على شرعية هذا الحكم على الإطلاق ، فحمل اللفظ المطلق على الصورة الخاصة المفيدة خلاف الظاهر والثاني : أن الهاء في قوله : {وَأَدَاء إِلَيْهِ بإحسان} ضمير عائد إلى مذكور سابق ، والمذكور السابق هو العافي ، فوجب أداء هذا المال إلى العافي ، وعلى قولكم : يجب أداؤه إلى غير العافي فكان قولكم باطلاً.
وأما السؤال الثالث أن شرط الرضا إما أن يكون ممتنع الزوال ، أو كان ممكن الزوال ، فإن كان ممتنع الزوال ، فوجب أن يكون مكنة أخذ الدية ثابتة لولي الدم على الإطلاق ، وإن كان ممكن الزوال كان تقييد اللفظ بهذا الشرط الذي ما دلت الآية على اعتباره مخالفة للظاهر وأنه غير جائز. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 46}
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور : (3/281)
وللمفسرين مناح كثيرة في تفسير ألفاظها ذكر القرطبي خمسة منها ، وذكر في "الكشاف" تأويلاً آخر ، وذكر الطيبي تأويلين راجعين إلى تأويل "الكشاف" ، واتفق جميعهم على أن المقصد منها الترغيب في المصالحة عن الدماء ، وينبغي ألا نذهب بأفهام الناظر طرائق قدداً ، فالقول الفصل أن نقول : إن ما صدق من في قوله : {فمن عفى له} هو ولي المقتول وإن المراد بأخيه هو القاتل وصفاً بأنه أخ تذكيراً بأخوة الإسلام وترقيقاً لنفس ولي المقتول ؛ لأنه إذا اعتبر القاتل أخاً له كان من المروءة ألا يرضى بالقَوَد منه ؛ لأنه كمن رضي بقتل أخيه ، ولقد قال بعض العرب : قتل أخوه ابناً له عمداً فقدم إليه ليقتاد منه فألقى السيف وقال :
أَقول للنفس تَأْسَاءً وتَعْزيَة... إِحدى يَدَيَّ أصابتْني ولم تُرِدِ
كِلاَهُما خَلَفٌ من فَقْدِ صاحبه... هَذَا أخي حينَ أَدْعُوهُ وذَا ولَدِي
وما صدق {شيء} هو عرض الصلح ، ولفظ شيء اسم متوغل في التنكير دال على نوع ما يصلح له سياق الكلام ، وقد تقدم حسن موقع كلمة شيء عند قوله تعالى : {ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع} [البقرة : 155].
ومعنى {عفى له من أخيه} أنه أعطى العفو أي الميسور على القاتل من عوض الصلح. ومن معاني العفو أنه الميسور من المال الذي لا يجحف بباذله وقد فسر به العفو من قوله تعالى : {خذ العفو} [الأعراف : 199] ، وإيثار هذا الفعل لأنه يؤذن بمراعاة التيسير والسماحة وهي من خلق الإسلام فهذا تأكيد للترغيب الذي دل عليه قوله : {من أخيه} ، والتعيبر عن عوض الدم بشيء لأن العوض يختلف فقد يُعرض على ولي الدم مال من ذهب أو فضة وقد يعرض عليه إبل أو عروض أو مقاصة دماء بين الحيين ؛ إذ ليس العوض في قتل العمد معيناً كما هو في دية قتل الخطأ.
(3/282)
(واتّباع) و(أداء) مصدران وقعا عوضاً عن فعلين والتقدير : فليتبع اتباعاً وليؤد أداء فعدل عن أن ينصب على المفعولية المطلقة إلى الرفع لإفادة معنى الثبات والتحقيق الحاصل بالجملة الاسمية كما عدل إلى الرفع في قوله تعالى : {قال سلام} [هود : 69] بعد قوله : {قالوا سلاماً} [هود : 69] ، وقد تقدم تطور المصدر الذي أصله مفعول مطلق إلى مصيره مرفوعاً عند قوله تعالى : {الحمد لله} [الفاتحة : 2] ، فنظم الكلام : فاتباعٌ حاصلٌ ممن عفي له من أخيه شيء وأداءٌ حاصل من أخيه إليه ، وفي هذا تحريض لمن عفي له على أن يقبل ما عفي له وتحريض لأخيه على أداء ما بذله بإحسان. والاتباع مستعمل في القبول والرضا ، أي فليرض بما عفي له كقول النبي صلى الله عليه وسلم " وإذا أتبع أحدكم على مَلِيء فليتبع ".
والضمير المقدر في (اتباع) عائد إلى {من عفي له} والضمير المقدر في أدَاء عائد إلى (أخيه) ، والمعنى : فليرضى بما بذل له من الصلح المتيسر ، وليؤد باذلُ الصلح ما بذله دون مماطلة ولا نقص ، والضمير المجرور باللام والضمير المجرور بإلى عائداننِ على {فمن عفى له }.
ومقصد الآية الترغيب في الرضا بأخذ العوض عن دم القتيل بدلاً من القصاص لتغيير ما كان أهل الجاهلية يتَعيرون به من أخذ الصلح في قتل العمد ويعدونه بيعاً لدم مولاهم كما قال مُرَّةُ الفَقْعَسِي :
فلا تَأْخذوا عَقْلاً من القَوْم إِنَّنِي... أَرى العَارَ يبقَى والمَعَاقِلَ تَذْهَبُ
وقال غيره يَذْكر قوماً لم يَقْبَلوا منه صلحاً عن قتيل :
فلَوْ أَنَّ حيّاً يقبَلُ المالَ فِدْيَةً... لسُقْنَا لهم سَبْباً من المال مُفْعَمَا
ولكِنْ أَبَى قَوْمٌ أُصيبَ أخُوهُمُ... رِضَا العَار فاختاروا على اللَّبَن الدَّمَا
وهذا كله في العفو على قتل العمد وأما قتل الخطأ فإن شأنه الدية عن عاقلة القاتل وسيأتي في سورة النساء.(3/283)
وإطلاقُ وصف الأخ على المماثل في دين الإسلام تأسيسُ أصل جاء به القرآن جعل به التوافق في العقيدة كالتوافق في نسب الإِخوة ، وحَقّاً فإن التوافق في الدين آصرة نفسانية والتوافق في النسب آصرة جسدية والروح أشرف من الجسد. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 141}
أبحاث لفظية في معرض السؤال والجواب للعلامة فخر الدين الرازى.
البحث الأول : كيف تركيب قوله : {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء}.
الجواب : تقديره : فمن له من أخيه شيء من العفو ، وهو كقوله : سير بزيد بعض السير وطائفة من السير.
البحث الثاني : أن {عُفِىَ} يتعدى بعن لا باللام ، فما وجه قوله : {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ}.
الجواب : أنه يتعدى بعن إلى الجاني وإلى الذنب ، فيقال عفوت عن فلان وعن ذنبه قال الله تعالى : {عَفَا الله عَنكَ} [التوبة : 43] فإذا تعدى إلى الذنب قيل : عفوت عن فلان عما جنى ، كما تقول : عفوت له عن ذنبه ، وتجاوزت له عنه ، وعليه هذه الآية ، كأنه قيل : فمن عفى له من جنايته ، فاستغنى عن ذكر الجناية.
البحث الثالث : لم قيل شيء من العفو ؟ .
والجواب : من وجهين أحدهما : أن هذا إنمايشكل إذا كان الحق ليس إلا القود فقط ، فحينئذ يقال : القود لا يتبعض فلا يبقى لقوله : {شَىْء} فائدة ، أما إذا كان مجموع حقه إما القود وإما المال كان مجموع حقه متبعضاً لأن له أن يعفو عن القود دون المال ، وله أن يعفو عن الكل ، فلما كان الأمر كذلك جاز أن يقول {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء }.(3/284)
والجواب الثاني : أن تنكير الشيء يفيد فائدة عظيمة ، لأنه يجوز أن يتوهم أن العفو لا يؤثر في سقوط القود ، إلا أن يكون عفواً عن جميعه ، فبين تعالى أن العفو عن جزئه كالعفو عن كله في سقوط القود ، وعفو بعض الأولياء عن حقه ، كعفو جميعهم عن خلقهم ، فلو عرف الشيء كان لا يفهم منه ذلك ، فلما نكره صار هذا المعنى مفهوماً منه ، فلذلك قال تعالى : {فَمَنْ عُفِىَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَىْء}.
البحث الرابع : بأي معنى أثبت الله وصف الأخوة.
والجواب : قيل : إن ابن عباس تمسك بهذه الآية في بيان كون الفاسق مؤمناً من ثلاثة أوجه : الأول : أنه تعالى سماه مؤمناً حال ما وجب القصاص عليه ، وإنما وجب القصاص عليه إذا صدر عنه القتل العمد العدوان وهو بالإجماع من الكبائر ، وهذا يدل على أن صاحب الكبيرة مؤمن والثاني : أنه تعالى أثبت الأخوة بين القاتل وبين ولي الدم ، ولا شك أن هذه الأخوة تكون بسبب الدين ، لقوله تعالى : {إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ} [الحجرات : 15] فلولا أن الإيمان باقٍ مع الفسق وإلا لما بقيت الأخوة الحاصلة بسبب الإيمان الثالث : أنه تعالى ندب إلى العفو عن القاتل ، والندب إلى العفو إنما يليق بالمؤمن ، أجابت المعتزلة عن الوجه الأول فقالوا : إن قلنا المخاطب بقوله : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} هم الأئمة فالسؤال زائل ، وإن قلنا : إنهم هم القاتلون فجوابه من وجهين أحدهما : أن القاتل قبل إقدامه على القتل كان مؤمناً ، فسماه الله تعالى مؤمناً بهذا التأويل والثاني : أن القاتل قد يتوب وعند ذلك يكون مؤمناً ، ثم إنه تعالى أدخل فيه غير التائب على سبيل التغليب.
(3/285)
وأما الوجه الثاني : وهو ذكر الأخوة ، فأجابوا عنه من وجوه الأول : أن الآية نازلة قبل أن يقتل أحد أحداً ، ولا شك أن المؤمنين إخوة قبل الإقدام على القتل والثاني : الظاهر أن الفاسق يتوب ، وعلى هذا التقدير يكون ولي المقتول أخاً له والثالث : يجوز أن يكون جعله أخاً له في النسب كقوله تعالى : {وإلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا} [الأعراف : 65] والرابع : أنه حصل بين ولي الدم وبين القاتل تعلق واختصاص ، وهذا القدر يكفي في إطلاق اسم الأخوة ، كم تقول للرجل ، قل لصاحبك كذا إذا كان بينهما أدنى تعلق والخامس : ذكره بلفظ الأخوة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من الجنسية في الإقرار والاعتقاد.
والجواب : أن هذه الوجوه بأسرها تقتضي تقييد الأخوة بزمان دون زمان ، وبصفة دون صفة ، والله تعالى أثبت الأخوة على الإطلاق.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 47}
قوله تعالى {فاتباع بالمعروف وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بإحسان }
قال الفخر :
وأما قوله تعالى : {فاتباع بالمعروف وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بإحسان} ففيه أبحاث : البحث الأول : قوله : {فاتباع بالمعروف} رفع لأنه خبر مبتدأ محذوف وتقديره : فحكمه اتباع ، أو هو مبتدأ خبره محذوف تقديره : فعليه اتباع بالمعروف.
البحث الثاني : قيل : على العافي الاتباع بالمعروف ، وعلى المعفو عنه أداء بإحسان ، عن ابن عباس والحسن وقتادة ومجاهد ، وقيل : هما على المعفو عنه فإنه يتبع عفو العافي بمعروف ، ويؤدي ذلك المعروف إليه بإحسان.(3/286)
البحث الثالث : الاتباع بالمعروف أن لا يشدد بالمطالبة ، بل يجرى فيها على العادة المألوفة فإن كان معسراً فالنظرة ، وإن كان واجداً لعين المال فإنه لا يطالبه بالزيادة على قدر الحق ، وإن كان واجداً لغير المال الواجب ، فالإمهال إلى أن يبتاع ويستبدل ، وأن لا يمنعه بسبب الاتباع عن تقديم الأهم من الواجبات ، فأما الأداء بإحسان فالمراد به أن لا يدعي الإعدام في حال الإمكان ولا يؤخره مع الوجود ، ولا يقدم ما ليس بواجب عليه ، وأن يؤدي ذلك المال على بشر وطلاقة وقول جميل. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 47 ـ 48}
قوله تعالى {ذلك تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ }
المناسبة
قال البقاعى : (3/287)
ولما وسع لنا سبحانه وتعالى بهذا الحكم نبه على علته تعظيماً للمنة فقال : {ذلك} أي الأمر العظيم الرفق وهو التخيير بين القصاص والعفو مجاناً وعلى الدية {تخفيف} أي عن القتال وأوليائه {من ربكم} المحسن إليكم بهذه الحنيفية السمحة وهذا الحكم الجميل ، وجمع الضمير مراعاة كما قال الحرالي للجانبين لأن كل طائفة معرضة لأن تصيب منها الأخرى - انتهى. {ورحمة} لأولياء القتيل بالدية وللآخرين بالعفو عن الدم ، روى البخاري في التفسير عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : " كان في بني إسرائيل القصاص ولم تكن فيهم الدية ، فمن عفي له من أخيه شيء أي يقبل الدية في العمد ذلك تخفيف من ربّكم ورحمة مما كتب على من كان قبلكم فمن اعتدى بعد ذلك قتل بعد قبول الدية " انتهى. وقال أهل التفسير : كتب على اليهود القصاص وحرم عليهم الدية والعفو وعلى النصارى العفو وحرم عليهم الدية ولما كانت هذه منة عظيمة تسبب عنها تهديد من أباها فقال تعالى : {فمن اعتدى} أي بالقتل {بعد ذلك} أي التخيير والعفو ولو كان العافي غيره {فله عذاب أليم *} بقتله أو أخذ الدية منه جزاء على عداوته بقدره وتعديه بما أشعر بإبائه لهذه الرخصة التي حكم بها المالك في عبيده الملك الذي لا تسوغ مخالفته ، وفي تسمية جزائه بالعذاب وعدم تخصيصه بإحدى الدارين إعلام بشياعه في كليهما تغليظاً عليه. قال الحرالي : وفي الآية دليل على أن القاتل عمداً لا يصير بذلك كافراً ، قال الأصبهاني : قال ابن عباس : سمي القاتل في أول الآية مؤمناً وفي وسطها أخاً ولم يؤيسه آخرها من التخفيف والرحمة. أ هـ
{نظم الدرر حـ 1 صـ 333}
قال الفخر : (3/288)
أما قوله تعالى : {ذلك تَخْفِيفٌ مّن رَّبّكُمْ وَرَحْمَةٌ} ففيه وجوه أحدها : أن المراد بقوله : {ذلك} أي الحكم بشرع القصاص والدية تخفيف في حقكم ، لأن العفو وأخذ الدية محرمان على أهل التوراة والقصاص مكتوب عليهم ألبتة والقصاص والدية محرمان على أهل الإنجيل والعفو مكتوب عليهم وهذه الأمة مخيرة بين القصاص والدية والعفو توسعة عليهم وتيسيراً ، وهذا قول ابن عباس ، وثانيها : أن قوله : {ذلك} راجع إلى قوله : {فاتباع بالمعروف وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بإحسان }. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 48}
قوله تعالى {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك }
قال الفخر : (3/289)
أما قوله : {فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك} التخفيف يعني جاوز الحد إلى ما هو أكثر منه قال ابن عباس والحسن : المراد أن لا يقتل بعد العفو والدية ، وذلك لأن أهل الجاهلية إذا عفوا وأخذوا الدية ، ثم ظفروا بعد ذلك بالقاتل قتلوه ، فنهى الله عن ذلك وقيل المراد : أن يقتل غير قاتله ، أو أكثر من قاتله أو طلب أكثر مما وجب له من الدية أو جاوز الحد بعد ما بين له كيفية القصاص ويجب أن يحمل على الجميع لعموم اللفظ (فله عذاب أليم) وفيه قولان أحدهما : وهو المشهور أنه نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة والثاني : روي عن قتادة أن العذاب الأليم هو أن يقتل لا محالة ولا يعفى عنه ولا يقبل الدية منه لقوله عليه السلام : " لا أعافي أحداً قتل بعد أن أخذ الدية " وهو المروي عن الحسن وسعيد بن جبير وهذا القول ضعيف لوجوه أحدها : أن المفهوم من العذاب الأليم عند الإطلاق هو عذاب الآخرة وثانيها : أنا بينا أن القود تارة يكون عذاباً وتارة يكون امتحاناً ، كما في حق التائب فلا يصح إطلاق اسم العذاب عليه إلا في وجه دون وجه وثالثها : أن القاتل لمن عفي عنه لا يجوز أن يختص بأن لا يمكن ولي الدم من العفو عنه لأن ذلك حق ولي الدم فله إسقاطه قياساً على تمكنه من إسقاط سائر الحقوق والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 48}
أسئلة وأجوبة دقيقة لابن عرفة
قوله تعالى : {يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص...}.
قال ابن عرفة : الخطاب للمؤمنين.
فإن قلنا : إنّ الكفار مخاطبون بفروع الشريعة ؟
فنقول : إنما عين المؤمنين هنا لما ذكره المفسرون في سبب نزول هذه الآية. قال : كتب بمعنى فرض أو كتب في اللوح المحفوظ.
وأورد الشيخ ابن العربي هنا سؤالا قال : كيف يفهم الكتب بمعنى الفرض مع أن القصاص غير واجب ؟ (3/290)
قال ابن عرفة : والجواب أنّا إذا اعتبرنا جهة المجني عليه ووليه فالقصاص غير واجب لأنه مخير بين القصاص وأخذ الدية ، وإذا راعينا جهة الجاني فالقصاص غير (واجب). إن طلب الولي الدية ، وهذا بخلاف الدين فإنّ رب الدّين إذا أسقط دينه وامتنع من أخذه وأبى ذلك المديون فإنه يجبر رب المال على أخذ دينه ، ولذلك إذا حلف أنه لا يأخذه وحلف المديون أنه لايحبسه فأنه يحنث رب المال وما ذاك إلا لحفظ النفوس ، بخلاف الأموال فإن المديان يقول له : لا أقبل (مزيتك) ولا أحبها.
قال ابن عرفة في هذا : والقصاص (فعال) لأنه يفعل كما فعل له (كالاتباع) سواء لأنه يفعل كفعل المتبع.
قال ابن العربي : واحتج بها الحنفية على أن المسلم يقتل بالكافر لقولهم " الحر بالحر " فعمم ولم يقيد ولو كان بينهما فرق لبينه.
وأجيب بقوله : {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} ولا أخوة بين المسلم والكافر إلا أن يريد بالأخوة الصحبة فحينئذ (لايزال السؤال واردا). لكن يجاب بما قال الفخر الرازي في المحصول في قوله تعالى {لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة} قال : المراد نفي مطلق المساواة في الخلود وغيره فاحتج به الشافعي على أنّ المسلم لا يقتل بالكافر.
قال : والأعم لا إشعار له بالأخص.
قال ابن عرفة : ورد عليه بعضهم بأنه لا يستوي فعل في سياق النّفي فيعم لأن نفي الأعم أخص من نفي الأخص (فنقول) تلك الآية دلت على نفي مساواة بينهما فلا يقتل المسلم بالكافر.
قال الفقيه أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الأنصاري القرطبي : قال الكوفيون والثوري : يقتل الحر بالعبد والمسلم بالكافر الذمّي.
واحتجّوا بهذه الآية. قالوا : الذّمي مع (الحر) متساويان في حرمة الدم على التأبيد بدليل أن المسلم يقطع بسرقة مال الذمي كمال المسلم فيتساويان في الذّم إذ المال إنما يحترم بحرمة مالكه.
(3/291)
قال ابن عرفة : يقال : إنّما قطع في المال لأنه من فساد الأرض بدليل قول مالك : إن الكافر إذا سرق من مال المسلم فإنما تقطع يده ، وإذا زنا بالمسلمة طائعة فإنه لا يحد وما ذلك إلا لأنّ أخذ المال من الفساد في الأرض بخلاف الزنا.
قال ابن عرفة : وقولهم في العبد إذا جنى جناية وقطع يد المسلم إنّ سيده مخيّر ، فله أن يسلمه في الجناية مع أنه يبقى سليما في بدنه.
والصواب كان في عقوبته أن تقطع يده لأن إسلامه في الجناية كبيعه ، فما يظلم (بذلك) إلاّ سيّده وأما هو فلم يقع عليه عقاب ولا حد يرتدع به بوجه.
وغلط الزمخشري هنا في نقله عن الإمام مالك رضي الله عنه لأنه قال : مذهب مالك والشافعي أن الحر لا يقتل بالعبد ، والذكر لا يقتل بالأنثى. أخذ بهذه الآية.
( واختلفوا في هذه الآية) فقيل : إنها منسوخة بآية المائدة وقيل مجملة وتلك مبينة لها.
وقال ابن العربي : تلك مجملة وهذه مبنية (لها ). أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 223}
قال الثعالبى فى معنى الآية
وقوله تعالى : {يا أيها الذين ءامَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص...} الآيةَ : {كُتِبَ} : معناه : فُرِضَ ، وأُثْبِتَ ، وصورةُ فَرْضِ القصاصِ ، هو أنَّ القاتل فُرِضَ عليه ، إِذا أراد الوليُّ القتل ، الاِستسلامُ لأمر اللَّه ، وأن الوليَّ فرض عليه الوقوفُ عند قتل وليِّه ، وترك التعدِّي على غيره ، فإِن وقع الرضَا بدون القصاص من دية أو عفو ، فذلك مباحٌ ، والآية معلِّمة أن القِصَاصَ هو الغايةُ عند التَّشَاحِّ ، و{القصاص} : مأخوذ من : قَصِّ الأثر ؛ فكأن القاتل سلك طريقاً من القتل ، فقص أثره فيها.
روي عن ابن عَبَّاس ؛ أنَّ هذه الآية مُحْكَمة ، وفيها إِجمال فسَّرته آية "المائدة" ، وأن قوله سبحانه : {الحر بِالْحُرِّ} يعمُّ الرجال والنساء ، وأجمعتِ الأمة على قتل الرجُلِ بالمرأةِ ، والمرأة بالرجل.(3/292)
وقوله تعالى : {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ...} الآيةَ : فيه تأويلاتٌ :
أحدها : أنَّ "مَنْ" يرادُ بها القاتلُ ، و"عُفِيَ" : تتضمن عافياً ، وهو وليُّ الدم ، والأخُ : هو المقتولُ ، و"شَيْءٌ" : هو الدمُ الذي يعفى عنه ، ويرجع إلى أخذ الدية ، هذا قول ابْنِ عَبَّاس ، وجماعة من العلماء ، والعَفْوُ على هذا القولِ على بابه.
والتأويلُ الثَّاني : وهو قول مالكٍ ؛ أنَّ "مَنْ" يراد بها الوليُّ ، وعُفِيَ : بمعنى : يُسِّرَ ، لا على بابها في العَفْو ، والأخُ : يراد به القاتل ، و"شَيْءٌ" : هي الديةُ ، والأخوَّة على هذا أخوَّة الإِسلام.
والتأويل الثالثُ : أنَّ هذه الألفاظ في معنى : الَّذين نزلَتْ فيهم الآيةُ ، وهم قومٌ تقاتَلُوا ، فقتل بعضُهم بعضاً ، فأُمِرَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم أن يصلحَ بينهم ، ويُقَاصَّهم بعضَهم من بعض بالدِّيَات على استواء الأحرار بالأحرار ، والنساء بالنساء ، والعبيد بالعبيد ، فمعنى الآية : فمن فضِل له من إِحدى الطائفتين على الأخرى شيْءٌ من تلك الدِّيَاتِ ، وتكون : "عُفِيَ" بمعنى فَضِلَ.
وقوله تعالى : {فاتباع} : تقديره : فالواجبُ والحُكْمُ : اتباع ، وهذا سبيلُ الواجباتِ ؛ كقوله تعالى : {فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ} [البقرة : 229] وأما المندوبُ إِلَيْه ، فيأتي منصوباً ؛ كقوله تعالى : {فَضَرْبَ الرقاب} [محمد : 4] ، وهذه الآية حضٌّ من اللَّه تعالى على حسن الاقتضاءِ من الطالِبِ ، وحُسْنِ القضاء من المُؤَدِّي.
وقوله سبحانه : {ذلك تَخْفِيفٌ} إِشارة إِلى ما شرعه لهذه الأمة ، من أخذ الدية ، وكانت بنو إِسرائيل لا ديَةَ عندهم ، إِنما هو القِصَاصُ فَقَطْ ، والاعتداء المتوعَّد عليه في هذه الآية ، هو أنْ يأخذ الرجُلُ ديةَ وليِّه ، ثم يقتل القاتل بعد سقوط الدم.أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 133 ـ 134}
وقال السعدى(3/293)
يمتن تعالى على عباده المؤمنين ، بأنه فرض عليهم {الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى} أي : المساواة فيه ، وأن يقتل القاتل على الصفة ، التي قتل عليها المقتول ، إقامة للعدل والقسط بين العباد.
وتوجيه الخطاب لعموم المؤمنين ، فيه دليل على أنه يجب عليهم كلهم ، حتى أولياء القاتل حتى القاتل بنفسه إعانة ولي المقتول ، إذا طلب القصاص وتمكينه من القاتل ، وأنه لا يجوز لهم أن يحولوا بين هذا الحد ، ويمنعوا الولي من الاقتصاص ، كما عليه عادة الجاهلية ، ومن أشبههم من إيواء المحدثين.
ثم بيَّن تفصيل ذلك فقال : {الْحُرُّ بِالْحُرِّ} يدخل بمنطوقها ، الذكر بالذكر ، {وَالأنْثَى بِالأنْثَى} والأنثى بالذكر ، والذكر بالأنثى ، فيكون منطوقها مقدما على مفهوم قوله : "الأنثى بالأنثى "مع دلالة السنة ، على أن الذكر يقتل بالأنثى ، وخرج من عموم هذا الأبوان وإن علوا ، فلا يقتلان بالولد ، لورود السنة بذلك ، مع أن في قوله : {الْقِصَاصُ} ما يدل على أنه ليس من العدل ، أن يقتل الوالد بولده ، ولأن في قلب الوالد من الشفقة والرحمة ، ما يمنعه من القتل لولده إلا بسبب اختلال في عقله ، أو أذية شديدة جدا من الولد له.
وخرج من العموم أيضا ، الكافر بالسنة ، مع أن الآية في خطاب المؤمنين خاصة.
وأيضا فليس من العدل أن يقتل ولي الله بعدوه ، والعبد بالعبد ، ذكرا كان أو أنثى ، تساوت قيمتهما أو اختلفت ، ودل بمفهومها على أن الحر ، لا يقتل بالعبد ، لكونه غير مساو له ، والأنثى بالأنثى ، أخذ بمفهومها بعض أهل العلم فلم يجز قتل الرجل بالمرأة ، وتقدم وجه ذلك.
وفي هذه الآية دليل على أن الأصل وجوب القود في القتل ، وأن الدية بدل عنه ، فلهذا قال : {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ} أي : عفا ولي المقتول عن القاتل إلى الدية ، أو عفا بعض الأولياء ، فإنه يسقط القصاص ، وتجب الدية ، وتكون الخيرة في القود واختيار الدية إلى الولي.(3/294)
فإذا عفا عنه وجب على الولي ، [أي : ولي المقتول] أن يتبع القاتل {بِالْمَعْرُوفِ} من غير أن يشق عليه ، ولا يحمله ما لا يطيق ، بل يحسن الاقتضاء والطلب ، ولا يحرجه.
وعلى القاتل {أَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ} من غير مطل ولا نقص ، ولا إساءة فعلية أو قولية ، فهل جزاء الإحسان إليه بالعفو ، إلا الإحسان بحسن القضاء ، وهذا مأمور به في كل ما ثبت في ذمم الناس للإنسان ، مأمور من له الحق بالاتباع بالمعروف ، ومن عليه الحق ، بالأداء بإحسان (2).
وفي قوله : {فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ} ترقيق وحث على العفو إلى الدية ، وأحسن من ذلك العفو مجانا.
وفي قوله : {أَخِيهِ} دليل على أن القاتل لا يكفر ، لأن المراد بالأخوة هنا أخوة الإيمان ، فلم يخرج بالقتل منها ، ومن باب أولى أن سائر المعاصي التي هي دون الكفر ، لا يكفر بها فاعلها ، وإنما ينقص بذلك إيمانه.
وإذا عفا أولياء المقتول ، أو عفا بعضهم ، احتقن دم القاتل ، وصار معصوما منهم ومن غيرهم ، ولهذا قال : {فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ} أي : [ص 85] بعد العفو {فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ} أي : في الآخرة ، وأما قتله وعدمه ، فيؤخذ مما تقدم ، لأنه قتل مكافئا له ، فيجب قتله بذلك.
وأما من فسر العذاب الأليم بالقتل ، فإن الآية تدل على أنه يتعين قتله ، ولا يجوز العفو عنه ، وبذلك قال بعض العلماء والصحيح الأول ، لأن جنايته لا تزيد على جناية غيره. أ هـ {تفسير السعدى صـ 84}
فائدة
قال فى التحرير والتنوير :
(3/295)
تفريع عن حكم العفو لأن العفو يقتضي شكر الله على أن أنجاهُ بشرع جواز العفو وبأن سخر الولي للعفو ، ومن الشكر ألاّ يعود إلى الجناية مرة أخرى ، فإن عاد فله عذاب أليم ، وقد فسر الجمهور العذاب الأليم بعذاب الآخرة والمراد تشديد العذاب عليه كقوله تعالى : {ومن عاد فينتقم الله منه} [المائدة : 95] ، ثم له من حكم العفو والدية ما للقاتل ابتداء عندهم ، وفسره بعضهم بعذاب الدنيا أعني القتل فقالوا : إن عاد المعفو عنه إلى القتل مرة أخرى فلا بد من قتله ولا يمكن الحاكم الولي من العفو ونقلوا ذلك عن قتادة وعكرمة والسدي ورواه أبو داود عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم وروي عن عمر بن عبد العزيز أنه موكول إلى اجتهاد الإمام.
والذي يستخلص من أقوالهم هنا سواء كان العذاب عذاب الآخرة أو عذاب الدنيا أن تكرر الجناية يوجب التغليظ وهو ظاهر من مقاصد الشارع ؛ لأن الجناية قد تصير له دُربة فعَوْده إلى قتل النفس يؤذن باستخفافه بالأنفس فيجب أن يُراح منه الناس ، وإلى هذا نظر قتادة ومن معه ، غير أن هذا لا يمنع حكم العفو إن رضي به الولي ؛ لأن الحق حقه ، وما أحسن قول عمر بن عبد العزيز بتفويضه إلى الإمام لينظر هل صار هذا القاتل مِزْهَقَ أَنْفُس ، وينبغي إن عُفي عنه أن تشدد عليه العقوبة أكثر من ضرب مائة وحَبس عام وإن لم يقولوه ؛ لأن ذكر الله هذا الحكمَ بعد ذكر الرحمة دليلٌ على أن هذا الجاني غير جدير في هاته المرة بمزيد الرحمة ، وهذا موضع نظر من الفقه دقيق ، قد كان الرجل في الجاهلية يقتل ثم يدفع الدية ثم يغدره ولي الدم فيقتله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 144}(3/296)
(بحث علمي فى القصاص)
كانت العرب أوان نزول آية القصاص وقبله تعتقد القصاص بالقتل لكنها ما كانت تحده بحد وإنما يتبع ذلك قوة القبائل وضعفها فربما قتل الرجل بالرجل والمرأة بالمرأة فسلك في القتل مسلك التساوي وربما قتل العشرة بالواحد والحر بالعبد والرئيس بالمرؤوس وربما أبادت قبيلة قبيلة أخرى لواحد قتل منها.
وكانت اليهود تعتقد القصاص كما ورد في الفصل الحادي والعشرين والثاني والعشرين من الخروج والخامس والثلاثين من العدد ، وقد حكاه القرآن حيث قال تعالى : (وكتبنا لهم فيها أن النفس بالنفس والعين بالعين والأنف بالأنف والأذن بالأذن والسن بالسن والجروح قصاص) المائدة - 45.
وكانت النصاري على ما يحكى لا ترى في مورد القتل إلا العفو والدية ، وسائر الشعوب والأمم على اختلاف طبقاتهم ما كانت تخلو عن القصاص في القتل في الجملة وإن لم يضبطه ضابط تام حتى القرون الأخيرة.
والإسلام سلك في ذلك مسلكا وسطا بين الإلغاء والإثبات فأثبت القصاص وألغى تعينه ، بل أجاز العفو والدية ثم عدل القصاص بالمعادلة بين القاتل والمقتول ، فالحر بالحر والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى.
وقد اعترض على القصاص مطلقا وعلى القصاص بالقتل خاصة بأن القوانين المدنية التي وضعتها الملل الراقية لا ترى جوازها وإجرائها بين البشر اليوم.(3/297)
قالوا : إن القتل بالقتل مما يستهجنه الإنسان وينفر عنه طبعه ويمنع عنه وجدانه إذا عرض عليه رحمة وخدمة للإنسانية ، وقالوا : إذا كان القتل الأول فقدا لفرد فالقتل الثاني فقد على فقد ، وقالوا : إن القتل بالقصاص من القسوة وحب الانتقام ، وهذه صفة يجب أن تزاح عن الناس بالتربية العامة ويؤخذ في القاتل أيضا بعقوبة التربيه ، وذلك إنما يكون بما دون القتل من السجن والأعمال الشاقة ، وقالوا : إن المجرم إنما يكون مجرما إذا كان مريض العقل فالواجب أن يوضع القاتل المجرم في المستشفيات العقلية ويعالج فيها ، وقالوا إن القوانين المدنية تتبع الاجتماع الموجود ، ولما كان الاجتماع غير ثابت على حال واحد كانت القوانين كذلك فلا وجه لثبوت القصاص بين الاجتماع للأبد حتى الاجتماعات الراقيه اليوم ، ومن اللازم أن يستفيد الاجتماع من وجود أفرادها ما استيسر ، ومن الممكن أن يعاقب المجرم بما دون القتل مما يعادل القتل من حيث الثمرة والنتيجة كحبس الأبد أو حبس مدة سنين وفيه الجمع
بين حقين حق المجتمع وحق أولياء الدم ، فهذه الوجوه عمدة ما ذكره المنكرون لتشريع القصاص بالقتل.
وقد أجاب القرآن عن جميع هذه الوجوه بكلمة واحدة ، وهي قوله تعالى : {من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا) المائدة - 32}.
بيان ذلك : أن القوانين الجارية بين أفراد الإنسان وإن كانت وضعية اعتبارية يراعى فيها مصالح الاجتماع الإنساني غير أن العلة العاملة فيها من أصلها هي الطبيعة الخارجية الإنسانية الداعية إلى تكميل نقصها ورفع حوائجها التكوينية ، وهذه الواقعية الخارجية ليست هي العدد العارض على الإنسان ولا الهيئة الواحدة الاجتماعية فإنها نفسها من صنع الوجود الكوني الإنساني بل هي الإنسان وطبيعته ، وليس بين الواحد من الإنسان والألوف المجتمعة منه فرق في أن الجميع إنسان ووزن الواحد والجميع واحد من حيث الوجود.
(3/298)
وهذه الطبيعة الوجودية تجهزت في نفسها بقوى وأدوات تدفع بها عن نفسها العدم لكونها مفطورة على حب الوجود ، وتطرد كل ما يسلب عنه الحياة بأي وسيلة أمكنت وإلى أي غاية بلغت حتى القتل والإعدام ، ولذا لا تجد إنسانا لا تقضي فطرته بتجويز قتل من يريد قتله ولا ينتهي عنه إلا به ، وهذه الأمم الراقية أنفسهم لا يتوقفون عن الحرب دفاعا عن استقلالهم وحريتهم وقوميتهم ، فكيف بمن أراد قتل نفوسهم عن آخرها ، ويدفعون عن بطلان القانون بالغا ما بلغ حتى بالقتل ويتوسلون إلى حفظ منافعهم بالحروب إذا لم يعالج الداء بغيرها ، تلك الحروب التي فيها فناء الدنيا وهلاك الحرث والنسل ولا يزال ملل يتقدمون بالتسليحات وآخرون يتجهزون بما يجاوبهم ، وليس ذلك كله إلا رعاية لحال الاجتماع وحفظا لحياته وليس الاجتماع إلا صنيعة من صنايع الطبيعة فما بال الطبيعة تجوز القتل الذريع والإفناء والإبادة لحفظ صنيعة من صنائعها ، وهي الاجتماع المدني ولا تجوزها لحفظ حياة نفسها ؟ وما بالها تجوز قتل من يهم بالقتل ولم يفعل ولا تجوزه فيمن هم وفعل ؟ وما بال الطبيعة تقضي بالانعكاس في الوقائع التاريخية ، فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره ، ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره ولكل عمل عكس عمل في قانونها لكنها تعد القتل في مورد القتل ظلما وتنقض حكم نفسها.
على أن الإسلام لا يرى في الدنيا قيمة للإنسان يقوم بها ولا وزنا يوزن به إلا إذا كان على دين التوحيد فوزن الاجتماع الإنساني ووزن الموحد الواحد عنده سيان ، فمن الواجب أن يكون حكمهما عنده واحدا ، فمن قتل مؤمنا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر إزرائه وهتكه لشرف الحقيقة كما أن من قتل نفسا كان كمن قتل الناس جميعا من نظر الطبيعة الوجودية ، وأما الملل المتمدنة فلا يبالون بالدين ولو كانت شرافة الدين عندهم تعادل في قيمتها أو وزنها - فضلا عن التفوق - الاجتماع المدني في الفضل لحكموا فيه بما حكموا في ذلك.
(3/299)
على أن الإسلام يشرع للدنيا لا لقوم خاص وأمة معينة ، والملل الراقية إنما حكمت بما حكمت بعد ما أذعنت بتمام التربية في أفرادها وحسن صنيع حكوماتها ودلالة الإحصاء في مورد الجنايات والفجائع على أن التربية الموجودة مؤثرة وأن الأمة في أثر تربيتهم متنفرة عن القتل والفجيعة فلا تتفق بينهم إلا في الشذوذ وإذا اتفقت فهي ترتضي المجازاة بما دون القتل ، والإسلام لا يأبى عن تجويز هذه التربية وأثرها الذي هو العفو مع قيام أصل القصاص على ساق.
ويلوح إليه قوله تعالى : في آية القصاص {فمن عفى له من أخيه شئ فاتباع بالمعروف وأداء إليه بإحسان} ، فاللسان لسان التربية وإذا بلغ قوم إلى حيث أذعنوا بأن الفخر العمومي في العفو لم ينحرفوا عنه إلى مسلك الانتقام.
وأما غير هؤلاء الأمم فالأمر فيها على خلاف ذلك والدليل عليه ما نشاهده من حال الناس وأرباب الفجيعة والفساد فلا يخوفهم حبس ولا عمل شاق ولا يصدهم وعظ ونصح ، وما لهم من همة ولا ثبات على حق إنساني ، والحياة المعدة لهم في السجون أرفق وأعلى وأسنى مما لهم في أنفسهم من المعيشة الردية الشقية فلا يوحشهم لوم ولا ذم ، ولا يدهشهم سجن ولا ضرب ، وما نشاهده أيضا من ازدياد عدد الفجائع في الإحصاءات يوما فيوما فالحكم العام الشامل للفريقين - والأغلب منهما الثاني - لا يكون إلا القصاص وجواز العفو فلو رقت الأمة وربيت تربية ناجحة أخذت بالعفو (وإلاسلام لا يألو جهده في التربية) ولو لم يسلك إلا الانحطاط أو كفرت بأنعم ربها وفسقت ، أخذ فيهم بالقصاص ويجوز معه العفو.
وأما ما ذكروه من حديث الرحمة والرأفة بالإنسانية فما كل رأفة بمحمودة ولا كل رحمة فضيلة ، فاستعمال الرحمة في مورد الجاني القاسي والعاصي المتخلف المتمرد والمتعدي على النفس والعرض جفاء على صالح الأفراد ، وفي استعمالها المطلق اختلال النظام وهلاك الإنسانية وإبطال الفضيلة.
(3/300)
وأما ما ذكروه أنه من القسوة وحب الانتقام فالقول فيه كسابقه ، فالانتقام للمظلوم من ظالمه استظهارا للعدل والحق ليس بمذموم قبيح ، ولا حب العدل من رذائل الصفات ، على أن تشريع القصاص بالقتل غير ممحض في الانتقام بل فيه ملاك التربية العامة وسد باب الفساد.
وأما ما ذكروه من كون جناية القتل من الأمراض العقلية التي يجب أن يعالج في المستشفيات فهو من الأعذار (ونعم العذر) الموجبة لشيوع القتل والفحشاء ونماء الجناية في الجامعة الإنسانية وأي إنسان منا يحب القتل والفساد علم أن ذلك فيه مرض عقلي وعذر مسموع يجب على الحكومة أن تعالجه بعناية ورأفة وأن القوة الحاكمة والتنفيذية تعتقد فيه ذلك لم يقدم معه كل يوم على قتل.
وأما ما ذكروه من لزوم الاستفادة من وجود المجرمين بمثل الأعمال الإجبارية ، ونحوها مع حبسهم ومنعهم عن الورود في الاجتماع فلو كان حقا متكئا على حقيقة فما بالهم لا يقضون بمثله في موارد الإعدام القانوني التي توجد في جميع القوانين الدائرة اليوم بين الأمم ؟ وليس ذلك إلا للأهمية التي يرونها للإعدام في موارده ، وقد مر أن الفرد والمجتمع في نظر الطبيعة من حيث الأهمية متساويان.
أ هـ {الميزان جـ 1 صـ 433 ـ 439}
قوله تعالى {وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال الفخر :
اعلم أنه سبحانه وتعالى لما أوجب في الآية المتقدمة القصاص وكان القصاص من باب الإيلام توجه فيه سؤال وهو أن يقال كيف يليق بكمال رحمته إيلام العبد الضعيف ؟ فلأجل دفع هذا السؤال ذكر عقيبه حكمة شرع القصاص فقال : {وَلَكُمْ فِي القصاص حياة }. أ هـ {مفاتيح الغيب جـ 5 صـ 48}
وقال البقاعى : (3/301)
ولما أخبر سبحانه وتعالى بفائدة العفو أخبر بفائدة مقابله تتميماً لتأنيب أهل الكتاب على عدولهم عن النص وعماهم عن الحكمة فقال : {ولكم} أي يا أيها الذين آمنوا {في القصاص} أي هذا الجنس وهو قتل النفس القاتلة بالنفس المقتولة من غير مجاوزة ولا عدوان {حياة} أي عظيمة بديعة لأن من علم أنه يُقتل لا يَقْتُل. وقال الحرالي : فالحياة لمن سوى الجاني من عشيرته ممن كان يعتدى عليه بجناية غيره في الدنيا ، والحياة للجاني بما اقتص منه في الأخرى ، لأن من يكفّر ذنبه حيي في الآخرة ، ومن بقي عليه جناية فأخذ بها فهو في حال ذلك ممن لا يموت فيها ولا يحيى ، لأن المعاقب في حال عقوبته لا يجد طعم الحياة لغلبة ألمه ولا هو في الموت لإحساسه بعقوبته - انتهى. وأما مطلق القتل كما كان أهل الجاهلية يقولون : القتل أنفى للقتل وليس كذلك ، لأن من علموا أنهم إذا قتلوا اثنين لا يقتل بهما إلاّ واحد رُبما كان ذلك مجرياً لهم على القتل ويدخل فيه القتل ابتداء وهو أجلب للقتل لا أنفى له ، وقد كانوا مطبقين على استجادة معنى كلمتهم واسترشاق لفظها ، ومن المعلوم لكل ذي لب أن بينها وبين ما في القرآن كما بين الله وخلقه فإنها زائدة على عبارة القرآن في الحروف وناقصة في المعنى ، فإذا أريد تصحيحها قبل القتل قصاصاً أنفى للقتل ظلماً فكثرت الزيادة ولم تصل إلى رشاقة ما في القرآن وعذوبته - والله سبحانه وتعالى الموفق.
(3/302)
ولما كانت هذه العبارة كما ترى معجزة في صحة معناها ودقة إشارتها وغزير مفهوماته قال سبحانه وتعالى مرغباً في علو الهمم {يا أولي الألباب} أي العقول التي تنفع أصحابها بخلوصها مما هو كالقشر لأنه جمع لب. قال الحرالي : وهو باطن العقل الذي شأنه أن يلحظ أمر الله في المشهودات كما شأن ظاهر العقل أن يلحظ الحقائق من المخلوقات ، فهم الناظرون إلى ربّهم في آياته - انتهى. ثم علل ذلك بقوله : {لعلكم تتقون *} أي الله بالانقياد لما شرع فتتحامون القتل. قال الحرالي : وفي إبهام لعل التي هي من الخلق كما تقدم تردد إعلام بتصنيفهم صنفين بين من يثمر ذلك له تقوى وبين من يحمله ذلك ويزيده في الاعتداء - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 334}
قال الفخر :
في الآية وجوه الأول : أنه ليس المراد من هذه الآية أن نفس القصاص حياة لأن القصاص إزالة للحياة وإزالة الشيء يمتنع أن تكون نفس ذلك الشيء ، بل المراد أن شرع القصاص يفضي إلى الحياة في حق من يريد أن يكون قاتلاً ، وفي حق من يراد جعله مقتولاً وفي حق غيرهما أيضاً ، أما في حق من يريد أن يكون قاتلاً فلأنه إذا علم أنه لو قتل قتل ترك القتل فلا يقتل فيبقى حياً ، وأما في حق من يراد جعله مقتولاً فلأن من أراد قتله إذا خاف من القصاص ترك قتله فيبقى غير مقتول ، وأما في حق غيرهما فلأن في شرع القصاص بقاء من هم بالقتل ، أو من يهم به وفي بقائهما بقاء من يتعصب لهما ، لأن الفتنة تعظم بسبب القتل فتؤدي إلى المحاربة التي تنتهي إلى قتل عالم من الناس وفي تصور كون القصاص مشروعاً زوال كل ذلك وفي زواله حياة الكل.(3/303)
الوجه الثاني : في تفسير الآية أن المراد منها أن نفس القصاص سبب الحياة وذلك لأن سافك الدم إذا أقيد منه ارتدع من كان يهم بالقتل فلم يقتل ، فكان القصاص نفسه سبباً للحياة من هذا الوجه ، واعلم أن الوجه الذي ذكرناه غير مخص بالقصاص الذي هو القتل ، يدخل فيه القصاص في الجوارح والشجاج وذلك لأنه إذا علم أنه إن جرح عدوه اقتص منه زجره ذلك عن الإقدام فيصير سبباً لبقائهما لأن المجروح لا يؤمن فيه الموت وكذلك الجارح إذا اقتص منه وأيضاً فالشجة والجراحة التي لا قود فيها داخلة تحت الآية لأن الجارح لا يأمن أن تؤدى جراحته إلى زهوق النفس فيلزم القود ، فخوف القصاص حاصل في النفس.
الوجه الثالث : أن المراد من القصاص إيجاب التسوية فيكون المراد أن في إيجاب التسوية حياة لغير القاتل ، لأنه لا يقتل غير القاتل بخلاف ما يفعله أهل الجاهلية وهو قول السدي.
والوجه الرابع : قرأ أبو الجوزاء {وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} أي فيما قص عليكم من حكم القتل والقصاص وقيل : {القصاص} القرآن ، أي لكم في القرآن حياة للقلوب كقوله : {رُوحاً مّنْ أَمْرِنَا} [الشورى : 52] {ويحيى مَنْ حَىَّ عَن بَيّنَةٍ} [الأنفال : 42] والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب جـ 5 صـ 49}
فائدة
قال الفخر : (3/304)
المسألة الثانية : اتفق علماء البيان على أن هذه الآية في الإيجاز مع جمع المعاني باللغة بالغة إلى أعلى الدرجات ، وذلك لأن العرب عبروا عن هذا المعنى بألفاظ كثير ، كقولهم : قتل البعض إحياء للجميع ، وقول آخرين : أكثروا القتل ليقل القتل ، وأجود الألفاظ المنقولة عنهم في هذا الباب قولهم : القتل أنفى للقتل ، ثم إن لفظ القرآن أفصح من هذا ، وبيان التفاوت من وجوه : أحدها : أن قوله : {وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} أخصر من الكل ، لأن قوله : {وَلَكُمْ} لا يدخل في هذا الباب ، إذ لا بد في الجميع من تقدير ذلك ، لأن قول القائل : قتل البعض إحياء للجميع لا بد فيه من تقدير مثله ، وكذلك في قولهم : القتل أنفى للقتل فإذا تأملت علمت أن قوله : {فِي القصاص حياة} أشد اختصاراً من قولهم : القتل أنفى للقتل وثانيها : أن قولهم : القتل أنفى للقتل ظاهرة يقتضي كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال ، وقوله : {فِي القصاص حياة} ليس كذلك ، لأن المذكور هو نوع من القتل وهو القصاص ، ثم ما جعله سبباً لمطلق الحياة لأنه ذكر الحياة منكرة ، بل جعله سبباً لنوع من أنواع الحياة وثالثها : أن قولهم القتل أنفى للقتل ، فيه تكرار للفظ القتل وليس قوله : {فِي القصاص حياة} كذلك ورابعها : أن قول القائل : القتل أنفى للقتل.
لا يفيد إلا الردع عن القتل ، وقوله : {فِي القصاص حياة} يفيد الردع عن القتل وعن الجرح وغيرهما فهو أجمع للفوائد وخامسها : أن نفي القتل مطلوب تبعاً من حيث إنه يتضمن حصول الحياة ، وأما الآية فإنها دالة على حصول الحياة وهو مقصود أصلي ، فكان هذا أولى وسادسها : أن القتل ظلماً قتل ، مع أنه لا يكون نافياً للقتل بل هو سبب لزيادة القتل ، إنما النافي لوقوع القتل هو القتل المخصوص وهو القصاص ، فظاهر قولهم باطل ، أما الآية فهي صحيحة ظاهراً وتقديراً ، فظهر التفاوت بين الآية وبين كلام العرب. أ هـ {مفاتيح الغيب جـ 5 صـ 49}(3/305)
كلام نفيس للعلامة ابن عاشور فى الآية الكريمة
وقوله : {في القصاص حياة} من جوامع الكلم فاق ما كان سائراً مسرى المثل عند العرب وهو قولهم (القتل أَنْفَى لِلْقَتْل) وقد بينه السكاكي في "مفتاح العلوم" و"ذيله" من جاء بعده من علماء المعاني ، ونزيد عليهم : أن لفظ القصاص قد دل على إبطال التكايل بالدماء وعلى إبطال قتل واحد من قبيلة القاتل إذا لم يظفروا بالقاتل وهذا لا تفيده كلمتهم الجامعة. أ هـ {التحرير والتنوير جـ 2 صـ 145}
أما قوله تعالى : {يا أُوْلِي الألباب} فالمراد به العقلاء الذين يعرفون العواقب ويعلمون جهات الخوف ، فإذا أرادوا الإقدام على قتل أعداءهم ، وعلموا أنهم يطالبون بالقود صار ذلك رادعاً لهم لأن العاقل لا يريد إتلاف غيره بإتلاف نفسه فإذا خاف ذلك كان خوفه سبباً للكف والامتناع ، إلا أن هذا الخوف إنما يتولد من الفكر الذي ذكرناه ممن له عقل يهديه إلى هذا الفكر فمن لا عقل له يهديه إلى هذا الفكر لا يحصل له هذا الخوف ، فلهذا السبب خص الله سبحانه بهذا الخطاب أولي الألباب. أ هـ {مفاتيح الغيب جـ 5 صـ 50}
في تفسير الآية قولان أحدهما : قول الحسن والأصم أن المراد لعلكم تتقون نفس القتل بخوف القصاص والثاني : أن المراد هو التقوى من كل الوجوه وليس في الآية تخصيص للتقوى ، فحمله على الكل أولى : ومعلوم أن الله تعالى إنما كتب على العباد الأمور الشاقة من القصاص وغيره لأجل أن يتقوا النار باجتناب المعاصي ويكفوا عنها ، فإذا كان هذا هو المقصود الأصلي وجب حمل الكلام عليه. أ هـ {مفاتيح الغيب جـ 5 صـ 50}
وقال فى التحرير والتنوير : (3/306)
وفي قوله تعالى : {يا أولي الألباب} تنبيه بحرف النداء على التأمل في حكمة القصاص ولذلك جيء في التعريف بطريق الإضافة الدالة على أنهم من أهل العقول الكاملة ؛ لأن حكمة القصاص لا يدركها إلاّ أهل النظر الصحيح ؛ إذ هو في بادىء الرأي كأنه عقوبة بمثل الجناية ؛ لأن في القصاص رزية ثانية لكنه عند التأمل هو حياة لا رزية للوجهين المتقدمَيْن.
وقال : {لعلكم تتقون} إكمالاً للعلة أي تقريباً لأن تتقوا فلا تتجاوزوا في أخذ الثأر حدَّ العدل والإنصاف. ولعل للرجاء وهي هنا تمثيل أو استعارة تبعية. أ هـ {التحرير والتنوير جـ 2 صـ 145}
وقال الآلوسى : (3/307)
{وَلَكُمْ فِي القصاص حياة} عطف على قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} [البقرة : 178] والمقصود منه توطين النفس على الانقياد لحكم القصاص لكونه شاقاً للنفس وهو كلام في غاية البلاغة وكان أوجز كلام عندهم في هذا المعنى القتل أنفى للقتل وفضل هذا الكلام عليه من وجوه ، الأول : قلة الحروف ، فإن الملفوظ هنا عشرة أحرف إذا لم يعتبر التنوين حرفاً على حدة وهناك أربعة عشر حرفاً ، الثاني : الاطراد ، إذ في كل قصاص حياة وليس كل قتل أنفى للقتل فإن القتل ظلماً أدعى للقتل. الثالث : ما في تنوين (حياة) من النوعية أو التعظيم. الرابع : صنعة الطباق بين القصاص والحياة فإن القصاص تفويت الحياة فهو مقابلها. الخامس : النص على ما هو المطلوب بالذات أعني الحياة فإن نفي القتل إنما يطلب لها لا لذاته. السادس : الغرابة من حيث جعل الشيء فيه حاصلاً في ضده ، ومن جهة أن المظروف إذا حواه الظرف صانه عن التفرق ، فكان القصاص فيما نحن فيه يحمي الحياة من الآفات. السابع : الخلوّ عن التكرار مع التقارب ، فإنه لا يخلو عن استبشاع ، ولا يعد ردع العجز على الصدر حتى يكون محسناً. الثامن : عذوبة اللفظ وسلاسته حيث لم يكن فيه ما في قولهم من توالي الأسباب الخفيفة إذ ليس في قولهم : حرفان متحركان على التوالي إلا في موضع واحد ، ولا شك أنه ينقص من سلاسة اللفظ وجريانه على اللسان ، وأيضاً الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة لبعد الهمزة من اللام وكذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام التاسع : عدم الاحتياج إلى الحيثية ، وقولهم : يحتاج إليها. العاشر : تعريف القصاص بلام الجنس الدالة على حقيقة هذا الحكم المشتملة على الضرب والجرح والقتل وغير ذلك ، وقولهم : لا يشمله الحادي عشر : خلوه من أفعل الموهم أن في الترك نفياً للقتل أيضاً. الثاني عشر : اشتماله على ما يصلح للقتال وهو الحياة(3/308)
بخلاف قولهم ، فإنه يشتمل على نفي اكتنفه قتلان ، وإنه لمما يليق بهم. الثالث عشر : خلوّه عما يوهمه ظاهر قولهم من كون الشيء سبباً لانتفاء نفسه وهو محال إلى غير ذلك فسبحان من علت كلمته ، وبهرت آيته ثم المراد بالحياة إما الدنيوية وهو الظاهر لأن في شرع القصاص والعلم به يروع القاتل عن القتل ، فكيون سبب حياة نفسين في هذه النشأة ، ولأنهم كانوا يقتلون غير القاتل ، والجماعة بالواحد ، فتثور الفتنة بينهم ، وتقوم حرب البسوس على ساق ، فإذا اقتص من القاتل سلم الباقون ويصير ذلك سبباً لحياتهم ويلزم على الأول : الإضمار ، وعلى الثاني : التخصيص ، وأما الحياة الأخروية بناءاً على أن القاتل إذا اقتص منه في الدنيا لم يؤاخذ بحق المقتول في الآخرة ، وعلى هذا يكون الخطاب خاصاً بالقاتلين ، والظاهر أنه عام والظرفان إما خبران لحياة أو أحدهما خبر والآخر صلة له ، أو حال من المستكن فيه. أ هـ {روح المعانى جـ 2 صـ 52 ـ 53}
قوله تعالى {يا أُوْلِي الالباب }
سؤال : لم خصهم بالنداء ؟
إنما خصهم بالنداء مع أن الخطاب السابق عام لأنهم أهل التأمل في حكمة القصاص من استبقاء الأرواح وحفظ النفوس ، وقيل : للإشارة إلى أن الحكم مخصوص بالبالغين دون الصبيان. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 53}
فوائد
اتفق أئمة الفتوى على أنه لا يجوز لأحد أن يقتص من أحد حقه دون السلطان ، وليس للناس أن يقتص بعضهم من بعض ؛ وإنما ذلك للسلطان أو من نصبه السلطان لذلك ؛ ولهذا جعل الله السلطان ليقبض أيدي الناس بعضهم عن بعض.(3/309)
وأجمع العلماء على أن على السلطان أن يقتص من نفسه إن تعدّى على أحدٍ من رعيّته ، إذ هو واحد منهم ؛ وإنما له مَزِيّة النظر لهم كالوصيّ والوكيل ، وذلك لا يمنع القصاص ، وليس بينهم وبين العامّة فرق في أحكام الله عز وجل ؛ لقوله جل ذكره : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى} ، وثبت عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه أنه قال لرجل شكا إليه أن عاملاً قطع يده : لئن كنت صادقاً لأقيدنّك منه. وروى النّسائي عن أبي سعيد الخُدْرِيّ قال : " بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يَقسم شيئاً إذ أكبّ عليه رجل ، فطعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم بعُرجون كان معه ، فصاح الرجل ؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : "تعال فاستقد". قال : بل عفوت يا رسول الله " وروى أبو داود الطيالسي عن أبي فراس قال : خطب عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : أَلاَ مَن ظلمه أميره فليرفع ذلك إليّ أقيده منه. فقام عمرو بن العاص فقال : يا أمير المؤمنين ، لئن أدّب رجل منا رجلاً من أهل رعيّته لتقصنّه منه ؟ قال : كيف لا أقصّه منه وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقصّ من نفسه!. ولفظ أبي داود السّجستانيّ عنه قال : خطبنا عمر بن الخطاب فقال : إني لم أبعث عُمّالي ليضربوا أبشاركم ولا ليأخذوا أموالكم ؛ فمن فعل ذلك به فليرفعه إليّ أقصّه منه. وذكر الحديث بمعناه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 257}
قوله تعالى {يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ}
قال البقاعى(3/310)
ولما كانت هذه العبارة كما ترى معجزة في صحة معناها ودقة إشارتها وغزير مفهوماتها قال سبحانه وتعالى مرغباً في علو الهمم {يا أولي الألباب} أي العقول التي تنفع أصحابها بخلوصها مما هو كالقشر لأنه جمع لب. قال الحرالي : وهو باطن العقل الذي شأنه أن يلحظ أمر الله في المشهودات كما شأن ظاهر العقل أن يلحظ الحقائق من المخلوقات ، فهم الناظرون إلى ربّهم في آياته - انتهى. ثم علل ذلك بقوله : {لعلكم تتقون *} أي الله بالانقياد لما شرع فتتحامون القتل. قال الحرالي : وفي إبهام لعل التي هي من الخلق كما تقدم تردد إعلام بتصنيفهم صنفين بين من يثمر ذلك له تقوى وبين من يحمله ذلك ويزيده في الاعتداء - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 334}
الفرق بين مضمون الآية الكريمة وبين قول العرب : القتل أنفى للقتل
قال أبو حيان
وذكر العلماء تفاوت ما بين الكلامين من البلاغة من وجوه. أحدها : أن ظاهر قول العرب يقتضي كون وجود الشيء سبباً لانتفاء نفسه ، وهو محال. الثاني : تكرير لفظ القتل في جملة واحدة. الثالث : الاقتصار على أن القتل هو أنفى للقتل. الرابع : أن القتل ظلماً هو قتل ، ولا يكون نافياً للقتل. وقد اندرج في قولهم : القتل أنفى للقتل ، والآية المكرمة بخلاف ذلك.
أما في الوجه الأول : ففيه أن نوعاً من القتل وهو القصاص سبب لنوع من أنواع الحياة ، لا لمطلق الحياة ، وإذا كان على حذف مضاف أي : ولكم في شرع القصاص ، اتضح كون شرع القصاص سبباً للحياة.
وأما في الوجه الثاني : فظاهر لعذوبة الألفاظ وحسن التركيب وعدم الاحتياج إلى تقدير الحذف ، لأن في كلام العرب كما قلناه تكراراً للفظ ، والحذف إذا نفي ، أو أكف ، أو أوقى ، هو أفعل تفضيل ، فلا بد من تقدير المفضل عليه أنفى للقتل من ترك القتل.(3/311)
وأما في الوجه الثالث : فالقصاص أعم من القتل ، لأن القصاص يكون في نفس وفي غير نفس ، والقتل لا يكون إلاَّ في النفس ، فالآية أعم وأنفع في تحصيل الحياة.
وأما في الوجة الرابع : فلأن القصاص مشعر بالاستحقاق ، فترتب على مشروعيته وجود الحياة.
ثم الآية المكرمة فيها مقابلة القصاص بالحياة فهو من مقابلة الشيء بضده ، وهو نوع من البيان يسمى الطباق ، وهو شبه قوله تعالى : {وأنه هو أمات وأحيى} وهذه الجملة مبتدأ وخبر ، وفي القصاص : متعلق بما تعلق به قوله : لكم ، وهو في موضع الخبر ، وتقديم هذا الخبر مسوّغ لجواز الابتداء بالنكرة ، وتفسير المعنى : أنه يكون لكم في القصاص حياة ، ونبه بالنداء نداء ذوي العقول والبصائر على المصلحة العامة ، وهي مشروعية القصاص ، إذ لا يعرف كنه محصولها إلاَّ أولو الألباب. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 19}
وقال ابن عرفة
قوله تعالى : {وَلَكُمْ فِي القصاص حَيَاةٌ...}.
فيه دليل لاهل السنة القائلين بأن لا حسن ولا قبح لأن الآية خرجت مخرج الامتنان بتعداد هذه النعم ، فدلّ على أنها تفضل من الله تعالى ، ولو كان القصاص واجبا في (العقل) لما حسن كونه نعمة ، ولما صح الإتيان به لأن ذلك تحصيل الحاصل.
قال الأصوليون والبيانيون : وهذه أبلغ من قول العرب القتل أنفى للقتل.
وقدره ابن مالك في المصباح بأربعة أوجه :
أحدهما : أن حروفها عشرة ، وأسقط منها الياء من في (وألف) الوصل من " القِصَاصِ " لسقوطها في النطق وفي التفعيل أعني الأوزان (الشعرية) ، وحروف " القتل أنفى للقتل " أربعة عشر.
الثاني : تنافر الحروف في المثل وتناسبها في الآية.
الثالث : لفظ الحياة محبوب ، فالتصريح باسمها أولى من الكناية عنه بنفي القتل.
الرابع : صحة معناه لأن تنكير الحياة يفيد إما حياة عظيمة أو نوعا من الحياة إشارة لحسنه وغرابته ، بخلاف المثل فإن معناه غير صحيح وحقيقته غير مرادة.(3/312)
قال ابن عرفة : ويظهر لي بيان الرّابع إما بأن القتل في المثل (مطلق) (يتناول) القتل عدوانا مع أنه غير مراد والآية صريحة في نفي ذلك.
قال (ابن عرفة) : والآية أصوب من وجه آخر وهو أنها تقتضي المساواة في جميع الوجوه بخلاف المثل فليس فيه تنصيص على المساواة.
وذكر (الطبري) في تأليفه في البيان والجعبري في شرح الشاطبية الصغرى أنّ الآية تفضله من وجوه : أحدها : (إيهامه) التناقض لمنافاة الشيء لنفسه أو العموم فيكون القتل ظلما أنفى للقتل قصاصا والمراد العكس بخلاف الآية فإنّها صريحة في معناها من غير احتمال (شيء).
الثاني : عدول الآية عن التكرار وعن الإضمار ، بخلاف المثل لأن تقديره كراهية القتل أنفى للقتل.
الثالث : سلامة ألفاظها عما يوحش السامع ، وتخصيصها بالحياة المرغوب فيها وبعدها عن تكرار (قَلْقَلة) القَافِ للضَغط والشدة وتخصيصها بتكرار الصاد المستجلب (باستعلائها) وإطباقها مع الصفير للفصاحة.
الرابع : فيها الطباق المعنوي بين القصاص والحياة.
قلت : وزاد بعضهم عن القاضي ابن عبد السلام أن الآية أعجب لاقتضائها أنّ الموت سبب في الحياة ولأن دلالة القصاص على الحياة مطابقة ودلالة القتل عليها باللزوم. أ هـ {تفسير ابن عرفة حـ 1 صـ 225}
أبحاث قيمة ونفيسة لابن القيم
قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ :
فصل إيقاع العقوبة بقيام الحجة(3/313)
وكان من تمام حكمته ورحمته أنه لم يأخذ الجناة بغير حجة كما لم يعذبهم في الآخرة إلا بعد إقامة الحجة عليهم وجعل الحجة التي يأخذهم بها إما منهم وهي الإقرار أو ما يقوم مقامه من إقرار الحال وهو أبلغ وأصدق من إقرار اللسان فإن من قامت عليه شواهد الحال بالجناية كرائحة الخمر وقبئها وحبل من لا زوج لها ولا سيد ووجود المسروق في دار السارق وتحت ثيابه أولى بالعقوبة ممن قامت عليه شهادة إخباره عن نفسه التي تحتمل الصدق والكذب وهذا متفق عليه بين الصحابة وإن نازع فيه بعض الفقهاء وإما أن تكون الحجة من خارج عنهم وهي البينة واشترط فيها العدالة وعدم التهمة فلا أحسن في العقول والفطر من ذلك ولو طلب منها الاقتراح لم تقترح أحسن من ذلك ولا أوفق منه للمصلحة
الحكمة في عدم جعل العقوبة من جنس الذنب
(3/314)
فإن قيل كيف تدعون أن هذه العقوبات لاصقة بالعقول وموافقة للمصالح وأنتم تعلمون أنه لا شيء بعد الكفر بالله أفظع ولا أقبح من سفك الدماء فكيف تردعون عن سفك الدم بسفكه وهل مثال ذلك إلا إزالة نجاسة بنجاسة ثم لو كان ذلك مستحسنا لكان أولى أن يحرق ثوب من حرق ثوب غيره وأن يذبح حيوان من ذبح حيوان غيره وأن تخرب دار من خرب دار غيره وأن يجوز لمن شتم أن يشتم شاتمه وما الفرق في صريح العقل بين هذا وبين قتل من قتل غيره أو قطع من قطعه وإذا كان إراقة الدم الأول مفسدة وقطع الطرف كذلك فكيف زالت تلك المفسدة بإراقة الدم الثاني وقطع الطرف الثاني وهل هذا إلا مضاعفة للمفسدة وتكثير لها ولو كانت المفسدة الأولى تزول بهذه المفسدة الثانية لكان فيه ما فيه إذ كيف تزال مفسدة بمفسدة نظيرها من كل وجه فكيف والأولى لا سبيل إلى وزالتها وتقرير ذلك بما ذكرناه من عدم إزالة مفسدة تحريق الثياب وذبح المواشي وخراب الدور وقطع الأشجار بمثلها ثم كيف حسن أن يعاقب السارق بقطع يده التي اكتسب بها السرقة ولم تحسن عقوبة الزاني بقطع فرجه الذي اكتسب به الزنا ولا القاذف بقطع لسانه الذي اكتسب به القذف ولا المزور على الإمام والمسلمين يقطع أنامله التي اكتسب بها التزوير ولا الناظر إلى ما لا يحل له بقلع عينه التي اكتسب بها الحرام فعلم أن الأمر في هذه العقوبات جنسا وقدرا وسببا ليس بقياس إنما هو محض المشيئة ولله التصرف في خلقه يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد
فالجواب وبالله التوفيق والتأييد من طريقين مجمل ومفصل
(3/315)
أما المجمل فهو أن من مشرع هذه العقوبات ورتبها على أسبابها جنسا وقدرا فهو عالم الغيب والشهادة وأحكم الحاكمين وأعلم العالمين ومن أحاط بكل شيء علما وعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف كان يكون وأحاط علمه بوجوه المصالح دقيقها وجليلها وخفيها وظاهرها ما يمكن اطلاع البشر عليه وما لا يمكنهم وليست هذه التخصيصات والتقديرات خارجة عن وجوه الحكم والغايات المحمودة كما أن التخصيصات والتقديرات الواقعة في خلقه كذلك فهذا في خلقه وذاك في أمره ومصدرهما جميعا عن كمال علمه وحكمته ووضعه كل شى في موضعه الذي لا يليق به سواه ولا يتقاضى إلا إياه كما وضع قوة البصر والنور للباصر في العين وقوة السمع في الأذن وقوة الشم في الأنف وقوة النطق في اللسان والشفتين وقوة البطش في اليد وقوة المشي في الرجل وخص كل حيوان وغيره بما يليق به ويحسن أن يعطاه من أعضائه وهيئاته وصفاته وقدره فشمل إتقانه وإحكامه لكل ما شمله خلقه كما قال تعالى صنع الله الذي أتقن كل شيء وإذا كان سبحانه قد أتقن خلقه غاية الإتقان وأحكمه غاية الإحكام فلأن يكون أمره في غاية الإتقان والإحكام أولى وأحرى ومن لم يعرف ذلك مفصلا لم يسعه أن ينكره مجملا ولا يكون جهله بحكمة الله في خلقه وأمره وإتقانه كذلك وصدوره عن محض العلم والحكمة مسوغا له إنكاره
(3/316)
في نفس الأمر وسبحان الله ما أعظم ظلم الإنسان وجهله فإنه لو اعترض على أي صاحب صناعة كانت ممن تقصر عنها معرفته وإدراكه على ذلك وسأله عما اختصت به صناعته من الأسباب والآلات والأفعال والمقادير وكيف كان كل شيء من ذلك الوجه الذي هو عليه لا أكبر ولا أصغر ولا على شكل غير ذلك يسخر منه ويهزأ به وعجب من سخف عقله وقلة معرفته هذا ما تهيئه بمشاركته له في صناعته ووصوله فيها إلى ما وصل إليه والزيادة عليه والاستدراك عليه فيها هذا مع أن صاحب تلك الصناعة غير مدفوع عن العجز والقصور وعدم الإحاطة والجهل بل ذلك عنده عتيد حاضر ثم لا يسعه إلا التسليم له والاعتراف بحكمته وإقراره بجهله وعجزه عما وصل إليه من ذلك فهلا وسعه ذلك مع أحكم الحاكمين وأعلم العالمين ومن أتقن كل شيء فأحكمه وأوقعه على وفق الحكمة والمصلحة
وقد كان هذا الوجه وحده كافيا في دفع كل شبهة وجواب كل سؤال وهذا غير الطريق التي سلكها نفاة الحكم والتعليل ولكن مع هذا فنتصدى للجواب المفصل بحسب الاستعداد وما يناسب علومنا الناقصة وأفهامنا الجامدة وعقولنا الضعيفة وعباراتنا القاصرة فنقول وبالله التوفيق
ولكم في القصاص حياة
أما قوله كيف تردعون عن سفك الدم بسفكه وإن ذلك كإزالة النجاسة بالنجاسة سؤال في غاية الوهن والفساد وأول ما يقال لسائله هل ترى ردع المفسدين والجناة عن فسادهم وجناياتهم وكف عدوانهم مستحسنا في العقول موافقا لمصالح العباد أو لا تراه كذلك فإن قال لا أراه كذلك كفانا مؤنة جوابه بإقراره على نفسه بمخالفة جميع طوائف بني آدم على اختلاف مللهم ونحلهم ودياناتهم وآرائهم ولولا عقوبة الجناة والمفسدين لأهلك الناس بعضهم بعضا وفسد نظام العالم وصارت حال الدواب والأنعام والوحوش أحسن من حال بني آدم وإن قال بل لا تتم المصلحة إلا بذلك(3/317)
قيل له من المعلوم أن عقوبة الجناة والمفسدين لا تتم إلا بمؤلم يردعهم ويجعل الجاني نكالا وعظة لمن يريد أن يفعل مثل فعله وعند هذا فلا بد من إفساد شيء منه بحسب جريمته في الكبر والصغر والقلة والكثرة ومن المعلوم ببدائه العقول أن التسوية في العقوبات مع تفاوت الجرائم غير مستحسن بل مناف للحكمة والمصلحة فإنه إن ساوى بينهم في أدنى العقوبات لم تحصل مصلحة الزجر وإن ساوى بينها في أعظمها كان خلاف الرحمة والحكمة إذ لا يليق أن يقتل بالنظرة والقبلة ويقطع بسرقة الحبة والدينار وكذلك التفاوت بين العقوبات مع استواء الجرائم قبيح في الفطر والعقول وكلاهما تأباه حكمة الرب تعالى وعدله وإحسانه إلى خلقه فأوقع العقوبة تارة بإتلاف النفس إذا انتهت الجناية في عظمها إلى غاية القبح كالجناية على النفس أو الدين أو الجناية التي ضررها عام فالمفسدة التي في هذه العقوبة خاصة والمصلحة الحاصلة بها أضعاف أضعاف تلك المفسدة كما قال تعالى ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلكم تتقون فلولا القصاص لفسد العالم وأهلك الناس بعضهم بعضا ابتداء واستيفاء فكأن في القصاص دفعا لمفسدة التجري على الدماء بالجناية وبالاستيفاء وقد قالت العرب في جاهليتها القتل أنفى للقتل وبسفك الدماء تحقن الدماء فلم تغسل النجاسة بالنجاسة بل الجناية نجاسة والقصاص طهرة وإذا لم يكن بد من موت القاتل ومن استحق القتل فموته بالسيف أنفع له في عاجلته وآجلته والموت به أسرع الموكات وأوحاها وأقلها ألما فموته به مصلحة له ولأولياء القتيل ولعموم الناس وجرى ذلك مجرى إتلاف الحيوان بذبحه لمصلحة الآدمي فإنه حسن وإن كان في ذبحه إضرار بالحيوان فالمصالح المرتبة على ذبحه أضعاف أضعاف مفسدة إتلافه ثم هذا السؤال الفاسد يظهر فساده وبطلانه بالموت الذي حتمه الله على عباده وساوى فيه بين جميعهم ولولاه لما هنأ العيش ولا وسعتهم الأرزاق ولضاقت عليهم المساكن والمدن والأسواق والطرقات(3/318)
وفي مفارقة البغيض من اللذة والراحة ما في مواصلة الحبيب والموت مخلص للحي والموت مريح لكل منهما من صاحبه ومخرج من دار الابتلاء والامتحان وباب للدخول في دار الحيوان... جزى الله عنا الموت خيرا فإنه... أبر بنا من كل بر وأعطف... يعجل تخليص النفوس من الأذى... ويدني إلى الدار التي هي أشرف...
فكم لله سبحانه على عباده الأحياء والأموات في الموت من نعمة لا تحصى فكيف إذا كان في طهرة للمقتول وحياة للنوع الإنساني وتشف للمظلوم وعدل بين القاتل والمقتول فسبحان من تنزهت شريعته عن خلاف ما شرعها عليه من اقتراح العقول الفاسدة والآراء الضالة الجائرة
مقابلة الإتلاف بمثله في كل الأحوال مفسدة
وأما قوله لو كان ذلك مستحسنا في العقول لاستحسن في تحريق ثوبه وتخريب داره وذبح حيوانه مقابلته بمثله
(3/319)
فالجواب عن هذا أن مفسدة تلك الجنايات تندفع بتغريمه نظير ما أتلفه عليه فإن المثل يسد مسد المثل من كل وجه فتصير المقابلة مفسدة محضة كما ليس له أن يقتل ابنه أو غلامه مقابلة لقتله هو ابنه أو غلامه فإن هذا شرع الظالمين المعتدين الذي تنزه عنه شريعة أحكم الحاكمين على أن للمقابلة في إتلاف المال بمثل فعله مساغا في الاجتهاد وقد ذهب إليه بعض أهل العلم كما تقدم الإشارة إليه في عقوبة الكفار بإفساد أموالهم إذا كانوا يفعلون ذلك بنا أو كان يغيظهم وهذا بخلاف قتل عبده إذا قتل عبده أو قتل فرسه أو عقر فرسه فإن ذلك ظلم لغير مستحق ولكن السنة اقتضت التضمين بالمثل لا إتلاف النظير كما غرم النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ إحدى زوجتيه التي كسرت إناء صاحبتها إناء بدله وقال إناء بإناء ولا ريب أن هذا أقل فسادا وأصلح للجهتين لأن المتلف ماله إذا أخذ نظيره صار كمن لم يفت عليه شيء وانتفع بما أخذه عوض ماله فإذا مكناه من إتلافه كان زيادة في إضاعة المال وما يراد من التشفي وإذاقة الجاني ألم الإتلاف فحاصل بالغرم غالبا ولا التفات إلى الصور النادرة التي لا يتضرر الجاني فيها بالغرم ولاشك أن هذا أليق بالعقل وأبلغ في الصلاح وأوفق للحكمة وأيضا فإنه لو شرع القصاص في الأموال ردعا للجاني لبقي جانب المجني عليه غير مراعي بل يبقى متألما موتورا غير مجبور والشريعة إنما جاءت بجبر هذا وردع هذا
المصلحة في تخيير المجني عليه في بعض الأحوال دون بعض
فإن قيل فخيروا المجني عليه بين أن يغرم الجاني أو يتلف عليه نظير ما أتلفه هو كما خيرتموه في الجناية على طر فهو خيرتم أولياء القتيل بين إتلاف الجاني النظير وبين أخذ الدية
(3/320)
قيل لا مصلحة في ذلك للجاني ولا للمجني عليه ولا لسائر الناس وإنما هو زيادة فساد لا مصلحة فيه بمجرد التشفي ويكفي تغريبه وتعزيره في التشفي والفرق بين الأموال والدماء في ذلك ظاهر فإن الجناية على النفوس والأعضاء تدخل من الغيظ والحنق والعداوة على المجني عليه وأوليائه مالا تدخله جناية المال ويدخل عليهم من الغضاضة والعار واحتمال الصنم والحمية والتحرق لأخذ الثأر مالا يجبره المال أبدا حتى إن أولادهم وأعقابهم ليعيرون بذلك ولأولياء القتيل من القصد في القصاص وإذاقة الجاني وأوليائه ما أذاقه للمجني عليه ما ليس لمن حرق ثوبه أو عقرت فرسه والمجني عليه موتور هو وأولياؤه فإن لم يوتر الجاني وأولياؤه ويجرعوا من الألم والغيظ ما يجرعه الأول لم يكن عدلا وقد كانت العرب في جاهليتها تعيب على من يأخذ الدية ويرضى بها من درك ثأره وشفاء غيظه كقول قائلهم يهجو من أخذ الدية من الإبل... وإن الذي أصبحتم تحلبونه... دم غير أن اللون ليس بأشقرا...
وقال جرير يعير من أخذ الدية فاشترى بها نخلا... ألا أبلغ بني حجر بن وهب... بأن التمر حلو في الشتاء
وقال آخر... إذا صب ما في الوطب فاعلم بأنه... دم الشيخ فاشرب من دم الشيخ أو دع...
وقال آخر... خليلان مختلف شكلنا... أريد العلاء ويبغي السمن... أريد دماء بني مالك... ورأى المعلى بياض اللبن...
وهذا وإن كانت الشريعة قد أبطلته وجاءت بما هو خير منه وأصلح في المعاش والمعاد من تخيير الأولياء بين إدراك الثأر ونيل التشفي وبين أخذ الدية فإن القصد به أن العرب لم تكن تعير من أخذ بدل ماله ولم تعده ضعفا ولا عجزا البتة بخلاف من أخذ بدل دم وليه فما سوى الله بين الأمرين في طبع ولا عقل ولا شرع والإنسان قد يخرق ثوبه عند الغيظ ويذبح ماشيته ويتلف ماله فلا يلحقه في ذلك من المشقة والغيظ ولازدراء به ما يلحق من قتل نفسه أو جدع انفه أو قلع عينه
(3/321)
فصل الحكمة في إتلاف بعض الأعضاء التي وقعت بها المعصية دون بعض
وأما معاقبة السارق بقطع يده وترك معاقبة الزاني بقطع فرجه ففي غاية الحكمة والمصلحة وليس في حكمة الله ومصلحة خلقه وعنايته ورحمته بهم أن يتلف على كل جان كل عضو عصاه به فيشرع قلع عين من نظر إلى المحرم وقطع أذن من استمع إليه ولسان من تكلم به ويد من لطم غيره عدوانا ولا خفاء بما في هذا من الإسراف والتجاوز في العقوبة وقلب مراتبها وأسماء الرب الحسنى وصفاته العليا وأفعاله الحميدة تأتي ذلك وليس مقصود الشارع مجرد الأمن من المعاودة ليس إلا ولو أريد هذا لكان قتل صاحب الجريمة فقط وإنما المقصود الزجر والنكال والعقوبة على الجريمة وأن يكون إلى كف عدوانه
أقرب وأن يعتبر به غيره وأن يحدث له ما يذوقه من الألم توبة نصوحا وأن يذكره ذلك بعقوبة الآخرة إلى غير ذلك من الحكم والمصالح
أ هـ {إعلام الموقعين حـ 2 صـ 121 ـ 126}
لطيفة
قال فى البحر المديد
كما جعل الله القصاص في الجناية الحسيّة ، جعل القصاصَ في الجناية المعنوية ، وهي الجنايةُ على النفس بسوء الأدب مع الله ، فكل من صدر منه هفوةٌ أو زَلَّة ، اقْتصَ الحقّ تعالى منه في دار الدنيا ، إن كانت له من الله عناية ، الكبيرة بالكبيرة والصغيرة بالصغيرة. أ هـ {البحر المديد حـ 1صـ 143}
لطيفة ثانية
إن الله تعالى كتب عليكم القصاص فى قتلاكم كما كتب على نفسه الرحمة فى قتلاه.
أ هـ {روح البيان حـ 1صـ 356}
{كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ 180})
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى : (3/322)
ولما حث سبحانه وتعالى على بذل المال ندباً وإيجاباً في حال الصحة والشح وتأميل الغنى وخشية الفقر تصديقاً للإيمان وأتبعه بذل الروح التي هو عديلها بالقتل الذي هو أحد أسباب الموت أتبع ذلك بذله في حال الإشراف على النقلة والأمن من فقر الدنيا والرجاء لغنى الآخرة استدراكاً لما فات من بذله على حبه فقال - وقال الحرالي : لما أظهر سبحانه وتعالى وجوه التزكية في هذه المخاطبات وما ألزمه من الكتاب وعلمه من الحكمة وأظهر استناد ذلك كله إلى تقوى تكون وصفاً ثابتاً أو استجداداً معالجاً حسب ما ختم به آية {ليس البر} من قوله {هم المتقون} وما ختم به آية القصاص في قوله : {لعلكم تتقون} رفع رتبة الخطاب إلى ما هو حق على المتقين حين كان الأول مكتوباً على المترجين لأن يتقوا تربية وتزكية بخطاب يتوسل به إلى خطاب أعلى في التزكية لينتهي في الخطاب من رتبة إلى رتبة إلى أن يستوفي نهايات رتب أسنان القلوب وأحوالها كما تقدمت الإشارة إليه ، ولما كان في الخطاب السابق ذكر القتل والقصاص الذي هو حال حضرة الموت انتظم به ذكر الوصية لأنه حال من حضره الموت ، انتهى - فقال : {كتب عليكم} أي فرض كما استفاض في الشرع وأكد هنا بعلى ، ثم نسخ بآية المواريث وجوبه فبقي جوازه ، وبينت السنة أن الإرث والوصية لا يجتمعان ، فالنسخ إنما هو في حق القريب الوارث لا مطلقاً فقال صلى الله عليه وسلم : " إن الله سبحانه وتعالى أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " رواه أحمد والأربعة وغيرهم عن عمرو بن خارجة وأبي أمامة رضي الله تعالى عنهما {إذا حضر أحدكم الموت} أي بحضور أسبابه وعلاماته {إن ترك خيراً} أي ما لا ينبغي أن يوصى فيه قليلاً كان أو كثيراً ، أما إطلاقه على الكثير فكثير ، وأطلق على القليل في {إني لما أنزلت إليّ من خير فقير} [القصص : 24] ثم ذكر القائم مقام فاعل كتب بعد أن اشتد التشوف إليه فقال : {الوصية} وذكر الفعل الرافع لها(3/323)
لوجود الفاصل إفهاماً لقوة طلبه {للوالدين} بدأ بهما لشرفهما وعظم حقهما {والأقربين بالمعروف} أي العدل الذي يتعارفه الناس في التسوية والتفضيل. قال الحرالي : وكل ذلك في المحتضر ، والمعروف ما تقبله الأنفس ولا تجد منه تكرهاً - انتهى. وأكد الوجوب بقوله : {حقاً} وكذا قوله : {على المتقين *} فهو إلهاب وتهييج وتذكير بما أمامه من القدوم على من يسأله على النقير والقطمير.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 335}
وقال الشيخ ابن عاشور
استئناف ابتدائي لبيان حكم المال بعد موت صاحبه ، فإنه لم يسبق له تشريع ولم يفتتح بـ {يا أيها الذين آمنوا} لأن الوصية كانت معروفة قبل الإسلام فلم يكن شرعها إحداث شيء غير معروف ، لذلك لا يحتاج فيها إلى مزيد تنبيه لتلقي الحكم ، ومناسبة ذكره أنه تغيير لما كانوا عليه في أول الإسلام من بقايا عوائد الجاهلية في أموال الأموات فإنهم كانوا كثيراً ما يمنعون القريب من الإرث بتوهم أنه يتمنى موت قريبه ليرثه ، وربما فضلوا بعض الأقارب على بعض ، ولما كان هذا مما يفضي بهم إلى الإحن وبها تختل الحالة الاجتماعية بإلقاء العداوة بين الأقارب كما قال طَرَفة
: ... وظُلْم ذوي القُرْبَى أَشَدُّ مَضَاضَةً
على المَرْءِ من وَقْع الحُسَاممِ المُهَنَّدِ... كان تغييرها إلى حال العَدل فيها من أهم مقاصد الإسلام كما بيَّنا تفصيله فيما تقدم في آية : {كتب عليكم القصاص في القتلى} [البقرة : 178]. أما مناسبة ذكره عقب حكم القصاص فهو جريان ذكر موت القتيل وموت القاتل قصاصاً
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 146}
قال القرطبى :(3/324)
قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} هذه آية الوصية ، وليس في القرآن ذكر للوصية إلا في هذه الآية ، وفي "النساء" : {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ} [النساء : 11] وفي "المائدة" : {حِينَ الوصية} [المائدة : 106]. والتي في البقرة أتمها وأكملها ونزلت قبل نزول الفرائض والمواريث ؛ على ما يأتي بيانه. وفي الكلام تقدير واو العطف ؛ أي وكتب عليكم ، فلِما طال الكلام أسقطت الواو. ومثله في بعض الأقوال : {لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى الذي كَذَّبَ وتولى} [الليل : 15] أي والذي ؛ فحذف. وقيل : لمّا ذكر أن لوَليِّ الدم أن يقتصّ ؛ فهذا الذي أشرف على أن يقتصّ منه وهو سبب الموت فكأنما حضره الموت ، فهذا أوان الوصية ؛ فالآية مرتبطة بما قبلها ومتصلة بها فلذلك سقطت واو العطف. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 258}
سؤال : لم لم يصدر هذا الحكم بـ {يا أيها الذين آمنوا} ؟
ولم يصدره بيا أيها الذين آمنوا لقرب العهد بالتنبيه مع ملابسته بالسابق في كون كل منهما متعلقاً بالأموات ، أو لأنه لما لم يكن شاقاً لم يصدره كما صدر الشاق تنشيطاً لفعله. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 53}
سؤال : لم قدم المفعول فى قوله تعالى {أحدكم} ؟
الجواب : تقديم المفعول لإفادة كمال تمكن الفعل عند النفس وقت وروده عليها.
أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 53}
قال الفخر : (3/325)
اعلم أن قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمْ} يقتضي الوجوب على ما بيناه ، أما قوله : {إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت} فليس المراد منه معاينة الموت ، لأن في ذلك الوقت يكون عاجزاً عن الإيصاء ثم ذكروا في تفسيره وجهين الأول : وهو اختيار الأكثرين أن المراد حضور أمارة الموت ، وهو المرض المخوف وذلك ظاهر في اللغة ، يقال فيمن يخاف عليه الموت : إنه قد حضره الموت كما يقال لمن قارب البلد إنه قد وصل والثاني : قول الأصم أن المراد فرض عليكم الوصية في حالة الصحة بأن تقولوا : إذا حضرنا الموت فافعلوا كذا قال القاضي : والقول الأول أولى لوجهين أحدهما : أن الموصي وإن لم يذكر في وصيته الموت جاز والثاني : أن ما ذكرناه هو الظاهر ، وإذا أمكن ذلك لم يجز حمل الكلام على غيره.
أما قوله {إِن تَرَكَ خَيْرًا} فلا خلاف أنه المال ههنا والخير يراد به المال في كثير من القرآن كقوله : {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ} [البقرة : 272] {وَإِنَّهُ لِحُبّ الخير} [العاديات : 8] {مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} وإذا عرفت هذا فنقول : ههنا قولان : أحدهما : أنه لا فرق بين القليل والكثير ، وهو قول الزهري ، فالوصية واجبة في الكل ، واحتج عليه بوجهين : {الاول} أن الله تعالى أوجب الوصية فيما إذا ترك خيراً ، والمال القليل خير ، يدل عليه القرآن والمعقول ، أما القرآن فقوله تعالى : {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة : 7 8] وأيضاً قوله تعالى : {لِمَا أَنزَلْتَ إِلَىَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص : 24] وأما المعقول فهو أن الخير ما ينتفع به ، والمال القليل كذلك فيكون خيراً.
(3/326)
الحجة الثانية : أن الله تعالى اعتبر أحكام المواريث فيما يبقى من المال قل أم كثر ، بدليل قوله تعالى : {لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً} [النساء : 7] فوجب أن يكون الأمر كذلك في الوصية.
والقول الثاني : وهو أن لفظ الخير في هذه الآية مختص بالمال الكثير ، واحتجوا عليه بوجوه الأول : أن من ترك درهماً لا يقال : إنه ترك خيراً ، كما يقال : فلان ذو مال ، فإنما يراد تعظيم ماله ومجاوزته حد أهل الحاجة ، وإن كان اسم المال قد يقع في الحقيقة على كل ما يتموله الإنسان من قليل أو كثير ، وكذلك إذا قيل : فلان في نعمة ، وفي رفاهية من العيش.
فإنما يراد به تكثير النعمة ، وإن كان أحد لا ينفك عن نعمة الله ، وهذا باب من المجاز مشهور وهو نفي الاسم عن الشيء لنقصه ، كما قد روي من قوله : " لا صلاة لجار المسجد إلا في المسجد "
وقوله : " ليس بمؤمن من بات شبعاناً وجاره جائع " ونحو هذا.
الحجة الثالثة : لو كانت الوصية واجبة في كل ما ترك ، سواء كان قليلاً ، أو كثيراً ، لما كان التقييد بقوله : {إِن تَرَكَ خَيْرًا} كلاماً مفيداً ، لأن كل أحد لا بد وأن يترك شيئاً ما ، قليلاً كان أو كثيراً ، أما الذي يموت عرياناً ولا يبقى معه كسرة خبز ، ولا قدر من الكرباس الذي يستر به عورته ، فذاك في غاية الندرة ، فإذا ثبت أن المراد ههنا من الخير المال الكثير ، فذاك المال هل هو مقدر بمقدار معين محدود أم لا فيه قولان :
(3/327)
القول الأول : أنه مقدر بمقدار معين ، ثم القائلون بهذا القول اختلفوا ، فروي عن علي رضي الله عنه أنه دخل على مولى لهم في الموت ، وله سبعمائة درهم ، فقال أولا أوصي ، قال : لا إنما قال الله تعالى : {إِن تَرَكَ خَيْرًا} وليس لك كثير مال ، وعن عائشة رضي الله عنها أن رجلاً قال لها : إني أريد أن أوصي ، قالت : كم مالك ؟ قال ثلاثة آلاف ، قالت : كم عيالك ؟ قال أربعة قالت : قال الله {إِن تَرَكَ خَيْرًا} وإن هذا لشيء يسير فاتركه لعيالك فهو أفضل ، وعن ابن عباس إذا ترك سبعمائة درهم فلا يوصي فإن بلغ ثمانمائة درهم أوصي وعن قتادة ألف درهم ، وعن النخعي من ألف وخمسمائة درهم.
والقول الثاني : أنه غير مقدر بمقدار معين.
بل يختلف ذلك باختلاف حال الرجال ، لأن بمقدار من المال يوصف المرء بأنه غني ، وبذلك القدر لا يوصف غيره بالغنى لأجل كثرة العيال وكثرة النفقة ، ولا يمتنع في الإيجاب أن يكون متعلقاً بمقدار مقدر بحسب الاجتهاد ، فليس لأحد أن يجعل فقد البيان في مقدار المال دلالة على أن هذه الوصية لم تجب فيها قط بأن يقول لو وجبت لوجب أن يقدر المال الواجب فيها. أ هـ {مفاتيح الغيب جـ 5 صـ 51 ـ 52}
لم جاز تذكير الفعل فى قوله تعالى {كتِبَ عَلَيْكُمْ... الوصِيَّة }
الجواب : جاز تذكير الفعل لوجهين :
أحدها : كونُ القائمِ مقامَ الفاعل مؤنَّثاً مجازياً.
والثاني : الفصل بيْنه وبيْن مَرْفُوعه.(3/328)
والثاني : أنَّهُ الإيصاءُ المدلُول عليه بقوله : {الوصية لِلْوَالِدَيْنِ} أي : كُتِبَ هو أي : الإيصاءُ ، وكذلك ذكرُ الضَّمير في قوله : {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} [البقرة : 181] وأيضاً : أنَّه ذكر الفِعلْ ، وفصل بيْن الفِعل والوصيَّة ؛ لأَنَّ الكلام ، لمَّا طال ، كان الفَاصِلُ بين المؤنَّث والفعْل ، كالمعوَّض من تاءِ التَّأنيث ، والعَرَبُ تَقُولُ : حَضَرَ القاضِيَ امرأَةٌ فيذكرون ؛ لأنَّ القَاضِي فصَل بيْن الفعل وبيْن المرأة.
والثَّالِثُ : أنه الجارُّ والمجرُور ، وهذا يتَّجِه على رأي الأخفش ، والكوفيين ، و" عَلَيْكُم " في محلِّ رفع على هذا القول ، وفي محلِّ نَصبٍ على القولَين الأَوَّلين. أ هـ {اللباب لابن عادل حـ 2 صـ 316}
سؤال : ما معنى حضور الموت فى الآية ؟
الجواب : معنى حضور الموت حضورُ أسبابه وعلاماتِه الدالة على أن الموت المتخيل للناس قد حضر عند المريض ونحوه ليصيره ميتاً قال تأبط شراً
: ... والمَوْت خَزْيَانُ يَنْظُرُ
فإن حضور الشيء حلوله ونزوله وهو ضد الغيبة ، فليس إطلاق حضر هنا من قبيل إطلاق الفعل على مقاربة الفعل نحو قد قامت الصلاة ولا على معنى إرادة الفعل كما في {إذا قمتم إلى الصلاة} [المائدة : 6] ، {فإذا قرأت القرآن فاستعذ بالله من الشيطان الرجيم} [المائدة : 98] ، ولكنه إسناد مجازي إلى الموت لأنه حضور أسبابه ، وأما الحضور فمستعار للعرو والظهور ، ثم إن إطلاق الموت على أسبابه شائع قال رُويشد بن كثير الطائي
: ... وقُلْ لَهُمْ بادروا بالعَفْو والتَمِسُوا
قَوْلاً يُبَرِّؤُكُم إنِّي أَنا المَوْت... والخير المالُ وقيل الكثير منه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 146 ـ 147}(3/329)
فائدة
قال أبو العبَّاس المُقرىءُ : وقد وَرَدَ لفظ « الخَيْر » في القرآن بإزاء ثمانية معان :
الأَوَّل : الخَيْرُ : المالُ ؛ كهذه الآية.
الثاني : الإيمانُ ، قال تعالى : {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} [الأنفال : 23] أي : إيماناً ، وقوله {} [الأنفال : 70] ، يعني : إيماناً.
الثالث : الخير الفضل ؛ ومنه قوله : {خَيْرُ الرازقين} [المائدة : 14] [الحج : 58] [المؤمنون : 72] [سبأ : 39] [الجمعة : 11] {خَيْرُ الراحمين} [المؤمنون : 109 ، 118] {خَيْرُ الحاكمين} [الأعراف : 87] [يونس : 109] [يوسف : 80].
الرابع : الخير : العافية ؛ قال تعالى : {إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً} [يونس : 107] ، أي : بعافية.
الخامس : الثَّواب قال تعالى : {والبدن جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِّن شَعَائِرِ الله لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ} [الحج : 36] ، أي : ثواب وأجر.
السادس : الخير : الطَّعام ؛ قال : {إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ} [القصص : 24].
السابع : الخير : الظَّفر والغنيمة ؛ قال تعالى : {وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً} [الأحزاب : 25].
الثامن : الخير : الخيل ؛ قال تعالى : {أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي} [ص : 32] ، يعني : الخيل.أ هـ {اللباب لابن عادل حـ2 صـ 318}(3/330)
( بصيرة فى الخير )
وهو ضدّ الشرّ. وهو ما يرغب فيه الكلّ كالعقل مثلا والعدل والفضل والشئ النَّافع. وقيل : الخير ضربان. خير مطلق وهو ما يكون مرغوباً فيه بكلّ حال وعند كلِّ أَحدكما وصف صلى الله عليه وسلَّم به الجنَّة فقال : "لا خير بخير بعده النَّار ، ولا شرّ بشرّ بعده الجنَّة".
وخير وشرّ مقيَّدان وهو أَنَّ خير الواحد شرّ الآخر كالمال الَّذى ربّما كان خيرا لزيدٍ وشراً لعمرو. ولذلك وصفه الله تعالى بالأَمرين فقال فى موضع {إِن تَرَكَ خَيْراً} وقال فى موضع آخر {أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ} فقوله {إِنْ تَركَ خَيْراً} أَى مالاً. وقال بعض العلماء : لا يقال للمال خير حتى يكون كثيراً ومن كان طيب ، كما رُوِى أَنَّ عليّاً رضى الله عنه دخل على مولًى له فقال : أَلا أُوصى يا أَمير المؤمنين ؟ قال : لا ، لأَنَّ الله تعالى قال {إِن ترك خيراً} وليس لك مال كثير. وعلى هذا أَيضاً قوله {وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ}. وقال بعض العلماء : إِنما سمّى المال ههنا خيراً تنبيهاً على معنى لطيف ، وهو أَنَّ المال [الذى] يحسن الوصيَّة به ما كان مجموعاً من وجه محمودٍ. وعلى ذلك قوله : {وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ} وقوله : {فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً} قيل : عنى به مالاً من جهتهم ، [و] قيل : إِن علمتم أَن عتقهم يعود عليكم وعليهم بنفع أَى ثواب.
وقوله تعالى : {أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَن ذِكْرِ رَبِّي} أَى آثرت حبّ الخير عن ذكر ربِّى. والعرب تسمِّى الخيل الخير لما فيها من الخير. وقوله تعالى : {لاَّ يَسْأَمُ الإِنْسَانُ مِن دُعَآءِ الْخَيْرِ} أَى لا يَفْتُر من طلب المال(3/331)
وما يُصلح دنياه. وقوله تعالى : {نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا} أَى بخير لكم فإِن يكن تخفيفا كان خيراً فى الدّنيا والآخرة. وإِن يكن تشديداً كان خيراً فى الآخرة لأَنَّهم أَطاعوا الله - تعالى - ذِكرُه - فيه.
وقال ابن عرفة فى قوله تعالى : {أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ} لم يكن على عهد رسول الله صلَّى الله عليه وسلَّم خير من نسائه ، ولكن إِذا عصينه فطلَّقهن على المعصية فمن سواهنَّ خير منهنّ.
وقال الرَّاغب : الخير والشَّرّ يقالان على وجهين :
أَحدهما : أَن يكونا اسمين كما تقدّم.
والثَّانى : أَن يكونا وصفين وتقديرهما تقدير أَفعل ، نحو هو خير من ذلك وأَفضل. وقوله {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} يصحّ أَن يكون اسماً وأَن يكون صفة. وقوله {وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} تقديره تقديرُ أَفعل منه.
والخير يقابَل به الشرّ مرّة والضر مرّة ، نحو : {وَإِن يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ}.
وقوله : {فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ} قرأ الحسن البصرى وأَبو عثمان النَهْدِى والخليل بن أَحمد وطاووس وبكر بن حبيب {فيهنّ خيِّرات} بتشديد الياءِ ، والتشديد هو الأَصل. وامرأَة خيّرة وخَيْرة بمعنى. وكذلك رجلٌ خيّر وخَيْر كميّت وميْت. وقوله تعالى : {وَأُوْلَائِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ} جمع خَيْرة وهى الفاضلة من كل شئ. وقال الأَخفش : وقيل لَمَّا وُصِفَ به ، وقيل : فلان [خير] - أَشبه الصّفات ، فأدخلوا فيه الهاء للمؤنَّث ولم يريدوا أَفعل. وأَنشد أَبو عُبَيْدة :
*ولقد طعنتُ مجامع الرَبَلاتِ * رَبَلات هند خيرةِ الملِكات*
فإِن أَردت معنى التفضيل قلت : فلانة خير النَّاس ولم تقل خيرة الناس وفلان خير النَّاس ولم تقل : أَخْير ، لا يثنَّى ولا يجمع لأَنَّه فى معنى أَفعل. أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 4 صـ 45 }
قوله تعالى {إن ترك خيراً}
قال الخازن(3/332)
{إن ترك خيراً} يعني مالاً قيل يطلق على القليل والكثير وهو قول الزهري : فتجب الوصية في الكل وقيل : إن لفظة الخير لا تطلق إلاّ على المال الكثير وهو قول الأكثرين واختلفوا في مقدار الكثير الذي تقع فيه الوصية فقيل : ألف درهم فما زاد عليها. وقيل : سبعمائة فما فوقها. وقيل : ستون ديناراً فما فوقها. وقيل : إنه من خمسمائة إلى ألف وقيل : إنه المال الكثير الفاضل عن العيال ، روي أن رجلاً قال لعائشة : إني أريد أن أوصي فقالت كم مالك ؟ قال : ثلاثة آلاف درهم قالت : كم عيالك ؟ قال أربعة. قالت إنما قال الله : {إن ترك خيراً} وهذا شيء يسير فاتركه لعيالك. {الوصية} أي الإيصاء والوصية التقدم إلى الغير بما يعمل به وقيل : هي القول المبين لما يستأنف من العمل والقيام به بعد الموت {للوالدين والأقربين} كانت الوصية في ابتداء الإسلام فريضة للوالدين والأقربين على من مات وله مال. وسبب ذلك أن أهل الجاهلية كانوا يوصون للأبعدين طلباً للفخر والشرف والرياء ويتركون الأقربين فقراء فأوجب الله تعالى الوصية للأقربين ، ثم نسخت هذه الآية بأية المواريث ، وبما روي عن عمر بن خارجة قال : كنت آخذاً بزمام ناقة النبي صلى الله عليه وسلم وهو يخطب فسمعته يقول : " إن الله أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث " أخرجه النسائي والترمذي ، نحوه وذهب ابن عباس إلى أن وجوبها صار منسوخاً في حق من يرث ، وبقي وجوبها في حق من لا يرث من الوالدين والأقربين.
(3/333)
وهو قول الحسن ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار وحجة هؤلاء أن الآية دالة على وجوب الوصية للوالدين والأقربين ثم نسخ ذلك الوجوب في حق من يرث بآية الميراث وبالحديث ، المذكور فوجب أن تبقى الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يرث فعلى قول هؤلاء النسخ يتناول بعض أحكام الآية ، وذهب الأكثرون من المفسرين والعلماء وفقهاء الحجاز والعراق إلى أن وجوبها صار منسوخاً في حق الكافة وهي مستحبة في حق من لا يرث ويدل على استحباب الوصية والحث عليها ما روي عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : " ما حق امرئ مسلم له شيء يوصي فيه " وفي رواية : " له شيء يريد أن يوصي به أن يبيت ليلتين " وفي رواية : " ثلاث ليال إلاّ ووصيته مكتوبة عنده " قال نافع سمعت عبدالله بن عمر يقول : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلاّ ووصيتي مكتوبة عندي أخرجه الجماعة. قوله : ما حق امرئ الحق يشتمل معناه على الوجوب والندب والحث ، فيحمل هنا على الحث في الوصية لأن لا يدري متى يأتيه الموت فربما أتاه بغتة فيمنعه عن الوصية. وقوله تعالى : {بالمعروف} أي بالعدل الذي لا وكس فيه ولا شطط فلا يزيد على الثلث ولا يوصي للغني ويدع الفقير. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 108}
سؤال : لم عبر بفعل (ترك) وهو ماض عن معنى المستقبل ؟ (3/334)
الجواب : وعُبر بفعل (ترك) وهو ماض عن معنى المستقبل أي إن يترك ، للتنبيه على اقتراب المستقبل من المضي إذا أوشك أن يصير ماضياً ، والمعنى : إن أَوحشَك أن يَتْرُك خيراً أو شارف أن يترك خيراً ، كما قدّروه في قوله تعالى : {وليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافاً خافوا عليهم} [النساء : 9] في سورة النساء وقوله تعالى : {إن الذين حقت عليههم كلمات ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الأليم} [يونس : 96] في سورة يونس أي حتى يقاربوا رؤية العذاب. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 147}
سؤال : ما معنى {أل} فى كلمة {الوصية} ؟
الجواب : التعريف في الوصية تعريفُ الجنس أي كتب عليكم ما هو معروف عندكم بالوصية للوالدين والأقربين. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 147}
سؤال : ما وجه الرفع فى قوله {الوصية} ؟
الجواب : قوله " الوَصِيّة " فيه ثلاثةُ أوجُهٍ :
أحدها : أن يكُونَ مبتدأً ، وخبره " لِلْوَالِدَيْنِ ".
والثاني : أنَّهُ مفعول " كُتِبَ " ، وقد تقدَّم.
والثالث : أنَّهُ مبتدأٌ ، خبره محذوف ، أي : " فعلَيْهِ الوصيَّةُ " ، وهذا عند مَنْ يجيزُ حذف فاء الجَوابِ ، وهو الأخفشُ ؛ وهو محجوجٌ بنقل سيبَوَيْهِ. أ هـ {اللباب لابن عادل حـ 2 صـ 318}
و {المعروف} الفعل الذي تألفه العقول ولا تنكره النفوس فهو الشيء المحبوب المرضي سمي معروفاً لأنه لكثرة تداوله والتأنُّس به صار معروفاً بين الناس ، وضِدّه يسمى المنكر
والمراد بالمعروف هنا العدل الذي لا مضارة فيه ولا يحدث منه تحاسد بين الأقارب بأن ينظر الموصي في ترجيح من هو الأولى بأن يوصي إليه لقوة قرابة أو شدة حاجة ، فإنه إن توخي ذلك استحسن فعله الناس ولم يلوموه ، ومن المعروف في الوصية ألا تكون للإضرار بوارث أو زوج أو قريب.(3/335)
وقد شمل قوله {بالمعروف} تقدير ما يوصي به وتمييز من يوصي له ووكل ذلك إلى نظر الموصي فهو مؤتمن على ترجيح من هو أهل للترجيح في العطاء كما أشار إليه قوله تعالى : {على المتقين }.أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 148}
أسئلة وأجوبة
سؤال : لم خص هذا الحق بالمتقين ؟
وخص هذا الحق بالمتقين ترغيباً في الرضى به ؛ لأن ما كان من شأن المتقي فهو أمر نفيس فليس في الآية دليل على أن هذا الوجوب على المتقين دون غيرهم من العصاة ، بل معناه أن هذا الحكم هو من التقوى وأن غيره معصية ، وقال ابن عطية : خص المتقون بالذكر تشريفاً للرتبة ليتبارى الناس إليها. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 148}
وقال الفخر :
فإن قيل : ظاهر هذا الكلام يقتضي تخصيص هذا التكليف بالمتقين دون غيرهم.
فالجواب : من وجهين الأول : أن المراد بقوله : {حَقّا عَلَى المتقين} أنه لازم لمن آثر التقوى ، وتحراه وجعله طريقة له ومذهباً فيدخل الكل فيه الثاني : أن هذه الآية تقتضي وجوب هذا المعنى على المتقين والإجماع دل على أن الواجبات والتكاليف عامة في حق المتقين ، وغيرهم ، فبهذا الطريق يدخل الكل تحت هذا التكليف ؛ فهذا جملة ما يتعلق بتفسير هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 53}
سؤال : لم خص الوالدين والأقربين ؟
وخص الوالدين والأقربين لأنهم مظنة النسيان من الموصي ، لأنهم كانوا يورثون الأولاد أو يوصون لسادة القبيلة.
سؤال : لم قدم الوالدين ؟
وقدم الوالدين للدلالة على أنهما أرجح في التبدية بالوصية ، وكانوا قد يوصون بإيثار بعض أولادهم على بعض أو يوصون بكيفية توزيع أموالهم على أولادهم ، (3/336)
ومن أشهر الوصايا في ذلك وصية نزار بن معد بن عدنان إذ أوصى لابنه مضر بالحمراء ، ولابنه ربيعة بالفرس ، ولابنه أنمار بالحمار ، ولابنه إياد بالخادم ، وجعل القسمة في ذلك للأفعى الجُرهمي ، وقد قيل إن العرب كانوا يوصون للأباعد طلباً للفخر ويتركون الأقربين في الفقر وقد يكون ذلك لأجل العداوة والشنآن. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 148 ـ 149}
سؤال : من المراد فى قوله تعالى {والأقربين} ؟
الجواب : اختلفوا في قوله : {والأقربين} من هم ؟ فقال قائلون : هم الأولاد فعلى هذا أمر الله تعالى بالوصية للوالدين والأولاد وهو قول عبد الرحمن بن زيد عن أبيه.
والقول الثاني : وهو قول ابن عباس ومجاهد أن المراد من الأقربين من عدا الوالدين.
والقول الثالث : أنهم جميع القرابات من يرث منهم ومن لا يرث وهذا معنى قول من أوجب الوصية للقرابة ، ثم رآها منسوخة.
والقول الرابع : هم من لا يرثون من الرجل من أقاربه ، فأما الوارثون فهم خارجون عن اللفظ. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 53}
وقال أبوحيان :
{والأقربين} جمع الأقرب ، وظاهره أنه أفعل تفضيل ، فكل من كان أقرب إلى الميت دخل في هذا اللفظ ، وأقرب ما إليه الوالدان ، فصار ذلك تعميماً بعد تخصيص ، فكأنهما ذكراً مرتين : توكيداً وتخصيصاً على اتصال الخير إليهما ، هذا مدلول ظاهر هذا اللفظ ، وعند المفسرين : الأقربون الأولاد ، أو من عدا الأولاد ، أو جميع القرابات ، أو من لا يرث من الأقارب. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 25}
سؤال : فإن قيل كيف قال {الوصية للوالدين والأقربين }عطف {الأقربين} على {الوالدين} ، وهما أقرب الأقربين ؛ والعطف يقتضى المغايرة ؟
الجواب : الوالدان ليسا من الأقربين ؛ لأن القريب من يدلى إلى غيره بواسطة كالأخ والعم ونحوهما.
والوالدان ليسا كذلك ولو كانا منهم ، لكن خصا بالذكر ؛ كقوله تعالى {وملائكته وجبريل وميكال}. أ هـ {تفسير الرازى صـ 34}
قوله تعالى{بالمعروف}
قال ابن عادل :
قوله : " بالمعروف " : يجوز فيه وجهان :
أحدهما : أن يتعلَّق بنفس الوصيَّة.
والثاني : أن يتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّه حالٌ من الوصيَّة ، أي : حال كونها ملتبسة بالمعروف ، لا بالجور.(3/337)
فصل
يحتمل أن يكون المراد منه قدر ما يوصى به ، فيسوَّى بينهم في العطيَّة ، ويحتمل أن يكون المراد من المعروف ألاَّ يعطي البعض ، ويحرم البعض ؛ كما إذا حرم الفقير ، وأوصى للغنيِّ ، لم يكن ذلك معروفاً ، ولو سوَّى بين الوالدين مع عظم حقهما ، وبين بني العمِّ ، لم يكن معروفاً ، فالله تعالى كلَّفه الوصيَّة ؛ على طريقة جميلة خالية عن شوائب الإيحاش ، ونقل عن ابن مسعود : أنه جعل هذه الوصيَّة للأفقر فالأفقر من الأقرب.
وقال الحسن البصريُّ : هم والأغنياء سواء.
وروي عن الحسن أيضاً ، وجابر بن زيدٍ ، وعبد الملك بن يعلى : أنهم قالوا فيمن يوصى لغير قرابته ، وله قرابةٌ لا ترثه ، قالوا : نجعل ثُلثي الثُّلث لذوي قرابته ، وثلث الثُّلث للموصى له ، وتقدَّم النَّقل عند طاوس أنَّ الوصيَّة تنزع من الأجنبيِّ ، وتعطى لذوي القرابة.
وقال بعضهم : قوله : " بالمعروف " : هو ألاَّ يزيد على الثُّلث ، روي عن سعد بن مالك ، قال : جاءني النبيُّ صلى الله عليه وسلم يعودني ، فقلت : يا رسول الله ، قد بلغ بي من الوجع ما ترى ، وأنا ذو مالٍ ، ولا يرثني إلاَّ ابنتي ، فأوصي بثلثي مالي ؟ وفي روايةٍ : " أُوصِي بِمَالِي كُلِّه " قال : " لا " ، قُلْتُ : بالشَّطْر ؛ قال : " لا " ، قلت فالثُّلُث ، قال : " الثُّلُثُ ، والثُّلُثُ كثير ؛ إنك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالةً يتكفَّفون الناس"
وقال [عليٌّ : لأن أوصي بالخمس أحبُّ إليَّ من أن أوصي بالربع ، ولأن أوصي بالربع أحبُّ إليَّ من أن أوصي بالثُّلثن فلم أوصي بالثُّلث ، فلم يترك "].
وقال الحسن : نوصي بالسُّدس ، أو الخمس ، أو الرُّبع.
وقال الفارسيُّ : إنما كانوا يوصون بالخمس والرُّبع.
وذهب جمهور العلماء إلى أنه لا يجوز أن يوصي بأكثر من الثُّلث ، إلاَّ أصحاب الرأي ، فإنهم قالوا : إن لم يترك الوصيُّ ورثةً ، جاز له أن يوصي بماله كله.(3/338)
وقالوا : إنَّما جاز الاقتصارعلى الثُّلث في الوصيَّة ؛ لأجل أن يدع ورثته أغنياء. أ هـ {اللباب لابن عادل حـ 2 صـ 319}
قوله تعالى{حَقًّا }
قال القرطبيُّ : قوله تعالى " حَقًّا " أي : ثابتاً ثبوت نظرٍ ، وتحصين ، لا ثبوت فرضٍ ووجوبٍ ؛ بدليل قوله : " عَلَى المتقين " وهذا يدل على كونه مندوباً ؛ لأنه لوكان فرضاً ، لكان على جميع المسلمين ، فلما خصَّ الله تعالى المُتَّقِي ، وهو من يخاف التَّقصير ، دلَّ على أنه غير لازم لغيره. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 267}
بحث نفيس للعلامة الجصاص فى الآية الكريمة
قال رحمه الله :
وَاخْتَلَفَ النَّاسُ فِي الْوَصِيَّةِ الْمَذْكُورَةِ فِي هَذِهِ الْآيَةِ هَلْ كَانَتْ وَاجِبَةً أَمْ لَا ؟ فَقَالَ قَائِلُونَ : " إنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً ، وَإِنَّمَا كَانَتْ نَدْبًا وَإِرْشَادًا ".
وَقَالَ آخَرُونَ : " قَدْ كَانَتْ فَرْضًا ثُمَّ نُسِخَتْ " عَلَى الِاخْتِلَافِ مِنْهُمْ فِي الْمَنْسُوخِ مِنْهَا ، وَاحْتَجَّ مَنْ قَالَ : " إنَّهَا لَمْ تَكُنْ وَاجِبَةً " بِأَنَّ فِي سِيَاقِ الْآيَةِ وَفَحْوَاهَا دَلَالَةٌ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا ، وَهُوَ قَوْلُهُ : {الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ} فَلَمَّا قِيلَ فِيهَا " بِالْمَعْرُوفِ " وَإِنَّهَا عَلَى الْمُتَّقِينَ دَلَّ عَلَى أَنَّهَا غَيْرُ وَاجِبَةٍ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ : أَحَدُهَا : قَوْلُهُ : " بِالْمَعْرُوفِ " لَا يَقْتَضِي الْإِيجَابَ ، وَالْآخَرُ : قَوْلُهُ " عَلَى الْمُتَّقِينَ " وَلَيْسَ عَلَى كُلِّ أَحَدٍ أَنْ يَكُونَ مِنْ الْمُتَّقِينَ ، الثَّالِثُ : تَخْصِيصُهُ لِلْمُتَّقِينَ بِهَا وَالْوَاجِبَاتُ لَا يَخْتَلِفُ فِيهَا الْمُتَّقُونَ ، وَغَيْرُهُمْ.(3/339)
قَالَ أَبُو بَكْرٍ : وَلَا دَلَالَةَ فِيمَا ذَكَرَهُ هَذَا الْقَائِلُ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا ؛ لِأَنَّ إيجَابَهَا بِالْمَعْرُوفِ لَا يَنْفِي وُجُوبَهَا ؛ لِأَنَّ الْمَعْرُوفَ مَعْنَاهُ الْعَدْلُ الَّذِي لَا شَطَطَ فِيهِ وَلَا تَقْصِيرَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : {وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} وَلَا خِلَافَ فِي وُجُوبِ هَذَا الرِّزْقِ وَالْكِسْوَةِ وقَوْله تَعَالَى : {وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ} بَلْ الْمَعْرُوفُ هُوَ الْوَاجِبُ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنْ الْمُنْكَرِ} وَقَالَ : {يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ} فَذِكْرُ الْمَعْرُوفِ فِيمَا أَوْجَبَ اللَّهُ تَعَالَى مِنْ الْوَصِيَّةِ لَا يَنْفِي وُجُوبَهَا بَلْ هُوَ يُؤَكِّدُ وُجُوبَهَا ؛ إذْ كَانَ جَمِيعُ أَوَامِرِ اللَّهِ مَعْرُوفًا غَيْرَ مُنْكَرٍ.
وَمَعْلُومٌ أَيْضًا أَنَّ ضِدَّ الْمَعْرُوفِ هُوَ الْمُنْكَرُ ، وَأَنَّ مَا لَيْسَ بِمَعْرُوفٍ هُوَ مُنْكَرٌ ، وَالْمُنْكَرُ مَذْمُومٌ مَزْجُورٌ عَنْهُ ، فَإِذًا الْمَعْرُوفُ وَاجِبٌ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ : " حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ "
فَفِيهِ تَأْكِيدٌ لِإِيجَابِهَا ؛ لِأَنَّ عَلَى النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا مُتَّقِينَ ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ} وَلَا خِلَافَ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ أَنَّ تَقْوَى اللَّهِ فَرْضٌ ، فَلَمَّا جَعَلَ تَنْفِيذَ هَذِهِ الْوَصِيَّةِ مِنْ شَرَائِطِ التَّقْوَى فَقَدْ أَبَانَ عَنْ إيجَابِهَا.
(3/340)
وَأَمَّا تَخْصِيصُهُ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ فَلَا دَلَالَةَ فِيهِ عَلَى نَفْيِ وُجُوبِهَا ، وَذَلِكَ لِأَنَّ أَقَلَّ مَا فِيهِ اقْتِضَاءُ الْآيَةِ وُجُوبَهَا عَلَى الْمُتَّقِينَ ، وَلَيْسَ فِيهَا نَفْيُهَا عَنْ غَيْرِ الْمُتَّقِينَ ، كَمَا أَنَّهُ لَيْسَ فِي قَوْلِهِ : {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} نَفْيُ أَنْ يَكُونَ هُدًى لِغَيْرِهِمْ ، وَإِذَا وَجَبَتْ عَلَى الْمُتَّقِينَ بِمُقْتَضَى الْآيَةِ وَجَبَ عَلَى غَيْرِهِمْ ، وَفَائِدَةُ تَخْصِيصِهِ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ أَنَّ فِعْلَ ذَلِكَ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ ، وَعَلَى النَّاسِ أَنْ يَكُونُوا كُلُّهُمْ مُتَّقِينَ ، فَإِذًا عَلَيْهِمْ فِعْلُ ذَلِكَ.
وَدَلَالَةُ الْآيَةِ ظَاهِرَةٌ فِي إيجَابِهَا ، وَتَأْكِيدِ فَرْضِهَا ؛ لِأَنَّ قَوْلَهُ : " كُتِبَ عَلَيْكُمْ " مَعْنَاهُ فُرِضَ عَلَيْكُمْ عَلَى مَا بَيَّنَّا فِيمَا سَلَفَ ، ثُمَّ أَكَّدَ بِقَوْلِهِ : {بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ} وَلَا شَيْءَ فِي أَلْفَاظِ الْوُجُوبِ آكَدُ مِنْ قَوْلِ الْقَائِلِ : " هَذَا حَقٌّ عَلَيْكَ " وَتَخْصِيصُهُ الْمُتَّقِينَ بِالذِّكْرِ عَلَى وَجْهِ التَّأْكِيدِ كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا ، مَعَ اتِّفَاقِ أَهْلِ التَّفْسِيرِ مِنْ السَّلَفِ أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً بِهَذِهِ الْآيَةِ.
(3/341)
وَقَدْ رُوِيَ عَنْ النَّبِيِّ عَلَيْهِ السَّلَامُ مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا كَانَتْ وَاجِبَةً ، وَهُوَ مَا حَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي بْنُ قَانِعٍ قَالَ : حَدَّثَنَا سُلَيْمَانُ بْنُ الْفَضْلِ بْنِ جِبْرِيلَ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَيُّوبَ قَالَ : حَدَّثَنَا عَبْدُ الْوَهَّابِ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {لَا يَحِلُ لِمُؤْمِنٍ يَبِيتُ ثَلَاثًا إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ}.
وَحَدَّثَنَا عَبْدُ الْبَاقِي قَالَ : حَدَّثَنَا بِشْرُ بْنُ مُوسَى قَالَ : حَدَّثَنَا الْحُمَيْدِيُّ قَالَ : حَدَّثَنَا سُفْيَانُ قَالَ : حَدَّثَنَا أَيُّوبُ قَالَ : سَمِعْتُ نَافِعًا عَنْ ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : {مَا حَقُّ امْرِئٍ مُسْلِمٍ لَهُ مَالٌ يُوصِي فِيهِ تَمُرُّ عَلَيْهِ لَيْلَتَانِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ }.
وَقَدْ رَوَاهُ هِشَامُ بْنُ الْغَازِي عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ : {مَا يَنْبَغِي لِمُسْلِمٍ أَنْ يَبِيتَ لَيْلَتَيْنِ إلَّا وَوَصِيَّتُهُ عِنْدَهُ مَكْتُوبَةٌ}.
وَهَذَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْوَصِيَّةَ قَدْ كَانَتْ وَاجِبَةً. أ هـ {أحكام القرآن للجصاص حـ 1 صـ 202 ـ 204}
كلام نفيس فى الآية الكريمة للعلامة الطاهر بن عاشور(3/342)
إن آية المواريت التي في سورة النساء نسخت هذه الآية نسخاً مجملاً فبينت ميراث كل قريب معين فلم يبق حقه موقوفاً على إيصَاء الميت له بل صار حقه ثابتاً معيناً رَضي الميت أم كره ، فيكون تقرر حكم الوصية في أول الأمر استئناساً لمشروعية فرائض الميراث ، ولذلك صدر الله تعالى آية الفرائض بقوله : {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء : 11] فجعلها وصية نفسه سبحانه إبطالاً للمنة التي كانت للموصي.
وبالفرائض نسخ وجوب الوصية الذي اقتضته هذه الآية وبقيت الوصية مندوبة بناء على أن الوجوب إذا نسخ بقي الندب وإلى هذا ذهب جمهور أهل النظر من العلماء ، الحسن وقتادة والنخعي والشعبي ومالك وأبو حنيفة والأوزاعي والشافعي وأحمد وجابر بن زيد ، ففي البخاري في تفسير سورة النساء عن جابر بن عبد الله قال : عادني النبي وأبو بكر في بني سَلِمَة ماشِيْين فوجدني النبي لا أعقل فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليَّ فأفقت فقلت : ما تأمرني أن أَصنع في مالي يا رسول الله فنزلت : {يوصيكم الله في أولادكم} [النساء : 11] الآية أهـ. فدل على أن آخر عهد بمشْروعية الوصايا سؤال جابر بن عبد الله ، وفي البخاري عن ابن عباس كان المال وكانت الوصية للوالدين فنسخ الله من ذلك ما أحب الخ.
وقيل نسخت مشروعية الوصية فصارت ممنوعة قاله إبراهيم بن خُثَيْم وهو شذوذ وخلاف لما اشتهر في السنة إلاّ أن يريد بأَنها صارت ممنوعة للوارث.
وقيل : الآية مُحكَمَة لم تُنسخ والمقصود بها من أول الأمر الوصية لغير الوارث من الوالدين والأقربين مثل الأبوين الكافرين والعبْدين والأقارِب الذين لا ميراث لهم وبهذا قال الضحاك والحسن في رواية وطاووس واختاره الطبري ، والأصح هو الأول.
(3/343)
ثم القائلون ببقاء حكم الوصية بعد النسخ منهم من قال : إنها بقيت مفروضة للأقربين الذين لا يرثون وهذا قول الحسن وطاووس والضحاك والطبري لأنهم قالوا : هي غير منسوخة ، وقال به ممن قال إنها منسوخة ابنُ عباس ومسروق ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد ، ومنهم من قال : بقيت مندوبة للأقربين وغيرهم وهذا قول الجمهور إلاّ أنه إذا كان أقاربه في حاجة ولم يوص لهم فبئس ما صنع ولا تبطل الوصية ، وقيل تختص بالقرابة فلو أوصى لغيرهم بطلت وترد على أقاربه قاله جابر بن زيد والشعبي وإسحاقُ بن راهويه والحسن البصري ، والذي عليه قول من تعتمد أقوالهم أن الوصية لغير الوارث إذا لم يخش بتركها ضياع حق أحد عند الموصِي مطلوبة ، وأنها مترددة بين الوجوب والسنة المؤكدة لحديث "لا يحل لرجل يؤمن بالله واليوم الآخر له مال يوصي فيه يبيت ليلتين إلاّ ووصيته مكتوبة عند رأسه" ، إذا كان هذا الحديث قد قاله النبي صلى الله عليه وسلم بعد مشروعية الفرائض فإن كان قبلَ ذلك كان بياناً لآية الوصية وتحريضاً عليها ، ولم يزل المسلمون يرون الوصية في المال حقاً شرعياً ، وفي "صحيح البخاري" عن طلحة بن مصَرِّف قال : سألت عبدَ الله بن أبي أَوْفَى هل كان النبي أوصى فقال : لا ، فقلت : كيف كُتبتْ على الناس الوصيةُ ولم يوص ؟ قال : أوصى بكتاب الله اه ، يريد أن النبي صلى الله عليه وسلم لما كان لا يورث فكذلك لا يوصي بماله ولكنه أوصى بما يعود على المسلمين بالتمسك بكتاب الإسلام ، وقد كان من عادة المسلمين أن يقولوا للمريض إذا خيف عليه الموت أن يقولوا له أَوْصِ.
(3/344)
وقد اتفق علماء الإسلام على أن الوصية لا تكون لوارث لما رواه أصحاب "السنن" عن عمر بن خارجة وما رواه أبو داود والترمذي عن أبي أُمَامَة كلاهما يقول سمعت النبي قال : "إن الله أعطى كل ذي حق حقه أَلاَ لا وصية لوارث" وذلك في حجة الوداع ، فخُص بذلك عمومُ الوالدين وعمومُ الأقربين وهذا التخصيص نسخ ، لأنه وقع بعد العمل بالعام وهو وإن كان خبر آحاد فقد اعتُبر من قبيل المتواتر ، لأنه سمعه الكافة وتلقاه علماء الأمة بالقبول.
والجمهور على أن الوصية بأكثر من الثلث باطلة للحديث المشهور عن سعد بن أبي وقاص أنه مرض فعاده النبي صلى الله عليه وسلم فاستأذنه في أن يوصي بجميع ماله فمنعه إلى أن قال له " الثلثُ والثلثُ كثير إِنَّك أَنْ تَدَعَ ورثَتك أَغنياءَ خيرٌ من أَنْ تَدَعَهم عالةً يَتكفَّفُون الناسَ " وقال أبو حنيفة : إن لم يكن للموصي ورثة ولو عصبة دون بيت المال جاز للموصي أن يوصي بجميع ماله ومضَى ذلك أخذاً بالإيماء إلى العلة في قوله " إِنك أن تدع ورثَتك أغنياء خير " الخ. وقال : إن بيت المال جامعٌ لا عاصب وَرُوي أيضاً عن علي وابن عباس ومسروق وإسحاق بن راهويه ، واختُلف في إمضائها للوارث إذا أجازها بقية الورثة ومذهب العلماء من أهل الأمصار أنها إذا أجازها الوارث مضت.
هذا وقد اتفق المسلمون على أن الله تعالى عين كيفية قسمة تركة الميت بآية المواريث ، وأن آية الوصية المذكورة هنا صارت بعد ذلك غيرَ مراد منها ظاهرها ، فالقائلون بأنها محكمة قالوا : بقيت الوصية لغير الوارث والوصيةُ للوارث بما زاد على نصيبه من الميراث فلا نسخ بين الآيتين.
(3/345)
والقائلون بالنسخ يقول منهم مَنْ يرون الوصية لم تزل مفروضة لغير الوارث : إِن آية المواريث نسَخَت الاختيار في الموصَى له والإطلاق في المقدار الموصَى به ، ومَن يرى منهم الوصية قد نسخ وجوبها وصارت مندوبة يقولون : إن آية المواريث نَسَخت هذه الآية كلها فأصبحت الوصية المشروعة بهذه الآية منسوخة بآية المواريث للإِجماع على أن آية المواريث نَسخت عموم الوَالدين والأقربين الوَارثين ، ونسخت الإطلاق الذي في لفظ (الوصية) والتخصيصُ بعد العمل بالعام ، والتقييدُ بعدَ العمل بالمطلق كلاهما نَسْخٌ ، وإن كان لفظ آية المواريث لا يدل على ما يناقض آية الوصية ، لاحتمالها أن يكون الميراث بعد إعطاء الوصايا أو عند عدم الوصية بل ظاهرها ذلك لقوله : {من بعد وصية} [النساء : 11] ، وإن كان الحديثان الواردان في ذلك آحاداً لا يصلحان لنسخ القرآن عند من لا يرون نسخ القرآن بخبر الآحاد ، فقد ثبت حكم جديد للوصية وهو الندب أو الوجوب على الخلاف في غير الوارث وفي الثلث بدليل الإجماع المستند للأحاديث وفعل الصحابة ، ولمَّا ثبت حكم جديد للوصية فهو حكم غير مأخوذ من الآية المنسوخة بل هو حكم مستند للإِجماع ، هذا تقرير أصل استنباط العلماء في هذه المسألة وفيه ما يدفع عن الناظر إشكالات كثيرة للمفسرين والفقهاء في تقرير كيفية النسخ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 149 ـ 151}
أبحاث قيمة فى الآية الكريمة للإمام الفخر ـ رحمه الله ـ
قال رحمه الله :
أما القائلون بأن الآية منسوخة فيتوجه تفريعاً على هذا المذهب أبحاث :
البحث الأول : اختلفوا في أنها بأي دليل صارت منسوخة ؟ وذكروا وجوهاً(3/346)
أحدهما : أنها صارت منسوخة بإعطاء الله تعالى أهل المواريث كل ذي حق حقه فقط وهذا بعيد لأنه لا يمتنع مع قدر من الحق بالميراث وجوب قدر آخر بالوصية وأكثر ما يوجبه ذلك التخصيص لا النسخ بأن يقول قائل : إنه لا بد وأن تكون منسوخة فيمن لم يختلف إلا الوالدين من حيث يصير كل المال حقاً لهما بسبب الإرث فلا يبقى للوصية شيء إلا أن هذا تخصيص لا نسخ وثانيها : أنها صارت منسوخة بقوله عليه السلام : " ألا لا وصية لوارث " وهذا أقرب إلا أن الإشكال فيه أن هذا خبر واحد فلا يجوز نسخ القرآن به ، وأجيب عن هذا السؤال بأن هذا الخبر وإن كان خبر واحد إلا أن الأمة تلقته بالقبول فالتحق بالمتواتر.
ولقائل أن يقول : يدعى أن الأمة تلقته بالقبول على وجه الظن أو على وجه القطع ، والأول مسلم إلا أن ذلك يكون إجماعاً منهم على أنه خبر واحد ، فلا يجوز نسخ القرآن به والثاني ممنوع لأنهم لو قطعوا بصحته مع أنه من باب الآحاد لكانوا قد أجمعوا على الخطأ وأنه غير جائز.
وثالثها : أنها صارت منسوخة بالإجماع والإجماع لا يجوز أن ينسخ به القرآن.
لأن الإجماع يدل على أنه كان الدليل الناسخ موجوداً إلا أنهم اكتفوا بالإجماع عن ذكر ذلك الدليل ، ولقائل أن يقول : لما ثبت أن في الأمة من أنكر وقوع هذا النسخ فكيف يدعى انعقاد الإجماع على حصول النسخ ؟
ورابعها : أنها صارت منسوخة بدليل قياسي وهو أن نقول : هذه الوصية لو كانت واجبة لكان عندما لم توجد هذه الوصية وجب أن لا يسقط حق هؤلاء الأقربين قياساً على الديون التي لا توجد الوصية بها لكن عندما لم توجد الوصية لهؤلاء الأقربين لا يستحقون شيئاً ، بدليل قوله تعالى في آية المواريث : {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} [النساء : 11] وظاهر الآية يقتضي أنه إذا لم تكن وصية ولا دين ، فالمال أجمع مصروف إلى أهل الميراث ، ولقائل أن يقول : نسخ القرآن بالقياس غير جائز والله أعلم.
(3/347)
البحث الثاني : القائلون بأن هذه الآية صارت منسوخة اختلفوا على قولين منهم من قال : إنها صارت منسوخة في حق من يرث وفي حق من لا يرث وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء ، ومنهم من قال : إنها منسوخة فيمن يرث ثابتة فيمن لا يرث ، وهو مذهب ابن عباس والحسن البصري ومسروق وطاوس والضحاك ومسلم بن يسار والعلاء بن زياد حتى قال الضحاك : من مات من غير أن يوصي لأقربائه فقد ختم عمله بمعصية ، وقال طاوس : إن أوصى للأجانب وترك الأقارب نزع منهم ورد إلى الأقارب ، فعند هؤلاء أن هذه الآية بقيت دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثاً ، وحجة هؤلاء من وجهين :
الحجة الأولى : أن هذه الآية دالة على وجوب الوصية للقريب ترك العمل به في حق الوارث القريب ، إما بآية المواريث وإما بقوله عليه الصلاة والسلام : " ألا لا وصية لوارث " أو بالإجماع على أنه لا وصية للوارث ، وههنا الإجماع غير موجود مع ظهور الخلاف فيه قديماً وحديثاً ، فوجب أن تبقى الآية دالة على وجوب الوصية للقريب الذي لا يكون وارثاً.
الحجة الثانية : قوله عليه الصلاة والسلام : " ما حق امرىء مسلم له مال أن يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده " وأجمعنا على أن الوصية لغير الأقارب غير واجبة ، فوجب أن تكون هذه الوصية الواجبة مختصة بالأقارب ، وصارت السنة مؤكدة للقرآن في وجوب هذه الوصية.
وأما الجمهور القائلون بأن هذه الآية صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثاً فأجود ما لهم التمسك بقوله تعالى : {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} وقد ذكرنا تقريره فيما قبل.
البحث الثالث : القائلون بأن هذه الآية ما صارت منسوخة في حق القريب الذي لا يكون وارثاً ، اختلفوا في موضعين الأول : نقل عن ابن مسعود أنه جعل هذه الوصية للأفقر فالأفقر من الأقرباء ، وقال الحسن البصري : هم والأغنياء سواء.
(3/348)
الثاني : روي عن الحسن وخالد بن زيد وعبد الملك بن يعلى أنهم قالوا فيمن يوصي لغير قرابته وله قرابة لا ترثه : يجعل ثلثي الثلث لذوي القرابة وثلث الثلث لمن أوصي له ، وعن طاوس أن الأقارب إن كانوا محتاجين انتزعت الوصية من الأجانب وردت إلى الأقارب ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 53 ـ 55}
فائدة
قال القرطبى :
ذهب الجمهور من العلماء إلى أنه لا يجوز لأحد أن يوصي بأكثر من الثلث إلا أبا حنيفة وأصحابه فإنهم قالوا : إن لم يترك الموصي ورثة جاز له أن يوصي بماله كلّه. وقالوا : إن الاقتصار على الثلث في الوصية إنما كان من أجل أن يدع ورثته أغنياء ؛ لقوله عليه السلام : " إنك أنْ تَذَرَ ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكفّفون الناس " الحديث ، رواه الأئمة. ومن لا وارث له فليس ممن عُني بالحديث.
أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 261}
قوله تعالى {حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ }
والمراد بالمتقين المؤمنون ووضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أن المحافظة على الوصية والقيام بها من شعائر المتقين الخائفين من الله تعالى. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 55}
وقال أبو حيان :
على المتقين ، قيل : معناه : من اتقى في أمور الورثة أن لا يسرف ، وفي الأقربين أن يقدّم الأحوج فالأحوج ، وقيل : من اتبع شرائع الإيمان العاملين بالتقوى قولاً وفعلاً ، وخصهم بالذكر تشريفاً لهم وتنبيهاً على علو منزلة المتقين عنده ، وقيل : من اتقى الكفر ومخالفة الأمر.
وقال بعضهم : قوله {على المتقين} يدل على ندب الوصية لا على وجوبها ، إذ لو كانت واجبة لقال : على المسلمين ، ولا دلالة على ما قال لأنه يراد بالمتقين : المؤمنون ، وهم الذين اتقوا الكفر ، فيحتمل أن يراد ذلك هنا. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 26}
فائدة(3/349)
كيفية الوصية التي كان السلف الصالح يكتبونها : هذا ما أوصي فلان بن فلان ، أنه يشهد أن لا إله إلا الله ، وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله. {وأن الساعة آتية لا ريب فيها وأن الله يبعث من في القبور} وأوصى من ترك ، من أهله بتقوى الله تبارك وتعالى حق تقاته ، وأن يصلحوا ذات بينهم ، ويطيعوا الله ورسوله إن كانوا مؤمنين ، ويوصيهم بما أوصى به {إبراهيم بنيه ويعقوب يا بني إن الله اصطفى لكم الدين فلا تموتنَّ إلا وأنتم مسلمون} رواه الدارقطني
أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 22}
فائدة أخرى
قال السعدى ـ رحمه الله ـ :
واعلم أن جمهور المفسرين يرون أن هذه الآية منسوخة بآية المواريث ، وبعضهم يرى أنها في الوالدين والأقربين غير الوارثين ، مع أنه لم يدل على التخصيص بذلك دليل ، والأحسن في هذا أن يقال : إن هذه الوصية للوالدين والأقربين مجملة ، ردها الله تعالى إلى العرف الجاري.
ثم إن الله تعالى قدر للوالدين الوارثين وغيرهما من الأقارب الوارثين هذا المعروف في آيات المواريث ، بعد أن كان مجملا وبقي الحكم فيمن لم يرثوا من الوالدين الممنوعين من الإرث وغيرهما ممن حجب بشخص أو وصف ، فإن الإنسان مأمور بالوصية لهؤلاء وهم أحق الناس ببره ، وهذا القول تتفق عليه الأمة ، ويحصل به الجمع بين القولين المتقدمين ، لأن كلا من القائلين بهما كل منهم لحظ ملحظا ، واختلف المورد.
فبهذا الجمع ، يحصل الاتفاق ، والجمع بين الآيات ، لأنه مهما أمكن الجمع كان أحسن من ادعاء النسخ ، الذي لم يدل عليه دليل صحيح.
أ هـ {تفسير السعدى صـ 85}
موعظة
اعلم أن الوصية مستحبة لحاجة الناس إليها فإن الإنسان مغرور بأمله أى يرجو الحياة مدة طويلة مقصر فى عمله فإذا عرض له المرض وخاف الهلاك يحتاج إلى تدارك تقصيره بماله على وجه لو مات فيه يتحقق مقصده المآلى ولو أنهضه البرء يصرفه إلى مطلبه الحالى(3/350)
قال فى تفسير الشيخ ومن كان عليه حج أو كفارة أى شىء من الواجبات فالوصية واجبة وإلا فهو بالخيار وعليه الفتوى ويوصى بإرضاء خصمائه وديونه
حكى أن الإمام الشافعى رحمه الله لما مرض مرض موته قال : مروا فلانا يغسلنى فلما مات بلغ خبر موته إليه فحضر وقال : ائتونى بتذكرته فأتى بها فنظر فيها فإذا على الشافعى سبعون ألف درهم دينا فكتبها على نفسه وقضاها وقال هذا غسلى إياه وإياه أراد. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 358}
قوله تعالى {فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ }
مناسبة الآية لما قبلها
ولما تسبب عن كونه فعل ما دعت إليه التقوى من العدل وجوب العمل به قال : {فمن بدله} أي الإيصاء الواقع على الوجه المشروع أو الموصى به بأن غير عينه إن كان عينياً أو نقصه إن كان مثلياً. وقال الحرالي : لما ولي المتقين إيصال متروكهم إلى والديهم وقراباتهم فأمضوه بالمعروف تولى عنهم التهديد لمن بدل عليهم ، وفي إفهامه أن الفرائض إنما أنزلت عن تقصير وقع في حق الوصية فكأنه لو بقي على ذلك لكان كل المال حظاً للمتوفى ، فلما فرضت الفرائض اختزل من يديه الثلثان وبقي الثلث على الحكم الأول ، وبين أن الفرض عين الوصية فلا وصية لوارث لأن الفرض بدلها - انتهى.
{بعد ما سمعه} أي علمه علماً لا شك فيه ، أما إذا لم يتحقق فاجتهد فلا إثم ، وأكد التحذير من تغيير المغير وسكوت الباقين عليه بقوله : {فإنمآ إثمه} أي التبديل {على الذين يبدلونه} بالفعل أو التقدير لا يلحق الموصى منه شيء. ولما كان للموصي والمبدل أقوال وأفعال ونيات حذر بقوله : {إن الله} أي المحيط بجميع صفات الكمال {سميع} أي لما يقوله كل منهما {عليم} بسره وعلنه في ذلك ، فليحذر من عمل السوء وإن أظهر غيره ومن دعاء المظلوم فإن الله يجيبه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 335 ـ 336}
قال الفخر :(3/351)
أما قوله تعالى : {فَمَن بَدَّلَهُ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا المبدل من هو ؟ فيه قولان أحدهما : وهو المشهور أنه هو الوصي أو الشاهد أو سائر الناس ، أما الوصي فبأن يغير الوصي الوصية إما في الكتابة وإما في قسمة الحقوق وأما الشاهد فبأن يغير شهادة أو يكتمها ، وأما غير الوصي والشاهد فبأن يمنعوا من وصل ذلك المال إلى مستحقه ، فهؤلاء كلهم داخلوا تحت قوله تعالى : {فَمَن بَدَّلَهُ}.
والقول الثاني : أن المنهى عن التغيير هو الموصي نهى عن تغيير الوصية عن المواضع التي بين الله تعالى بالوصية إليها وذلك لأنا بينا أنهم كانوا في الجاهلية يوصون للأجانب ويتركون الأقارب في الجوع والضر ، فالله تعالى أمرهم بالوصية للأقربين ، ثم زجر بقوله : {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ} من أعرض عن هذا التكليف.
المسألة الثانية : الكناية في قوله : {فَمَن بَدَّلَهُ} عائد إلى الوصية ، مع أن الكناية المذكورة مذكرة والوصية مؤنثة ، وذكروا فيه وجوها أحدها : أن الوصية بمعنى الإيصاء ودالة عليه ، كقوله تعالى : {فَمَن جَاءهُ مَوْعِظَةٌ} [البقرة : 275] أي وعظ ، والتقدير : فمن بدل ما قاله الميت ، أو ما أوصى به أو سمعه عنه
وثانيها : قيل الهاء راجعة إلى الحكم والفرض والتقدير فمن بدل الأمر المقدم ذكره
وثالثها : أن الضمير عائد إلى ما أوصى به الميت فلذلك ذكره ، وإن كانت الوصية مؤنثة
ورابعها : أن الكناية تعود إلى معنى الوصية وهو قول أو فعل
وخامسها : أن تأنيث الوصية ليس بالحقيقي فيجوز أن يكنى عنها بكناية المذكر.
أما قوله : {بَعْدَمَا سَمِعَهُ} فهو يدل على أن الإثم إنما يثبت أو يعظم بشرط أن يكون المبدل قد علم ذلك ، لأنه لا معنى للسماع لو لم يقع العلم به ، فصار إثبات سماعه كإثبات علمه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 55}
وقال العلامة ابن عاشور : (3/352)
الضمائر البارزة في (بدله وسمعه وإثمه ويبدلونه) عائدة إلى القول أو الكلام الذي يقوله الموصي ودل عليه لفظ {الوصية} [البقرة : 180] ، وقد أكد ذلك بما دل عليه قوله {سَمِعَهُ} إذ إنما تسمع الأقوال وقيل هي عائدة إلى الإيصاء المفهوم من قوله : {الوصية} أي كما يعود الضمير على المصدر المأخوذ من الفعل نحو قوله تعالى : {اعدلوا هو أقرب للتقوى} [المائدة : 8] ، ولك أن تجعل الضمير عائداً إلى {المعروف} [البقرة : 180] ، والمعنى فمن بدل الوصية الواقعة بالمعروف ، لأن الإثم في تبديل المعروف ، بدليل قوله الآتي : {فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً فأصلح بينهم فلا إثم عليه} [البقرة : 182].
والمراد من التبديل هنا الإبطال أو النقص ؛ وما صْدَقُ (مَنْ بدَّله) هو الذي بيده تنفيذ الوصية من خاصة الورثة كالأبناء ومن الشهود عليها بإشهاد من الموصي أو بحضور موطن الوصية كما في الوصية في السفر المذكورة في سورة المائدة : {لانشتري به ثمناً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الأثمين} [المائدة : 106] فالتبديل مستعمل في معناه المجازي لأن حقيقة التبديل جعل شيء في مكان شيء آخر والنقض يستلزم الإتيان بضد المنقوض وتقييد التبديل بظرف {بعدما سمعه} تعليل للوعيد أي لأنه بدل ما سمعه وتحققه وإلاّ فإن التبديل لا يتصور إلاّ في معلوم مسموع ؛ إذ لا تتوجه النفوس إلى المجهول. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 152}
وقال ابن عرفة :
قوله تعالى : {فَمَن بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ...}.
إن أريد به الموصى فالمعنى : فمن لم يمتثله ، لأن تبديل حكم الله تعالى غير معقول. وأن أريد به الوارث الأجنبي فالتبديل حقيقة بَاقِ على ظاهره. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 228}
قوله تعالى : {فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدّلُونَهُ }
قال الشيخ الطاهر بن عاشور : (3/353)
والقصر في قوله : {فإنما إثمه} إضافي ، لنفي الإثم عن الموصي وإلاّ فإن إثمه أيضاً يكون على الذي يأخذ ما يجعله له الموصي مع علمه إذا حاباه منفذ الوصية أو الحاكم فإن الحُكم لا يحل حراماً ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "فمن قضيت له بحق أخيه فإنما أقتطع له قطعة من نار" ، وإنما انتفى الإثم عن الموصي لأنه استبرأ لنفسه حين أوصى بالمعروف فلا وزر عليه في مخالفة الناس بعده لما أوصى به ، إذ {ألا تزر وازرة وزر أخرى ، وأن ليس للإنسان إلا ما سعى} [النجم : 38 39].
والمقصود من هذا القصر إبطال تعلل بعض الناس بترك الوصية بعلة خيفة ألاّ ينفذها الموكول إليهم تنفيذُها ، أي فعليكم بالإيصاء ووجوب التنفيذ متعين على ناظر الوصية فإن بدله فعليه إثمه ، وقد دل قوله : {فإنما إثمه على الذين يبدلونه} أي هذا التبديل يمنعه الشرع ويضرب ولاةُ الأمور على يد من يحاول هذا التبديل ؛ لأن الإثم لا يقرر شرعاً.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 152}
سؤال : لم وضع الظاهر موضع المضمر ؟
الجواب : ووضع الظاهر موضع المضمر للدلالة على علية التبديل للإثم ، وإيثار صيغة الجمع مراعاة لمعنى من ، وفيه إشعار بشمول الإثم لجميع الأفراد. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 55}
قال ابن عرفة : كان بعضهم يفهم فيقول فائدة الحصر أنّ الموصي للفقراء بوصية ثم منعهم منها سلطان ظالم فالأجر ثابت للموصي والإثم خاص بالظالم.
قال : (وكذلك) أخذ منه بعضهم ، أنّ الموصي إذا اعترف بدين عليه وحبسه الوارث عن ربّه فقد برىء الموصي من عهدته وإثمه على المانع. ففي الآية ثلاثة أسئلة :
- الأول : لم خص الحصر بإنَّما ولم يقل : فإثمه إلا على الذين يبدلونه مع أنه أصرح ؟
والجواب أنهم قالوا : إنّ " إنما " تقتضي ثبوت ما بعدها بخلاف (إلاّ) فتقتضي وجود الإثم وثبوته.
- السؤال الثاني : قال " يبدلونه " بلفظ المضارع " ومن بدله " بلفظ الماضي ؟ (3/354)
والجواب عنه ما أجاب الزمخشري في قوله الله تعالى {وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ} {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ} وهو أنه لما كان القتل عمدا ممنوعا شرعا عبر عنه بلفظ الماضي والمستقبل إشعارا بكراهيته (والتنفير) عنه حتى كأنه غير واقع ، وكذلك يقال هنا.
قلت : لأنه ذكر لفظ الإثم في الثاني مقرونا بأداة الحصر أتي بالفعل مستقبلا زيادة في (التنفير) عن موجب الإثم.
- السؤال الثالث : هلا استغنى على إعادة الظاهر فيقال : فإنما إثمه عليه ؟
والجواب عن ذلك! أنه تنبيه على العلة التي لأجلها كان مأثوما وهي التبديل. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 228}
فوائد جليلة
قال الإمام الفخر :
واعلم أن العلماء استدلوا بهذه الآية على أحكام أحدها : أن الطفل لا يعذب على كفر أبيه وثانيها : أن الإنسان إذا أمر الوارث بقضاء دينه ، ثم إن الوارث قصر فيه بأن لا يقضي دينه فإن الإنسان الميت لا يعذب بسبب تقصير ذلك الوارث خلافاً لبعض الجهال وثالثها : أن الميت لا يعذب ببكاء غيره عليه ، وذلك لأن هذه الآية دالة على أن إثم التبديل لا يعود إلا إلى المبدل ، فإن الله تعالى لا يؤاخذ أحداً بذنب غيره وتتأكد دلالة هذه الآية بقوله تعالى :
{وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى} [الأنعام : 164] {مَّنْ عَمِلَ صالحا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاء فَعَلَيْهَا} [الجاثية : 15 ، فصلت : 46] {لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت} [البقرة : 286 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 56}
وقال العلامة الآلوسى : (3/355)
واستدل بالآية على أن الفرض يسقط عن الموصي بنفس الوصية ولا يلحقه ضرر إن لم يعمل بها ، وعلى أن من كان عليه دين فأوصى بقضائه يسلم من تبعته في الآخرة وإن ترك الوصي والوارث قضاءه وإلى ذلك ذهب إلكيا والذي يميل القلب إليه أن المديون لا تبعة عليه بعد الموت مطلقاً ولا يحبس في قبره كما يقوله الناس أما إذا لم يترك شيئاً ومات معسراً فظاهر لأنه لو بقي حياً لا شيء عليه بعد تحقق إعساره سوى نظرة إلى ميسرة ، فمؤاخذته وحبسه في قبره بعد ذهابه إلى اللطيف الخبير مما لا يكاد يعقل ، وأما إذا ترك شيئاً وعلم الوارث بالدين أوبرهن عليه به كان هو المطالب بأدائه والملزم بوفائه فإذا لم يؤد ولم يف أوخذ هو لا من مات وترك ما يوفي منه دينه كلاً أو بعضاً فإن مؤاخذة من يقول يا رب تركت ما يفي ولم يف عني من أوجبت عليه الوفاء بعدي ولو أمهلتني لوفيت مما ينافي الحكمة ولا تقتضيه الرحمة ، نعم المؤاخذة معقولة فيمن استدان لحرام وصرف المال في غير رضا الملك العلام ، وما ورد في الأحاديث محمول على هذا أو نحوه وأخذ ذلك مطلقاً مما لا يقبله العقل السليم والذهن المستقيم. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 55}
أما قوله : {إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ} فمعناه أنه تعالى سميع للوصية على حدها ، ويعلمها على صفتها ، فلا يخفى عليه خافية من التغيير الواقع فيها ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 56}
وقال فى التحرير والتنوير : (3/356)
وقوله : {إن الله سميع عليم} وعيد للمبدل ، لأن الله لا يخفى عليه شيء وإن تحيل الناس لإبطال الحقوق بوجوه الحيل وجارُوا بأنواع الجور فالله سميع وصية الموصي ويعلم فعل المبدل ، وإذا كان سميعاً عليماً وهو قادر فلا حائل بينه وبين مجازاة المبدل. والتأكيد بإن ناظر إلى حالة المبدل الحكمية في قوله : {فمن بدله} لأنه في إقدامه على التبديل يكون كمن ينكر أنَّ الله عالم فلذلك أَكِّد له الحكم تنزيلاً له منزلة المنكر. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 153}
فائدة
قال القرطبيُّ : لا خلاف أنه إذا أوصى بما لا يجوز ؛ مثل : أن يوصي بخمرٍ ، أو خنزير ، أو شيءٍ من المعاصي ، فإنه لا يجوز إمضاؤه ، ويجوز تبديله. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 153}
قوله تعالى {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182) }
مناسبة الآية لما قبلها
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما توعد من يبدل الوصية ، بين أن المراد بذلك التبديل أن يبدله عن الحق إلى الباطل ، أما إذا غيره عن باطل إلى حق على طريق الإصلاح فقد أحسن ، وهو المراد من قوله : {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} لأن الإصلاح يقتضي ضرباً من التبديل والتغيير فذكر تعالى الفرق بين هذا التبديل وبين ذلك التبديل الأول بأن أوجب الإثم في الأول وأزاله عن الثاني بعد اشتراكهما في كونهما تبديلين وتغييرين ، لئلا يقدر أن حكمهما واحد في هذا الباب.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 56}
وقال الشيخ الطاهر بن عاشور :
قوله تعالى {فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ }(3/357)
تفريع على الحكم الذي تقدمه وهو تحريم التبديل ، فكما تفرع عن الأمر بالعدل في الوصية وعيدُ المبدل لها ، وتفرع عن وعيد المبدل الإذنُ في تبديلٍ هو من المعروف وهو تبديل الوصية التي فيها جور وحيف بطريقةِ الإصلاح بين الموصَي لهم وبين من ناله الحيف من تلك الوصية بأن كان جديراً بالإيصاء إليه فتركه الموصي أو كان جديراً بمقدارٍ فأجحف به الموصي ؛ لأن آية الوصية حضرت قسمة تركة الميت في اتباع وصيته وجعلت ذلك موكولاً إلى أمانته بالمعروف ، فإذا حاف حيفاً واضحاً وجَنَف عن المعروف أُمِر ولاة الأمور بالصلح. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 153}
وقال البقاعى : (3/358)
ولما كان التحذير من التبديل إنما هو في عمل العدل وكان الموصي ربما جار في وصيته لجهل أو غرض تسبب عنه قوله : {فمن خاف} أي علم وتوقع وظن ، أطلقه عليه لأنه من أسبابه ، ولعله عبر بذلك إشارة إلى أنه يقنع فيه بالظن {من موص جنفاً} أي ميلاً في الوصية خطأ {أو إثماً} أي ميلاً فيها عمداً. قال الحرالي : وكان حقيقة معنى الجنف إخفاء حيف في صورة بر - انتهى. {فأصلح بينهم} أي بين الموصي والموصي لهم إن كان ذلك قبل موته بأن أشار عليه بما طابت به الخواطر ، أو بين الموصي لهم والورثة بعد موته إن خيف من وقوع شر فوفق بينهم على أمر يرضونه. وقال الحرالي : وفي إشعاره بذكر الخوف من الموصي ما يشعر أن ذلك في حال حياة الموصي ليس بعد قرار الوصية على جنف بعد الموت ، فإن ذلك لا يعرض له مضمون هذا الخطاب ، وفي إيقاع الإصلاح على لفظة " بين " إشعار بأن الإصلاح نائل البين الذي هو وصل ما بينهم فيكون من معنى ما يقوله النحاة مفعول على السعة حيث لم يكن فأصلح بينه وبينهم - انتهى. {فلا إثم عليه} أي بهذا التبديل. ولما كان المجتهد قد يخطىء فلو أوخذ بخطئه أحجم عن الاجتهاد جزاه الله سبحانه عليه بتعليل رفع الإثم بقوله إعلاماً بتعميم الحكم في كل مجتهد : {إن الله} أي المختص بإحاطة العلم {غفور} أي لمن قصد خيراً فأخطأ {رحيم} أي يفعل به من الإكرام فعل الراحم بالمرحوم. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 336}
قال الماوردى :
قوله عز وجل : {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَينَهُم} اختلف المفسرون في تأويل ذلك ، على خمسة أقاويل :
أحدها : أن تأويله فمن حضر مريضاً ، وهو يوصي عند إشرافه على الموت ، فخاف أن يخطئ في وصيته ، فيفعل ما ليس له أو أن يتعمد جَوْراً فيها ، فيأمر بما ليس له ، فلا حرج على من حضره فسمع ذلك منه ، أن يصلح بينه وبين ورثته ، بأن يأمره بالعدل في وصيته ، وهذا قول مجاهد.(3/359)
والثاني : أن تأويلها فمن خاف من أوصياء الميت جنفاً في وصيته ، فأصلح بين ورثته وبين المُوصَى لهم فيما أُوصِيَ به لهم حتى رد الوصية إلى العدل ، فلا إثم عليه ، وهذا قول ابن عباس ، وقتادة.
والثالث : أن تأويلها فمن خاف من موص جنفاً أو إثماً في عطيته لورثته عند حضور أجله ، فأعطى بعضاً دون بعض ، فلا إثم عليه أن يصلح بين ورثته في ذلك ، وهذا قول عطاء.
والرابع : أن تأويلها فمن خاف من موصٍ جنفاً ، أو إثماً في وصيته لغير ورثته ، بما يرجع نفعه إلى ورثته فأصلح بين ورثته ، فلا إثم عليه ، وهذا قول طاووس.
والخامس : أن تأويلها فمن خاف من موصٍ لآبائه وأقربائه جنفاً على بعضهم لبعض ، فأصلح بين الآباء والأقرباء ، فلا إثم عليه ، وهذا قول السدي. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 233 ـ 234}
وقال العلامة الطبرى ـ رحمه الله ـ : (3/360)
وأولى الأقوال في تأويل الآية أن يكون تأويلها : فمن خاف من مُوصٍ جَنفًا أو إثمًا وهو أن يميل إلى غير الحق خطأ منه ، أو يتعمد إثمًا في وصيته ، بأن يوصي لوالديه وأقربيه الذين لا يرثونه بأكثر مما يجوز له أن يوصي لهم به من ماله ، وغير ما أذن الله له به مما جاوز الثلث أو بالثلث كله ، وفي المال قلة ، وفي الوَرَثة كثرةٌ فلا بأس على من حضره أن يصلح بين الذين يُوصَى لهم ، وبين ورثة الميت ، وبين الميت ، بأن يأمرَ الميت في ذلك بالمعروف ويعرِّفه ما أباح الله له في ذلك وأذن له فيه من الوصية في ماله ، وينهاه أن يجاوز في وصيته المعروف الذي قال الله تعالى ذكره في كتابه : "كُتب عليكم إذا حضر أحدكم الموتُ إن ترك خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف" ، وذلك هو"الإصلاح" الذي قال الله تعالى ذكره : "فأصلح بينهم فلا إثم عليه". وكذلك لمن كان في المال فَضْل وكثرةٌ وفي الورثة قِلة ، فأراد أن يقتصر في وصيته لوالديه وأقربيه عن ثلثه ، فأصلح من حَضرَه بينه وبين ورثته وبين والديه وأقربيه الذين يريد أن يوصى لهم ، بأن يأمر المريض أن يزيد في وصيته لهم ، ويبلغ بها ما رَخّص الله فيه من الثلث. فذلك أيضًا هو من الإصلاح بينهم بالمعروف.
وإنما اخترنا هذا القول ، لأن الله تعالى ذكره قال : "فمن خَاف من موص جَنفًا أو إثمًا" ، يعني بذلك : فمن خاف من موص أن يَجْنَف أو يَأثم. فخوفُ الجنف والإثم من الموصي ، إنما هو كائن قبل وقوع الجنف والإثم ، فأما بعد وجوده منه ، فلا وجه للخوف منه بأن يَجنف أو يأثم ، بل تلك حال مَنْ قد جَنفَ أو أثم ، ولوْ كان ذلك معناه لقيل : فمن تبيّن من مُوص جَنفًا أو إثمًا -أو أيقن أو علم- ولم يقل : فمن خَافَ منه جَنفًا.
فإن أشكل ما قلنا من ذلك على بعض الناس فقال : فما وجه الإصلاح حينئذ ، والإصلاح إنما يكون بين المختلفين في الشيء ؟
(3/361)
قيل : إنّ ذلك وإن كان من معاني الإصلاح ، فمن الإصلاح الإصلاحُ بين الفريقين ، فيما كان مخوفًا حدوثُ الاختلاف بينهم فيه ، بما يؤمن معه حُدوث الاختلاف. لأن"الإصلاح" ، إنما هو الفعل الذي يكون معه إصلاحُ ذات البين ، فسواء كان ذلك الفعل الذي يكون معه إصلاح ذات البين - قبلَ وقوع الاختلاف أو بعد وقوعه.
فإن قال قائل : فكيف قيل : "فأصلح بينهم" ، ولم يجر للورثة ولا للمختلفين ، أو المخوف اختلافهم ، ذكرٌ ؟
قيل : بل قد جرى ذكر الذين أمر تعالى ذكره بالوصية لهم ، وهم والدا المُوصي وأقربوه ، والذين أمروا بالوصية في قوله : "كُتب عليكم إذا حَضر أحدكم الموتُ إن تَركَ خيرًا الوصية للوالدين والأقربين بالمعروف" ، ثم قال تعالى ذكره : "فمن خافَ من مُوص" -لمن أمرته بالوصية له-"جَنفًا أو إثمًا فأصلح بينهم" -وبين من أمرته بالوصية له-"فلا إثم عليه". والإصلاح بينه وبينهم ، هو إصلاح بينهم وبين ورثة الموصي. أ هـ {تفسير الطبرى حـ 3 صـ 403 ـ 405 }
سؤال : مات معنى الجنف ؟ وما الفرق بينه وبين الإثم ؟
الجنف : الميل في الأمور ، وأصله العدول عن الاستواء ، يقال : جنف يجنف بكسر النون في الماضي ، وفتحها في المستقبل ، جنفاً ، وكذلك : تجانف ، ومنه قوله تعالى : {غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ} [المائدة : 3] والفرق بين الجنف والإثم أن الجنف هو الخطأ من حيث لا يعلم به والإثم هو العمد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 56 ـ 57}
سؤال : ما المراد من الخوف فى الآية ؟
الجواب : في قوله تعالى : {فَمَنْ خَافَ} قولان : أحدهما : أن المراد منه هو الخوف والخشية.
فإن قيل : الخوف إنما يصح في أمر منتظر ، والوصية وقعت فكيف يمكن تعلقها بالخوف.(3/362)
والجواب من وجوه أحدها : أن المراد أن هذا المصلح إذا شاهد الموصي يوصي فظهرت منه أمارات الجنف الذي هو الميل عن طريقة الحق مع ضرب من الجهالة ، أو مع التأويل أو شاهد منه تعمداً بأن يزيد غير المستحق ، أو ينقص المستحق حقه ، أو يعدل عن المستحق ، فعند ظهور أمارات ذلك وقبل تحقيق الوصية يأخذ في الإصلاح ، لأن إصلاح الأمر عند ظهور أمارت فساده وقبل تقرير فساده يكون أسهل ، فلذلك علق تعالى بالخوف من دون العلم ، فكأن الموصي يقول وقد حضر الوصي والشاهد على وجه المشورة ، أريد أن أوصي للأباعد دون الأقارب وأن أزيد فلاناً مع أنه لا يكون مستحقاً للزيادة ، أو أنقص فلاناً مع أنه مستحق للزيادة ، فعند ذلك يصير السامع خائفاً من حنث وإثم لا قاطعاً عليه ، ولذلك قال تعالى : {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفًا} فعلقه بالخوف الذي هو الظن ولم يعلقه بالعلم.
الوجه الثاني : في الجواب أنه إذا أوصى على الوجه الذي ذكرناه لكنه يجوز أن لا يستمر الموصي على تلك الوصية بل يفسخها ويجوز أن يستمر لأن الموصي ما لم يمت فله الرجوع عن الوصية وتغييرها بالزيادة والنقصان فلما كان كذلك لم يصر الجنف والإثم معلومين ، لأن تجويز فسخة يمنع من أن يكون مقطوعاً عليه ، فلذلك علقه بالخوف.
الوجه الثالث : في الجواب أن بتقدير أن تستقر الوصية ومات الموصي ، فمن ذلك يجوز أن يقع بين الورثة والموصي لهم مصالحة على وجه ترك الميل والخطأ ، فلما كان ذلك منتظراً لم يكن حكم الجنف والإثم ماضياً مستقراً ، فصح أن يعلقه تعالى بالخوف وزوال اليقين ، فهذه الوجوه يمكن أن تذكر في معنى الخوف وإن كان الوجه الأول هو الأقوى.
(3/363)
القول الثاني : في تفسير قوله تعالى : {فَمَنْ خَافَ} أي فمن علم والخوف والخشية يستعملان بمعنى العلم وذلك لأن الخوف عبارة عن حالة مخصوصة متولدة من ظن مخصوص وبين العلم وبين الظن مشابهة في أمور كثيرة فلهذا صح إطلاق اسم كل واحد منهما على الآخر ، وعلى هذا التأويل يكون معنى الآية أن الميت إذا أخطأ في وصيته أو جار فيها متعمداً فلا حرج على من علم ذلك أن يغيره ويرده إلى الصلاح بعد موته ، وهذا قول ابن عباس وقتادة والربيع.
المسألة الرابعة : قد ذكرنا أن الجنف هو الخطأ والإثم هو العمد ومعلوم أن الخطأ في حق الغير في أنه يجب إبطاله بمنزلة العمد فلا فصل بين الخطأ والعمد في ذلك ، فمن هذا الوجه سوى عز وجل بين الأمرين.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 57}
وقال فى التحرير والتنوير :
ومعنى خاف هنا الظن والتوقع ؛ لأن ظن المكروه خَوف فأطلق الخوف على لازمه وهو الظن والتوقعُ إشارة إلى أن ما توقعه المتوقع من قبيل المكروه ، والقرينة هي أن الجنف والإثم لا يخيفان أحداً ولا سيما من ليس من أهل الوصية وهو المصلح بين أهلها ، ومن إطلاق الخوف في مثل هذا قول أبي مِحْجن الثقفي
: ... أخَافُ إذا ما مِتُّ أنْ لا أذُوقها
أي أظن وأَعلم شيئاً مكروها ولذا قال قبله
: ... تُرَوِّي عِظَامي بَعْدَ مَوْتِي عُرُوقُها
والجنف الحيف والميل والجور وفعله كفرح. والإثم المعصية ، فالمراد من الجنف هنا تفضيل من لا يستحق التفضيل على غيره من القرابة المساوي له أو الأحق ، فيشمل ما كان من ذلك عن غير قصد ولكنه في الواقع حيف في الحق ، والمراد بالإثم ما كان قصد الموصي به حرمان من يستحق أو تفضيل غيره عليه. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 153}
قال القُرْطُبِيُّ : (3/364)
الخطاب في قوله : {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ} لجميع المسلمين ، أي : إن خفتم من موص جنفاً ، أي : ميلاً في الوصيَّة ، وعدولاً عن الحقِّ ، ووقوعاً في إثم ، ولم يخرجها بالمعروف بأن يوصي بالمال إلى زوج ابنته ، أو لولد ابنته ؛ لينصرف المال إلى ابنته [أو إلى ابن ابنه ، والغرض أن ينصرف المال إلى ابنِهِ ، أو أوصى لبعيدٍ] ، وترك القريب ؛ فبادروا إلى السَّعي في الإصلاح بينهم ، فإذا وقع الصُّلح ، سقط الإثم عن المصلح ، والإصلاح فرض على الكفاية ، إذا قام أحدهم به ، سقط عن الباقين ، وإن لم يفعلوا ، أثم الكل. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 270}
قوله تعالى : {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ }
والإصلاح جعل الشيء صالحاً يقال : أصلحه أي جعله صالحاً ، ولذلك يطلق على الدخول بين الخصمين بالمراضاة ؛ لأنه يجعلهم صالحين بعد أن فسدوا ، ويقال : أصلح بينهم لتضمينه معنى دخل. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 154}
وقال الإمام الفخر :
أما قوله تعالى : {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} فيه مسائل :
المسألة الأولى : هذا المصلح من هو ؟ الظاهر أنه هو الوصي الذي لا بد منه في الوصية وقد يدخل تحته الشاهد ، وقد يكون المراد منه من يتولى ذلك بعد موته من وال أو ولي أو وصي ، أو من يأمر بالمعروف.
فكل هؤلاء يدخلون تحت قوله تعالى : {فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ} إذا ظهرت لهم أمارات الجنف والاسم في الوصية ، أو علموا ذلك فلا وجه للتخصيص في هذا الباب ، بل الوصي والشاهد أولى بالدخول تحت هذا التكليف وذلك لأن بهم تثبت الوصية فكان تعلقهم بها أشد. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 58}
سؤال : لقائل أن يقول : الضمير في قوله : {فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ} لا بد وأن يكون عائداً إلى مذكور سابق فما ذلك المذكور السابق ؟ (3/365)
وجوابه : أن لا شبهة أن المراد بين أهل الوصايا ، لأن قوله : {مِن مُّوصٍ} دل على من له الوصية فصار كأنهم ذكروا فصلح أن يقول تعالى فأصلح بينهم كأنه قال : فأصلح بين أهل الوصية وقال القائلون : المراد فأصلح بين أهل الوصية والميراث ، وذلك هو أن يزيد الموصي في الوصية على قدر الثلث ، فالمصلح يصلح بين أهل الوصايا والورثة في ذلك ، وهذا القول ضعيف من وجوه أحدها : أن لفظ الموصي إنما يدل على أهل الوصية لا على الورثة
وثانيها : أن الجنف والإثم لا يدخل في أن يوصي بأكثر من الثلث لأن ذلك لما لم يجز إلا بالرضا صار ذكره كلا ذكر ، ولا يحتاج في إبطاله إلى إصلاح لأنه ظاهر البطلان. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 58}
وقال ابن عادل :
والضمير في " بَيْنَهُمْ " عائدٌ على الموصي ، والورثة ، أو على الموصى لهم ، أو على الورثة والموصى لهم ، والظاهر عوده على الموصى لهم ، إذ يدلُّ على ذلك لفظ " الموصي " ، وهو نظير " وأَدَاءٌ إلَيْهِ " في أنَّ الضَّمير يعود للعافي ؛ لاستلزام " عُفِيَ " له ؛ ومثله ما أنشد الفراء : [الوافر ]
وَمَا أَدْرِي إِذَا يَمَّمْتُ أَرْضاً... أُرِيدُ الخَيْرَ أَيُّهُمَا يَلِينِي
فالضمير في " أيُّهما " يعود على الخير والشَّرِّ ، وإن لم يجر ذلك الشَّرِّ ، لدلالة ضده عليه ، والضمير في " عَلَيْهِ " وفي " خَافَ " وفي " أَصْلَحَ " يعود على " مَنْ ". أ هـ {اللباب لابن عادل حـ 2 صـ 327}
فإن قيل : هذا الإصلاح طاعةٌ عظيمةٌ ، ويستحقُّ الثَّواب عليه ، فكيف عبَّر عنه بقوله : {فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ} ؟
فالجواب : من وجوه :
أحدها : أنه تعالى ، لما ذكر إثم المبدِّل في أوَّل الآية وهذا أيضاً من التَّبديل ، بيَّن مخالفته للأوَّل ، وأنه لا إثم عيه ؛ لأنَّه ردَّ الوصيَّة إلى العدل.(3/366)
وثانيها : أنه إذا أنقص الوصايا ، فذلك يصعب على الموصى لهم ، ويوهم أن فيه إثماً ، فأزال ذلك الوهم ، فقال : {فَلاَ إِثْمَ عَلَيَهِ}.
وثالثها : أن مخالفة الموصي في وصيَّته ، وصرفها عمن أحبَّ إلى من كره ؛ فإن ذلك يوهم القبح فبيَّن تعالى أن ذلك حسنٌ ؛ بقوله : {فَلاَ إِثْمَ عَلَيَهِ}.
ورابعها : أن الإصلاح بين جماعةٍ يحتاج إلى إكثارٍ من القول ، ويخاف أن يتخلَّله بعض ما لا ينبغي من القول والفعل ؛ فبيَّن تعالى أنَّه لا ثم عليه في هذا الجنس ، إذا كان قصده في الإصلاح جميلاً. أ هـ {اللباب لابن عادل حـ 2 صـ 328}
قوله تعالى : {إن الله غفور رحيم} فيه تنويه بالمحافظة على تنفيذ وصايا الموصين حتى جعل تغيير جورهم محتاجاً للإذن من الله تعالى والتنصيص على أنه مغفور. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 154}
سؤال : فإن قيل : قوله تعالى : {إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ} إنما يليق بمن فعل فعلاً لا يجوز ، وهذا الإصلاح من جملة الطَّاعات ، فكيف يليق به هذا الكلام ؟
فالجواب من وجوه :
أحدهما : أن هذا من باب التَّنبيه بالأدنى على الأعلى ، فكأنه قال : انا الذي أغفر للذُّنوب ، ثم أرحم المذنب ؛ فبأن اوصل رحمتي وثوابي إليك ، مع أنك تحمَّلت المحن الكثيرة في إصلاح هذا المهمِّ كان أولى.
وثانيها : يحتمل أن يكون المراد : أن ذلك الموصي الذي أقدم على الجنف والإثم ، متى أصلحت وصيَّته ؛ فإن الله غفور رحيم يغفر له ، ويرحمه بفضله.
وثالثها : أن المصلح ، ربما احتاج في الإصلاح إلى أفعال وأقوال ، كان الأولى تركها ، فإذا علم الله تعالى منه أنَّه ليس غرضه إلا الإصلاح ، فإنه لا يؤاخذه بها ؛ لأنه غفور رحيم. أ هـ {اللباب لابن عادل حـ 2 صـ 328}
فصل في أفضلية الصدقة حال الصحة(3/367)
قال القرطبيُّ رحمه الله تعالى : والصَّدقة في حال الصِّحَّة أفضل منها عند الموت ؛ لقوله - عليه الصلاة والسلام - وقد سئل : أيُّ الصدقة أفضل ؟ فقال : " أن تَصَّدَّقَ ، وأَنْتَ صَحِيحٌ شَحِيحٌ "
وقال - عليه الصلاة والسلام - : " لأنْ يَتَصَدَّقَ المَرْءُ في حَيَاتِهِ بِدِرْهِم خَيْرٌ لَهُ مِنْ أَنْ يَتَصَدَّقَ عِنْدَ مَوْتِهِ بِمَائَةٍ " وقال - عليه السلام - : " مَثَلُ الَّذِي يُنْفِقُ ، وَيَتَصَدَّقُ عِنْدَ مَوْتِهِ مَثَلُ الَّذِي يُهْدِي بَعْدَ مَا يَشْبَعُ "
وقال - عليه الصلاة والسلام - : " الإِضْرَارُ في الوَصِيَّةِ مِنَ الكَبَائِرِ " وقال - عليه الصلاة والسلام - : " إنَّ الرَّجُلَ لَيَعْمَلُ أو المَرْأَةَ بِطَاعَةِ اللَّهِ سِتِّينَ سَنَةً ، ثُمَّ يَحْضُرُهُمَا المَوْتُ ، فيُضارَّان في الوَصِيَّةِ ، فَتَجِبُ لَهُمَا النَّارُ " وروى عمران بن حصين ، أن رجلاً أعتق ستة مملوكين عند موته ، لم يكن له مال غيرهم ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فغضب من ذلك ، وقال : لقد هممت ألاَّ أصلي عليه [ثم دعى مملوكيه] ، فجَزَّأهم ثلاثاً ، وأقرع بينهم ، وأعتق اثنين ، وأرقَّ أربعة.
أ هـ {اللباب لابن عادل حـ 2 صـ 328}
فائدة
قال القرطبى :
في هذه الآية دليل على الحكم بالظن لأنه إذا ظن قصد الفساد وجب السعي في الصلاح وإذا تحقق الفساد لم يكن صلحا إنما يكون حكما بالدفع وإبطالا للفساد وحسما له. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 271}
قوله تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ }
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى : (3/368)
ولما أباح سبحانه الأكل مما خلقه دليلاً على الوحدانية والرحمة العامة والخاصة وكان من طبع الإنسان الاستئثار وكان الاستئثار جارّاً إلى الفتن ، وأتبعه حكم المضطر وأشار إلى زجره عن العدوان بتقييده عنه في حال التلف فكان في ذلك زجر لغيره بطريق الأولى ، وأولاه الندب إلى التخلي عما دخل في اليد من متاع الدنيا للأصناف الستة ومن لافهم ، ثم الإيجاب بالزكاة تزهيداً في زهرة الحياة الدنيا ليجتث العدوان من أصله ، وقفي ذلك بحكم من قد يعدو ، ثم بما تبعه من التخلي عن المال في حضرة الموت فتدربت النفس في الزهد بما هو معقول المعنى بادىء بدء من التخلي عنه لمن ينتفع به أتبعه الأمر بالتخلي عنه لا لمحتاج إليه بل لله الذي أوجده لمجرد تزكية النفس وتطهيرها لتهيئها لما يقتضيه عليها صفة الصمدية من الحكمة ، هذا مع ما للقصاص والوصية من المناسبة للصوم من حيث إن في القصاص قتل النفس حساً وفي الصوم قتل الشهوة السبب للوطء السبب لإيجاد النفس حساً وفيه حياة الأجساد معنى وفي الصوم حياة الأرواح بطهارة القلوب وفراغها للتفكر وتهيئها لإفاضة الحكمة والخشية الداعية إلى التقوى وإماتة الشهوة وشهره شهر الصبر المستعان به على الشكر ، وفيه تذكير بالضّرّ الحاثّ على الإحسان إلى المضرور وهو مدعاة إلى التخلي من الدنيا والتحلي بأوصاف الملائكة ولذلك نزل فيه القرآن المتلقى من الملك ، فهو أنسب شيء لآية الوصية المأمور بها المتقون بالتخلي من الدنيا عند مقاربة الاجتماع بالملائكة ، وختمها بالمغفرة والرحمة إشارة إلى الصائم من أقرب الناس إليهما فقال تعالى : {يا أيها الذين آمنوا} فخاطب بما يتوجه بادىء بدء إلى أدنى الطبقات التي التزمت أمر الدين لأنه لم يكن لهم باعث حب وشوق يبعثهم على فعله من غير فرض بخلاف ما فوقهم من رتبة المؤمنين والمحسنين فإنهم كانوا يفعلون معالم الإسلام من غير إلزام فكانوا يصومون على قدر ما يجدون من الروح فيه - قاله(3/369)
الحرالي ، وقال : فلذلك لم ينادوا في القرآن نداء بعدٍ ولا ذكروا إلا ممدوحين ، والذين ينادون في القرآن هم الناس الذين انتبهوا لما أشار به بعضهم على بعض والذين آمنوا بما هم في محل الائتمار متقاصرين عن البدار ، فلذلك كل نداء في القرآن متوجه إلى هذين الصنفين إلا ما توجه للإنسان بوصف ذم في قليل من الآي - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 336 ـ 337}
{يا أيها الذين آمنوا} قال أصحاب اللسان يا حرف نداء وهو نداء من الحبيب للحبيب وأيها تنبيه من الحبيب للحبيب وآمنوا شهادة من الحبيب للحبيب
وقال الحسن إذا سمعت الله يقول يا أيها الذين آمنوا فارفع لها سمعك فأنه لأمر تؤمر به أو لنهى تنهى عنه
وقال جعفر الصادق لذة فى النداء أزال بها تعب العبادة والعناء يشير إلى أن المحب يبادر إلى امتثال أمر محبوبه حتى لو أمره بإلقاء نفسه فى النار. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 360}
والصيام ويقال الصوم هو في اصطلاح الشرع : اسم لترك جميع الأكل وجميع الشرب وقربان النساء مدة مقدرة بالشرع بنية الامتثال لأمر الله أو لقصد التقرب بنذر للتقرب إلى الله.
والصيام اسم منقول من مصدر فعال وعينه واو قلبت ياء لأجل كسرة فاء الكلمة ، وقياس المصدر الصوم ، وقد ورد المصدران في القرآن ، فلا يطلق الصيام حقيقة في اللغة إلاّ على ترك كل طعام وشراب ، وألحق به في الإسلام ترك قربان كل النساء ، فلو ترك أحد بعض أصناف المأكول أو بعض النساء لم يكن صياماً كما قال العرجي :
فإنْ شِئتتِ حَرَّمْتُ النساءَ سِوَاكُمُ... وإِنْ شِئْتتِ لَمْ أَطْعَمْ نُقَاخاً ولاَ بَرْدَا
وللصيام إطلاقات أخرى مجازية كإطلاقه على إمساك الخيل عن الجري في قول النابغة :
خَيْلٌ صِيامٌ وخيلٌ غيرُ صائمة... تحْتَ العَجَاج وأُخْرى تَعْلكُ اللُّجُمَا
وأطلق على ترك شرب حمار الوحش الماء ، وقال لبيد يصف حمار الوحش وأتانه في إثر فصل الشتاء حيث لا تشرب الحمر ماء لاجتزائها بالمرعى الرطب :(3/370)
حتى إِذا سَلَخَا جُمَادى سِتَّة... جَزْءًا فطَال صيامُه وصِيامُها
والظاهر أن اسم الصوم في اللغة حقيقة في ترك الأكل والشرب بقصد القربة فقد عرف العرب الصوم في الجاهلية من اليهود في صومهم يوم عاشوراء كما سنذكره. وقول الفقهاء : إن الصوم في اللغة مطلق الإمساك ، وإن إطلاقه على الإمساك عن الشهوتين اصطلاح شرعي ، لا يصح ، لأنه مخالف لأقوال أهل اللغة كما في "الأساس" وغيره ، وأما إطلاق الصوم على ترك الكلام في قوله تعالى حكاية عن قول عيسى : {فقولي إني نذرت للرحمن صوماً فلن أكلم اليوم إنسياً} [مريم : 26] فليس إطلاقاً للصوم على ترك الكلام ولكن المراد أن الصوم كان يتبعه ترك الكلام على وجه الكمال والفضل.
فالتعريف في الصيام في الآية تعريف العهد الذهني ، أي كتب عليكم جنس الصيام المعروف. وقد كان العرب يعرفون الصوم ، فقد جاء في "الصحيحين" عن عائشة قالت : "كان يومُ عاشُوراءَ يوماً تصومه قريش في الجاهلية" وفي بعض الروايات قولها : "وكان رسول الله يصومه" أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 154 ـ 155}
في موضع {كَمَا} ثلاثة أقول
الأول : قال الزجاج موضع {كَمَا} نصب على المصدر لأن المعنى : فرض عليكم فرضاً كالذي فرض على الذين من قبلكم
الثاني : قال ابن الأنباري يجوز أن يكون في موضع نصب على الحال من الصيام يراد بها : كتب عليكم الصيام مشبهاً وممثلاً بما كتب على الذين من قبلكم
الثالث : قال أبو علي : هو صفة لمصدر محذوف تقديره : كتابة كما كتب عليهم ، فحذف المصدر وأقيم نعته مقامه قال : ومثله في الاتساع والحذف قولهم في صريح الطلاق : أنت واحدة ، ويريدون أنت ذات تطليقة واحدة ، فحذف المضاف والمضاف إليه وأقيم صفة المضاف مقام الاسم المضاف إليه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 60}
كلام نفيس للإمام البقاعى(3/371)
{كتب} أي فرض بما استفاض في لسان الشرع وتأيد بأداة الاستعلاء {عليكم الصيام} وهو الإمساك عن المفطر من طلوع الفجر إلى غروب الشمس بالنية وقال الحرالي : فرض لما فيه من التهيؤ لعلم الحكمة وعلم ما لم تكونوا تعلمون وهو الثبات على تماسك عما من شأن الشيء أن يتصرف فيه ويكون شأنه كالشمس في وسط السماء ، يقال : صامت - إذا لم يظهر لها حركة لصعود ولا لنزول التي هي من شأنها ، وصامت الخيل - إذا لم تكن مركوضة ولا مركوبة ، فتماسك المرء عما شأنه فعله من حفظ بدنه بالتغذي وحفظ نسله بالنكاح وخوضه في زور القول وسوء الفعل هو صومه ، وفي الصوم خلاء من الطعام وانصراف عن حال الأنعام وانقطاع شهوات الفرج ، وتمامه الإعراض عن أشغال الدنيا والتوجه إلى الله والعكوف في بيته ليحصل بذلك نبوع الحكمة من القلب ، وجعل كتباً حتى لا يتقاصر عنه من كتب عليه إلا انشرم دينه كما ينشرم خرم القربة المكتوب فيها - انتهى.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 337}
لطيفة
قال بعض العلماء : إن الله تعالى قال في المكروهات {كتب عليكم الصيام} على لفظ لم يسم فاعله وإن كان قد علم أنه هو الكاتب
فلما جاء إلى ما يوجب الراحة قال {كتب ربكم على نفسه الرحمة}. أ هـ {صيد الخاطر صـ 86}
لطيفة ثانية
قال ابن رجب الحنبلى ـ رحمه الله ـ :
الصيام يقي صاحبه من المعاصي في الدنيا كما قال عز وجل {يا أيها الذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون} فإذا كان له جنة من المعاصي كان له في الآخرة جنة من النار ومن لم يكن له جنة في الدنيا من المعاصي لم يكن له جنة في الآخرة من النار. أ هـ {جامع العلوم والحكم صـ 271}
قوله تعالى : {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ }
في هذا التشبيه قولان أحدهما : أنه عائد إلى أصل إيجاب الصوم ، يعني هذه العبادة كانت مكتوبة واجبة على الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم ، ما أخلى الله أمة من إيجابها عليهم لا يفرضها عليكم وحدكم وفائدة هذا الكلام أن الصوم عبادة شاقة ، والشيء الشاق إذا عم سهل تحمله.(3/372)
والقول الثاني : أن التشبيه يعود إلى وقت الصوم وإلى قدره ، وهذا ضعيف لأن تشبيه الشيء بالشيء يقتضي استواءهما في أمر من الأمور فاما أن يقال : إنه يقتضي الإستواء في كل الأمور فلا ، ثم القائلون بهذا القول ذكروا وجوها أحدها : أن الله تعالى فرض صيام رمضان على اليهود والنصارى ، أما اليهود فإنها تركت هذا الشهر وصامت يوماً من السنة ، زعموا أنه يوم غرق فيه فرعون ، وكذبوا في ذلك أيضاً ، لأن ذلك اليوم يوم عاشوراء على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أما النصارى فإنهم صاموا رمضان فصادفوا فيه الحر الشديد فحولوه إلى وقت لا يتغير ، ثم قالوا عند التحويل نزيد فيه فزادوا عشراً ، ثم بعد زمان اشتكى ملكهم فنذر سبعاً فزادوه ، ثم جاء بعد ذلك ملك آخر فقال : ما بال هذه الثلاثة فأتمه خمسين يوماً ، وهذا معنى قوله تعالى : {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أَرْبَاباً} [التوبة : 31] وهذا مروي عن الحسن وثانيها : أنهم أخذوا بالوثيقة زمانا فصاموا قبل الثلاثين يوماً وبعدها يوماً ، ثم لم يزل الأخير يستسن بسنة القرن الذي قبله حتى صاروا إلى خمسين يوماً ، ولهذا كره صوم يوم الشك ، وهو مروي عن الشعبي وثالثها : أن وجه التشبيه أنه يحرم الطعام والشراب والجماع بعد النوم كما كان ذلك حراما على سائر الأمم واحتج القائلون بهذا القول بأن الأمة مجمعة على أن قوله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَائِكُمْ} [البقرة : 187] يفيد نسخ هذا الحكم ، فهذا الحكم لا بد فيه من دليل يدل عليه ولا دليل عليه إلا هذا التشبيه وهو قوله : {كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} فوجب أن يكون هذا التشبيه دليلاً على ثبوت هذا المعنى ، قال أصحاب القول الأول : قد بينا أن تشبيه شيء بشيء لا يدل على مشابهتهما من كل الوجوه فلم يلزم من تشبيه صومنا بصومهم أن يكون صومهم مختصاً برمضان ، وأن يكون صومهم مقدراً بثلاثين يوماً ، ثم إن هذه(3/373)
الرواية مما ينفر من قبول الإسلام إذا علم اليهود والنصارى كونه كذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 60}
وقال فى التحرير والتنوير :
في قوله : {كتب عليكم الصيام} إجمال وقع تفصيله في الآيات بعده.
فحصل في صيام الإسلام ما يخالف صيام اليهود والنصارى في قيود ماهية الصيام وكيفيتها ، ولم يكن صيامنا مماثلاً لصيامهم تمام المماثلة. فقوله : {كما كتب على الذين من قبلكم} تشبيه في أصل فرض ماهية الصوم لا في الكيفيات ، والتشبيهُ يكتفَى فيه ببعض وجوه المشابهة وهو وجه الشبه المراد في القصد ، وليس المقصود من هذا التشبيه الحوالةَ في صفة الصوم على ما كان عليه عند الأمم السابقة ، ولكن فيهم أغراضاً ثلاثة تضمنها التشبيه : (3/374)
أحدها الاهتمام بهذه العبادة ، والتنويه بها لأنها شرعَها الله قبلَ الإسلام لمن كانوا قبل المسلمين ، وشرعها للمسلمين ، وذلك يقتضي اطِّراد صلاحها ووفرة ثوابها. وإنهاض همم المسلمين لتلقي هذه العبادة كي لا يتميز بها من كان قبلهم. إن المسلمين كانوا يتنافسون في العبادات كما ورد في الحديث " أنَّ نَاساً من أصحاب رسول الله قالوا يا رسول الله ذهب أهلُ الدُّثُور بالأجُور يُصلُّون كما نصلي ويصومون كما نصوم ويتصدقون بفضول أموالهم " الحديث ويحبون التفضيل على أهل الكتاب وقطع تفاخر أهل الكتاب عليهم بأنهم أهل شريعة قال تعالى : {أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا وإن كنا عن دراستهم لغافلين أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم فقد جاء بينة من ربكم وهدى ورحمة} [الأنعام : 156 ، 157]. فلا شك أنهم يغتبطون أمر الصوم وقد كان صومهم الذي صاموه وهو يوم عاشوراء إنما اقتدَوا فيه باليهود ، فهم في ترقب إلى تخصيصهم من الله بصوم أُنُففٍ ، فهذه فائدة التشبيه لأهل الهمم من المسلمين إذا ألحقهم الله بصالح الأمم في الشرائع العائدة بخير الدنيا والآخرة قال تعالى : {وفي ذلك فليتنافس المتنافسون} [المطففين : 26].
والغرض الثاني أن في التشبيه بالسابقين تهويناً على المكلفين بهذه العبادة أن يستثقلوا هذا الصوم ؛ فإن في الاقتداء بالغير أسوة في المصاعب ، فهذه فائدة لمن قد يستعظم الصوم من المشركين فيمنعه وجوده في الإسلام من الإيمان ولمن يستثقله من قريبى العهد بالإسلام ، وقد أكَّد هذا المعنى الضّمني قوله بعده : {أياماً معدودات }.
والغرض الثالث إثارة العزائم للقيام بهذه الفريضة حتى لا يكونوا مقصرين في قبول هذا الفرض بل ليأخذوه بقوة تفوق ما أدى به الأمم السابقة. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 156 ـ 157}
قال ابن عرفة : إنما هو تشبيه حكم بحكم والحكم لا يتبدل ولا يتفاوت فهو تشبيه وجوب بوجوب).(3/375)
وهذا التشبيه وإن رجع إلى الأحكام فهو تسلية لنا لأن الإعلام بفرضيته على من مضى يوجب خفته عل النفوس وقبولها إياه ، وإن رجع إلى الثواب فهو تنظير نعمة بنعمة ، أي : أنعم عليكم بالصوم المحصل للثواب الأخروي ، كما أنعم على من قبلكم من أن ثوابكم أعظم. وحذف الفاعل للعلّم به وزيادة " مِنْ " تنبيه على عموم ذلك في كل أمة من الأمم السالفة إلى حين : تزول هذه الآية. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 229}
قال الخازن :
{كما كتب على الذين من قبلكم} يعني من الأنبياء والأمم من لدن آدم إلى عهدكم والمعنى أن الصوم عبادة قديمة أي في الزمن الأول ما أخلى الله أمة لم يفرضه عليهم كما فرضه عليكم وذلك لأن الصوم عبادة شاقة والشيء الشاق إذا عم سهل عمله وقيل إن صيام شهر رمضان كان واجباً على النصارى كما فرض علينا فصاموا رمضان زماناً فربما وقع في الحر الشديد والبر الشديد وكان يشق ذلك عليهم في أسفارهم ويضرهم في معايشهم فاجتمع رأي علمائهم ورؤسائهم أن يجعلوه في فصل من السنة معتدل بين الصيف والشتاء : فجعلوه في فصل الربيع ثم زادوا فيه عشرة أيام كفارة لما صنعوا فصاموا أربعين يوماً ، ثم بعد زمان اشتكى ملكهم فمه فجعل لله عليه إن هو برأ من وجعه أن يزيد في صومهم أسبوعاً فبرأ فيه أسبوعاً ، ثم مات ذلك الملك بعد زمان ووليهم ملك آخر فقال : ما شأن هذه الثلاثة أيام أتموه خمسين يوماً فأتموه وقيل أصابهم موتان فقالوا : زيدوا في صيامكم فزادوا عشراً قبله وعشراً بعده.
وقيل : إن النصارى فرض الله عليهم صوم رمضان فصاموا قبله يوماً وبعده يوماً ثم لم يزالوا يزيدونه يوماً بعد يوم حتى بلغ خمسين فلذلك نهى عن صوم يوم الشك. أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 109}(3/376)
بحث نفيس عن الصوم في الأُمم السابقة
يظهر من النصوص الموجودة في التوراة والإِنجيل ، أن الصوم كان موجوداً بين اليهود والنصارى ، وكانت الأُمم الأخرى تصوم في أحزانها ومآسيها ، فقد ورد في "قاموس الكتاب المقدس" : "الصوم بشكل عام وفي جميع الأوقات كان يمتد في أوقات الأحزان والنوائب بين جميع الطوائف والملل والمذاهب".
ويظهر من التوراة أن موسى(عليه السلام) صام أربعين يوماً ، فقد جاء فيها : "أَقَمْتُ فِي الْجَبَلِ أَرْبَعِينَ نَهَاراً وَأَرْبَعِينَ لَيْلَةً لاَ آكُلُ خُبُزاً وَلاَ أَشْرَبُ مَاءً".
وكان اليهود يصومون لدى التوبة والتضرع إلى الله : "اليهود كانوا يصومون غالباً حينما تتاح لهم الفرصة للإعراب عن عجزهم وتواضعهم أمام الله ، ليعترفوا بذنوبهم عن طريق الصوم والتوبة ، وليحصلوا على رضا حضرة القدس الإِلهي".
"الصوم الأعظم مع الكفارة كان على ما يبدو خاصاً بيوم من أيام السنة بين طائفة اليهود ، طبعاً كانت هناك أيام أخرى مؤقتة للصوم بمناسبة ذكرى تخريب أُورشليم وغيرها".
السيد المسيح(عليه السلام) صام أيضاً أربعين يوماً كما يظهر من "الإِنجيل" : "ثم صعد يسوع إلى البرية من الروح ليجرَّب من إبليس فبعدما صام أربعين نهاراً وأربعين ليلة جاع أخيراً".
ويبدو من نصوص إنجيل "لوقا" أن حواريّي السيد المسيح صاموا أيضاً.
وجاء في قاموس الكتاب المقدس أيضاً : "... من هنا كانت حياة الحوارييّن والمؤمنين مملوءة بالابتعاد عن اللذات وبالأتعاب وبالصوم".
بهذا نستطيع أن نجد في نصوص الكتب الدينية القديمة (حتى بعد تحريفها) شواهد على ما جاء في القرآن الكريم (كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ). أ هـ {الأمثل حـ 1 صـ 390 ـ 391}
قوله تعالى {لعلكم تتقون }
قال الفخر : (3/377)
أما قوله تعالى : {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} فاعلم أن تفسير {لَعَلَّ} في حق الله تعالى قد تقدم ، وأما أن هذا الكلام كيف يليق بهذا الموضع ففيه وجوه أحدها : أنه سبحانه بين بهذا الكلام أن الصوم يورث التقوى لما فيه من انكسار الشهوة وانقماع الهوى فإنه يردع عن الأشر والبطر والفواحش ويهون لذات الدنيا ورياستها ، وذلك لأن الصوم يكسر شهوة البطن والفرج ، وإنما يسعى الناس لهذين ، كما قيل في المثل السائر : المرء يسعى لعارية بطنه وفرجه ؛ فمن أكثر الصوم هان عليه أمر هذين وخفت عليه مؤنتهما ، فكان ذلك رادعاً له عن ارتكاب المحارم والفواحش ، ومهوناً عليه أمر الرياسة في الدنيا وذلك جامع لأسباب التقوى فيكون معنى الآية فرضت عليكم الصيام لتكونوا به من المتقين الذين أثنيت عليهم في كتابي ، وأعلمت أن هذا الكتاب هدى لهم ولما اختص الصوم بهذه الخاصية حسن منه تعالى أن يقول عند إيجابها {لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} منها بذلك على وجه وجوبه لأن ما يمنع النفس عن المعاصي لا بد وأن يكون واجباً وثالثها : المعنى ينبغي لكم بالصوم أن يقوى وجاؤكم في التقوى وهذا معنى {لَعَلَّ} وثانيها : المعنى : لعلكم تتقون الله بصومكم وترككم للشهوات فإن الشيء كلما كانت الرغبة فيه أكثر كان الاتقاء عنه أشق والرغبة في المطعوم والمنكوح أشد من الرغبة في سائر الأشياء فإذا سهل عليكم اتقاء الله بترك المطعوم والمنكوح ، كان اتقاء الله بترك سائر الأشياء أسهل وأخف ورابعها : المراد {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ} إهمالها وترك المحافظة عليها بسبب عظم درجاتها واصالتها وخامسها : لعلكم تنتظمون بسبب هذه العبادة في زمرة المتقين ؛ لأن الصوم شعارهم ، والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 61}
وقال البقاعى : (3/378)
{لعلكم تتقون} أي تجعلون بينكم وبين إسخاط الله وقاية بالمسارعة إليه والمواظبة عليه رجاء لرضى ربكم وخوفاً ممن سبق من قبلكم ، لتكون التقوى لكم صفة راسخة فتكونوا ممن جعلت الكتاب هدى لهم ، فإن الصوم يكسر الشهوة فيقمع الهوى فيروع عن موافقة السوء. قال الحرالي : وفي إشعاره تصنيف المأخوذين بذلك صنفين : من يثمر له صومه على وجه الشدة تقوى ، ومن لا يثمر له ذلك. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 338}
وقال فى التحرير والتنوير :
وقوله : {لعلكم تتقون} بيان لحكمة الصيام وما لأجله شرع ، فهو في قوة المفعول لأجله لكُتب. و(لَعَل) إما مستعارة لمعنى كي استعارة تبعية ، وإما تمثيلية بتشبيه شأن الله ؛ في إرادته من تشريع الصوم التقوى بحال المترجي من غيره فعلاً ما ، والتقوى الشرعية هي اتقاء المعاصي ، وإنما كان الصيام موجباً لاتقاء المعاصي ، لأن المعاصي قسمان ، قسم ينجع في تركه التفكر كالخمر والميسر والسرقة والغصْب فتركُه يحصل بالوعد على تركه والوعيد على فعله والموعظة بأحوال الغير ، وقسم ينشأ من دواع طبيعية كالأمور الناشئة عن الغضب وعن الشهوة الطبيعية التي قد يصعب تركها بمجرد التفكر ، فجعل الصيام وسيلة لاتقائها ، لأنه يُعَدِّل القوى الطبيعية التي هي داعية تلك المعاصي ، ليرتقي المسلم به عن حضيض الانغماس في المادة إلى أَوج العالَم الرُّوحاني ، فهو وسيلة للارتياض بالصفات الملكية والانتفاض من غبار الكدرات الحيوانية.
وفي الحديث الصحيح " الصَّوْمُ جُنَّة " أي وقاية ولما تُرك ذكر متعلَّق جُنَّة تعيَّن حمله على ما يصلح له من أصناف الوقاية المرغوبة ، ففي الصوم وقاية من الوقوع في المآثم ووقاية من الوقوع في عذاب الآخرة ، ووقاية من العِلل والأدْواء الناشئة عن الإفراط في تناول اللذات.
أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 158}(3/379)
لطائف وروائع وفوائد
قال ابن مَسْعود : متى سمعتَ فى التَّنْزيل كلمة : يا أَيّها الذين آمَنُوا ، فاعلم أَنَّ الذى يَتْلُوه من تمام الخطاب إِمَّا أَمرٌ يجب امتثالُه ، وإِمّا نَهْىٌ عن أَمرٍ يجب اجْتِنابُه ، وإِمّا كلامٌ يتضمّن معنَى أَمر أَوْ فَحْوَى نَهْى.
وقد ذكر الله عبادَه المؤمنين فى كلامه المجيد بهذا النِّداءِ فى تسعة وثمانين موضعاً ، وهى منقسمة على ثلاثة أَقسام كما ذكرنا : أَمرٌ صريحٌ أَو نَهْىَ فصيح ، أَو متضمِّن لأَحدهما بتعريض لابتصريح. وتفصيل ذلك :
فى سورة البقرة سَبَعة ، وفى سورة آل عمْرانَ تسعة ، فى سورة النِّساءُ ستَّةَ عَشَر ، وفى سورة المائدة ستَّة ، وفى سورة الأَنفال ستَّة ، وفى سورة بَراءة ستَّة ، وفى سورة الحجّ واحدةٌ ، وفى سورة النَّور ثلاثة ، وفى سورة الأَحزاب سَبْعة ، وفى سورة محمّد صلَّى الله عليه وسلم اثْنان ، وفى سورة الحُجُرات خمسة ، وفى سورة الحَديد واحد ، وفى سورة المُجادَلة ثَلاثَة ، وفى سورة الحَشْر واحد ، وفى سورة المُمْتَحَنَة ثَلاثة ، وفى سورة الصفّ ثلاثة ، وفى سورة الجُمْعة واحد ، وفى سورة المنافقين واحد ، وفى سورة التَّغابُن واحد ، وفى سورة التَّحريم واحد ، ومن هذه الجملة ثلاثة وأَربعون أَوامر صريحة ، وثمانية وعُشرون نَواهى ، وثمانية عَشَر متضمّنة مَعْنَى أَمْر أَو نَهْى.
أَمّا الأَوامر فقوله تعالى : {يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَعِينُواْ بِالصَّبْرِ}.
2 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ}. 3 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً}.
4 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم}.
5 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا}.
6 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ}
(3/380)
7 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ}.
8 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُوْلِي الأَمْرِ مِنْكُمْ}.
9 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ}.
10 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ}.
11 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُواْ}.
12 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ}.
13 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ}.
14 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَوْفُواْ بِالْعُقُودِ}.
15 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فاغْسِلُواْ وُجُوهَكُمْ}.
16 - {يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بِالْقِسْطِ}.
17 - {يَا أَيُّهَآ الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ}.
18 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ}.
19 - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ...}. إِلى قوله {فَاجْتَنِبُوهُ}
20 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ}.
21 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ للَّهِ وَلِلرَّسُولِ}.
22 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ}
23 - {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ}.
24 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً}.
25 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ارْكَعُواْ وَاسْجُدُواْ}.
(3/381)
26 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ}.
27 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا}.
28 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اذْكُرُواْ اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً}.
29 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}.
30 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً}.
31 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَلاَ تُبْطِلُواْ أَعْمَالَكُمْ}.
32 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ}.
33 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اجْتَنِبُواْ كَثِيراً مِّنَ الظَّنِّ}.
34 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ}.
35 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُواْ}.
36 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً}.
37 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللَّهَ وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ}.
38 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ}.
39 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ أَنصَارَ اللَّهِ}.
40 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْاْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُواْ الْبَيْعَ}.
41 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ}.
(3/382)
42 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قُواْ أَنفُسَكُمْ}.
43 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ تُوبُواْ إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَّصُوحاً}.
وأَمّا النَّواهى فثمانيةٌ وعشرون موضعاً :
1 - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا}.
2 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالأَذَى}.
3 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ}. 4 - {يَآ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ الرِّبَا}.
5 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ كَفَرُواْ}.
6 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَآءَ}.
7 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ اللَّهِ}.
8 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَأْكُلُواْ أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ}.
9 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى}.
10 - {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَآءَ}.
11 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ}.
12 - {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ}.
13 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ}.
14 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ}.
15 - {يَآأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ}.
16 -{ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَآءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَآءَ إِنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ}.
(3/383)
17 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ}.
18 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ}.
19 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النَّبِيِّ}.
20 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ آذَوْاْ مُوسَى}.
21 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ}.
22 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَرْفَعُواْ أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ}.
23 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ}.
24 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بِالإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ}.
25 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ}.
26 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ}.
27 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ اللَّهِ}.
28 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً}.
وأَمّا القسم المتضمن بمعنى أَمر ونهى ففى ثَمَانيَةَ عَشَرَ موضعا :
1 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ}.
2 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ}.
3 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ...} إلى قوله : {فَاكْتُبُوهُ} وهذا أَمر صريح ينبى أَن يلحق بالقسم الأَوّل.
4 - / {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ
(3/384)
عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ} وقال : {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} أَى لا تطيعوهم.
5 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ} إِلى قوله : {خَاسِرِينَ} وهذا أَيضاً نهى.
6 - {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النِّسَآءَ كَرْهاً}.
وهذا على سبيل النَّهى أَيضاً.
7 - {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَن دِينِهِ}.
8 - {يَأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ} ، أَى لا تَصْطادوا
9 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ} وهذا أَمرٌ أَى ، اشْتَغِلُوا بأَنْفُسكم.
10 - {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ} أَى أَقيمُوها
11 - {يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَتَّقُواْ اللَّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ}.
12 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ} وهذا نهْى ، والمعنى لا تُمَكِّنوهُم من الدُّخول.
13 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} وهذا نَهْىٌ أَى لا تَأْكُلُوا.
14 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ} وهى نهى ، أَى لا تَتَثاقَلُوا.
15 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِن تَنصُرُواْ اللَّهَ يَنصُرْكُمْ} وهذا أَمرٌ أَى انْصُروا دِينَ الله.
16 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ} وهذا نَهْىٌ ، أَى لا تَقُولوا.
(3/385)
17 - {ياأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ هَلْ أَدُلُّكمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُم} وهذا أَمْر ، أَى تاجِرُوا الله فإِنَّ مَنْ تاجَرَه لا يَخْسَر. وفى بعض الآثار عن الرب تعالَى فى بَعْض كُتُبه المُنَّزَلة : "عَبيدى وإِمائى خَلَقْتُكُمْ لتَرْبحُوا عَلَىَّ لا لأَرْبَحَ عَلَيْكُم ، فتاجرُونى ، فمَنْ كان رَأْسُ ماله الطَّاعَةَ تأْتيه الأَرْباح بغير بضاعَة.أ هـ بصائر ذوى التمييز حـ 6 صـ 243 ـ 247}(3/386)
قوله تعالى {أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ }
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما كان لهذه الأمة جمع لما في الكتب والصحف كانت مبادىء أحكامها على حكم الأحكام المتقدمة فكما وجهوا وجهة أهل الكتاب ابتداء ثم لهم بالوجهة إلى الكعبة انتهاء كذلك صوّموا صوم أهل الكتاب {أياماً معدودات} أي قلائل مقدرة بعدد معلوم ابتداء ثم رقوا إلى صوم دائرة الشهر وحدة قدر انتهاء ، وذلك أنه لما كان من قبلهم أهل حساب لما فيه حصول أمر الدنيا فكانت أعوامهم شمسية كان صومهم عدد أيام لا وحدة شهر ، وفي إعلامه إلزام بتجديد النية لكل يوم حيث هي أيام معدودة ، وفي إفهامه منع من تمادي الصوم في زمن الليل الذي هو معنى الوصال الذي يشعر صحته رفع رتبة الصوم إلى صوم الشهر الذي هو دورة القمر يقنع الفطر في ليلة رخصة للضعيف لا عزماً على الصائم ، وكان فيه من الكلفة ما في صوم أهل الكتاب من حيث لم يكن فيه أكل ولا نكاح بعد نوم ، فكان فيه كلفة ما في الكتب لينال رأس هذه الأمة وأوائلها حظاً من منال أوائل الأمم ثم يرقيها الله إلى حكم ما يخصها فتكون مرباة تجد طعم اليسر بعد العسر - انتهى وفيه تصرف. ومذهب الشافعي رضي الله تعالى عنه تحريم الوصال ، قالوا : يا رسول الله! إنك تواصل! قال : " إني لست كهيئتكم " وقال : " من كان مواصلاً فليواصل إلى السحر " قال الحرالي : فأنبأ بتمادي الصوم إلى السحر لتنتقل وجبة الفطر التي توافق حال أهل الكتاب إلى وجبة السحر التي هي خصوص أهل الفرقان - انتهى. وفي مواصلة النبي صلى الله عليه وسلم بهم لما أبوا إلا الوصال أياماً ما يشهد لمن أباح ذلك والله سبحانه وتعالى أعلم. قال الحرالي : وفي تأسيسه على العدد ملجأ يرجع إليه عند إغماء الشهر الذي هو الهلال كما سيأتي التصريح به ، فصار لهم العدد في الصوم بمنزلة التيمم في الطهور يرجعون إليه عند ضرورة فقد إهلال الرؤية كما يرجعون إلى الصعيد عند فقد الماء. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 338}
قال ابن جزى : والقصد بقوله كما كتب على الذين من قبلكم وبقوله أياما معدودات تسهيل الصيام على المسلمين وكأنه اعتذار عن كتبه عليهم (1) وملاطفة جميلة. أ هـ {التسهيل حـ 1 صـ 71}
____________________
(1) قوله وكأنه اعتذار عن كتبه عليهم غير لائق وكان الأولى أن يقتصر على قوله بعد ذلك وملاطفة جميلة. والله أعلم بالصواب.(3/387)
قال الإمام الفخر :
اعلم أن في قوله تعالى : {أَيَّامًا معدودات} مسائل :
المسألة الأولى : في انتصاب {أَيَّامًا} أقوال الأول : نصب على الظرف ، كأنه قيل : كتب عليكم الصيام في أيام ، ونظيره قولك : نويت الخروج يوم الجمعة
والثاني : وهو قول الفراء أنه خبر ما لم يسم فاعله ، كقولهم : أعطى زيد مالاً
والثالث : على التفسير
والرابع : بإضمار أي فصوموا أياماً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 61}
قال أبو حيَّان : وكلا القَولين خطأٌ : أَمَّا النَّصب على الظرفيَّة ، فإِنَّهُ محلٌّ للفعلِ ، والكِتابة لَيْسَت واقعةً في الأيَّام ، لكنَّ متعلَّقها هو الواقع في الأَيّام ، وأَمَّا [النَّصب على المفعول اتساعاً ، فإِنَّ ذلك مبنيٌّ على كونه ظرفاً لـ " كُتِبَ " ، وقد تقدَّم أَنَّهُ خطأٌ ، وقيل : نصبٌ على] التَّفسير. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 28}(3/388)
المسألة الثانية : اختلفوا في هذه الأيام على قولين : الأول : أنها غير رمضان ، وهو قول معاذ وقتادة وعطاء ، ورواه عن ابن عباس ، ثم اختلف هؤلاء فقيل : ثلاثة أيام من كل شهر ، عن عطاء ، وقيل : ثلاثة أيام من كل شهر ، وصوم يوم عاشوراء ، عن قتادة ، ثم اختلفوا أيضاً فقال بعضهم : إنه كان تطوعاً ثم فرض ، وقيل : بل كان واجباً واتفق هؤلاء على أنه منسوخ بصوم رمضان ، واحتج القائلون بأن المراد بهذه الأيام غير صوم رمضان بوجوه الأول : ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أن صوم رمضان نسخ كل صوم ، فدل هذا على أن قبل وجوب رمضان كان صوماً آخر واجباً الثاني : أنه تعالى ذكر حكم المريض والمسافر في هذه الآية ، ثم ذكر حكمهما أيضاً في الآية التي بعد هذه الآية الدالة على صوم رمضان ، فلو كان هذا الصوم هو صوم رمضان ، لكان ذلك تكريراً محضاً من غير فائدة وأنه لا يجوز الثالث : أن قوله تعالى في هذا الموضع : {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} يدل على أن الصوم واجب على التخيير ، يعني : إن شاء صام ، وإن شاء أعطى الفدية ، وأما صوم رمضان فإنه واجب على التعيين ، فوجب أن يكون صوم هذه الأيام غير صوم رمضان.
القول الثاني : وهو اختيار أكثر المحققين ، كابن عباس والحسن وأبي مسلم أن المراد بهذه الأيام المعدودات : شهر رمضان قالوا ، وتقريره أنه تعالى قال أولاً : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة : 183] وهذا محتمل ليوم ويومين وأيام ثم بينه بقوله تعالى : {أَيَّامًا معدودات} فزال بعض الإحتمال ثم بينه بقوله : {شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن} [البقرة : 185] فعلى هذا الترتيب يمكن جعل الأيام المعدودات بعينها شهر رمضان ، وإذا أمكن ذلك فلا وجه لحمله على غيره وإثبات النسخ فيه ، لأن كل ذلك زيادة لا يدل اللفظ عليها فلا يجوز القول به.
أما تمسكهم أولاً بقوله عليه السلام : " إن صوم رمضان نسخ كل صوم "
(3/389)
فالجواب : أنه ليس في الخبر أنه نسخ عنه وعن أمته كل صوم فلم لا يجوز أن يكون المراد أنه نسخ كل صوم واجب في الشرائع المتقدمة ، لأنه كما يصح أن يكون بعض شرعه ناسخاً للبعض ، فيصح أن يكون شرعه ناسخاً لشرع غيره.
سلمنا أن هذا الخبر يقتضي أن يكون صوم رمضان نسخ صوماً ثبت في شرعه ، ولكن لم لا يجوز أن يكون ناسخاً لصيام وجب بغير هذه الآية فمن أين لنا أن المراد بهذه الآية غير شهر رمضان.
وأما حجتهم الثانية : وهي أن هذه الأيام لو كانت هي شهر رمضان ، لكان حكم المريض والمسافر مكرراً.
فالجواب : أن في الابتداء كان صوم شهر رمضان ليس بواجب معين ، بل كان التخيير ثابتاً بينه وبين الفدية ، فلما كان كذلك ورخص للمسافر الفطر كان من الجائز أن يظن أن الواجب عليه الفدية دون القضاء ، ويجوز أيضاً أنه لا فدية عليه ولا قضاء لمكان المشقة التي يفارق بها المقيم ، فلما لم يكن ذلك بعيداً بين تعالى أن إفطار المسافر والمريض في الحكم خلاف التخيير في حكم المقيم ، فإنه يجب عليهما القضاء في عدة من أيام أخر ، فلما نسخ الله تعالى ذلك عن المقيم الصحيح وألزمه بالصوم حتماً ، كان من الجائز أن يظن أن حكم الصوم لما انتقل عن التخيير إلى التضييق حكم يعم الكل حتى يكون المريض والمسافر فيه بمنزلة المقيم الصحيح من حيث تغير حكم الله في الصوم ، فبين تعالى أن حال المريض والمسافر ثابت في رخصة الإفطار ووجوب القضاء كحالها أولاً ، فهذا هو الفائدة في إعادة ذكر حكم المسافر والمريض ، لا لأن الأيام المعدودات سوى شهر رمضان.
وأما حجتهم الثالثة : وهي قولهم صوم هذه الأيام واجب مخير ، وصوم شهر رمضان واجب معين.
(3/390)
فجوابه ما ذكرنا من أن صوم شهر رمضان كان واجباً مخيراً ، ثم صار معيناً ، فهذا تقرير هذا القول ، واعلم أن على كلا القولين لا بد من تطرق النسخ إلى هذه الآية ، أما على القول الأول فظاهر ، وأما على القول الثاني فلأن هذه الآية تقتضي أن يكون صوم رمضان واجباً مخيراً والآية التي بعدها تدل على التعيين ، فكانت الآية الثانية ناسخة لحكم هذه الآية ، وفيه إشكال وهو أنه كيف يصح أن يكون قوله : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة : 185] ناسخاً للتخيير مع اتصاله بالمنسوخ وذلك لا يصح.
وجوابه : أن الاتصال في التلاوة لا يوجب الاتصال في النزول وهذا كما قاله الفقهاء في عدة المتوفى عنها زوجها أن المقدم في التلاوة وهو الناسخ والمنسوخ متأخر وهذا ضد ما يجب أن يكون عليه حال الناسخ والمنسوخ فقالوا : إن ذلك في التلاوة أما في الإنزال فكان الاعتداد بالحول هو المتقدم والآية الدالة على أربعة أشهر وعشر هي المتأخرة فصح كونها ناسخة وكذلك نجد في القرآن آية مكية متأخرة في التلاوة عن الآية المدنية وذلك كثير.
المسألة الثالثة : في قوله : {معدودات} وجهان أحدهما : مقدرات بعدد معلوم وثانيهما : قلائل كقوله تعالى : {دراهم مَعْدُودَةٍ} [يوسف : 20] وأصله أن المال القليل يقدر بالعدد ويحتاط في معرفة تقديره ، وأما الكثير فإنه يصب صباً ويحثى حثياً والمقصود من هذا الكلام كأنه سبحانه يقول : إني رحمتكم وخففت عنكم حين لم أفرض عليكم صيام الدهر كله ، ولا صيام أكثره ، ولو شئت لفعلت ذلك ولكني رحمتكم وما أوجبت الصوم عليكم إلا في أيام قليلة ، وقال بعض المحققين : يجوز أن يكون قوله : {أَيَّامًا معدودات} من صلة قوله :
(3/391)
{كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة : 183] وتكون المماثلة واقعة بين الفرضين من هذا الوجه ، وهو تعليق الصوم بمدة غير متطاولة وإن اختلفت المدتان في الطول والقصر ، ويكون المراد ما ذكرناه من تعريفه سبحانه إيانا أن فرض الصوم علينا وعلى من قبلنا ما كان إلا مدة قليلة لا تشتد مشقتها ، فكان هذا بياناً لكونه تعالى رحيماً بجميع الأمم ، ومسهلاً أمر التكاليف على كل الأمم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 63}
وقال فى التحرير والتنوير :
المراد بالأيام من قوله : {أياماً معدودات} شهر رمضان عند جمهور المفسرين ، وإنما عبر عن رمضان بأيام وهي جمع قلة ووصف بمعدودات وهي جمع قلة أيضاً ؛ تهوينا لأمره على المكلفين ، والمعدودات كناية عن القلة ؛ لأن الشيء القليل يعد عدا ؛ ولذلك يقولون : الكثير لا يعد ، ولأجل هذا اختير في وصف الجمع مجيئه في التأنيث على طريقة الجمع بألف وتاء وإن كان مجيئه على طريقة الجمع المكسر الذي فيه هاء تأنيث أكثر.(3/392)
قال أبو حيان عند قوله تعالى الآتي بعده : {من أيام أخر} [البقرة : 185] صفة الجمع الذي لا يعقل تارة تعامل معاملة الواحدة المؤنثة ، نحو قوله تعالى : {إلا أياماً معدودة} [البقرة : 80] وتارة تعامل معاملة جمع المؤنث نحو : {أياماً معدودات} فمعدودات جمع لمعدودة ، وأنت لا تقول يوم معدودة وكلا الاستعمالين فصيح ، ويظهر أنه ترك فيه تحقيقاً وذلك أن الوجه في الوصف الجاري على جمع مذكر إذا أنثوه أن يكون مؤنثاً مفرداً ، لأن الجمع قد أول بالجماعة والجماعة كلمة مفردة وهذا هو الغالب ، غير أنهم إذا أرادوا التنبيه على كثرة ذلك الجمع أجروا وصفه على صيغة جمع المؤنث ليكون في معنى الجماعات وأن الجمع ينحل إلى جماعات كثيرة ، ولذلك فأنا أرى أن معدودات أكثر من معدودة ولأجل هذا قال تعالى : {وقالوا لن تمسسنا النار إلا أياماً معدودة} [البقرة : 80] لأنهم يقللونها غروراً أو تغريراً ، وقال هنا {معدودات} لأنها ثلاثون يوماً ، وقال في الآية الآتية : {الحج أشهر معلومات} [البقرة : 197] وهذا مثل قوله في جمع جمل {جمالات} [المرسلات : 33] على أحد التفسيرين وهو أكثر من جمال ، وعن المازني أن الجمع لما لا يعقل يجيء الكثير منه بصيغة الواحدة المؤنثة تقول : الجذوع انكسرت والقليل منه يجيء بصيغة الجمع تقول : الأجذاع انكسرن اه وهو غير ظاهر. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 161}
فائدة
قال مقاتل : كل شيء في القرآن معدودة أو معدودات فهو دون الأربعين ، وما زاد على ذلك لا يقال معدودة. أ هـ {بحر العلوم حـ 1 صـ 147}
فصل في أول ما نسخ بعد الهجرة(3/393)
قال ابنُ عبَّاس - رضي الله عنهما - أوَّلُ ما نُسخ بعد الهجرة أَمْرُ القِبلة والصَّوْم ، ويقالُ نزل صَوْمُ شهر رمضان قَبْل بَدرٍ بشهرٍ وأيام ، وعن عائشة - رضي الله عنها - قالت : كان يَوْمُ عاشُورَاء تصومُهُ قُرَيش في الجاهلِيَّة ، وكان رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - يَصُومُهُ في الجَاهِليَّة فلمَّا قَدِمَ رَسُولُ الله - صلى الله عليه وسلم - المدِينَةَ ، صَامَهُ ، وَأَمَرَ بِصِيامِهِ ، فَلَمَّا فُرِضَ رَمَضَانَ كَانَ هُوَ الفريضة ، وتُرِكَ يَوْمُ عاشُوراء ، فَمنْ شَاءَ صاَمَهُ ، وَمَنْ شَاءَ تَرَكَهُ. أ هـ {اللباب لابن عادل حـ 2 صـ 335}
كلام نفيس للشيخ الطاهر بن عاشور فى حكمة مشروعية الصوم
الغالبُ على أحوال الأمم في جاهليتها وبخاصة العرب هو الاستكثار من تناول اللذات من المآكل والخمور ولهو النساء والدعة ، وكل ذلك يوفر القُوى الجسمانيةَ والدموية في الأجساد ، فتقوى الطبائع الحيوانية التي في الإنسان من القوة الشهوية والقوة الغضبية. وتطغَيَان على القوة العاقلة ، فجاءت الشرائع بشرع الصيام ، لأنه يفي بتهذيب تلك القوى ، إذ هو يمسك الإنسان عن الاستكثار من مثيرات إفراطها ، فتكون نتيجتُه تعديلَها في أوقات معينة هي مظنة الاكتفاء بها إلى أوقات أخرَى.
(3/394)
والصوم بمعنى إقلال تناول الطعام عن المقدار الذي يبلغ حد الشبع أو تركِ بعض المأكل : أصل قديم من أصول التقوى لدى المليين ولدى الحكماء الإشراقيين ، والحكمة الإشراقية مبناها على تزكية النفس بإزالة كدرات البهيمية عنها بقدر الإمكان ، بناء على أن للإنسان قوتين : إحداهما رُوحانية مُنبثة في قرارتها من الحواس الباطنية ، والأخرى حيوانية منبثة في قرارتها من الأعضاء الجسمانية كلها ، وإذ كان الغذاء يخلف للجسد ما يضيعه من قوته الحيوانية إضاعةً تنشأ عن العمل الطبيعي للأعضاء الرئيسية وغيرها ، فلا جرم كانت زيادة الغذاء على القدر المُحتاج إليه توفر للجسم من القوة الحيوانية فوق ما يحتاجه وكان نقصانه يقَتِّر عليه منها إلى أن يبلغ إلى المقدار الذي لا يمكن حفظ الحياة بدونه ، وكان تغلب مظهر إحدى القوتين بمقدار تضاؤل مظهر القوة الأخرى ، فلذلك وجدوا أن ضعف القوة الحيوانية يقلل معمولَها فتتغلب القوة الروحانية على الجسد ويتدرج به الأمر حتى يصير صاحب هذه الحال أقرب إلى الأرواح والمجردات منه إلى الحيوان ، بحيث يصير لا حَظَّ له في الحيوانية إلاّ حياة الجسم الحافظة لبقاء الروح فيه ، ولذلك لزم تعديل مقدار هذا التناقص بكيفية لا تفضي إلى اضمحلال الحياة ، لأن ذلك يضيع المقصود من تزكية النفس وإعدادِها للعوالم الأخروية ، فهذا التعادل والترجيح بين القوتين هو أصل مشروعية الصيام في الملل ووضعيته في حكمة الإشراق ، وفي كيفيته تختلف الشرائع اختلافاً مناسباً للأحوال المختصة هي بها بحيث لا يفيت المقصد من الحياتين ، ولا شك أن أفضل الكيفيات لتحصيل هذا الغرض من الصيام هو الكيفيَّة التي جاء بها الإسلام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 159 ـ 160}
فائدة
قال الماوردى : (3/395)
جعل الشرع الصيام من أوكد عباداته وألزم فروضه ، حتى روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " يَقُولُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ : كُلُّ عَمَلِ ابنِ آدَمَ لَهُ إِلاَّ الصَّومَ فَإِنَّهُ لِي وَأَنَا أَجْزِي بِهِ ، وَلَخَلُوفُ فَمِ الصَّائِمِ أَطْيَبُ عِندَ اللهِ مَن رِيحِ المِسْكَ
". وإنما اختص الصوم بأنه له ، وإن كان كل العبادات له ، لأمرين بَايَنَ الصومُ بِهِمَا سائِرَ الْعِبَادَاتِ :
أحدهما : أن الصوم منع من مَلاَذِّ النفس وشهواتها ، ما لا يمنع منه سائر العبادات.
والثاني : أن الصوم سر بين العبد وربه لا يظهر إلا له ، فلذلك صار مختصاً به ، وما سواه من العبادات ظاهر ، ربما فعله تصنّعاً ورياء ، فلهذا صار أخص بالصوم من غيره. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 235}
قوله تعالى {فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان للمريض حاجة للدواء والغذاء بحسب تداعي جسمه رفع عنه الكتب فتسبب عما مضى قوله سبحانه وتعالى : {فمن كان منكم مريضاً} أي مرضاً يضره عاجلاً أو يزيد في علته آجلاً. قال الحرالي : فبقي على حكم التحمل بيقين مما يغذو المؤمن ويسقيه من غيب بركة الله سبحانه وتعالى ، كما قال عليه الصلاة والسلام : " أبيت عند ربي يطعمني ويسقيني " فللمؤمن غذاء في صومه من بركة ربه بحكم يقينه فيما لا يصل إليه من لم يصل إلى محله ، فعلى قدر ما تستمد بواطن الناس من ظواهرهم يستمد ظاهر الموقن من باطنه حتى يقوى في أعضائه بمدد نور باطنه كما ظهر ذلك في أهل الولاية والديانة ، فكان فطر المريض رخصة لموضع تداويه واغتذائه.(3/396)
ولما كان المرض وصفاً جاء بلفظ الوصف ولما كان السفر وهو إزالة الكن عن الرأس تمام دورة يوم وليلة بالمسير عنه بحيث لا يتمكن من عوده لمأواه في مدار يومه وليلته نسبة بين جسمانيين جاء بحرف الإضافة مفصولاً فقال : {أو على سفر} لما يحتاج إليه المسافر من اغتذاء لوفور نهضته في عمله في سفره وأن وقت اغتذائه بحسب البقاع لا بحسب الاختيار إذ المسافر ومتاعه على قلب إلا ما وقى الله " السفر قطعة من العذاب " وذلك لئلا يجتمع على العبد كلفتان فيتضاعف عليه المشقة ديناً ودنيا فإذا خف عنه الأمر من وجه طبيعي أخذ بالحكم من وجه آخر ديني {فعدة} نظمه يشعر أن المكتوب عدة {من أيام} أي متتابعة أو متفرقة {أخر} لانتظام مقاطع الكلام بعضها ببعض رؤوساً وأطرافاً ، ففي إفهامه أن مكتوب المريض والمسافر غير مكتوب الصحيح والمقيم ، فبذلك لا يحتاج إلى تقدير : فأفطر ، لأن المقصد معنى الكتب ويبقى ما دون الكتب على حكم تحمله ، فكأنه يقال للمريض والمسافر : مكتوبك أياماً أخر لا هذه الأيام ، فتبقى هذه الأيام خلية عن حكم الكتب لا خلية عن تشريع الصوم.
(3/397)
ولما كانوا قوماً لم يتعودوا الصوم وكانت عناية الله محيطة بهم تشريفاً لرسولهم صلى الله عليه وسلم قال مخيراً في أول الأمر : {وعلى الذين يطيقونه} أي الصوم ، من الطوق وهو ما يوضع في العنق حلية ، فيكون ما يستطيعه من الأفعال طوقاً له في المعنى {فدية طعام} بالإضافة أو الفصل {مسكين} بالإفراد إرجاعاً إلى اليوم الواحد ، وبالجمع إرجاعاً إلى مجموع الأيام لكل يوم طعام واحد ، وهو مد وحفنتان بالكفين هما قوت الحافن غداء وعشاء كفافاً لا إقتاراً ولا إسرافاً ، في جملته توسعة أمر الصوم على من لا يستطيعه ممن هو لغلبة حاجة طبعه إلى الغذاء بمنزلة المريض والمسافر فهو ممراض بالنهمة كأنها حال مرض جبل عليه الطبع ، فكان في النظر إليه توفية رحمة النظر إلى المريض والمسافر إلا ما بين رتبتي الصنفين من كون هذا مطيقاً وذينك غير مطيق أو غير متمكن ، وفي إعلامه بيان أن من لم يقدر على التماسك عن غذائه فحقه أن يغذو غيره ليقوم بذل الطعام عوضاً عن التماسك عن الطعام لمناسبة ما بين المعنيين لذلك ؛ ولم يذكر هنا مع الطعام عتق ولا صوم {فمن تطوع خيراً} أي فزاد في الفدية {فهو خير له} لأنه فعل ما يدل على حبه لربه. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 339 ـ 340}
قال الفخر :(3/398)
أما قوله تعالى : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} فالمراد منه أن فرض الصوم في الأيام المعدودات إنما يلزم الأصحاء المقيمين فأما من كان مريضاً أو مسافراً فله تأخير الصوم عن هذه الأيام إلى أيام أخر قال القفال رحمه الله : انظروا إلى عجيب ما نبه الله عليه من سعة فضله ورحمته في هذا التكليف ، وأنه تعالى بين في أول الآية أن لهذه الأمة في هذا التكليف أسوة بالأمة المتقدمة والغرض منه ما ذكرنا أن الأمور الشاقة إذا عمت خفت ، ثم ثانياً بين وجه الحكمة في إيجاب الصوم ، وهو أنه سبب لحصول التقوى ، فلو لم يفرض الصوم لفات هذا المقصود الشريف ، ثم ثالثاً : بين أنه مختص بأيام معدودة ، فإنه لو جعله أبداً أو في أكثر الأوقات لحصلت المشقة العظيمة ثم بين رابعاً : أنه خصه من الأوقات بالشهر الذي أنزل فيه القرآن لكونه أشرف الشهور بسبب هذه الفضيلة ، ثم بين خامساً : إزالة المشقة في إلزامه فأباح تأخيره لمن شق عليه من المسافرين والمرضى إلى أن يصيروا إلى الرفاهية والسكون ، فهو سبحانه راعى في إيجاب الصوم هذه الوجوه من الرحمة فله الحمد على نعمه كثيراً.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 63}
المرض المبيح للفطر
واختلفوا في المرض المبيح للفطر على ثلاثة أقوال
أحدها : أن أي مريض كان ، وأي مسافر كان ، فله أن يترخص تنزيلاً للفظه المطلق على أقل أحواله ، وهذا قول الحسن وابن سيرين ، يروى أنهم دخلوا على ابن سيرين في رمضان وهو يأكل ، فاعتل بوجع أصبعه
وثانيها : أن هذه الرخصة مختصة بالمريض الذي لو صام لوقع في مشقة وجهد ، وبالمسافر الذي يكون كذلك ، وهذا قول الأصم ، وحاصله تنزيل اللفظ المطلق على أكمل الأحوال(3/399)
وثالثها : وهو قول أكثر الفقهاء : أن المرض المبيح للفطر هو الذي يؤدي إلى ضرر النفس أو زيادة في العلة ، إذ لا فرق في الفعل بين ما يخاف منه وبين ما يؤدي إلى ما يخاف منه كالمحموم إذا خاف أنه لو صام تشتد حماه ، وصاحب وجع العين يخاف إن صام أن يشتد وجع عينه ، قالوا : وكيف يمكن أن يقال كل مرض مرخص مع علمنا أن في الأمراض ما ينقصه الصوم ، فالمراد إذن منه ما يؤثر الصوم في تقويته ، ثم تأثيره في الأمر اليسير لا عبرة به ، لأن ذل قد يحصل فيمن ليس بمريض أيضاً ، فإذن يجب في تأثيره ما ذكرناه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 64}
قوله تعالى {أو على سفر }
أصل السفر من الكشف وذلك أنه يكشف عن أحوال الرجال وأخلاقهم والمسفرة المكنسة ، لأنها تسفر التراب عن الأرض ، والسفير الداخل بين اثنين للصلح ، لأنه يكشف المكروه الذي اتصل بهما ، والمسفر المضيء ، لأنه قد انكشف وظهر ومنه أسفر الصبح والسفر الكتاب ، لأنه يكشف عن المعاني ببيانه ، وأسفرت المرأة عن وجهها إذا كشفت النقاب ، قال الأزهري : وسمي المسافر مسافراً لكشف قناع الكن عن وجهه وبروزه للأرض الفضاء ، وسمي السفر سفراً لأنه يسفر عن وجوه المسافرين وأخلاقهم ، ويظهر ما كان خافياً منهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 64}
سؤال : لقائل أن يقول : رعاية اللفظ تقتضي أن يقال فمن كان منكم مريضاً أو مسافراً ولم يقل هكذا بل قال : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ}.
وجوابه : أن الفرق هو أن المرض صفة قائمة بالذات : فإن حصلت حصلت وإلا فلا وأما السفر فليس كذلك لأن الإنسان إذا نزل في منزل فإن عدم الإقامة كان سكونه هناك إقامة لا سفراً وإن عدم السفر كان هو في ذلك الكون مسافراً فإذن كونه مسافراً أمر يتعلق بقصده واختياره ، فقوله : {على سَفَرٍ} معناه كونه على قصد السفر ، والله أعلم بمراده. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 64}
قال ابن عطية : (3/400)
وقوله تعالى {فمن كان منكم مريضاً أو على سفر} ، التقدير : فأفطر {فعدة من أيام أخر} ، وهذا يسمونه فحوى الخطاب. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 251}
قوله تعالى {فعدة}
سؤال : فإن قيل : كيف قال : {فَعِدَّةٌ} على التنكير ولم يقل فعدتها أي فعدة الأيام المعدودات.
قلنا : لأنا بينا أن العدة بمعنى المعدود فأمر بأن يصوم أياماً معدودة مكانها والظاهر أنه لا يأتي إلا بمثل ذلك العدد فأغنى ذلك عن التعريف بالإضافة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 65}
سؤال : لم قال : {فعدة من أيام أُخر} ولم يقل : فصيام أيام أخر ؟
الجواب : إنما قال تعالى : {فعدة من أيام أُخر} ولم يقل : فصيام أيام أخر ، تنصيصاً على وجوب صوم أيام بعدد أيام الفطر في المرض والسفر ؛ إذ العدد لا يكون إلاّ على مقدار مماثل. فمن للتبعيض إن اعتبر أيام أعم من أيام العدة أي من أيام الدهر أو السنة ، أو تكون من تمييز عدة أي عدة هي أيام مثل قوله : {بخمسة ألف من الملائكة} [آل عمران : 125 ]. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 164}
سؤال : لم وصف الأيام بأُخر ؟
الجواب : وصف الأيام بأُخر وهو جمع الأُخرى اعتباراً بتأنيث الجمع ؛ إذ كل جمع مؤنث ، وقد تقدم ذلك في قوله تعالى آنفاً {أياماً معدودات} قال أبو حيَّان : واختير في الوصف صيغة الجمع دون أن يقال أخرى لئلا يظن أنه وصف لعدة ، وفيه نظر ؛ لأن هذا الظن لا يوقع في لَبس ؛ لأن عدة الأيام هي أيام فلا يعتني بدفع مثل هذا الظن ، فالظاهر أن العدول عن أخرى لمراعاة صيغة الجمع في الموصوف مع طلب خفة اللفظ. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 164}
فصل(3/401)
قال القرطبيُّ : اتَّفق العلماء على أنَّ المُسَافر في رَمَضان لا يجوزُ له أنْ يُبَيِّتَ الفِطْر ؛ لأنَّ المُسَافِرَ لا يكُونُ مُسَافراً بالنِّيَةِ ؛ بخلاف المقيم ، وإِنما يكونُ مسافراً العَمَل ، والنُّهُوض ، والمقيمُ لا يفتقر إِلى عَمَل ؛ لأنه إذا نوى الإقامة ، كان مقيماً في الحين ؛ لأن الإقامة لا تفتقر إلى عَمَلٍ ، فافترقا. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 278}
فوائد جليلة ولطائف دقيقة
ذهب قوم من علماء الصحابة إلى أنه يجب على المريض والمسافر أن يفطرا ويصوما عدة من أيام أخر ، وهو قول ابن عباس وابن عمر ، ونقل الخطابي في أعلام التنزيل عن ابن عمر أنه قال لو صام في السفر قضى في الحضر ، وهذا اختيار داود بن علي الأصفاني ، وذهب أكثر الفقهاء إلى أن الإفطار رخصة فإن شاء أفطر وإن شاء صام حجة الأولين من القرآن والخبر
أما القرآن فمن وجهين
الأول : أنا إن قرأنا {عِدَّةَ} بالنصب كان التقدير : فليصم عدة من أيام أخر وهذا للإيجاب ، ولو أنا قرأنا بالرفع كان التقدير : فعليه عدة من أيام ، وكلمة {على} للوجوب فثبت أن ظاهر القرآن يقتضي إيجاب صوم أيام أخر ، فوجب أن يكون فطر هذه الأيام واجباً ضرورة أنه لا قائل بالجمع.
الحجة الثانية : أنه تعالى أعاد فيما بعد ذلك هذه الآية ، ثم قال عقيبها {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة : 185] ولا بد وأن يكون هذا اليسر والعسر شيئاً تقدم ذكرهما ، وليس هناك يسر إلا أنه أذن للمريض والمسافر في الفطر ، وليس هناك عسر إلا كونهما صائمين فكان قوله : {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} معناه يريد منكم الإفطار ولا يريد منكم الصوم فذلك تقرير قولنا ، (3/402)
وأما الخبر فاثنان الأول : قوله عليه السلام : " ليس من البر الصيام في السفر " يقال هذا الخبر وارد عن سبب خاص ، وهو ما روي أنه عليه الصلاة والسلام مر على رجل جالس تحت مظلة فسأل عنه فقيل هذا صائم أجهده العطش ، فقال : " ليس من البر الصيام في السفر " لأنا نقول العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب والثاني : قوله عليه الصلاة والسلام : " الصائم في السفر كالمفطر في الحضر "
(3/403)
أما حجة الجمهور : فهي أن في الآية إضماراً لأن التقدير : فأفطر فعدة من أيام أخر وتمام تقرير هذا الكلام أن الإضمار في كلام الله جائز في الجملة وقد دل الدليل على وقوعه ههنا أما بيان الجواز فكما في قوله تعالى : {فَقُلْنَا اضرب بّعَصَاكَ الحجر فانفجرت} [البقرة : 60] والتقدير فضرب فانفجرت وكذلك قوله تعالى : {وَلاَ تَحْلِقُواْ رؤسكم} إلى قوله : {أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ} [البقرة : 196] أي فحلق فعليه فدية فثبت أن الإضمار جائز ، أما أن الدليل دل على وقوعه ففي تقريره وجوه الأول : قال القفال : قوله تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة : 185] يدل على وجوب الصوم ولقائل أن يقول هذا ضعيف وبيانه من وجهين الأول : أنا إذا أجرينا ظاهر قوله تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} [البقرة : 185] على العموم لزمنا الإضمار في قوله تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} وقد بينا في أصول الفقه أنه متى وقع التعارض بين التخصيص وبين الإضمار كان تحمل التخصيص أولى والثاني وهو أن ظاهر قوله تعالى : {فَلْيَصُمْهُ} يقتضي الوجوب عيناً ، ثم إن هذا الوجوب منتف في حق المريض والمسافر ، فهذه الآية مخصوصة في حقهما على جميع التقديرات سواء أجرينا قوله تعالى فعليه : {عِدَّةَ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} على ظاهره أو لم نفعل ذلك وإذا كان كذلك وجب إجراء هذه الآية على ظاهرها من غير إضمار.
الوجه الثاني : ما ذكره الواحدي في كتاب البسيط ، فقال : القضاء إنما يجب بالإفطار لا بالمرض والسفر ، فلما أوجب الله القضاء والقضاء مسبوق بالفطر ، دل على أنه لا بد من إضمار الإفطار وهذا في غاية السقوط لأن الله تعالى لم يقل : فعليه قضاء ما مضى بل قال : فعليه صوم عدة في أيام أخر وإيجاب الصوم عليه في أيام أخر لا يستدعي أن يكون مسبوقاً بالإفطار.
(3/404)
الوجه الثالث : ما روى أبو داود في سننه عن هشام بن عروة عن أبيه عن عائشة أن حمزة الأسلمي سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هل أصوم على السفر ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " صم إن شئت وأفطر إن شئت " ولقائل أن يقول : هذا يقتضي نسخ القرآن بخبر الواحد لأن ظاهر القرآن يقتضي وجوب صوم سائر الأيام ، فرفع هذا الخبر غير جائز إذا ثبت ضعف هذه الوجوه ، فالاعتماد في إثبات المذهب على قوله تعالى بعد هذه الآية : {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} وسيأتي بيان وجه الاستدلال إن شاء الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 66}
قوله تعالى : {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ }
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : القراءة المشهورة المتواترة {يُطِيقُونَهُ} وقرأ عكرمة وأيوب السختياني وعطاء {يُطِوقُونَهُ} ومن الناس من قال : هذه القراءة مروية عن ابن عباس وسعيد بن جبير ومجاهد قال : ابن جني : أما عين الطاقة فواو كقولهم : لا طاقة لي به ولا طوق لي به وعليه قراءة (يطوقونه) فهو يفعلونه فهو كقولك : يجشمونه.
أي يكلفونه.
المسألة الثانية : اختلفوا في المراد بقوله : {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} على ثلاثة أقوال الأول : أن هذا راجع إلى المسافر والمريض وذلك لأن المسافر والمريض قد يكون منهما من لا يطيق الصوم ومنهما من يطيق الصوم.
وأما القسم الأول : فقد ذكر الله حكمه في قوله : {وَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ}.(3/405)
وأما القسم الثاني : وهو المسافر والمريض اللذان يطيقان الصوم ، فإليهما الإشارة بقوله : {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} فكأنه تعالى أثبت للمريض وللمسافر حالتين في إحداهما يلزمه أن يفطر وعليه القضاء وهي حال الجهد الشديد لو صام والثانية : أن يكون مطيقاً للصوم لا يثقل عليه فحينئذ يكون مخيراً بين أن يصوم وبين أن يفطر مع الفدية.
القول الثاني : وهو قول أكثر المفسرين أن المراد من قوله : {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} المقيم الصحيح فخيره الله تعالى أولاً بين هذين ، ثم نسخ ذلك وأوجب الصوم عليه مضيقاً معيناً.
القول الثالث : أنه نزلت هذه الآية في حق الشيخ الهرم قالوا : وتقريره من وجهين أحدهما : أن الوسع فوق الطاقة فالوسع اسم لمن كان قادراً على الشيء على وجه السهولة أما الطاقة فهو اسم لمن كان قادراً على الشيء مع الشدة والمشقة فقوله : {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} أي وعلى الذين يقدرون على الصوم مع الشدة والمشقة.
الوجه الثاني : في تقرير هذا القول القراءة الشاذة {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} فإن معناه وعلى الذين يجشمونه ويكلفونه ، ومعلوم أن هذا لا يصح إلا في حق من قدر على الشي مع ضرب من المشقة.
إذا عرفت هذا فنقول : القائلون بهذا القول اختلفوا على قولين أحدهما : وهو قول السدي : أنه هو الشيخ الهرم ، فعلى هذا لا تكون الآية منسوخة ، يروى أن أنساً كان قبل موته يفطر ولا يستطيع الصوم ويطعم لكل يوم مسكيناً وقال آخرون : إنها تتناول الشيخ الهرم والحامل والمرضع سئل الحسن البصري عن الحامل والمرضع إذا خافتا على نفسهما وعلى ولديهما فقال : فأي مرض أشد من الحمل تفطر وتقضي.
(3/406)
واعلم أنهم أجمعوا على أن الشيخ الهرم إذا أفطر فعليه الفدية ، أما الحامل والمرضع إذا أفطرتا فهل عليهما الفدية ؟ فقال الشافعي رضي الله عنه : عليهما الفدية ، فقال أبو حنيفة : لا تجب حجة الشافعي أن قوله : {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ} يتناول الحامل والمرض ، وأيضاً الفدية واجبة على الشيخ الهرم فتكون واجبة أيضاً عليهما ، وأبو حنيفة فرق فقال : الشيخ الهرم لا يمكن إيجاب القضاء عليه فلا جرم وجبت الفدية ، أما الحامل والمرضع فالقضاء واجب عليهما ، فلو أوجبنا الفدية عليهما أيضاً كان ذلك جمعاً بين البدلين وهو غير جائز لأن القضاء بدل والفدية بدل ، فهذا تفصيل هذه الأقوال الثلاثة في تفسير قوله تعالى : {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ}.
أما القول الأول : وهو اختيار الأصم فقد احتجوا على صحته من وجوه أحدها : أن المرض المذكور في الآية إما أن يكون هو المرض الذي يكون في الغاية ، وهو الذي لا يمكن تحمله ، أو المراد كل ما يسمى مرضاً ، أو المراد منه ما يكون متوسطاً بين هاتين الدرجتين ، والقسم الثاني باطل بالإتفاق ، والقسم الثالث أيضاً باطل ، لأن المتوسطات لها مراتب كثيرة غير مضبوطة ، وكل مرتبة منها فإنها بالنسبة إلى ما فوقها ضعيفة وبالنسبة إلى ما فوقها إلى ما تحتها قوية ، فإذا لم يكن في اللفظ دلالة على تعيين تلك المرتبة مع أن مراد الله هو تلك المرتبة صارت الآية مجملة وهو خلاف الأصل ، ولما بطل هذان القسمان تعين أن المراد هو القسم الأول ، وذلك لأنه مضبوط ، فحمل الآية عليه أولى لأنه لا يفضي إلى صيرورة الآية مجملة.
إذا ثبت هذا فنقول : أول الآية دل على إيجاب الصوم ، وهو قوله : كتب عليكم الصيام أياماً معدودات ثم بين أحوال المعذورين ، ولما كان المعذورون على قسمين : منهم من لا يطيق الصوم أصلاً ، ومنهم من يطيقه مع المشقة والشدة ، فالله تعالى ذكر حكم القسم الأول ثم أردفه بحكم القسم الثاني.
(3/407)
الحجة الثانية : في تقرير هذا القول أنه لا يقال في العرف للقادر القوي : إنه يطيق هذا الفعل لأن هذا اللفظ لا يستعمل إلا في حق من يقدر عليه مع ضرب من المشقة.
الحجة الثالثة : أن على أقوالكم لا بد من إيقاع النسخ في هذه الآية وعلى قولنا لا يجب ، ومعلوم أن النسخ كلما كان أقل كان أولى فكان المصير إلى إثبات النسخ من غير أن يكون في اللفظ ما يدل عليه غير جائز.
الحجة الرابعة : أن القائلين بأن هذه الآية منسوخة اتفقوا على أن ناسخها آية شهود الشهر ، وذلك غير جائز لأنه تعالى قال في آخر تلك الآية : {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} [البقرة : 185] ولو كانت الآية ناسخة لهذا لما كان قوله : {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} لائقاً بهذا الموضع ، لأن هذا التقدير أوجب الصوم على سبيل التضييق ، ورفع وجوبه على سبيل التخيير ، فكان ذلك رفعاً لليسر وإثباتاً للعسر فكيف يليق به أن يقول : {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر}.
واحتج القاضي رحمه الله في فساد قول الأصم فقال : إن قوله : {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} معطوف على المسافر والمريض ، ومن حق المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه فبطل قول الأصم.
(3/408)
والجواب : أنا بينا أن المراد من المسافر والمريض المذكورين في الآية هما اللذان لا يمكنهما الصوم ألبتة ، والمراد من قوله : {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} المسافر والمريض اللذان يمكنهما الصوم ، فكانت المغايرة حاصلة فثبت بما بينا أن القول الذي اختاره الأصم ليس بضعيف ، أما إذا وافقنا الجمهور وسلمنا فساده بقي القولان الآخران ، وأكثر المفسرين والفقهاء على القول الثاني ، واختاره الشافعي واحتج على فساد القول الثالث ، وهو قول من حمله على الشيخ الهرم والحامل والمرضع بأن قال : لو كان المراد هو الشيخ الهرم لما قال في آخر الآية : {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} لأنه لا يطيقه ، ولقائل أن يقول : هذا محمول على الشيخ الهرم الذي يطيق الصوم ولكنه يشق عليه ، وعلى هذا التقدير فلا يمتنع أن يقال له : لو تحملت هذه المشقة لكان ذلك خيراً لك فإن العبادة كلما كانت أشق كانت أكثر ثواباً.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 67 ـ 69}
قوله تعالى {فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ}
قرأ نافع وابن عامر {فِدْيَةٌ} بغير تنوين {طَعَامٌ} بالكسر مضافاً إليه {مساكين} جمعا ، والباقون {فِدْيَةٌ} منونة {طَعَامٌ} بالرفع {مّسْكِينٌ} مخفوض ، أما القراءة الأولى ففيها بحثان الأول : أنه ما معنى إضافة فدية إلى طعام ؟ فنقول فيه وجهان : أحدهما : أن الفدية لها ذات وصفتها أنها طعام ، فهذا من باب إضافة الموصوف إلى الصفة ، كقولهم : مسجد الجامع وبقله الحمقاء والثاني : قال الواحدي : الفدية اسم للقدر الواجب ، والطعام اسم يعم الفدية وغيرها ، فهذه الإضافة من الإضافة التي تكون بمعنى {مِنْ} كقولك : ثوب خز وخاتم حديد ، والمعنى : ثوب من خز وخاتم من حديد ، فكذا ههنا التقدير : فدية من طعام فأضيفت الفدية إلى الطعام مع أنك تطلق على الفدية اسم الطعام.(3/409)
البحث الثاني : أن في هذه القراءة جمعوا المساكين لأن الذين يطيقونه جماعة ، وكل واحد منهم يلزمه مسكين ، وأما القراءة الثانية وهي {فِدْيَةٌ} بالتنوين فجعلوا ما بعده مفسراً له ووحدوا المسكين لأن المعنى على كل واحد لكل يوم طعام مسكين. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 69}
وقال ابن عطية :
قال أبو علي : " فإن قلت كيف أفردوا المساكين والمعنى على الكثرة لأن الذين يطيقونه جمع وكل واحد منهم يلزمه مسكين فكان الوجه أن يجمعوا كما جمع المطيقون ؟ ، فالجواب أن الإفراد حسن لأنه يفهم بالمعنى أن لكل مسكيناً ، ونظير هذا قوله تعالى : {والذين يرمون المحصنات ثم لم يأتوا بأربعة شهداء فاجلدوهم ثمانين جلدة} [النور : 4] فليست الثمانون متفرقة في جميعهم بل لكل واحد ثمانون. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 252}
قوله تعالى {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ}
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {فَمَن تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ} ففيه ثلاثة أوجه أحدها : أن يطعم مسكيناً أو أكثر والثاني : أن يطعم المسكين الواحد أكثر من القدر الواجب والثالث : قال الزهري : من صام مع الفدية فهو خير له. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 70}
قوله تعالى : {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ }
قال الفخر : (3/410)
أما قوله : {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} ففيه وجوه أحدها : أن يكون هذا خطاباً مع الذين يطيقونه فقط ، فيكون التقدير : وأن تصوموا أيها المطيقون أو المطوقون وتحملتم المشقة فهو خير لكم من الفدية والثاني : أن هذا خطاب مع كل من تقدم ذكرهم ، أعني المريض والمسافر والذين يطيقونه ، وهذا أولى لأن اللفظ عام ، ولا يلزم من اتصاله بقوله : {وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ} أن يكون حكمه مختصاً بهم ، لأن اللفظ عام ولا منافاة في رجوعه إلى الكل ، فوجب الحكم بذلك وعند هذا يتبين أنه لا بد من الإضمار في قوله : {فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ} وأن التقدير : فأفطر فعدة من أيام أخر الثالث : أن يكون قوله : {وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ} عطفاً عليه على أول الآية فالتقدير : كتب عليكم الصيام وأن تصوموا خير لكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 71}
قوله تعالى : {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ }
قال الفخر :
أما قوله : {إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} أي أن الصوم عليكم فاعلموا صدق قولنا وأن تصوموا خير لكم.
الثاني : أن آخر الآية متعلق بأولها والتقدير كتب عليكم الصيام وأن تصوموا خير لكم إن كنتم تعلمون أي أنكم إذا تدبرتم علمتم ما في الصوم من المعاني المورثة للتقوى وغيرها مما ذكرناه في صدر هذه الآية.
الثالث : أن العالم بالله لا بد وأن يكون في قلبه خشية الله على ما قال : {إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء} [فاطر : 28] فذكر العلم والمراد الخشية ، وصاحب الخشية يراعي الاحتياط والاحتياط في فعل الصوم ، فكأنه قيل : إن كنتم تعلمون الله حتى تخشونه كان الصوم خيراً لكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 71}
سؤال : أين الجواب ؟
والجوابُ محذوفٌ ثقةً بظهوره أي اخترتموه أو سارعتم إليه وقيل : معناه إن كنتم من أهلِ العلمِ والتدبُّر علمتم أن الصومَ خيرٌ من ذلك.أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 199}(3/411)
فائدة
قال العلامة الآلوسى :
واستدل بالآية على جواز القضاء متتابعاً ومتفرقاً وأنه ليس على الفور خلافاً لداود ، وعلى أن من أفطر رمضان كله قضى أياماً معدودة فلو كان تاماً لم يجزه شهر ناقص أو ناقصاً لم يلزمه شهر كامل خلافاً لمن خالف في الصورتين ، واحتج بها أيضاً من قال : لا فدية مع القضاء وكذا من قال : إن المسافر إذا أقام والمريض إذا شفي أثناء النهار لم يلزمهما الإمساك بقيته لأن الله تعالى إنما أوجب عدة من أيام أخر وهما قد أفطرا فحكم الإفطار باق لهما ومن حكمه أن لا يجب أكثر من يوم ولو أمرناه بالإمساك ثم القضاء لأوجبنا بدل اليوم أكثر منه ، ولا يخفى ما فيه. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 58}
فصل فى أسرار الصوم وشروطه الباطنة
اعلم أن الصوم ثلاث
درجات صوم العموم وصوم الخصوص وصوم خصوص الخصوص
وأما صوم العموم فهو كف البطن والفرج عن قضاء الشهوة كما سبق تفصيله
وأما صوم الخصوص فهو كف السمع والبصر واللسان واليد والرجل وسائر الجوارح عن الآثام
وما صوم خصوص الخصوص فصوم القلب عن الهضم الدنية والأفكار الدنيوية وكفه عما سوى الله عز وجل بالكلية ويحصل الفطر في هذا الصوم بالفكر فيما سوى الله عز وجل واليوم الآخر وبالفكر في الدنيا إلا دنيا تراد للدين فإن ذلك من زاد الآخرة وليس من الدنيا حتى قال أرباب القلوب من تحركت همته بالتصرف في نهاره لتدبير ما يفطر عليه كتبت عليه خطيئة فإن ذلك من قلة الوثوق بفضل الله عز وجل وقلة اليقين برزقه الموعود وهذه رتبة الأنبياء والصديقين والمقربين ولا يطول النظر في تفصيلها قولا ولكن في تحقيقها عملا فإنه إقبال بكنه الهمة على الله عز وجل وانصراف عن غير الله سبحانه وتلبس بمعنى قوله عز وجل قل الله ثم ذرهم في خوضهم يلعبون
وأما صوم الخصوص وهو صوم الصالحين فهو كف الجوارح عن الآثام وتمامه بستة أمور(3/412)
الأول غض البصر وكفه عن الاتساع في النظر إلى كل ما يذم ويكره وإلى كل ما يشغل القلب ويلهي عن ذكر الله عز وجل قال صلى الله عليه وسلم النظرة سهم مسموم من سهام إبليس لعنه الله فمن تركها خوفا من الله آتاه الله عز وجل إيمانا يجد حلاوته في قلبه // حديث النظرة سهم مسموم من سهام إبليس الحديث أخرجه الحاكم وصحح إسناده من حديث حذيفة // وروى جابر عن أنس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال خمس يفطرن الصائم الكذب والغيبة والنميمة واليمين الكاذبة والنظر بشهوة // حديث جابر عن أنس خمس يفطرن الصائم الحديث أخرجه الأزدي في الضعفاء من رواية جابان عن أنس وقوله جابر تصحيف قال أبو حاتم الرازي هذا كذاب //
الثاني حفظ اللسان عن الهذبان والكذب والغيبة والنميمة والفحش والجفاء والخصومة والمراء وإلزامه السكوت وشغله بذكر الله سبحانه وتلاوة القرآن فهذا صوم اللسان
وقد قال سفيان الغيبة تفسد الصوم رواه بشر بن الحارث عنه
وروى ليث عن مجاهد خصلتان يفسدان الصيام الغيبة والكذب(3/413)
وقال صلى الله عليه وسلم إنما الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائما فلا يرفث ولا يجهل وإن امرؤ قاتله أو شاتمه فليقل إني صائم إني صائم // حديث الصوم جنة فإذا كان أحدكم صائما الحديث أخرجاه من حديث أبي هريرة // وجاء في الخبر أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فأجهدهما الجوع والعطش من آخر النهار حتى كادتا أن تتلفا فبعثتا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يستأذناه في الإفطار فأرسل إليهما قدحا وقال صلى الله عليه وسلم قل لهما قيئا فيه ما أكلتما فقاءت إحداهما نصفه دما عبيطا ولحما غريضا وقاءت الأخرى مثل ذلك حتى ملأتاه فعجب الناس من ذلك فقال صلى الله عليه وسلم هتان صامتا عما أحل الله لهما وأفطرتا على ما حرم الله تعالى عليهما قعدت إحداهما إلى الأخرى فجعلتا يغتابان الناس فهذا ما أكلتا من لحومهم // حديث إن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث في الغيبة للصائم أخرجه أحمد من حديث عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم الحديث بسند فيه مجهول //
الثالث كف السمع عن الإصغاء إلى كل مكروه لأن كل ما حرم قوله حرم الإصغاء إليه ولذلك سوى الله عز وجل بين المستمع وآكل السحت فقال تعالى سماعون للكذب أكالون للسحت وقال عز وجل لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت فالسكوت على الغيبة حرام وقال تعالى إنكم إذا مثلهم ولذلك قال صلى الله عليه وسلم المغتاب والمستمع شريكان في لإثم // حديث المغتاب والمستمع شريكان في الإثم غريب وللطبراني من حديث ابن عمر بسند ضعيف نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الغيبة وعن الاستماع إلى الغيبة //
الرابع كف بقية الجوارح عن الآثام من اليد والرجل عن المكاره وكف البطن عن الشبهات وقت الإفطار(3/414)
فلا معنى للصوم وهو الكف عن الطعام الحلال ثم الإفطار على الحرام فمثال هذا الصائم مثال من يبني قصرا ويهدم مصرا فإن الطعام الحلال إنما يضر بكثرته لا بنوعه فالصوم لتقليله
وتارك الاستكثار من الدواء خوفا من ضرره إذا عدل إلى تناول السم كان سفيها والحرام سم مهلك للدين والحلال دواء ينفع قليله ويضر كثيره وقصد الصوم تقليله وقد قال صلى الله عليه وسلم كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش // حديث كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش أخرجه النسائي وابن ماجه من حديث أبي هريرة // فقيل هو الذي يفطر على الحرام وقيل هو الذي يمسك عن الطعام الحلال ويفطر على لحوم الناس بالغيبة وهو حرام وقيل هو الذي لا يحفظ جوارحه عن الآثام
الخامس أن لا يستكثر من الطعام الحلال وقت الإفطار بحيث يمتلىء جوفه فما من وعاء أبغض إلى الله عز وجل من بطن مليء من حلال
وكيف يستفاد من الصوم قهر عدو الله وكسر الشهوة إذا تدارك الصائم عند فطره ما فاته ضحوة نهاره وربما يزيد عليه في ألوان الطعام حتى استمرت العادات بأن تدخر جميع الأطعمة لرمضان فيؤكل من الأطعمة فيه ما لا يؤكل في عدة أشهر
ومعلوم أن مقصود الصوم الخواء وكسر الهوى لتقوى النفس على التقوى وإذا دفعت المعدة من ضحوة نهار إلى العشاء حتى هاجت شهوتها وقويت رغبتها ثم أطعمت من اللذات وأشبعت زادت لذتها وتضاعفت قوتها وانبعث من الشهوات ما عساها كانت راكدة لو تركت على عادتها(3/415)
فروح الصوم وسره تضعيف القوى التي هي وسائل الشيطان في العود إلى الشرور ولن يحصل ذلك إلا بالتقليل وهو أن يأكل أكلته التي كان يأكلها كل ليلة لو لم يصم فأما إذا جمع ما كان يأكل ضحوة إلى ما كان يأكل ليلا فلم ينتفع بصومه بل من الآداب أن لا يكثر النوم بالنهار حتى يحس بالجوع والعطش ويستشعر ضعف القوى فيصفو عند ذلك قلبه ويستديم في كل ليلة قدرا من الضعف حتى يخف عليه تهجده وأوراده فعسى الشيطان أن لا يحوم على قلبه فينظر إلى ملكوت السماء
وليلة القدر عبارة عن الليلة التي ينكشف فيها شيء من الملكوت وهو المراد بقوله تعالى إنا أنزلناه في ليلة القدر ومن جعل بين قلبه وبين صدره مخلاة من الطعام فهو عنه محجوب ومن أخلى معدته فلا يكفيه ذلك لرفع الحجاب ما لم يخل همته عن غير الله عز وجل وذلك هو الأمر كله ومبدأ جميع ذلك تقليل الطعام وسيأتي له مزيد بيان في كتاب الأطعمة إن شاء الله عز وجل
السادس أن يكون قلبه بعد الإفطار معلقا مضطربا بين الخوف والرجاء إذ ليس يدرى أيقبل صومه فهو من المقربين أو يرد عليه فهو من الممقوتين وليكن كذلك في آخر كل عبادة يفرغ
منها فقد روى عن الحسن بن أبي الحسن البصري أنه مر بقوم وهم يضحكون فقال إن الله عز وجل جعل شهر رمضان مضمارا لخلقه يستبقون فيه لطاعته فسبق قوم ففازوا وتخلف أقوام فخابوا فالعجب كل العجب للضاحك اللاعب في اليوم الذي فاز فيه السابقون وخاب فيه المبطلون
أما والله لو كشف الغطاء لاشتغل المحسن بإحسانه والمسيء بإساءته أي كان سرور المقبول يشغله عن اللعب وحسرة المردود تسد عليه باب الضحك وعن الأحنف بن قيس أنه قيل له إنك شيخ كبير وإن الصيام يضعفك فقال إني أعده لسفر طويل والصبر على طاعة الله سبحانه أهون من الصبر على عذابه فهذه هي المعاني الباطنة في الصوم
فإن قلت فمن اقتصر على كف شهوة البطن والفرج وترك هذه المعاني فقد قال الفقهاء(3/416)
صومه صحيح فما معناه فاعلم أن فقهاء الظاهر يثبتون شروط الظاهر بأدلة هي أضعف من هذه الأدلة التي أوردناها في هذه الشروط الباطنة لا سيما الغيبة وأمثالها ولكن ليس إلى فقهاء الظاهر من التكليفات إلا ما يتيسر على عموم الغافلين المقبلين على الدنيا الدخول تحته
فأما علماء الآخرة فيعنون بالصحة القبول وبالقبول الوصول إلى المقصود ويفهمون أن المقصود من الصوم التخلق بخلق من أخلاق الله عز وجل وهو الصمدية والاقتداء بالملائكة في الكف عن الشهوات بحسب الإمكان فإنهم منزهون عن الشهوات
والإنسان رتبته فوق رتبة البهائم لقدرته بنور العقل على كسر شهوته ودون رتبة الملائكة لاستيلاء الشهوات عليه وكونه مبتلى بمجاهدتها فكلما انهمك في الشهوات انحط إلى أسفل السافلين والتحق بغمار البهائم وكلما قمع الشهوات ارتفع إلى أعلى عليين والتحق بأفق الملائكة
والملائكة مقربون من الله عز وجل والذي يقتدى بهم ويتشبه بأخلاقهم يقرب من الله عز وجل كقربهم فإن الشبيه من القريب قريب وليس القريب ثم بالمكان بل بالصفات
وإذا كان هذا سر الصوم عند أرباب الألباب وأصحاب القلوب فأي جدوى لتأخير أكلة وجمع أكلتين عند العشاء مع الإنهماك في الشهوات الآخر طول النهار ولو كان لمثله جدوى فأي معنى لقوله صلى الله عليه وسلم كم من صائم ليس له من صومه إلا الجوع والعطش ولهذا قال أبو الدرداء يا حبذا نوم الأكياس وفطرهم كيف لا يعيبون صوم الحمقى وسهرهم ولذرة من ذوي يقين وتقوى أفضل وأرجح من أمثال الجبال عبادة من المغتربين ولذلك قال بعض العلماء كم من صائم مفطر وكم من مفطر صائم
والمفطر الصائم هو الذي يحفظ جوارحه عن الآثام ويأكل ويشرب والصائم المفطر هو الذي يجوع ويعطش ويطلق جوارحه(3/417)
ومن فهم معنى الصوم وسره علم أن مثل من كف عن الأكل والجماع وأفطر بمخالطة الآثام كمن مسح على عضو من أعضائه في الوضوء ثلاث مرات فقد وافق في الظاهر العدد إلا أنه ترك المهم وهو الغسل فصلاته مردودة عليه بجهله ومثل من أفطر بالأكل وصام بجوارحه عن المكاره كمن غسل أعضاؤه مرة مرة فصلاته متقبلة إن شاء الله لإحكامه الأصل وإن ترك الفضل
ومثل من جمع بينهما كمن غسل كل عضو ثلاث مرات فجمع بين الأصل والفضل وهو الكمال وقد قال صلى الله عليه وسلم إن الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته // حديث إنما الصوم أمانة فليحفظ أحدكم أمانته أخرجه الخرائطي في مكارم الأخلاق من حديث ابن مسعود في حديث في الأمانة والصوم وإسناده حسن // ولما تلا قوله عز وجل {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} وضع يده على سمعه وبصره فقال السمع أمانة والبصر أمانة // حديث لما تلا قوله تعالى {إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها} وضع يده على سمعه وبصره وقال السمع أمانة والبصر أمانة أخرجه أبو داود من حديث أبي هريرة دون قوله السمع أمانة // ولولا أنه من أمانات الصوم لما قال صلى الله عليه وسلم فليقل : إني صائم أي إني أودعت لساني لأحفظه فكيف أطلقه بجوابك فإذن قد ظهر أن لكل عبادة ظاهرا وباطنا
وقشرا ولبا ولقشرها درجات ولكل درجة طبقات فإليك الخيرة الآن في أن تقنع بالقشر عن اللباب أو تتحيز إلى غمار أرباب الألباب. أ هـ {إحياء علوم الدين حـ 1 صـ 230 ـ 237 }(3/418)
الآثار الصحية للصوم
أهمية "الإِمساك" في علاج أنواع الأمراض ثابتة في الطبّ القديم والحديث. البحوث الطبّية لا تخلو عادة من الحديث عن هذه المسألة ، لأن العامل في كثير من الأمراض الإِسراف في تناول الأطعمة المختلفة. المواد الغذائية الزائدة تتراكم في الجسم على شكل مواد دهنية ، وتدخل هي والمواد السكرية في الدم ، وهذه المواد الزائدة وسط صالح لتكاثر أنواع الميكروبات والأمراض ، وفي هذه الحالة يكون الإِمساك أفضل طريق لمكافحة هذه الأمراض ، وللقضاء على هذه المزابل المتراكمة في الجسم.
الصوم يحرق الفضلات والقمامات المتراكمة في الجسم ، وهو في الواقع عملية تطهير شاملة للبدن ، إضافة إلى أنه استراحة مناسبة لجهاز الهضم وتنظيف له ، وهذه الاستراحة ضرورية لهذا الجهاز الحساس للغاية ، والمنهمك في العمل طوال أيام السنة.
بديهي أن الصائم ينبغي أن لا يكثر من الطعام عند "الإِفْطار" و"السُّحُور" حسب تعاليم الإِسلام ، كي تتحقق الآثار الصحية لهذه العبادة ، وإلاّ فقد تكون النتيجة معكوسة.
العالم الروسي "الكسي سوفورين" يقول في كتابه :
"الصوم سبيل ناجح في علاج أمراض فقر الدم ، وضعف الأمعاء ، والالتهابات البسيطة والمزمنة ، والدمامل الداخلية والخارجية ، والسل ، والاسكليروز ، والروماتيزم ، والنقرس والاستسقاء ، وعرق النساء ، والخراز (تناثر الجلد) ، وأمراض العين ، ومرض السكر ، وأمراض الكلية ، والكبد والأمراض الأخرى.
العلاج عن طريق الإِمساك لا يقتصر على الأمراض المذكورة ، بل يشمل الأمراض المرتبطة بأصول جسم الإِنسان وخلاياه مثل السرطان والسفليس ، والسل والطاعون أيضاً"أ هـ {الأمثل حـ 1 صـ 390 }.
تم الجزء الثالث من كتاب {جامع لطائف التفسير} ولله الحمد والمنة
ويليه إن شاء الله تعالى الجزء الرابع وأوله قوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}(3/419)
بسم الله الرحمن الرحيم
اسم الكتاب / جامع لطائف التفسير
العاجز الفقير
عبد الرحمن بن محمد القماش
إمام وخطيب بدولة الإمارات العربية
عفا الله عنه وغفر له
الجزء الرابع
حقوق النسخ والطبع والنشر مسموح بها لكل مسلم
{ يا قوم لا أسألكم عليه أجرا }(4/3)
الجزء الرابع
من الآية { 185 } من سورة البقرة
وحتى الآية { 199} من نفس السورة(4/4)
قوله تعالى {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآَنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما أبهم الأمر أولاً في الأيام وجعله واجباً مخيراً على المطيق عين هنا وبت الأمر فيه بقوله تعالى : {شهر رمضان} لأن ذلك أضخم وآكد من تعيينه من أول الأمر. قال الحرالي : والشهر هو الهلال الذي شأنه أن يدور دورة من حين أن يهل إلى أن يهل ثانياً سواء كانت عدة أيامه تسعاً وعشرين أو ثلاثين ، كلا العددين في صحة التسمية بالشهر واحد ، فهو شائع في فردين متزايدي العدد بكمال العدة كما يأتي أحد الفردين لمسماه رمضان ، يقال : هو اسم من أسماء الله سبحانه وتعالى ، واشتقاقه من الرمضاء وهو اشتداد حر الحجارة من الهاجرة ، كأن هذا الشهر سمي بوقوعه زمن اشتداد الحر بترتيب أن يحسب المحرم من أول فصل الشتاء أي ليكون ابتداء العام أول ابتداء خلق بإحياء الأرض بعد موتها ، قال : وبذلك يقع الربيعان في الربيع الأرضي السابق حين تنزل الشمس الحوت والسماوي اللاحق حين تنزل الشمس الحمل ، وقال : إنه لما وقع لسابقة هذه الأمة صوم كصوم أهل الكتاب كما وجهوا إلى القبلة أولاً بوجه أهل الكتاب تداركه الإرفاع إلى حكم الفرقان المختص بهم ، فجعل صومهم القار لهم بالشهر لأنهم أهل شهور ناظرون إلى الأهلة ليسوا بالمستغرقين في حساب الشمس ، فجعل صومهم لرؤية الشهر وجعل لهم الشهر يوماً واحداً فكأنهم نقلوا من صوم أيام معدودات إلى صوم يوم واحد غير معدود لوحدته ، لأنهم أمة أمية {وواعدنا موسى ثلاثين ليلة} [الأعراف : 142] هي ميقات أمة محمد صلى الله عليه وسلم {وأتممناها بعشر} [الأعراف : 142] هي ميقات موسى عليه الصلاة والسلام وأمته ومن بعده من الأمم إلى هذه الأمة - انتهى.(4/5)
ولما كان هذا خطاب إرقاء مدحه سبحانه وتعالى بإنزال الذكر فيه جملة إلى بيت العزة وابتدىء من إنزاله إلى الأرض. قال الحرالي : وأظهر فيه وجه القصد في الصوم وحكمته الغيبية التي لم تجر في الكتب الأول الكتابي فقال : {الذي أنزل فيه القرآن} فأشعر أن في الصوم حسن تلق لمعناه ويسراً لتلاوته ، ولذلك جمع فيه بين صوم النهار وتهجد الليل ، وهو صيغة مبالغة من القرء وهو ما جمع الكتب والصحف والألواح - انتهى. وفي مدحه بإنزاله فيه مدح للقرآن به من حيث أشعر أن من أعظم المقاصد بمشروعيته تصفية الفكر لأجل فهم القرآن ليوقف على حقيقة ما أتبع هذا به من أوصافه التي قررت ما افتتحت به السورة من أنه {لا ريب فيه} [البقرة : 2] وأنه {هدى} البقرة : 2] على وجه أعم من ذلك الأول فقال سبحانه وتعالى : {هدى للناس} قال الحرالي : فيه إشعار بأن طائفة الناس يعليهم الصوم أي بالتهيئة للتدبر والفهم وانكسار النفس إلى رتبة الذين آمنوا والمؤمنين ويرقيهم إلى رتبة المحسنين ، فهو هدى يغذو فيه فقد الغذاء القلب كما يغذو وجوده الجسم ولذلك أجمع مجربة أعمال الديانة من الذين يدعون ربهم بالغداة والعشي يريدون وجهه أن مفتاح الهدى إنما هو الجوع وأن المعدة والأعضاء متى أوهنت لله نور الله سبحانه وتعالى القلب وصفى النفس وقوى الجسم ليظهر من أمر الإيمان بقلب العادة جديد عادة هي لأوليائه أجل في القوة والمنة من عادته في الدنيا لعامة خلقه ؛ وفي إشارته لمح لما يعان به الصائم من سد أبواب النار وفتح أبواب الجنة وتصفيد الشياطين ، كل ذلك بما يضيق من مجاري الشيطان من الدم الذي ينقصه الصوم ، فكان فيه مفتاح الخير كله ؛ وإذا هدى الناس كان للذين آمنوا أهدى وكان نوراً لهم وللمؤمنين أنور ، كذلك إلى أعلى رتب الصائمين العاكفين الذاكرين الله كثيراً الذين تماسكوا بالصوم عن كل ما سوى مجالسة الحق بذكره.
(4/6)
وفي قوله : {وبينات} إعلان بذكر ما يجده الصائم من نور قلبه وانكسار نفسه وتهيئة فكره لفهمه ليشهد تلك البينات في نفسه وكونها {من الهدى} الأعم الأتم الأكمل الشامل لكافة الخلق {والفرقان} الأكمل ، وفي حصول الفرقان عن بركة الصوم والذي هو بيان رتب ما أظهر الحق رتبه على وجهه إشعار بما يؤتاه الصائم من الجمع الذي هو من اسمه الجامع الذي لا يحصل إلا بعد تحقق الفرقان ، فإن المبني على التقوى المنولة للصائم في قوله في الكتب الأول لعلكم تتقون} فهو صوم ينبني عليه تقوى ينبني عليها فرقان كما قال تعالى {إن تتقوا الله يجعل لكم فرقاناً} [الأنفال : 29] ينتهي إلى جمع يشعر به نقل الصوم من عدد الأيام إلى وحدة الشهر - انتهى. فعلى ما قلته المراد بالهدى الحقيقة ، وعلى ما قاله الحرالي هو مجاز علاقته السببية لأن الصوم مهيىء للفهم وموجب للنور ، {الهدى} المعرف الوحي أعم من الكتاب والسنة أو أم الكتاب أو غير ذلك ، وعلى ما قال الحرالي يصح أن يراد به القرآن الجامع للكتب كلها فيعم الكتب الأول للأيام ، والفرقان هو الخاص بالعرب الذي أعرب عن وحدة الشهر. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 342 ـ 343}
قال الفخر :
في الآية مسائل :
المسألة الأولى : الشهر مأخوذ من الشهرة يقال ، شهر الشيء يشهر شهرة وشهرا إذا ظهر ، وسمي الشهر شهراً لشهرة أمره وذلك لأن حاجات الناس ماسة إلى معرفته بسبب أوقات ديونهم ، وقضاء نسكهم في صومهم وحجهم ، والشهرة ظهور الشيء وسمي الهلال شهراً لشهرته وبيانه قال بعضهم سمي الشهر شهراً باسم الهلال.
المسألة الثانية : اختلفوا في رمضان على وجوه أحدها : قال مجاهد : إنه اسم الله تعالى ، ومعنى قول القائل : شهر رمضان أي شهر الله وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : " لا تقولوا جاء رمضان وذهب رمضان ولكن قولوا : جاء شهر رمضان وذهب شهر رمضان فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى "(4/7)
القول الثاني : أنه اسم للشهر كشهر رجب وشعبان ، ثم اختلفوا في اشتقاقه على وجوه الأول : ما نقل عن الخليل أنه من الرمضاء بسكون الميم ، وهو مطر يأتي قبل الخريف يطهر وجه الأرض عن الغبار والمعنى فيه أنه كما يغسل ذلك المطر وجه الأرض ويطهرها فكذلك شهر رمضان يغسل أبدان هذه الأمة من الذنوب ويطهر قلوبهم الثاني : أنه مأخوذ من الرمض وهو حر الحجارة من شدة حر الشمس ، والاسم الرمضاء ، فسمي هذا الشهر بهذا الاسم إما لارتماضهم في هذا الشهر من حر الجوع أو مقاساة شدته ، كما سموه تابعاً لأنه كان يتبعهم أي يزعجهم لشدته عليهم ، وقيل : لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة سموها بالأزمنة التي وقعت فيها فوافق هذا الشهر أيام رمض الحر ، وقيل : سمي بهذا الاسم لأنه يرمض الذنوب أي يحرقها ، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : " إنما سمي رمضان لأنه يرمض ذنوب عباد الله "
الثالث : أن هذا الاسم مأخوذ من قولهم : رمضت النصل أرمضه رمضاً إذا دفعته بين حجرين ليرق ، ونصل رميض ومرموض ، فسمي هذا الشهر : رمضان ، لأنهم كانوا يرمضون فيه أسلحتهم ليقضوا منها أوطارهم ، وهذا القول يحكى عن الأزهري الرابع : لو صح قولهم : إن رمضان اسم الله تعالى ، وهذا الشهر أيضاً سمي بهذا الاسم ، فالمعنى أن الذنوب تتلاشى في جنب رحمة الله حتى كأنها احترقت ، وهذا الشهر أيضاً رمضان بمعنى أن الذنوب تحترق في جنب بركته.
(4/8)
المسألة الثالثة : قرىء {شَهْرُ} بالرفع وبالنصب ، أما الرفع ففيه وجوه أحدها : وهو قول الكسائي أنه ارتفع على البدل من الصيام ، والمعنى : كتب عليكم شهر رمضان والثاني : وهو قول الفراء والأخفش أنه خبر مبتدأ محذوف بدل من قوله : {أَيَّامًا} كأنه قيل : هي شهر رمضان ، لأن قوله : {شَهْرُ رَمَضَانَ} تفسير للأيام المعدودات وتبيين لها الثالث : قال أبو علي : إن شئت جعلته مبتدأ محذوف الخبر ، كأنه لما تقدم {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام} [البقرة : 183] قيل فيما كتب عليكم من الصيام شهر رمضان أي صيامه الرابع : قال بعضهم : يجوز أن يكون بمبتدأ وخبره {الذى} مع صلته كقوله زيد الذي في الدار ، قال أبو علي : والأشبه أن يكون {الذى} وصفاً ليكون لفظ القرآن نصاً في الأمر بصوم الشهر ، لأنك إن جعلته خبراً لم يكن شهر رمضان منصوصاً على صومه بهذا اللفظ ، إنما يكون مخبراً عنه بإنزال القرآن فيه ، وأيضاً إذا جعلت {الذى} وصفاً كان حق النظم أن يكنى عن الشهر لا أن يظهر كقولك.
شهر رمضان المبارك من شهده فليصمه وأما قراءة النصب ففيها وجوه أحدها : التقدير : صوموا شهر رمضان وثانيها : على الإبدال من أيام معدودات وثالثها : أنه مفعول {وَأَن تَصُومُواْ} وهذا الوجه ذكره صاحب "الكشاف" واعترض عليه بأن قيل : فعلى هذا التقدير يصير النظم : وأن تصوموا رمضان الذي أنزل فيه القرأن خير لكم ، وهذا يقتضي وقوع الفصل بين المبتدأ والخبر بهذا الكلام الكثير وهو غير جائز لأن المبتدأ والخبر جاريان مجرى الشيء الواحد وإيقاع الفصل بين الشيء وبين نفسه غير جائز. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 71 ـ 72}
سؤال : لم أضيف لفظ الشهر إلى رمضان في هذه الآية ؟ (4/9)
وإنما أضيف لفظ الشهر إلى رمضان في هذه الآية مع أن الإيجاز المطلوب لهم يتقضي عدم ذكره إما لأنه الأشهر في فصيح كلامهم وإما للدلالة على استيعاب جميع أيامه بالصوم ؛ لأنه لو قال رمضان لكان ظاهراً لا نصاً ، لا سيما مع تقدم قوله {أياماً} [البقرة : 184] فيتوهم السامعون أنها أيام من رمضان.
فالمعنى أن الجزء المعروف بشهر رمضان من السنة العربية القمرية هو الذي جعل ظرفاً لأداء فريضة الصيام المكتوبة في الدين فكلما حل الوقت المعين من السنة المسمى بشهر رمضان فقد وجب على المسلمين أداء فريضة الصوم فيه ، ولما كان ذلك حلوله مكرراً في كل عام كان وجوب الصوم مكرراً في كل سنة إذ لم ينط الصيام بشهر واحد مخصوص ولأن ما أجري على الشهر من الصفات يحقق أن المراد منه جميعُ الأزمنة المسماةُ به طول الدهر. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 171}
فائدة
قال ابن كثير :
وقد روي عن بعض السلف أنه كَره أن يقال : إلا "شهر رمضان" ولا يقال : "رمضان" ؛ قال ابن أبي حاتم :
حدثنا أبي ، حدثنا محمد بن بكار بن الريَّان ، حدثنا أبو معشر ، عن محمد بن كعب القُرَظي ، وسعيد -هو المقْبُري-عن أبي هريرة ، قال : لا تقولوا : رمضان ، فإن رمضان اسم من أسماء الله تعالى ، ولكن قولوا : شهر رمضان.
قال ابن أبي حاتم : وقد روي عن مجاهد ، ومحمد بن كعب نحو ذلك ، ورَخَّص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت.
قلت : أبو معشر هو نَجِيح بن عبد الرحمن المدني إمام [في] المغازي ، والسير ، ولكن فيه ضعف ، وقد رواه ابنه محمد عنه فجعله مرفوعا ، عن أبي هريرة ، وقد أنكره عليه الحافظ ابن عدي -وهو جدير بالإنكار-فإنه متروك ، وقد وهم في رفع هذا الحديث ، وقد انتصر البخاري ، رحمه الله ، في كتابه لهذا فقال : "باب يقال رمضان" وساق أحاديث في ذلك منها : "من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غفر له ما تقدم من ذنبه" ونحو ذلك.
أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 502}
لطيفة لغوية
قال الآلوسى : (4/10)
قد أطبقوا على أن العلم في ثلاثة أشهر مجموع المضاف والمضاف إليه شهر رمضان ، وشهر ربيع الأول وشهر ربيع الثاني ، وفي البواقي لا يضاف شهر إليه ، وقد نظم ذلك بعضهم فقال :
ولا تضف شهراً إلى اسم شهر... إلا لما أوله الرا فادر
واستثن منها رجباً فيمتنع... لأنه فيما رووه ما سمع
أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 60}
سؤال : لم وضع المظهر موضع المضمر فلم يقل : فمن شهده ؟
الجواب : وضع المظهر موضع المضمر للتعظيم. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 60}
فائدة لغوية
قالَ المُفَضَّلُ الضَّبِّيُّ : اسْمُ شَعْبَانَ في الْجَاهِلِيَّةِ : عَاذِلٌ ورَمَضَانَ : ناتِقٌ وشَوَّالٍ : وَعْلٌ وذِي القَعْدَةِ : وَرْنَةُ وذِي الْحِجَّةِ : بُرَكُ ومُحَرَّمٍ : مُؤْتَمِرٌ وصَفَرٍ : نَاجِرٌ ورَبيعٍ الأَوَّلِ : خَوَّانٌ ورَبِيعٍ الآخِرِ : وَبْصَانُ وجُمَادَى الأُولَى : رُنَّى وجُمَادّى الآخِرَةِ : حَنِينٌ ورَجَبٍ : الأَصَمُّ أ هـ {تاج العروس حـ صـ 29 ـ 458}
وسمي المحرم لتحريم القتال فيه وصفر لخلو مكة عن أهلها إلى الحروب ، والربيعان لارتباع الناس فيهما أي : إقامتهم وجماديان لجمود الماء فيهما ورجب لترجيب العرب إياه أي : تعظيمهم له وشعبان لتشعب القبائل فيه ، ورمضان لرمض الفصال فيه ، وشوّال لشول أذناب اللواقح فيه ، وذو القعدة للقعود فيه عن الحرب ، وذو الحجة لحجهم فيه. أ هـ {السراج المنير حـ 1 صـ 189 ـ 190}
سؤال : لم قال شهر رمضان ولم يقل : رمضان الذى أنزل فيه القرآن ؟
الجواب كما ذكره العلامة ابن القيم :
قول الله سبحانه {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} فيه فائدتان أو أكثر(4/11)
إحداهما أنه لو قال رمضان الذي أنزل فيه القرآن لاقتضى اللفظ وقوع الإنزال على جميعه كما تقدم من قول سيبويه وهذا خلاف المعنى لأن الإنزال كان في ليلة واحدة منه في ساعة منها فكيف يتناول جميع الشهر وكان ذكر الشهر الذي هو غير علم موافقا للمعنى كما تقول سرت في شهر كذا فلا يكون السير متناولا لجميع الشهر الفائدة الأخرى أنه لو قال رمضان الذي أنزل فيه القرآن الكريم لكان حكم المدح والتعظيم مقصورا على شهر بعينه إذ قد تقدم أن هذا الإسم وما هو مثله إذا لم تقترن به قرينة تدل على توالي الأعوام التي هو فيها لم يكن محله إلا العام الذي أنت فيه أو العام المذكور قبله فكان ذكر الشهر الذي هو الهلال في الحقيقة كما قال الشاعر
والشهر مثل قلامة الظفر...
يريد الهلال مقتضيا لتعليق الحكم الذي هو التعظيم بالهلال والشهر المسمى بهذا الإسم متى كان في أي عام كان مع أن رمضان وما كان مثله لا يكون معرفة في مثل هذا الموطن لأنه لم يرد لعام بعينه ألا ترى أن الآية في سورة البقرة وهي من آخر ما نزل وقد كان القرآن أنزل قبل ذلك بسنين ولو قلت رمضان حج فيه زيد تريد فيما سلف لقيل لك أي رمضان كان ولزمك أن تقول حج في رمضان من الرمضانيات حتى تريد عاما بعينه كما سبق
وفائدة ثالثة في ذكر الشهر وهو التبيين في الأيام المعدودات لأن الأيام تبين بالأيام وبالشهر ونحوه ولا تبين بلفظ رمضان لأن لفظه مأخوذ من مادة أخرى وهو أيضا علم فلا ينبغي أن يبين به الأيام المعدودات حتى يذكر الشهر الذي هو في معناها ثم تضاف إليه
وأما قوله من صام رمضان ففي حذف الشهر فائدة أيضا وهي تناول الصيام لجميع الشهر فلو قال من صام أو قام شهر رمضان لصار ظرفا مقدرا بـ {في} ولم يتناول القيام والصيام جميعه فرمضان في الحديث مفعول على السعة نحو قوله {قم الليل ـ المزمل 2} لأنه لو كان ظرفا لم يحتج إلى قوله إلا قليلا.
أ هـ {بدائع الفوائد حـ 2 صـ 335}
(4/12)
قوله تعالى : {أُنْزَّلَ فِيهِ القرآن }
المناسبة
قال الفخر :
اعلم أنه تعالى لما خص هذا الشهر بهذه العبادة بين العلة لهذا التخصيص ، وذلك هو أن الله سبحانه خصه بأعظم آيات الربوبية ، وهو أنه أنزل فيه القرآن ، فلا يبعد أيضاً تخصيصه بنوع عظيم من آيات العبودية وهو الصوم ، مما يحقق ذلك أن الأنوار الصمدية متجلية أبداً يمتنع عليها الإخفاء والاحتجاب إلا أن العلائق البشرية مانعة من ظهورها في الأرواح البشرية والصوم أقوى الأسباب في إزالة العلائق البشرية ولذلك فإن أرباب المكاشفات لا سبيل لهم إلى التوصل إليها إلا بالصوم ، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام : " لولا أن الشياطين يحومون على قلوب بني آدم لنظروا إلى ملكوت السموات " فثبت أن بين الصوم وبين نزول القرآن مناسبة عظيمة فلما كان هذا الشهر مختصاً بنزول القرآن ، وجب أن يكون مختصاً بالصوم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 72}
قال العلامة ابن كثير :
يمدح تعالى شهرَ الصيام من بين سائر الشهور ، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم فيه ، وكما اختصه بذلك ، قد ورد الحديث بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء.
قال الإمام أحمد بن حنبل ، رحمه الله : حدثنا أبو سعيد مولى بني هاشم ، حدثنا عمْران أبو العوام ، عن قتادة ، عن أبي المليح ، عن واثلة - يعني ابن الأسقع - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "أنزلت صُحُف إبراهيم في أول ليلة من رمضان. وأنزلت التوراة لسِتٍّ مَضَين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عَشَرَةَ خلت من رمضان وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان".
وقد روي من حديث جابر بن عبد الله وفيه : أن الزبور أنزل لثنتَي عشرة [ليلة] خلت من رمضان ، والإنجيل لثماني عشرة ، والباقي كما تقدم. رواه ابن مَردُويه.(4/13)
أما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل -فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة ، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، وكان ذلك في شهر رمضان ، في ليلة القدر منه ، كما قال تعالى : {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} [القدر : 1]. وقال : {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} [الدخان : 3] ، ثم نزل بعدُ مفرّقًا بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم. هكذا روي من غير وجه ، عن ابن عباس ، كما قال إسرائيل ، عن السّدي ، عن محمد بن أبي المجالد عن مِقْسَم ، عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود ، فقال : وقع في قلبي الشك من قول الله تعالى : {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وقوله : {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ} وقوله : {إِنَّا أَنزلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ} وقد أنزل في شوال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم ، وصفر ، وشهر ربيع. فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان ، في ليلة القدر وفي ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلا في الشهور والأيام. رواه ابن أبي حاتم وابن مردويه ، وهذا لفظه. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 501}
قال الفخر :
قوله تعالى : {أُنْزَّلَ فِيهِ القرآن} في تفسيره قولان الأول : وهو اختيار الجمهور : أن الله تعالى أنزل القرآن في رمضان على النبي صلى الله عليه وسلم : " نزل صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان وأنزلت التوراة لست مضين والإنجيل لثلاث عشر والقرآن لأربع وعشرين " وههنا سؤلات :
السؤال الأول : أن القرآن ما نزل على محمد عليه الصلاة والسلام دفعة ، وإنما نزل عليه في مدة ثلاث وعشرين سنة منجما مبعضا ، وكما نزل بعضه في رمضان نزل بعضه في سائر الشهور ، فما معنى تخصيص إنزاله برمضان.(4/14)
والجواب عنه من وجهين الأول : أن القرآن أنزل في ليلة القدر جملة إلى سماء الدنيا ، ثم نزل إلى الأرض نجوماً ، وإنما جرت الحال على هذا الوجه لما علمه تعالى من المصلحة على هذا الوجه فإنه لا يبعد أن يكون للملائكة الذين هم سكان سماء الدنيا مصلحة في إنزال ذلك إليهم أو كان في المعلوم أن في ذلك مصلحة للرسول عليه السلام في توقع الوحي من أقرب الجهات ، أو كان فيه مصلحة لجبريل عليه السلام ، لأنه كان هو المأمور بإنزاله وتأديته ، أما الحكمة في إنزال القرآن على الرسول منجماً مفرقا فقد شرحناها في سورة الفرقان في تفسير قوله تعالى : {وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزّلَ عَلَيْهِ القرءان جُمْلَةً واحدة كَذَلِكَ لِنُثَبّتَ بِهِ فُؤَادَكَ} [الفرقان : 32].
الجواب الثاني عن هذا السؤال : أن المراد منه أنه ابتدىء إنزاله ليلة القدر من شهر رمضان وهو قول محمد بن إسحاق وذلك لأن مبادىء الملل والدول هي التي يؤرخ بها لكونها أشرف الأوقات ولأنها أيضاً أوقات مضبوطة معلومة.
واعلم أن الجواب الأول لا يحتاج فيه إلى تحمل شيء من المجاز وههنا يحتاج فإنه لا بد على هذا الجواب من حمل القرآن على بعض أجزائه وأقسامه.
السؤال الثاني : كيف الجمع بين هذه الآية على هذا القول ، وبين قوله تعالى : {إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر} [القدر : 1] وبين قوله : {إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةٍ مباركة} [الدخان : 3].
والجواب : روي أن ابن عمر استدل بهذه الآية وبقوله : {إِنَّا أنزلناه فِى لَيْلَةِ القدر} أن ليلة القدر لا بد وأن تكون في رمضان ، وذلك لأن ليلة القدر إذا كانت في رمضان كان إنزاله في ليلة القدر إنزالا له في رمضان ، وهذا كمن يقول : لقيت فلاناً في هذا الشهر فيقال له.
في أي يوم منه فيقول يوم كذا فيكون ذلك تفسيراً للكلام الأول فكذا ههنا.(4/15)
السؤال الثالث : أن القرآن على هذا القول يحتمل أن يقال : إن الله تعالى أنزل كل القرآن من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا في ليلة القدر ثم أنزله إلى محمد صلى الله عليه وسلم منجماً إلى آخر عمره ، ويحتمل أيضاً أن يقال : إنه سبحانه كان ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا من القرآن ما يعلم أن محمداً عليه السلام وأمته يحتاجون إليه في تلك السنة ثم ينزله على الرسول على قدر الحاجة ثم كذلك أبداً ما دام فأيهما أقرب إلى الصواب.
الجواب : كلاهما محتمل ، وذلك لأن قوله : {شَهْرُ رَمَضَانَ الذى أُنزِلَ فِيهِ القرآن} يحتمل أن يكون المراد منه الشخص ، وهو رمضان معين ، وأن يكون المراد منه النوع ، وإذا كان كل واحد منهما محتملاً صالحا وجب التوقف.
القول الثاني : في تفسير قوله : {أُنزِلَ فِيهِ القرآن} قال سفيان بن عيينة : أنزل فيه القرآن معناه أنزل في فضله القرآن ، وهذا اختيار الحسين بن الفضل قال : ومثله أن يقال : أنزل في الصديق كذا آية : يريدون في فضله قال ابن الأنباري : أنزل في إيجاب صومه على الخلق القرآن ، كام يقول : أنزل الله في الزكاة كذا وكذا يريد في إيجابها وأنزل في الخمر كذا يريد في تحريمها.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 72 ـ 73}
كلام نفيس للعلامة الزركشى فى هذا الموضع
واختلف فى كيفية الإنزال على ثلاثة أقوال
أحدها أنه نزل إلى سماء الدنيا ليلة القدر جملة واحدة ثم نزل بعد ذلك منجما فى عشرين سنة أو فى ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين على حسب الاختلاف فى مدة إقامته بمكة بعد النبوة
والقول الثانى أنه نزل إلى سماء الدنيا فى عشرين ليلة قدر من عشرين سنة وقيل فى ثلاث وعشرين ليلة قدر من ثلاث وعشرين سنة وقيل فى خمس وعشرين ليلة قدر من خمس وعشرين سنة فى كل ليلة ما يقدر سبحانه إنزاله فى كل السنة ثم ينزل بعد ذلك منجما فى جميع السنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم(4/16)
والقول الثالث أنه ابتدىء إنزاله فى ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك منجما فى أوقات مختلفة من سائر الأوقات
والقول الأول أشهر وأصح وإليه ذهب الأكثرون ويؤيده ما رواه الحاكم فى مستدركه عن ابن عباس قال أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا فى ليلة القدر ثم نزل بعد ذلك فى عشرين سنة قال الحاكم صحيح على شرط الشيخين وأخرج النسائى فى تفسير من جهة حسان عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال فصل القرآن من الذكر فوضع فى بيت العزة من السماء الدنياا فجعل جبريل ينزل به على النبى صلى الله عليه وسلم وإسناده صحيح وحسان هو ابن أبى الأشرس وثقة النسائى وغيره
وبالثانى قال مقاتل والإمام أبو عبد الله الحليمى فى المنهاج والماوردى فى تفسيره
وبالثالث قال الشعبى وغيره
واعلم أنه اتفق أهل السنة على أن كلام الله منزل واختلفوا فى معنى الإنزال فقيل معناه إظهار القرآن وقيل إن الله أفهم كلامه جبريل وهو فى السماء وهو عال من المكان وعلمه قراءته ثم جبريل أداه فى الأرض وهو يهبط فى المكان
والتنزيل له طريقان أحدهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انخلع من صورة البشرية إلى صورة الملائكة وأخذه من جبريل والثانى أن الملك انخلع إلى البشرية حتى يأخذ الرسول منه والأول أصعب الحالين
ونقل بعضهم عن السمرقندى حكاية ثلاثة أقوال فى المنزل على النبى صلى الله عليه وسلم ما هو
أحدها أنه اللفظ والمعنى وأن جبريل حفظ القرآن من اللوح المحفوظ ونزل به وذكر بعضهم أن أحرف القرآن فى اللوح المحفوظ كل حرف منها بقدر جبل قاف وأن تحت كل حرف معان لا يحيط بها إلا الله عز وجل وهذا معنى قول الغزالى إن هذه الأحرف سترة لمعانيه والثانى أنه إنما نزل جبريل على النبى صلى الله عليه وسلم بالمعانى خاصة وأنه صلى الله عليه وسلم علم تلك المعانى وعبر عنها بلغة العرب وإنما تمسكوا بقوله تعالى نزل به الروح الأمين على قلبك(4/17)
والثالث أن جبريل صلى الله عليه وسلم إنما ألقى عليه المعنى وأنه عبر بهذه الألفاظ بلغة العرب وأن أهل السماء يقرءونه بالعربية ثم أنه أنزل به كذلك بعد ذلك
فإن قيل ما السر فى إنزاله جملة إلى السماء قيل فيه تفخيم لأمره وأمر من نزل عليه وذلك بإعلان سكان السموات السبع أن هذا آخر الكتب المنزلة على خاتم الرسل لأشرف الأمم ولقد صرفناه إليهم لينزله عليهم ولولا أن الحكمة الإلهية اقتضت نزوله منجماا بسبب الوقائع لأهبطه إلى الأرض جملة
فإن قيل فى أى زمان نزل جملة إلى سماء الدنيا بعد ظهور نبوة محمد صلى الله عليه وسلم أم قبلها قلت قال الشيخ أبو شامة الظاهر أنه قبلها أوكلاهما محتمل فإن كان بعدها فوجه التفخيم منه ما ذكرناه وإن كان قبلها ففائدته أظهر وأكثر(4/18)
فإن قلت فقوله إنا أنزلناه فى ليلة القدر من جملة القرآن الذى نزل جملة أم لا فإن لم يكن منه فما نزل جملة وإن كان منه فما وجه صحة هذه العبارة قلت ذكر فيه وجهين أحدهما أن يكون معنى الكلام ما حكمنا بإنزاله فى القدر وقضائه وقدرناه فى الأزل ونحو ذلك والثانى أن لفظه لفظ الماضى ومعناه الاستقبال أى ينزل جملة فى ليلة مباركة هى ليلة القدر واختير لفظ الماضى إما لتحققه وكونه لا بد منه وإما لأنه حال اتصاله بالمنزل عليه يكون المضى فى معناه محققا لأن نزوله منجما كان بعد نزوله جملة فإن قلت ما السر فى نزوله إلى الأرض منجما وهلا نزل جملة كسائر الكتب قلت هذا سؤال قد تولى الله سبحانه جوابه فقال تعالى وقال الذين كفروا لولا نزل عليه القرآن جملة واحدة يعنون كما أنزل على من قبله من الرسل فأجابهم الله بقوله كذلك أى أنزلناه كذلك مفرقا لنثبت به فؤادك أى لنقوى به قلبك فإن الوحى إذا كان يتجدد فى كل حادثة كان أقوى للقلب وأشد عناية بالمرسل إليه ويستلزم ذلك كثرة نزول الملك إليه وتجديد العهد به وبما معه من الرسالة الواردة من ذلك الجانب العزيز فحدث له من السرور ما تقصر عنه العبارة ولهذا كان أجود ما يكون فى رمضان لكثرة نزول جبريل عليه السلام
وقيل معنى لنثبت به فؤادك لنحفظه فإنه عليه السلام كان اميا لا يقرأ ولا يكتب ففرق عليه لييسر عليه حفظه بخلاف غيره من الأنبياء فإنه كان كاتبا قارئا فيمكنه حفظ الجميع إذا نزل جملة
فإن قلت كان فى القدرة إذا نزل جملة أن يحفظه النبى صلى الله عليه وسلم دفعة
قلت ليس كل ممكن لازم الوقوع وأيضا فى القرآن أجوبة عن أسئلة فهو سبب من أسباب تفرق النزول ولأن بعضه منسوخ وبعضه ناسخ ولا يتأتى ذلك إلا فيما أنزل مفرقا(4/19)
وقال ابن فورك قيل أنزلت التوراة جملة لأنها نزلت على نبى يقرأ ويكتب وهو موسى وأنزل القرآن مفرقا لأنه أنزل غير مكتوب على نبى أمى وقيل مما لم ينزل لأجله جملة واحدة أن منه الناسخ والمنسوخ ومنه ما هو جواب لمن يسأل عن أمور ومنه ما هو إنكار لما كان. أ هـ {البرهان فى علوم القرآن حـ 1 صـ 228 ـ 231}
فائدة
قال ابن عادل :
يروى أن جبريل - صلوات الله وسلامه عليه - نزل على آدم - عليه الصلاة والسلام - اثنتي عشرة مرة ، وعلى إدريس أربع مراتٍ ، وعلى نوح - عليه الصلاة والسلام - خمسين مرَّة ، وعلى إبراهيم اثنتين وأربعين مرة وعلى موسى أربع مرات ، وعلى عيسى عشر مراتٍ ، وعلى محمدٍ ـ صلى الله عليه وسلم ـ أربعة وعشرين ألف مرَّةٍ.(1) أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 12 صـ 7}
____________________
(1) هذا الكلام يحتاج إلى سند صحيح لأنه إخبار بالغيب والغيب لا بد فيه من وحى الكتاب أو السنة. والله أعلم بالصواب.(4/20)
قوله تعالى : {وبينات مِّنَ الهدى والفرقان }
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وبينات مِّنَ الهدى والفرقان} ففيه إشكال وهو أن يقال : ما معنى قوله : {وبينات مِّنَ الهدى} بعد قوله : {هُدًى }.
وجوابه من وجوه الأول : أنه تعالى ذكر أولا أنه هدى ، ثم الهدى على قسمين : تارة يكون كونه هدى للناس بينا جلياً ، وتارة لا يكون كذلك ، والقسم الأول لا شك أنه أفضل فكأنه قيل : هو هدى لأنه هو البين من الهدى ، والفارق بين الحق والباطل ، فهذا من باب ما يذكر الجنس ويعطف نوعه عليه ، لكونه أشرف أنواعه ، والتقدير كأنه قيل : هذا هدى ، وهذا بين من الهدى ، وهذا بينات من الهدى ، ولا شك أن هذا غاية المبالغات الثاني : أن يقال : القرآن هدى في نفسه ، ومع كونه كذلك فهو أيضاً بينات من الهدى والفرقان ، والمراد بالهدى والفرقان : التوراة والإنجيل قال الله تعالى : {نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدّقاً لّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنزَلَ التوراة والإنجيل مِن قَبْلُ هُدًى لّلنَّاسِ وَأَنزَلَ الفرقان} [آل عمران : 3 4] وقال : {وَإِذ آتينا مُوسَى الكتاب والفرقان لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة : 53] وقال {وَلَقَدْ ءاتَيْنَا موسى وهارون الفرقان وَضِيَاء وَذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ} [الأنبياء : 48] فبين تعالى وتقدس أن القرآن مع كونه هدى في نفسه ففيه أيضاً هدى من الكتب المتقدمة التي هي هدى وفرقان الثالث : أن يحمل الأول على أصول الدين ، والهدي الثاني على فروع الدين ، فحينئذ يزول التكرار والله أعلم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 75}
وقال الشيخ ابن عاشور :
والمراد بالهدى الأول : ما في القرآن من الإرشاد إلى المصالح العامة والخاصة التي لا تنافي العامة ، وبالبينات من الهدى : ما في القرآن من الاستدلال على الهدى الخفي الذي ينكره كثير مِن الناس مثل أدلة التوحيد وصدق الرسول وغير ذلك من الحجج القرآنية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 173}
سؤال : لم عبر عن البينات بالفرقان ؟ (4/21)
الجواب : عبر عن البينات بالفرقان ، ولم يأت من الهدى والبينات فيطابق العجز الصدر لأن فيه مزيد معنى لازم للبينات ، وهو كونه يفرق به بين الحق والباطل ، فمتى كان الشيء جلياً واضحاً حصل به الفرق ، ولأن في لفظ : الفرقان ، مؤاخاة للفاصلة قبله ، وهو قوله : {شهر رمضان} ، ثم قال : {هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان} فحصل بذلك تواخي هذه الفواصل ، فصار الفرقان هنا أمكن من البينات من حيث اللفظ ومن حيث المعنى ، كما قررناه. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 47}
قوله تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }
المناسبة
ولما أتم ما في ذكر الشهر من الترغيب إثر التعيين ذكر ما فيه من عزيمة ورخصة فقال : {فمن شهد} أي حضر حضوراً تاماً برؤية بينة لوجود الصحو من غير غمام أو بإكمال عدة شعبان إن كان غيم ولم يكن مريضاً ولا مسافراً. قال الحرالي : وفي شياعه إلزام لمن رأى الهلال وحده بالصوم. وقوله : {منكم} خطاب الناس ومن فوقهم حين كان الصيام معلياً لهم {الشهر} هو المشهود على حد ما تقول النحاة مفعول على السعة ، لما فيه من حسن الإنباء وإبلاغ المعنى ، ويظهر معناه قوله تعالى : {فليصمه} فجعله واقعاً على الشهر لا واقعاً على معنى : فيه ، حيث لم يكن : فليصم فيه ؛ وفي إعلامه صحة صوم ليلة ليصير ما كان في الصوم الأول من السعة بين الصوم والفطر للمطيق واقعاً هنا بين صوم الليل وفطره لمن رزق القوة بروح من الله تعالى - انتهى.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 343 ـ 344}
قال فى التحرير والتنوير :
فى قوله تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ }(4/22)
تفريع على قوله : {شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن} الذي هو بيان لقوله {كتب عليكم الصيام} [البقرة : 183] كما تقدم فهو رجوع إلى التبيين بعد الفصل بما عقب به قوله : {كتب عليكم الصيام} من استيناسٍ وتنويهٍ بفضل الصيام وما يرجى من عوده على نفوس الصائمين بالتقوى وما حف الله به فرضه على الأمة من تيسير عند حصول مشقة من الصيام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 173}
قال الإمام الفخر :
نقل الواحدي رحمه الله في "البسيط" عن الأخفش والمازني أنهما قالا : الفاء في قوله : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} زائدة ، قالا : وذلك لأن الفاء قد تدخل للعطف أو للجزاء أو تكون زائدة ، وليس للعطف والجزاء ههنا وجه ، ومن زيادة الفاء قوله تعالى : {قُلْ إِنَّ الموت الذى تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ ملاقيكم ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب} [الجمعه : 8].
وأقول : يمكن أن يقال الفاء ههنا للجزاء فإنه تعالى لما بين كون رمضان مختصاً بالفضيلة العظيمة التي لا يشاركه سائر الشهور فيها ، فبين أن اختصاصه بتلك الفضيلة يناسب اختصاصه بهذه العبادة ، ولولا ذلك لما كان لتقديم بيان تلك الفضيلة ههنا وجه كأنه قيل : لما علم اختصاص هذا الشهر بهذه الفضيلة فأنتم أيضاً خصوه بهذه العبادة ، أما قوله تعالى : {فَإِنَّهُ ملاقيكم} الفاء فيه غير زائدة وأيضاً بل هذا من باب مقابلة الضد بالضد كأنه قيل : لما فروا من الموت فجزائهم أن يقرب الموت منهم ليعلموا أنه لا يغني الحذر عن القدر. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 75}
سؤال : ما المراد بالشهود فى قوله تعالى {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} ؟ (4/23)
الجواب : {شهد} يجوز أن يكون بمعنى حضر كما يقال : إن فلاناً شهد بَدراً وشهد أُحُداً وشهد العقبة أو شهد المشاهد كلها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أي حضرها فنصب الشهر على أنه مفعول فيه لفعل {شَهِد} أي حضر في الشهر أي لم يكن مسافراً ، وهو المناسب لقوله بعده : {ومن كان مريضاً أو على سفر}. الخ. أي فمن حضر في الشهر فليصمه كله ويُفهم أن مَن حضر بعضه يصوم أيام حضوره.
ويجوز أن يكون {شهد} بمعنى عَلِم كقوله تعالى : {شهد الله أنه لا إله إلا هو} [آل عمران : 18] فيكون انتصاب الشهر على المفعول به بتقدير مضاف أي علم بحلول الشهر ، وليس شهد بمعنى رأى ؛ لأنه لا يقال : شهد بمعنى رأى ، وإنما يقال شَاهد ، ولا الشهر هنا بمعنى هلاله بناء على أن الشهر يطلق على الهلال كما حكوه عن الزجاج وأنشد في "الأساس" قول ذي الرمة :
فأصبح أَجلَى الطَّرْفِ ما يستزيده... يَرى الشهرَ قبل الناس وهو نَحيل
أي يرى هلال الشهر ؛ لأن الهلال لا يصح أن يتعدى إليه فعل {شهد} بمعنى حضر ومَن يفهم الآية على ذلك فقد أخطأ خطأ بيناً وهو يفضي إلى أن كل فرد من الأمة معلق وجوب صومه على مشاهدته هلال رمضان فمن لم ير الهلال لا يجب عليه الصوم وهذا باطل ، ولهذا فليس في الآية تصريح على طريق ثبوت الشهر وإنما بينته السنة بحديث " لا تصوموا حتى تروا الهلال ولا تُفطروا حتى تروه فإنْ غُمَّ عليكم فاقدروا له ". أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 174}
فائدة
قال الفخر : (4/24)
اعلم أن في الآية إشكالاً وهو أن قوله تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} جملة مركبة من شرط وجزاء فالشرط هو شهود الشهر والجزاء هو الأمر بالصوم وما لم يوجد الشرط بتمامه لا يترتب عليه الجزاء والشهر اسم للزمان المخصوص من أوله إلى آخره ، فشهود الشهر إنما يحصل عند الجزاء الأخير من الشهر وظاهر هذه الآية يقتضي أن عند شهود الجزء الأخير من الشهر يجب عليه صوم كل الشهر وهذا محال ، لأنه يفضي إلى إيقاع الفعل في الزمان المنقضي وهو ممتنع فلهذا الدليل علمنا أنه لا يمكن إجراء هذه الآية على ظاهرها ، وأنه لا بد من صرفها إلى التأويل ، وطريقه أن يحمل لفظ الشهر على جزء من أجزاء الشهر في جانب الشرط فيصير تقريره : من شهد جزأ من أجزاء الشهر فليصم كل الشهر ، فعلى هذا : من شهد هلال رمضان فقد شهد جزأ من أجزاء الشهر ، وقد تحقق الشرط فيترتب عليه الجزاء ، وهو الأمر بصوم كل الشهر ، وعلى هذا التأويل يستقيم معنى الآية وليس فيه إلا حمل لفظ الكل على الجزء وهو مجاز مشهور.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 76}
قال الماوردى :
{ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} الشهر لا يغيب عن أحد ، وفي تأويله ثلاثة أقاويل :
أحدها : فمن شهد أول الشهر ، وهو مقيم فعليه صيامه إلى آخره ، وليس له أن يفطر في بقيته ، وهذا قول عليّ ، وابن عباس ، والسدي.
والثاني : فمن شهد منكم الشهر ، فليصم ما شهد منه وهو مقيم دون ما لم يشهده في السفر ، وهذا قول سعيد بن المسيب والحسن البصري.
والثالث : فمن شهد بالغاً عاقلاً مُكَلَّفاً فليصمه ، ولا يسقط صوم بقيته إذا جُن فيه ، وهذا قول أبي حنيفة ، وصاحبيه. أ هـ {النكت والعيون 1 صـ 240 ـ 241}
بحثان نفيسان للعلامة فخر الدين الرازى
قال رحمه الله :
اعلم أن قوله تعالى : {فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ} يستدعي بحثين : (4/25)
البحث الأول : أن شهود الشهر بماذا يحصل ؟ فنقول : إما بالرؤية وإما بالسماع ، أما الرؤية فنقول : إذا رأى إنسان هلال رمضان فأما أن يكون منفرداً بتلك الرؤية أو لا يكون ، فإن كان منفرداً بها فأما أن يرد الإمام شهادته أو لا يردها ، فإن تفرد بالرؤية ورد الإمام شهادته ، لزمه أن يصوم ، لأن الله تعالى جعل شهود الشهر سبباً لوجوب الصوم عليه ، وقد حصل شهود الشهر في حقه ، فوجب أن يجب عليه الصوم ، وأما إن انفرد بالرؤية وقبل الإمام شهادته أو لم ينفرد بالرؤية فلا كلام في وجوب الصوم ، وأما السماع فنقول إذا شهد عدلان على رؤية الهلال حكم به في الصوم والفطر جميعاً ، وإذا شهد عدل واحد على رؤية هلال شوال لا يحكم به وإذا شهد على هلال رمضان يحكم به احتياطاً لأمر الصوم والفرق بينه وبين هلال شوال أن هلال رمضان للدخول في العبادة وهلال شوال للخروج من العبادة ، وقول الواحد في إثبات العبادة يقبل ، أما في الخروج من العبادة لا يقبل إلا على قول الإثنين ، وعلى أنه لا فرق بينهما في الحقيقة ، لأنا إنما قبلنا قول الواحد في هلال رمضان لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطاً فكذلك لا يقبل قول الواحد في هلال شوال لكي يصوموا ولا يفطروا احتياطاً. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 77 }
البحث الثاني في الصوم : نقول : إن الصوم هو الإمساك عن المفطرات مع العلم بكونه صائماً من أول طلوع الفجر الصادق إلى حين غروب الشمس مع النية وفي الحد قيود :
القيد الأول : الإمساك وهو احتراز عن شيئين أحدهما : لو طارت ذبابة إلى حلقه ، أو وصل غبار الطريق إلى بطنه لا يبطل صومه ، لأن الاحتراز عنه شاق ، والله تعالى يقول في آية الصوم {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} والثاني : لوصب الطعام أو الشراب في حلقه كرهاً أو حال نوم لا يبطل صومه ، لأن المعتبر هو الإمساك والامتناع والإكراه لا ينافي ذلك.(4/26)
القيد الثاني : قولنا عن المفطرات وهي ثلاثة : دخول داخل ، وخروج خارج ، والجماع ، وحد الدخول كل عين وصل من الظاهر إلى الباطن من منفذ مفتوح إلى الباطن إما الدماغ أو البطن وما فيه من الأمعاء والمثانة ، أما الدماغ فيحصل الفطر بالسعوط وأما البطن فيحصل الفطر بالحقنة وأما الخروج فالقيء بالاختيار والاستمناء يبطلان الصوم ، وأما الجماع فالإيلاج يبطل الصوم.
القيد الثالث : قولنا مع العلم بكونه صائماً فلو أكل أو شرب ناسياً للصوم لا يبطل صومه عند أبي حنيفة والشافعي وعند مالك يبطل.
القيد الرابع : قولنا من أول طلوع الفجر الصادق والدليل عليه قوله تعالى : {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الاسود مِنَ الفجر} [البقرة : 187] وكلمة {حتى} لانتهاء الغاية ، وكان الأعمش يقول : أول وقته إذا طلعت الشمس ، وكان يبيح الأكل والشرب بعد طلوع الفجر وقبل طلوع الشمس ، ويحتج بأن انتهاء اليوم من وقت غروب الشمس ، فكذا ابتداؤه يجب أن يكون من عند طلوعها ، وهذا باطل بالنص الذي ذكرناه ، وحكي عن الأعمش أنه دخل عليه أبو حنيفة يعوده ، فقال له الأعمش : إنك لثقيل على قلبي وأنت في بيتك ، فكيف إذا زرتني! فسكت عنه أبو حنيفة فلما خرج من عنده قيل له : لم سكت عنه ؟ فقال : وماذا أقول في رجل ما صام وما صلى في دهره عني به أنه كان يأكل بعد الفجر الثاني قبل الشمس فلا صوم له وكان لا يغتسل من الإنزال فلا صلاة له.
القيد الخامس : قولنا إلى غروب الشمس ، ودليله قوله عليه السلام : " إذا أقبل الليل من ههنا وأدبر النهار من ههنا فقد أفطر الصائم " ومن الناس من يقول وقت الإفطار عند غروب ضوء الشمس ، قاس هذا الطرف على الطرف الأول من النهار.
(4/27)
القيد السادس : قولنا مع النية ، ومن الناس من يقول : لا حاجة لصوم رمضان إلى النية لأن الله تعالى أمر بالصوم في قوله : {فَلْيَصُمْهُ} والصوم هو الإمساك وقد وجد فيخرج عن العهدة لكنا نقول : لا بد من النية لأن الصوم عمل بدليل قوله عليه السلام : " أفضل الأعمال الصوم " والعمل لا بد فيه من النية لقوله عليه السلام : " إنما الأعمال بالنيات ". أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 78}
قوله تعالى : {فَمَن كَانَ مَّرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ }
سؤال : ما وجه إعادته مع تقدم نظيره في قوله : {فمن كان منكم مريضاً} [البقرة : 184] ؟
الجواب : قالوا في وجه إعادته مع تقدم نظيره في قوله : {فمن كان منكم مريضاً} [البقرة : 184] أنه لما كان صوم رمضان واجباً على التخيير بينه وبين الفدية بالإطعام بالآية الأولى وهي {كتب عليكم الصيام} [البقرة : 183] الخ وقد سقط الوجوب عن المريض والمسافر بنصها فلما نسخ حكم تلك الآية بقوله {شهر رمضان} الآية وصار الصوم واجباً على التعيين خيف أن يظُنّ الناس أن جميع ما كان في الآية الأولى من الرخصة قد نسخ فوجب الصوم أيضاً حتى على المريض والمسافر فأعيد ذلك في هذه الآية الناسخة تصريحاً ببقاء تلك الرخصة ، ونُسخت رخصة الإطعام مع القدرة والحضر والصحة لا غير ، وهو بناء على كون هاته الآية ناسخة للتي قبلها ، فإن درجنا على أنهما نزلتا في وقت واحد كان الوجه في إعادة هذا الحكم هو هذا الموضع الجدير بقوله : {ومن كان مريضاً} لأنه جاء بعد تعيين أيام الصوم ، وأما ما تقدم في الآية الأولى فهو تعجيل بالإعلام بالرخصة رفقاً بالسامعين ، أو أن إعادته لدفع توهم أن الأول منسوخ بقوله : {فمن شهد منكم الشهر فليصمه} إذا كان شهد بمعنى تحقق وعَلِم ، مع زيادة في تأكيد حكم الرخصة ولزيادة بيان معنى قوله : {فمن شهد منكم الشهر فليصمه }. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 174 ـ 175}(4/28)
فائدة
قال الماوردى :
اختلفوا في المرض الذي يجوز معه الفطر في شهر رمضان ، على ثلاثة مذاهب :
أحدها : أنه كل مرضٍ لم يطق الصلاة معه قائماً ، وهذا قول الحسن البصري.
والثاني : أنه المرض الذي الأغلب من أمر صاحبه بالصوم الزيادة في علته زيادة غير محتملة ، وهو قول الشافعي.
والثالث : أنه كل مرض انطلق عليه اسم المرض ، وهو قول ابن سيرين.
فأما السفر ، فقد اختلفوا فيه على ثلاثة مذاهب :
أحدها : أنه ما انطلق اسم السفر من طويل أو قصير ، وهذا قول داود.
والثاني : أنه مسيرة ثلاثة أيام ، وهو قول أبي حنيفة.
واختلفوا في وجوب الفطر فيه على قولين :
أحدهما : أنه واجب وهو قول ابن عباس.
والثاني : أنه مباح ، وهو قول الجمهور. أ هـ {النكت والعيون 1 صـ 241}
قوله تعالى : {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر}
المناسبة
ولما رخص ذلك علل بقوله : {يريد الله} أي الذي لا يستطيع أحد أن يقدره حق قدره {بكم اليسر} أي شرع السهولة بالترخيص للمريض والمسافر وبقصر الصوم على شهر {ولا يريد بكم العسر} في جعله عزيمة على الكل وزيادته على شهر. قال الحرالي : اليسر عمل لا يجهد النفس ولا يثقل الجسم ، والعسر ما يجهد النفس ويضر الجسم. وقال : فيه إعلام برفق الله بالأجسام التي يسر عليها بالفطر ، وفي باطن هذا الظاهر إشعار لأهل القوة بأن اليسر في صومهم وأن العسر في فطر المفطر ، ليجري الظاهر على حكمته في الظهور ويجري الباطن على حكمته في البطون ، إذ لكل آية منه ظهر وبطن ، فلذلك والله سبحانه وتعالى أعلم " كان النبي صلى الله عليه وسلم يصوم في رمضان في السفر ويأمر بالفطر " وكان أهل القوة من العلماء يصومون ولا ينكرون الفطر - انتهى. قال الشعبي : إذا اختلف عليك أمران فإن أيسرهما أقربهما إلى الحق لهذه الآية. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 344}
قال العلامة ابن عاشور : (4/29)
قوله تعالى : {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر}
استئناف بياني كالعلة لقوله : {ومن كان مريضاً} الخ بيَّن به حكمة الرخصة أي شرع لكم القضاءَ لأنه يريد بكم اليسر عند المشقة.
وقوله : {ولا يريد بكم العسر} نفي لضد اليسر ، وقد كان يقوم مقام هاتين الجملتين جملةُ قصر نحو أن يقول : ما يريد بكم إلاّ اليسر ، لكنه عُدل عن جملة القصر إلى جملتي إثبات ونفي لأن المقصود ابتداءً هو جملة الإثبات لتكون تعليلاً للرخصة ، وجاءت بعدها جملة النفي تأكيداً لها ، ويجوز أن يكون قوله : {يريد الله بكم اليسر ولا يريد بكم العسر} تعليلاً لجميع ما تقدم من قوله : {كتب عليكم الصيام} [البقرة : 183] إلى هنا فيكون إيماء إلى أن مشروعية الصيام وإن كانت تلوح في صورة المشقة والعسر فإن في طيها من المصالح ما يدل على أن الله أراد بها اليسر أي تيسير تحصيل رياضة النفس بطريقة سليمة من إرهاق أصحاب بعض الأديان الأخرى أنفسهم. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 175}
فائدة
قال مجاهد ، والضَّحَّاك : اليُسْر : الفِطْر في السفر ، والعسر : الصوم في السفر.
والوجْهُ عمومُ اللفظِ في جميع أمورِ الدينِ ، وقد فسر ذلك قول النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " دِينُ اللَّهِ يُسْرٌ ".
قلتُ : قال ابْنُ الفاكهانيِّ في "شرح الأربعينَ" للنَّوويِّ : فإِن قلْتَ : قوله تعالى : {إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً..} [الشرح : 6] الآيةَ ، يدلُّ على وقوع العُسْر قطعاً ، وقوله تعالى : {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} يدلُّ على نفي العسرِ قطعاً ؛ لأن ما لا يريده تعالى ، لا يكون بإجماع أهل السنة ، قلْتُ : العسرُ المنفيُّ غير المثبت ، فالمنفيُّ : إنما هو العسر في الأحكام ، لا غير ، فلا تعارض. انتهى.(4/30)
وترجم البخاريُّ في "صحيحه" قولَ النبيِّ صلى الله عليه وسلم : " يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا " ، وَكَانَ يُحِبُّ التَّخْفِيفَ وَاليُسْرَ عَلَى النَّاسِ. ثم أسند هو ومسلمٌ عن أنس ، قال : قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم : " يَسِّرُوا وَلاَ تُعَسِّرُوا ، وَسَكِّنُوا وَلاَ تْنَفِّرُوا " وأسند البخاريُّ ومسلم عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قال لأبِي موسى ، ومعاذٍ : " يَسِّرَا وَلاَ تُعَسِّرَا ، وَبَشِّرَا وَلاَ تُنَفِّرَا ".
قال البخاريُّ : حدَّثنا أبو النعمان ، قال : حدَّثنا حمَّاد بْنُ زَيْدٍ ، عن الأزرقِ بْن قَيْسٍ. قال : " كُنَّا على شَاطِىءِ نَهْرٍ بِالأَهْوَاز قَدْ نَضَبَ عَنْهُ المَاءُ ، فَجَاءَ أَبُو بَرْزَةَ الأَسْلَمِيُّ على فَرَسٍ ، فصلى وخلى فَرَسَهُ ، فانطلق الفَرَسُ فَتَرَكَ صَلاَتَهُ ، وَتَبِعَهَا ؛ حتى أَدْرَكَهَا ، فَأَخَذَهَا ، ثُمَّ جَاءَ ، فقضى صَلاَتَهُ ، وفِينَا رَجُلٌ لَهُ رَأْيٌ ، فَأَقْبَلَ يَقُولُ : انظروا إِلَى هَذَا الشَّيْخِ ، تَرَكَ صَلاَتَهُ مِنْ أَجْلِ فَرَسٍ ، فَأَقْبَلَ ، فَقَالَ : مَا عَنَّفَنِي أَحَدٌ مُنْذُ فَارَقْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، قَالَ : وَقَالَ : إِنَّ مَنْزِلِي منْزَاحٌ ، فَلَوْ صَلَّيْتُ وَتَرَكْتُهُ ، لَمْ آتِ أَهْلِي إِلَى اللَّيْلِ " ، وذكَر أَنَّهُ قَدْ صَحِبَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فرأى من تَيْسِيرِهِ. انتهى. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 141}
قال الفخر : (4/31)
أما قوله تعالى : {يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر} فاعلم أن هذا الكلام إنما يحسن ذكره ههنا بشرط دخول ما قبله فيه والأمر ههنا كذلك لأن الله تعالى أوجب الصوم على سبيل السهولة واليسر فإنه ما أوجبه إلا في مدة قليلة من السنة ثم ذلك القليل ما أوجبه على المريض ولا على المسافر وكل ذلك رعاية لمعنى اليسر والسهولة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 78}
لطيفة
قال محمد بن على الترمذى قدس سره اليسر اسم الجنة لأن جميع اليسر فيها والعسر اسم جهنم لأن جميع العسر فيها معناه يريد الله بصومكم إدخال الجنة ولا يريد بكم إدخال النار
قال شيخنا العلامة الفضلى قدس سره فى الآية : إن مراده تعالى بأن يأمركم بالصوم يسر الدارين لا عسرهما إما اليسر فى الدنيا فالترقى إلى الملكية والروحانية والوصول إلى اليقظة والمعرفة ، وأما العسر فيها فالبقاء مع البشرية والحيوانية والاتصاف بالأوصاف الطبيعية والنفسانية ، وأما اليسر فى الآخرة فهو الجنة والنعمة والقربة والوصلة والرؤية ، وأما العسر فيها فهو الجحيم وعذابها ودركاتها انتهى كلامه
وقال نجم الدين فى تأويلاته يعنى يريد الله بكم اليسر الذى هو مع العسر فلا تنظر فى امتثال الأمر إلى العسر ولكن انظر إلى اليسر الذى هو مع العسر فإن العاقل إذا سقاه الطبيب شرابا مرا أمر من بلاء المرض موجبا للصحة فلا ينظر العاقل إلى مرارة الشراب ولكن ينظر إلى حلاوة الصحة ولا يبالى بمرارة الشراب فيشربه بقوة الهمة انتهى. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 365}
قوله تعالى : {وَلِتُكْمِلُواْ العدة }
قال الفخر :
أما قوله تعالى : {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} ففيه مسائل :
المسألة الأولى : قرأ أبو بكر عن عاصم {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} بتشديد الميم والباقون بالتخفيف وهما لغتان : أكملت وكملت.
المسألة الثانية : لقائل أن يقول : {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} على ماذا علق ؟ .(4/32)
جوابنا : أجمعوا على أن الفعل المعلل محذوف ، ثم فيه وجهان أحدهما : ما قاله الفراء وهو أن التقدير : ولتكملوا العدة ولتكبروا الله على ماهداكم ولعلكم تشكرون ، فعل جملة لما ذكر وهو الأمر بصوم العدة ، وتعليم كيفية القضاء ، والرخصة في إباحة الفطر ، وذلك لأنه تعالى ما ذكر هذه الأمور الثلاثة ذكر عقيبها ألفاظاً ثلاثة ، فقوله : {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} علة للأمر بمراعاة العدة {وَلِتُكَبّرُواْ} علة ما علمتم من كيفية القضاء {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} علة الترخص والتسهيل ، ونظير ما ذكرنا من حذف الفعل المنبه ما قبله عليه قوله تعالى : {وَكَذَلِكَ نُرِى إبراهيم مَلَكُوتَ السموات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين} [الأنعام : 75] أي أريناه.
الوجه الثاني : ما قاله الزجاج ، وهو أن المراد به أن الذي تقدم من التكليف على المقيم صحيح والرخصة للمريض والمسافر إنما هو إكمال العدة لأنه مع الطاقة يسهل عليه إكمال العدة ، ومع الرخصة في المرض والسفر يسهل إكمال العدة بالقضاء ، فلا يكون عسراً ، فبين تعالى أنه كلف الكل على وجه لا يكون إكمال العدة عسيراً ، بل يكون سهلاً يسيراً ، والفرق بين الوجهين أن في الأول إضماراً وقع بعد قوله : {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} وفي الثاني قبله :
المسألة الثالثة : إنما قال : {وَلِتُكْمِلُواْ العدة} ولم يقل : ولتكملوا الشهر ، لأنه لما قال : ولتكملوا العدة دخل تحته عدة أيام الشهر وأيام القضاء لتقدم ذكرهما جميعاً ولذلك يجب أن يكون عدد القضاء مثلاً لعدد المقضي ، ولو قال تعالى : ولتكملوا الشهر لدل ذلك على حكم الأداء فقط ولم يدخل حكم القضاء. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 79}
قوله تعالى : {وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هداكم }
المناسبة(4/33)
ولما كان العظيم إذا يسر أمره كان ذلك أجدر بتعظيمه قال : {ولتكبروا} والتكبير إشراف القدر أو المقدار حساً أو معنى - قاله الحرالي. وقرن به الاسم الأكبر لاقتضاء المقام له فقال : {الله} أي الذي تقف الأفهام خاسئة دون جلاله وتخضع الأعناق لسبوغ جماله لتعتقدوا عظمته بقلوبكم وتذكروها بألسنتكم في العيد وغيره ليكون ذلك أحرى بدوام الخضوع من القلوب. قال الحرالي : وفيه إشارة إلى ما يحصل للصائم بصفاء باطنه من شهود ما يليح له أثر صومه من هلال نوره العلي ، فكما كبر في ابتداء الشهر لرؤية الهلال يكبر في انتهائه لرؤية باطنه مرأى من هلال نور ربه ، فكان عمل ذلك هو صلاة ضحوة يوم العيد ، وأعلن فيها بالتكبير وكرر لذلك ، وجعل في براح من متسع الأرض لمقصد التكبير لأن تكبير الله سبحانه وتعالى إنما هو بما جلّ من مخلوقاته ، فكان في لفظه إشعار لما أظهرته السنة من صلاة العيد على اختصاصها بتكبير الركعتين والجهر لمقصد موافقة معنى التكبير الذي إنما يكون علناً - انتهى. ومن أعظم أسراره أنه لما كان العيد محل فرح وسرور وكان من طبع النفس تجاوز الحدود لما جبلت عليه من الشره تارة غفلة وتارة بغياً أمر فيه به ليذهب من غفلتها ويكسر من سورتها ، ولما كان للوترية أثر عظيم في التذكير بالوتر الصمد الواحد الأحد وكان للسبعة منها مدخل عظيم في الشرع جعل تكبير صلاته وتراً وجعل سبعاً في الأولى لذلك وتذكيراً بأعمال الحج السبعة من الطواف والسعي والجمار تشويقاً إليها لأن النظر إلى العيد الأكبر أكثر وتذكيراً بخالق هذا الوجود بالتفكر في أفعاله المعروفة من خلق السماوات السبع والأرضين السبع وما فيهما في الأيام السبع لأنه خلقهما في ستة وخلق آدم في اليوم السابع يوم الجمعة ، ولما جرت عادة الشارع بالرفق بهذه الأمة ومنه تخفيف الثانية على الأولى وكانت الخمسة أقرب وتراً إلى السبعة من دونها جعل تكبير الثانية خمساً لذلك ، ولأنه لما(4/34)
استحضرت عظمة الخالق بإشارة الأولى للعلم بأنه المتفرد بالعظمة والقهر والملك بجميع الأمر فأقبلت القلوب إليه وقصرت الهمم عليه أشير بتكبير الثانية إلى عبادته بالإسلام المبني على الدعائم الخمس وخصوصاً بأعظم دعائمه الصلوات الخمس - والله سبحانه وتعالى الموفق. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 345 ـ 346}
قال ابن كثير :
وقوله : {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} أي : ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم ، كما قال : {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا} [البقرة : 200] وقال : [{فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ}] (5) [النساء : 103] ، {فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} [الجمعة : 10] وقال : {وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ} [ق : 39 ، 40] ؛ ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح ، والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات.
وقال ابن عباس : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير ؛ ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية : {وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} حتى ذهب داود بن علي الأصبهاني الظاهري إلى وجوبه في عيد الفطر ؛ لظاهر الأمر في قوله {وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ} وفي مقابلَته مذهبُ أبي حنيفة -رحمه الله -أنه لا يُشْرَع التكبير في عيد الفطر. والباقون على استحبابه ، على اختلاف في تفاصيل بعض الفروع بينهم. أ هـ {تفسير ابن كثير حـ 1 صـ 505}
فائدة
قال القرطبى : (4/35)
ولفظ التكبير عند مالك وجماعة من العلماء : الله أكبر الله أكبر الله أكبر ، ثلاثاً ؛ وروي عن جابر بن عبد اللَّه. ومن العلماء من يكبّر ويُهَلِّل ويُسَبّح أثناء التكبير. ومنهم من يقول : الله أكبر كبيرا ، والحمد لله كثيرا ، وسبحان الله بُكرةً وأصيلا. وكان ابن المبارك يقول إذا خرج من يوم الفطر : الله أكبر الله أكبر ، لا إله إلا الله ، والله أكبر ولله الحمد ، الله أكبر على ما هدانا. قال ابن المنذر : وكان مالك لا يَحُدّ فيه حدّا. وقال أحمد : هو واسع. قال ابن العربي : "واختار علماؤنا التكبير المطلق ، وهو ظاهر القرآن وإليه أميل".{تفسير القرطبى حـ 2 صـ 307}
لطيفة
الله أكبر
جملة تدل على أن الله أعظم من كل عظيم في الوَاقع كالحكماء والملوك والسادة والقادة ، ومن كل عظيم في الاعتقاد كالآلهة الباطلة ، وإثبات الأعظمية لله في كلمة (الله أكبر) كناية عن وحدانيته بالإلهية ، لأن التفضيل يستلزم نقصان من عداه والناقص غير مستحق للإلهية ، لأن حقيقتها لا تلاقي شيئاً من النقص ، ولذلك شُرع التكبير في الصلاة لإبطال السجود لغير الله ، وشُرع التكبير عند نحر البُدْن في الحج لإبطال ما كانوا يتقربون به إلى أصنامهم ، وكذلك شرع التكبير عند انتهاء الصيام بهذه الآية ، فمن أجل ذلك مضت السنة بأن يكبر المسلمون عند الخروج إلى صلاة العيد ويكبر الإمام في خطبة العيد.
وفي لفظ التكبير عند انتهاء الصيام خصوصية جليلة وهي أن المشركين كانوا يتزلفون إلى آلهتهم بالأَكل والتلطيخ بالدماء ، فكان لقول المسلم : الله أكبر ، إشارة إلى أن الله يعبد بالصوم وأنه متنزه عن ضراوة الأصنام. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 176}
قوله تعالى {عَلَى مَا هَدَاكُمْ}
المناسبة(4/36)
ولما كانت الهداية تطلق تارة على مجرد البيان وتارة عليه مع الحمل على لزوم المبين وكان تخفيف المأمور به وتسهيله أعون على لزومه قال : {على} أي حامدين له على {ما هداكم} أي يسر لكم من شرائع هذا الدين فهيأكم للزومها ودوام التمسك بعراها ، ولعل هذا سر الاهتمام بالصيام من الخاص والعام حتى لا يكاد أحد من المسلمين يخل به إلا نادراً - والله سبحانه وتعالى الموفق.
وقال الحرالي : إن الهداية إشارة إلى تلك الموجدة التي يجدها الصائم وما يشهده الله من بركاته من رؤية ليلة القدر بكشف خاص لأهل الخلوة أو آيات بينة لأهل التبصرة أو بآية بادية لأهل المراقبة كلاًّ على حكم وجده من استغراق تماسكه وخلوته واستغراق ذكره في صومه ، فأعظم الهدى هدى المرء لأن يذبل جسمه ونفسه وتفنى ذاته في حق ربه ، كما يقول : " يدع طعامه وشرابه من أجلي " فكل عمل فعل وثبت إلاّ الصوم فإنه محو وفقد ، فناسب تحقيق ما هو الإسلام والتقوى من إلقاء منة الظاهر وقوة الباطن - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 346}
قال ابن عطية :
{ هداكم} ، قيل المراد لما ضل فيه النصارى من تبديل صيامهم ، وتعميم الهدى جيد. أ هـ {المحرر الوجيز حـ 1 صـ 255}
سؤال : لم عدى فعل التكبير بـ {على} ؟
الجواب : وتعديةُ فعل التكبير بعلى لتضمُّنه معنى الحمد كأنه قيل : ولتكبروا الله حامدين على ما هداكم ، ويجوز أن تكون معطوفةً على علة مقدرةٍ مثلُ ليُسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون ولتكملوا الخ ويجوز عطفُها على (اليُسرَ) أي يريد بكم لتكملوا الخ كقوله تعالى : {يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ} الخ والمعنى بالتكبير تعظيمُه تعالى بالحمد والثناءِ عليه ، وقيل : تكبيرُ يومِ العيد وقيل : التكبيرُ عند الإهلال. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 200}
قوله تعالى {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.
المناسبة(4/37)
ولما كان الشكر صرف ما أنعمه المنعم في طاعته وكان العمل إذا خف أقرب إلى لزوم الطاعة بلزومه ولو ثقل لأوشك أن يعصي بتركه قال : {ولعلكم تشكرون} أي ولتكونوا في حالة يرجى معها لزوم الطاعة واجتناب المعصية. وقال الحرالي : فيه تصنيف في الشكر نهاية كما كان فيه تصنيف للتقوى بداية ، كما قال : {ولعلكم تتقون} فمن صح له التقوى ابتداء صح منه الشكر انتهاء ؛ وفي إشعاره إعلام بإظهار نعمة الله وشكر الإحسان الذي هو مضمون فرض زكاة الفطر عن كل صائم وعمن يطعمه الصائم ، فكان في الشكر إخراجه فطره بختم صومه واستقبال فطره بأمر ربه وإظهار شكره بما خوله من إطعام عيلته ، فلذلك جرت فيمن يصوم وفيمن يعوله الصائم - انتهى. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 347}
سؤال : ما الفائدة في ذكر هذا اللفظ في هذا الموضع
الجواب : ما ذكره الإمام الفخر :
إن الله تعالى لما أمر بالتكبير وهو لا يتم إلا بأن يعلم العبد جلال الله وكبريائه وعزته وعظمته ، وكونه أكبر من أن تصل إليه عقول العقلاء ، وأوصاف الواصفين ، وذكر الذاكرين ، ثم يعلم أنه سبحانه مع جلاله وعزته واستغنائه عن جميع المخلوقات ، فضلاً عن هذا المسكين خصه الله بهذه الهداية العظيمة لا بد وأن يصير ذلك داعياً للعبد إلى الاشتغال بشكره ، والمواظبة على الثناء عليه بمقدار قدرته وطاقته فلهذا قال : {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ }.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 80}
وقال الألوسى : (4/38)
وتغيير الأسلوب للإشارة إلى أن هذا المطلوب بمنزلة المرجو لقوة الأسباب المتآخذة في حصوله وهو ظهور كون الترخيص نعمة ، والمخاطب موقن بكمال رأفته وكرمه مع عدم فوات بركات الشهر ، وهذا نوع من اللف لطيف المسلك قلما يهتدى إليه لأن مقتضى الظاهر ترك الواو لكونها عللاً لما سبق ، ولذا قال من لم يبلغ درجة الكمال : إنها زائدة أو عاطفة على علة مقدرة ووجه اختياره أما على الأول : فظاهر ، وأما على الثاني : فلما فيه من مزيد الاعتناء بالأحكام السابقة مع عدم التكلف لأن الفعل المقدر لكونه مشتملاً على ما سبق إجمالاً يكون ما سبق قرينة عليه مع بقاء التعليل بحاله ولكونه مغايراً له بالإجمال ، والتفصيل يصح عطفه عليه ، وفي ذكر الأحكام تفصيلاً أولاً ، وإجمالاً ثانياً وتعليلها من غير تعيين ثقة على فهم السامع بأن يلاحظها مرة بعد أخرى ويرد كل علة إلى ما يليق به ما لا يخفى من الاعتناء ، وجوز أن تكون عللاً لأفعال مقدرة كل فعل مع علة والتقدير ولتكملوا العدة أوجب عليكم عدة أيام أخر ولتكبروا الله على ما هداكم علمكم كيفية القضاء {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} رخصكم في الإفطار وإن شئت جعلتها معطوفة على علة مقدرة أي ليسهل عليكم أو لتعلموا ما تعملون ولتكملوا الخ وجعلت المجموع علة للأحكام السابقة إما باعتبار أنفسها أو باعتبار الأعلام بها فقوله : ليسهل أو لتعلموا علة لما سبق باعتبار الأعلام وما بعده علة للأحكام المذكورة كما مر ، ولك أن لا تقدر شيئاً أصلاً وتجعل العطف على اليسر أي ويريد بكم لتكملوا الخ واللام زائدة مقدرة بعدها أن وزيدت كما قيل : بعد فعل الإرادة تأكيداً له لما فيها من معنى الإرادة في قولك جئتك لإكرامك ، وقيل : إنها بمعنى أن كما في الرضي إلا أنه يلزم على هذا الوجه أن يكون {وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} عطفاً على {يُرِيدُ} إذ لا معنى لقولنا يريد لعلكم تشكرون ، وحينئذٍ يحصل التفكيك بين المتعاطفات وهو بعيد(4/39)
، ولاستلزام هذا الوجه ذلك وكثرة الحذف في بعض الوجوه السابقة وخفاء بعضها عدل بعضهم عن الجميع ، وجعل الكلام من الميل مع المعنى لأن ما قبله علة للترخيص فكأنه قيل : رخص لكم في ذلك لإرادته بكم اليسر دون ولتكملوا الخ ، ولا يخفى عليك ما هو الأليق بشأن الكتاب العظيم. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 63}
وقال أبو حيان :
وإذا كان التكليف شاقاً ناسب أن يعقب بترجي التقوى ، وإذا كان تيسيراً ورخصة ناسب أن يعقب بترجي الشكر ، فلذلك ختمت هذه الآية بقوله : {لعلكم تشكرون} لأن قبله ترخيص للمريض والمسافر بالفطر ، وقوله : {يريد الله بكم اليسر} وجاء عقيب قوله : {كتب عليكم الصيام لعلكم تتقون} وقبله {ولكم في القصاص حياة} ثم قال : {لعلكم تتقون} لأن الصيام والقصاص من أشق التكاليف ، وكذا يجيء أسلوب القرآن فيما هو شاق وفيما فيه ترخيص أو ترقية ، فينبغي أن يلحظ ذلك حيث جاء فإنه من محاسن علم البيان. أ هـ {البحر المحيط حـ 2 صـ 52}
فصل جامع في فضل شهر رمضان وفضل صيامه
عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " إذا دخل شهر رمضان صفدت الشياطين وفتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار " الصفد الغل أي شدت بالأغلال(4/40)
عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه. ومن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه " قوله إيماناً واحتساباً أي طلباً لوجه الله تعالى وثوابه وقيل إيماناً بأنه فرض عليه ، واحتساباً ثوابه عند الله وقيل : معناه نية وعزيمة وهو أن يصوم على التصديق به والرغبة في ثوابه طيبة بها نفسه غير كارهة عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : " كل عمل ابن آدم له يضاعف الحسنة عشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، قال الله تعالى : " إلاّ الصوم فإنه لي وأنا أجزي به يدع شهوته وطعامه من أجلي ، للصائم فرحتان فرحة عند فطره وفرحة عند لقاء ربه ، ولخلوف فم الصائم عند الله أطيب من ريح المسك " زاد في رواية " والصيام جنة فإذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث يومئذٍ ولا يصخب فإن شتمه أحد أو قاتله فليقل إني صائم
" قوله : كل عمل ابن آدم له معناه أن له فيه حظاً لاطلاع الخلق عليه إلاّ الصوم فإنه لا يطلع عليه أحد وإنما خص الصوم بقوله تعالى لي وإن كانت جميع الأعمال الصالحة له وهو يجزى عليها لأن الصوم لا يظهر من ابن آدم بقول ولا فعل حتى تكتبه الحفظة وإنما هو من أعمال القلوب بالنية ولا يطلع عليه إلاّ الله تعالى لقول الله تعالى : إنما أتولى جزاءه على ما أحب لا على حساب ولا كتاب له.
(4/41)
وقوله : وللصائم فرحتان فرحة عند فطره أي بالطعام لما بلغ به من الجزع لتأخذ النفس حاجتها منه وقيل فرحة بما وفق له من إتمام الصوم الموعود عليه بالثواب وهو قوله : وفرحة عند لقاء ربه لما يرى من جزيل ثوابه. وقوله : ولخلوف بضم الخاء وفتحها لغتان وهو تغير طعم الفم وريحه لتأخير الطعام ومعنى كونه أطيب عند الله من ريح المسك هو الثناء على الصائم والرضا بفعله ، لئلا يمتنع من المواظبة على الصوم الجالب للخلوف والمعنى أن خلوف فم الصائم أبلغ عند الله في قبول من ريح المسك عند أحدكم. قوله : الصيام جنة أي حصن من المعاصي لأن الصوم يكسر الشهوة فلا يواقع المعاصي قوله فلا يرفث كلمة جامعة لكل ما يريد الإنسان من المرأة ، وقيل : هو التصريح بذكر الجماع. والصخب الضجر والجلبة والصياح
عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "إن في الجنة باباً يقال له الريان يدخل منه الصائمون يوم القيام يقال أين الصائمون فيقومون. لا يدخل منه أحد غيركم فإذا دخلوا أغلق فلا يدخل منه أحد وفي رواية إن في الجنة ثمانية أبواب منها باب يسمى الريان لا يدخله إلاّ الصائمون"
عن أبي أمامة قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت يا رسول الله مرني بأمر ينفعني الله به قال : " عليك بالصوم فإنه لا مثل له " وفي رواية : " أي العمل أفضل فقال عليك بالصوم فإنه لا عدل له " أخرجه النسائي.
أ هـ {تفسير الخازن حـ 1 صـ 113}
وقال الثعالبى :
وجاء في فضل الصومِ أحاديثُ صحيحةٌ مشهورةٌ ، وحدث أبو بكر بْنُ الخَطِيبُ بسنده عن سهل بن سعد الساعديِّ عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " مَنْ صَامَ يَوْماً تَطوُّعاً ، لَمْ يَطَّلِعْ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، لَمْ يَرْضَ اللَّهُ لَهُ بِثَوَابٍ دُونَ الجَنَّةِ " ، قال : وبهذا الإِسناد عن أبي هريرة عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم بمثله. انتهى.(4/42)
قال ابن عبد البَرِّ في كتابه المسمى بـ "بهجة المَجالِسِ" قال أبو العالية : الصائمُ في عبادةٍ ما لم يغتَبْ.
قال الشيخُ الصالحُ أبو عبد اللَّه محمَّد البلاليُّ الشافعيُّ في "اختصاره للإحياء" : وذكر السُّبْكِيُّ في شرحه ؛ أن الغِيبَةَ تمنع ثوابَ الصوْمِ إِجماعاً ، قال البلاليُّ : وفيه نظر ؛ لمشقَّة الاحتراز ، نعم ، إِن أكثر ، توجَّهت المقالة. انتهى ، وهذا الشيخ البلاليُّ لقيتُهُ ، ورويتُ عنه كتابه هَذَا.
وصحَّ عنه صلى الله عليه وسلم ؛ أنَّهُ قَالَ : " إِذَا دَخَلَ شَهْرُ رَمَضَانَ ، فُتِحَتْ أَبْوَابُ الجَنَّةِ ، وَغُلِّقَتْ أَبْوَابُ جَهَنَّمَ " قال أبو عمر في "التمهيد" : وذلك لأن الصوْمَ جُنَّةٌ يستجنُّ بها العَبْدُ من النار ، وتُفْتَحُ لهم أبوابُ الجنة ؛ لأن أعمالهم تزكُو فيه ، وتُقْبَل منهم ، ثم أسند أبو عمر عن أبي هريرة ، قال : قَالَ رَسُولُ اللَّه صلى الله عليه وسلم : " أُعْطِيَتْ أُمَّتِي خَمْسَ خِصَالٍ فِي رَمَضَانَ ، لَمْ تُعْطَهُنَّ أُمَّةٌ قَبْلَهَا : خُلُوفُ فَمِ الصَّائِم أَطْيَبُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ رِيحِ الْمِسْكِ ، وَتَسْتَغْفِرُ لَهُمُ المَلاَئِكَةُ حتى يُفْطِرُوا ، وَيُزَيِّنُ اللَّهُ لَهُمْ كُلَّ يَوْمٍ جَنَّتَهُ ، ثُمَّ يَقُولُ : يُوشِكُ عِبَادِي الصَّائِمُونَ أَنْ يُلْقُوا عَنْهُمْ المَئُونَةَ ، والأذى ، ثُمَّ يَصِيرُونَ إِلَيْكِ ، وَتُصَفَّدُ فِيهِ مَرَدَةُ الشَّيَاطِينِ ، فَلاَ يَخْلُصُونَ إلى مَا كَانُوا يَخْلُصُونَ إِلَيْهِ فِي غَيْرِهِ ، ويَغْفِرُ لَهُمْ آخِرَ لَيْلَةٍ ، قيلَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَهِيَ لَيْلَةُ القَدْرِ ؟ قَالَ : لاَ ، ولَكِنَّ العَامِلَ إِنَّمَا يوفى أَجْرَهُ إِذَا انقضى " ، قال أبو عمر : وفي سنده أبو المِقْدام ، فيه ضعف ، ولكنَّه محتملٌ فيما يرويه من الفضائل.(4/43)
وأسند أبو عمر عن الزهْريّ ، قال : " تسبيحةٌ في رمَضَان أفضلُ من ألفِ تسبيحةٍ في غيره " انتهى.
وخرَّجه الترمذيُّ عن الزهري قال : " تَسْبِيحَةٌ فِي رَمَضَانَ أَفْضَلُ مِنْ أَلْفِ تسبيحةٍ في غيره " انتهى. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 139}
وأخرج مالك وابن أبي شيبة والبخاري والنسائي والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا دخل رمضان فتحت أبواب الجنة ، وغلقت أبواب جهنم ، وسلسلت الشياطين ".
وأخرج ابن أبي شيبة وأحمد والنسائي والبيهقي عن عرفجة قال : كنا عند عتبة بن فرقد وهو يحدثنا عن رمضان ، إذ دخل رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسكت عتبة بن فرقد قال : يا أبا عبد الله حدثنا عن رمضان كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيه ؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول " رمضان شهر مبارك تفتح فيه أبواب الجنة ، وتغلق فيه أبواب السعير ، وتصفد فيه الشياطين ، وينادي مناد كل ليلة : يا باغي الخير هلم ، ويا باغي الشر أقصر ، حتى ينقضي رمضان ".
وأخرج أحمد والطبراني والبيهقي عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لله عند كل فطر عتقاء من النار ".
وأخرج مسلم والبيهقي عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : الصلوات الخمس ، والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان ، مكفرات لما بينهن إذا اجتنبت الكبائر ".
وأخرج ابن حبان والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " من صام رمضان ، وعرف حدوده ، وحفظ مما ينبغي أن يحفظ منه ، كفر ما قبله ".
وأخرج ابن ماجة عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لله عند كل فطر عتقاء ، وذلك في كل ليلة ".(4/44)
وأخرج الترمذي والنسائي وابن ماجة وابن خزيمة والحاكم وصححه والبيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان صفدت الشياطين ومردة الجن ، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب ، وفتح أبواب الجنة فلم يغلق منها باب ، وينادي مناد كل ليلة : يا باغي الخير أقبل ، ويا باغي الشر أقصر. ولله عز وجل عتقاء من النار ، وذلك عند كل ليلة ".
وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي والبيهقي عن أبي هريرة " أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه : نبشركم قد جاءكم رمضان شهر مبارك افترض الله عليكم صيامه ، تفتح فيه أبواب الجنة وتغلق فيه أبواب الجحيم وتغل فيه الشياطين ، فيه ليلة خير من ألف شهر ، من حرم خيرها فقد حرم ".
وأخرج أحمد والبزار وأبو الشيخ في الثواب والبيهقي والأصبهاني في الترغيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت أمتي في شهر رمضان خمس خصال لم تعط أمة قبلهم : خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك ، وتستغفر لهم الملائكة حتى يفطروا ، ويزين الله كل يوم جنته ، ثم قال : يوشك عبادي الصالحون أن يلقوا عنهم المؤنة والأذى ويصيروا إليك ، وتصفد فيه الشياطين ، ولا يخلصون فيه إلى ما يخلصون في غيره ، ويغفر لهم آخر ليلة. قيل : يا رسول الله أهي ليلة القدر ؟ قال : لا ، ولكن العامل إنما يوفى أجره إذا قضى عمله ".
(4/45)
وأخرج البيهقي والأصبهاني عن جابر بن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أعطيت أمتي في شهر رمضان خمساً لم يعطهن نبي قبلي : أما واحدة فإنه إذا كان أول ليلة من شهر رمضان نظر الله إليهم ، ومن نظر الله إليه لم يعذبه أبداً ، وأما الثانية فإنه خلوف أفواههم حين يمسون أطيب عند الله من ريح المسك ، وأما الثالثة فإن الملائكة تستغفر لهم في كل يوم وليلة ، وأما الرابعة فإن الله يأمر جنته فيقول لها استعدي وتزيني لعبادي أوشك أن يستريحوا من تعب الدنيا إلى داري وكرامتي ، وأما الخامسة فإذا كان آخر ليلة غفر لهم جميعاً. فقال رجل من القوم : أهي ليلة القدر ؟ فقال : لا ، ألم تر إلى العمال يعملون ، فإذا فرغوا من أعمالهم وفوا أجورهم ؟ ".
وأخرج البيهقي في الشعب والأصبهاني في الترغيب عن الحسن قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " إن لله في كل ليلة من رمضان ستمائة ألف عتيق من النار ، فإذا كان آخر ليلة أعتق بعدد من مضى ".
وأخرج البيهقي عن عبد الله بن مسعود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إذا كان أول ليلة من شهر رمضان فتحت أبواب الجنان فلم يغلق منها باب واحد الشهر كله ، وغلقت أبواب النار فلم يفتح منها باب واحد الشهر كله ، وغلت عتاة الجن ونادى مناد من كل ليلة إلى انفجار الصبح : يا باغي الخير تمم وابشر ، ويا باغي الشر أقصر وابصر السماء ، هل من مستغفر نغفر له ؟ هل من تائب نتوب عليه ؟ هل من داع نستجيب له ؟ هل من سائل نعطي سؤاله ؟ ولله عند كل فطر من شهر رمضان كل ليلة عتقاء من النار ستون ألفاً ، فإذا كان يوم الفطر أعتق مثل ما أعتق في جميع الشهر ثلاثين مرة ستين ألفاً ستين ألفاً ".
(4/46)
وأخرج ابن أبي شيبة وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي والأصبهاني في الترغيب عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " أظلكم شهركم هذا - يعني شهر رمضان - بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما مر على المسلمين شهر خير لهم منه ، ولا يأتي على المنافقين شهر شر لهم منه ، بمحلوف رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الله يكتب أجره وثوابه من قبل أن يدخل ، ويكتب وزره وشقاءه قبل أن يدخل ، وذلك أن المؤمن يعد فيه النفقة للقوّة في العبادة ، ويعد فيه المنافق اغتياب المؤمنين واتباع عوراتهم ، فهو غنم للمؤمنين وغرم على الفاجر ".
(4/47)
وأخرج العقليلي وضعفه وابن خزيمة في صحيحه والبيهقي والخطيب والأصبهاني في الترغيب عن سلمان الفارسي قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في آخر يوم من شعبان فقال " يا أيها الناس قد أظلكم شهر عظيم شهر مبارك ، شهر فيه ليلة خير من ألف شهر ، جعل الله صيامه فريضة وقيام ليله تطوّعاً ، من تقرب فيه بخصلة من الخير كان كمن أدى فريضة فيما سواه ، ومن أدى فريضة فيه كان كمن أدى سبعين فريضة فيما سواه ، وهو شهر الصبر والصبر ثوابه الجنة ، وشهر المواساة وشهر يزاد في رزق المؤمن ، من فطر فيه صائماً كان له مغفرة لذنوبه ، وعتق رقبته من النار ، وكان له مثل أجره من غير أن ينتقص من أجره شيء. قلنا : يا رسول الله كلنا نجد ما يفطر الصائم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يعطي الله هذا الثواب من فطر صائماً على مذقة لبن ، أو تمرة ، أو شربة من ماء ، ومن أشبع صائماً سقاه الله من حوضي شربة لا يظمأ حتى يدخل الجنة ، وهو شهر أوّله وأوسطه مغفرة ، وآخره عتق من النار ، من خفف عن مملوكه فيه غفر له وأعتقه من النار ، فاستكْثروا فيهِ مِنْ أَرْبعَ خِصَالٍ : خَصْلَتَان تُرْضُونَ بِهمَا رَبَّكُمْ ، وَخَصْلَتَانِ لاَ غِنَى بِكُمْ عَنْهُمَا. فَأمَّا الْخَصْلَتَانِ اللَّتَان تُرْضُونَ بِهِما رَبَّكُمْ فَشَهَادَةُ أنْ لاَ إلهَ إلا اللهُ وَتسْتَغْفِرونَهُ ، وَأمَّا اللَّتَانِ لاَ غِنَى بِكُمْ عَنْهُما فَتَسْأَلُونَ الْجنَّةَ وتَعُوذونَ بِهِ مِنَ النَّار ".
وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي وابن ماجة والبيهقي عن عبد الرحمن بن عوف قال " ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم رمضان فقال : شهر فرض الله عليكم صيامه وسننت أنا قيامه ، فمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه ".
(4/48)
وأخرج البيهقي عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " الصلاة المكتوبة إلى الصلاة التي تليها كفارة ، والجمعة إلى الجمعة التي تليها كفارة ما بينهما ، والشهر إلى الشهر يعني شهر رمضان إلى شهر رمضان كفارة ما بينهما إلا من ثلاث : الإِشراك بالله ، وترك السنة ، ونكث الصفقة. فقلت : يا رسول الله أما الاشراك بالله فقد عرفناه فما نكث الصفقة وترك السنة ؟ قال : أما نكث الصفقة فأن تبايع رجلاً بيمينك ثم تخالف إليه فتقاتله بسيفك ، وأما ترك السنة فالخروج من الجماعة ".
وأخرج ابن خزيمة والبيهقي والأصبهاني عن أنس بن مالك قال : لما أقبل شهر رمضان قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سبحان الله. ! ماذا تستقبلون وماذا يستقبلكم ؟ قال عمر بن الخطاب : بأبي أنت وأمي يا رسول الله! وحي نزل أو عدوّ حضر ؟ قال : لا ولكن شهر رمضان يغفر الله في أول ليلة لكل أهل هذه القبلة ، وفي القوم رجل يهز رأسه فيقول : بخ بخ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : كأن ضاق صدرك بما سمعت. قال : لا والله يا رسول الله ولكن ذكرت المنافق فقال النبي صلى الله عليه وسلم : المنافق كافر وليس للكافر في ذا شيء ".
(4/49)
وأخرج البيهقي عن جابر بن عبد الله قال : " لما بنى رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر جعل له ثلاث عتبات ، فلما صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم العتبة الأولى قال : آمين ، ثم صعد العتبة الثانية فقال : آمين ، حتى إذا صعد العتبة الثالثة قال : آمين. فقال المسلمون : يا رسول الله رأيناك تقول آمين آمين آمين ولا نرى أحداً ؟! فقال : إن جبريل صعد قبلي العتبة الأولى فقال : يا محمد. فقلت : لبيك وسعديك. فقال : من أدرك أبويه أو أحدهما فلم يغفر له فابعده الله. قل آمين. فقلت : آمين. فلما صعد العتبة الثانية قال : يا محمد قلت : لبيك وسعديك. قال : من أدرك شهر رمضان وصام نهاره وقام ليله ثم مات ولم يغفر له فدخل النار فابعده الله ، فقل آمين. فقلت : آمين. فلما صعد العتبة الثالثة قال : يا محمد. قلت : لبيك وسعديك. قال : من ذكرت عنده فلم يصل عليك فمات ولم يغفر له فدخل النار فابعده الله ، قل آمين. فقلت : آمين ".
وأخرج الحاكم وصححه من طريق سعد بن إساحق بن كعب بن عجرة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " احضروا المنبر فحضرنا ، فلما ارتقى درجة قال : آمين. فلما ارتقى الثانية قال : آمين. ثم لما ارتقى الثالثة قال : آمين. فلما نزل قلنا : يا رسول الله لقد سمعنا منك اليوم شيئاً ما كنا نسمعه ؟! قال : إن جبريل عرض لي فقال : بعد من أدرك رمضان فلم يغفر له. قلت : آمين. فلما رقيت الثانية قال : بعد من ذكرت عنده فلم يصل عليك. فقلت : آمين. فلما رقيت الثالثة قال : بعد من أدرك أبويه الكبر عنده أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة. فقلت : آمين ".
(4/50)
وأخرج ابن حبان عن الحسن بن مالك بن الحويرث عن أبيه عن جده " فلما صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر ، فلما رقى عتبة قال : آمين. ثم رقى أخرى قال : آمين. ثم رقى عتبة ثالثة فقال : آمين. ثم قال : أتاني جبريل فقال : يا محمد من أدرك رمضان فلم يغفر له فابعده الله. فقلت : آمين. قال : ومن أدرك والديه أو أحدهما فدخل النار فابعده الله. فقلت : آمين. قال : ومن ذكرت عنده فلم يصل عليك فأبعده الله. فقلت : آمين. ".
وأخرج ابن خزيمة وابن حبان عن أبي هريرة " أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر فقال : آمين آمين آمين. قيل : يا رسول الله إنك صعدت المنبر فقلت آمين آمين آمين ؟! فقال : إن جبريل أتاني فقال : من أدرك شهر رمضان فلم يغفر له فدخل النار فأبعده الله ، قل آمين. فقلت : آمين ".
وأخرج البيهقي عن عائشة قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان شد مئزره ، ثم لم يأت فراشه حتى ينسلخ ".
وأخرج البيهقي والأصبهاني عن عائشة قالت " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان تغير لونه ، وكثرت صلاته ، وابتهل في الدعاء وأشفق منه ".
وأخرج البزار والبيهقي عن ابن عباس قال " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل شهر رمضان أطلق كل أسير ، وأعطى كل سائل ".
وأخرج البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال " إن في رمضان ينادي مناد بعد الثلث الأوّل أو ثلث الليل الآخر ، ألا سائل يسأل فيعطى ألا مستغفر يستغفر فيغفر له ، ألا تائب يتوب فيتوب الله عليه ".
وأخرج البيهقي والأصبهاني عن أنس قال : قيل يا رسول الله أي الصدقة أفضل ؟ قال : " صدقة في رمضان ".
(4/51)
وأخرج البيهقي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال " إن الجنة لتزين من الحول إلى الحول لشهر رمضان ، وإن الحور لتزين من الحول إلى الحول لصوّام رمضان ، فإذا دخل رمضان قالت الجنة : اللهم اجعل لي في هذا الشهر من عبادك ، ويقول الحور : اللهم اجعل لنا من عبادك في هذا الشهر أزواجاً. فمن لم يقذف مسلماً فيه ببهتان ، ولم يشرب مسكراً ، كفر الله عنه ذنوبه ، ومن قذف فيه مسلماً ، أو شرب فيه مسكراً ، أحبط الله عمله لسنة ، فاتقوا شهر رمضان فإنه شهر الله ، جعل الله لكم أحد عشر شهراً تأكلون فيها وتشربون وتتلذذون وجعل لنفسه شهراً ، فاتقوا شهر رمضان فإنه شهر الله ".
وأخرج الدارقطني في الأفراد والطبراني وأبو نعيم في الحلية والبيهقي وابن عساكر عن ابن عمرو " أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : إن الجنة لتزخرف لرمضان من رأس الحول إلى حول قابل ، فإذا كان أوّل يوم من رمضان هبت ريح تحت العرش ، من ورق الجنة على الحور العين فيقلن : يا رب اجعل لنا من عبادك أزواجاً تقر بهم أعيننا وتقر أعينهم بنا ".
وأخرج البزار والبيهقي عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم " سيد الشهور شهر رمضان ، وأعظمها حرمة ذو الحجة ".
وأخرج ابن أبي شيبة والبيهقي عن ابن مسعود قال : سيد الشهور رمضان ، وسيد الأيام الجمعة.
وأخرج البيهقي عن كعب قال : إن الله اختار ساعات الليل والنهار فجعل منهن الصلوات المكتوبة ، واختار الأيام فجعل منهن الجمعة ، واختار الشهور فجعل منهن شهر رمضان ، واختار الليالي فجعل منهن ليلة القدر ، واختار البقاع فجعل منها المساجد. أ هـ {الدر المنثور حـ 1 صـ 268 ـ 274}
لطيفة
قال فى روح البيان :
لنا ثلاثة أعياد عيد الأفطار وهو عيد الطبيعة.
والثانى عيد الموت حين القبض بالإيمان الكامل وهو عيد كبير. والثالث عيد التجلى فى الآخرة وهو أكبر الأعياد. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 367}(4/52)
قوله تعالى {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)}
مناسبة الآية لما قبلها
قال الفخر :
في كيفية اتصال هذه الآية بما قبلها وجوه الأول : أنه تعالى لما قال بعض إيجاب فرض الصوم وبيان أحكامه : {وَلِتُكَبّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} [البقرة : 185] فأمر العبد بعد التكبير الذي هو الذكر وبالشكر ، بين أنه سبحانه بلطفه ورحمته قريب من العبد مطلع على ذكره وشكره فيسمع نداءه ، ويجيب دعاءه ، ولا يخيب رجاءه والثاني : أنه أمر بالتكبير أولاً ثم رغبه في الدعاء ثانياً ، تنبيهاً على أن الدعاء لا بد وأن يكون مسبوقاً بالثناء الجميل ، ألا ترى أن الخليل عليه السلام لما أراد الدعاء قدم عليه الثناء ، فقال أولاً : {الذى خَلَقَنِى فَهُوَ يَهْدِينِ} [الشعراء : 78] إلى قوله : {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى يَوْمَ الدين} [الشعراء : 82] وكل هذا ثناء منه على الله تعالى ثم شرع بعده في الدعاء فقال : {رَبّ هَبْ لِى حُكْماً وَأَلْحِقْنِى بالصالحين} [الشعراء : 83] فكذا ههنا أمر بالتكبير أولاً ثم شرع بعده في الدعاء ثانياً
الثالث : إن الله تعالى لما فرض عليهم الصيام كما فرض على الذين من قبلهم ، وكان ذلك على أنهم إذا ناموا حرم عليهم ما يحرم على الصائم ، فشق ذلك على بعضهم حتى عصوا الله في ذلك التكليف ، ثم ندموا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن توبتهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية مخبراً لهم بقبول توبتهم ، ونسخ ذلك التشديد بسبب دعائهم وتضرعهم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 81}
وقال البقاعى : (4/53)
ولما كان دعاء الصائم مجاناً وكان هذا الشهر بالخصوص مظنة الإجابة للصيام ولمكان ليلة القدر وكان ذكر كبريائه سبحانه وتعالى مهيئاً لعباده للإحساس بالبعد فكان ربما أوقع في وهم أنه على عادة المتكبرين في بعد المسافة عن محالّ العبيد وأنه إن كان بحيث يسمع لم يكن لأحد منهم أن يسأله إلا بواسطة رفع هذا الوهم بقوله : {وإذا} دالاً بالعطف على غير مذكور أن التقدير : فإذا سألك عبادي عني فإني مع علو شأني رقيب على من أطاعني ومن عصاني " وإذا ". وقال الحرالي : لما أثبت الحق سبحانه وتعالى كتاب الصيام لعباده لما أرادهم له من إعلائهم إلى خبء جزائه وأطلعهم على ما شاء في صومهم من ملكوته بحضور ليلة القدر فأنهاهم إلى التكبير على عظيم ما هداهم إليه واستخلفهم في فضله وشكر نعمته بما خولهم من عظيم فضله وأظهر عليهم من رواء بركاته ما يدعو الناظرين لهم إلى سؤالهم عما نالوه من ربهم فيليحون لمن دونهم ما به يليق بهم رتبة رتبة ؛ يؤثر عن عمر رضي الله تعالى عنه أنه قال : " كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكلم أبا بكر رضي الله تعالى عنه فكأنما يتكلمان بلسان أعجم لا أفهم مما يقولان شيئاً " إلى أن ينتهي الأمر إلى أدنى السائلين الذين هم في رتبة حضرة بعد فيبشرون بمطالعة القرب فقال : و{إذا} عطفاً على أمور متجاوزة كأنه يقول : إذا خرجت من معتكفك فصليت وظهرت زينة الله التي باهى بها ملائكته ليست زينة الدنيا التي يتمقتها أهل حضرته من ملائكته فإذا سألك من حاله كذا فأنبئه بكذا وإذا سألك من حاله كذا فأنبئه بكذا وإذا {سألك عبادي عني} أي هل أنا على حال المتكبرين من ملوك الدنيا في البعد عمن دونهم فأخبرهم أني لست كذلك.(4/54)
ولما كان لا يسأل عن الشيء إلاّ إن كان معظماً له متشوقاً إلى تعجيل الإخبار به كان الأنسب للمقام والأقرّ لعيون العباد والأزجر لأهل العناد تقريب الجواب وإخباره سبحانه وتعالى بنفسه الشريفة دون واسطة إشعاراً بفرط قربه وحضوره مع كل سائل فقال : {فإني} دون فقل إني ، فإنه لو أثبت قل ، لأوهم بُعداً وليس المقام كذلك ، ولكان قوله إني ، موهماً فيحتاج إلى أن يقال إن الله أو نحوه ، ومع ذلك فلا ينفك عن إشكال ؛ وإذا كان هذا التلطف بالسائلين فما ظنك بالسالكين السائرين! وقال الأستاذ أبو القاسم القشيري ما معناه : الذين يسألون عن الجبال وعن اليتامى وعن المحيض وعن الأهلة ونحوها يجابون بالواسطة ، وأما الذين يسألون عني فإني أرفع الوسائط بيني وبينهم. وقال الإمام قاضي القضاة ناصر الدين بن ميلق ما معناه : إنه سبحانه وتعالى لما كان قد تعرف إلى عباده بأفعاله وآياته وما ركز في العقول من معرفته كان حذف الواسطة في الإخبار عنه أنسب بخلاف الأهلة ونحوها فإن العقول لا تستقل بمعرفتها ، فكان الإخبار عنها بواسطة الرسول الذي لا تعرف إلا من جهته أنسب. {قريب} فعيل من القرب وهو مطالعة الشيء حساً أو معنى أي من طلبني بعقله وجدني وعرفني وإنما أرسلت الرسل زيادة في التعرف ورفعاً للحرج بسر التلطف ، وإسقاط قل ، أسرع في التعرف فهو أجدر بتعظيم الواسطة لأن الإسراع في الإجابة أقرب دلالة على صدقه في الرسالة. قال الحرالي : بشر أهل حضرة البعد بالقرب لما رقي أهل القرب إلى الوصول بالقرب فكان المبشر واصلاً وكان المتقاصر عن القرب مبشراً به ، ومعلوم أن قرب الله وبعد المخلوق منه ليس بعد مسافة ولا قرب مسافة ، فالذي يمكن إلاحته من معنى القرب أن من سمع فيما يخاطب به خطاب ربه فهو قريب ممن كان ذلك الخطاب منه ، ومن كان إنما يسمع الخطاب ممن واجهه بالخطاب في حسه ومحسوسه فسمعه ممن دون ربه كان بعيداً بحسب تلك الواسطة من بعد دون بعد إلى(4/55)
أبعد البعد ، ولذلك يعلن للنبي صلى الله عليه وسلم {إنما عليك البلاغ} [الرعد : 40] وكان أن ما يتلوه لأمته إنما هو كلام ربه يتلو لهم كلام ربهم ليسمعوه من ربهم لأمته حتى لا يكون صلى الله عليه وسلم واسطة بين العبد وربه بل يكون يوصل العبد إلى ربه ، وللإشارة بهذا المعنى يتلى كلمة قل ، في القرآن ليكون إفصاحاً لسماع كلام الله سبحانه وتعالى ممن سمع كائناً من كان ، وفي إشعاره إهزاز القلوب والأسماع إلى نداء الحج إثر الصوم ، لأنه جعل تعالى أول يوم من شهور الحج إثر يوم من أيام الصوم ، فكأن منادي الله ينادي يوم الفطر بالحج ، ففي خفي إشارته إعلاء نداء إبراهيم عليه الصلاة والسلام الذي تقدم أساس أمر الإسلام على حنيفيته وملته ، وليكون في هذه الآية الجامعة توطئة لذكر الحج لما تقدم من أن هذه السورة تنتظم جوامعها خلال تفاصيلها انتظاماً عجيباً يليح المعنى لأهل الفهم ويفصله لأهل العلم ثم يحكم به على أهل الحكم قال : {أجيب} من الإجابة وهي اللقاء بالقول ابتداء شروع لتمام اللقاء بالمواجهة {دعوة الداع} ففيه إشعار بإجابة الداعي أي للحج عند خاتمة الصوم يعني لما بين العبادتين من تمام المناسبة ، فإن حال الصوم التابع لآية الموت في كونه محواً لحال البرزخ وحال الحج في كونه سفراً إلى مكان مخصوص على حال التجرد كحال الحشر ؛ قال : وجاء الفطر يعني بعد إكمال الصوم بما يعين على إجابة دعوة الوفادة على الله سبحانه وتعالى إثر الخلوة في بيت الله ليكون انتقالهم من بيت خلوته بالعكوف إلى موقف تجليه في الحج ، وفيه تحقيق للداعي من حاله ليس الداعي من أغراضه وشهواته ، فإن الله سبحانه وتعالى يجيب دعوة العبد إذا كان فيه رشد وإلا ادخرها له أو كفر بها عنه كما بينه صلى الله عليه وسلم.
(4/56)
ولما كان كل خلق داعياً لحاجته وإن لم ينطق بها أشار تعالى إلى مقصد إظهار الدعاء مقالاً وابتهالاً فقال : {إذا دعان} ليكون حاله صدقاً بمطابقة حاله مقالاً ، وفي قراءة الاكتفاء بكسرة {الداع} و{دعان} عن ياءيهما وقراءة تمكينهما توسعة القراءة بما تيسر على قبائل العرب بحسب ما في ألسنة بعضها من التمكين وما في ألسنة بعضها من الحذف {ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مدّكر} [القمر : 17] وفي إجابته حجة عليهم بأن السيد إذا التزم إجابة عبده كان إجابة العبد لسيده أوجب التزاماً لاستغناء السيد وحاجة العبد. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 347 ـ 348}
وقال أبو السعود :
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي} في تلوين الخطابِ وتوجيهِه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لا يخفى من تشريفِه ورفعِ محله. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 200}
سبب نزول هذه الآية
قال الفخر :
ذكروا في سبب نزول هذه الآية وجوهاً أحدها : ما روي عن كعب أنه قال ، قال موسى عليه السلام : يا رب أقريب أنت فأناجيك ، أم بعيد فأناديك ؟ فقال : يا موسى أنا جليس من ذكرني ، قال : يا رب فإنا نكون على حالة نجلك أن نذكرك عليها من جنابة وغائط ، قال : يا موسى اذكرني على كل حال ، فلما كان الأمر على هذه الصفة رغب الله تعالى عباده في ذكره وفي الرجوع إليه في جميع الأحوال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية (1)
__________________
(1) لا يخفى ما فى هذا القول من البعد. والله أعلم.(4/57)
وثانيها : أن أعرابياً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية وثالثها : أنه عليه السلام كان في غزوة وقد رفع أصحابه أصواتهم بالتكبير والتهليل والدعاء ، فقال عليه السلام : " إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً "
ورابعها : ما روي عن قتادة وغيره أن سببه أن الصحابة قالوا : كيف ندعو ربنا يا نبي الله ؟ فأنزل هذه الآية
وخامسها : قال عطاء وغيره : إنهم سألوه في أي ساعة ندعو الله ؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية
وسادسها : ما ذكره ابن عباس ، وهو أن يهود أهل المدينة قالوا : يا محمد كيف يسمع ربك دعاءنا ؟ فنزلت هذه الآية
وسابعها : قال الحسن : سأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : أين ربنا ؟ فأنزل الله هذه الآية
وثامنها : ما ذكرنا أن قوله :
{ كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة : 183] لما اقتضى تحريم الأكل بعد النوم ، ثم إنهم أكلوا ثم ندموا وتابوا وسألوا النبي صلى الله عليه وسلم أنه تعالى هل يقبل توبتنا ؟ فأنزل الله هذه الآية. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 81}
وقيل : إن عمر رضي الله عنه واقع امرأته بعدما صلّى العشاء فندم على ذلك وبكى ؛ وجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك ورجع مغتمَّا ؛ وكان ذلك قبل نزول الرخصة ؛ فنزلت هذه الآية : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ }. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 308}
قال الفخر : (4/58)
واعلم أن قوله : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ} يدل على أنهم سألوا النبي عليه السلام عن الله تعالى ، فذلك السؤال إما أنه كان سؤالاً عن ذات الله تعالى ، أو عن صفاته ، أو عن أفعاله ، أما السؤال عن الذات فهو أن يكون السائل ممن يجوز التشبيه ، فيسأل عن القرب والبعد بحسب الذات ، وأما السؤال عن الصفات فهو أن يكون السائل سأل عن أنه تعالى هل يسمع دعاءنا فيكون السؤال واقعاً على كونه تعالى سميعاً ، أو يكون المقصود من السؤال أنه تعالى كيف أذن في الدعاء ، وهل أذن في الدعاء ، وهل أذن في أن ندعوه بجميع الأسماء ، أو ما أذن إلا بأن ندعوه بأسماء معينة ، وهل أذن لنا أن ندعوه كيف شئنا ، أو ما أذن بأن ندعوه على وجه معين ، كما قال تعالى : {وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا} [الإسراء : 110] وأما السؤال عن الأفعال فهو أن يكون السائل سأل الله تعالى أنه إذا سمع دعاءنا فهل يجيبنا إلى مطلوبنا ، وهل يفعل ما نسأله عنه فقوله سبحانه : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي} يحتمل كل هذه الوجوه ، إلا أن حمله على السؤال عن الذات أولى لوجهين الأول : أن ظاهر قوله : {عَنّي} يدل على أن السؤال وقع عن ذاته لا عن فعله والثاني أن السؤال متى كان مبهماً والجواب مفصلاً ، دل الجواب على أن المراد من ذلك المبهم هو ذلك المعين ، فلما قال في الجواب : {فَإِنّي قَرِيبٌ} علمنا أن السؤال كان عن القرب والبعد بحسب الذات ، ولقائل أيضاً أن يقول بل السؤال كان على الفعل ، وهو أنه تعالى هل يجيب دعاءهم ، وهل يحصل مقصود ، بدليل أنه لما قال : {فَإِنّي قَرِيبٌ} قال : {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} فهذا هو شرح هذا المقام. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 81}
قوله تعالى : {فَإِنّي قَرِيبٌ }
قال الفخر : (4/59)
اعلم أنه ليس المراد من هذا القريب بالجهة والمكان ، بل المراد منه القرب بالعلم والحفظ ، فيحتاج ههنا إلى بيان مطلوبين :
المطلوب الأول : في بيان أن هذا القريب ليس قرباً بحسب المكان ، ويدل عليه وجوه الأول : أنه لو كان في المكان مشاراً إليه بالحس لكان منقسماً ، إذ يمتنع أن يكون في الصغر والحقارة مثل الجوهر الفرد.
ولو كان منقسماً لكانت ماهيته مفتقرة في تحققها إلى تحقق كل واحد من أجزائها المفروضة وجزء الشيء غيره ، فلو كان في مكان لكان مفتقراً إلى غيره ، والمفتقر إلى غيره ممكن لذاته ومحدث ومفتقر إلى الخالق ، وذلك في حق الخالق القديم محال ، فثبت أنه تعالى يمتنع أن يكون في المكان فلا يكون قربه بالمكان والثاني : أنه لو كان في المكان لكان إما أن يكون غير متناه عن جميع الجهات ، أو غير متناه عن جهة دون جهة ، أو كان متناهياً من كل الجوانب والأول : محال لأن البراهين القاطعة دلت على أن فرض بعد غير متناه محال والثاني : محال أيضاً لهذا الوجه ، ولأنه لو كان أحد الجانبين متناهياً والآخر غير متناه لكانت حقيقة هذا الجانب المتناهي مخالفة في الماهية لحقيقة ذلك الجانب الذي هو غير متناه ، فيلزم منه كونه تعالى مركباً من أجزاء مختلفة الطبائع والخصم لا يقول بذلك.
(4/60)
وأما القسم الثالث : وهو أن يكون متناهياً من كل الجوانب ، فذلك باطل بالاتفاق بيننا وبين خصومنا ، فبطل القول بأنه تعالى في الجهة الثالث : وهو أن هذه الآية من أقوى الدلائل على أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قرباً بالجهة ، وذلك لأنه تعالى لو كان في المكان لما كان قريباً من الكل ، بل كان يكون قريباً من حملة العرش وبعيداً من غيرهم ، ولكان إذا كان قريباً من زيد الذي هو بالمشرق كان بعيداً من عمرو الذي هو بالمغرب ، فلما دلت الآية على كونه تعالى قريباً من الكل علمنا أن القرب المذكور في هذه الآية ليس قرباً بحسب الجهة ، ولما بطل أن يكون المراد منه القرب بالجهة ثبت أن المراد منه القرب بمعنى أنه تعالى يسمع دعاءهم ويرى تضرعهم ، أو المراد من هذا القرب : العلم والحفظ وعلى هذا الوجه قال تعالى : {وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ} [الحديد : 4] وقال : {وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد} [ق : 16] وقال : {مَا يَكُونُ مِن نجوى ثلاثة إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ} [المجادله : 7] والمسلمون يقولون إنه تعالى بكل مكان ويريدون به التدبير والحفظ والحراسة إذا عرفت هذه المقدمة فنقول : لا يبعد أن يقال إنه كان في بعض أولئك الحاضرين من كان قائلاً بالتشبيه ، فقد كان في مشركي العرب وفي اليهود وغيرهم من هذه طريقته ، فإذا سألوه عليه الصلاة والسلام فقالوا : أين ربنا ؟ صح أن يكون الجواب : فإني قريب ، وكذلك إن سألوه عليه الصلاة والسلام فقالوا : هل يسمع ربنا دعاءنا ؟ صح أن يقول في جوابه : فإني قريب فإن القريب من المتكلم يسمع كلامه ، وإن سألوه كيف ندعوه برفع الصوت أو بأخفائه ؟ صح أن يجيب بقوله : فإني قريب ، وإن سألوه هل يعطينا مطلوبنا بالدعاء ؟ صلح هذا الجواب أيضاً ، وإن سألوه إنا إذا أذنبنا ثم تبنا فهل يقبل الله توبتنا ؟ صلح أن يجيب بقوله : فإني قريب أي فأنا القريب بالنظر لهم والتجاوز عنهم وقبول(4/61)
التوبة منهم ، فثبت أن هذا الجواب مطابق للسؤال على جميع التقديرات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 81 ـ 82}
لطيفة
قال سهل أدنى مقامات القرب الحياء من الله عز وجل. أ هـ {حقائق التفسير صـ 71}
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن القرب :
وهو على فى دنوه قريب فى علوه. أ هـ {مجموع الفتاوى حـ 3 صـ 142}
قوله تعالى : {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ }
قال الفخر :
قال أبو سليمان الخطابي : الدعاء مصدر من قولك : دعوت الشيء أدعوه دعاء ثم أقاموا المصدر مقام الاسم تقول : سمعت دعاء كما تقول سمعت صوتاً وقد يوضع المصدر موضع الاسم كقولهم : رجل عدل.
وحقيقة الدعاء استدعاء العبد ربه جل جلاله العناية واستمداده إياه المعونة.
وأقول : اختلف الناس في الدعاء ، فقال بعض الجهال الدعاء شيء عديم الفائدة ، واحتجوا عليه من وجوه أحدها : أن المطلوب بالدعاء إن كان معلوم الوقوع عند الله تعالى كان واجب الوقوع ، فلا حاجة إلى الدعاء ، وإن كان غير معلوم الوقوع كان ممتنع الوقوع ، فلا حاجة أيضاً إلى الدعاء وثانيها : أن حدوث الحوادث في هذا العالم لا بد من انتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم الواجب لذاته ، وإلا لزم إما التسلسل ، وإما الدور وإما وقوع الحادث من غير مؤثر وكل ذلك محال وإذا ثبت وجوب إنتهائها بالآخرة إلى المؤثر القديم ، فكل ما اقتضى ذلك المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديماً أزلياً كان واجب الوقوع ، وكل ما لم يقتض المؤثر القديم وجوده اقتضاء قديماً أزلياً كان ممتنع الوقوع ، ولما ثبتت هذه الأمور في الأزل لم يكن للدعاء ألبتة أثر ، وربما عبروا عن هذا الكلام بأن قالوا : الأقدار سابقة والأقضية متقدمة والدعاء لا يزيد فيها وتركه لا ينقص شيئاً منها ، فأي فائدة في الدعاء ، وقال عليه الصلاة والسلام(4/62)
" قدر الله المقادير قبل أن يخلق الخلق بكذا وكذا عاماً " وروي عنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : " جف القلم بما هو كائن " وعنه عليه الصلاة والسلام أنه قال : " أربع قد فرغ منها : العمر والرزق والخلق والخلق " وثالثها : أنه سبحانه علام الغيوب : {يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِى الصدور} [غافر : 19] فأي حاجة بالداعي إلى الدعاء ؟ ولهذا السبب قالوا إن جبريل عليه السلام بلغ بسبب هذا الكلام إلى أعلى درجات الإخلاص والعبودية ولولا أن ترك الدعاء أفضل لما كان كذلك ورابعها : أن المطلوب بالدعاء إن كان من مصالح العبد فالجواد المطلق لا يهمله وإن لم يكن من مصالحه لم يجز طلبه وخامسها : ثبت بشواهد العقل والأحاديث الصحيحة أن أجل مقامات الصديقين وأعلاها الرضا بقضاء الله تعالى والدعاء ينافي ذلك لأنه اشتغال بالإلتماس وترجيح لمراد النفس على مراد الله تعالى وطلبه لحصة البشر وسادسها : أن الدعاء يشبه الأمر والنهي وذلك من العبد في حق المولى الكريم الرحيم سوء أدب وسابعها : روي أنه عليه الصلاة والسلام قال رواية عن الله سبحانه وتعالى : " من شغله ذكري عن مسألتي أعطيته أفضل ما أعطي السائلين " قالوا فثبت بهذه الوجوه أن الأولى ترك الدعاء.
(4/63)
وقال الجمهور الأعظم من العقلاء : إن الدعاء أهم مقامات العبودية ، ويدل عليه وجوه من النقل والعقل ، أما الدلائل النقلية فكثيرة الأول : أن الله تعالى ذكر السؤال والجواب في كتابه في عدة مواضع منها أصولية ومنها فروعية ، أما الأصولية فقوله : {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الروح} [الإسراء : 85] {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجبال} [طه : 105] {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الساعة} [النازعات : 42] وأما الفروعية فمنها في البقرة على التوالي {يَسْئَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ} [البقرة : 219] {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام} [البقرة : 217] {يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر} [البقرة : 219] {يَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى} [البقرة : 220] {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ المحيض} [البقرة : 222] وقال أيضاً : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال} [الأنفال : 1] {وَيَسْأَلُونَكَ عَن ذِى القرنين} [الكهف : 83] {وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ} [يونس : 53] {يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِى الكلالة} [النساء : 176].
(4/64)
إذا عرفت هذا : فنقول هذه الأسئلة جاءت أجوبتها على ثلاثة أنواع فالأغلب فيها أنه تعالى لما حكى السؤال قال لمحمد : قل وفي صورة واحدة جاء الجواب بقوله : فقل مع فاء التعقيب ، والسبب فيه أن قوله تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال} سؤال عن قدمها وحدوثها وهذه مسألة أصولية فلا جرم قال الله تعالى : {فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبّى نَسْفاً} [طه : 105] كأنه قال يا محمد أجب عن هذا السؤال في الحال ولا تؤخر الجواب فإن الشك فيه كفر ثم تقدير الجواب أن النسف ممكن في كل جزء من أجزاء الجبل فيكون ممكناً في الكل وجواز عدمه يدل على امتناع قدمه ، أما سائر المسائل فهي فروعية فلا جرم لم يذكر فيها فاء التعقيب ، أما الصورة الثالثة وهي في هذه الآية قال : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي فَإِنّي قَرِيبٌ} ولم يقل فقل إني قريب فتدل على تعظيم حال الدعاء من وجوه الأول : كأنه سبحانه وتعالى يقول عبدي أنت إنما تحتاج إلى الواسطة في غير وقت الدعاء أما في مقام الدعاء فلا واسطة بيني وبينك الثاني : أن قوله : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنّي} يدل على أن العبد له وقوله : {فَإِنّي قَرِيبٌ} يدل على أن الرب للعبد وثالثها : لم يقل : فالعبد مني قريب ، بل قال : أنا منه قريب ، وفيه سر نفيس فإن العبد ممكن الوجود فهو من حيث هو هو في مركز العدم وحضيض الفناء ، فلا يمكنه القرب من الرب أما الحق سبحانه فهو القادر من أن يقرب بفضله وبرحمته من العبد ، والقرب من الحق إلى العبد لا من العبد إلا الحق فلهذا قال : {فَإِنّي قَرِيبٌ} والرابع : أن الداعي ما دام يبقى خاطره مشغولاً بغير الله فإنه لا يكون داعياً له فإذا فني عن الكل صار مستغرقاً في معرفة الأحد الحق ، فامتنع من أن يبقى في هذا المقام ملاحظاً لحقه وطالباً لنصيبه ، فلما ارتفعت الوسائط بالكلية ، فلا جرم حصل القرب فإنه ما دام يبقى العبد ملتفتاً إلى غرض نفسه لم يكن قريباً من الله(4/65)
تعالى ، لأن ذلك الغرض يحجبه عن الله ، فثبت أن الدعاء يفيد القرب من الله ، فكان الدعاء أفضل العبادات.
الحجة الثانية في فضل الدعاء : قوله تعالى : {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر : 60].
الحجة الثالثة : أنه تعالى لم يقتصر في بيان فضل الدعاء على الأمر به بل بين في آية أخرى أنه إذا لم يسأل يغضب فقال : {فَلَوْلاَ إِذْ جآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} [الأنعام : 43] وقال عليه السلام : " لا ينبغي أن يقول أحدكم : اللهم اغفر لي إن شئت ولكن يجزم فيقول : اللهم اغفر لي " وقال عليه السلام : " الدعاء مخ العبادة " وعن النعمان بن بشير أنه عليه السلام قال : " الدعاء هو العبادة " وقرأ {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} فقوله : " الدعاء هو العبادة " معناه أنه معظم العبادة وأفضل العبادة ، كقوله عليه السلام " الحج عرفة " أي الوقوف بعرفة هو الركن الأعظم.
الحجة الرابعة : قوله تعالى : {ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً} [الأعراف : 55] وقال : {قُلْ مَا يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبّى لَوْلاَ دُعَاؤُكُمْ} [الفرقان : 77] والآيات كثيرة في هذا الباب فمن أبطل الدعاء فقد أنكر القرآن.
(4/66)
والجواب عن الشبهة الأولى : أنها متناقضة ، لأن إقدام الإنسان على الدعاء إن كان معلوم الوقوع فلا فائدة في اشتغالكم بإبطال الدعاء ، وإن كان معلوم العدم لم يكن إلى إنكاركم حاجة ، ثم نقول : كيفية علم الله تعالى وكيفية قضائه وقدره غائبة عن العقول ، والحكمة الإلهية تقتضي أن يكون العبد معلقاً بين الرجاء وبين الخوف اللذين بهما تتم العبودية ، وبهذا الطريق صححنا القول بالتكاليف مع الاعتراف بإحاطة علم الله بالكل وجريان قضائه وقدره في الكل ، ولهذا الإشكال سألت الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أرأيت أعمالنا هذه أشيء قد فرغ منه أم أمر يستأنفه ؟ فقال : بل شيء قد فرغ منه.
فقالوا : ففيم العمل إذن ؟ قال : " اعملوا فكل ميسر لما خلق له " فانظر إلى لطائف هذا الحديث فإنه عليه السلام علقهم بين الأمرين فرهبهم سابق القدر المفروغ منه ثم ألزمهم العمل الذي هو مدرجة التعبد ، فلم يعطل ظاهر العمل بما يفيد من القضاء والقدر ، ولم يترك أحد الأمرين للآخر ، وأخبر أن فائدة العمل هو المقدر المفروغ منه فقال : " كل ميسر لما خلق له " يريد أنه ميسر في أيام حياته للعمل الذي سبق له القدر قبل وجوده ، إلا أنك تحب أن تعلم ههنا فرق ما بين الميسر والمسخر فتأهب لمعرفته فإنه بمنزلة مسألة القضاء والقدر ، وكذا القول في باب الكسب والرزق فإنه مفروغ منه في الأصل لا يزيده الطلب ولا ينقصه الترك.
والجواب عن الشبهة الثانية : أنه ليس المقصود من الدعاء الإعلام ، بل إظهار العبودية والذلة والانكسار والرجوع إلى الله بالكلية.
وعن الثالثة : أنه يجوز أن يصير ما ليس بمصلحة مصلحة بحسب سبق الدعاء.
وعن الرابعة : أنه إذا كان مقصوده من الدعاء إظهار الذلة والمسكنة ثم بعد رضى بما قدره الله وقضاه ، فذلك أعظم المقامات وهذا هو الجواب عن بقية الشبه في هذا الباب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 83 ـ 85}
قال القرطبى : (4/67)
قوله تعالى : {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} أي أقبل عبادة من عبدني ؛ فالدعاء بمعنى العبادة ، والإجابة بمعنى القبول. دليله ما رواه أبو داود عن النُّعمان بن بَشير عن النبيّ صلى الله عليه وسلم قال : " الدعاء هو العبادة قال ربكم ادعوني أستجب لكم " فسُمِّيَ الدعاء عبادة ؛ ومنه قوله تعالى : {إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر : 60] أي دعائي. فأمر تعالى بالدعاء وحض عليه وسمّاه عبادة ، ووعد بأن يستجيب لهم. روى لَيث عن شَهر بن حَوْشَب عن عُبادة بن الصّامت قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : " أُعْطِيَتْ أمتي ثلاثاً لم تُعط إلا الأنبياءَ كان الله إذا بعث نبِيًّا قال ادعني أستجب لك وقال لهذه الأمة ادعوني أستجب لكم وكان الله إذا بعث النبيّ قال له ما جعل عليك في الدِّين من حَرج وقال لهذه الأمة ما جعل عليكم في الدِّين من حرج وكان الله إذا بعث النبيّ جعله شهيداً على قومه وجعل هذه الأمة شُهداءَ على الناس " وكان خالد الرَّبَعِيّ يقول : عجبت لهذه الأمة في {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} أمرهم بالدعاء ووعدهم بالإجابة ، وليس بينهما شَرْط. قال له قائل مثل ماذا ؟ قال مثل قوله : {وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات} فها هنا شَرْط ، وقوله : {وَبَشِّرِ الذين آمنوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ} فليس فيه شَرْط العمل ، ومثل قوله : {فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين} فها هنا شَرط ، وقوله : {ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر : 60] ليس فيه شرط. وكانت الأمم تقرع إلى أنبيائها في حوائجهم حتى تسأل الأنبياءُ لهم ذلك. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 309}
سؤال : لم قال تعالى : {فإني قريب} ولم يقل : فقل لهم إني قريب ؟ (4/68)
الجواب : إنما قال تعالى : {فإني قريب} ولم يقل : فقل لهم إني قريب إيجازاً لظهوره من قوله : {وإذا سألك عبادي عني} ، وتنبيهاً على أن السؤال مفروض غير واقع منهم بالفعل ، وفيه لطيفة قرآنية وهي إيهام أن الله تعالى تولَّى جوابهم عن سؤالهم بنفسه إذ حذف في اللفظ ما يدل على وساطة النبي صلى الله عليه وسلم تنبيهاً على شدة قرب العبد من ربه في مقام الدعاء. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 179}
قوله تعالى : {أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ }
قال الماوردى :
وفي قوله تعالى : {أجيب دعوة الداعِ إذا دعانِ} تأويلان :
أحدهما : معناه أسمع دعوة الداعي إذا دعاني ، فعبر عن السماع بالإجابة ، لأن السماع مقدمة الإجابة.
والثاني : أنه أراد إجابة الداعي إلى ما سأل ، ولا يخلو سؤال الداعي أن يكون موافقاً للمصلحة أو مخالفاً لها ، فإن كان مخالفاً للمصلحة لم تجز الإجابة إليه ، وإن كان موافقاً للمصلحة ، فلا يخلو حال الداعي من أحد أمرين : إما أن يكون مستكملاً شروط الطلب أو مقصوراً فيها :
فإن استكملها جازت إجابته ، وفي وجوبها قولان :
أحدهما : أنها واجبة لأنها تجري مجرى ثواب الأعمال ، لأن الدعاء عبادة ثوابها الإجابة.
والثاني : أنها غير واجبة لأنها رغبة وطلب ، فصارت الإجابة إليها تفضلاً.
وإن كان مقصوراً في شروط الطلب لم تجب إجابته ، وفي جوازها قولان :
أحدهما : لا تجوز ، وهو قول من أوجبها مع استكمال شروطها.
والثاني : تجوز ، وهو قول من لم يوجبها مع استكمال شروطها.
أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 243}
إشكال وجوابه
قال الفخر :
في الآية سؤال مشكل مشهور ، وهو أنه تعالى قال : {ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} [غافر : 60] وقال في هذه الآية : {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} وكذلك {أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ} [النمل : 62] ثم إنا نرى الداعي يبالغ في الدعاء والتضرع فلا يجاب.(4/69)
والجواب : أن هذه الآية وإن كانت مطلقة إلا أنه قد وردت آية أخرى مقيدة ، وهو قوله تعالى : {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء} [الأنعام : 41] ولا شك أن المطلق محمول على المقيد ، ثم تقرير المعنى فيه وجوه أحدها : أن الداعي لا بد وأن يجد من دعائه عوضاً ، إما إسعافاً بطلبته التي لأجلها دعا وذلك إذا وافق القضاء ، فإذا لم يساعده القضاء فإنه يعطي سكينة في نفسه ، وانشراحاً في صدره ، وصبراً يسهل معه احتمال البلاء الحاضر ، وعلى كل حال فلا يعدم فائدة ، وهو نوع من الاستجابة وثانيها : ما روى القفال في تفسيره عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " دعوة المسلم لا ترد إلا لإحدى ثلاثة : ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ، إما أن يعجل له في الدنيا ، وإما أن يدخر له في الآخرة ، وإما أن يصرف عنه من السوء بقدر ما دعا ".
(4/70)
وهذا الخبر تمام البيان في الكشف عن هذا السؤال ، لأنه تعالى قال : {ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} ولم يقل : أستجب لكم في الحال فإذا استجاب له ولو في الآخرة كان الوعد صدقاً وثالثها : أن قوله : {ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} يقتضي أن يكون الداعي عارفاً بربه وإلا لم يكن داعياً له ، بل لشيء متخيل لا وجود له ألبتة ، فثبت أن الشرط الداعي أن يكون عارفاً بربه ومن صفات الرب سبحانه أن لا يفعل إلا ما وافق قضاءه وقدره وعلمه وحكمته فإذا علم أن صفة الرب هكذا استحال منه أن يقول بقلبه وبعقله : يا رب افعل الفعل الفلاني لا محالة ، بل لا بد وأن يقول : افعل هذا الفعل إن كان موافقاً لقضائك وقدرك وحكمتك ، وعند هذا يصير الدعاء الذي دلت الآية على ترتيب الإجابة عليه مشروطاً بهذه الشرائط وعلى هذا التقدير زال السؤال الرابع أن لفظ الدعاء والإجابة يحتمل وجوهاً كثيرة أحدها : أن يكون الدعاء عبارة عن التوحيد والثناء على الله كقول العبد : يا الله الذي لا إله إلا أنت ، وهذا إنما سمي دعاء لإنك عرفت الله تعالى ثم وحدته وأثنيت عليه ، فهذا يسمى دعاء بهذا التأويل ولما سمي هذا المعنى دعاء سمي قبوله إجابة لتجانس اللفظ ومثله كثير وقال ابن الأنباري : {أُجِيبُ} ههنا بمعنى أسمع لأن بين السماع وبين الإجابة نوع ملازمة ، فلهذا السبب يقام كل واحد منهما مقام الآخر ، فقولنا سمع الله لمن حمده أي أجاب الله فكذا ههنا قوله : {أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع} أي أسمع تلك الدعوة ، فإذا حملنا قوله تعالى : {ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ} على هذا الوجه زال الإشكال وثانيها : أن يكون المراد من الدعاء التوبة عن الذنوب ، وذلك لأن التائب يدعو الله تعالى عند التوبة ، وإجابة الدعاء بهذا التفسير عبارة عن قبول التوبة ، وعلى هذا الوجه أيضاً لا إشكال ، وثالثها : أن يكون المراد من الدعاء العبادة ، قال عليه الصلاة والسلام : " الدعاء هو العبادة " ومما يدل(4/71)
عليه قوله تعالى : {وَقَالَ رَبُّكُمْ ادعونى أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِى سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ} [غافر : 60] فظهر أن الدعاء ههنا هو العبادة ، وإذا ثبت هذا فإجابة الله تعالى للدعاء بهذا التفسير عبارة عن الوفاء بما ضمن للمطيعين من الثواب كما قال : {وَيَسْتَجِيبُ الذين ءَامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَيَزِيدُهُم مِن فَضْلِهِ} [الشورى : 26] وعلى هذا الوجه الإشكال زائل
ورابعها : أن يفسر الدعاء بطلب العبد من ربه حوائجه فالسؤال المذكور إن كان متوجهاً على هذا التفسير لم يكن متوجهاً على التفسيرات الثلاثة المتقدمة ، فثبت أن الإشكال زائل.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 86}
وقال الآلوسى :
{ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ} دليل للقرب وتقرير له فالقطع لكمال الاتصال ، وفيه وعد الداعي بالإجابة في الجملة على ما تشير إليه كلمة {إِذَا} لا كلياً فلا حاجة إلى التقييد بالمشيئة المؤذن به قوله تعالى في آية أخرى : {فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء} [الأنعام : 1 4] ولا إلى أن القول بأن إجابة الدعوة غير قضاء الحاجة لأنها قوله سبحانه وتعالى : لبيك يا عبدي وهو موعود موجود لكل مؤمن يدعو ولا إلى تخصيص الدعوة بما ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم ، أو الداعي بالمطيع المخبت. نعم كونه كذلك أرجى للإجابة لا سيما في الأزمنة المخصوصة والأمكنة المعلومة والكيفية المشهورة ، ومع هذا قد تتخلف الإجابة مطلقاً وقد تتخلف إلى بدل ، ففي الصحيح عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " ما من مسلم يدعو بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله تبارك وتعالى إحدى ثلاث إما أن يعجل له دعوته وإما أن يدخر له وإما أن يكف عنه من السوء مثلها " وسيأتي تحقيق ذلك إن شاء الله تعالى. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 86}(4/72)
قال ابن عرفة : " أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع " فيه سؤالان :
الأول : ما الفائدة في زيادة لفظ " دعوة " مع أنه مستغنى عنه ؟
قيل له : إنّه إذا أجاب الدّعوة الواحدة فأحرى أن يجيب الدّعوات (المكررة المؤكدة) ؟
فقال : العكس أولى لا ، إذ لا يلزم من أجابة الدعوة الواحدة إجابة الدعوات.
قال : وعادتهم يجيبون عنه بأنّ " أجاب " تطلق على (الإجابة) بالموافق والمخالف و" استجاب " خاص بالموافق ، فلو قال : أُجِيبُ الدّاعِي ، لأوهم العموم ، وقوله " أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع " صريح في الإسعاف بالمقصود ، كما نقول : أجيب طلبة فلان وأجيب دعوته ، أي أسعفه بمطلوبه.
السؤال الثاني : ما الفائدة في قوله " إِذَا دَعَانِ " مع أنّه أيضا مستغنى عنه.
قال ابن عرفة : وعادتهم يجيبون بأنّ الدّعاء على قسمين دعاء بنية وعزيمة ، والداعي مستجمع لشرائطه ، ودعاء دون ذلك ، فأفاد قوله " إِذَا دَعَانِ " إجابة الداعي بنية وحضور. وذكروا أنّ الدّعاء على أقسام فالمستحيل عقلا والمحرم لا يجوز ، وكذلك الدعاء بتحصيل الواجب لأنه من تحصيل الحاصل ، وكذا قالوا في قوله تعالى {وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين} أي المعتدي في الدعاء بالمستحيل عقلا كالدعاء بالجمع بين النقيضين وأما المحال في العادة كالطيران في الهواء والمشي على الماء فمنهم من أجازه ومنهم من منعه.
والمختار عندهم أنه إن كان في الداعي أهلية لذلك وقابلية له جاز له الدعاء وإلا لم يجز كدعاء شيخ ابن ثمانين سنة أن يكون فقيها عالما ، ودعاء رجل من سفلة الناس بأن يكون ملكا. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 235}(4/73)
قال العلامة ابن القيم ـ رحمه الله ـ :
وهاهنا سؤال مشهور وهو أن المدعو به إن كان قد قدر لم يكن بد من وقوعه دعا به العبد أو لم يدع وإن لم يكن قد قدر لم يقع سواء سأله العبد أو لم يسأله.
فظنت طائفة صحة هذا السؤال فتركت الدعاء وقالت : لا فائدة فيه وهؤلاء مع فرط جهلهم وضلالهم متناقضون فإن طرد مذهبهم يوجب تعطيل جميع الأسباب فيقال لأحدهم : إن كان الشبع والري قد قدرا لك فلا بد من وقوعهما أكلت أو لم تأكل وإن لم يقدرا لم يقعا أكلت أو لم تأكل وإن كان الولد قد قدر لك فلابد منه وطأت الزوجة أو الأمة أو لم تطأ وإن لم يقدر ذلك لم يكن فلا حاجة إلى التزويج والتسري وهلم جرا فهل يقال هذا عاقل أو آدمي بل الحيوان البهيم مفطور على مباشرة الأسباب التي بها قوامه وحياته فالحيوانات أعقل وأفهم من هؤلاء الذين هم كالأنعام بل هم أضل سبيلا.
وتكايس بعضهم وقال : الاشتغال بالدعاء من باب التعبد المحض يثيب الله عليه الداعي من غير أن يكون له تأثير في المطلوب بوجه ما ولا فرق عند هذا المتكيس بين الدعاء والإمساك عنه بالقلب واللسان في التأثير في حصول المطلوب وارتباط الدعاء عندهم به كارتباط السكوت ولا فرق.
وقالت طائفة أخرى أكيس من هؤلاء بل الدعاء علامة مجردة نصبها الله سبحانه وتعالى أمارة على قضاء الحاجة فمتى وفق العبد للدعاء كان ذلك علامة له وأمارة على أن حاجته قد انقضت وهذا كما إذا رأيت غيما أسود باردا في زمن الشتاء فإن ذلك دليل وعلامة على أنه يمطر قالوا : وهكذا حكم الطاعات مع الثواب والكفر والمعاصي مع العقاب هي أمارات محضة لوقوع الثواب والعقاب لا أنها أسباب له وهكذا عندهم الكسر مع الانكسار والحرق مع الإحراق والإزهاق مع القتل ليس شيء من ذلك سببا ألبته ولا ارتباط بينه وبين ما يترتب عليه إلا مجرد الاقتران العادي لا التأثير السببي وخالفوا بذلك الحس والعقل والشرع والفطرة وسائر طوائف العقلاء بل أضحكوا عليهم العقلاء
(4/74)
والصواب : أن هاهنا قسما ثالثا غير ما ذكره السائل وهو أن هذا المقدور قدر بأسباب ومن أسبابه الدعاء فلم يقدر مجردا عن سببه ولكن قدر سببه فمتى أتي العبد بالسبب وقع المقدور ومتى لم يأت بالسبب انتفى المقدور وهذا كما قدر الشبع والري بالأكل والشرب وقدر الولد بالوطء وقدر حصول الزرع بالبذر وقدر خروج نفس الحيوان بذبحه وكذلك قدر دخول الجنة بالأعمال ودخول النار بالأعمال وهذا القسم هو الحق وهذا الذي حرمه السائل ولم يوفق له.
وحينئذ فالدعاء من أقوى الأسباب فإذا قدر وقوع المدعو به بالدعاء لم يصح أن يقال : لا فائدة في الدعاء كما لا يقال : لا فائدة في الأكل والشرب وجميع الحركات والأعمال وليس شيء من الأسباب أنفع من الدعاء ولا أبلغ في حصول المطلوب.
ولما كان الصحابة رضي الله عنهم أعلم الأمة بالله ورسوله صلى الله عليه وسلم وأفقههم في دينه كانوا أقوم بهذا السبب وشروطه وآدابه من غيرهم وكان عمر ابن الخطاب رضي الله عنه يستنصر به على عدوه وكان أعظم جنديه وكان يقول للصحابه : "لستم تنصرون بكثرة وإنما تنصرون من السماء" وكان يقول : فمن ألهم الدعاء فقد أريد به الإجابة فإن الله سبحانه يقول : {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ} وقال : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إذا دَعَانِ}
وفى سنن ابن ماجه من حديث أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من لم يسأل الله يغضب عليه" وهذا يدل على أن رضاه في سؤاله وطاعته وإذا رضي الرب تبارك وتعالى فكل خير في رضاه كما أن كل بلاء ومصيبة في غضبه
وقد ذكر الإمام أحمد في كتاب الزهد : أثرا "أنا الله لا إله إلا أنا إذا رضيت باركت وليس لبركتي منتهى وإذا غضبت لعنت ولعنتي تبلغ السابع من الولد"
(4/75)
وقد دل العقل والنقل والفطرة وتجارب الأمم على اختلاف أجناسها ومللها ونحلها على أن التقرب إلى رب العالمين وطلب مرضاته والبر والإحسان إلى خلقه من أعظم الأسباب الجالبة لكل خير وأضدادها من أكبر الأسباب الجالبة لكل شر فما استجلبت نعم الله واستدفعت نقمه الله بمثل طاعته والتقرب إليه والإحسان إلى خلقه
(4/76)
وقد رتب الله سبحانه حصول الخيرات في الدنيا والآخرة وحصول الشرور في الدنيا والآخرة في كتابه على الأعمال ترتب الجزاء على الشرط والمعلول على العلة والمسبب على السبب وهذا في القرآن يزيد على ألف موضع فتارة يرتب الحكم الخبري الكوني والأمر الشرعي على الوصف المناسب له كقوله تعالى : {فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ} وقوله : {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} قوله : {وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا} وقوله : {إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً} وهذا كثير جدا وتارة ترتبه عليه بصيغة الشرط والجزاء كقوله تعالى : {إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ} وقوله : {فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ} وقوله : {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقاً} ونظائره وتارة يأتي بلام التعليل كقوله : {لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ} وقوله : {لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً} وتارة يأتي بأداة كي التي للتعليل كقوله : {كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} وتارة يأتي بباء السببية كقوله تعالى : {ذَلِكَ(4/77)
بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ} وقوله : {بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} وقوله تعالى : {بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ} وقوله : {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بآيَاتِ اللَّهِ} وتارة يأتي بالمفعول لأجله ظاهرا أو محذوفا كقوله تعالى : {فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأُخْرَى} وكقوله تعالى : {أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ} وقوله : {أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا} أي كراهة أن تقولوا وتارة يأتي بفاء السببية كقوله تعالى : {فكذبوه فعقروها فدمدم عليهم ربهم بذنبهم فسواها} وقوله تعالى : {فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً} وقوله : {فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ} ونظائره وتارة يأتي بأداة لما الدالة على الجزاء كقوله : {فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ} ونظائره وتارة يأتي بإن وما علمت فيه كقوله : {إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ} وقوله في ضد هؤلاء : {إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ} وتارة يأتي بأداة لولا الدالة على ارتباط ما قبلها بما بعدها كقوله : {فَلَوْلا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ} وتارة يأتي بلو الدالة على الشرط كقوله : {وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَهُمْ}
وبالجملة فالقرآن من أوله إلى آخره صريح في ترتب الجزاء بالخير والشر والأحكام الكونية والأمرية على الأسباب بل ترتب أحكام الدنيا والآخرة ومصالحهما ومفاسدهما على الأسباب والأعمال
(4/78)
ومن تفقه هذه المسألة وتأملها حق التأمل انتفع بها غاية النفع ولم يتكل على القدر جهلا منه وعجزا وتفريطا وإضاعة فيكون توكله عجزا وعجزه توكلا بل الفقيه كل الفقيه الذي يرد القدر بالقدر ويدفع القدر بالقدر ويعارض القدر بالقدر بل لا يمكن الإنسان أن يعيش إلا بذلك فإن الجوع والعطش والبرد وأنواع المخاوف والمحاذير هي من القدر والخلق كلهم ساعون في دفع هذا القدر بالقدر وهكذا من وفقه الله وألهمه رشده يدفع قدر العقوبة الأخروية بقدر التوبة والإيمان والأعمال الصالحة فهذا وزان القدر المخوف في الدنيا وما يضاده فرب الدارين واحد وحكمته واحدة لا يناقض بعضها بعضا ولا يبطل بعضها بعضا فهذه المسألة من أشرف المسائل لمن عرف قدرها ورعاها حق رعايتها والله المستعان.
لكن يبقى عليه أمران بهما تتم سعادته وفلاحه :
أحدهما : أن يعرف تفاصيل أسباب الشر والخير وتكون له بصيرة في ذلك بما يشاهده في العالم وما جربه في نفسه وغيره وما سمعه في أخبار الأمم قديما وحديثا.
ومن أنفع ما في ذلك تدبر القرآن فإنه كفيل بذلك على أكمل الوجوه وفيه أسباب الخير والشر جميعا مفصلة مبينة ثم السنة فإنها شقيقة القرآن وهي الوحي الثاني ومن صرف إليهما عنايته اكتفى بهما عن غيرهما وهما يريانك الخير والشر وأسبابهما حتى كأنك تعاين ذلك عيانا وبعد ذلك إذا تأملت أخبار الأمم وأيام الله في أهل طاعته وأهل معصيته طابق ذلك ما علمته من القرآن والسنة ورأيته بتفاصيل ما أخبر الله به ووعد به وعلمت من آياته في الآفاق ما يدلك على أن القرآن حق وأن الرسول حق وأن الله ينجز وعده لا محالة فالتاريخ تفصيل لجزئيات ما عرّفنا الله ورسوله من الأسباب الكلية للخير والشر. أ هـ {الجواب الكافى صـ 14 ـ 19}(4/79)
قوله تعالى : {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى }
قال البقاعى :
حين كان الغني مجيباً كان أولى بأن يكون المحتاج مستجيباً يعني فلذلك سبب عنه قوله إشارة إلى شرط الإجابة {فليستجيبوا لي} إنباء عما قد دعاهم إليه من قربه وقصد بيته بما جبلهم عليه من حاجتهم إليه ، وجاء بصيغة الاستفعال المشعر باستخراج الإجابة مما شأنه الإباء لما في الأنفس من كره فيما تحمل عليه من الوصول إلى بيت لم يكونوا بالغيه إلا بشق الأنفس - انتهى وفيه تصرف. ولما أوجب استجابته سبحانه في كل ما دعا إليه وكانت الاستجابة بالإيمان أول المراتب وأولاها وكانت مراتب الإيمان في قوته وضعفه لا تكاد تتناهى قال مخاطباً لمن آمن وغيره : {وليؤمنوا بي} أي مطلق الإيمان أو حق الإيمان ، ثم علل ذلك بقوله : {لعلهم يرشدون} أي ليكونوا على رجاء من الدوام على إصابة المقاصد والاهتداء إلى طريق الحق. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 349}
قال الماوردى :
وفي قوله تعالى : {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي} أربعة تأويلات :
أحدها : أن الاستجابة بمعنى الإجابة ، يقال استجبت له بمعنى أجبته ، وهذا قول أبي عبيدة ، وأنشد قول كعب بن سعد الغنوي :
وداعٍ دَعَا : يا من يجيب إلي الندا... فلم يستجبه عند ذلك مجيب
أي فلم يجبه.
والثاني : أن الاستجابة طلب الموافقة للإجابة ، وهذا قول ثعلب.
والثالث : أن معناه فليستجيبوا إليَّ بالطاعة.
والرابع : فليستجيبوا لي ، يعني فليدعوني. أ هـ {النكت والعيون حـ 1 صـ 243 ـ 244}
لطيفة
قال الفخر : (4/80)
وجه الناظم أن يقال : إنه تعالى قال : أنا أجيب دعاءك مع أني غني عنك مطلقاً ، فكن أنت أيضاً مجيباً لدعائي مع أنك محتاج إلي من كل الوجوه ، فما أعظم هذا الكرم ، وفيه دقيقة أخرى وهي أنه تعالى لم يقل للعبد : أجب دعائي حتى أجيب دعاءك ، لأنه لو قال ذلك لصار لدعائي ، وهذا تنبيه على أن إجابة الله عبده فضل منه ابتداء ، وأنه غير معلل بطاعة العبد ، وأن إجابة الرب في هذا الباب إلى العبد متقدمة على اشتغال العبد بطاعة الرب. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 87}
إشكال وجوابه
قال الفخر :
إجابة العبد لله إن كانت إجابة بالقلب واللسان ، فذاك هو الإيمان ، وعلى هذا التقدير يكون قوله : {فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِى وَلْيُؤْمِنُواْ بِى} تكراراً محضاً ، وإن كانت إجابة العبد لله عبارة عن الطاعات كان الإيمان مقدماً على الطاعات ، وكان حق النظم أن يقول : فليؤمنوا بي وليستجيبوا لي ، فلم جاء على العكس منه ؟ .
وجوابه : أن الاستجابة عبارة عن الانقياد والاستسلام ، والإيمان عبارة عن صفة القلب ، وهذا يدل على أن العبد لا يصل إلى نور الإيمان وقوته إلا بتقدم الطاعات والعبادات. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 87}
ومعنى الآية أنهم إذا استجابوا لي وآمنوا بي : اهتدوا لمصالح دينهم ودنياهم ، لأن الرشيد هو من كان كذلك. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 87}
وقال البقاعى :
قال الحرالي : والرشد حسن التصرف في الأمر حساً أو معنى في دين أو دنيا ، ومن مقتضى هذه الآية تتفضل جميع أحوال السالكين إلى الله سبحانه وتعالى من توبة التائب من حد بعده إلى سلوك سبيل قربه إلى ما يؤتيه الله من وصول العبد إلى ربه - انتهى.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 349}
فصل فى فضل الدعاء(4/81)
عن أنسٍ رضي اللَّه عنه قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لاَ تَعْجِزُوا عَنِ الدُّعَاءِ ؛ فَإِنَّهُ لَنْ يَهْلِكَ مَعَ الدُّعَاءِ أَحَدٌ " رواه الحاكم أبو عبد اللَّه في "المُسْتَدْرَكِ" على الصحيحين ، وابن حِبَّانَ في "صحيحه" ، واللفظ له ، وقال الحاكم : صحيحُ الإِسناد ، وعن أبي هريرة - رضي اللَّه عنه - قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " الدُّعَاءُ : سِلاَحُ المُؤْمِنِ ، وَعِمَادُ الدِّينِ ، وَنُورُ السَّمَوَاتِ والأَرْضِ " رواه الحاكم في "المستدرك" ، وقال : صحيحٌ ، وعن جابرِ بن عبدِ اللَّهِ - رضي اللَّه عنهما - عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ : " يَدْعُو اللَّهُ بِالمُؤْمِنِ يَوْمَ القِيَامَةِ حتى يُوقَفَ بَيْنَ يَدَيْهِ ، فَيَقُولُ : عَبْدِي ، إِنِّي أَمَرْتُكَ ؛ أَنْ تَدْعُونِي ، وَوَعَدْتُّكَ أَنْ أَسْتَجِيبَ لَكَ ، فَهَلْ كُنْتَ تَدْعُونِي ، فَيَقُولُ : نَعَمْ ، يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : أَمَا إِنَّكَ لَمْ تَدْعُنِي بِدَعْوَةٍ إِلاَّ استجبت لَكَ ، أَلَيْسَ دَعَوْتَنِي يَوْمَ كَذَا وَكَذَا لِغَمٍّ نَزَلَ بِكَ ؛ أَنْ أُفَرِّجَ عَنْكَ فَفَرَّجْتُ عَنْكَ ؟! فَيَقُولُ : نَعَمْ ، يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : فَإِنِّي عَجَّلْتُهَا لَكَ فِي الدُّنْيَا ، وَدَعَوْتَنِي يَوْمَ كَذَا وَكَذَا لِغَمٍّ نَزَلَ بِكَ ، أنْ أُفَرِّجَ عَنْكَ ، فَلَمْ تَرَ فَرَجاً ؟ قَالَ : نَعَمْ ، يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : إِنِّي ادخرت لَكَ بِهَا فِي الجَنَّةِ كَذَا وَكَذَا [و] كَذَا وَكَذَا ، وَدَعَوْتَنِي فِي حَاجَةٍ أَقْضِيهَا لَكَ فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا ، فَقَضَيْتُهَا ، فَيَقُولُ : نَعَمْ ، يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : فَإِنِّي عَجَّلْتُهَا لَكَ فِي الدُّنْيَا ، وَدَعَوْتَنِي فِي يَوْمِ كَذَا وَكَذَا فِي حَاجَةٍ أَقْضِيهَا لَكَ ، فَلَمْ تَرَ قَضَاءَهَا ، فَيَقُولُ : نَعَمْ ، (4/82)
يَا رَبِّ ، فَيَقُولُ : إِنِّي ادخرت لَكَ فِي الجَنَّةِ كَذَا وَكَذَا " قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " فَلاَ يَدَعُ اللَّهُ دَعْوَةً دَعَا بِهَا عَبْدُهُ المُؤْمِنُ إِلاَّ بَيَّنَ لَهُ إِمَّا أَنْ يَكُونَ عَجَّلَ لَهُ فِي الدُّنْيَا ، وإِمَّا أَنْ يَكُونَ ادخر لَهُ فِي الآخِرَةِ ، قَالَ : فَيَقُولُ المُؤْمِنُ فِي ذَلِكَ المَقَامِ : يَا لَيْتَهُ لَمْ يَكُنْ عُجِّلَ لَهُ شَيْءٌ مِنْ دُعَائِهِ " ، رواه الحاكم في "المستدرك".
وعن ثَوْبَانَ - رضي اللَّه عنه - قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَرُدُّ القَدَرِ إِلاَّ الدُّعَاءُ " ، رواه الحاكمُ في "المستدرك" وابنُ حِبَّانَ في "صحيحه" ، واللفظ للحاكمِ ، وقال : صحيحُ الإِسناد.
قلت : وقد أخرج ابن المبارك في "رقائقه" هذا الحديثَ أيضاً ، قال : حدَّثنا سفيانُ ، عن عبد اللَّه بن عيس عن عبد اللَّه بن أبي الجَعْد ، عن ثَوْبَان ، قال : قَال رسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لاَ يَرُدُّ القَضَاءَ إِلاَّ الدُّعَاءُ ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيُحْرَمُ الرِّزْقَ بِالذَّنْبِ يُصِيبُهُ " انتهى.
وعن عائشةَ - رضي اللَّه عنها - قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " لاَ يُغْنِي حَذَرٌ مَنْ قَدَرٍ ، وَالدُّعَاءُ يَنْفَعُ مِمَّا نَزَلَ وَمِمَّا لَمْ يَنْزِلْ ، وَإنَّ البَلاَءَ لَيَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ ، فَيَتَلَقَّاهُ الدُّعَاءُ ، فَيَعْتَلِجَانِ إلى يَوْمِ القِيَامَةِ " رواه الحاكم في "مستدركه" ، وقال : صحيحُ الإِسناد ، وقوله ؛ "فَيَعْتَلِجَانِ" ، أي : يتصارعان.
(4/83)
وعن سَلْمَانِ - رضي اللَّه عنه - قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ سَرَّهُ أَنْ يُسْتَجَابَ لَهُ عِنْدَ الكُرَبِ ، وَالشَّدَائِدِ ، فَلْيُكْثِرِ الدُّعَاءَ فِي الرَّخَاءِ " ، رواه الحاكمُ أيضاً ، وقال : صحيحُ الإِسناد ، وعن ابْنِ عمر - رضي اللَّه عنهما - قال : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : " مَنْ فُتِحَ لَهُ فِي الدُّعَاءِ مِنْكُمْ ، فُتِحَتْ لَهُ أَبْوَابُ الجَنَّةِ " ، قال الغَزَّالِيُّ - رحمه اللَّه - في كتابِ "الإِحياء" : "فإِن قُلْتَ : فما فائدةُ الدعاءِ ، والقضاءُ لا يُرَدُّ ؟ فاعلمْ أنَّ من القضاءِ رَدَّ البلاء بالدعاءِ ، فالدعاءُ سببٌ لردِّ البلاء ، واستجلابٌ للرحمة ؛ كما أن التُّرْس سبب لردِّ السهم ، ثم في الدعاءِ من الفائدة أنه يستدْعِي حضورَ القَلْب ، مع اللَّه عزَّ وجلَّ ، وذلك منتهى العبادَاتِ ، فالدعاءُ يردُّ القلْبَ إِلى اللَّه عز وجلَّ بالتضرُّع والاستكانةِ" ، فانظره ، فإِني اثرت الاختصار ، وانظر "سِلاَحَ المُؤْمن" الذي منه نقلْتُ هذه الأحاديثَ.
ومن "جامع الترمذيِّ". عن أبي خُزَامَةَ ، واسمه رفَاعَةُ ، عن أبِيهِ ، قال : " سَأَلْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ، فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللَّهِ ، أَرَأَيْتَ رُقًى نَسْتَرْقِيهَا ، وَدَوَاءً نتداوى بِهِ ، وَتُقَاةً نَتَّقِيهَا ، هَلْ تَرُدُّ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ شَيْئاً ؟ قَالَ : هِيَ مِنْ قَدَرِ اللَّهِ " ؛ قال أبو عيسى : هذا حديث حسنً صحيحٌ.
وانظر جوابَ عمر لأبي عُبَيْدة "نَعَمْ ، نَفِرُّ من قدر اللَّه إِلى قدر اللَّه... " الحديث هو من هذا المعنى. انتهى ، واللَّه الموفق بفضله. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 143}
فائدةٌ(4/84)
قال صاحب "غاية المَغْنَم في اسم اللَّه الأَعْظَم" وهو إِمام عارفٌ بعلْمِ الحديث ، وكتابه هذا يَشْهَدُ له ، قال : ذكر الدِّينَوَرِيُّ في "كتاب المُجَالَسَة" ، عن ليثِ بنِ سُلَيْمٍ ؛ أن رجلاً وقَفَ على قوم ، فقال : مَنْ عنده ضيافةٌ هذه الليلةَ ، فسكَتَ القومُ ، ثم عاد ، فقالَ رجُلٌ أعمى : عندي ، فذَهَبَ بِهِ إلى منزله ، فعشَّاه ، ثم حدَّثه ساعةً ، ثم وضع لهُ وَضُوءاً ، فقام الرجُلُ في جَوْف اللَّيْلِ ، فتوضَّأ ، وصلى ما قُضِيَ له ، ثم جَعَلَ يدعو ، فانتبه الأعمى ، وجَعَلَ يسمع لدْعَائِهِ ، فقال : اللَّهُمَّ ، ربَّ الأرواحِ الفانيةِ ، والأجسادِ الباليةِ ، أسألُكَ بطَاعَةِ الأرواحِ الرَّاجعَةِ إلى أجسادها ، وبطاعةِ الأَجْسَادِ الملتئمَةِ في عروقها ، وبطاعة القُبُور المتشقِّقة عن أهلها ، وبدَعْوتِكَ الصادقةِ فيهم ، وأخذِكَ الحقَّ منهم ، وتبريز الخلائقِ كلِّهم من مخافَتِكَ ينتظرُونَ قضاءَكَ ، ويرْجُون رحمتَكَ ، ويخافُونَ عذابَكَ ، أَسأَلُك أنْ تَجْعَلَ النُّور في بَصَري ، والإِخلاصَ في عَمَلِي ، وشُكْرَكَ في قَلْبِي ، وذِكْرَكَ في لِسَانِي في الليلِ والنهارِ ، ما أبقيتَنِي ، قال : فَحَفِظَ الأعمى هذا الدعاءَ ، ثم قَامَ ، فَتَوضَّأ ، وصلى ركعتَيْنِ ، ودعا به فأصْبَحَ قدْ رَد اللَّهُ عليه بَصَرَهُ. انتهى من "غاية المَغْنَم في اسم اللَّه الأعظَم" ، وإِطلاَقُ الفناءِ على الأرواحِ فيه تجوُّز ، والعقيدةُ أن الأرواح باقيةٌ لا تفنى ، وإِنَّما عبر عن مفارقتها لأجسادها بالفَنَاءِ ، هذا هو مراده.
(4/85)
وروى ابنُ المبارك في "رقائقه" بسنده عن النبيِّ صلى الله عليه وسلم ؛ أنه قَالَ : " إِنَّ القُلُوبَ أَوْعِيَةٌ ، وَبَعْضُهَا أوعى مِنْ بَعْضٍ ، فادعوا اللَّهَ أَيُّهَا النَّاسُ ، حِينَ تَدْعُونَ ، وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالإِجَابَةِ ؛ فَإِنَّ اللَّهَ لاَ يَسْتَجِيبُ لِعَبْدٍ دَعَاهُ عَنْ ظَهْرِ قَلْبٍ غَافِلٍ " انتهى.
قال ابن عطاء اللَّهِ في "لطائفِ المِننِ" : وإِذا أراد اللَّه أن يعطِيَ عبداً شيئاً وهبه الاضطرار إِلَيْهِ فيه ، فيطلبه بالاِضطرارِ ، فيعطى ، وإِذا أراد اللَّه أن يمنع عبداً أمراً ، منعه الاضطرَار إِلَيْه فيه ، ثم منعه إِياه ، فلا يُخَافُ علَيْكَ أن تضطرَّ ، وتطلب ، فلا تعطى ، بل يُخَافُ عليك أنْ تُحْرَمَ الاضطرارَ ، فتحرم الطَّلَب ، أو تَطْلُب بغير اضطرارٍ ، فتحرم العطاء. انتهى. أ هـ {الجواهر الحسان حـ 1 صـ 145}
من لطائف الإمام القشيرى فى الآية
قوله جلّ ذكره : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى فَإِنِّى قَرِيبٌ}.
سؤال كل أحدٍ يدلُّ على حاله ؛ لم يسألوا عن حكم ولا عن مخلوق ولا عن دين ولا عن دنيا ولا عن عقبى بل سألوا عنه فقال تعالى : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِى عَنِّى}. وليس هؤلاء من جملة من قال : {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الجِبَالِ} [طه : 105] ، ولا من جملة من قال : {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ اليَتَامَى} [البقرة : 220] ولا من جملة من قال : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المَحِيضِ} [البقرة : 222] ، ولا من جملة من قال : {وَيَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ} [الإٍسراء : 85] ، ولا من جملة من قال : و{يَسْئَلُونَكَ عَنِ الخَمْرِ والمَيْسِرِ} [البقرة : 219] ، و{يَسْئَلُونَكَ عِنِ الشَّهْرِ الحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ} [البقرة : 217].
هؤلاء قوم مخصوصون : {وَإِذَا سَأَلَكَ... عِبَادِى عَنِّى}.(4/86)
أي إذا سألك عبادي عني فبماذا تجيبهم ؟ ليس هذا الجواب بلسانك يا محمد ، فأنت وإنْ كنتَ السفير بيننا وبين الخلْق فهذا الجواب أنا أتولاه {فَإِنِّى قَرِيبٌ} (رَفَعَ الواسطة من الأغيار عن القربة فلم يَقُل قل لهم إني قريب بل قال جل شأنه : {فَإِنِّى قَرِيبٌ}).
ثم بَيَّن أن تلك القربة ما هي : حيث تقدَّس الحقُّ سبحانه عن كل اقتراب بجهة أو ابتعاد بجهة أو اختصاص ببقعة فقال : {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} وإن الحق سبحانه قريب - من الجملة والكافة - بالعلم والقدرة والسماع والرؤية ، وهو قريب من المؤمنين على وجه التبرية والنصرة وإجابة الدعوة ، وجلَّ وتقدَّس عن أن يكون قريباً من أحد بالذات والبقعة ؛ فإنه أحديٌّ لا يتجهَ في الأقطار ، وعزيز لا يتصف بالكُنْهِ والمقدار.
قوله جلّ ذكره : {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتِجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ}.
لم يَعِدْ إجابة من كان باستحقاق زهد أو في زمان عبادة بل قال دعوة الداعي متى دعاني وكيفما دعاني وحيثما دعاني ثم قال : {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى} هذا تكليف ، وقوله : {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ} تعريف وتخفيف ، قدَّم التخفيف على التكليف ، وكأنه قال : إذا دعوتني - عبدي - أَجَبْتُك ، فأَجِبنِي أيضاً إذا دَعَوْتُك ، أنا لا أرضى بِرَدِّ دعائِك فلا تَرْضَ - عبدي - بردِّي من نفسك. إجابتي لك بالخير تحملك - عبدي - على دعائي ، ولا دعاؤك يحملني على إجابتك. {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِى وَلْيُؤْمِنُوا بِى} : وليثقوا في ، فإني أجيب من دعاني ، قال قائلهم :
يا عَزُّ أُقْسِم بالذي أنا عبده... وله الحجيج وما حوت عرفات
لا أبتغي بدلاً سِواكِ خليلة... فشقِي بقولي والكرامُ ثِقات
ثم قال في آخر الآية : {لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أي ليس القصد من تكليفك ودعائك إلا وصولك إلى إرشادك. أ هـ {لطائف الإشارات حـ 1 صـ 156 ـ 157}(4/87)
كلام نفيس للعلامة السعدى فى الآية
{ وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ }.
هذا جواب سؤال ، سأل النبي صلى الله عليه وسلم بعض أصحابه فقالوا : يا رسول الله ، أقريب ربنا فنناجيه ، أم بعيد فنناديه ؟ فنزل : {وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ} لأنه تعالى ، الرقيب الشهيد ، المطلع على السر وأخفى ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور ، فهو قريب أيضا من داعيه ، بالإجابة ، ولهذا قال : {أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ} والدعاء نوعان : دعاء عبادة ، ودعاء مسألة.
والقرب نوعان : قرب بعلمه من كل خلقه ، وقرب من عابديه وداعيه بالإجابة والمعونة والتوفيق.
فمن دعا ربه بقلب حاضر ، ودعاء مشروع ، ولم يمنع مانع من إجابة الدعاء ، كأكل الحرام ونحوه ، فإن الله قد وعده بالإجابة ، وخصوصا إذا أتى بأسباب إجابة الدعاء ، وهي الاستجابة لله تعالى بالانقياد لأوامره ونواهيه القولية والفعلية ، والإيمان به ، الموجب للاستجابة ، فلهذا قال : {فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ} أي : يحصل لهم الرشد الذي هو الهداية للإيمان والأعمال الصالحة ، ويزول عنهم الغي المنافي للإيمان والأعمال الصالحة. ولأن الإيمان بالله والاستجابة لأمره ، سبب لحصول العلم كما قال تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا }. أ هـ {تفسير السعدى صـ 86}
( بصيرة فى الدعاء )
(4/88)
الدّعاء : الرّغبة إِلى الله تعالى. وقد دعا يدعو دُعاء ودَعْوَى ، والدعاءُ كالنداءِ أَيضاً. لكن النداءُ قد يقال إِذا قيل يَا وَأَيَا ونحو ذلك من غير أَن يُضمّ إِليه الاسم ، والدّعاءُ لا يكاد يقال إِلاَّ إِذا كان معه الاسم نحو يا فلان ، وقد يستعمل كلُّ واحد منهما موضع الآخر. ويستعمل أَيضاً استعمال التَّسمية نحو : دعوت ابنى زيداً ، أَى سمّيته. قال الله تعالى : {لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً} حثَّا على تعظيمه صلى الله عليه وسلَّم. وذلك مخاطبة لمن يقول : يا محمد. ودعوته : إِذا سأَلته ، وإِذا استغثته. قال الله تعالى : {أَوْ أَتَتْكُمْ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ} تنبيهاً أَنَّكم إِذا أَصابتكم شدّة لم تفزَعُوا إِلاَّ إِليه. وقوله : {وَادْعُواْ ثُبُوراً كَثِيراً} وهو أَن يقول : يا لهفاهْ واحسرتاهْ ونحو ذلك من أَلفاظ التَّأَسف. والمعنى : يحصل لكم غموم كثيرة. وقوله تعالى : {ادْعُ لَنَا رَبَّكَ} أَى سَلْه. والدعاءُ إِلى الشئ : الحثُّ على قصدهِ. وقوله {لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلاَ فِي الآخِرَةِ} أَى رفعة وتنويه. {ولهم الدَّعْوَة على غيرهم} أَى يُبدأَ بهم فى الدّعاءِ. و(تداعَوْا عليهم تجمّعوا). والداعية : صريخ الخيل فى الحروب. ودعاه اللهُ بمكروه : أَنزله به. وادّعى كذا زعم أَنَّه له ، حقّاً كان أَو باطلاً. والاسم الدَّعوة والدَّعاوة والدِّعوة والدِّعاوة. والدَّعوة الْحِلْف ، والدّعاء إِلى الطَّعام ويضمّ كالمَدْعاة. والدَّعوى : الادّعاءِ. قال {فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ} والدّعوى أَيضاً الدّعاء كقوله تعالى : {وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ للَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} وقال تعالى : {وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ نُزُلاً} أَى ما تطلبون. والدّعاءُ يَرِدُ فى القرآن على وجوه :
(4/89)
الأَوّل : بمعنى القول : {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ} أَى قولهم.
الثانى : بمعنى العبادة {قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا} أَى أَنعبدُ. {يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ} أَى يعبد ، وله نظائر.
الثالث : بمعنى النِّدَاء {وَلاَ تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَآءَ} أَى النِّداءَ {فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ} أَى نادى {وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً} أَى بندائك.
الرّابع : بمعنى الاستعانة والاستغاثة {وَادْعُواْ شُهَدَآءَكُم} أَى استعينوا بهم {وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُمْ} أَى استعينوا بهم.
الخامس : بمعنى الاستعلام والاستفهام {قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا} أَى استفهم.
السّادس : بمعنى العذاب والعقوبة {تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى} أَى تُعذّب.
السّابع : بمعنى العَرْض {وَياقَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ} أَى أَعرضها عليكم {وتَدْعُونَنى إِلى النَّارِ} أَى تعرضونها علىَّ النارَ.
الثامن : دعوة نوحٍ قومه {إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً}.
التَّاسع : دعوة خاتم الأَنبياءِ لكافَّة الْخَلْقِ {ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ}.
العاشر : دعوة الخليل للطيور {ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً}.
الحادى عشر : دعاءُ إِسرافيل بنفخ الصّور يوم النشور لساكنى القبور {يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُّكُرٍ}.
الثانى عشر : دعاء الخَلْق ربَّهم تعالى {ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ}.
قال الشاعر :
وصبراً فى مجال الموت صبراً فما نيلُ الخلود بمستطاع
سبيل ُ الموت مَنْهَجُ كل حىّ وداعيه لأَهل الأَرض داع(4/90)
وممّا ورد فى القرآن أَيضاً من وجوه ذلك دعوة إِبليس {إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ} {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ} ودعوة الهادين من الأَئمّة الأَعلام {وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا} ودعوة إسرافيل {ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأَرْضِ} ودعوة الكَفَرة الضَّالِّين {وَمَا دُعَآءُ الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ} ودعوة الحق تعالى إِلى الجنَّةِ ذات الظِّلال {وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى دَارِ السَّلاَمِ} {وَاللَّهُ يَدْعُواْ إِلَى الْجَنَّةِ} {فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ}.
أ هـ {بصائر ذوى التمييز حـ 3 صـ 43}
كلام جامع ونفيس للعلامة القرطبى فى باب الدعاء
قال سهل بن عبد اللَّه التُّسْتَرِيّ : شروط الدعاء سبعة : أوّلها التضرّع والخوف والرجاء والمداومة والخشوع والعموم وأكل الحلال. وقال ابن عطاء : إن للدّعاء أركاناً وأجنحة وأسباباً وأوقاتاً ؛ فإن وافق أركانه قَوِيَ ، وإن وافق أجنحته طار في السماء ، وإن وافق مواقيته فاز ، وإن وافق أسبابه أنجح.
فأركانه حضور القلب والرأفة والاستكانة والخشوع ، وأجنحته الصدق ، ومواقيته الأسحار ، وأسبابه الصلاة على محمد صلى الله عليه وسلم. وقيل : شرائطه أربع أوّلها حفظ القلب عند الوحدة ، وحفظ اللسان مع الخلق ، وحفظ العين عن النظر إلى ما لا يَحِلّ ، وحفظ البطن من الحرام. وقد قيل : إنّ مِن شَرْط الدعاء أن يكون سليماً من اللّحن ؛ كما أنشد بعضهم :
ينادي ربَّه باللّحن لَيْثٌ... كذاك إذا دعاه لا يجيب(4/91)
وقيل لإبراهيم بن أدْهم : ما بالنا ندعو فلا يُستجاب لنا ؟ قال : لأنكم عرفتم الله فلم تطيعوه ، وعرفتم الرسول فلم تتّبعوا سُنّته ، وعرفتم القرآن فلم تعملوا به ، وأكلتم نِعم الله فلم تؤدّوا شكرها ، وعرفتم الجنة فلم تطلبوها ، وعرفتم النار فلم تهربوا منها ، وعرفتم الشيطان فلم تحاربوه ووافقتموه ، وعرفتم الموت فلم تستعدّوا له ، ودفنتم الأموات فلم تعتبروا ، وتركتم عيوبكم واشتغلتم بعيوب الناس. قال عليّ رضي الله عنه لنَوْف البِكَالِيّ : يا نَوْف ، إن الله أوحى إلى داود أن مُرْ بني إسرائيل ألاّ يدخلوا بيتاً من بيوتي إلا بقلوب طاهرة ، وأبصار خاشعة ، وأيدٍ نقيّة ؛ فإني لا أستجيب لأحد منهم ، ما دام لأحد من خلقي مظلمة. يا نوف ، لا تكونن شاعراً ولا عَرِيفاً ولا شرطياً ولا جابياً ولا عَشّاراً ، فإن داود قام في ساعة من الليل فقال : إنها ساعة لا يدعو عبد إلاّ استجيب له فيها ، إلا أن يكون عَرِيفاً أو شرطيًّا أو جابياً أو عَشَاراً ، أو صاحب عَرْطَبَة ، وهي الطُّنبور ، أو صاحب كُوبة ، وهي الطبل. قال علماؤنا : ولا يَقُل الداعي : اللَّهُمّ أعطني إنْ شئتَ ، اللَّهُمّ اغفر لي إن شئتَ ، اللَّهُمّ ارحمني إن شئتَ ؛ بل يَعري سؤاله ودعاءه من لفظ المشيئة ، ويسأل سؤال من يعلم أنه لا يفعل إلا أن يشاء. وأيضاً فإن في قوله : "إن شئت" نوع من الاستغناء عن مغفرته وعطائه ورحمته ؛ كقول القائل : إن شئت أن تعطيني كذا فافعل ؛ لا يستعمل هذا إلا مع الغنيّ عنه ، وأما المضطرّ إليه فإنه يعزم في مسألته ويسأل سؤال فقير مضطرّ إلى ما سأله. روى الأئمة واللفظ للبخاريّ عن أنس بن مالك قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إذا دعا أحدكم فليعزِم المسألة ولا يقولنّ اللَّهُمّ إن شئتَ فأعطني فإنه لا مُسْتَكْرِه له " وفي الموَطّأ : " اللَّهُمّ اغفر لي إن شئتّ ، اللّهُمّ ارحمني إن شئت " قال علماؤنا : قوله "فليعزِم المسألة" دليل على(4/92)
أنه ينبغي للمؤمن أن يجتهد في الدعاء ويكون على رجاء من الإجابة ، ولا يقنط من رحمة الله ؛ لأنه يدعو كريماً. قال سفيان ابن عُيَيْنَة : لا يمنعنّ أحداً من الدعاء ما يعلمه من نفسه فإن الله قد أجاب دعاء شرّ الخلق إبليس ؛ قال : رَبّ فأنْظِرني إلى يوم يُبعثون ؛ قال فإنك من المنظرين.
وللدّعاء أوقات وأحوال يكون الغالب فيها الإجابة ، وذلك كالسَّحَر ووقت الفطر ، وما بين الأذان والإقامة ، وما بين الظهر والعصر في يوم الأربعاء ؛ وأوقات الاضطرار وحالة السفر والمرض ، وعند نزول المطر والصَّف في سبيل الله. كل هذا جاءت به الآثار ، ويأتي بيانها في مواضعها. وروى شَهْر بن حَوْشَب أن أمّ الدّرداء قالت له : يا شَهْر ، ألا تجد القشعريرة ؟ قلت نعم. قالت : فادع الله فإن الدعاء مستجاب عند ذلك. وقال جابر بن عبد اللَّه : دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجد الفتح ثلاثاً يوم الإثنين ويوم الثلاثاء فاستجيب له يوم الأربعاء بين الصلاتين. فعرفتُ السرور في وجهه. قال جابر : ما نزل بي أمْرٌ مُهِمّ غليظ إلا تَوَخّيتُ تلك الساعة فأدعو فيها فأعرف الإجابة. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 313}
قوله تعالى {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآَنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)}(4/93)
قال ابن الجوزى :
سبب نزول هذه الآية أن الصحابة كانوا إذا نام الرجل قبل الأكل والجماع ، حرما عليه إلى أن يفطر ، فجاء شيخ من الأنصار وهو صائم إلى أهله ، فقال : عشوني ، فقالوا : حتى نسخن لك طعاماً ، فوضع رأسه فنام ، فجاؤوا بالطعام ، فقال : قد كنت نمت ، فبات يتقلب ظهراً لبطن ، فلما أصبح أتى النبي صلى الله عليه وسلم ؛ فأخبره ، فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله! إني أردت أهلي الليلة ، فقالت : إنها قد نامت ، فظننتها تعتل ، فواقعتها ، فأخبرتني أنها قد نامت ، فأنزل الله تعالى في عمر بن الخطاب : {أحل لكم ليلة الصيام الرفث إلى نسائكم} وأنزل الله في الأنصاري : {وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر} هذا قول جماعة من المفسرين. واختلفوا في اسم هذا الأنصاري على أربعة أقوال. أحدها : قيس بن صرمة ، قاله البراء. والثاني : صرمة بن أنس ، قاله القاسم بن محمد ، وقال عبد الرحمن بن أبي ليلى : صرمة بن مالك. والثالث : ضمرة بن أنس. والرابع : أبو قيس بن عمر. وذكر القولين أبو بكر الخطيب.(1) أ هـ {زاد المسير حـ 1 صـ 191}
________________
(1) الراجح أنه قيس بن صرمة الأنصارى ، فهو المصرح به فى البخارى {1782} والله أعلم.(4/94)
مناسبة الآية لما قبلها
قال البقاعى :
ولما تصوروا لهذه الآية الشريفة قربه وحبه على عظمته وعلوه فتذكروا لذيذ مخاطبته فيما قبل فاشتاقوا إليها وكان قد يسر لهم أمر الصوم كما على جميعهم وكيفاً على أهل الضرورة منهم كانوا كأنهم سألوه التيسير على أهل الرفاهية فيما حرم عليهم كما حرم على أهل الكتاب الوطء في شهر الصوم والأكل بعد النوم فقال تحقيقاً للإجابة والقرب : {أحل لكم} فأشعر ذلك بأنه كان حراماً {ليلة} أي في جميع ليلة {الصيام الرفث} وهو ما يواجه به النساء في أمر النكاح ، فإذا غير فلا رفث عند العلماء من أهل اللغة ، ويدل عليه وصله بحرف الانتهاء بياناً لتضمين الإفضاء أي مفضين {إلى نسائكم} بالجماع قولاً وفعلاً ، وخرج بالإضافة نساء الغير. أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 350}
قال الفخر :
ذهب جمهور المفسرين إلى أن في أول شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، كان الصائم إذا أفطر حل له الأكل والشرب والوقاع بشرط أن لا ينام وأن لا يصلي العشاء الأخيرة فإذا فعل أحدهما حرم عليه هذه الأشياء ، ثم إن الله تعالى نسخ ذلك بهذه الآية ، وقال أبو مسلم الأصفهاني هذه الحرمة ما كانت ثابتة في شرعنا ألبتة ، بل كانت ثابتة في شرع النصارى ، والله تعالى نسخ بهذه الآية ما كان ثابتاً في شرعهم ، وجرى فيه على مذهبه من أنه لم يقع في شرعنا نسخ ألبتة ، واحتج الجمهور على قولهم بوجوه.
الحجة الأولى : أن قوله تعالى : {كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ} [البقرة : 183] يقتضي تشبيه صومنا بصومهم ، وقد كانت هذه الحرمة ثابتة في صومهم ، فوجب بحكم هذا التشبيه أن تكون ثابتة أيضاً في صومنا ، وإذا ثبت أن الحرمة كانت ثابتة في شرعنا ، وهذه الآية ناسخة لهذه الحرمة لزم أن تكون هذه الآية ناسخة لحكم كان ثابتاً في شرعنا.(4/95)
الحجة الثانية : التمسك بقوله تعالى : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ} ولو كان هذا الحل ثابتا لهذه الأمة من أول الأمر لم يكن لقوله {أُحِلَّ لَكُمْ} فائدة.
الحجة الثالثة : التمسك بقوله تعالى : {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} ولو كان ذلك حلالاً لهم لما كان بهم حاجة إلى أن يختانون أنفسهم.
الحجة الرابعة : قوله تعالى : {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ} ولولا أن ذلك كان محرماً عليهم وأنهم أقدموا على المعصية بسبب الإقدام على ذلك الفعل ، لما صح قوله : {فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنكُمْ}.
الحجة الخامسة : قوله تعالى : {فالآن باشروهن} ولو كان الحل ثابتا قبل ذلك كما هو الآن لم يكن لقوله : {فالآن باشروهن} فائدة.
الحجة السادسة : هي أن الروايات المنقولة في سبب نزول هذه الآية دالة على أن هذه الحرمة كانت ثابتة في شرعنا ، هذا مجموع دلائل القائلين بالنسخ. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 88}
قال فى روح البيان :
{ أحل لكم} تقديم الظرف على القائم مقام الفاعل للتشويق فإن ما حقه التقديم إذا أخر تبقى النفس مترقبة إليه فيتمكن عندها وقت وروده فضل تمكن أى أبيح لكم. أ هـ {روح البيان حـ 1 صـ 372}
قوله تعالى {ليلة الصيام}
قال الواحدي : ليلة الصيام أراد ليالي الصيام فوقع الواحد موقع الجماعة ، ومنه قول العباس بن مرادس :
فقلنا أسلموا إنا أخوكم.. فقد برئت من الأحن الصدور
وأقول فيه وجه آخر وهو أنه ليس المراد من {لَيْلَةَ الصيام} ليلة واحدة بل المراد الإشارة إلى الليلة المضافة إلى هذه الحقيقة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 88}
قال الليث : الرفث أصله قول الفحش ، وأنشد الزجاج :
ورب أسراب حجيج كقلم.. عن اللغا ورفث التكلم
يقال رفث في كلامه يرفث وأرفث إذا تكلم بالقبيح قال تعالى : {فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ} [البقرة : 197] وعن ابن عباس أنه أنشد وهو محرم :
وهن يمشين بنا هميساً.. أن يصدق الطير ننك لميسا (1)
فقيل له : أترفث ؟ فقال : إنما الرفث ما كان عند النساء فثبت أن الأصل في الرفث هو قول الفحش ثم جعل ذلك اسما لما يتكلم به عند النساء من معاني الإفضاء ، ثم جعل كناية عن الجماع وعن كل ما يتبعه. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 89}
________________
(1) هذا الكلام يفتقر إلى سند صحيح وفى نسبته لحبر الأمة وترجمان القرآن ـ رضى الله عنه ـ نظر وخصوصا فى هذا الموطن والمقام مقام ذكر واستغفار وتنصل من الذنوب والأوزار. والله أعلم.(4/96)
وقال الزَّجَّاج : - ويُروى عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما - " إِنَّ الرَّفثَ كلمةٌ جامعةٌ لكلِّ ما يريدُه الرجُلُ من المَرْأَةِ " ، وقيل : الرَّفث : الجِمَاعُ نفسُهُ ، وأنشد : [الكامل ]
وَيُرَيْنَ مِنْ أَنَسِ الْحَدِيثِ زَوَانِياً... وَلَهُنَّ عَنْ رَفَثِ الرِّجَالِ نِفَارُ
وقول الآخر : [المتقارب ]
فَظِلْنَا هَنَالِكَ فِي نِعْمَةٍ... وَكُلِّ اللَّذَاذَةِ غَيْرَ الرَّفَثْ
ولا دليل ؛ لاحتمالِ إرادة مقدِّمات الجماع ؛ كالمداعَبَةِ والقُبْلَة. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 303}
سؤال : فإن قيل : لم كنى ههنا عن الجماع بلفظ الرفث الدال على معنى القبح بخلاف قوله : {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء : 21] {فَلَمَّا تَغَشَّاهَا} [الأعراف : 189] {أَوْ لامستم النساء} [النساء : 43] {دَخَلْتُمْ بِهِنَّ} [النساء : 23] {فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ} [البقرة : 223] {مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ} [البقرة : 236] {فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ} [النساء : 24] {وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ} [البقرة : 222].(4/97)
جوابه : السبب فيه استهجان ما وجد منهم قبل الإباحة كما سماه اختيانا لأنفسهم ، والله اعلم. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 257}
واستدرك ابن عرفة على هذا الجواب بقوله :
والجواب عندي بعكس هذا وهو أنّه مبالغة في الإباحة والتحليل فعبر عنه باللّفظ الصّريح حتى لا يبقى عندهم فيه شك ولا توهم بوجه. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 238}
سؤال : لم عدى الرفث بـ {إلى} ؟
الجواب : قال الأخفش : إنما عدى الرفث بإلى لتضمنه معنى الإفضاء في قوله : {وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ} [النساء : 21 ]. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 90}
وقال ابن جني في سر الصناعة في مثل هذا : إنّ الرفث يتعدّى بالباء والإفضاء بإلى فذكر الرّفث ولم يذكر معموله ، وذكر معمول الإفضاء ولم يذكر عامله إشعارا بإرادة الجميع وأن الكل مقصود بالذكر. أ هـ {تفسير ابن عرفة صـ 238}
قال الآلوسى :
قوله تعالى : {إِلَى نِسَائِكُمْ}
والنساء جمع نسوة فهو جمع الجمع أو جمع امرأة على غير اللفظ وإضافتها إلى ضمير المخاطبين للاختصاص إذ لا يحل الإفضاء إلا لمن اختص بالمفضي إما بتزويج أو ملك. أ هـ {روح المعانى حـ 2 صـ 65}
فائدة
قال الفخر :
قوله : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث} يقتضي حصول الحل في جميع الليل لأن {لَيْلَةَ} نصب على الظرف ، وإنما يكون الليل ظرفاً للرفث لو كان الليل كله مشغولا بالرفث ، وإلا لكان ظرف ذلك الرفث بعض الليل لاكله ، فعلى هذا النسخ حصل بهذا اللفظ ، وأما الذي بعده في قوله : {وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود} فذاك يكون كالتأكيد لهذا النسخ ، وأما الذي يقول : إن قوله : {أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث} يفيد حل الرفث في الليل ، فهذا القدر لا يقتضي حصول النسخ به فيكون الناسخ هو قوله : {كُلُواْ واشربوا }.
أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 90}(4/98)
قوله تعالى : {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ }
المناسبة
قال البقاعى :
ولما كان الرفث والوقاع متلازمين غالباً قال مؤكداً لإرادة حقيقة الرفث وبيان السبب في إحلاله : {هن} أي نساؤكم {لباس لكم} تلبسونهن ، والمعنى : أبيح ذلك في حالة الملابسة أو صلاحيتها ، وهو يفهم أنه لا يباح نهاراً - والله سبحانه وتعالى أعلم ؛ ويجوز أن يكون تعليلاً لأن اللباس لا غنى عنه والصبر يضعف عنهن حال الملابسة والمخالطة.
ولما كان الصيام عامّاً للصنفين قال : {وأنتم لباس لهن} يلبسنكم ، ثم علل ذلك بقوله مظهراً لعظمة هذه الأمة عنده في إرادته الرفق بها {علم الله} أي المحيط علمه ورحمته وله الإحاطة الكاملة كما قدم من كونه قريباً اللازم منه كونه رقيباً {أنكم كنتم تختانون} أي تفعلون في الخيانة في ذلك من المبادرة إليه فعل الحامل نفسه عليه ، والخيانة التفريط في الأمانة ، والأمانة ما وضع ليحفظ ، روى البخاري في التفسير عن البراء رضي الله تعالى عنه قال : " لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله عزّ وجلّ {علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم} " ، روى البخاري والترمذي والنسائي عن البراء أيضاً رضي الله تعالى عنه قال : " كان الرجل إذا صام فنام لم يأكل إلى مثلها " وإن صرمة بن قيس الأنصاري رضي الله تعالى عنه - فذكر حديثه في نومه قبل الأكل وأنه غشي عليه قبل انتصاف النهار فنزلت الآية.
(4/99)
ولما كان ضرر ذلك لا يتعداهم قال : {أنفسكم} ، ثم سبب عنه قوله : {فتاب عليكم}. قال الحرالي : ففيه يسر من حيث لم يؤاخذوا بذنب حكم خالف شرعة جبلاتهم فعذرهم بعلمه فيهم ولم يؤاخذهم بكتابه عليهم ، وفي التوبة رجوع إلى مثل الحال قبل الذنب " التائب من الذنب كمن لا ذنب له " وكانت هذه الواقعة لرجل من المهاجرين ورجل من الأنصار ليجتمع اليمن في الطائفتين ، فإن أيمن الناس على الناس من وقع في مخالفة فيسر الله حكمها بوسيلة مخالفته ، كما في هذه الآية التي أظهر الله سبحانه وتعالى الرفق فيها بهذه الأمة من حيث شرع لها ما يوافق كيانها وصرف عنها ما علم أنها تختان فيه لما جبلت عليه من خلافه ، وكذلك حال الآمر إذا شاء أن يطيعه مأموره يأمره بالأمور التي لو ترك ودواعيه لفعلها وينهاه عن الأشياء التي لو ترك ودواعيه لاجتنبها ، فبذلك يكون حظ حفظ المأمور من المخالفة ، وإذا شاء الله تعالى أن يشدد على أمة أمرها بما جبلها على تركه ونهاها عما جبلها على فعله ، فتفشوا فيها المخالفة لذلك ، وهو من أشد الآصار التي كانت على الأمم فخفف عن هذه الأمة بإجراء شرعتها على ما يوافق خلقتها ، فسارع سبحانه وتعالى لهم إلى حظ من هواهم ، كما قالت عائشة رضي الله تعالى عنها للنبي صلى الله عليه وسلم : " إن ربك يسارع إلى هواك " ليكون لهم حظ مما لنبيهم كليته ، وكما قال عليه الصلاة والسلام لعلي رضي الله تعالى عنه : " اللّهم أدر الحق معه حيث دار " كان صلى الله عليه وسلم يأمر الشجاع بالحرب ويكف الجبان عنه ، حتى لا تظهر فيمن معه مخالفة إلا عن سوء طبع لا يزعه وازع الرفق ، وذلك قصد العلماء الربانيين الذين يجرون المجرب والمدرب على ما هو أليق بحاله وجبلة نفسه وأوفق لخلقه وخلقه ، ففيه أعظم اللطف لهذه الأمة من ربها ومن نبيها ومن أئمة زمانها ، ومنه قوله عليه الصلاة والسلام : " لقد هممت أن أنهى عن الغيلة حتى سمعت أن فارس والروم يصنعون ذلك(4/100)
فلا يضر ذلك أولادهم شيئاً " لتجري الأحكام على ما يوافق الجبلات وطباع الأمم لكونه رسولاً إلى الناس كافة على اختلاف طباعهم ، وما في السنة والفقه من ذلك فمن مقتبسات هذا الأصل العلي الذي أجرى الله سبحانه وتعالى الحكم فيه لأمة محمد صلى الله عليه وسلم على وفق ما تستقر فيه أمانتهم وتندفع عنهم خيانتهم.
أ هـ {نظم الدرر حـ 1 صـ 351 ـ 352}
قال أبو السعود :
قوله تعالى : {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ }
استئنافٌ مبينٌ لسبب الإحلالِ وهو صعوبةُ الصبر عنهنّ مع شِدة المخالطة وكَثرةِ الملابَسة بهن. أ هـ {تفسير أبى السعود حـ 1 صـ 201}
قال الفخر :
المسألة الأولى : قد ذكرنا في تشبيه الزوجين باللباس وجوها أحدها : أنه لما كان الرجل والمرأة يعتنقان ، فيضم كل واحد منهما جسمه إلى جسم صاحبه حتى يصير كل واحد منهما لصاحبه كالثوب الذي يلبسه ، سمي كل واحد منهما لباساً ، قال الربيع : هن فراش لكم وأنتم لحاف لهن ، وقال ابن زيد : هن لباس لكم وأنتم لباس لهن ، يريد أن كل واحد منهما يستر صاحبه عند الجماع عن أبصار الناس
وثانيها : إنما سمي الزوجان لباساً ليستر كل واحد منهما صاحبه عما لا يحل ، كما جاء في الخبر
" من تزوج فقد أحرز ثلثي دينه "
وثالثها : أنه تعالى جعلها لباساً للرجل ، من حيث إنه يخصها بنفسه ، كما يخص لباسه بنفسه ، ويراها أهلاً لأن يلاقي كل بدنه كل بدنها كما يعمله في اللباس
ورابعها : يحتمل أن يكون المراد ستره بها عن جميع المفاسد التي تقع في البيت ، لو لم تكن المرأة حاضرة ، كما يستتر الإنسان بلباسه عن الحر والبرد وكثير من المضار وخامسها : ذكر الأصم أن المراد أن كل واحد منهما كان كاللباس الساتر للآخر في ذلك المحظور الذي يفعلونه ، وهذا ضعيف لأنه تعالى أورد هذا الوصف على طريق الإنعام علينا ، فكيف يحمل على التستر بهن في المحظور. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 91}
وقال فى التحرير والتنوير : (4/101)
قوله تعالى : {هن لباس لكم} استعارة بجامع شدة الاتصال حينئذٍ وهي استعارة أحياها القرآن ، لأن العرب كانت اعتبرتها في قوله : لابَسَ الشيءُ الشيءَ ، إذا اتصل به لكنهم صيروها في خصوص زنة المفاعلة حقيقةً عُرفية فجاء القرآن فأحياها وصيَّرها استعارة أَصلية جديدة بعد أن كانت تبعية منسية. أ هـ {التحرير والتنوير حـ 2 صـ 181}
سؤال : لم قدَّم قوله : {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} على {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} ؟
الجواب : قدَّم قوله : {هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ} على {وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ} ؛ تنبيهاً على ظهور احتياج الرجل للمرأة وعدم صبره عنها ؛ ولأنَّه هوالبادىءُ بطلب ذلك ، وكنى باللباس عن شِدَّةِ المخالطة ؛ كقوله - هو النابغة الجَعْدِيُّ - : [المتقارب ]
إِذَا مَا الضَّجِيعُ ثَنَى جِيدَهَا... تَثَنَّتْ عَلَيْهِ فَكَانَتْ لِبَاساَ
وفيها أيضاً : [المتقارب ]
لَبِسْتُ أُنَاساً فَأَفْنَيْتُهُمْ... وَأَفْنَيْتُ بَعْدَ أُنَاسِ أُنَاسَا. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 308}
قال القرطبيُّ : وشُدِّدتُ النُّون من " هُنَّ " لأنها بمنزلة الميم والواو فى المذكَّر. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 316}
لطيفة
ورد لفظ " اللِّبَاسِ " على أربعة أوجهٍ :
الأول : بمعنى السَّكَن ؛ كهذه الآية.
الثاني : الخلط ؛ قال تبارك وتعالى : {الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ} [الأنعام : 82] ، أي : لم يخلطوا.
الثالث : العمل الصالح ؛ قال تعالى : {وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى} [الأعراف : 26] ، أي : عمل التقوى.
الرابع : اللِّباس بعينه ؛ قال تعالى : {يا بني آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً} [الأعراف : 26 ]. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 308}
سؤال : لماذا وحد اللباس بعد قوله {هُنَّ} ؟ (4/102)
الجواب : قال الواحدي : إنما وحد اللباس بعد قوله {هُنَّ} لأنه يجري مجرى المصدر ، وفعال من مصادر فاعل ، وتأويله : هن ملابسات لكم. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 91}
سؤال : فإن قلت : ما موقع قوله : {هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ} ؟
فنقول : هو استئناف كالبيان لسبب الإحلال ، وهو أنه إذا حصلت بينكم وبينهن مثل هذه المخالطة والملابسة قل صبركم عنهن ، وصعب عليكم اجتنابهن ، فلذلك رخص لكم في مباشرتهن. أ هـ {الكشاف حـ 1 صـ 257}
قوله تعالى : {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ }
قال ابن عادل :
وقوله : " كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ " في محلِّ رفعٍ خبرٌ لـ " أَنَّ ". و" تَخْتَانُونَ " في محلِّ نصبٍ خبرٌ لـ " كَانَ ".
قال أبو البقاء : و" كُنْتُمْ " هنا لفظها لفظ الماضي ، ومعناها أيضاً ، والمعنى : أنَّ الاخْتِيَانَ كان يقع منهم ، فتاب عليهم منه ، وقيل : إنَّهُ أرَاد الاختيان في الاستقبال ، وذكر " كَانَ " ليحكي بها الحال ؛ كما تقول : إن فعلت ، كنت ظالماً " وفي هذا نظرٌ لا يخفى.
و " تَخْتَانُونَ " تَفْتَعِلُونَ من الخيانة ، وعينُ الخيانة واوٌ ؛ لقولهم : خَانَ يَخُونُ ، وفي الجمع : خَوَنَة ، يقال : خَانَ يَخُونُ خَوْناً ، وخِيَانَةَ ، وهي ضدُّ الأمانة ، وتَخَوَّنْتُ الشَّيْءَ تَنَقَّصْتُهُ ؛ قال زُهَيْر في ذلك البيت : [الوافر ]
بِآرِزَةِ الفَقَارَةِ لَمْ يَخُنْهَا... قِطَافٌ في الرِّكَابِ وَلاَ خِلاَءُ(4/103)
وخَانَ السَّيفُ إذا نَبَا عن الضَّرْبَةِ ، وخَانَهُ الدَّهْرُ ، إذا تغيَّر حاله إلى الشَّرِّ ، وخَانَ الرَّجُلُ الرَّجُلَ ، إذا لَمْ يُؤَدِّ الأمانَةَ ، ونَاقِضُ العَهْدِ خائِنٌ ، إذا لم يف ، ومنه قوله تعالى : {وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً} [الأنفال : 58] والمدين خائنٌ ؛ لأنَّه لم يف بما يليقُ بدينه ؛ ومنه قوله تعالى : {لاَ تَخُونُواْ الله والرسول وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ} [الأنفال : 27] وقال تعالى : {وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ} [الأنفال : 71] فسُمِّيت المعصية بالخيانة.
وقال الزمخشريُّ : " والخْتِيَانُ : من الخيانة ؛ كالاكْتِسَاب من الكَسْبِ ، فيه زيادةٌ وشِدَّة " ؛ يعني من حيث إنَّ الزيادة في اللفظ تُنْبِىءُ عن زيادةٍ في المعنى ، كما قدَمَهُ في قوله تعالى : {الرحمن الرَّحِيمِ} وقيل هنا : تختانُونَ أَنْفُسَكُمْ ، أي : تتعهَّدُونها بإتيان النِّسَاء ، وهذا يكون بمعنى التَّخْويل ، يقال : تَخَوَّنَهُ وتَخَوَّلَهُ بالنون واللامِ ، بمعنى تَعَهَّدَهُ ، إلا أنَّ النون بدلٌ من اللاَّم ؛ لأنه باللام أشهر. أ هـ {تفسير ابن عادل حـ 3 صـ 307}
قال القرطبيُّ : معنى {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ} أي : يستأمر بعضكم بعضاً في مواقعة المحظور من الجماع والأكل بعد النَّوم في ليالي الصَّوم ؛ كقوله تعالى : {تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ} [البقرة : 85] أي : يقتل بعضكم بعضاً ، ويحتمل أن يريد به كلَّ واحد منهم في نفسه ؛ بأنه يخونها وسمَّاه خائناً لنفسه من حث كان ضرره عائداً عليه. أ هـ {تفسير القرطبى حـ 2 صـ 317}
فائدة
قال الفخر : (4/104)
إن الله تعالى ذكر ههنا أنهم كانوا يختانون أنفسهم ، إلا أنه لم يذكر أن تلك الخيانة كانت في ماذا ؟ فلا بد من حمل هذه الخيانة على شيء يكون له تعلق بما تقدم وما تأخر ، والذي تقدم هو ذكر الجماع ، والذي تأخر قوله : {فالئن باشروهن} فيجب أن يكون المراد بهذه الخيانة الجماع ، ثم ههنا وجهان : أحدهما : علم الله أنكم كنتم تسرون بالمعصية في الجماع بعد العتمة والأكل بعد النوم وتركبون المحرم من ذلك وكل من عصى الله ورسوله فقد خان نفسه وقد خان الله ، لأنه جلب إليها العقاب ، وعلى هذا القول يجب أن يقطع على أنه وقع ذلك من بعضهم لأنه لا يمكن حمله على وقوعه من جميعهم ، لأن قوله : {عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنفُسَكُمْ} إن حمل على ظاهره وجب في جميعهم أن يكونوا مختانين لأنفسهم ، لكنا قد علمنا أن المراد به التبعيض للعادة والإخبار ، وإذا صح ذلك فيجب أن يقطع على وقوع هذا الجماع المحظور من بعضهم ، فمن هذا الوجه يدل على تحريم سابق وعلى وقوع ذلك من بعضهم.
القول الثاني : أن المراد : علم الله أنكم كنتم تختانون أنفسكم لو دامت تلك الحرمة ومعناه : أن الله يعلم أنه لو دام ذلك التكليف الشاق لوقعوا في الخيانة ، وعلى هذا التفسير ما وقعت الخيانة ويمكن أن يقال التفسير الأول أولى لأنه لا حاجة فيه إلى إضمار الشرط وأن يقال بل الثاني أولى ، لأن على التفسير الأول يصير إقدامهم على المعصية سبباً لنسخ التكليف ، وعلى التقدير الثاني : علم الله أنه لو دام ذلك التكليف لحصلت الخيانة فصار ذلك سبباً لنسخ التكليف رحمة من الله تعالى على عباده حتى لا يقعوا في الخيانة. أ هـ {مفاتيح الغيب حـ 5 صـ 91 ـ 92}(4/105)