« ولا يمس القرآن إلا طاهر » ، وهذه وجادة جيدة قد قرأها الزهري وغيره ، ومثل هذا ينبغي الأخذ به .
وقوله تعالى : { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين } أي هذا القرآن منزل من الله رب العالمين ، وليس هو كما يقولون إنه سحر أو كهانة أو شعر ، بل هو الحق الذي لا مرية فيه ، وليس وراءه حق نافع ، وقوله تعالى : { أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ } قال ابن عباس : أي مكذبون غير مصدقين ، وقال مجاهد : { مُّدْهِنُونَ } أي تريدون أن تمالئوهم فيه وتركنوا إليهم { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قال بعضهم : معنى { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ } بمعنى شكركم أنكم تكذبون بدل الشكر ، عن علي رضي الله عنه قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » وتجعلون « رزقكم يقول : شكركم أنكم تكذبون ، تقولون مطرنا بنوء كذا وكذا ، بنجم كذا وكذا » وقال مجاهد : { وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } قال : قولهم في الأنواء : مطرنا بنوء كذا وبنوء كذا يقول : قولوا هو من عند الله وهو رزقه ، وقال قتادة : أما الحسن فكان يقول : بئس ما أخذ قوم لأنفسهم ، لم يرزقوا من كتاب الله إلا التكذيب ، فمعنى قول الحسن هذا وتجعلون حظكم من كتاب الله أنكم تكذبون به ، ولهذا قال قبله : { أفبهذا الحديث أَنتُمْ مُّدْهِنُونَ * وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ } .(1/2481)
فَلَوْلَا إِذَا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَأَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلَكِنْ لَا تُبْصِرُونَ (85) فَلَوْلَا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (87)
يقول تعالى : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ } أي الروح { الحلقوم } أي الحلق وذلك حين الاحتضار كما قال تعالى : { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي * وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } [ القيامة : 27-28 ] ، ولهذا قال هاهنا { وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ } أي إلى المحتضر وما يكابده من سكرات الموت ، { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ } أي بملائكتنا { ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ } أي ولكن لا ترونهم كما قال تعالى في الآية الأُخْرى : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [ الأنعام : 61 ] . وقوله تعالى : { فَلَوْلاَ إِن كُنتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ * تَرْجِعُونَهَآ } معناه فهلا ترجعنون هذه النفس التي قد بلغت الحلقوم إلى مكانها الأول ، ومقرها من الجسد إن كنتم غير مدينين ، قال ابن عباس : يعني محاسبين ، وقال سعيد بن جبير { غَيْرَ مَدِينِينَ } غير مصدقين أنكم تدانون وتعبثون وتجزون فردوا هذه النفس ، وعن مجاهد { غَيْرَ مَدِينِينَ } غير موقنين ، وقال ميمون بن مهران : غير معذبين مقهورين .(1/2482)
فَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ (89) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلَامٌ لَكَ مِنْ أَصْحَابِ الْيَمِينِ (91) وَأَمَّا إِنْ كَانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92) فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هَذَا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)
هذه الأحوال الثلاثة هي أحوال الناس عند احتضارهم : إما أن يكون من المقربين ، أو يكون ممن دونهم من أصحاب اليمين ، وإما أن يكون من المكذبين بالحق ، الضالين عن الهدى ، الجاهلين بأمر الله ، ولهذا قال تعالى : { فَأَمَّآ إِن كَانَ } أي المحتضر { مِنَ المقربين } وهم الذين فعلوا الواجبات والمستحبات وتركوا المحرمات والمكروهات وبعض المباحات ، { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } أي فلهم روح وريحان وتبشرهم الملائكة بذلك عند الموت كما تقدم في حديث البراء « إن ملائكة الرحمة تقول : أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب ، كنت تعمرينه اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان » ، قال ابن عباس { فَرَوْحٌ } يقول : راحة { وَرَيْحَانٌ } يقول : مستراحة ، وكذا قال مجاهد : إن الروح الاستراحة ، وقال أبو حرزة : الراحة من الدنيا ، وقال سعيد بن جبير : الروح الفرح ، وعن مجاهد : { فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ } جنة ورخاء ، وقال قتادة : فروح فرحمة . وقال ابن عباس ومجاهد : { وَرَيْحَانٌ } : ورزق؛ وكل هذه الأقوال متقاربة صحيحة ، فإن من مات مقرباً حصل له جميع ذلك من الرحمة والراحة والاستراحة والفرح والسرور والرزق الحسن { وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } ، وقال أبو العالية : لا يفارق أحد من المقربين حتى يؤتى بغضن من ريحان الجنة فيقبض روح فيه ، وقال محمد بن كعب : لا يموت أحد من الناس حتى يعلم أمن أهل الجنة هو أم من أهل النار ، وقد قدمنا أحاديث الاحتضار عند قوله تعالى في سور إبراهيم { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت } [ إبراهيم : 27 ] . وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية . روى الإمام أحمد ، « عن أم هانىء أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنتزاور إذا متنا ويرى بعضنا بعضاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يكون النسم طيراً يعلق بالشجر حتى إذا كان يوم القيامة دخلت كل نفس في جسدها « » ، هذا الحديث فيه بشارة لكل مؤمن ، ومعنى « يَعْلَق » يأكل ، ويشهد له بالصحة أيضاً ما رواه الإمام الشافعي ، عن الإمام مالك ، عن كعب بن مالك ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنما نسمه المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه » ، وهذا إسناد عظيم ومتن قويم ، وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في رياض الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى قناديل معلقة بالعرش » الحديث . وروى الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى ، « عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : » من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه « قال : فأكب القوم يبكون فقال : » ما يبكيكم؟ « فقالوا : إنا نكره الموت ، قال : » ليس ذاك ، ولكنه إذا احتضر { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } ، فإذا بشر بذلك أحب لقاء الله عزّ وجلّ ، والله عزّ وجلّ للقائه آحب { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } فإذا بشر بذلك كره لقاء الله ، والله تعالى للقائه أكره « » .(1/2483)
وقوله تعالى : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين } أي وأما إن كان المحتضر من أصحاب اليمين { فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين } أي تبشرهم الملائكة بذلك تقول لأحدهم : سلام لك أي لا بأس عليك أنت إلى سلامة . وأنت من أصحاب اليمين ، وقال قتادة : سَلِمَ من عذاب الله وسلَّمت عليه ملائكة الله ، كما قال عكرمة تسلم عليه الملائكة وتخبره أنه من أصحاب اليمين ، وهذا معنى حسن ، ويكون ذلك كقوله تعالى : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [ فصلت : 30 ] . وقوله تعالى : { وَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي وأما إن كان المحتضر من المكذبين بالحق ، الضالين عن الهدى { فَنُزُلٌ } أي فضيافة . { مِّنْ حَمِيمٍ } وهو المذاب الذي يصهر به ما بطونهم والجلود ، { وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ } أي وتقرير له في النار تغمره من جميع جهاته ، ثم قال تعالى : { إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين } أي إن هذا الخبر لهو حق اليقين ، الذي لا مرية فيه ولا محدي لأحد عنه ، { فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } . قال الإمام أحمد ، عن عقبة بن عامر الجهني قال : « لمّا نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } قال : » اجعلوها في ركوعكم « ، ولما نزلت : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » اجعلوها في سجودكم « » وفي الحديث : « من قال سبحان الله العظيم وبحمده غرست له نخلة في الجنة » وروى البخاري في آخر « صحيحه » ، عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله : « كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان حبيبتان إلى الرحمن : سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم » .(1/2484)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَالْآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالْبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (3)
يخبر تعالى أنه يسبّح له ما في السماوات والأرض ، أي من الحيوانات والنباتات ، كما قال في الآية الأُخْرِى : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [ الإسراء : 44 ] وقوله تعالى : { وَهُوَ العزيز } أي الذي قد خضع له كل شيء ، { الحكيم } في خلقه وأمره وشرعه ، { لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي هو المالك المتصرف في خلقه ، فيحيي ويميت ، { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وقوله تعالى : { هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن } وهذه الآية هي المشار إليها في حديث العرباض بن سارية أنها أفضل من ألف آية ، روى أبو داود ، عن أبي زميل قال : سألت ابن عباس فقلت : ما شيء أجده في صدري؟ قال : ما هو؟ قلت : والله لا أتكلم به . قال ، فقال لي : عباس فقلت : ما شيء أجده في صدري؟ قال : ما هو؟ قلت : والله لا أتكلم به . قال ، فقال لي : أشيء من شك؟ قال ، وضحك ، قال : ما نجا من ذلك أحد ، قال : حتى أنزل الله تعالى : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ } [ يونس : 94 ] ، وقد اختلف عبارات المفسرين في هذه الآية ، وأقوالهم على نحو من بضعة عشر قولاً ، وقال البخاري ، قال يحيى : الظاهر على كل شيء علماً ، والباطن على كل شيء علماً ، روى الإمام أحمد ، عن أبي هريرة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو عند النوم : » اللهم رب السماوات السبع ورب العرش العظيم ، ربنا ورب كل شيء ، منزل التوراة والإنجيل والفرقان ، فالق الحب والنوى ، لا إله إلاّ أنت ، أعوذ بكل من شر كل شيء أنت آخذ بناصيته ، أنت الأول فليس قبلك شيء ، وأنت الآخر فليس بعدك شيء ، وأنت الظاهر فليس فوقك شيء ، وأنت الباطن فليس دونك شيء ، اقض عنا الدين ، وأغننا من الفقر « » .
وروى الترمذي ، عن أبي هريرة قال : « بينما نبي الله صلى الله عليه وسلم جالس وأصحابه إذا أتى عليهم سحاب ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : » هل تدرون ما هذا؟ « قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : » هذا العنان ، هذه روايا الأرض تسوقه إلى قوم لا يشكرونه ولا يدعونه « ، ثم قال : » هل تدرون ما فوقكم؟ « قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : » فإنها الرفيع سقف محفوظ وموج مكفوف « ، ثم قال : » هل تدرون كم بينكم وبينها؟ « قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : » بينكم وبينها خمسمائة سنة « ، ثم قال : هل تدرون ما فوق ذلك؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : « فإن فوق ذلك سماء بعد ما بينهما مسيرة خمسمائة سنة - حتى عد سبع سماوات - ما بين كل سماءين كما بين السماء والأرض » ، ثم قال : « هل تدرون ما فوق ذلك؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : « فإن فوق ذلك العرش وبينه وبين السماء مثل ما بين السماءين » ثم قال : « هل تدرون ما الذي تحتكم؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : « فإنها الأرض » ، ثم قال : « هل تدرون ما الذي تحت ذلك؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : « فإن تحتها أرضاً أُخْرى بينهما مسيرة خمسمائة سنة حتى عد سبع أرضين بين كل أرضين مسيرة خمسمائة سنة » ، ثم قال : « والذي نفس محمد بيده لو أنكم دليتم حبلاً إلى الأرض السفلى لهبط على الله » ، ثم قرأ : { هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } «(1/2485)
وفسَّر بعض أهل العلم هذا الحديث ، فقالوا : إنما هبط على علم الله وقدرته وسلطانه ، وعلم الله وقدرته وسلطانه في كل مكان ، وهو على العرش كما وصف في كتابه ، انتهى كلامه . وقد روى الإمام أحمد هذا الحديث بسنده ، عن الحسن ، عن أبي هريرة ، « عن النبي صلى الله عليه وسلم فذكره ، وعنده : » وبعد ما بين الأرضين مسيرة سبعمائة عام « ، وقال : » لو دليتم أحدكم بحبل إلى الأرض السفلى السابعة لهبط على الله « ، ثم قرأ : { هُوَ الأول والآخر والظاهر والباطن وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } » ، وقال ابن جرير عند قوله تعالى : { وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] عن قتادة قال : التقى أربعة من الملائكة بين السماء والأرض ، فقال بعضهم لبعض : من أين جئت؟ قال أحدهم : أرسلني ربي عزّ وجلّ من السماء السابعة وتركته ثَمّ ، قال الآخر : أرسلني ربي عزّ وجلّ من الأرض السابعة وتركته ثَمّ ، قال الآخر : أرسلني ربي من المشرق وتركته ثَمّ ، قال الآخر أرسلني ربي من المغرب وتركته ثمّ .(1/2486)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4) لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (6)
يخبر تعالى عن خلقه السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ، ثم أخبر تعالى باستوائه على العرش بعد خلقهن ، وقد تقدّم الكلام على هذه الآية وأشباهها في سورة الأعراف بما إنى عن إعادته هاهنا ، وقوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض } أي يعلم عدد ما يدخل فيها من حب وقطر ، { وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } من نبات وزرع وثمار ، كما قال تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] ، وقوله تعالى : { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء } أي من الأمطار ، والثلوج والبرد والأقدار ، والأحكام مع الملائكة الكرام ، وقوله تعالى : { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أي من الملائكة والأعمال ، كما جاء في الصحيح : « يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل » ، وقوله تعالى : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي رقيب عليكم شهيد على أعمالكم ، حيث كنتم وأين كنتم من بر أو بحر ، في ليل أو نهار ، في البيوت أو في القفار ، الجميع في علمه على السواء ، فيسمع كلامكم ويرى مكانكم ، ويعلم سركم ونجواكم ، كما قال تعالى : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } [ هود : 5 ] ، وقال تعالى : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار } [ الرعد : 10 ] ، فلا إله غيره ولا رب سواه ، وقد ثبت في الصحيح « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجبريل لما سأله عن الإحسان : » أن تعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك « » ، وفي الحديث ، « قال رجل : يا رسول الله ما تزكيه المرء نفسه؟ فقال : » يعلم أن الله معه حيث كان « وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن أفضل الإيمان أن تعلم أن الله معك حيثما كنت « وكان الإمام أحمد رحمه الله تعالى ينشد هذين البيتين :
إذا ما خلوتَ الدهر يوماً فلا تقل ... خلوتُ ولكن قل عليَّ رقيبُ
ولا تحسبنَّ الله يغفل ساعة ... ولا أن ما تخفي عليه يغيب
وقوله تعالى : { لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } ، أي هو المالك للدنيا والآخرة كما قال تعالى : { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى } [ الليل : 13 ] وهو المحمود على ذلك ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة } [ القصص : 70 ] ، وقال تعالى : { الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَلَهُ الحمد فِي الآخرة وَهُوَ الحكيم الخبير } [ سبأ : 1 ] ، فجميع ما في السماوات والأرض ملك له ، وأهلها عبيد أرقاء أذلاء بين يديه ، كما قال تعالى :(1/2487)
{ إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً } [ مريم : 93 ] ، ولهذا قال : { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } أي إاليه المرجع يوم القيامة فيحكم في خلقه بما يشاء ، وهو العادل الذي لا يجور ولا يظلم مثقال ذرة ، كما قال تعالى : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] ، وقوله تعالى : { يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل } أي هو المتصرف في الخلق ، يقلب الليل والنهار ويقدرهما بحكمته كما يشاء ، فتارة يطول الليل ويقصر النهار ، وتارة بالعكس ، وتارة يتركهما معتدلين ، وتارة يكون الفصل شتاء ثم ربيعاً ثم قيظاً ثم خريفاً ، وكل ذلك بحكمته وتقديره لما يريده بخلقه { وَهُوَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي يعلم السرائر وإن دقت أو خفيت .(1/2488)
آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَمَا لَكُمْ لَا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)
أمر تبارك وتعالى بالإيمان به وبرسوله على الوجه الأكمل ، وحث على الأنفاق { مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } أي مما هو معكم على سبيل العارية ، فإنه قد كان في أيدي من قبلكم ثم صار إليكم ، فأرشد تعالى إلى استعمال ما استخلفهم فيه من المال في طاعته ، وقوله تعالى : { مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } فيه إشارة إلى أنه سيكون مخلفاً عنك ، فلعل وارثك أن يطيع الله فيه فيكون أسعد بما أنعم الله به عليك منك ، أو يعصى الله فيه فتكون قد سعيت في معاونته على الإثم والعدوان . روى مسلم ، عن عبد الله بن الشخير قال : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو يقول : « ألهاكم التكاثر ، يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت؟ أو لبست فأبليت؟ أو تصدقت فأمضيت؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس » وقوله تعالى : { فالذين آمَنُواْ مِنكُمْ وَأَنفَقُواْ لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } ترغيب في الإيمان والإنفاق في الطاعة ، ثم قال تعالى : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ } أي : وأيّ شيء يمنعكم من الإيمان ، والرسول بين أظهركم يدعوكم إلى ذلك ، ويبين لكم الحجج والبراهين على صحة ما جاءكم به ، وقد روينا في الحديث « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه : » أي المؤمنين أعجب إليكم إيماناً؟ « قالوا : الملائكة ، قال : » وما لهم لا يؤمنون وهم عند ربهم؟ « قالوا : فالأنبياء ، قال : » وما لهم لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم؟ « قالوا : فنحن ، قال : » وما لكم لا تؤمنون وأنا بين أظهركم؟ ولكن أعجب المؤمنين إيماناً قوم يجيئون بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها « وقوله تعالى : { وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ } كما قال تعالى : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } [ المائدة : 7 ] ويعني بذلك بيعة الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي حججاً واضحات ودلائل باهرات وبراهين قاطعات ، { لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } أي من ظلمات الجهل والكفر ، إلى نور الهدى والإيمان ، { وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أي في إنزاله الكتب وإرساله الرسل لهداية الناس ، ولما أمرهم أولاً بالإيمان والإنفاق ، ثم حثهم على الأيمان ، حثهم أيضاً على الإنفاق ، فقال : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض } ؟ أي أنفقوا و لاتخشوا فقراً وإقلالاً ، فإن الذي أنفقتم في سبيله هو مالك السماوات والأرض ، وهو القائل : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين } [ سبأ : 39 ] ، { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } [ النحل : 96 ] فمن توكل على الله أنفق وعلم أن الله سيخلفه عليه ، وقوله تعالى : { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ } أي لا يستوي هذا ومن لم يفعل كفعله ، وذلك أنه قبل فتح مكة كان الحال شديداً ، فلم يكن يؤمن حنيئذٍ إلاّ الصديقون ، وأما بعد الفتح فإنه ظهر الإسلام ظهوراً عظيماً ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، ولهذا قال تعالى : { أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } ، والجمهور على أن المراد بالفتح هاهنا ( فتح مكة ) ، وعن الشعبي : أن المراد ( صلح الحديبية ) .(1/2489)
وقد يستدل لهذا القول بما قال الإمام أحمد ، عن أنس قال : « كان بين ( خالد بن الوليد ) وبين ( عبد الرحمن بن عوف ) كلام ، فقال خالد لعبد الرحمن : تستطيلون علينا بأيام سبقتمونا بها ، فبلغنا أن ذلك ذكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : » ادعوا لي أصحابي ، فوالذي نفسي بيده لو أنفقتم مثل أحُد أو مثل الجبال ذهباً ما بلغتم أعمالهم « ومعلوم أن إسلام خالد بن الوليد كان بين صلح الحُدَيبية وفتح مكة . وعن أبي سعيد الخدري » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم » ، قلنا : من هم يا رسول الله ، قريش؟ قال : « لا ، ولكن أهل اليمن لأنهم أرق أفئدة وألين قلوباً » ، وأشار بيده إلى اليمن فقال : « هم أهل اليمن ، ألا إن الإيمان يمان والحكمة يمانية » ، فقلنا : يا رسول الله هم خير منا؟ قال : « والذي نفسي بيده لو كان لأحدهم جبل من ذهب ينفقه ما أدى مد أحدكم ولا نصيفه » ، ثم جمع أصابعه ومد خنصره وقال : « ألا إن هذا فضل ما بيننا وبين الناس { لاَ يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الفتح وَقَاتَلَ أولئك أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الذين أَنفَقُواْ مِن بَعْدُ وَقَاتَلُواْ وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } » وقوله تعالى : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } يعني المنافقين قبل الفتح وبعده كلهم لهم ثواب على ما عملوا ، وإن كان بينهم تفاوت في تفاضل الجزاء ، كما قال تعالى : { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر والمجاهدون فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } [ النساء : 95 ] الآية ، وهكذا الحديث الذي في الصحيح : « المؤمن القوي خير ، وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير » فلهذا عطف بمدح الآخر والثناء عليه ، مع تفضيل الأول عليه ، ولهذا قال تعالى : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي فلخبرته فاوت بين ثواب من أنفق من قبل الفتح وقاتل ، ومن فعل ذلك بعد ذلك ، وما ذاك إلاّ لعلمه بقصد الأول وإخلاصه التام وإنفاقه في حال الجهد والقلة والضيق ، وفي الحديث : « سبق درهم مائة ألف »(1/2490)
ولا شك أن الصدّيق أبا بكر رضي الله عنه له الحظ الأوفر من هذه الآية ، فإنه أنفق ماله كله ابتغاء وجه الله عزَّ وجلَّ ، ولم يكن لأحد عنده نعمة يجزيه بها .
قوله تعالى : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } قال عمر بن الخطاب : هو الإنفاق في سبيل الله ، وقيل : هو النفقة على العيال ، والصحيح أنه أعم من ذلك ، فكل من أنفق في سبيل الله بنية خالصة ، وعزيمة صادقة دخل في عموم هذه الآية ، ولهذا قال تعالى : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } ، كما قال في الآية الأُخرى { أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] { وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أي جزاء جميل ورزق باهر وهو الجنة يوم القيامة ، عن عبد الله بن مسعود قال : « لما نزلت هذه الآية { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله ، وإن الله ليريد منا القرض؟ قال : » نعم يا أبا الدحداح « ، قال : أرني يدك يا رسول الله ، قال ، فناوله يده ، قال : فإني قد أقرضت ربي حائطي ، وله حائط في ستمائة نخلة ، وأم الدحداح فيه وعيالها ، قال ، فجاء أبو الدحداح ، فناداها : يا أم الدحداح ، قالت : لبيك ، قال : اخرجي فقد أقرضته ربي عزّ وجلّ » وفي رواية « أنها قالت له : ربح بيعك يا أبا الدحداح » ، ونقلت منه متاعها وصبيانها ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كم من عِذْق رَدَاح في الجنة لأبي الدحداح » .(1/2491)
يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ يَسْعَى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ بُشْرَاكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ (13) يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (15)
يقول تعالى مخبراً عن المؤمنين المتصدقين ، أنهم يوم القيامة يسعى نورهم بين أيديهم بحسب أعمالهم ، كما قال عبد الله بن مسعود في قوله تعالى : { يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } قال : على قدر أعمالهم يمرون على الصراط ، منهم من نوره مثل الجبل ، ومنهم من نوره مثل النخلة ، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم ، وأدناهم نوراً من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ مرة ، وقال الضحاك : ليس أحد إلاّ يعطى نوراً يوم القيامة ، فإذا انتهوا إلى الصراط طفىء نور المنافقين ، فلما رأى ذلك المؤمنون أشفقوا أن يطفأ نورهم كما طفىء نور المنافقين ، فقالوا : ربنا أتمم لنا نورنا ، وقال الحسن { يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ } : يعني على الصراط . وقد روى ابن أبي حاتم ، عن أبي الدرداء ، « عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » أنا أول من يؤذن له يوم القيامة بالسجود ، وأول من يؤذن له برفع رأسه فأنظر من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ، فأعرف أُمتي من بين الأمم « ، فقال له رجل : يا نبي الله كيف تعرف أُمتك من بين الأُمم؟ فقال : » أعرفهم ، محجلون من أثر الوضوء ، ولا يكون لأحد من الأُمم غيره ، وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم ، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم « » وقوله : { وَبِأَيْمَانِهِم } ، قال الضحّاك : أي وبأيمانهم كتبهم كمنا قال تعالى : { فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ } [ الإسراء : 71 ] ، وقوله : { بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } ، أي يقال لهم : بشراكم اليوم جنات أي لكم البشارة بجنات تجري من تحتها الأنهار ، { خَالِدِينَ فِيهَا } أي ما كثين فيها أبداً { ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } . وقوله { يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } وهذا إخبار منه تعالى عما يقع يوم القيامة في العرصات من الأهوال المزعجة ، والزلازل العظيمة ، والأمور الفظيعة ، وأنه لا ينجو يومئذٍ إلاّ من آمن بالله ورسوله وعمل بما أمر الله به ، وترك ما عنه زجر .
روى ابن أبي حاتم ، عن سليم بن عامر قال : خرجنا على جنازة في باب دمشق ، ومعنا ( أبو أمامة الباهلي ) فلما صلى على الجنازة ، وأخذوا في دفنها ، قال أبو أمامة : أيها الناس ، إنكم قد أصبحتم وأمسيتم في منزل تقتسمون فيه الحسنات والسيئات ، وتوشكون أن تظعنوا منه إلى منزل آخر . وهو هذا - يشير إلى القبر - بيت الوحدة ، وبيت الظلمة ، وبيت الدود ، وبيت الضيق ، إلاّ ما وسع الله ، ثم تنتقلون منه إلى مواطن يوم القيامة ، فإنكم في بعض تلك المواطن حتى يغشى الناس أمر من اللهن فتَبيضّ وجوه ، وتسوَدّ وجوه ، ثم تنتقلون منه إلى منزل آخر ، فيغشى الناس ظلمة شديدة ، ثم يقسم النور ، فيعطى المؤمن نوراً ، ويترك الكافر والمنافق ، فلا يعطيان شيئاً ، وهو المثل الذي ضربه الله تعالى في كتابه فقال :(1/2492)
{ أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [ النور : 40 ] فلا يستضيء الكافر والمنافق بنور المؤمن ، كما لا يستضيء الأعمى ببصر البصير ، ويقول المنافقون والمنافقات للذين آمنوا : { انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً } ، وهي خدعة الله التي خدع بها المنافقين حيث قال : { يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] ، فيرجعون إلى المكان الذي قسم فيه النور فلا يجدون شيئاً فينصرفون إليهم ، وقد ضرب بينهم بسور له باب { بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب } الآية ، يقول سليم بن عامر : فما يزال المنافق مغتراً حتى يقسم النور ، ويميز الله بين المنافق والمؤمن ، وقال ابن عباس : بينما الناس في ظلمة إذ بعث الله نوراً ، فلما رأى المؤمن النور توجهوا نحوه ، وكان النور دليلاً على من الله إلى الجنة ، فلما رأى المنافقون المؤمنين قد انطلقوا اتبعوهم ، فأظلم الله على المنفاقين ، فقالوا حينئذٍ : { انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } فإنا كنا معكم في الدنيا قال المؤمنون { ارجعوا وَرَآءَكُمْ } من حيث جئتم من الظلمة فالتمسوا هنالك النور ، وروى الطبراني عن ابن مليكة عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله تعالى يدعو الناس يوم القيامة بأسمائهم ستراً منه على عباده ، وأما عند الصراط ، فإن الله تعالى يعطي كل مؤمن نوراً وكل منافق نوراً ، فإذا استووا على الصراط سلب الله نور المنافقين والمنافقات ، فقال المنافقون : انظرونا نقتبس من نوركم ، وقال المؤمنون : ربنا أتمم لنا نورنا فلا يذكر عند ذلك أحد أحداً » .
وقوله تعالى : { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب } قال الحسن وقتادة : هو حائط بين الجنة والنار ، وقال عبد الرحمن بن زيد : هو الذي قال الله تعالى : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } [ الأعراف : 46 ] ، وهكذا روي عن مجاهد وهو الصحيح { بَاطِنُهُ فِيهِ الرحمة } أي الجنة وما فيها { وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ العذاب } أي النار ، والمراد بذلك سور يضرب يوم القيامة ليحجز بين المؤمنين والمنافقين ، فإذا انتهى إليه المؤمنون دخلوه من بابه ، فإذا استكملوا دخولهم أغلق الباب ، وبقي المنافقون من ورائه في الحيرة والظلمة والعذاب ، كما كانوا في الدار الدنيا في كفر وشك وحيرة ، { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ } أي ينادي المنافقون المؤمنين : أما كنا معكم في الدار الدنيا نشهد معكم الجمعات؟ ونصلي معكم الجماعات؟ ونقف معكم بعرفات؟ ونحضر معكم الغزوات؟ ونؤدي معكم سائر الواجبات؟ قالوا : بلى ، أي فأجاب المؤمنون المنافقين قائلين : بلى قد كنتم معنا { ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وارتبتم وَغرَّتْكُمُ الأماني } ، قال بعض السلف : أي فتنتم أنفسكم باللذات والمعاصي ، والشهوات { وَتَرَبَّصْتُمْ } أي أخّرتم التوبة من وقت إلى وقت ، وقال قتادة : { وَتَرَبَّصْتُمْ } بالحق وأهله ، { وارتبتم } أي بالبعث بعد الموت ، { وَغرَّتْكُمُ الأماني } أي قلتم : سيغفر لنا ، وقبل غرتكم الدنيا { حتى جَآءَ أَمْرُ الله } أي ما زلتم في هذا حتى جاءكم الموت ، { وَغَرَّكُم بالله الغرور } أي الشيطان ، وقال قتادة : كانوا على خدعة من الشيطان والله ما زالوا عليها حتى قذفهم الله في النار ، ومعنى هذا الكلام من المؤمنين للمنافقين : إنكم كنتم معنا أي بأبدان لا نية لها ولا قلوب معها ، وإنما كنتم في حيرة وشك فكنتم تراءون الناس ولا تذكرون الله إلاّ قليلاً ، وهذا القول من المؤمنين لا ينافي قولهم الذي أخبر الله تعالى به عنهم حيث يقول :(1/2493)
{ كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ المجرمين * مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ } [ المدثر : 38-42 ] ؟ فهذا إنما خرج منهم على وجه التقريع لهم والتوبيخ ، ثم قال تعالى : { فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } أي لو جاء أحدكم اليوم بملء الأرض ذهباً ومثله معه ليفتدي به من عذاب الله ما قبل منه . وقوله تعالى : { مَأْوَاكُمُ النار } أي هي مصيركم وإليها منقلبكم ، وقوله تعالى : { هِيَ مَوْلاَكُمْ } أي هي أولى بكم من كل منزل ، على كفركم وارتيابكم وبئس المصير .(1/2494)
أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17)
يقول تعالى : أما آن للمؤمنين أن تخشع قلوبهم لذكر الله ، أي تلين عند الذكر والموعظة وسماع القرآن ، فتفهمه وتنقاد له وتسمع له وتطيعه ، قال ابن عباس : إن الله استبطأ قلوب المؤمنين ، فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة من نزول القرآن ، فقال : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله } الآية . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : ما كان بين إسلامنا وبين أن عاتبنا الله بهذه الآية : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله } الآية إلا أربع سنين ، وقوله تعالى : { وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ } نهى الله تعالى المؤمنين ، أن يتشبهوا بالذين حملوا الكتاب من قبلهم ، من اليهود والنصارى لما تطاول عليهم الأمد ، بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، واشتروا به ثمناً قليلاً ، ونبذوه وراء ظهورهم ، واتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله ، فعند ذلك قست قلوبهم ، فلا يقبلون موعظة ، ولا تلين قلوبهم بوعد ولا وعيد ، { وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي من الأعمال ، فقلوبهم فاسدة وأعمالهم باطلة ، كما قال تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } [ المائدة : 13 ] أي فسدت قلوبهم فقست ، وصار من سجيتهم تحريف الكلم عن مواضعه ، وتركوا الأعمال التي أمروا بها ، وارتكبوا ما نهوا عنه ، ولهذا نهى الله المؤمنين أن يتشبهوا بهم في شيء من الأمور الأصيلة والفرعية .
روى أبو جعفر الطبري ، عن ابن مسعود قال : « إن بني إسرائيل لما طال عليهم الأمد وقست قلوبهم ، واخترعوا كتاباً من بين أيديهم وأرجلهم استهوته قلوبهم واستحلته ألسنتم ، وقالوا : نعرض بني إسرائيل على هذا الكتاب ، فمن آمن به تركناه ، ومن كفر به قتلناه ، قال : فجعل رجل منهم كتتاب الله في قرن ، ثم جعل القرن بيد ثندوتيه فلما قيل له : أتؤمن بهذا؟ قال : آمنت به ويومىء إلى القرن بين يندوتيه ، ومالي لا أؤمن بهذا الكتاب؟ فمن خير مللهم اليوم ملة صاحب القرن » . وقوله تعالى : { اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } فيه إشارة إلى أن الله يلين القلوب بعد قسوتها ويهدي الحيارى بعد ضلتها ، ويفرج الكروب بعد شدتها ، فكما يحيي الأرض الميتة المجدبة الهامدة بالغيث الهتان الوابل ، كذلك يهدي القلوب القاسية ببراهين القرآن والدلائل ، ويولج إليها النور بعد أن كانت مقفلة لا يصل إليها الواصل ، فسبحان الهادي لمن يشاء بعد الضلال ، والمضل لمن أراد بعد الكمال ، الذي هو لما يشاء فعال ، وهو الحكيم العدل في جميع الفعال ، اللطيف الخبير الكبير المتعال .(1/2495)
إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ أُولَئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَالشُّهَدَاءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (19)
يخبر الله تعالى عما يثيب به { المصدقين والمصدقات } بأموالهم على أهل الحاجة والفقر والمسكنة { وَأَقْرَضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً } أي دفعوه بنية خالصة ابتغاء مرضاة الله ، لا يريدون جزاء ممن أعطوه ولا شكوراً ، ولهذا قال : { يُضَاعَفُ لَهُمْ } أي يقال لهم الحسنة بعشرة أمثالها ، ويزاد إلى سبعمائة ضعف وفوق ذلك ، { وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } أي ثواب جزيل ومآب كريم ، وقوله تعالى : { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ أولئك هُمُ الصديقون } هذا تمام الجملة وصف المؤمنين بالله ورسله بأنهم صديقون ، قال ابن عباس : { أولئك هُمُ الصديقون } هذه مفصولة ، { والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } ، وقال ابو الضحى { أولئك هُمُ الصديقون } . ثم استأنف الكلام ، فقال : { والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ } ، عن ابن مسعود قال : هم ثلاثة أصناف يعني : ( المُصَدقين ، والصديقين ، والشهداء ) كما قال تعالى : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين } [ النساء : 69 ] ففرق بين الصديقين والشهداء ، فدل على أنهما صنفان ، ولا شك أن الصديق أعلى مقاماً من الشهيد ، كما روى الإمام مالك ، عن أبي سعيد الخدري ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تتراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق إلى المغرب لتفاضل ما بينهم « قال : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم؟ قال : بلى ، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين » وقال آخرون : بل المراد من قوله تعالى : { أولئك هُمُ الصديقون والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ } فأخبر عن المؤمنين بالله ورسوله بأنهم صديقون وشهداء ، وقوله تعالى : { والشهدآء عِندَ رَبِّهِمْ } أي في جنات النعيم كما جاء في « الصحيحين » : « إن أرواح الشهداء في حواصل طير خضر تسرح في الجنة حيث شاءت » الحديث . وقوله تعالى : { لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَنُورُهُمْ } أي لهم عند الله أجر جزيل ، ونور عظيم يسعى بين أيديهم ، وهم في ذلك يتفاوتون بحسب ما كانوا في الدار الدنيا من الأعمال ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » الشهداء أربعة : رجل مؤمن جيد الإيمان ، لقي العدوّ فصدق الله فقتل ، فذاك الذي ينظر الناس إليه ، هكذا « ورفع رأسه حتى سقطت قلنسوة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقلنسوة عمر ، والثاني مؤمن لقي العدوّ فكأنما يضر ظهره بشوك الطلح جاءه سهم غرب فقتله فذاك في الدرجة الثانية ، والثالث رجل مؤمن خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً لقي العدو فصدق الله حتى قتل فذاك في الدرجة الثالثة ، والرابع رجل مؤمن أسرف على نفسه إسرافاً لقي العدوّ فصدق الله حتى قتل فذاك في الدرجة الرابعة » وقوله تعالى : { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم } لما ذكر السعداء ومآلهم عطف بذكر الأشقياء وبين حالهم .(1/2496)
اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (20) سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)
يقول تعالى موهناً أمر الحياة الدنيا ومحقراً لها : { أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد } أي إنما حاصل أمرها عند أهلها هذا ، كما قال تعالى : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب والفضة والخيل المسومة والأنعام والحرث ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب } [ آل عمران : 14 ] ، ثم ضرب تعالى مثل الحياة الدنيا في أنها زهرة فانية ونعمة زائلة فقال : { كَمَثَلِ غَيْثٍ } وهو المطر الذي يأتي بعد قنوط الناس ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } [ الشورى : 28 ] ، وقوله تعالى : { أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ } أي يعجب الزراع نبات ذلك الزرع الذي نبت بالغيث ، وكما يعجب الزراع ذلك ، كذلك تعجب الحياة الدنيا الكفار ، فإنهم أحرص شيء عليها وأميل الناس إليها ، { ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرّاً ثُمَّ يَكُونُ حُطَاماً } أي يهيج ذلك الزرع فتراه مصفراً بعد ما كان خضراً نضراً ، ثم يكون بعد ذلك كله حطاماً ، أي يصير يبساً متحطماً ، هكذا الحياة الدنيا ، تكون أولاً شابة ، ثم تكتهل ، ثم تكون عجوزاً شوهاء ، والإنسان يكون كذلك في أول عمره وعنفوان شبابه غضاً طرياً لين الأعطاف ، بهي المنظر ، ثم يكبر فيصير شيخاً كبيراً ضعيف القوى ، كما قال تعالى : { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } [ الروم : 54 ] ، ولما كان هذا المثل دالاً على زوال الدنيا وانقضائها وفراغها لا محالة ، وأن الآخرة كائنة لا محالة ، حذّر من أمرها ورغّب فيما فيها من الخير ، فقال : { وَفِي الآخرة عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرِضْوَانٌ } أي وليس في الآخرة الآتية القريبة إلا عذاب شديد ، أو مغفرة من الله ورضوان ، وقوله تعالى : { وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } أي هي متاع فانٍ ، يغتبر بها من يعتقد أنه لا دار سواها ولا معاد وراءها ، وهي حقيرة قليلة بالنسبة إلىلدار الآخرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها ، اقرأوا : { وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } » .
وروى الإمام أحمد ، عن عبد الله قال ، قال رسول الله صلى الله عليه سلم : « لَلْجنَّة أقرب إلى أحدكم من شراك نعله والنار مثل ذلك » ففي هذا الحديث دليل على اقتراب الخير والشر من الإنسان ، فلهذا حثه الله تعالى على المبادرة إلى الخيرات فقال الله تعالى : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض } والمراد جنس السماء والأرض كما قال تعالى في الآية الأُخْرى : { وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } [ آل عمران : 133 ] ، وقال هاهنا : { أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم } ، أي هذا الذي أهلهم الله له هو من فضله عليهم ، وإحسانه إليهم ، كما قدمنا في الصحيح :(1/2497)
« أن الفقراء المهاجرين قالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالأجور ، بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، قال : » وما ذاك؟ « قالوا : يصلون كما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق قال : » أفلا أدلكم على شيء إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلا من صنع مثل ما صنعتم ، تسبحون وتكبرون وتحمدون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين « ، قال ، فرجعوا فقالوا : سمع إخواننا أهل الأموال ما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم : » ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء « » .(1/2498)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلَا تَأْسَوْا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)
يخبر تعالى عن قدرة السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية فقال : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } أي في الآفاق وفي نفوسكم ، { إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } أي من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة ، وقال بعضهم : الضمير عائد على النفوس ، وقيل عائد على المصيبة ، والأحسن عوده على الخليقة و البرية لدلالة الكلام عليها ، كما روي عن منصور بن عبد الرحمن قال : كنت جالساً مع الحسن فقال رجل : سله عن قوله تعالى : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض وَلاَ في أَنفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَآ } ، فسألته عنها ، فقال : سبحان الله ، ومن يشك في هذا؟ كل مصيبة بين السماء والأرض ففي كتاب الله من قبل أن يبرأ النسمة ، وقال قتادة { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الأرض } قال : هي السنون يعني الجدب { وَلاَ في أَنفُسِكُمْ } يقول : الأوجاع والأمراض ، قال : وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود ، ولا نكبة قدم ، ولا خلخال عرق إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر . وهذه الآية الكريمة من أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق - قبحهم الله - روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم يقول : « قدّر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة » ، وزاد ابن وهب : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } [ هود : 7 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } أي علمه تعالى الأشياء قبل كونها سهل عليه عزّ وجلّ ، لأنه يعلم ما كان وما يكون ، وقوله تعالى : { لِّكَيْلاَ تَأْسَوْاْ على مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } أي أعلمناكم بتقدم علمنا وسبق كتابتنا للأشياء قبل كونها ، وتقديرنا الكائنات قبل وجودها لتعلموا أن ما أصابكم لم يكن ليخطئكم وما أخطأكم لم يكن ليصيبكم ، فلا تيأسوا على ما فاتكم { وَلاَ تَفْرَحُواْ بِمَآ آتَاكُمْ } أي لا تفخروا على الناس بما أنعم الله به عليكم ، فإن ذلك ليس بسعيكم ولا بكدكم ، وإنما هو عن قدر الله ورزقه لكم ، فلا تتخذوا نعم الله أشراً وبطراً تفخرون بها على الناس ، ولهذا قال تعالى : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي مختال في نفسه متكبر فخور ، أي على غيره ، وقال عكرمة : « ليس أحد إلا وهو يفرح ويحزن ، ولكن اجعلوا الفرح شكراً والحزن صبراً » ، ثم قال تعالى : { الذين يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ الناس بالبخل } أي يفعلون المنكر ويحضون الناس عليه ، { وَمَن يَتَوَلَّ } أي عن أمر الله وطاعته { فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد } ، كما قال : { إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ إبراهيم : 8 ] .(1/2499)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)
يقول تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات } أي بالمعجزات ، والحجج والباهرات ، والدلائل القاطعات { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب } وهو انلقل الصدق { والميزان } وهو العدل الذي تشهد به العقول الصحيحة المستقيمة ، المخالفة للآراء السقيمة كما قال تعالى : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } [ هود : 17 ] ، وقال تعالى : { فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] ، وقال تعالى : { والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان } [ الرحمن : 7 ] ، ولهذا قال في هذه الآية : { لِيَقُومَ الناس بالقسط } أي بالحق والعدل ، وهو اتباع الرسل فيما أخبروا به ، وطاعتهم فيما أمروا به ، ولهذا يقول المؤمنون إذا تبوأوا غرف الجنات ، والمنازل العاليات ، { الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق } [ الأعراف : 43 ] ، وقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا الحديد فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } أي وجعلنا الحديد رادعاً لمن أبى الحق وعانده بعد قيام الحجة عليه ، ولهذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد النبوة ثلاث عشرة سنة توحى إليه السور المكية وكلها جدال مع المشركين ، وبيان إيضاح للتوحيد ، وبينات ودلالات ، فلما قامت الحجة على من خالف ، شرع الله الهجرة ، وأمرهم بالقتال بالسيوف وضرب الرقاب ، وقد روى الإمام أحمد ، عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بعثت بالسيف بن يدي الساعة حتى يعبد الله وحده لا شريك له ، وجعل رزقي تحت ظل رمحي ، وجعل الذلة والصغار على من خالف أمري ، ومن تشبه بقوم فهو منهم » ولهذا قال تعالى : { فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ } يعني السلاح كالسيوف والحراب والسنان ونحوها { وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } أي في معايشهم كالسكة والفأس والمنشار والآلات التي يستعان بها في الحراثة والحياكة والطبخ وغير ذلك ، قال ابن عباس : ثلاثة أشياء نزلت مع آدم : السندان ، والكلبتان ، والميقعة يعني المطرقة ، وقوله تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الله مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بالغيب } أي من نيته في حمل السلاح نصرة الله ورسوله { إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي هو قوي عزيز ينصر من نصره من غير احتياج منه إلى الناس ، وإنما شرع الجهاد ليبلو بعضكم ببعض .(1/2500)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً ابْتَدَعُوهَا مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ إِلَّا ابْتِغَاءَ رِضْوَانِ اللَّهِ فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (27)
يخبر تعالى أنه منذ بعث نوحاً عليه السلام ، لم يرسل بعده رسولاً ولا نبياً إلا من ذريته ، وكذلك إبراهيم عليه السلام خليل الرحمن ، لم يرسل رسولاً إلا وهو من سلالته ، كما قال تعالى في الآية الأُخْرَى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب } { العنكروت : 27 ] حتى كان آخر أنبياء بني إسرائيل : { عِيسَى ابن مَرْيَمَ } [ البقرة : 87 ] الذي بشر من بعده بمحمد صلوات الله وسلام عليهما ، ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ قَفَّيْنَا على آثَارِهِم بِرُسُلِنَا وَقَفَّيْنَا بِعِيسَى ابن مَرْيَمَ وَآتَيْنَاهُ الإنجيل } وهو الكتاب الذي أوحاه الله إليه ، { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه } وهم الحواريون { رَأْفَةً } أي رقة وهي الخشية { وَرَحْمَةً } بالخلق ، وقوله : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها } أي ابتدعها أمّة النصارى ، { مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } أي ما شرعناها وإنما هم التزموها من تلقاء أنفسهم ، وقوله تعالى : { إِلاَّ ابتغآء رِضْوَانِ الله } فيه قولان ( أحدهما ) : أنهم قصدوا بذلك رضوان الله ، قاله سعيد بن جبير وقتادة ، ( والآخر ) : ما كتبنا عليهم ذلك إنما كتبنا عليهم ابتغاء رضوان الله ، وقوله تعالى : { فَمَا رَعَوْهَا حَقَّ رِعَايَتِهَا } أي فما قاموا بما التزموه حق القيام ، وهذا ذم لهم من وجهين : ( أحدهما ) : الابتداع في دين الله ما لم يأمر به الله ، ( والثاني ) : في عدم قيامهم بما التزموه مما زعموا أنه قربة بقربهم إلى الله عزّ وجلّ . وقد روى ابن أبي حاتم ، عن ابن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » يا ابن مسعود « قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : » هل علمت أن بني إسرائيل تفرقوا على ثنتين وسبعين فرقة؟ لم ينج منها إلا ثلاث فرق ، قامت بين الملوك والجبابرة بعد عيسى ابن مريم عليه السلام ، فدعت إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم ، فقاتلت الجبابرة فقتلت فصبرت ونجت ، ثم قامت طائفة أُخْرَى لم تكن لها قوة بالقتال فقامت بين الملوك والجبابرة ، فدعو إلى دين الله ودين عيسى ابن مريم فقتلت وقطعت بالمناشير وحرقت بالنيران فصبرت ونجت ، ثم قامت طائفة أُخْرَى لم يكن لها قوة ولم تطق القيام بالقسط فلحقت بالجبال فتعبّدت وترهبت وهم الذين ذكر الله تعالى : { وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ } « وروى الإمام أحمد ، عن إياس بن مالك أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » لكل نبي رهبانية ، ورهبانية هذه الأمّة الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ « وفي رواية : » لكل أمّة رهبانية ، ورهبانية هذه الأُمة الجهاد في سبيل الله « وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه » أن رجلاً جاءه فقال : أوصني ، فقال : سألت عما سألت عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم من قبلك ، أوصيك بتقوى الله فإنه رأس كل شيء ، وعليك بالجهاد فإنه رهبانية الإسلام ، وعليك بذلك الله وتلاوة القرآن ، فإنه روحك في السماء وذكرك في الأرض « .(1/2501)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَأَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
عن أبي موسى الأشعري قال ، « قال رسول الله صلى الله عليه سلم : » ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي فله أجران ، وعبد مملوك أدى حق الله وحق مواليه فله أجران ، ورجل أدّب أَمَتَهُ فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها فله أجران « . وقال سعيد بن جبير : لما افتخر أهل الكتاب بأنهم يؤتون أجرهم مرتين أنزل الله تعالى عليه هذه الآية في حق هذه الأمة : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ } أي ضعفين { مِن رَّحْمَتِهِ } ، وزادهم { وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } يعني هدى يتبصر به من العمى الجهالة { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ففضلهم بالنور والمغفرة . وهذه الآية كقوله تعالى : { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله ذُو الفضل العظيم } [ الأنفال : 29 ] ، وما يؤيد هذا القول ما رواه الإمام أحمد ، عن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » مَثلكم ومثل اليهود والنصارى كمثل رجل استعمل عمالاً فقال : من يعمل لي من صلاة الصبح إلى نصف النهار على قيراط قيراط؟ ألا فعملت اليهود ، ثم قال : من يعمل لي من صلاة الظهر إلى صلاة العصر على قيراط قيراط؟ ألا فعملت النصارة ، ثم قال : من يعمل لي من صلاة العصر إلى غروب الشمس على قيراطين قيراطين؟ ألا فأنتم الذين عملتم ، فغضبت النصارى واليهود ، وقالوا : نحن أكثر عملاً وأقل عطاء ، قال : هل ظلمتكم من أجركم شيئاً؟ قالوا : لا ، قال : فإنما هو فضلي أوتيه من أشاء « وروى البخاري ، عن أبي موسى ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » مثل المسلمين واليهود والنصارى كمثل رجل استعمل قوماً يعملون له عملاً ، يوماً إلى الليل على أجر معلوم ، فعملوا إلى نصف النهار ، فقالوا : لا حاجة لنا في أجرك الذي شرطت لنا وما عملنا باطل ، فقال لهم : لا تفعلوا أكملوا بقية عملمكم وخذوا أجركم كاملاً ، فأبوا وتركوا ، واستأجر آخرين بعدهم ، فقال : أكملوا يومكم ولكم الذي شرطت لهم من الأجر ، فعملوا حتى إذا كان حين صلوا العصر ، قالوا : ماعملنا باطل ولك الأجر الذي جعلت لنا فيه ، فقال : أكملوا بقية عملكم ، فإنما بقي من النهار شيء يسير فأبوا ، فاستأجر قوماً أن يعملوا له بقية يومهم ، فعملوا بقية يومهم حتى غابت الشمس فاستكملوا أجرة الفريقين كليهما ، فذلك مثلهم ومثل ما قبلوا من هذه النور « ولهذا قال تعالى : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب أَلاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّن فَضْلِ الله } أي ليتحققوا أنهم لا يقدرون على رد ما أعطاه الله ولا إعطاء من ما منع الله ، { وَأَنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم } . قال ابن جرير : { لِّئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الكتاب } أي ليعلم ، وعن ابن مسعود أنه قرأها : لكي يعلم لأن العرب تجعل ( لا ) صلة في كل كلام دخل في أوله أو آخره جحد غير مصرح ، فالسابق كقوله : { مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } [ الأعراف : 12 ] ، { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 109 ] .(1/2502)
قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1)
عن عائشة قالت : « الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات ، لقد جاءت المجادلة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تكلمه . وأنا في ناحية البيت ما أسمع ما تقول ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } » إلى آخر الآية وفي رواية عنها أنها قالت : « تبارك الذي أوعى سمعه كل شيء ، إني لأسمع كلام ( خولة بن ثعلبة ) ويخفى عليَّ بعضه ، وهي تشتكي زوجها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهي تقول : يا رسول الله أكل مالي ، وأفنى شبابي ، ونثرت له بطني ، حتى إذا كبرتْ سني وانقطع ولدي ظاهر مني ، اللهم إني أشكو إليك ، قالت : فما برحت حتى نزل جبريل بهذه الآية : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا } ، قالت : وزوجها أوس بن الصامت » وروى ابن أبي حاتم عن أبي يزيد قال : « لقيتْ امرأةٌ عمر يقال لها ( خولة بنت ثعلبة ) وهو يسير مع الناس ، فاستوقفته ، فوقف لها ودنا منها وأصغى إليها رأسه ووضع يديه على منكبيها ، حتى قضت حاجتها وانصرفت ، فقال له رجل : يا أمير المؤمنين حبست رجالات قريش على هذه العجوز ، قالت : ويحك وتدري من هذه؟ قال : لا ، قال : هذه امرأة سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات ، هذه خولة بن ثعلبة ، والله لو لم تنصرف عني إلى الليل ما انصرفت عنها حتى تقضي حاجتها ، إلا أن تحضر صلاة فأصلّيها ، ثم أرجع إليها حتى تقضي حاجتها » . وعن عامر قال : المرأة التي جادلت في زوجها امرأة ( أوس بن الصامت ) وأمها معاذة .(1/2503)
الَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسَائِهِمْ مَا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَرًا مِنَ الْقَوْلِ وَزُورًا وَإِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِينًا ذَلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (4)
روى الإمام أحمد ، عن خولة بنت ثعلبة ، قالت : « فيّ والله وفي أوس بن الصامت أنزل الله صدر سورة المجادلة قالت : كنت عنده ، وكان شيخاً كبيراً قد ساء خلقه ، قالت : فدخل عليّ يوماً فراجعته بشيء فغضب ، فقال : أنتِ عليَّ كظهر أُمي؛ قالت : ثم خرج فجلس في نادي قومه ساعة ، ثم دخل عليّ ، فإذا هو يريدني عن نفسي ، قالت ، قلت : كلا والذي نفس خويلة بيده لا تخلص إليّ وقد قلت ما قلت حتى يحكم الله ورسوله فينا بحكمه ، قالت : فواثبني فامتنعت بما تغلب به المرأة الشيخ الضعيف ، فألقيته عني ، قالت : ثم خرجت إلى بعض جاراتي فاستعرت منها ثياباً ، ثم خرجت حتى جئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فجلست بين يديه ، فذكرت له ما لقيت منه وجعلت أشكو إليه ما ألقى من سوء خلقه ، قالت : فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول؛ » يا خويلة ابن عمك شيخ كبير فاتقي الله فيه « قالت : فوالله ما برحت ، حتى نزل فيّ قرآن ، فتغشى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كان يتغشاه ، ثم سري عنه فقال لي : » يا خويلة قد أنزل الله فيك وفي صاحبك قرآناً ثم قرأ عليّ { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله والله يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمآ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } إلى قوله تعالى : { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } قالت ، فقال رسول الله صلى الله عليه سلم : « مريه فليعتق رقبة » قالت ، فقلت : يا رسول الله ما عنده ما يعتق ، قال : « فليصم شهرين متتابعين » ، قالت : فقلت : والله إنه لشيخ كبير ما به من صيام ، قال : « فليطعم ستين مسكيناً وسقاً من تمر » ، قالت ، فقلت : والله يا رسول الله ما ذاك عنده ، قالت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فإنا سنعينه بفرق من تمر » ، قالت ، فقلت : يا رسول الله وأنا سأعينه بفرق آخر ، قال : « وقد أصبت وأحسنت فاذهبي فتصدقي به عنه ثم استوصي بابن عمك خيراً » . قالت : ففعلت « هذا هو الصحيح في سبب نزول هذه السورة؛ قال ابن عباس : » أول من ظاهر من امرأته ( أوس بن الصامت ) أخو عبادة بن الصامت وامرأته ( خولة بنت ثعلبة بن مالك ) فلما ظاهر منها خشيت أن يكون ذلك طلاقاً ، فأتت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إن أوساً ظاهر مني ، وإنا إن افترقنا هلكنا ، وقد نثرت بطني منه وقدمت صحبته ، وهي تشكو ذلك وتبكي ، ولم يكن جاء في ذلك شيء ، فأنزل الله تعالى : { قَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ التي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وتشتكي إِلَى الله } إلى قوله تعالى : { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « أتقدر على رقبة تعتقها؟ قال : لا والله يا رسول الله ما أقدر عليها ، قال ، فجمع له رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أعتق رقبة ، ثم راجع أهله » .(1/2504)
وقوله تعالى : { الذين يُظَاهِرُونَ مِنكُمْ مِّن نِّسَآئِهِمْ } أصل الظهار مشتق من الظهر ، وذلك أن الجاهلية كانوا إذا ظاهر أحدهم من امرأته قال لها : أنت عليّ كظهر أُمّي ، وكان الظهار عند الجاهلية طلاقاً فأرخص الله لهذه الأُمّة وجعل فيه كفارة ولم يجعله طلاقاً كما كانوا يعتمدونه في جاهليتهم . هكذا قال غير واحد من السلف ، وقال سعيد بن جبير : كان الإيلاء والظهار من طلاق الجاهلية فوقّت الله الإيلاء أربعة أشهر ، وجعل في الظهار الكفارة ، وقوله تعالى : { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } أي لا تصير المرأة بقول الرجل أنت عليّ كأُمّي ، أو مثل أُمي ، أو كظهر أُمي وما أشبه ذلك ، لا تصير أُمه بذلك إنما أمه التي ولدته ، ولهذا قال تعالى : { وَإِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنكَراً مِّنَ القول وَزُوراً } أي كلاماً فاحشاً باطلاً ، { وَإِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } أي عما كان منكم في حال الجاهلية ، وهكذا أيضاً عما خرج من سبق اللسان ولم يقصد إليه المتكلم ، كما روي « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول لامرأته : يا أُختي ، فقال : » أختك هي؟ « » فهذا إنكار ، ولكن لم يحرمها عليه بمجرد ذلك لأنه لم يقصده ، ولو قصده لحرمت عليه ، لأنه لا فرق على الصحيح بين الأُم وبين غيرها من سائر المحارم من أُخت وعمَّة وخالة وما أشبه ذلك .
وقوله تعالى : { والذين يُظَاهِرُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } اختلف السلف والأئمة في المراد بقوله تعالى { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } فقال بعض الناس : العود هو أن يعود إلى لفظ الظهار فيكرره ، وهذا القول باطل ، وهو اختيار ابن حزم ، وقال الشافعي : هو أن يمسكها بعد المظاهرة زماناً يمكنه أن يطلق فيه فلا يطلق ، وقال أحمد بن حنبل : هو أن يعوند إلى الجماع أو يعزم عليه فلا تحل له حتى يكفر بهذه الكفارة ، وقد حكي عن مالك أنه لعزم على الجماع أو الإمساك وعنه أنه الجماع ، وقال أبو حنيفة : هو أن يعود إلى الظهار بعد تحريمه ورفع ما كان عليه أمر الجاهلية ، فتمنى ظاهر الرجل من امرأته فقد حرمها تحريماً لا يرفعه إلا الكافرة ، وعن سعيد بن جبير { ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُواْ } يعني يريدون أن يعودوا في الجماع الذي حرموه على أنفسهم . وقال الحسن البصري : يعني الغشيان في الفرج وكان لا يرى بأساً أن يغشى فيما دون الفرج قبل أن يكفّر .(1/2505)
قوال ابن عباس : { مِّن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا } والمس النكاح . وقال الزهري : ليس له أن يقبلها ولا يمسها حتى يكفر ، وقد روى أهل السنن من حديث عكرمة ، عن ابن عباس « أن رجلاً قال : يا رسول الله إني ظاهرت من امرأتي فوقعت عليها قبل أن أكفر ، فقال : » ما حملك على ذلك يرحمك الله؟ « قال : رأيت خلخالها في ضوء القمر ، قال : » فلا تقربها حتى تفعل ما أمرك الله عزّ وجلّ « » وقوله تعالى : { فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أي فإعتاق رقبة كاملة من قبل أن يتماسا ، فهاهنا الرقبة مطلقة غير مقيدة بالإيمان ، وفي كفارة القتل مقيدة بالإيمان ، فحمل الشافعي رحمه الله ما أطلق هاهنا على ما قيّد هناك لاتحاد الموجب ، هو عتق الرقبة ، وقوله تعالى : { ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ } أي تزجرون ، به ، { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي خبير با يصلحكم { عَلِيمٌ } بأحوالكم ، وقوله تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِن قَبْلِ أَن يَتَمَآسَّا فَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً } قد تقدمت الأحاديث الآمرة بهذا على الترتيب ، كما ثبت في الصحيحين في قصة الذي جامع امرأته في رمضان { ذَلِكَ لِتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } أي شرعنا هذا لهذا ، وقوله تعالى : { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } أي محارمه فلا تنتهكوها . وقوله تعالى : { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي الذي لم يؤمنوا ولا التزموا بأحكام هذه الشريعة ، لا تعتقدوا أنهم ناجون من البلاء ، كلا ليس الأمر كما زعموا ، بل لهم عذاب أليم أي في الدنيا والآخرة .(1/2506)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ كُبِتُوا كَمَا كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (6) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَا يَكُونُ مِنْ نَجْوَى ثَلَاثَةٍ إِلَّا هُوَ رَابِعُهُمْ وَلَا خَمْسَةٍ إِلَّا هُوَ سَادِسُهُمْ وَلَا أَدْنَى مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (7)
يخبر تعالى عمن شاقوا الله ورسوله وعاندوا شرعه { كُبِتُواْ كَمَا كُبِتَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي أهينوا ولعنوا وأخزوا كما فعل بمن أشبههم ممن قبلهم ، { وَقَدْ أَنزَلْنَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي واضحات لا يعاندها ولا يخالفها إلاّ كافر فاجر مكابر ، { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي في مقابلة ما استكبروا عن اتباع شرع الله . والانقياد له والخضوع لديه ، ثم قال تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً } وذلك يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عملوا } أي فيخبرهم بالذي صنعوا من خير وشر ، { أَحْصَاهُ الله وَنَسُوهُ } أي ضبطه الله وحفظه عليهم ، وهم قد نسوا ما كانوا عملوا ، { والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي لا يغيب عنه شيء ولا يخفى ولا ينسى . ثم قال تعالى مخبراً عن إحاطة علمه بخلقه واطلاعه عليهم وسماعه كلامهم ورؤيته مكانهم حيث كانوا وأني كانوا . فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مَا يَكُونُ مِن نجوى ثَلاَثَةٍ } أي من سر ثلاثة { إِلاَّ هُوَ رَابِعُهُمْ وَلاَ خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سَادِسُهُمْ وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ } ، أي مطلع عليهم يسمع كلامهم وسرهم ونجواهم ، ورسله أيضاً مع ذلك تكتب ما ينتاجون به من علم الله به وسمعه له ، كما قال تعالى : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ الله عَلاَّمُ الغيوب } [ التوبة : 78 ] ، وقال تعالى : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } [ الزخرف : 80 ] ، ولهذا حكى غير واحد الإجماع على أن المراد بهذه الآية معية علمه تعالى ، ولا شك في إرادة ذلك ، ولكن سمعه أيضاً مع علمه محيط بهم وبصره نافذ فيهم ، فهو سبحانه وتعالى مطلع على خلقه لا يغيب عنه من أمورهم شيء ، ثم قال تعالى : { ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا عَمِلُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } قال الإمام أحمد : افتتح الآية بالعلم واختتمها بالعلم .(1/2507)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوَى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَيَتَنَاجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَإِذَا جَاءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَيَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْلَا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلَا تَتَنَاجَوْا بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَمَعْصِيَتِ الرَّسُولِ وَتَنَاجَوْا بِالْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوَى مِنَ الشَّيْطَانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيْسَ بِضَارِّهِمْ شَيْئًا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)
كان بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين اليهود موادعة ، وكانوا إذا مر بهم الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم جلسوا يتناجون بينهم ، حتى يظن المؤمن أنه يتناجون بقتله أو بما يكره المؤمن ، فإذا رأى المؤمن ذلك خشيهم فترك طريقه عليهم ، فنهاهم النبي صلى الله عليه وسلم عن النجوى ، فلم ينتهوا وعادوا إلى النجوى ، فأنزل الله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نُهُواْ عَنِ النجوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ } . وقوله تعالى : { وَيَتَنَاجَوْنَ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول } أي يتحدثون فيما بينهم بالإثم وهو ما يختص بهم ، { والعدوان } وهو ما يتعلق بغيرهم ، ومنه معصية الرسول ومخالفته ، يصرون عليها ويتواصون بها ، وقوله تعالى : { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } . عن عائشة قالت : « دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهود ، فقالوا : السام عليك يا أبا القاسم ، فقالت عائشة : وعليكم السام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا عائشة إن الله لا يحب الفحش ولا التفحش « ، قلت : ألا تسمعهم يقولون : السام عليك؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أو سمعتِ ما أقول وعليكم؟ « ، فأنزل الله تعالى : { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله } » وفي رواية في الصحيح « أنها قالت لهم : عليكم السام والذام واللعنه ، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إنه يستجاب لنا فيهم ولا يستجاب لهم فينا « » وروى ابن جرير ، عن أنس بن مالك « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس مع أصحابه إذ أتى عليهم يهودي ، فسلم عليهم فردوا عليه ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : » هل تدرون ما قال؟ « قالوا : سلم يا رسول الله ، قال : » بل قال : سام عليكم « أي تسامون دينكم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ردوه « ، فردوه عليه ، فقال نبي الله صى الله عليه وسلم : » أقلت سام عليكم؟ « قال : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إذا سلم عليكم أحد من أهل الكتاب فقولوا : عليك « » ، أي عليك ما قلت .
وقوله تعالى : { وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ } أي يفعلون هذا ويقولون في أنفسهم لو كان هذا نبياً لعذبنا الله بما نقول له في الباطن لأن الله يعلم ما نسره ، فلو كان هذا نبياً حقاً لأوشك الله أن يعاجلنا بالعقوبة في الدنيا ، فقال الله تعالى : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ } أي جهنم كفايتهم في الدار الآخرة { يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير } ، عن عبد الله بن عمرو : أن اليهود كانوا يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم : سام عليك ، ثم يقولون في أنفسهم : لولا يعذبنا الله بما نقول؟ فنزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير } .(1/2508)
وقال ابن عباس : كان المنافقون يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حيوه : سام عليك ، قال الله تعالى : { حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير } ، ثم قال الله تعالى مؤدّباً عباده المؤمنين أن لا يكونوا مثل الكفرة والمنافقين : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَنَاجَيْتُمْ فَلاَ تَتَنَاجَوْاْ بالإثم والعدوان وَمَعْصِيَتِ الرسول } أي كما يتناجى به الجهلة من كفرة أهل الكتاب ومن مالأهم على ضلالهم من المنافقين ، { وَتَنَاجَوْاْ بالبر والتقوى واتقوا الله الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي فيخبركم بجميع أعمالكم وأقوالكم التي قد أحصاها عليكم وسيجزيكم بها ، روى الإمام أحمد عن صفوان بن محرز قال : « كنت آخذاً بيد ابن عمر إذ عرض له رجل ، فقال : كيف سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى يوم القيامة؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » إن الله يدني المؤمن فيضع على كتفه ويستره من الناس ويقرره بذنوبه ، ويقول له أتعرف ذنبك كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ، ورأى في نفسه أن قد هلك ، قال : فإني قد سترتها عليكم في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته ، وأما الكفار والمنافقون فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين « » ، ثم قال تعالى : { إِنَّمَا النجوى مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ وَلَيْسَ بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أي إنما النجوى هي المسارة حيث يتوهم مؤمن بها سوءاً ، { مِنَ الشيطان لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ } يعني إنما يصدر هذا من المتناجين عن تسويل الشيطان وتزيينه { لِيَحْزُنَ الذين آمَنُواْ } أي ليسوءهم وليس ذلك { بِضَآرِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ الله } ومن أحسّ من ذلك شيئاً فليستعذ بالله وليتوكل على الله ، فإنه لا يضره شيء بإذن الله ، وقد وردت السنة بالنهي عن التناجي حيث يكون في ذلك تأذ على مؤمن ، كما روى ابن مسعود ، قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يحزنه » .(1/2509)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجَالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَإِذَا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)
يقول تعالى مؤدباً عباده المؤمنين ، وآمراً لهم أن يحسن بعضهم إلى بعض في المجلس : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ } ، وذلك أن الجزاء من جنس العمل ، كما جاء في الحديث الصحيح : « من بنى لله مسجداً بنى الله له بيتاً في الجنة » ، قال قتادة نزلت هذه الآية في مجالس الذكر ، « وذلك أنهم كانوا إذا رأوا أحدهم مقبلاً ضنّوا بمجالسهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأمرهم الله تعالى أن يفسح بعضهم لبعض ، وقال مقاتل بن حيان : أنزلت هذه الآية يوم الجمعة ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ في الصفة ، وفي المكان ضيق ، وكان يكرم أهل بدر من المهاجرين والأنصار ، فجاء ناس من أهل بدر وقد سبقوا إلى المجالس ، فقاموا حيال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقاوا : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته ، فرد النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم سلموا على القوم بعد ذلك ، فردوا عليهم ، فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسع لهم ، فعرف النبي صلى الله عليه وسلم ما يحملهم على القيام ، فلم يفسح لهم ، فشق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال لمن حوله من المهاجرين والأنصار من غير أهل بدر : » قم يا فلان وأنت يا فلان « فلم يزل يقيمهم بعدة النفر الذين هم قيام بين يديه من المهاجرين والأنصار أهل بدر ، فشق ذلك على من أقيم من مجلسه ، وعرف النبي صلى الله عليه وسلم الكراهة في وجوههم ، فقال المنافقون : ألستم تزعمون أن صاحبكم هذا يعدل بين الناس؟ والله ما رأيناه قبل عدل على هؤلاء ، إن قوماً أخذوا مجالسهم وأحبوا القرب من نبيّهم ، فأقامهم ، وأجلس من أبطأ عنه ، فبلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » رحم الله رجلاً يفسح لأخيه « ، فجعلوا يقومون بعد ذلك سراعاً فيفسح القوم لإخوانهم » ، نزلت هذه الآية يوم الجمعة . وقد ورد عن ابن عمر « أن رسول صلى الله عليه وسلم قال : لا يقم الرجل الرجل من مجلسه فيجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا » وعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يقم الرجل الرجل من مجلسه ثم يجلس فيه ، ولكن افسحوا يفسح الله لكم » وقد اختلف الفقهاء في جواز القيام للوارد إذا جاء على أقوال : فمنهم من رخص في ذلك محتجاً بحديث : « قوموا إلى سيدكم » ، ومنهم من منع من ذلك محتجاً بحديث : « من أحب أن يتمثل له الرجال قياماً فليتبوأ مقعده من النار » ، منهم من فصّل فقال : يجوز عنه القدوم من سفر ، وللحاكم في محل ولايته كما دل عليه قصة سعد بن معاذ ،(1/2510)
« فإنه لما استقدمه النبي صلى الله عليه وسلم حاكماً في بني قريضة ، فرآه مقبلاً قال للمسلمين : » قوموا إلى سيدكم « » وما ذاك إلاّ ليكون أنفذ لحكمه والله أعلم ، فأما اتخاذه ديدناً فإنه من شعار العجم ، وقد جاء في السنن أنه لم يكن شخص أحب إليهم من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا جاء لا يقومون له لما يعلمون من كراهته لذلك .
وفي الحديث المروي في السنن « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يجلس حيث انتهى به المجلس ، ولكن حيث يجلس يكون صدر ذلك المجلس؛ فكان الصحابة رضي الله عنهم يجلسون منه على مراتبهم ، فالصديق رضي الله عنه يجلسه عن يمينه وعمر عن يساره ، وبين يديه غالباً عثمان وعليّ لأنهما كانا ممن يكتب الوحي ، وكان يأمرهما بذلك » ، كما روى مسلم عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : « ليلني منكم أولو الأحلام والنهى ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذي يلونهم » ، وما ذاك إلاّ ليعقلوا عنه ما يقوله صلوات الله وسلامه عليه ، وفي الحديث الصحيح : « بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ أقبل ثلاثة نفر ، فأما أحدهم فوجد فرجة في الحلقة فدخل فيها ، وأما الآخر فجلس وراء الناس ، وأدبر الثالث ذاهباً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ألا أنبئكم بخبر الثلاثة؟ أما الأول فآوى إلى الله فآواه الله ، وأما الثاني فاستحيا ، فاستحيا الله منه ، وأما الثالث فأعرض ، فأعرض الله عنه « » وروى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحل لرجل أن يفرق بين اثنين إلاّ بإذنهما » وقد روي عن ابن عباس والحسن البصري في قوله تعالى : { إِذَا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُواْ فِي المجالس فافسحوا يَفْسَحِ الله لَكُمْ } يعني في مجالس الحرب ، قالوا : ومعنى قوله : { وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ } أي انهضوا للقتال ، وقال قتادة : { وَإِذَا قِيلَ انشزوا فَانشُزُواْ } أي إذا دعيتم إلى خير فأجيبوا ، وقال مقاتل : إذا دعيتم إلى الصلاة فارتفعوا إليها ، وقوله تعالى : { يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي لا تعتقدوا أنه إذا فسح أحد منكم لأخيه أن ذلك يكون نقصاً في حقه ، بل هو رفعة ورتبة عند الله ، والله تعالى لا يضيع ذلك له ، بل يجزيه بها في الدنيا والآخرة ، فإن من تواضع لأمر الله رفع الله قدره ونشر ذكره ، ولهذا قال تعالى : { يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ والذين أُوتُواْ العلم دَرَجَاتٍ والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } ، أي خبير بمن يستحق ذلك وبمن لا يستحقه ، روى الإمام أحمد عن أبي الطفيل(1/2511)
« أن نافع بن عبد الحارث لقي عمر بن الخطاب بعسفان ، وكان عمر استعمله على مكة ، فقال له عمر : من استخلفت على أهل الوادي؟ قال : استخلفت عليهم ابن أبزى رجل من موالينا ، فقال عمر : استخلفت عليهم مولى؟ فقال : يا أمير المؤمنين إنه قارىء لكتاب الله ، عالم بالفرائض ، قاض ، فقال عمر رضي الله عنه : أما إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قد قال : » إن الله يرفع بهذا الكتاب أقواماً ويضع به آخرين « » ، وقد ذكرت فضل العلم وأهله وما ورد في ذلك من الأحاديث مستقصاه في « شرح كتاب العلم » من « صحيح البخاري » ، ولله الحمد والمنة .(1/2512)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَأَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَتَابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (13)
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين إذا أراد أحدهم أن يناجي رسول الله صلى الله عليه وسلم أي يساره فيما بينه وبينه ، أن يقدم بين يدي ذلك صدقة تطهره وتزكيه وتؤهله لأن يصلح لهذا المقام ، ولهذا قال تعالى : { ذَلِكَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَأَطْهَرُ } ، ثم قال تعالى : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ } أي إلاّ من عجز عن ذلك لفقره ، { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فما أمر بها إلاّ من قدر عليها ثم قال تعالى : { ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } أي اخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول ، { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } فنسخ وجوب ذلك عنهم ، وقد قيل : إنه لم يعمل بهذه الآية قبل نسخها سوى علي بن أبي طالب رضي الله عنه ، قال مجاهد : نهوا عن مناجاة النبي صلى الله عليه وسلم حتى يتصدقوا فلم يناجه إلاّ علي بن أبي طالب . قدم ديناراً صدقة تصدق به ، ثم ناجى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن عشر خصال ، ثم أنزل الرخصة ، وقال علي رضي الله عنه : آية في كتاب الله عزَّ وجلَّ لم يعمل بها أحد قبلي ولا يعمل بها أحد بعدي ، كان عندي دينار فصرفته بعشرة دراهم ، فكنت إذا ناجيت رسول الله صلى الله عليه وسلم تصدقت بدرهم ، فنسخت ، ولم يعمل بها أحد قبل ولا يعمل بها أحد بعدي ، ثم تلا هذه الآية : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا نَاجَيْتُمُ الرسول فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } . وقال ابن عباس : { فَقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً } . وذلك أن المسلمين أكثروا المسائل على رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى شقوا عليه . فأراد أن يخفف عن نبيّه عليه السلام ، فلما قال ذلك جبن كثير من المسلمين ، وكفروا عن المسألة ، فأنزل الله بعد هذا : { ءَأَشْفَقْتُمْ أَن تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَاتٍ } أي اخفتم من استمرار هذا الحكم عليكم من وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول ، { فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُواْ وَتَابَ الله عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة } فوسع الله عليهم ولم يضيق ، وقال قتادة ومقاتل : سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحفوه بالمسألة ، ففطمهم الله بهذه الآية ، فكان الرجل منهم إذا كانت له الحاجة إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم فلا يستطيع أن يقضيها ، حتى يقدم بين يديه صدقة ، فاشتد ذلك عليهم ، فأنزل الله الرخصة بعد ذلك : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .(1/2513)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَا مِنْهُمْ وَيَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (16) لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطَانُ فَأَنْسَاهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (19)
يقول الله تعالى منكراً على المنافقين في موالاتهم الكفار في الباطن ، وهم في نفس الأمر لا معهم ولا مع المؤمنين ، كما قال تعالى : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } [ النساء : 143 ] ، وقال هاهنا : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين تَوَلَّوْاْ قَوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِم } يعني اليهود الذين كان المنافقون يمالئونهم ويوالونهم في الباطن ، ثم قال تعالى : { مَّا هُم مِّنكُمْ وَلاَ مِنْهُمْ } أي هؤلاء المنافقون ليسوا في الحقيقة منكم أيها المؤمنون ، ولا من الذين يوالونهم وهم اليهود ، ثم قال تعالى : { وَيَحْلِفُونَ عَلَى الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } يعني المنافقين يحلفون على الكذب ، وهم عالمون بأنهم كاذبون فيما حلفوا وهي اليمين الغموس ، ولا سيما في مثل حالهم اللعين عياذاً بالله منه ، فإنهم كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا جاءوا الرسول حلفوا له أنهم مؤمنون ، وهم في ذلك يعلمون أنهم يكذبون فيما حلفوا به ، لأنهم لا يعتقدون صدق ما قالوه ، وإن كان في نفس الأمر مطابقاً ، ولهذا شهد الله بكذبهم في أيمانهم وشهادتهم لذلك . ثم قال تعالى : { أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي أرصد الله لهم معلى هذا الصنيع العذاب الأليم على أعمالهم السيئة وهي موالاة الكافرين ونصحهم ومعاداة المؤمنين وغشهم ، ولهذا قال تعالى : { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أي أظهروا الإيمان وأبطنوا الكفر واتقوا بالأيمان الكاذبة ، فظن كثير ممن لا يعرف حقيقة أمرهم صدقهم فاغتر بهم فحصل بهذا صد عن سبيل الله لعبض الناس { فَلَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ، أي في مقابلة ما امتهنوا من الحلف باسم اللفه العظيم في الأيمان الكاذبة الحانثة ، ثم قال تعالى : { لَّن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً } ، أي لن يدفع ذلك عنهم بأساً إذا جاءهم : { أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ثم قال تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً } أي يحشرهم يوم القيامة عن آخرهم فلا يغادر منهم أحداً ، { فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ } أي يحلفون بالله عزَّ وجلَّ أنهم كانوا على الهدى والاستقامة كما كانوا يحلفون للناس في الدنيا ، لأن من عاش على شيء مات عليه وبعث عليه ويعتقدون أن ذلك ينفعهم عند الله كما كان ينفعهم عند الناس فيجرون عليهم الأحكام الظاهرة ، ولهذا قال : { وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ } أي حلفهم ذلك لربهم عزّ وجلّ ، ثم قال تعالى منكراً عليهم حسبانهم { أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } فأدك الخبر عنهم بالكذب ، روى ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، أن ابن عباس حدَّثه « أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في ظل حجرة من حجره وعنده نفر من المسلمين ، قد كان يقلص عنهم الظل ، قال : » إنه سيأتيكم إنسان ينظر بعيني شيطان فإذا أتاكم فلا تكلموه « فجاء رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلمه ، فقال : » علام تشتمني أنت وفلان وفلان « نفر دعاهم بأسمائهم قال ، فانطلق الرجل فدعاهم فحلفوا له واعتذروا إليه ، قال : فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } »(1/2514)
، ثم قال تعالى : { استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان فَأَنسَاهُمْ ذِكْرَ الله } أي استحوذ على قلوبهم الشيطان حتى أنساهم أن يذكروا الله عزَّ وجلَّ ، وكذلك يصنع بمن استحوذ عليه ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من ثلاثة في قرية ولا بدو لا تقام فيهم الصلاة إلاّ وقد استحوذ عليهم الشيطان ، فعليك بالجماعة فإنما يأكل الذئب القاصية » . قال السائب : يعني الصلاة في الجماعة ، ثم قال تعالى : { أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ } يعني الذين استحوذ عليهم الشيطان فأنساهم ذكر الله ، ثم قال تعالى : { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } .(1/2515)
إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21) لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُولَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)
يقول تعالى مخبراً عن الكفار المعاندين المحادين لله ورسوله يعني الذين هم في حد والشرع في حد ، أي مجانبون للحق مشاقون له ، هم في ناحية والهدى في ناحية { أولئك فِي الأذلين } أي في الأشقياء المبعدين الأذلين في الدنيا والآخرة . { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي } أي قد حكم وكتب في كتابه الأول ، وقدره الذي لا يخالف ولا يمانع ولا يبدل ، بأن النصرة له ولكُتُبه ورسله وعباده المؤمنين في الدنيا والآخرة ، و { إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ هود : 49 ] ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } [ غافر : 51 ] ، وقال هاهنا : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي كتب القوي العزيز أنه الغالب لأعدائه ، وهذا قدر محكم وأمر مبرم أن العاقبة والنصرة للمؤمنين في الدنيا والآخرة ، ثم قال تعالى : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } أي لا يوادون المحادين ولو كانوا من الأقربين ، كما قال تعالى : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } [ التوبة : 24 ] أنزلت هذه الآية { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } إلى آخرها ، في ( أبي عبيدة بن الجراح ) حين قتل أباه يوم بدر ، ولهذا قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين جعل الأمر شورى بعده في أولئك الستة رضي الله عنهم : ولو كان أبو عبيدة حياً لا ستخلفته ، وقيل : في قوله تعالى : { وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ } نزلت في أبي عبيدة قتل أباه يوم بدر ، { أَوْ أَبْنَآءَهُمْ } في الصديق ، همَّ يومئذٍ بقتل ابنه عبد الرحمن { أَوْ إِخْوَانَهُمْ } في مصعب بن عمر قتل أخاه عبيد بن عمير يومئذٍ ، { أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } في عمر قتل قريباً له يومئذٍ أيضاً ، وفي حمزة وعلي وعبيدة بن الحارث ، قتلوا عتبة وشيبة والوليد بن عتبة يومئذٍ ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } أي من اتصف بأنه لا يواد من حاد الله ورسوله ، ولو كان أباه أو أخاه فهذا ممن كتب الله في قلبه الإيمان ، أي كتب له السعادة وقررها في قلبه ، وزين الإيمان في بصيرته ، قال السدي : { كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان } جعل في قلوبهم الإيمان ، وقال ابن عباس { وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِّنْهُ } أي قواهم ، وقوله تعالى : { وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } كل هذا تقدم تفسيره غير مرة .
وقوله تعالى : { رَضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } سر بديع وهو أنه لما سخطوا على القرائب والعشائر في الله تعالى عوضهم الله بالرضا عنهم ، وأرضاهم عنه بما أعطاهم من النعيم المقيم والفوز العظيم ، والفضل العميم ، وقوله تعالى : { أولئك حِزْبُ الله } أي هؤلاء حزب الله أي عباد الله وأهل كرامته ، وقوله تعالى : { أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } تنويه بفلاحهم وسعادتهم ونصرتهم في الدنيا والآخرة .(1/2516)
وفي الحديث : « إن الله يحب الأخفياء الأتقياء الأبرياء الذين إذا غابوا لم يفتقدوا ، وإذا حضروا لم يدعوا ، قلوبهم مصابيح الهدى يخرجون من كل فتنة سوداء مظلمة » ، فهؤلاء أولياء الله تعالى الذي قال الله : { أولئك حِزْبُ الله أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الله هُمُ المفلحون } ، وقال الحسن ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم لا تجعل لفاجر ولا لفاسق عندي يداً ولا نعمة ، فإني وجدت فيما أوحيته إليّ : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ } » .(1/2517)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الْأَبْصَارِ (2) وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ (3) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (4) مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ (5)
يخبر تعالى أن جميع ما في السماوات والأرض يسبّح له ويمجِّده ، ويقدِّسه ويوحِّده كقوله تعالى : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } [ الإسراء : 44 ] ، وقوله تعالى : { وَهُوَ العزيز } أي منيع الجناب { الحكيم } في قدره وشرعه ، وقوله تعالى : { هُوَ الذي أَخْرَجَ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب } يعني يهود بني النضير ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم المدينة هادنهم وأعطاهم عهداً وذمة على أن لا يقاتلهم ولا يقاتلوه فنقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه ، فأجلاهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخرجهم من حصونهم الحصينة التي ظنوا أنها ما نعتهم من بأس الله ، فما أغنى عنهم من الله شيئاً ، وجاءهم من الله ما لم يكن ببالهم ، وسيّرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأجلاهم من المدينة ، فكان منهم طائفة ذهبوا إلى ( أذرعات ) من أعالي الشام ، وهي أرض المحشر والمنشر ، ومنهم طائفة ذهبوا إلى ( خيبر ) وكان قد أنزلهم منها على أن لهم ما حلمت إبلهم ، فكانوا يخربون ما في بيوتهم من المنقولات التي يمكن أن تحمل معهم ، ولهذا قال تعالى : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين فاعتبروا ياأولي الأبصار } أي تفكروا في عاقبة من خالف أمر الله وخالف رسوله ، وكذّب كتابه ، كيف يحل بهم من بأسه المخزي له في الدنيا ، مع ما يدخره له في الآخرة من العذاب الأليم ، روى أبو داود ، عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك ، عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : « أن كفّار قريش كتبوا إلى ( ابن أبيّ ) ومن كان معه يعبد الأوثان من الأوس والخزرج ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ بالمدينة قبل رجعة بدر إنكم أدنيتم صاحبنا ، وإنا نقسم بالله لنقاتلنه أو لنخرجنكم ، أو لنسيرن إليكم بأجمعنا حتى نقتل مقاتلتكم ونسبي نساءكم ، فلما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم لقيهم فقال : » لقد بلغ وعيد قريش منكم المبالغ ، ما كانت تكيدكم بأكثر مما تريد أن تكيدوا به أنفسكم ، يريدون أن يقاتلوا أبناءكم وإخوانكم « ، فلما سمعوا ذلك من النبي صلى الله عليه وسلم تفرقوا ، فبلغ ذلك كفار قريش ، فكتبت كفار قريش بعد وقعة بدر إلى اليهود ، إنكم أهل الحلقة والحصون وإنكم لتقاتلن مع صاحبنا أو لنفعلن كذا وكذا ، ولا يحول بيننا وبين خدم نسائكم شيء ، وهو الخلاخيل ، فلمّا بلغ كتابه النبي صلى الله عليه وسلم أيقنت بنو النضير بالغدر ، فأرسلوا إلى النبي صلى الله عليه وسلم : اخرج إلينا في ثلاثين رجلاً من أصحابك ليخرج منا ثلاثون حبراً ، حتى نلتقي بمكان النصف ، وليسمعوا منك ، فإن صدقوك وآمنوا بك آمنا بك ، فلما كان الغد غدا عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكتائب فحصرهم فقال لهم : » إنكم والله لا تؤمنون عندي إلاّ بعهد تعاهدوني عليه « ، فأبوا أن يعطوه عهداً ، فقاتلهم يومهم ذلك ، ثم غدا من الغد على بني قريظة بالكتائب ، وترك بن بني النضير ودعاهم إلى أن يعاهدوه فعاهدوه ، فانصرف عنهم ، وغدا إلى بني النضير بالكتائب فقاتلهم حتى نزلوا على الجلاء فجلت بنو النضير ، واحتملوا ما أقلت الإبل من أمتعتهم وأبواب بيوتهم وخشبها ، وكان نخل بني النضير لرسول الله صلى الله عليه وسلم خاصة أعطاه الله إياها وخصه بها ، فقال تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } [ الحشر : 6 ] نقول بغير قتال ، فأعطى النبي صلى الله عليه وسلم أكثرها للمهاجرين قسمها بينهم ، وقسم منها لرجلين من الأنصار ، كانا ذوي حاجة ولم يقسم من الأنصار غيرهما »(1/2518)
، وبقي منها صدقة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي في أيدي بني فاطمة .
وقوله تعالى : { مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُواْ } أي في مدة حصاركم لهم وكانت ستة أيام مع شدة حصونهم ومنعتها ، ولهذا قال تعالى : { وظنوا أَنَّهُمْ مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ الله فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ } أي جاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال كما قال تعالى في الآية الأُخْرَى { وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النحل : 26 ] ، وقوله تعالى : { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب } أي الخوف والهلع والجزع ، وكيف لا يحصل لهم ذلك وقد حاصرهم الذي نصر بالرعب مسيرة شهر صلوات الله وسلامه عليه ، وقوله : { يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المؤمنين } هو نقض ما استحسنوه من سقوفهم وأبوابهم وحلمها على الإبل ، وقال مقاتل بن حيان : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتلهم ، فإذا ظهر على درب أو دار هدم حيطانها ليتسع المكان للقتال ، وكان اليهود إذا علو مكاناً أو غلبوا على درب أو دار نقبوا من أدبارها ، ثم حصنوها ودربوها ، يقول الله تعالى : { فاعتبروا ياأولي الأبصار } ، وقوله : { وَلَوْلاَ أَن كَتَبَ الله عَلَيْهِمُ الجلاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدنيا } أي لولا أن الله كتب عليهم هذا الجلاء وهو النفي من ديارهم وأموالهم ، لكان لهم عند الله عذاب آخر من القتل والسبي ونحو ذلك ، لأن الله قد كتب عليهم أنه سيعذبهم في الدار الدنيا مع ما أعد لهم في الدار الآخرة من العاذب من نار جهنم ، عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير قال : ثم كانت وقعة بني النضير ، وهم طائفة من اليهود على رأس ستة أشهر من وقعة بدر ، وكان منزلهم بناحية من المدينة فحاصرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى نزلوا على الجلاء وأن لهم ما أقلت الإبل من الأموال والأمتعة إلاّ الحلقة وهي السلاح ، فأجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الشام ، قال : والجلاء أنه كتب عليهم في آي من التوراة ، وكانوا من سبط لم يصبهم الجلاء قبل ما سلط عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله فيهم : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } - إلى قوله - { وَلِيُخْزِيَ الفاسقين } ، قال قتادة : الجلاء خروج الناس من البلد إلى البلد ، وقال الضحّاك : أجلاهم إلى الشام وأعطى كل ثلاثة بعيراً وسقاء فهذا الجلاء ، وقد روى الحافظ أبو بكر البيهقي ، عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم قد حاصرهم حتى بلغ منهم كل مبلغ ، فأعطوه ما أراد منهم ، فصالحهم على أن يحقن لهم دماءهم ، وأن يخرجهم من أرضهم ومن ديارهم وأوطانهم ، وأن يسيرهم إلى أذرعات الشام ، وجعل لكل ثلاثة منهم بعيراً وسقاء ، والجلاء إخراجهم من أرضهم إلى أرض أُخْرَى .(1/2519)
وعن محمد بن مسلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه إلى بني النضير ، وأمره أن يؤجلهم في الجلاء ثلاثة أيام .
وقوله تعالى : { وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابُ النار } أي حتم لازم لا بد لهم منه ، وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ } أي إنما فعل الله بهم ذلك وسلط عليهم رسوله وعباده المؤمنين ، لأنهم خالفوا الله ورسوله وكذبوا بما أنزل الله على رسله المتقدمين في البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وهم يعرفون ذلك كما يعرفون أبناءهم ، ثم قال : { وَمَن يُشَآقِّ الله فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } ، وقوله تعالى : { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الفاسقين } اللين نوع من التمر وهو جيد ، قال أبو عبيدة : وهو ما خالف العجوة والبرني من التمر ، وقال كثيرون من المفسرين : اللينة ألوان التمر سوى العجوة ، قال ابن جرير : هو جميع النخل ، وذلك « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما حاصرهم أمر بقطع نخيلهم إهانة لهم وإرعاباً لقلوبهم ، فبعث بنو قريظة يقولون لرسول الله صلى الله عليه وسلم إنك تنهي عن الفساد ، فما بالك تأمر بقطع الأشجار؟ فأنزل الله هذه الآية الكريمة ، أي ما قطعتم من لينة وما تركتم من الأشجار فالجميع بإذنه ومشيئته وقدره ورضاه ، وفيه نكاية بالعدو وخزي لهم ، وإرغام لأنوفهم » . روى الإمام أحمد ، عن ابن عمر « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع نخل بن النضير وحرّق » ولفظ البخاري ، عن ابن عمر قال : حاربت النضير وقريظة فأجلى بن النضير ، وأقر قريظة ومن عليهم حتى حاربت قريظة ، فقتل من رجالهم وسبى وقسم نساءهم وأموالهم بين المسلمين إلا بعضهم لحقوا بالنبي صلى الله عليه وسلم فأمنهم وأسلموا ، وأجلى يهود المدينة كلهم بني قينقاع ، وهم رهط ( عبد الله بن سلام ) ويهود بني حارثة وكل يهود بالمدينة . وفي « الصحيحين » عن ابن عمر : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرق نخل بني النضير وقطع ، وهي البويرة ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { مَا قَطَعْتُمْ مِّن لِّينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَآئِمَةً على أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ الله وَلِيُخْزِيَ الفاسقين } » ولها يقول حسان بن ثابت رضي الله عنه :
وهان على سراة بني لؤي ... حريق بالبويرة مستطير
قال أبو إسحاق : كانت وقعة بني النضير بعد وقعة أُحُد وبد بئر معونة ، وحكى البخاري عن الزهري عن عروة أنه قال : كانت وقعة بني النضير بعد بدر بستة أشهر .(1/2520)
وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلَا رِكَابٍ وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (7)
الفيء كل مال أخذ من الكفار من غير قتال ولا إيجاف خيل ولا ركاب ، كأموال بني النضير هذه فإنها مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب أي لم يقاتلوا الأعداء فيها بالمبارزة والمصاولة ، بل نزل أولئك من الرعب الذي ألقى الله في قلوبهم ، فأفاءه الله على رسوله ، ولهذا تصرف فيه كما يشاء فرده على المسلمين في وجوه البر والمصالح ، التي ذكرها الله عزّ وجلّ في هذه الآيات فقال تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ } أي من بني النضير ، { فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ } يعني الإبل ، { ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي هو قدير لا يغالب ولا يمانع بل هو القاهر لكل شيء ، ثم قال تعالى : { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى } أي جميع البلدان التي تفتح هكذا فحكمها حكم أموال بني النضير ، ولهذا قال تعالى : { فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل } إلى آخرها والتي بعدها ، فهذه مصاريف أموال الفيء ووجوهه .
روى الإمام أحمد ، عن عمر رضي الله عنه قال : كانت أموال بني النضير مما أفاء الله على رسوله مما لم يوجف المسلمون عليه بخيل ولا ركاب ، فكانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ، فكان ينفق على أهله منها نفقة سنته ، وما بقي جعله في الكُرَاع والسلاح في سبيل الله عزّ وجلّ . وقوله تعالى : { كَيْ لاَ يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأغنيآء مِنكُمْ } أي جعلنا هذه المصارف لمال الفيء كيلا يبقى مأكلة يتغلب عليها الأغنياء ، ويتصرفون فيها بمحض الشهوات والآراء ، ولا يصرفون منه شيئاً إلى الفقراء .
وقوله تعالى : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } أي مهما أمركم به فافعلوه ، ومهما نهاكم عنه فاجتبنوه ، فإنه إنما يأمر بخير ، وإنما ينهى عن شر . عن مسروق قال : جاءت امرأة إلى ابن مسعود فقالت : بلغني أنك تنهى عن الواشمة والواصلة أَشيء وجدته في كتاب الله تعالى أو عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بل شيء وجدته في كتاب الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : والله لقد تصفحت ما بين دفتي المصحف ، فما وجدت فيه الذي تقول ، قال : فما وجدتِ فيه : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } ؟ قالت : بلى ، قال : فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن الواصلة والواشمة والنامصة ، قالت : فلعله في بعض أهلك ، قال : فادخلي فانظري ، فدخلت فنظرت ، ثم خرجت ، قالت : ما رأيت بأساً ، فقال لها : أما حفظت وصية العبد الصالح : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [ هود : 88 ] . وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات والمتنمصات والمتفلجات للحُسْن ، المغيرات خلق الله عزّ وجلّ .(1/2521)
قال : فبلغ امرأة من بني أسد في البيت يقال لها أُم يعقوب ، فجاءت إليه فقالت : بلغني أنك قلت كيت وكيت ، قال : ما لي لا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي كتاب الله تعالى؟ فقالت : إني لأقرأ ما بين لوحيه فما وجدته ، فقال : إن كنت قرأتيه فقد وجدتيه ، أما قرأت : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا } ، قالت : بلى؟ قال : فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عنه ، قالت إني لأظن أهلك يفعلونه ، قال : اذهبي فانظري ، فذهبت فلم تر من حاجتها شيئاً ، فجاءت فقالت : ما رأيت شيئاً ، قال : لو كان كذا لم تجامعنا . وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتم وما نهيتكم عنه فاجتنبوه » وقوله تعالى : { واتقوا الله إِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } أي اتقوه في امتثال أوامره وترك زواجره ، فإنه شديد العقاب لمن عصاه وخالف أمره وأباه ، وارتكب ما عنه زجره ونهاه .(1/2522)
لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (10)
يقول تعالى مبيناً حال الفقراء المستحقين لمال الفيء أنهم { الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً } ، أي خرجوا من ديارهم وخالفوا قومهم ابتغاء مرضاة الله ورضوانه ، { وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك هُمُ الصادقون } أي هؤلاء الذين صدقوا قولهم بفعلهم ، وهؤلاء هم سادات المهاجرين . ثم قال تعالى مادحاً للأنصار ومبيناً فضلهم وشرفهم وكرمهم وعدم حسدهم وإيثارهم مع الحاجة ، فقال تعالى : { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ } أي سكنوا دار الهجرة من قبل المهاجرين وآمنوا قبل كثير منهم ، قال عمر : « وأوصي الخليفة بعدي بالمهاجرين الأولين أن يعرف لهم حقهم ويحفظ لهم كرامتهم ، وأوصيه بالأنصار خيراً الذين تبوأوا الدار والإيمان من قبل ، أن يقبل من محسنهم وأن يعفو عن مسيئهم » . وقوله تعالى : { يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } أي من كرمهم وشرف أنفسهم ، يحبون المهاجرين ويواسونهم بأموالهم ، روى الإمام أحمد ، عن أَنَس قال : « قال المهاجرون : يا رسول الله ما رأينا مثل قوم قدمنا عليهم ، أحسن مواساة في قليل ولا أحسن بذلاً في كثير ، لقد كفونا المؤنة وأشركونا في المهنأ ، حتى لقد خشينا أن يذهبوا بالأجر كله ، قال : » لا ، ما أثنيتم عليهم ودعوتم الله لهم « ودعا النبي صلى الله عليه وسلم » الأنصار أن يقطع لهم البحرين ، قالوا : لا ، إلا أن تقطع لإخواننا من المهاجرين مثلنا ، قال : « إما لا ، فاصبروا حتى تلقوني فإنه سيصيبكم أثرة » « وقال البخاري ، عن أبي هريرة قال : » قالت الأنصار : اقسم بيننا وبين إخواننا النخيل ، قال : « لا » ، فقالوا : أتكفونا المؤنة ونشرككم في الثمرة؟ قالوا : سمعنا وأطعنا « ، { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } أي ولا يجدون في أنفسهم حسداً للمهاجرين ، فيما فضلهم الله بن من المنزلة والشرف والتقديم في الذكر والرتبة ، قال الحسن البصري : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً } يعني الحسد { مِّمَّآ أُوتُواْ } قال قتادة : يعني فيما أعطي إخوانهم ، وقال عبد الرحمن بن زيد في قوله تعالى : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } يعني مما أوتوا : المهاجرون ، قال : وتكلم في أموال بني النضير بعض من تكلم في الأنصار فعاتبهم الله في ذلك فقال تعالى : { وَمَآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَمَآ أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلاَ رِكَابٍ ولكن الله يُسَلِّطُ رُسُلَهُ على مَن يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الحشر : 6 ] قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » « إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم » ، فقالوا : أموالنا بيننا قطائع ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أو غير ذلك؟ » قالوا : وما ذاك يا رسول الله؟ قال : « هم قوم لا يعرفون العلم فتكفونهم وتقاسمونهم الثمر » ، فقالوا : نعم يا رسول الله ، وقوله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } «(1/2523)
عني حاجة ، أي يقدموا المحاويج على حاجة أنفسهم ، ويبدأون بالناس قبلهم في حال احتياجهم إلى ذلك . وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أفضل الصدقة جهد المقل » ، ومن هذا المقام « تصدق الصدّيق رضي الله عنه بجميع ماله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما أبقيت لأهلك؟ « فقال رضي الله عنه : أبقيت لهم الله ورسوله » ، وهكذا الماء الذي عرض على عكرمة وأصحابه يوم اليرموك ، فكل منهم يأمر بدفعه إلى صاحبه وهو جريح مثقل أحوج ما يكون إلى الماء ، فرده الآخر إلى الثالث ، فما وصل إلى الثالث حتى ماتوا عن آخرهم ، ولم يشربه أحد منهم رضي الله عنهم وأرضاهم ، وقال البخاري ، عن أبي هريرة قال : « أتى رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أصابني الجهد ، فأرسل إلى نسائه فلم يجد عندهن شيئاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » ألا رجل يضيف هذه الليلة رحمه الله « فقال رجل من الأنصار فقال : أنا يا رسول الله ، فذهب إلى أهله ، فقال لامرأته هذا ضيف رسول الله صلى الله عليه وسلم لا تدخريه شيئاً ، فقالت : والله ما عندي إلا قوت الصبية ، قال : فإذا أراد الصبية العشاء فنوميهم فأطفئي السرج ونطوي بطوننا الليلة ، ففعلت ، ثم غدا الرجل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » لقد عجب الله عزّ وجلّ - أو ضحك - من فلان وفلانة « ، وأنزل الله تعالى : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } . وفي رواية لمسلم تسمية هذا الأنصاري بأبي طلحة رضي الله عنه .
وقوله تعالى : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } أي من سلم من الشح فقد أفلح وأنجح ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الشح ، فإن الشح أهلك من كان قبلكم ، حملهم على أن سفكوا دماءهم واستحلوا محارمهم « وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه سلم : » اتقوا الظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة ، واتقوا الفحش فإن الله لا يحب الفحش ولا التفحش ، وإياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالظلم فظلموا ، وأمرهم بالفجور ففجروا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا « وقال ابن أبي حاتم ، عن الأسود بن هلال قال : جاء رجل إلى عبد الله فقال : يا أبا عبد الرحمن إني أخاف أن أكون قد هلكت ، فقال له عبد الله : وما ذاك؟ قال : سمعت الله يقول : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } وأنا رجل شحيح لا أكاد أن أخرج من يدي شيئاً ، فقال عبد الله : ليس ذلك بالشح الذي ذكر الله في القرآن ، إنما الشح الذي ذكر الله في القرآن أن تأكل مال أخيك ظلماً ، ولكن ذاك البخل ، وبئس الشيء البخل ، وعن أبي الهياج الأسدي ، قال : كنت أطوف بالبيت فرأيت رجلاً يقول : اللهم قني شح نفسي ، لا يزيد على ذلك ، فقلت له : فقال إني إذا وقيت شح نفسي لم أسرق ولم أزن ولم أفعل ، وإذا الرجل عبد الرحمن بن عوف رضي الله عنه .(1/2524)
وفي الحديث : « بريء من الشح من أدى الزكاة وقرى الضيف وأعطى في النائبة » .
وقوله تعالى : { والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } هؤلاء هم القسم الثالث ممن يستحق فقراؤهم من مال الفيء ، وهم المهاجرون ثم الأنصار ثم التابعون لهم بإحسان كما قال في آية براءة : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ التوبة : 100 ] ، فالتابعون لهم بإحسان هم المتبعون لآثارهم الحسنة ، وأوصافهم الجميلة ، الداعون لهم في السر والعلانية ، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة : { والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ } أي قائلين : { رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان وَلاَ تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاًّ } أي بغضاً وحسداً { لِّلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَآ إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } ، وما أحسن ما استنبط الإمام مالك رحمه الله من هذه الآية الكريمة أن الرافضي الذي يسب الصحابة ليس له في مال الفيء نصيب لعدم اتصافه بما مدح الله به هؤلاء ، وقال ابن أبي حاتم ، عن عائشة أنها قالت : أمروا أن يستغفروا لهم فسبوهم ، ثم قرأت هذه الآية : { والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الذين سَبَقُونَا بالإيمان } الآية ، وقال ابن جرير : قرأ عمر بن الخطاب : { إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَآءِ والمساكين } [ التوبة : 60 ] حتى بلغ { عَلِيمٌ حَكِيمٌ } [ التوبة : 60 ] ، ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى } [ الأنفال : 41 ] الآية : ثم قال : هذه لهؤلاء ، ثم قرأ : { مَّآ أَفَآءَ الله على رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ القرى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي القربى } [ الحشر : 7 ] حتى بلغ { والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ } { والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } ثم قال : استوعبت هذه المسلمين عامة ، وليس أحد إلا وله فيها حق ، ثم قال : لئن عشت ليأتين الراعي وهو بسرو حمير نصيبه فيها لم يعرق بها جبينه .(1/2525)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلَا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لَا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَلَئِنْ قُوتِلُوا لَا يَنْصُرُونَهُمْ وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (13) لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (15) كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنْسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (16) فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (17)
يخبر تعالى عن المنافقين كعبد الله بن أبيّ وأضرابه ، حين بعثوا إلى يهود بن النضير ، يعدونهم النصر من أنفسهم ، فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ } ، قال الله تعالى : { والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي لكاذبون فيما وعدوهم به ، ولهذا قال تعالى : { وَلَئِن قُوتِلُواْ لاَ يَنصُرُونَهُمْ } أي لا يقاتلون معهم ، { وَلَئِن نَّصَرُوهُمْ } أي قاتلوا معهم { لَيُوَلُّنَّ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } ، وهذه بشارة مستقلة بنفسها ، ثم قال تعالى : { لأَنتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِّنَ الله } أي يخافون منكم أكثر من خوفهم من الله ، كقوله تعالى : { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [ النساء : 77 ] ، ولهذا قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } ، ثم قال تعالى : { لاَ يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرًى مُّحَصَّنَةٍ أَوْ مِن وَرَآءِ جُدُرٍ } يعني أنهم من جبنهم وهلعهم ، لا يقدرون على مواجهة جيش الإسلام ، بل إما في حصون أو من وراء جدر محاصرين ، فيقاتلون للدفع عنهم ضرورة ، ثم قال تعالى : { بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ } أي عداوتهم فيما بينهم شديدة كما قال تعالى : { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } [ الأنعام : 65 ] ، ولهذا قال تعالى : { تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَقُلُوبُهُمْ شتى } أي تراهم مجتمعين فتحسبهم مؤتلفين ، وهم مختلفون غاية الاختلاف ، قال إبراهيم النخعي : يعني أهل لكتاب والمنافقين { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } ، ثم قال تعالى : { كَمَثَلِ الذين مِن قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، قال مجاهد والسدي : يعني كمثل ما أصاب كفار قريش يوم بدر ، وقال ابن عباس : كمثل الذين من قبلهم يعني يهود بني قينقاع ، وهذا القول أشبه بالصواب ، فإن يهود بني قينقاع كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أجلاهم قبل هذا .
وقوله تعالى : { كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ } يعني مثل هؤلاء اليهود في اغترارهم بالذي وعدوهم النصر من المنافقين ، كمثل الشيطان إذا سوّل للإنسان الكفر ثم تبرأ منه وتنصل ، وقال : { إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } . روى ابن جرير ، عن عبد الله بن مسعود في هذه الآية : { كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } قال : كانت امرأت ترعى الغنم ، كان لها أربعة أخوة ، وكانت تأوي بالليل إلى صومعة راهب ، قال : فنزل الراهب ففجر بها ، فحملت ، فأتاه الشيطان فقال له : اقتلها ثم ادفنها ، فإنك رجل مصدق يسمع قولك ، فقتلها ثم دفنها قال : فأتى الشيطان إخوتها في المنام فقال هلم : إن الراهب صاحب الصومعة فجر بأُختكم فلما أحبلها قتلها ثم دفنها في مكان كذا وكذا ، فلما أصبحوا قال رجل منهم : والله لقد رأيت البارحة رؤيا ما أدري أقصها عليكم أم أترك؟ قالوا : بل قصها علينا ، قال ، فقصها؛ فقال الآخر : وأنا والله لقد رأيت ذلك ، فقال الآخر : وأنا والله قد رأيت ذلك ، قالوا : فوالله ما هذا إلا لشيء ، قال : فانطلقوا ، فاستَعْدُوا ملكهم على ذلك الراهب ، فأتوه فأنزلوه ، ثم انطلقوا به ، فلقيه الشيطان فقال : إني أنا الذي أوقعتك في هذا ولن ينجيك منه غيري ، فاسجد لي واحدة وأنجيك مما أوقعتك فيه ، قال : فسجد له ، فلما أتوا به ملكهم تبرأ منه وأخذ فقتل ، واشتهر عند كثير من الناس أن هذا العابد هو ( برصيصا ) فالله أعلم .(1/2526)
وقوله تعالى : { فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَآ أَنَّهُمَا فِي النار خَالِدِينَ فِيهَا } أي فكان عاقبة الأمر بالكفر مصيرهما إلى نار جهنم خالدين فيها { وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين } أي جزاء كل ظالم .(1/2527)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (19) لَا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ (20)
عن جرير بن عبد الله قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم في صدر النهار قال ، فجاءه قوم حفاة عراة ، مجتابي النمار أو العباء ، متقلدي السيوف ، عامتهم من مضر ، بل كلهم من مضر ، فتغيّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما رأى بهم من الفاقة ، قال : فدخل ثم خرج ، فأمر بلالاً فأذن ، وأقام الصلاة فصلّى ، ثم خطب فقال : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ النساء : 1 ] - إلى آخر الآية ، وقرأ الآية التي في الحشر - { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } - تصدق رجل من ديناره من درهمه ، من ثوبه ، من صاع بر ، من صاع تمر - حتى قال - ولو بشق تمرة . قال : فجاء رجل من الأنصار بصرة كادت كفه تعجز عنها ، بل قد عجزت ، ثم تتابع الناس حتى رأيت كومين من طعام وثياب ، حتى رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه ، كأنه مذهبه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من سنَّ في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ومن سنَّ في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من غير أن ينقص من أوزارهم شيء » ، فقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله } أمر بتقواه ، وهو يشمل فعل ما به أمر ، وترك ما عنه زجر ، وقوله تعالى : { وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } أي حاسبوا أنفسكم قبل تحاسبوا ، وانظروا ماذا ادخرتم لأنفسكم من الأعمال الصالحة ليوم معادكم وعرضكم على ربكم ، { واتقوا الله } تأكيد ثان { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي اعلموا أنه عالم بجميع أعمالكم وأحوالكم لا تخفى عليه منكم خافية ، ولا يغيب عنه من أموركم جليل ولا حقير ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } أي لا تنسوا ذكر الله تعالى فينسيكم العمل لمصالح أنفسكم ، فإن الجزاء من جنس العمل ، ولهذا قال تعالى : { أولئك هُمُ الفاسقون } أي الخارجون عن طاعة الله ، الهالكون يوم القيامة ، الخاسرون يوم معاهدهم ، كما قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون } [ المنافقون : 9 ] .
خطب أبو بكر الصدّيق رضي الله عنه فقال : أما تعلمون أنكم تغدون وتروحون لأجل معلوم ، فمن استطاع أن يقضي الأجل ، وهو من عمل الله عزّ جلّ ، فليفعل ، ولن تنالوا ذلك إلا بالله عزّ وجلّ ، إن قوماً جعلوا آجالهم لغيرهم فنهاكم الله عزّ وجلّ أن تكونوا أمثالهم { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين نَسُواْ الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ } ، أين من تعرفون من إخوانكم؟ قدموا على ما قدموا في أيام سلفهم ، وخلوا بالشقوة والسعادة ، أين الجبارون الأولون الذين بنوا المدائن وحصنوها بالحوائط؟ قد صاروا تحت الصخر والآبار ، هذا كتاب الله لا تفنى عجائبه ، فاستضيئوا منه ليوم ظلمة ، واستضيئوا بسنائه وبيانه ، إن الله تعالى أثنى على زكريا وأهل بيته فقال تعالى :(1/2528)
{ إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ } [ الأنبياء : 90 ] ، لا خير في قول لا يراد به وجه الله ، ولا خير في مال لا ينفق في سبيل الله ، ولا خير فمن يغلب جهله حلمه ، ولا خير فيمن يخاف في الله لومة لائم . وقوله تعالى : { لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة } أي لا يستوي هؤلاء وهؤلاء في حكم الله تعالى يوم القيامة كما قال تعالى : { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] ، وقال تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار } [ ص : 28 ] ، ولهذا قال تعالى هاهنا : { أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون } أي الناجون المسلَّمون من عذاب الله عزّ وجلّ .(1/2529)
لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)
يقول تعالى معظماً لأمر القرآن ومبيناً علو قدره ، وأنه ينبغي أن تخشع له القلوب ، وتتصدع عند سماعه لما فيه من الوعد الحق والوعيد والأكيد : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً مِّنْ خَشْيَةِ الله } أي فإذا كان الجبل في غلظته وقساوته ، لو فهم هذا القرآن فتدبر ما فيه لخشع وتصدع من خوف الله عزّ وجلّ ، فكيف يليق بكم يا أيها البشر أن لا تلين قلوبكم ، وتخشع وتتصدع من خشية الله ، وقد فهمتم عن الله أمره وتدبرتم كتابه؟ ولهذا قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } قال ابن عباس في قوله تعالى : { لَوْ أَنزَلْنَا هذا القرآن على جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُّتَصَدِّعاً } إلى آخرها ، يقول : لو أني أنزلت هذا القرآن على جبل حملته أياه لتصدع وخشع من ثقله ومن خشية الله ، فأمر الله الناس إذا نزل عليهم القرآن أن يأخذوه بالخشية الشديدة والتخشع ، ثم قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ، وقال الحسن البصري : إذا كانت الجبال الصم لو سمعت كلام الله وفهمته لخشعت وتصدعت من خشيته ، فكيف بكم وقد سمعتم وفهمتم؟ وقد قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأرض أَوْ كُلِّمَ بِهِ الموتى } [ الرعد : 31 ] الآية ، وقد تقدم أن معنى ذلك أي لكان هذا القرآن ، ثم قال تعالى : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمن الرحيم } أخبر تعالى أنه الذي لا إله إلا هو ، فلا رب غيره ولا إله للوجود سواه ، وكل ما يعبد من دونه فباطل ، وأنه عالم الغيب والشهادة أي يعلم جميع الكائنات المشاهدات لنا والغائبات عنا ، فلا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السماء من جليل وحقير وصغير وكبير حتى الذر في الظلمات ، وقوله تعالى : { هُوَ الرحمن الرحيم } المراد أنه ذو الرحمة الواسعة الشاملة لجميع المخلوقات ، فهو رحمن الدنيا والآخرة ورحيمهما ، وقد قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 156 ] ، وقال تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } [ الأنعام : 54 ] وقال تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } [ يونس : 58 ] ، ثم قال تعالى : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ الملك } أي المالك لجميع الأشياء المتصرف فيها بلا ممانعة ولا مدافعة .
وقوله تعالى : { القدوس } قال وهب بن منبه : أي الطاهر ، وقال مجاهد وقتادة : أي المبارك ، وقال ابن جريج : تقدسه الملائكة الكرام ، { السلام } أي من جميع العيوب والنقائص لكماله في ذاته وصفاته وأفعاله ، وقوله تعالى : { المؤمن } قال ابن عباس : أي أمن خلقه من أن يظلمهم ، وقال قتتادة : أمن بقوله أنه حق . وقال ابن زيد : صدّق عباده المؤمنين في إيمانهم به ، وقوله تعالى : { المهيمن } قال ابن عباس وغير واحد : أي الشاهد على خلقه بأعمالهم ، بمعنى هو رقيب عليهم ، كقوله :(1/2530)
{ والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ المجادلة : 6 ، البروج : 9 ] ، وقوله : { ثُمَّ الله شَهِيدٌ على مَا يَفْعَلُونَ } [ يونس : 46 ] ، وقوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] الآية ، وقوله تعالى : { العزيز } أي الذي قد عز كل شيء فقهره ، وغلب الأشياء فلا ينال لعزته وعظمته وجبروته وكبريائه ، ولهذا قال تعالى : { الجبار المتكبر } أي الذي لا تليق الجبرية إلا له ، ولا التكبر إلا لعظمته كما تقدم في الصحيح : « العظمة إزاري والكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما عذبته » ، وقال قتادة : الجبار الذي جبر خلقه على ما يشاء ، وقال ابن جرير : الجبار المصلح أُمور خلقه المتصرف فيهم بما فيه صلاحهم ، وقال قتادة : المتكبر يعني عن كل سوء ، ثم قال تعالى : { سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } . وقوله تعالى : { هُوَ الله الخالق البارىء المصور } الخلق : التقدير ، والبرء : التنفيذ وإبراز ما قدره وقرره إلى الوجود ، وليس كل من قدر شيئاً ورتّبه يقدر على تنفيذه وإيجاده سوى الله عزّ وجلّ . قال الشاعر يمدح آخر :
ولأنت تفري ما خلقت وبعض ... القوم يخلق ثم لا يفرى
أي أنت تنفذ ما خلقت ، أي قدرت بخلافل غيرك؛ فإنه لا يستطيع ما يريده فالخلق : التقدير ، والفري : التنفيذ ، ومنه يقال : قدر الجلاد ثم فرى ، أي قطع على ما قدره بحسب ما يريده ، وقوله تعالى : { الخالق البارىء المصور } أي الذي إذا أراد شيئاً قال له : كن فيكون ، على الصفة التي يريد ، والصورة التي يختار ، كقوله تعالى : { في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ } [ الانفطار : 8 ] ، ولهذا قال المصور أي الذي ينفذما يريد إيجاده على الصفة التي يريدها .
وقوله تعالى : { لَهُ الأسمآء الحسنى } قد تقدم الكلام على ذلك في سورة الأعراف ، ونذكر الحديث المروي عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن لله تعالى تسعة وتسعين اسماًن مائة إلا واحداً ، من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر ، هو الله الذي لا إله إلا هو الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارىء ، المصور ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعز ، المذل ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العلي ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحق ، الوكيل ، القوي ، المتين ، الولي ، الحميد ، المحصي ، المبدىء ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدم ، المؤخر ، الأول ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البر ، التواب ، المنتقم ، العفو ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغني ، المغني ، المعطي ، المانع ، الضار ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور »(1/2531)
وقوله تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض } كقوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [ الإسراء : 44 ] ، وقوله تعالا : { وَهُوَ العزيز } أي فلا يرام جنابه ، { الحكيم } في شرعه وقدره ، عن معقل بن يسار عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من قال حين يصبح ثلاث مرات : أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم ، ثم قرأ ثلاث آيات من آخرة سورة الحشر ، وكل الله به سبعين ألف ملك يصلون عليه حتى يمسي ، وإن مات في ذلك اليوم مات شهيداً ، ومن قالها حين يمسي كان بتلك المنزلة » .(1/2532)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنْتُمْ وَمَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)
كان سبب نزول صدر هذه السورة الكريمة قصة ( حاطب بن أبي بلتعة ) ، وذلك أن حاطباً هذا كان رجلاً من المهاجرين وكان من أهل بدر أيضاً ، وكان له بمكة أولاد ومال ، ولم يكن من قريش أنفسهم ، فلما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فتح مكّة لما نقض أهلها العهد ، أمر النبي صلى الله عليه وسلم المسلمين بالتجهيز لغزوهم . وقال : « اللهم عمِّ عليهم خبرنا » ، فعمد حاطب هذا فكتب كتاباً ، وبعثه مع امرأة من قريش إلى أهل مكة يعلمهم بما عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوهم ليتخذ بذلك عندهم يداً . روى الإمام أحمد ، عن علي رضي الله عنه قال : « بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا والزبير والمقداد فقال : » انطلقوا حتى تأتوا روضة خاخ فإن بها ظعينة معها كتاب ، فخذوه منها « فانطلقنا تعادى بناخيلنا حتى أتينا الروضة ، فإذا نحن بالظعينة ، قلنا : أخرجي الكتاب ، قالت : ما معي كتاب ، قلنا : لتخرجن الكتاب ، أو لنلقينّ الثياب ، قال : فأخرجت الكتاب من عقاصها ، فأخذنا الكتاب ، فأتينا به رسول الله صلى الله عليه وسلم : فإذا فيه : من حاطب بن أبي بلتعة إلى أناس من المشركين بمكة يخبرهم ببعض أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا حاطب ما هذا؟ « قال : لا تعجل عليّ ، إني كنت امرأ ملصقاً في قرش ، ولم أكن من أنفسهم ، وكان من معك من المهاجرين لهم قرابات يحمون أهليهم بمكة ، فأحببت إذ فاتني ذلك من النسب فيهم ، أن أتخذ فيهم يداً يحمون بها قرابتي ، وما فعلت ذلك كفراً ولا ارتداداً عن ديني ، ولا رضاً بالكفر بعد الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنه صدقكم « ، فقال : عمر : دعني اضرب عنق هذا المنافق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع إلى أهل بدر فقال اعلما ما شئتم فقد غفرت لكم « » . ونزلت فيه : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ } . وهكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغير واحد أن هذه الآيات نزل في حاطب بن أبي بلتعة ، فقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة وَقَدْ كَفَرُواْ بِمَا جَآءَكُمْ مِّنَ الحق } يعني المشركين والكفّار الذي هم محاربون لله ولرسوله8 ، نهى الله أن يتخذوهم أولياء وأصدقاء وأخلاء ، كما قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، وقال تعالى :(1/2533)
{ لاَ تَتَّخِذُواْ الذين اتخذوا دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً } [ المائدة : 57 ] الآية . وقال تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } [ آل عمران : 28 ] ولهذا قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم عذر حاطب ، لما ذكر أنه إنما فعل ذلك مصانعة لقريش ، لأجل ما كان له عندهم من الأموال والأولاد .
وقوله تعالى : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ } هذا مع ما قبله من التهييج على عداوتهم وعدم موالاتهم لأنهم أخرجوا الرسول وأصحابه من بين أظهرهم ، كراهة لما هم عليه من التوحيد وإخلاص العبادة لله وحده ، ولهذا قال تعالى : { أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبِّكُمْ } أي لم يكن لكم عندهم ذنب إلاّ إيمانكم بالله رب العالمين ، كقوله تعالى : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد } [ البروج : 8 ] ، وكقوله تعالى : { الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله } [ الحج : 40 ] ، وقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَاداً فِي سَبِيلِي وابتغآء مَرْضَاتِي } أي إن كنتم كذلك فلا تتخذوهم أولياء ، إن كنتم خرجتم مجاهدين في سبيلي فلا توالوا أعدائي ، وقد أخرجوكم من دياركم وأموالكم ، حنقاً عليكم وسخطاً لدينكم ، وقوله تعالى : { تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بالمودة وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ } أي تفعلون ذلك وأنا العالم بالسرائر والضمائر والظواهر ، { وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل * إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُواْ لَكُمْ أَعْدَآءً ويبسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسواء } أي لو قدروا عليكم لما اتقوا فيكم من أذى ينالونكم به بالمقال والفعال ، { وَوَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ } أي ويحرصون على أن لا تنالوا خيراً ، فعداوتهم لكم كامنة وظاهرة فكيف توالون مثل هؤلاء؟ وهذا تهييج على عداوتهم أيضاً ، وقوله تعالى : { لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ يَوْمَ القيامة يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي قراباتكم لا تنفعكم عند الله ، إذ أراد الله بكم سوءاً ونفعهم لا يصل إليكم إذا أرضيتموهم بما يسخط الله ، ومن وافق أهله على الكفر ليرضيهم ، فقد خاب وخسر وضل عمله ، ولا ينفعه عند الله قرابته من أحد .(1/2534)
قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ رَبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَمَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)
يقول تعالى لعباده المؤمنين الذين أمرهم بمصارمة الكافرين والتبري منهم : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ والذين مَعَهُ } أي وأتباعه الذين آمنوا معه ، { إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ } أي تبرأنا منكم { وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله كَفَرْنَا بِكُمْ } أي بدينكم وطريقكم { وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء أَبَداً } يعني وقد شرعت العداوة والبغضاء بيننا وبينكم ، ما دمتم على كفركم فنحن أبداً نتبرأ منكم ونبغضكم { حتى تُؤْمِنُواْ بالله وَحْدَهُ } أي إلى أن توحدوا الله فتعبدوه وحده لا شريك له ، وتخلعوا ما تعبدون معه من الأوثان والأنداد ، وقوله تعالى : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ } أي لكم في إبراهيم وقومه أسوة حسنة ، . تتأسون بها إلاّ في استغفار إبراهيم لأبيه ، فإنه إنما كان عن موعدة وعدها إياه؛ فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه ، وذلك أن بعض المؤمنين كانوا يدعون لآبائهم الذين ماتوا على الشرك ويستغفرون لهم ، ويقولون : إن إبراهيم كان يستغفر لأبيه ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 114 ] ، وقال تعالى في هذا الآية الكريمة : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ } أي ليس لكم في ذلك أسوة أي في الاستغفار للمشركين؟ ، هكذا قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد ، ثم قال تعالى مخبراً عن قول إبراهيم والذين معه ، حين فارقوا قومهم وتبرأوا منهم ، فقالوا : { رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ المصير } أي توكلنا عليك في جميع الأمور ، وسلمنا أمورنا إليك وفوضناها إليك ، وإليك المصير أي المعاد في الدار الآخرة { رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } قال مجاهد : معناه لا تعذبنا بأيديهم ولا بعذاب من عندك ، فيقولوا : لو كان هؤلاء على حق ما أصابهم هذا ، وقال قتادة : لا تظهرهم علينا فيفتنوا بذلك ، يرون أنهم إنما ظهروا علينا لحق هم عليه ، واختاره ابن جرير وقال ابن عباس : لا تسلطهم علينا فيفتنونا ، وقوله تعالى : { واغفر لَنَا رَبَّنَآ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } أي واستر ذنوبنا عن غيرك ، واعف عنها فيما بيننا وبينك { إِنَّكَ أَنتَ العزيز } أي الذي لا يضام من لاذ بجنابك ، { الحكيم } في أقوالك وأفعالك وشرعك وقدرك ، ثم قال تعالى : { لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر } ، وهذا تأكيد لما تقدم ، وقوله تعالى : { لِّمَن كَانَ يَرْجُو الله واليوم الآخر } تهييج إلى ذلك لكل مؤمن بالله والمعاد ، وقوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّ } أي عما أمر الله به ، { فَإِنَّ الله هُوَ الغني الحميد } ، كقوله تعالى : { إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ إبراهيم : 8 ] ، وقال ابن عباس : { الغني } الذي قد كمل في غناه ، وهو الله ليس كمثله شيء ، و { الحميد } المستحمد إلى خلقه ، أي هو المحمود في جميع أقواله وأفعاله ، لا إله غيره ولا رب سواه .(1/2535)
عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَاللَّهُ قَدِيرٌ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)
يقول تعالى لعباده المؤمنين بعد أن أمرهم بعداوة الكافرين : { عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } أي محبة بعد البغضة ، ومودة بعد النفرة ، وألفة بعد الفرقة ، { والله قَدِيرٌ } أي على ما يشاء من الجمع بين الأشياء المتنافرة والمختلفة ، فيؤلف بين القلوب بعد العداوة والقساوة ، فتصبح مجتمعة متفقة ، كما قال تعالى ممتناً على الأنصار { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } [ آل عمران : 103 ] ، وكذا قال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « ألم أجدكم ضلاّلاً فهداكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ » ، وقال الله تعالى : { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 63 ] ، وفي الحديث : « أحبب حبيبك هوناً ما ، فعسى أن يكون بغيضك يوماً ما ، وأبغض بغيضك هوناً ما فعسى أن يكون حبيبك يوماً ما » .
وقوله تعالى : { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي يغفر للكافرين كفرهم ، إذال تابوا منه وأنابوا إلى ربهم وأسلموا له ، وهو الغفور الرحيم بكل من تاب إليه من أي ذنب كان ، وعن ابن شهاب « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم استعمل أبا سفيان صخر بن حرب على بعض اليمن ، فلما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم أقبل ، فلقي ذا الخمار مترداً ، فقاتله فكان أو من قاتل في الردة وجاهد عن الدين » ، قال ابن شهاب : وهو ممن أنزل الله فيه : { عَسَى الله أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الذين عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً } الآية ، وقوله تعالى : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وتقسطوا إِلَيْهِمْ } ، أي لا ينهاكم عن الإحسان إلى الكفرة ، الذي لا يقاتلونكم في الدين كالنساء والضعفة منهم { أَن تَبَرُّوهُمْ } أي تحسنوا إليهم ، { وتقسطوا إِلَيْهِمْ } أي تعدلوا ، { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } . عن أسماء بن أبي بكر رضي الله عنهما قالت : « قدمت أمي وهي مشركة في عهد قريش إذ عاهدوا ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله إن أمي قدمت وهي راغبة أفأصلها؟ قال : » نعم صلي أُمك « » وقال الإمام أحمد حدثنا عارم ، حدثنا عبد الله بن المبارك ، حدثنا مصعب بن ثابت ، حدثنا عن عبد الله بن الزبير قال : « قدمت قتيلة على ابنتها أسماء بنت أبي بكر بهدايا ضباب وقرظ وسمن وهي مشركة ، فأبت أسماء أن تقبل هديتها وتدخلها بيتها ، فسألت عائشة النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعال : { لاَّ يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدين } إلى آخر الآية ، فأمرها أن تقبل هديتها وأن تدخلها بيتها » ، وقوله تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } في الحديث الصحيح : « المقسطون على منابر من نور عن يمين العرش الذي يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا » وقوله تعالى : { إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ الله عَنِ الذين قَاتَلُوكُمْ فِي الدين وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُواْ على إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ } أي إنما ينهاكم عن موالاة هؤلاء الذين ناصبوكم بالعداوة ، فقاتلوكم وأخرجوكم وعاونوا على إخراجكم ، ينهاكم الله عزَّ وجلَّ عن موالاتهم ويأمركم بمعاداتهم ، ثم أكد الوعدي على موالاتهم ، فقال : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فأولئك هُمُ الظالمون } ، كقوله تعالى : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } [ المائدة : 51 ] .(1/2536)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا جَاءَكُمُ الْمُؤْمِنَاتُ مُهَاجِرَاتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلَا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لَا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَلَا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَآتُوهُمْ مَا أَنْفَقُوا وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَلَا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوَافِرِ وَاسْأَلُوا مَا أَنْفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُوا مَا أَنْفَقُوا ذَلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَإِنْ فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعَاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِثْلَ مَا أَنْفَقُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)
تقدم في سورة الفتح ذكر صلح الحُدَيبية ، الذي وقع بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين كفار قريش ، فكان فيه : على أن يأتيك منا أحد وإن كان على دينك إلاّ رددته إلينا ، فعلى هذه الرواية تكون هذه الآية مخصّصة للسنة ، وعلى طريقة بعض السلف ناسخة ، فإن الله عزَّ وجلَّ أمر عباده المؤمنين إذا جاءهم النساء مهاجرات أن يمتحنوهن ، فإن علموهن مؤمنات فلا يرجعوهن إلى الكفار { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } ، وسبب النزول ما روي أنه لما هاجرت ( أُم كلثوم ) بنت عقبة بن أبي معيط ، خرج أخواها ( عمارة ) و ( الوليد ) حتى قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم فكلماه فيها أن يردها إليهما ، فنقض الله العهد بينه وبين المشركين في النساء خاصة ، فمنعهم أن يردوهن إلى المشركين وأنزل الله آية الامتحان ، روى ابن جرير ، عن أبي نصر الأسدي قال : سئل ابن عباس كيف كان امتحان رسول الله صلى الله عليه وسلم النساء ، قال : كان يمتحنهن بالله ما خرجت من بغض زوج ، وبالله ما خرجت رغبة عن أرض إلى أرض ، وبالله ما خرجت التماس دنيا ، والله ما خرجت إلاّ حباً لله ولرسوله . وقال ابن عباس في قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ فامتحنوهن } كان امتحانهن أن يشهدن أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبد الله ورسوله ، وقال مجاهد : { فامتحنوهن } فاسألوهن عما جاء بهن ، فإن كان جاء بهن غضب على أزواجهن أو سخطة أو غيره ولم يؤمنَّ فارجعوهن إلى أزواجهن ، وقال عكرمة : يقال لها ما جاء بك إلاّ حب الله ورسوله ، ما جاء بك عشق رجل منا ، ولا فرار من زوجك ، فلذلك قوله { فامتحنوهن } ، وقال قتادة : كانت محنتهن أن يستحلفن بالله ما أخرجكن النشوز ، وما أخرجكن إلاّ حب الإسلام وأهله ، وحرص عليه ، فإذا قلن ذلك قبل ذلك منهن .
وقوله تعالى : { فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِنَاتٍ فَلاَ تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الكفار } فيه دلالة على أن الإيمان يمكن الاطلاع عليه يقيناً ، وقوله تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } هذه الآية هي التي حرمت المسلمات على المشركين ، وقد كان جائزاً في ابتداء الإسلام أن يتزوج المشرك المؤمنة ، ولهذا كان أمر ( أبي العاص بن الربيع ) زوج ابنة النبي صلى الله عليه وسلم زينب رضي الله عنها ، وقد كانت مسلمة وهو على دين قومه ، فلما وقع في الأسارى يوم بدر بعثت امرأته زينب في فدائه بقلادة لها كانت لأمها خديجة ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم رقّ لها رقة شديدة وقال للمسلمين : « إن رأيتم أن تطلقوا لها أسيرها فافعلوا »(1/2537)
ففعلوا فأطلقه رسول الله صلى الله عليه وسلم على أن يبعث ابنته إليه ، فوفى له بذلك ، وصدقه فيما وعده ، وبعثها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم مع زيد بن حارثة رضي الله عنه ، فأقامت بالمدينة من بعد وقعة بدر ، وكانت سنة ( اثنتين ) إلى أن أسلم زوجها أبو العاص بن الربيع سنة ( ثمان ) فردها إليه بالنكاح الأول ، ولم يحدث لها صداقاً؛ كما روى الإمام أحمد ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته زينب على أبي العاص ، وكانت هجرتها قبل إسلامه بست سنين على النكاح ، ولم يحدث شهادة ولا صداقاً . وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رد ابنته على أبي العاص بن الربيع بمهر جديد ونكاح جديد . والذي عليه الأكثرون أنها متى انقضت العدة ولم يسلم انفسخ نكاحها منه ، وقال آخرون : بل إذا انقضت الادة هي بالخيار إن شاءت أقامت على النكاح واستمرت ، وإن شاءت فسخته وذهبت فتزوجت ، وحملوا عليه حديث ابن عباس والله أعلم ، وقوله تعالى : { وَآتُوهُم مَّآ أَنفَقُواْ } يعني أزواج المهاجرات من المشركين ادفعوا إليهم الذي غرموه عليهن من الأصدقة ، وقوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ أَن تَنكِحُوهُنَّ إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } يعني إذا أعطيتموهن أصدقتهن فأنكحوهن بشرطة ، من انقضاء العدة والولي وغير ذلك .
وقوله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } تحرم من الله عزَّ وجلَّ على عباده المؤمنين نكاح المشركات والاستمرار معهن ، وفي الصحيح « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عاهد كفار قريش يوم الحديبية جاءه نساء من المؤمنات فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ } إلى قوله { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } فطلق عمر بن الخطاب يومئذٍ امرأتين تزوج أحداهما ( معاوية بن أبي سفيان ) والأُخْرَى ( صفوان بن أُمية ) » ، وقال الزهري : أنزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بأسفل الحديبية . حين صالحهم على أنه من أتاه منهم رده إليهم ، فلما جاء النساء نزلت هذه الآية ، وأمره أن يرد الصداق إلى أزواجهن ، وحكم على المشركين مثل ذلك إذا جاءتهم امرأة من المسلمين ، أن يردوا الصداق إلى أزواجهن وقال : { وَلاَ تُمْسِكُواْ بِعِصَمِ الكوافر } وإنما حكم الله بينهم بذلك لأجل ما كان بينهم وبينهم من العهد ، وقوله تعالى : { وَاسْأَلُواْ مَآ أَنفَقْتُمْ وَلْيَسْأَلُواْ مَآ أَنفَقُواْ } أي وطالبوا بما أنفقتم على أزواجكم ، اللاتي يذهبن إلى الكفار إن ذهبن ، وليطالبوا بما أنفقوا على أزواجهم اللاتي هاجرن إلى المسلمين ، وقوله تعالى : { ذَلِكُمْ حُكْمُ الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ } أي في الصلح واستثناء النساء منه ، والأمر بهذا كله هو حكم الله يحكم به بين خلقه ، { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بما يصلح عباده حكيم في ذلك ، ثم قال تعالى : { وَإِن فَاتَكُمْ شَيْءٌ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ إِلَى الكفار فَعَاقَبْتُمْ فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } قال مجاهد وقتادة : هذا في الكفار الذين ليس لهم عهد ، إذا فرت إليهم امرأة ، ولم يدفعوا إلى زوجها شيئاً ، فإذا جاءت منهم امرأة لا يدفع إلى زوجها شيء ، حتى يدفع إلى زوج الذاهبة إليهم مثل نفقته عليها ، وقال ابن عباس في هذه الآية : يعني إن لحقت امرأة رجل من المهاجرين بالكفار ، أمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه يعطي مثل ما أنفق من الغنيمة ، وهكذا قال مجاهد { فَعَاقَبْتُمْ } أصبتم غنيمة من قريش أو غيرهم { فَآتُواْ الذين ذَهَبَتْ أَزْوَاجُهُمْ مِّثْلَ مَآ أَنفَقُواْ } يعني مهر مثلها ، وهذا لا ينافي الأول ، لأنه إن أمكن الأول فهو الأولى ، وإلاّ فمن الغنائم اللاتي تؤخذ من أيدي الكفار ، وهذا أوسع ، وهو اختيار ابن جرير .(1/2538)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا جَاءَكَ الْمُؤْمِنَاتُ يُبَايِعْنَكَ عَلَى أَنْ لَا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئًا وَلَا يَسْرِقْنَ وَلَا يَزْنِينَ وَلَا يَقْتُلْنَ أَوْلَادَهُنَّ وَلَا يَأْتِينَ بِبُهْتَانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلَا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبَايِعْهُنَّ وَاسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)
روى البخاري ، عن عروة أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أخبرته أن رسول الله صل الله عليه وسلم كان يمتحن من هاجر إليه من المؤمنات بهذه الآية : { ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ } إلى قوله { غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، قال عروة ، قالت عائشة : « فمن أقر بهذا الشرط من المؤمنات قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : » قد بايعتك « كلاماً ، ولا الله ما مست يده يد امرأة في المبايعة قط ، ما يبايعهن إلاّ بقوله : » قد بايعتك على ذلك « » هذا لفظ البخاري .
وروى الإمام أحمد ، عن أُميمة بنت رقيقة قالت : « أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في نساء لنبايعه ، فأخذ علينا ما في القرآن { أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً } الآية ، وقال : » فما استطعتن وأطقتن « ، قلنا الله ورسوله أرحم بنا من أنفسنا ، قلنا : يا رسول الله ألا تصافحنا؟ قال : » إني لا أصافح النساء إنما قولي لا مرأة واحدة قولي لمائة امرأة « » وعن ( سلمى بنت قيس ) وكانت إحدى خالات رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد صلت معه القبلتين ، قالت : « جئت رسول الله صلى الله عليه وسلم . نبايعه في نسوة من الأنصار ، فلما شرط علينا ألا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ، ولا نقتل أولادنا ، ولا نأتي ببهتان نفتريه بين أيدينا وأرجلنا ، ولا نعصيه ، في معروف ، قال : » ولا تغششن أزواجكن « قالت : فبايعناه ، ثم انصرفنا ، فقلت لامرأة منهن : ارجعي فسلي رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما غش أزواجنا؟ قال ، فسألته فقال : » تأخذ ماله فتاحبي به غيره « وقال الإمام أحمد ، عن عائشة بنت قدامة يعني ابن مظعون قالت : » أنا مع أمي رائطة ابنة سفيان الخزاعية والنبي صلى الله عليه وسلم يبايع النسوة ويقول : « أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً ، ولا تسرقن ولا تزنين ولا تقتلن أولادكن ، ولا تأتين ببهتان تفترينه بين أيديكن وأرجلكن ، ولا تعصينيي في معروف قلن نعم فيما استطعتن » فكن يقلن وأقول معهن وأمي تقول لي : أي بنية نعم ، فكنت أقول كما يقلن « وقال البخاري ، عن أُم عطية قالت : » بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأ علينا { أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً } ، ونهانا عن النياحة فقبضت امرأة يدها ، قالت : أسعدتني فلانة ، فأريد أن أجزيها ، فما قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ، فانطلقت ورجعت فبايعها « ، وفي رواية : » فما وفى منهم امرأة غيرها وغير أم سليم ابنة ملحان « .(1/2539)
وقد كان رسول الله صلى الله عليه سلم يتعاهد النساء بهذه البيعة يوم العيد ، كما روى البخاري ، عن ابن عباس ، قال : « شهدت الصلاة يوم الفطر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان ، فكلهم يصليها قبل الخطبة ثم يخطب بعد ، فنزل نبي الله صلى الله عليه وسلم ، فكأني أنظر إليه حين يجلس الرجل بيده ، ثم أقبل يشقهم حتى أتى النساء مع بلال فقال : { ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ على أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } حتى فرغ من الآية كلها ، ثم قال حين فرغ : » أنتن على ذلك؟ « ، فقالت امرأة واحدة ولم يجبه غيرها : نعم يا رسول الله ، لا يدري حسن من هي ، قال : فتصدقن ، قال : وبسط رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس فقال : » تبايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئاً ولا تسرقوا ولا تزوا ولا تقتلوا أولادكم؟ قرأ الآية التي أخذت على النساء إذا جاءك المؤمنات فمن وفى منكم فأجره على الله ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب به فهو كفارة له ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فستره الله عليه فهو إلى الله إن شاء غفره له وإن شاء عذبه « وقد روى ابن جرير ، عن ابن عباس » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر عمر بن الخطاب فقال : « قل لهن إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئاً » وكانت ( هند بنت عتبة بن ربيعة ) التي شقت بطن حمزة متنكرة في النساء ، فقالت هند وهي متنكرة ، كيف تقبل من النساء شيئاً لم تقبله من الرجال؟ فنظر إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لعمر : « قل لهن : » ولا يسرقن « ، قالت هند : والله إني لأصيب من أبي سفيان الهنات ما أدري أيحلهن لي أم لا ، قال أبو سفيان : ما أصبت من شيء مضى أو قد بقي فهو لك حلال ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعرفها ، فقال : » ولا يزنين « ، فقالت : يا رسول الله وهل تزني امرأة حرة ، قال : » لا والله ما تزني الحرة « قال : » ولا يقتلن أولادهن « ، قالت هند : أنت قتلتهم يوم بدر فأنت وهم أبصر ، قال : { وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } قال : { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } قال : منعهن أن ينحن ، وكان أهل الجاهلية يمزقن الثياب ، ويخدشن الوجوه ، ويقطعن الشعور ، ويدعون بالويل والثبور » ، وقال مقاتل بن حيان : « أنزلت هذه الآية يوم الفتح ، بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال على الصفا ، وعمر بايع النساء يحلفهن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكر بقيته كما تقدم ، وزاد : فلما قال : » ولا تقتلن أولادكن « قالت هند : ربيناهم صغاراً فقتلتوهم كباراً ، فضحك عمر بن الخطاب حتى استلقى » .(1/2540)
فقوله تعالى : { ياأيها النبي إِذَا جَآءَكَ المؤمنات يُبَايِعْنَكَ } أي من جاءك منهن يبايع على هذه الشروط فبايعها ، على أن لا يشركن بالله شيئاً ، ولا يسرقن أموال الناس الأجانب ، وقوله تعالى : { وَلاَ يَزْنِينَ } كقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] . وقال الإمام أحمد ، عن عروة عن عائشة قالت : « جاءت ( فاطمة بن عتبة ) تبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ عليها { أَن لاَّ يُشْرِكْنَ بالله شَيْئاً وَلاَ يَسْرِقْنَ وَلاَ يَزْنِينَ } الآية قال : فوضعت يدها على رأسها حياءً ، فأعجبه ما رأى منها ، فقالت عائشة : أقرّي أيتها المرأة ، فوالله ما بايعنا إلاّ على هذا ، قالت : فنعم إذاً ، فبايعها بالآية » وقوله تعالى : { وَلاَ يَقْتُلْنَ أَوْلاَدَهُنَّ } وهذا يشمل قتله بعد وجوده ، كما كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الإملاق ، ويعم قتله وهو جنين ، كما قد يفعله بعض الجهلة من النساء ، تطرح نفسها لئلا تحيل إما لغرض فاسد أو ما أشبهه ، وقوله تعالى : { وَلاَ يَأْتِينَ ببهتان يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَأَرْجُلِهِنَّ } ، قال ابن عباس : يعني لا يلحقن بأزواجهن غير أولادهم ويؤيد هذا الحديث الذي رواه أبو داود ، عن أبي هريرة « أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول حين نزلت آية الملاعنة : » أيما امرأة أدخلت على قوم من ليس منهم فليست من الله في شيء ولن يدخلها الله الجنة ، وأيما رجل جحد ولده وهو ينظر إليه احتجب الله منه وفضحه على رؤوس الأولين والآخرين « » .
وقوله تعالى : { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } يعني فيما أمرتهن بهمن معروف ، ونهيتهن عنه من منكر ، عن ابن عباس قال : إنما هو شرط شرطه الله للنساء ، وقال ابن زيد : أمر الله بطاعة رسوله وهو خيرة الله من خلقه في المعروف ، وقد قال غير واحد : نهاهن يومئذٍ عن النوح ، وعن الحسن قال كان فيما أخذ النبي صلى الله عليه وسلم ، ألا تحدثن الرجال إلاّ أن تكون ذات محرم ، فإن الرجل لا يزال يحدث المرأة حتى يمذي بين فخذيه ، وقال ابن جرير ، عن أم عطية الأنصارية قالت : « كان فيما اشترط علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المعروف حين بايعناه أن لا ننوح ، فقالت امرأة من بني فلان : إن بني فلان أسعدوني ، فلا حتى أجزيهم ، فانطلقت فأسعدتهم ، ثم جاءت فبايعت ، قالت : فما وفى منهن غيرها وغير أم سليم ابنة ملحان أم أنَس بن مالك » وعن امرأة من المبايعات قالت :(1/2541)
« كان فيما أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا نعصيه في معروف أن لا نخمش وجهاً ، ولا ننشر شعراً ، ولا نشق جيباً ولا ندعو ويلاً » وروى ابن جرير عن أم عطية قالت : « لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع نساء الأنصار في بيت ، ثم أرسل إلينا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقام على الباب وسلم علينا فرددن ، أو فرددنا عليه السلام ثم قال : أنا رسول رسول الله صلى الله عليه سلم إليكن ، فقالت ، فقلنا : مرحباً برسول الله وبرسول رسول الله ، فقال : تبايعن على أن لا تشركن بالله شيئاً ولا تسرقن ولا تزنين : قالت : فقلنا : نعم ، قالت ، فمد يده من خارج الباب أو البيت ومددنا أيدينا من داخل البيت ثم قال : اللهم اشهد ، قالت : وأمرنا في العيدين أن نخرج فيه الحيض والعواتق ولا جمعة علينا ، ونهى عن اتباع الجنائز » ، قال إسماعيل : فسألت جدتي عن قوله تعالى : { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } قالت : النياحة . وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ليس منا من ضرب الخدود وشق الجيوب ودعا بدعوى الجاهلية » وعن أم سلمة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى : { وَلاَ يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ } ، قال : النوح .(1/2542)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَوَلَّوْا قَوْمًا غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَمَا يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحَابِ الْقُبُورِ (13)
ينهى تبارك وتعالى عن موالاة الكافرين في آخر هذه السورة . كما نهى عنها في أولها فقال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَوَلَّوْاْ قوْماً غَضِبَ الله عَلَيْهِمْ } يعني اليهود والنصارى وسائر الكفار ، ممن غضب الله عليه ولعنه ، واستحق من الله الطرد والإبعاد ، فكيف توالونهم وتتخذونهم أصدقاء وأخلاء { قَدْ يَئِسُواْ مِنَ الآخرة } أي من ثواب الآخرة ونعيمها في حكم الله عزَّ وجلَّ ، وقوله تعالى : { كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور } فيه قولان : أحدهما كما يئس الكفار الأحياء من قراباتهم ، الذي في القبور أن يجتمعوا بهم بعد ذلك ، لأنهم لا يعتقدون بعثاً ولا نشوراً ، فقد انقطع رجاؤهم منهم فيما يعتقدونه ، قال ابن عباس : يعني من مات من الذين كفروا ، فقد يئس الأحياء من الذين كفروا أن يرجعوا إليهم أو يبعثهم الله عزَّ وجلَّ ، وقال الحسن البصري : الكفار الأحياء قد يئسوا من الأموات ، وقال قتادة : كما يئس الكفار أن يرجع إليهم أصحاب القبور الذين ماتوا . والقول الثاني : معناه كما يئس الكفار الذين هم في القبور من كل خير ، قال ابن مسعود : { كَمَا يَئِسَ الكفار مِنْ أَصْحَابِ القبور } قال : ما يئس هذا الكافر إذا مات وعاين ثوابه واطلع عليه ، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله .(1/2543)
سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)
قد تقدم الكلام على قوله تعالى : { سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَهُوَ العزيز الحكيم } غير مرة بما أغنى عن إعادته ، وقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } إنكار على من يعد وعداً ، أو يقول قولاً لا يفي به ، وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « آية المنافق ثلاث : إذا وعد أخلف ، إذا حدث كذب ، وإذا اؤتمن خان » ، ولهذا أكد الله تعالى هذا الإنكار عليهم بقوله تعالى : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } نزلت حين تمنوا فريضة الجهاد عليهم ، فلما فرض نكل عنه بعضهم ، كقوله تعالى : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [ النساء : 77 ] ، وقوله تعالى : { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت } [ محمد : 20 ] الآية ، وهكذا هذه الآية كما قال ابن عباس : كان ناس من المؤمنين قبل أن يفرض الجهاد يقولون : لوددنا أن الله عزّ وجلّ دلنا على أحب الأعمال إليه فنعمل به ، فأخبر الله نبيّه أن أحب الأعمال إيمان به لا شك فيه ، وجهاد أهل معصيته الذين خالفوا بالإيمان ولم يقروا به ، فلما نزل الجهاد كره ذلك ناس من المؤمنين ، وشق عليهم أمره ، فقال الله سبحانه وتعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } ؟ وقال مقاتل بن حيان : قال المؤمنون لو نعلم أحب الأعمال إلى الله لعملنا به ، فدلهم الله على أحب الأعمال إليه فقال : { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً } فبين لهم ، فابتلوا يوم أُحُد بذلك فولوا عن النبي صلى الله عليه وسلم مدبرين ، فأنزل الله في ذلك : { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } ، وقال قتادة والضحّاك : نزلت توبيخاً قوم كانوا يقولون : قتلنا ، ضربنا ، طعنا ، وفعلنا؛ ولم يكونوا فعلوا ذلك . وقال ابن زيد : نزلت في قوم من المنافقين كانوا يعدون المسلمين النصر ولا يفون لهم بذلك ، وقال مجاهد : نزلت في نفر من الأنصار فيهم ( عبد الله بن رواحة ) ، قالوا في مجلس : لو نعلم أي الأعمال أحب إلى الله لعملنا به حتى نموت؟ فأنزل الله تعالى هذا فيهم ، فقال عبد الله بن رواحة : لا أبرح حبيساً في سبيل الله حتى أموت ، فقتل شهيداً .
ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } فهذا إخبار من الله تعالى بمحبته عبادة المؤمنين ، إذا صفوا مواجهين لأعداء الله في حومة الوغى ، يقاتلون في سبيل الله من كفر بالله ، لتكون كلمة الله هي العليا ، و دينه هو الظاهر العالي على سائر الأديان ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/2544)
« ثلاثة يضحك الله إليهم : الرجل يقوم من الليل ، و القوم إذا صفوا للصلاة ، والقوم إذا صفوا للقتال » وقال مطرف : « كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه ، فلقيته فقلت : يا أبا ذر كان يبلغني عنك حديث فكنت أشتهي لقاءك ، فقال : لله أبوك ، فقد لقيت فهات ، فقلت : كان يبلغني عنك أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثكم أن الله يبغض ثلاثة ويحب ثلاثة ، قال : أجل فلا أخالني أكذب على خليلي صلى الله عليه وسلم ، قلت : فمن هؤلاء الثلاثة الذين يحبهم الله عزّ وجلّ؟ قال : رجل غزا في سبيل الله خرج محتسباً مجاهداً ، فلقي العدو فقتل ، وأنتم تجدونه في كتاب الله المنزل ، ثم قرأ : { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } » وذكر الحديث . وقال سعيد بن جبير في قوله تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً } قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يقاتل العدو إلا أن يصافهم ، وهذا تعليم من الله للمؤمنين ، وقوله تعالى : { كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } أي ملتصق بعضه في بعض ، من الصف في القتال ، وقال مقاتل بن حيان : ملتصق بعضه إلى بعض ، وقال ابن عباس : { كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } مثبت لا يزول ملصق بعضه ببعض ، وقال ابن جرير ، عن يحيى بن جابر الطائي ، عن أبي بحرية قال : كانوا يكرهون القتال على الخيل ، ويستحبون القتال على الأرض لقول الله عزّ وجلّ : { إِنَّ الله يُحِبُّ الذين يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفّاً كَأَنَّهُم بُنْيَانٌ مَّرْصُوصٌ } قال ، وكان أبو بحرية يقول : إذا رأيتموني التفت في الصف فجأوا في لحيي .(1/2545)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (5) وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّرًا بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (6)
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه ( موسى بن عمران ) عليه السلام أنه قال لقومه : { لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَد تَّعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ } ، لم توصلون الأذى إليَّ وأنتم تعلمون صدقي فيما جئتكم به من الرسالة؟ وفي هذا تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما أصابه من الكفَّار ، وقوله تعالى : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } أي فلما عدلوا عن اتباع الحق مع علمهم به ، أزاغ الله قلوبهم عن الهدى ، وأسكنها الشك والحيرة والخذلان ، كما قال تعالى : { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] ، وقال تعالى : { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } [ النساء : 115 ] ، ولهذا قال تعالى في هذه الآية : { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } وقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ يابني إِسْرَائِيلَ إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ } يعني التوراة ، وقد بشرت بي وأنا مصداق ما أخبرت عنه ، وأنا مبشر بمن بعدي وهو الرسول النبي الأمي العربي المكي ( أحمد ) فعيسى عليه السلام هو خاتم أنبياء بني إسرائيل ، وقد أقام في ملأ بني إسرائيل مبشراً بمحمد وهو أحمد خاتم الأنبياء والمرسلين الذي لا رسالة بعده ولا نبوة . وما أحسن ما أورد البخاري ، عن جبير بن مطعم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن لي أسماء ، أنا محمد ، وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله به الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب » قال ابن عباس : ما بعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد ، لئن بعث محمد وهو حي ليتبعنه ، وأخذ عليه أن يأخذ على أُمّته لئن بعت محمد وهم أحياء ليتبعه وينصرنه .
وقال محمد بن إسحاق ، عن خالد بن معدان ، عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أنهم قالوا : يا رسول الله أخبرنا عن نفسك ، قال : « » دعوة أبي إبراهيم ، وبُشْرى عيسى ، ورأت أُمي حين حملت بي كأنه خرج منها نور أضاءت له قصور بصى من أرض الشام « ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إني عند الله لخاتم النبيين ، وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك دعوة إبي إبراهيم وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أُمّي التي رأت وكذلك أُمَّهات النبيين يرين « » وروى أحمد عن أبي أمامة قال ، قلت : « يا رسول الله ما كان بدء أمرك؟ قال : » دعوة إبي إبراهيم ، وبشرى عيسى ، ورأت أُمي أنه يخرج منها نور أضاءت له قصور الشام « وقال عبد الله بن مسعود : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى النجاشي ونحن نحوِّ من ثمانين رجلاً ، منهم ( عبد الله بن مسعود ) ، و ( جعفر ) و ( عبد الله بن رواحة ) و ( عثمان بن مظعون ) و ( أبو موسى ) قأتوا النجاشي ، وبعثت قريش ( عمرو بن العاص ) و ( عمار بن الوليد ) بهدية ، فلما دخلا على النجاشي سجدا له ، ثم ابتدراه عن يمينه وعن شماله ، ثم قالا له : إن نفراً من بني عمّنا نزلوا أرضك ورغبوا عنا ، وعن ملتنا ، قال : فأين هم؟ قالا : هم في أرضك فابعث إليهمن فبعث إليهمن فقال جعفر : أنا خطيبكم اليوم ، فاتبعوه ، فسلّم ولم يسجد ، فقالوا له : مالك لا تسجد للملك؟ قال : إنا لا نسجد إلا لله عزّ وجلّ ، قال : وما ذاك؟ قال : إن الله بعث إلينا رسوله ، فأمرنا أن لا نسجد إلا لأحد إلا لله عزّ وجلّ ، وأمرنا بالصلاة والزكاة ، قال عمرو بن العاص : فإنهم يخالفونك في عيسى ابن مريم ، قال : ما تقولون في عيسى ابن مريم وأُمّه؟ قال : نقول كما قال الله عزّ وجلّ : هو كلمة الله ، وروحه ألقاها إلى العذراء البتول التي لم يمسها بشر ، ولم يعترضها ولد ، قال ، فرفع عوداً من الأرض ، ثم قال : يا معشر الحبشة والقسيسين والرهبان ، والله ما يزيدون على الذي نقول فيه ما يساوي هذا ، مرحباً بكم وبمن جئتم من عنده ، أشهد أنه رسول الله وأنه الذي نجده في الإنجيل ، وأنه الذي بَشَر به عيسى ابن مريم ، انزلوا حيث شئتم ، والله لولا ما أنا فيه من الملك لأتيته حتى أكون أنا أحمد نعليه ، وأوضئه ، وأمر بهدية الآخرين فرُدَّت إليهما .(1/2546)
والمقصد أن الأنبياء عليهم السلام لم تزل تنعته وتحكيه في كتبها على أُممها ، وتأمرهم باتباعه ونصره وموازرته إذا بعث ، وكان أول ما اشتهر الأمر في أهل الأرض ، على لسان إبراهيم الخليل والد الأنبياء بعده ، حين دعا لأهل مكّة أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم وكذا على السان عيسى ابن مريم ، ولهذا قال : « دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى ابن مريم ، ورؤيا أُمي التي رأيت » أي ظهر في أهل مكة أثر ذلك ، والإرهاص ، فذكره صلوات الله وسلامه عليه . وقوله تعالى : { لَمَّا جَاءَهُم بالبينات قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } قال ابن جريج ، { فَلَمَّا جَاءَهُم } أحمد أي المبشر به في الأعصار المتقادمة المنوه بذكره في القرون السالفة ، لما ظهر أمره وجاء بالبينات قال الكفرة والمخالفون { هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } .(1/2547)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)
يقول تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله الكذب وَهُوَ يدعى إِلَى الإسلام } ، أي لا أحد أظلم ممن يفتري الكذب على الله ، ويجعل له أنداداً وشركاء وهو يدعى إلى التوحيد والإخلاص ، ولهذا قال تعالى : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } ، ثم قال تعالى : { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ } أي يحاولون أن يردوا الحق بالباطل ، ومثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفىء شعاع الشمس بفيه ، وكما أن هذا مستحيل كذلك ذلك مستحيل ، ولهذا قال تعالى : { والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون * هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ المشركون } ، وقد تقدّم الكلام على هاتين الآيتين في سورة براءة بما فيه كفاية ، ولله الحمد والمنة .(1/2548)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)
فسَّر الله تعالى هذه التجارة العظيمة التي لا تبور ، التي هي محصلة للمقصود ومزيلة للمحذور فقال تعالى : { تُؤْمِنُونَ بالله وَرَسُولِهِ وَتُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ، أي من تجارة الدنيا والكد لها والتصدي لها وحدها ، ثم قال تعالى : { يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ } أي إن فعلتم ما أمرتكم به ودللتكم عليه ، غفرت لكم الزلات ، وأدخلتكم الجنات ، والمساكن الطيبات ، ولهذا قال تعالى : { وَيُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذَلِكَ الفوز العظيم } ، ثم قال تعالى : { وأخرى تُحِبُّونَهَا } أي وأزيدكم على ذلك زيادة تحبونها ، وهي { نَصْرٌ مِّن الله وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي إذا قاتلتم في سبيله ونصرتم دينه ، تكفل الله بنصركم ، قال الله تعالى : { إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [ محمد : 7 ] ، وقال تعالى : { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ الحج : 40 ] ، وقوله تعالى : { وَفَتْحٌ قَرِيبٌ } أي عاجل ، فهذه الزيادة هي خير الدنيا موصول بنعيم الآخرة ، لمن أطاع الله ورسوله ، ونصر الله ودينه ، ولهذا قال تعالى : { وَبَشِّرِ المؤمنين } .(1/2549)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصَارَ اللَّهِ كَمَا قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوَارِيِّينَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طَائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَتْ طَائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ (14)
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين ، أن يكونوا أنصار الله في جميع أحوالهم ، بأقوالهم وأفعالهم وأنفسهم وأموالهم ، وأن يستجيبوا لله ولرسوله كما استجاب الحواريون لعيسى ، حين قال : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } أي من معيني في الدعوة إلى الله عزّ وجلّ ، { قَالَ الحواريون } وهم أتباع عيسى عليه السلام { نَحْنُ أَنصَارُ الله } أي نحن أنصارك على ما أرسلت به ، وموازروك على ذلك ، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في أيام الحج : « من رجل يؤويني حتى أبلغ رسالة ربي ، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ رسالة ربي » حتى قيض الله عزّ وجلّ له الأوس والخزرج من أهل المدينة ، فبايعوه ووازروه وشارطوه أن يمنعوه من الأسود والأحمر إن هو هاجر إليهم ، فلما هاجر إليهم بمن معه من أصحابه ، وفوا له بما عاهدوا الله عليه ، ولهذا سماهم الله ورسوله ( الأنصار ) وصار ذلك علماً عليهم رضي الله عنهم وأرضاهم . وقوله تعالى : { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } أي لما بلغ عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام رسالة ربه إلى قومه ، ووازره من وازره من الحواريين ، اهتدت طائفة من بني إسرائيل بما جاءهم به وضلت طائفة ، فخرجت عما جاءهم به ، وجحدوا نبوته ورموه وأمه بالعظائم ، وهم اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ، وغلت فيه طائفة ممن اتبعه حتى رفعوه فوق ما أعطاه الله من النبوة وافترقوا فرقاً وشيعاً ، فمن قائل منهم : إنه ابن الله ، وقائل : إنه ثالث ثلاثة ( الأب والابن والروح القدس ) ومن قائل : إنه الله ، وكل هذه الأقوال مفصلة في صورة النساء ، وقوله تعالى : { فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ } أي نصرناهم على من عاداهم من فرق النصارى { فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } أي علهيم وذلك ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : { فَآمَنَت طَّآئِفَةٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّآئِفَةٌ } يعني الطائفة التي كفرت من بني إسرائيل في زمن عيسى ، والطائفة التي آمنت في زمن عيسى { فَأَيَّدْنَا الذين آمَنُواْ على عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُواْ ظَاهِرِينَ } بإظهار محمد صلى الله عليه وسلم دينهم على دين الكفار ، فأُمّة محمد صلى الله عليه وسلم لا يزالون ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله وهم كذلك ، وحتى يقاتل آخرهم الدجال مع المسيح ابن مريم عليه السلام كما وردت بذلك الأحاديث الصحاح ، والله أعلم .(1/2550)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (2) وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)
يخبر تعالى أنه يسبّح له ما في السماوات وما في الأرض ، أي من جميع المخلوقات ناطقها وجامدها ، كما قال تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] ، ثم قال تعالى : { الملك القدوس } أي هو مالك السماوات والأرض ، المتصرف فيهما بحكمه ، وهو المقدس أي المنزه عن النقائض ، الموصوف بصفات الكمال ، { العزيز الحكيم } ، وقوله تعالى : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ } ، الأميون : هم العرب ، كما قال تعالى : { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُمْ } [ آل عمران : 20 ] وتخصيص الأمّيين بالذكر لا ينفي من عداهم ، ولكن المنة عليهم أبلغ وأكثر ، كما قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } [ الزخرف : 44 ] وهو ذكر لغيرهم يتذكرون به ، وهذه الآية هي مصداق إجابة الله لخليله إبراهيم ، حين دعا لأهل مكة أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم ، فبعثه الله تعالى على حين فترة من الرسل ، وطموس من السبل ، وقد اشتدت الحاجة إليه ، ولهذا قال تعالى : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ، وذلك أن العرب كانوا متمسكين بدين إبراهيم الخليل عليه السلام فبدلوه وغيّروه . واستبلدوا بالتوحيد شركاً ، وباليقين شكاً ، وابتدعوا أشياء لم يأذن بها الله ، وكذلك أهل الكتاب قد بدلوا كتبهم وحرفوها ، وغيّروها وأولوها ، فبعث الله محمداً صلوات الله وسلامه عليه ، بشرع عظيم كامل شامل ، فيه هدايته والبيان لجميع ما يحتاج الناس إليه من أمر معاشهم ومعادهم ، وجمع له تعالى جميع المحاسن ممن كان قبله ، وأعطاه ما لم يعط أحداً من الأولين ولا يعطيه احداً من الآخرين ، فصلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين ، وقوله تعالى : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ وَهُوَ العزيز الحكيم } . روى الإمام البخاري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه : قال : « كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزلت عليه سورة الجمعة { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } قالوا : من هم يا رسول الله؟ فلم يراجعهم حتى سئل ثلاثاً ، وفينا سلمان الفارسي ، فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم يده على سلمان الفارسي ، ثم قال : » لو كان الإيمان عند الثريا لناله رجال - أو رجل - من هؤلاء « » ففي هذا الحديث دليل على عموم بعثته صلى الله عليه وسلم إلى جميع الناس ، لأنه فسَّر قوله تعالى : { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ } بفارس ، ولهذا قال مجاهد في قوله تعالى { وَآخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُواْ بِهِمْ } قال : هم الأعاجم وكل من صدّق النبي صلى الله عليه وسلم من غير العرب ، وقوله تعالى : { وَهُوَ العزيز الحكيم } أذ ذو العزة والحكمة في شرعه وقدره ، وقوله تعالى : { ذَلِكَ فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم } يعني ما أعطاه الله محمداً صلى الله عليه وسلم من النبوة العظيمة ، وما خص به أُمته من بعثه صلى الله عليه وسلم إليهم .(1/2551)
مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَارًا بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5) قُلْ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ هَادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَاءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (6) وَلَا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلَاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)
يقول تعالى ذاماً لليهود ، الذين أُعطوا التوراة وحملوها للعمل بها ، ثم لم يعملوا بها؛ مثلهم في ذلك { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } أي كمثل الحمار إذا حمل كتباً لا يدري ما فيها ، فهو يحملها حملاً حسياً ولا يدري ما عليه ، وكذلك هؤلاء في حملهم الكتاب الذي أوتوه ، حفظوه لفظاً ولم يتفهموه ، ولا علموا بمقتضاه ، فهم أسوأ حالاً من الحمار ، لأن الحمار لا فهم له ، وهؤلاء لهم فهوم لم يستعملوها ، كما قال تعالى : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } [ الأعراف : 179 ] ، وقال تعالى هاهنا : { بِئْسَ مَثَلُ القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } . عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من تكلم يوم الجمعة والإمام يخطب ، فهو كمثل الحمار يحمل أسفاراً ، والذي يقول له : أنصت ليس له جمعة » ، ثم قال تعالى : { قُلْ ياأيها الذين هادوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي إن كنتم تزعمون أنكم على هدى ، وأنّ محمداً وأصحابه على ضلالة ، فادعوا بالموت على الضال من الفئتين { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي فيما تزعمونه ، قال الله تعالى : { وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ } أي بما يعملون من الكفر والظلم والفجور { والله عَلِيمٌ بالظالمين } وقد قدمنا الكلام في سورة البقرة على هذه المباهلة لليهود حيث قال تعالى : { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً مِّن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ * وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين } [ البقرة : 49-95 ] كما تقدمت مباهلة النصارى في آل عمران { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ } [ آل عمران : 61 ] الآية . عن ابن عباس قال ، « قال أبو جهل لعنه الله : إن رأيت محمداً عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على عنقه ، قال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لو فعل لأخذته الملائكة عياناً ، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ورأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً « » ، وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ الموت الذي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاَقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ، كقوله تعالى في سورة النساء : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ] ، وفي « معجم الطبراني » عن الحسن عن سمرة مرفوعاً : « مثل الذي يفر من الموت كمثل الثعلب تطلبه الأرض بدين ، فجاء يسعى حتى إذا أعيا وانبهر دخل جحره : فقالت له الأرض ، يا ثعلب ديني ، فخرج له حصاص فلم يزل كذلك حتى تقطعت عنقه فمات » .(1/2552)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10)
إنما سميت الجمعة جمعة لأنها مشتقة من الجمع ، فإن أهل الإسلام يجتمعون فيه في كل أسبوع مرة بالمعابد الكبار ، وفيه كمل جميع الخلائق ، وفيه خلق آدم ، وفيه أُدخل الجنة ، وفيه أُخرج منها ، وفيه تقوم الساعة ، كما ثبتت بذلك الأحاديث الصحاح ، وقد كان يقال له ( يوم العروبة ) ، وثبت أن الأمم قبلنا أُمروا به فضلوا عنه ، واختار اليهود يوم السبت الذي لم يقع فيه خلق آدم ، واختار النصارى يوم الأحد الذي ابتدىء فيه الخلق ، واختار الله لهذه الأمّة يوم الجمعة الذي أكمل الله فيه الخليقة ، كما أخرجه البخاري ومسلم . عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم إن هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا ليه ، فهدانا الله له ، فالناس فيه تبع ، اليهود غداً والنصارى بعد غد » ولمسلم : « أضل الله عن الجمعة من كان قبلنا ، فكان لليهود يوم السبت ، وكان للنصارى يوم الأحد ، فجاء الله بنا فهدانا الله ليوم الجمعة ، فجعل الجمعة والسبت والأحد ، وكذلك هم تبع لنا يوم القيامة ، نحن الآخرون من أهل الدنيا والأولون يوم القيامة ، المقضي بينهم قبل الخلائق » وقد أمر الله المؤمنين بالاجتماع لعبادته يوم الجمعة فقال تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة فاسعوا إلى ذِكْرِ } أي اقصدوا واعمدوا واهتدوا في سيركم إليها ، وليس المراد بالسعي هاهنا المشي السريع وإنما هو الاهتمام بها ، كقوله تعالى : { وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ } [ الإسراء : 19 ] ، فأما المشي السريع إلى الصلاة فقد نهي عنه لما أخرجاه في الصحيحين ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا سمعتم الإقامة فامشوا إلى الصلاة وعليكم السكينة والوقار ولا تسرعوا فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا » وعن أبي قتادة قال : « بينما نحن نصلي مع النبي صلى الله عليه وسلم إذ سمع جلبة رجال ، فلما صلى قال : » ما شأنكم؟ « قالوا : استعجلنا إلى الصلاة قال : » فلا تفعلوا . إذا أتيتم الصلاة فامشوا وعليكم السكينة فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا « » وفي رواية : « إذا أقيمت الصلاة فلا تأتوها تسعون ولكن ائتوها تمشون وعليكم السكينة والوقار فما أدركتم فصلوا وما فاتكم فأتموا » ، قال الحسن : أما والله ما هو بالسعي على الأقدام ، ولقد نهوا أن يأتوا الصلاة إلا وعليهم السكينة والوقار ، ولكن بالقلوب والنية والخشوع ، وقال قتادة في قوله تعالى : { فاسعوا إلى ذِكْرِ } يعني أن تسعى بقلبك وعملك وهو المشي إليها ، وكان يتأول قوله تعالى : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي }(1/2553)
[ الصافات : 102 ] أي المشي معه .
ويستحب لمن جاء إلى الجمعة أن يغتسل قبل مجيئة إليها ، لما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إذا جاء أحدكم الجمعة فليغتسل « ، ولهما عن أبي سعيد رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » غسل يوم الجمعة واجب على كل محتلم « وعن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » حق الله على كل مسلم أن يغتسل في كل سبعة أيام ، يغسل رأسه وجسده « وعن أوس الثقفي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » من غسّل واغتسل يوم الجمعة ، وبكّر وابتكر ، ومشى ولم يركب ، ودنا من الإمام واستمع ولم يلغ ، كان له بكل خطوة أجر سنة صيامها وقيامها « وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » من اغتسل يوم الجمعة غسل جنابة ثم راح في الساعة الأولى فكأنما قرّب بدنه ، ومن راح من الساعة الثانية فكأنما قرب بقرة ، ومن راح في الساعة الثالثة فكأنما قرب كبشاً أقرن ، ومن راح في الساعة الرابعة فكأنما قرب دجاجة ، ومن راح في الساعة الخامسة فكأنما قرب بيضة ، فإذا خرج الإمام حضر الملائكة يستمعون الذكر « ويستحب أن يلبس أحسن ثيابه ويتطيب ويتسوك ويتنظف ويتطهر ، لما روى الإمام أحمد عن أبي أيوب الأنصاري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » من اغتسل يوم الجمعة ومس من طيب أهله إن كان عنده . ولبس من أحسن ثيابه ، ثم خرج حتى يأتي المسجد فيركع إن بدا له ولم يؤذ أحداً ، ثم أنصت إذا خرج إمامه حتى يصلي كانت كفارة لما بينها وبين الجمعة الأُخْرَى « وعن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس يوم الجمعة فرأى عليهم ثياب النمار ، فقال : » ما على أحدكم إن وجد سعة أن يتخذ ثوبين لجمعته سوى ثوب مهنته « وقوله تعالى : { إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاَةِ مِن يَوْمِ الجمعة } المراد بهذا النداء هو ( النداء الثاني ) الذي كان يفعل بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا خرج فجلس على المنبر ، فإنه كان حينئذٍ يؤذن بين يديه ، فهذا هو المراد ، فأما النداء الأول الذي زاده أمير المؤمنين ( عثمان بن عفّان ) رضي الله عنه ، فإنما كان هذا لكثرة الناس ، كما رواه البخاري رحمه الله ، عن السائب بن يزيد قال : » كان النداء يوم الجمعة أوله إذا جلس الإمام على المنبرعلى عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر ، فلما كان عثمان بعد زمن وكثر الناس ، زاد النداء الثاني على الزوراء «(1/2554)
يعني يؤذن به على الدار التي تسمى بالزوراء ، وكانت أرفع دار بالمدينة بقرب المسجد . وذلك النداء الذي يحرم عنده الشراء والبيع إذا نودي به ، فأمر عثمان رضي الله عنه أن ينادى قبل خروج الإمام حتى يجتمع الناس ، وإنما يؤمر بحضور الجمعة الرجال الأحرار دون العبيد والنساء والصبيان ، ويعذر المسافر والمريض وما أضبه ذلك من الأعذار كما هو مقرر في كتب الفروع .
وقوله تعالى : { وَذَرُواْ البيع } أي اسعوا إلى ذكر الله واتركوا البيع إذا نودي للصلاة ، ولهذا اتفق العلماء رضي الله عنهم على تحريم البيع بعد النداء الثاني ، وقوله تعالى : { ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي ترككم البيع وإقبالكم إلى ذكر الله وإلى الصلاة { خَيْرٌ لَّكُمْ } أي في الدنيا والآخرة { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } ، وقوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة } أي فرغ منها { فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } لما حجر عليهم في التصرف بعد النداء ، وأمرهم بالاجتماع ، أذن لهم بعد الفراغ في الانتشار في الأرض والابتغاء من فضل الله ، كما كان ( عراك بن مالك ) رضي الله عنه إذا صلى الجمعة انصر فوقف على باب المسجد فقال : « اللهم إني أجبت دعوتك وصليت فريضتك ، وانتشرت كما أمرتني ، فارزقني من فضلك وأنت خير الرازقين ، وروي عن بعض السلف أنه قال : من باغ واشترى في يوم الجمعة بعد الصلاة بارك الله له سبعين مرة لقول الله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله } ، وقوله تعالى : { واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي في حال بيعكم وشرائكم وأخذكم وإعطائكم ، اذكروا الله ذكراً كثيراً ، ولا تشغلكم الدنيا عن الذي ينفعكم في الدار الآخرة ، ولهذا جاء في الحديث : » من دخل سوقاً من الأسواق فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، وهو على كل شيء قدير ، كتب الله له ألف ألف حسنة ومحا عنه ألف ألف سيئة « وقال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً .(1/2555)
وَإِذَا رَأَوْا تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انْفَضُّوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا قُلْ مَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَمِنَ التِّجَارَةِ وَاللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)
يعاتب تبارك وتعالى على ما كان وقع من الانصراف عن الخطبة يوم الجمعة إلى التجارة التي قدمت المدينة يومئذٍ ، فقال تعالى : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } أي على المنبر تخطب ، عن جابر رضي الله عنه ، قال : قدمت عير مرة المدينة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يخطب فخرج الناس ، وبقي اثنا عشر رجلاً فنزلت : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا } . وروى الحافظ أبو يعلى ، عن جابر بن عبد الله قال : « بينما النبي صلى الله عليه وسلم يخطب يوم الجمعة ، فقدمت عير إلى المدينة ، فابتدروها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » والذي نفسي بيده لو تتابعتم حتى لم يبقى منكم أحد لسال بكم الوادي ناراً « » ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْواً انفضوا إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } ، وقال : كان في الأثني عشر الذين ثبتوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : أبو بكر وعمر رضي الله عنهما ، وفي قوله تعالى : { وَتَرَكُوكَ قَآئِماً } دليل على أن الإمام يخطب يوم الجمعة قائماً ، وقد روى مسلم في « صحيحه » عن جابر بن سمرة قال : كانت للنبي صلى الله عليه وسلم خطبتان يجلس بينهما يقرأ القرآن ويذكّر الناس ، ولكن ههنا شيء ينبغي أن يعلم وهو أن هذه القصة قد قيل إنها كانت لما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقدم الصلاة يوم الجمعة على الخطبة ، كما رواه أبو داود في كتاب « المراسيل » ، عن مقاتل بن حيان يقول : كان رسول الله صلىلله عليه وسلم يصلي يوم الجمعة قبل الخطبة مثل العيدين ، حتى إذا كان يوم والنبي صلى الله عليه وسلم وقد صلى الجمعة فدخل رجل فقال : إن دحية بن خليفة قد قدم بتجارة ، يعني فانفضوان ولم يبقى معه إلا نفر يسير ، وقوله تعالى : { قُلْ مَا عِندَ الله } أي الذي عند الله من الثواب في الدار الآخرة { خَيْرٌ مِّنَ اللهو وَمِنَ التجارة والله خَيْرُ الرازقين } أي لمن توكل عليه وطلب الرزق في وقته .(1/2556)
إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (3) وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)
يقول تعالى مخبراً عن المنافقين ، أنهم إنما يتفوهون بالإسلام ظاهراً فأما في باطن الأمر فليسوا كذلك بل على الضد من ذلك ، ولهذا قال تعالى : { إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } أي إذا حضروا عندك واجهوك بذلك ، وأظهروا لك ذلك ، وليس كما يقولون ولهذا اعترض بجملة مخبرة أنه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : { والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ } . ثم قال تعالى : { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ } أي فيما أخبروا به لأنهم لم يكونوا يعتقدون صحة ما يقولون ولا صدقه ، ولهذا كذّبهم بالنسبة إلى اعتقادهم ، وقوله تعالى : { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله } أي اتقوا الناس بالأيمان الكاذبة ليصدقوا فيما يقولون فاغتر بهم من لا يعرف جلية أمرهم ، فاعتقدوا أنهم مسلمون ، وهم من شأنهم أنهم كانوا في الباطن لا يألون الإسلام وأهله خبالاً ، فحصل بهذا القدر ضرر كبير على كثير من الناس ، ولهذا قال تعالى : { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُواّ ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } أي إنما قدر عليهم النفاق لرجوعهم عن الإيمان إلى الكفران ، واستبدالهم الضلالة بالهدى ، { فَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } أي فلا يصل إلى قلوبهم هدى ، ولا يخلص إليها خير فلا تعي ولا تهتدي . وقوله تعالى : { وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِن يَقُولُواْ تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ } أي وكانوا أشكالاً حسنة وذوي فصاحة وألسنة ، وإذا سمعهم السامع يصغي إلى قولهم لبلاغتهم ، وهم مع ذلك في غاية الضعف والخور والهلع والجزع ، ولهذا قال تعالى : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } أي كلما وقع أمر أو خوف ، يعتقدون لجبنهم أنه نازل بهم ، كما قال تعالى : { فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } [ الأحزاب : 19 ] فهم جهامات وصور بلا معاني ، ولهذا قال تعالى : { هُمُ العدو فاحذرهم قَاتَلَهُمُ الله أَنَّى يُؤْفَكُونَ } أي كيف يصرفون عن الهدى إلى الضلال ، وفي الحديث : « إن المنافقين علامات يعرفون بها : تحيتهم لعنة ، وطعامهم نهبة ، وغنيمتهم غلول ، ولا يقربون المساجد إلا هجراً ، ولا يأتون الصلاة إلا دبراً ، مستكبرين ، لا يألفون ولا يؤلفون ، خشب بالليل ، صُخب بالنهار » .(1/2557)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لَا تُنْفِقُوا عَلَى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَلِلَّهِ خَزَائِنُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَا يَعْلَمُونَ (8)
يقول تعالى مخبراً عن المنافقين عليهم لعائن الله أنهم { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } أي صدوا وأعرضوا عما قيل لهم استكباراً عن ذلك واحتقاراً لما قيل لهم ، ولهذا قال تعالى : { وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } ثم جازاهم على ذلك فقال تعالى : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } . عن سفيان { لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ } حوّل سفيان وجهه على يمينه ، ونظر بعينه شزراً ، ثم قال : هو هذا ، وقد ذكر غير واحد من السلف أن هذا السياق كله نزل في ( عبد الله بن أبي سلول ) كما سنورده قريباً إن شاء الله تعالى . قال قتادة والسدي : « أنزلت هذه الآية في عبد الله بن أُبي ، وذلك أن غلاماً من قرابته انطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحدثه بحديث عنه وأمر شديد ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو يحلف بالله ويتبرأ من ذلك ، وأقبلت الأنصار على ذلك الغلام فلاموه وعزلوه وأنزل الله فيه ما تسمعون ، وقيل لعدو الله : لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل يلوي رأسه ، أي لست فاعلاً » .
وقال أبو إسحاق في قصة بني المصطلق : « فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقيم هناك اقتتل على الماء ( جهجاه بن سعيد الغفاري ) وكان أجيراً لعمر بن الخطاب و ( سنان بن يزيد ) ، فقال سنان : يا معشر الأنصار ، وقال الجهجاه : يا معشر المهاجرين ، وزيد بن أرقم ونفر من الأنصار عند ( عبد الله بن أُبي ) فلما سمعها قال : قد ثاورونا في بلادنا والله ما مثلنا وجلابيب قريش هذه إلا كما قال قائل : سمّن كلبك يأكلك ، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، ثم أقبل على من عنده من قومه ، وقال : هذا ما صنعتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم ، وقاسمتموهم أموالكم ، أما والله لو كففتم عنهم لتحولوا عنكم من بلادكم إلى غيرها ، فسمعها ( زيد بن أرقم ) رضي الله عنه فذهب بها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو غليم عنده عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأخبره الخبر ، فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله! مر عباد من بشر فليضرب عنقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فكيف إذا تحدث الناس يا عمر أن محمداً يقتل أصحابه ، لا ، ولكن ناد يا عمر : الرحيل « ، فلما بلغ عبد الله بن أُبي أن ذلك قد بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتاه فاعتذر إليه ، وحلف بالله ما قال ، ما قال عليه ( زيد بن أرقم ) وكان عند قومه بمكان ، فقالوا : يا رسول الله عسى أن يكون هذا الغلام أوهم ولم يثبت ما قال الرجل ، وراح رسول الله صلى الله عليه وسلم مهجراً في ساعة كان لا يروح فيها ، فلقيه ( أسيد بن الحضير ) رضي الله عنه ، فسلم عليه بتحية النبوة ، ثم قال : والله لقد رحت في ساعة مبكرة ما كنت تروح فيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أما بلغك ما قال صاحبك ابن أُبي؟ زعم أنه إذا قدم المدينة سيخرج الأعز منها الأذل « ، قال : فأنت يا رسول الله العزيز وهو الذليل ، ثم قال : ارفق به يا رسول الله ، فوالله لقد جاء الله بك ، وإنا لننظم له الخرز لنتوجه ، فإنه ليرى أن قد سلبته ملكاً ، سار رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس حتى أمسوا وليلته حتى أصبحوا ، وصدر يومه حتى اشتد الضحى ، ثم نزل بالناس ليشغلهم عما كان من الحديث ، فلم يأمن الناس أن وجدوا مس الأرض فناموا »(1/2558)
، ونزلت سورة المنافقين ، وقال الحافظ أبو بكر البيهقي ، عن جابر بن عبد الله يقول : « كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة فكسع رجل من المهاجرين رجُلاً من الأنصار ، فقال الأنصاري : يا للأنصار ، وقال المهاجري يا للمهاجرين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما بال دعوى الجاهلية؟ دعوها فإنها منتنة « ، وقال ( عبد الله بن أُبي بن سلول ) وقد فعلوها : والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، قال جابر : وكان الأنصار بالمدينة أكثر من المهاجرين حين قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم كثر المهاجرون بعد ذلك ، فقال عمر : دعني أضرب عنق هذا المنافق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » دعه لا يتحدث الناس أن محمداً يقتل أصحابه « » وروى الإمام أحمد ، عن زيد بن أرقم قال : « كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال عبد الله بن أُبي : لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل . قال : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته قال : فحلف عبد الله بن أُبي أنه لم يكن شيء من ذلك ، قال : فلامني قومي وقالوا : ما أردت إلى هذا؟ قال ، فانطلقت فنمت كئيباً حزيناً ، قال : فأرسل إليَّ نبي الله صى الله عليه وسلم فقال : » إن الله قد أنزل عذرك وصدقك « ، قال : فنزلت هذه الآية : { هُمُ الذين يَقُولُونَ لاَ تُنفِقُواْ على مَنْ عِندَ رَسُولِ الله حتى يَنفَضُّواْ } حتى بلغ { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } » .
طريق أُخْرَى : قال الإمام أحمد رحمه الله ، عن زيد بن أرقم قال : « خرجت مع عمي في غزاة فسمعت عبد الله بن أُبي بن سلول يقول لأصحابه : لا تنفقوا على من عند رسول الله ، ولئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل ، فذكرت ذلك لعمي ، فذكره عمي لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فحدثته ، فأرسل إلى عبد الله بن أُبي بن سلول وأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا ، فكذّبني رسول الله صلى الله عليه وسلم وصدَّقه ، فأصابني هم لم يصبني مثله قط ، وجلست في البيت ، فقال عمي : ما أردت إلا أن كذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ومقتك! قال : حتى أنزل الله : { إِذَا جَآءَكَ المنافقون } [ المنافقون : 1 ] ، قال : فبعث إليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليَّ ، ثم قال : » إن الله قد صدقك « »(1/2559)
وقال محمد بن إسحاق : حدثني عاصم بن عمر بن قتادة « أن عبد الله بن عبد الله بن أبي لما بلغه ما كان من أمر أبيه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد قتل عبد الله بن أُبي فيما بلغك عنه ، فإن كنت فاعلاً فمرني به ، فأنا أحمدل إليك رأسه ، فوالله لقد علمت الخزرج ما كان لها من رجل أبر بوالده مني ، إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي يمشي في الناس ، فأقتله فأقتل مؤمناً بكافر فأدخل النار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » بل نترفق به ونحسن صبحته ما بقي معنا « » ، وذكر عكرمة « أن الناس لما قفلوا راجعين إلى المدينة وقف ( عبد الله بن عبد الله ) على باب المدينة واستل سيفه ، فجعل الناس يمرون عليه ، فلما جاء أبوه ( عبد الله بن أُبي ) قال له ابنه : وراءك فقال : مالك ويلك؟ فقال : والله لا تجوز من هاهنا حتى يأذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه العزيز وأنت الذليل ، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم شكا إليه عبد الله بن أُبي ابنه ، فقال ابنه ، فقال ابنه عبد الله : والله يا رسول الله لا يدخلها حتى تأذن له ، فأذن له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أما إذا أذن لك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجز الآن » ، وقال الحميدي في « مسنده » : « قال عبد الله بن عبد الله بن أُبي بن سلول لأبيه : والله لا تدخل المدينة أبداً حتى تقول رسول الله صلى الله عليه وسلم الأعز وأنا الأذل ، قال : وجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنه بلغني أنك تريد أن تقتل أبي ، فوالذي بعثك بالحق لئن شئت آتيك برأسه لأتيك ، فإني أكره أن أرى قاتل أبي » .(1/2560)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (9) وَأَنْفِقُوا مِنْ مَا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْلَا أَخَّرْتَنِي إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (11)
يقول تعالى آمراً لعباده المؤمنين بكثرة ذكره ، وناهياً لهم عن أن تشغلهم الأموال والأولاد عن ذلك ، ومخبراً لهم بأنه من التهى بمتاع الحياة الدنيا وزينتها عن طاعة ربه وذكره ، فإنه من الخاسرين الذين يخسرون أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ثم حثهم على الإنفاق في طاعته فقال : { وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين } ، فكل مفرط يندم عند الاحتضار ، ويسأل طول المدة ليستعتب ويستدرك ما فاته وهيهات ، كما قال تعالى : { وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل } [ إبراهيم : 44 ] ، وقال تعالى : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون * لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } [ الأنبياء : 99-100 ] ، ثم قال تعالى : { وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي لا ينظر أحداً بعد حلول أجله ، وهو أعلم وأخبر بمن يكون صادقاً في قوله وسؤاله ، ممن لو رد لعاد إلى شر ما كان عليه ، ولهذا قال تعالى : { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } . روى الترمذي عن ابن عباس قال : من كان له مال يبلغه حج بيت ربه ، أو تجب عليه فيه زكاة لم يفعل ، سأل الرجعة عند الموت ، فقال رجل : يا ابن عباس اتق الله ، فإنما يسأل الرجعة الكفار ، فقال : سأتلو عليك بذلك قرآناً : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون * وَأَنفِقُواْ مِن مَّا رَزَقْنَاكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الموت فَيَقُولُ رَبِّ لولا أخرتني إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَأَكُن مِّنَ الصالحين } إلى قوله : { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } قال : فما يوجب الزكاة؟ قال : إذا بلغ المال مائتين فصاعداً ، قال : فما يوجب الحج؟ قال : الزاد والبعير . وروى ابن أبي حاتم ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : « ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الزيادة في العمر فقال : » إن الله لا يؤخر نفساً إذا جاء أجلها ، وإنما الزيادة في العمر أن يرزق الله العبد ذرية صالحة يدعون له ، فيلحقه دعاؤهم في قبره « » .(1/2561)
يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (4)
هذه السورة هي آخر المسبحات وقد تقدّم الكلام على تسبيح المخلوقات لبارئها ومالكها ، ولهذا قال تعالى : { لَهُ الملك وَلَهُ الحمد } أي هو المتصرف في جميع الكائنات ، المحمود على جميع ما يخلقه ويقدره . وقوله تعالى : { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي مهما أراد كان بلا ممانع ولا مدافع ، ومالم يشأ لم يكن ، وقوله تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } ، أي هو الخالق لكم على هذه الصفة ، فلا بد من وجود مؤمن وكافر ، وهو البصير بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلال ، ولهذا قال تعالى : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ، ثم قال تعالى : { خَلَقَ السماوات والأرض بالحق } أي بالعدل والحكمة ، { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي أحسن أشكالكم ، كقوله تعالى : { الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ } [ الانفطار : 7-8 ] ، وكقوله تعالى : { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات } [ غافر : 64 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَإِلَيْهِ المصير } أي المرجع والمآل . ثم أخبر تعالى عن عمله بجميع الكائنات السمائية والأرضية والنفسية فقال تعالى : { يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } .(1/2562)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (5) ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالُوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا فَكَفَرُوا وَتَوَلَّوْا وَاسْتَغْنَى اللَّهُ وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)
يقول تعالى مخبراً عن الأُمم الماضين ، وما حلّ بهم من العذاب والنكال ، في مخالفة الرسل والتكذيب بالحق ، فقال تعالى : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } أي خبرهم وما كان من أمرهم { فَذَاقُواْ وَبَالَ أَمْرِهِمْ } أي وخيم تكذيبهم ورديء أفعالهم ، وهو ما حلّ بهم في الدنيا من العقوبة والخزي ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي في الدار الآخرة ، ثم علل ذلك فقال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات } أي بالحجج والدلائل والبراهين ، { فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } أي استبعدوا أن تكون الرسالة في البشر ، وأن يكون هداهم على يدي بشر مثلهم ، { فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ } أي كذبوا بالحق ونكلوا عن العمل ، { واستغنى } أي عنهم ، { الله والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } .(1/2563)
زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالنُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنَا وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذَلِكَ يَوْمُ التَّغَابُنِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ خَالِدِينَ فِيهَا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (10)
يقول تعالى مخبراً عن الكفار والمشركين والملحدين أنهم يزعمون أنهم لا يبعثون { قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ } أي لتخبرن بجميع أعمالكم جليلها وحقيرها ، صغيرها وكبيرها { وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } أي بعثكم ومجازاتكم ، ثم قال تعالى : { فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والنور الذي أَنزَلْنَا } يعني القرآن { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي فلا تخفى عليه من أعمالكم خافية ، وقوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع } وهو يوم القيامة ، سمي بذلك لأنه يجمع فيه الأولون والآخرون ، في صعيد واحد يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، كما قال تعالى : { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [ هود : 103 ] ، وقال تعالى : { قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين * لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [ الواقعة : 49-50 ] ، وقوله تعالى : { ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } قال ابن عباس : هو اسم من أسماء يوم القيامة ، وذلك أن أهل الجنة يغبنون أهل النار ، وقال مقاتل بن حيان : لا غبن أعظم من أن يدخل هؤلاء إلى الجنة ، ويذهب بأولئك إلى النار .(1/2564)
مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (11) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)
يقول تعالى : { مَآ أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } قال ابن عباس : بأمر الله يعني عن قدره ومشيته ، { وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي ومن أصابته مصيبة فعلم أنها بقضاء وقدره ، فصبر واحتسب عوّضه عما فاته من الدنيا ، هدى في قلبه ويقيناً صادقاً ، قال ابن عباس : يعني يهدِ قلبه لليقين ، فيعلم أن ما أصابه لم يكن ليخطئه ، وما أخطأه لم يكن ليصيبه ، وقال الأعمش عن علقمة { وَمَن يُؤْمِن بالله يَهْدِ قَلْبَهُ } قال : هو الرجل تصيبه المصيبة فيعلم أنها من عند الله فيرضى ويسلّم ، وقال سعيد بن جبير : يعني يسترجع يقول : { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } [ البقرة : 156 ] ، وفي الحديث المتفق عليه : « عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن » ، وقوله تعالى : { وَأَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } أمر بطاعة الله ورسوله فيما شرع ، وفعل ما به أمر ، وترك ما عنه نهى وزجر ، ثم قال تعالى : { فَإِن تَولَّيْتُمْ فَإِنَّمَا على رَسُولِنَا البلاغ المبين } أي إن نتكلم عن العمل فإنما عليه ما حمّل من البلاغ ، وعليكم ما حمّلتم من السمع والطاعة ، قال الزهري : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم ، ثم قال تعالى مخبراً أنه الأحد الصمد : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أي وحدوا الإلهية له وأخلصوها لديه وتوكلوا عليه ، كما قال تعالى : { رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً } [ المزمل : 9 ] .(1/2565)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَإِنْ تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَاللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْرًا لِأَنْفُسِكُمْ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)
يقول تعالى مخبراً عن الأزواج والأولاد ، أن منهم من هو عدوّ الزوج والوالد ، بمعنى أنه يلتهي به عن العمل الصالح ، كقوله تعالى : { لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الخاسرون } [ المنافقون : 9 ] ، ولهذا قال تعالى هاهنا : { فاحذروهم } قال ابن زيد : يعني على دينكم ، وقال مجاهد : { إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ } قال : يحمل الرجل على قطيعة الرحم ، أو معصية ربه ، فلا يستطيع الرجل مع حبه إلا أن يطيعه ، وقال ابن أبي حاتم : عن ابن عباس ، وسأله رجُل عن هذه الآية : { ياأيها الذين آمنوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلاَدِكُمْ عَدُوّاً لَّكُمْ فاحذروهم } قال : « فهؤلاء رجال أسلموا من مكة ، فأرادوا أن يأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبى أزواجهم وأولادهم أن يدعوهم ، فلما أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، رأوا الناس قد فقهوا في الدين ، فهمُّوا أن يعاقبوهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : { وَإِن تَعْفُواْ وَتَصْفَحُواْ وَتَغْفِرُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } » وقوله تعالى : { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } . يقول تعالى : إنمام الأموال والأولاد { فِتْنَةٌ } أي اختبار وابتلاء من الله تعالى لخلقه ، ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، وقوله تعالى : { والله عِنْدَهُ } أي يوم القيامة { أَجْرٌ عَظِيمٌ } كما قال تعالى : { ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب } [ آل عمران : 14 ] . روي « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يخطب ، فجاء الحسن والحسين رضي الله عنهما عليهما قميصان أحمران يمشيان ويعثران ، فنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم من المنبر فحملهما فوضعهما بين يديه ، ثم قال : » صدق الله ورسوله { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } نظرت إلى هذين الصبيين يمشيان ويعثران ، فلم أصبر حتى قطعت حديثي ورفعتهما « » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الولد ثمرة القلوب ، وإنهم مجبنة مبخلة محزنة » .
وقوله تعالى : { فاتقوا الله مَا استطعتم } أي جهدكم وطاقتكم كما ثبت في الصحيحين : « إذا أمرتكم بأمر فائتوا منه ما استطعتتم وما نهيتكم معنه فاجتنبوه » ، وهذه الآية ناسخة للتي في آل عمران وهي قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] ، عن سعيد بن جبير في قوله : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] ، قال : لما نزلت هذه الآية اشتد على القوم العمل ، فقاموا حتى ورمت عراقيبهم وتقرحت جباههم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية تخفيفاً على المسلمين { فاتقوا الله مَا استطعتم } فنسخت الآية الأولى ، وقوله تعالى : { واسمعوا وَأَطِيعُواْ } أي كنوا منقادين لما يأمركم الله به ورسوله ، ولا تحيدوا عنه يمنة ولا يسرة ، وقوله تعالى : { وَأَنْفِقُواْ خَيْراً لأَنفُسِكُمْ } أي وابذلوا مما رزقكم الله على الأقارب والفقراء والمساكين ، وأحسنوا إلى خلق الله كما أحسن الله إليكم ، يكن خيراً لكم في الدنيا والآخرة ، وقوله تعالى : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } تقدم تفسيره في سورة الحشر ، وقوله تعالى : { إِن تُقْرِضُواْ الله قَرْضاً حَسَناً يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ } أي مهما أنفقتم من شيء فهو يخلفه ، ومهما تصدقتم من شيء فعليه جزاءه ، ونزّل ذلك منزلة القرض له ، كما ثبت في الصحيحين أن الله تعالى يقول :(1/2566)
« من يقرض غير ظلوم ولا عديم » ، ولهذا قال تعالى : { يُضَاعِفْهُ لَكُمْ } ، كما قال تعالى : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } ، أي ويكفر عنكم السيئات ، { حَلِيمٌ } أي يجزي على القليل والكثير ، { والله شَكُورٌ } أي يصفح ويغفر ويستر ، ويتجاوز عن الذنوب والزلات ، { عَالِمُ الغيب والشهادة العزيز الحكيم } تقدم تفسيره غير مرة .(1/2567)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا (1)
خوطب النبي صلى الله عليه سلم أولاً تشريفاً وتكريماً ، ثم خاطب الأمة تبعاً فقال تعالى : { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } وعن أنَس قال : « طلّق رسول الله حفصة فأتت أهلها فأنزل الله تعالى : { ياأيها النبي إِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } فقيل له : راجعها ، فإنها صوّامة قوامة ، وهي من أزواجك ونسائك في الجنة » وروى البخاري « أن عبد الله بن عمر طلق امرأة له وهي حائض ، فذكر عمر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتغيظ رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : » ليراجعها ثم يمسكها حتى تطهر ثم تحيض فتطهر ، فإن بدا له أن يطلقها فليطلقها طاهراً قبل أن يمسها ، فتلك العدة التي أمر بها الله عزَّ وجلَّ « » وفي رواية لهم : « فتلك العدة التي أمر الله أن يطلق لها النساء » وقال عبد الله في قوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } قال : الطهر من غير جماع ، وقال ابن عباس : لا يطلقها وهي حائض ، ولا في طهر قد جامعها فيه ، ولكن يتركها حتى إذا حاضت وطهرت طلقها تطليقة ، وقال عكرمة : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } العدة الطهر ، والقرء الحيضة أن يطلقها حبلى مستبيناً حملها ولا يطلقها وقد طاف عليها ولا يدري حبلى هي أم لا؟ ومن هاهنا أخذ الفقهاء أحكام الطلاق ، وقسموه إلى طلاق سُنّة ، وطلاق بدعة ، فطلاق السنة أن يطلقها طاهرة من غير جماع ، أو حاملاً قد استبان حملها ، والبدعي هو أن يطلقها في حال الحيض ، أو في طهر قد جامعها فيه ، ولا يدري أحملت أم لا ، وطلاق ثالث لا سنة فيه ولا بدعة وهو طَلاق الصغيرة والآيسة وغير المدخول بها ، وتحرير الكلام مستقصى في كتب الفروع .
وقوله تعالى : { وَأَحْصُواْ العدة } أي احفظوها واعرفوا ابتداءها وانتهاءها لئلا تطول العدة على المرأة فتمتنع من الأزواج ، { واتقوا الله رَبَّكُمْ } أي في ذلك ، وقوله تعالى : { لاَ تُخْرِجُوهُنَّ مِن بُيُوتِهِنَّ وَلاَ يَخْرُجْنَ } أي في مدة العدة لها حق السكنى على الزوج ما دامت معتدة منه ، فليس للرجل أن يخرجها ولا يجوز لها أيضاً الخروج لأنها متعلقة لحق الزوج أيضاً ، وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } أي لا يخرجن من بيوتهن إلا أن ترتكب المرأة فاحشة مبينة ، والفاحشة المبينة تشمل الزنا ، وتشمل ما إذا نشزت المرأة أو بذت على أهل الرجل وآذتهم في الكلام والفعال ، وقوله تعالى : { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } أي شرائعه ومحارمه { وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله } أي يخرج عنها ويتجاوزها إلى غيرها ولا يأتمر بها { فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أي بفعل ذلك ، وقوله تعالى : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } أي لعل الزوج يندم على طلاقها ويخلق الله تعالى في قلبه رجعتها ، قال الزهري عن فاطمة بنت قيس في قوله تعالى : { لاَ تَدْرِى لَعَلَّ الله يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْراً } قالت : هي الرجعة ، ومن هاهنا ذهب من ذهب من السلف إلى أنه لا تجب السكنى للمبتوتة أي المقطوعة ، وكذا المتوفى عنها زوجها ، واعتمدوا أيضاً على حديث ( فاطمة بنت قيس )(1/2568)
« حين طلقها زوجها ( أبو عمرو بن حفص ) آخر ثلاث تطليقات ، وكان غائباً عنها باليمن ، فأرسل إليها بذلك ، فأرسل إليها وكيله بشعير يعني نفقة فتسخطته ، فقال : والله ليس لك علينا نفقة ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » ليس لكِ عليه نفقة « » ، ولمسلم : « ولا سكنى » ، وأمرها أن تعتد في بيت أُم شريك ، ثم قال : « تلك امرأة يغشاها أصحابي ، اعتدي عند ابن أم مكتوم فإنه رجل أعمى تضعين ثيابك » الحديث .(1/2569)
فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا (3)
يقول تعالى : فإذا بلغت المعتدات أجلهن ، أي شارفن على انقضاء العدة وقاربن ذلك ، ولكن لم تفرغ العدة بالكلية ، فحينئذٍ إما أن يعزم الزوج على إمساكها ، وهو رجعتها إلى عصمة نكاحه والاستمرار بها على ما كانت عليه عنده { بِمَعْرُوفٍ } أي محسناً إليها في صحبتها ، وإما أن يعزم على مفارقتها { بِمَعْرُوفٍ } أي من غير مقابحة ولا مشاتمة ولا تعنيف ، بل يطلقها على وجه جميل وسبيل حسن ، وقوله : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } أي على الرجعة إذا عزمتم عليها ، كما روي عن عمران بن حصين أنه سئل عن الرجل يطلق المرأة ، ثم يقع بها ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها ، فقال : طلّقت لغير سنة ، ورجعت لغير سنة ، أشهد على طلاقها وعلى رجعتها ولا تعد ، وقال ابن جريج : كان عطاء يقول : { وَأَشْهِدُواْ ذَوَىْ عَدْلٍ مِّنكُمْ } قال : لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا رجاع إلا شاهدا عدل ، كما قال الله عزّ وجلّ إلا أن يكون من عذر ، وقوله تعالى : { ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } أي هذا الذي أمرناكم به من الإشهاد وإقامة الشهادة ، إنما يأتمر به من يؤمن بالله واليوم الآخر ، ومن يخاف عقاب الله في الدار الآخرة ، وقوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } أي ومن يتق الله فيما أمره به ، وترك ما نهاه عنه ، يجعل له من أمره مخرجاً { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } أي من جهة لا تخطر بباله .
عن عبد الله بن مسعود قال : إن أجمع آية في القرآن : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } [ النحل : 90 ] ، وإن أكبر آية في القرآن فرجاً : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } . وفي المسند ، عن عبد الله بن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أكثر من الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب » وقال ابن عباس : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } يقول : ينجيه من كل كرب في الدنيا والآخرة ، { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } ، وقال الربيع من خيثم : { يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } أي من كل شيء ضاق على الناس ، { مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } أي من حيث لا يدري ، وقال قتادة { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً } أي من شبهات الأمور والكرب عند الموت ، { وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } من حيث يرجو ولا يأمل ، وقال السدي : { وَمَن يَتَّقِ الله } يطلق للسنة ، ويراجع للسنة ، وزعم « أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقال له عوف بن مالك الأشجعي ، كان له ابن وأن المشركين أسروه فكان فيهم ، وكان أبوه يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيشكو إليه مكان ابنه وحاله التي هو بها وحاجته ، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره بالصبر ، ويقول له : » إن الله سيجعل لك فرجاً « ، فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيراً أن انفلت ابنه من أيدي العدوّ ، فمر بغنم من أغنام العدو فاستاقها ، فجاء بها إلى أبيه وجاء معه بغنم قد أصابه من المغنم »(1/2570)
، فنزلت فيه هذه الآية : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } . وروى الإمام أحمد ، عن ثوبان قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ، ولا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر » وعن عمران بن حصين قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من انقطع إلى الله كفاه الله كل مؤنة ، ورزقه من حيث لا يحتسب ، ومن انقطع إلى الدنيا وكله إليها » .
وقوله تعالى : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } روى الإمام أحمد ، عن ابن عباس : « أنه ركب خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا غلام إني معلمك كلمات : احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، إذا سألت فاسأل الله ، وإذا استعنت فاستعن بالله ، واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك ، رفعت الأقلام وجفت الصحف « » وقال الإمام أحمد ، عن ابن مسعود ، قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من نزل به حاجة فأنزلها بالناس كان قمناً أن لا تسهل حاجته ، ومن أنزلها بالله تعالى أتاه الله برزق عاجل أو بموت آجل » وقوله تعالى : { إِنَّ الله بَالِغُ أَمْرِهِ } أي منفذ قضاياه وأحكامه في خلقه بما يريده ويشاؤه { قَدْ جَعَلَ الله لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً } كقوله تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [ الرعد : 8 ] .(1/2571)
وَاللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسَائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلَاثَةُ أَشْهُرٍ وَاللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ وَأُولَاتُ الْأَحْمَالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْرًا (4) ذَلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا (5)
يقول تعالى مبيناً لعدة الآيسة ، وهي التي قد انقطع عنها المحيض لكبرها ، أنها { ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ } عوضاً عن الثلاثة قروء في حق من تحيض ، وكذا الصغار اللائي لم يبلغن سن الحيضن أن عدتهن كعدة الآيسة ثلاثة أشهر ، ولهذا قال تعالى : { واللائي لَمْ يَحِضْنَ } . وقوله تعالى : { إِنِ ارتبتم } فيه قولان : أحدهما : وهو قول طائفة من السلف أي إن رأين دماً وشككتم في كونه حيضاً أو استحاضه وارتبتم فيه ، والقول الثاني : إن ارتبتم في حكم عدتهن ولم تعرفوه فهو ثلاثة أشهر ، وهذا مروي عن سعيد بن جبير ، وهو اختيار ابن جرير وهو أظهر في لمعنى لما روي عن أبي بن كعب قال : قلت : لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن ناساً من أهل المدينة لما أنزلت هذه الآية في البقرة في عدة النساء قالوا : لقد بقي من عدة النساء عدد لم يذكرن في البقرة : الصغار والكبار اللائي قد انقطع منهم الحيض ، وذوات الحمل ، قال : فأنزلت التي في النساء القصرى : { واللائي يَئِسْنَ مِنَ المحيض مِن نِّسَآئِكُمْ إِنِ ارتبتم فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاَثَةُ أَشْهُرٍ واللائي لَمْ يَحِضْنَ } . وقوله تعالى : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } يقول تعالى ومن كانت حاملاً فعدتها بوضعه ولو كان بعد الطلاق أو الموت بفواق ناقة ، في قول جمهور العلماء كما هو نص هذه الآية الكريمة ، وكما وردت به السنّة النبوية ، وقد روي عن ( علي ) و ( ابن عباس ) رضي الله عنهم أنها تعتد بأبعد الأجلين من الوضع والأشهر ، عملاً بهذه الآية والتي في سورة البقرة روى البخاري ، عن أبي سلمة قال : « جاء رجُل إلى ابن عباس - وأبو هريرة جالس - فقال : أفتني في امرأة ولدت بعد زوجها بأربعين ليلة ، فقال ابن عباس : آخر الأجلين ، قلت : أنا { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ، قال أبو هريرة : أنا مع ابن أخي عين أبا سلمة فأرسل ابن عنباس غلامه كريباً إلى أُم سلمة يسألها ، فقالت : قُتِل زوج ( سبيعة الأسلمية ) وهي حبلى ، فوضعت بعد موته بأربعين ليلة ، فخِطِبتْ فأنكحها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أبو السنابل فيمن خطبها » .
وروى البخاري ومسلم : « أن سبيعة كانت تحت ( سعد بن خولة ) وكان ممن شهدا بدراً ، فتوفي عنها في حجة الوداع وهي حامل ، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تعلّت من نفاسها تجملت للخطّاب ، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها : ما لي أراك متجملة؟ لعلك ترجين النكاح! إنك والله ما أنت بناكح حتى تمر عليك أربعة أشهر وعشر ، قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك ، جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك ، فأفتاني بأني قد حللت حين وضعت حملي وأمرني بالتزويج إن بدا لي »(1/2572)
هذا لفظ مسلم ، ورواه البخاري مختصراً ، ثم قال البخاري بعد روايته الحديث الأول عند هذه الآية ، وقال أبو سليمان بن حرب وأبو النعمان ، حدَّثنا حماد بن زيد عن أيوب ، عن محمد هو ابن سيرين قال : كنت في حلقة فيها عبد الرحمن بن أبي ليلى ، وكان أصحابه يعظمونه فذكر آخر الأجلين ، فحدثت بحديث سبيعة بنت الحارث عن عبد الله بن عتبة قال : فضمز لي بعض أصحابه ، قال محمد : ففطنت له ، فقلت له : إني لجريء أن أكذب على عبد الله ، وهو في ناحية الكوفة قال : فاستحيا وقال : لكن عمه لم يقل ذلك ، فلقيت أبا عطية منالك بن عامر ، فسألته فذهب يحدثني بحديث سبيعة ، فقلت : هل سمعت عن عبد الله فيها شيئاً؟ فقال : كمنا عند عبد الله فقال : أتجعلون عليها التغليظ ولا تجعلون عليها الرخصة؟ فنزلت سورة النساء القصرى بعد الطولى : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } . وروى ابن جرير عن علقمة بن قيس أن عبد الله بن مسعود قال : من شاء لاعنته ، ما نزلت { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } إلا بعد آية المتوفى عنها زوجها ، قال : وإذا وضعت المتوفى عنها زوجها فقد حلت يريد بآية المتوفى عنها { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ البقرة : 234 ] وقال : أبن أبي حاتم ، عن مسروق قال : بلغ ابن مسعود أن علياً رضي الله عنه يقول آخر الأجلين ، فقال : من شاء لاعنته إن التي في النساء القصرى نزلت بعد البقرة { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } ، وقوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً } أي يسهل له أمره وييسره عليه ، ويجعل له فرجاً قريباً ومخرجاً عاجلاً ، ثم قال تعالى : { ذَلِكَ أَمْرُ الله أَنزَلَهُ إِلَيْكُمْ } أي حكمه وشرعه أنزله إليكم بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَمَن يَتَّقِ الله يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْراً } أي يذهب عنه المحذور ، ويجزل له الثواب على العمل اليسير .(1/2573)
أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَلَا تُضَارُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَإِنْ كُنَّ أُولَاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِنْ تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرَى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَمَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتَاهُ اللَّهُ لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا مَا آتَاهَا سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْرًا (7)
يقول تعالى آمراً عباده ، إذا طلق أحدهم المرأة أن يسكنها في منزل ، حتى تنقضي عدتها فقال : { أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنتُم } أي عندكم { مِّن وُجْدِكُمْ } قال ابن عباس : يعني سعتكم ، وقال قتادة : إن لم تجد إلا جنب بيتك فأسكنها فيه ، وقوله تعالى : { وَلاَ تُضَآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُواْ عَلَيْهِنَّ } قال مقاتل بن حيان : يعني يضاجرها لتفتدي منه بمالها أو تخرج من مسكنه ، وقال الثوري : يطلقها فإذا بقي يومان راجعها . وقوله تعالى : { وَإِن كُنَّ أُوْلاَتِ حَمْلٍ فَأَنفِقُواْ عَلَيْهِنَّ حتى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } قال كثير من العلماء : هذه في البائن إن كانت حاملاً أنفق عليها حتى تضع حملها ، قالوا : بدليل أن الرجعية تجب نفقتها سواء كانت حاملاً أو حائلاً ، وقال آخرون : بل السياق كله في الرجعيات ، وإنما نص على الإنفاق على الحامل وإن كانت رجعية ، لأن الحمل تطول مدته غالباً ، فاحتيج إلى النص على وجوب الإنفاق إلى الوضع ، لئلا يتوهم أنه إنما تجب النفقة بمقدار مدة العدة ، وقوله تعالى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ } أي إذا وضعن حملهن وهو طوالق فقد بنَّ بانقضاء عدتهن ، فإن أرضعت استحقت أجر مثلها ، ولهذا قال تعالى : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } ، وقوله تعالى : { وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ } أي ولتكن أُموركم فيما بينكم بالمعروف ، من غير إضرار ولا مضارة ، كما قال تعالى : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } [ البقرة : 233 ] ، وقوله تعالى : { وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } أي وإن اختلف الرجل والمرأة ، فطلبت المرأة في أجرة الرضاع كثيراً ولم يجبها لرجع إلى ذلك ، أو بذل الرجل قليلاً ولم توافقه عليه ، فليسترضع له غيرها ، فلو رضيت الأم بما استؤجرت به الأجنبية فهي أحق بولدها ، وقوله تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ } أي لينفق على المولود والده أو وليه بحسب قدرته ، { وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا } ، كقوله تعالى : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ، روى ابن جرير ، عن أبي سنان قال : « سأل عمر بن الخطاب عن أبي عبيدة ، فقيل : إنه يلبس الغليظ من الثياب ، ويأكل أخشن الطعام ، فبعث إليه بألف دينار ، وقال للرسول : انظر ما يصنع بهذا إذا هو أخذها؟ فما لبث أن لبس اللين من الثياب ، وأكل أطيب الطعام فجاءه الرسول فأخبره ، فقال رحمه الله تعالى : تأول هذه الآية { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله } » ، وقوله تعالى : { سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً } وعد منه تعالى ، ووعده حق لا يخلفه ، وهذه كقوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً * إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } [ الشرح : 5-6 ] ، وقد روى الإمام أحمد ، عن أبي هريرة قال : « دخل رجل على أهله ، فلما رأى ما بهم من الحاجة خرج إلى البرية ، فلما رأت امرأته قامت إلى الحى فوضعتها وإلى التنور فسجرته ، ثم قالت : اللهم ازرقنا ، فنظرت ، فإذا الجفنة قد امتلأت ، قال : وذهبت إلى التنور فوجدته ممتلئاً ، قال : فرجع الزوج فقال : أصبتم بعدي شيئاً؟ قالت امرأته : نعم من ربنا ، فأمّ إلى الرحى فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » أما إنه لو لم ترفعها لم تزل تدور إلى يوم القيامة « » .(1/2574)
وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ فَحَاسَبْنَاهَا حِسَابًا شَدِيدًا وَعَذَّبْنَاهَا عَذَابًا نُكْرًا (8) فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْرًا (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْرًا (10) رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِ اللَّهِ مُبَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَمَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَيَعْمَلْ صَالِحًا يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقًا (11)
يقول تعالى متوعداً لمن خالف أمره ، وكذَّب رسله وسلك غير ما شرعه ، ومخبراً عما حل بالأمم السالفة بسبب ذلك فقال تعالى : { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ } أي تمردت وطغت واستكبرت عن اتباع أمر الله ومتابعة رسله ، { فَحَاسَبْنَاهَا حِسَاباً شَدِيداً وَعَذَّبْنَاهَا عَذَاباً نُّكْراً } أي منكراً فظيعاً ، { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا } أي غب مخالفتها وندموا حيث لا ينفعهم الندم ، { وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً * أَعَدَّ الله لَهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } أي في الدار الآخرة مع ما عجَّل لهم من العذاب في الدنيا ، ثم قال تعالى بعد ما قص من خبر هؤلاء : { فاتقوا الله ياأولي الألباب } أي الأفهام المستقيمة لا تكونوا مثلهم فيصيبكم ما أصابهم يا أولي الألباب ، { الذين آمَنُواْ } أي صدقوا بالله ورسله { قَدْ أَنزَلَ الله إِلَيْكُمْ ذِكْراً } يعني القرآن ، كقوله تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] ، وقوله تعالى : { رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ } ، وقال بعضههم : { رَّسُولاً } بدل اشتمال؛ لأن الرسول هو الذي بلغ الذكر ، وقال ابن جرير : الصواب أن الرسول ترجمة عن الذكر يعني تفسيراً له ، ولهذا قال تعالى : { رَّسُولاً يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِ الله مُبَيِّنَاتٍ } أي في حال كونها بينة واضحة جلية ، { لِّيُخْرِجَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنَ الظلمات إِلَى النور } ، كقوله تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] ، وقوال تعالى : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } [ البقرة : 257 ] ، أي من ظلمات الكفر والجهل ، إلى نور الإيمان والعلم ، وقد سمى الله تعالى الوحي الذي أنزله { نُوراً } لما يحصل به من الهدى ، كما سماه { رُوحاً } لما يحصل به حياة القلوب فقال تعالى : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَمَن يُؤْمِن بالله وَيَعْمَلْ صَالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ الله لَهُ رِزْقاً } قد تقدم تفسير مثل هذا ولله الحمد والمنة .(1/2575)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا (12)
يقول تعالى مخبراً عن قدرته التامة وسلطانه العظيم ، ليكون ذلك باعثاً على تعظيم ما شرع من الدين القويم : { الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات } ، كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً } [ نوح : 15 ] ، وقوله تعالى : { وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } أي سبعاً أيضاً ، كما ثبت في الصحيحين : « من ظلم قيد شبر من الأرض طوّقه من سبع أرضين » وفي « صحيح البخاري » : « خسف به إلى سبع أرضين » وقد تقدم في سورة الحديد ذكر الأرضين السبع وبعد ما بينهن وكثافة كل واحدة منهن خمسمائة عام ، وهكذا قال ابن مسعود وغيره ، وكذا في الحديث الآخر : « ما السماوات السبع وما فيهن وما بينهن والأرضون السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة » ، وقال ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { سَبْعَ سماوات وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ } قال : لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم ، وكفركم تكذيبكم بها « .(1/2576)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَإِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلَى بَعْضِ أَزْوَاجِهِ حَدِيثًا فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَأَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَأَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَهَا بِهِ قَالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هَذَا قَالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبَا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ (4) عَسَى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجًا خَيْرًا مِنْكُنَّ مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا (5)
اختلف في سبب نزول صدر هذه السورة ، فقيل : نزلت في شأن ( مارية ) وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حرمها فنزل قوله تعالى : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } الآية ، وقد روى النسائي ، عن أنَس « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت له أمة يطؤها فلم تزل به عائشة وحفصة ، حتى حرمها ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } إلى آخر الآية » ، وروى ابن جرير ، عن زيد بن أسلم « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أصاب أُم إبراهيم في بعض بعض نسائه ، فقالت : أي رسول الله في بيتي وعلى فراشي؟ فجعلها عليه حراماً ، فقالت : أي رسول الله كيف يحرم عليك الحلال؟ فحلف لها بالله لا يصيبها ، فأنزل الله تعالى : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } » ؟! وعن مسروق قال : « آلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحرم ، فعوتب في التحريم ، وأُمر بالكفارة باليمين » ، وعن سعيد بن جبير : أن ابن عباس كان يقول في الحرام يمين تكفرها ، وقال ابن عباس : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] يعني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حرم جاريته ، فقال الله تعالى : { ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ } إلى قوله : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } فكفّر يمينه فصيّر الحرام يميناً ، ومن هاهنا قال بعض الفقهاء بوجوب الكفارة على من حرّم جاريته ، أو زوجته ، أو طعاماً ، أو شراباً ، أو شيئاً من المباحات وهو مذهب الإمام أحمد ، وذهب الشافعي إلى أنه لا تجب الكفارة فيما عدا الزوجة والجارية إذا حرم عينيهما ، فأما إن نوى بالتحريم طلاق الزوجة أو عتق الأمَة نفذ فيهما ، والآية نزلت في تحريمه العسل كما روى البخاري عن عائشة قالت : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يشرب عسلاً عند ( زينب بنت جحش ) ويمكث عندها ، فتواطأت أنا وحفصة على أيتنا دخل عليها فلتقل له : أكلت مغافير؟ إني أجد منك ريح مغافير ، قال : » لا ولكني كنت أشرب عسلاً عند زينب بنت جحش ، فلن أعود له ، وقد حلفت لا تخبري بذلك أحداً « » { تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِك } .
وقال البخاري في « كتاب الطلاق » عن عائشة قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب الحلوى والعسل ، وكان إذا انصرف من العصر دخل على نسائه فيدنون من إحداهن ، فدخل على حفصة بنت عمر فاحتبس أكثر ما كان يحتبس ، فغرت ، فسألت عن ذلك فقيل لي أهدت لها امرأة من قومها عكة عسل ، فسقت النبي صلى الله عليه وسلم منه شربة ، فقلت : أما والله لنحتالنَّ له ، فقلت لسودة بن زمعة : إنه سيدنو منك ، فإذا دنا منك فقولي : أكلت مغافير فإنه سيقول : لا ، فقولي له : ما هذه الريح التي أجد؟ سيقول لك : سقتني حفصة شربة عسل ، فقولي : جرست نحله العرفط وسأقول ذلك ، وقولي له أنت يا صفية ذلك ، قالت : تقول سودة : فوالله ما هو إلا أن أقام على الباب ، فأردت أن أناديه بما أمرتني فرقاً منك ، فلما دنا منها ، قالت له سودة : يا رسول الله أكلت مغافير؟ قال : » لا « ، قالت : فما هذه الريح التي أجد منك؟ قال : » سقتني حفصة شربة عسل « ، قالت : جرست نحلة العرفط ، فلما دار إليَّ ، قلت نحو ذلك ، فلما دار إلى صفية قالت له مثل ذلك ، فلما دار إلى حفصة قالت له : يا رسول الله ألا أسقيك منه؟ قال : » لا حاجة لي فيه « »(1/2577)
، قالت : تقول سودة والله لقد حرمناه ، قلت لها : اسكتي . هذا لفظ البخاري ولمسلم ، قالت : « وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشتد عليه أو يوجد منه الريح ، يعني الريح الخبيثة ، ولهذا قلن له أكلت مغافير لأن ريحها فيه شيء ، فلما قال : » بل شربت عسلاً « » قلن : جرست نحلة العرفط ، أي رعث نحله شجر العرفط الذي صمغه المغافير ، فلهذا ظهر ريحه في العسل الذي شربته ، قال الجوهري : جرست النحل العرفط إذا أكلته ، ومنه قيل للنحل جوارس ، وفي رواية عن عائشة أن ( زينب بنت جحش ) هي التي سقته العسل ، وأن عائشة وحفصة تواطأتا وتظاهرتا عليه فالله أعلم ، وقد يقال : إنهما واقعتان ، ولا بعد في ذلك إلا أن كونهما سبباً لنزول هذه الآية فيه نظر ، والله أعلم .
ومما يدل على أن عائشة وحفصة رضي الله عنهما هما المتظاهرتان الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس : قال : لم أزل حريصاً على أن أسأل عمر عن المرأتين من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتين قال الله تعالى : { إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } حتى حج عمر وحججت معه ، فلماكان ببعض الطريق عدل عمر ، وعدلت معه بالإداوة ، فتبرز ثم أتاني ، فسكبت على يديه فتوضأ ، فقلت : يا أمير المؤمنين : من المرأتان من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم اللتان قال الله تعالى : { إِن تَتُوبَآ إِلَى الله فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا } ؟ فقال عمر : واعجباً لك يا ابن عباس ، قال : الزهري : كره والله ما سأله عنه ولم يكتمه ، قال هي ( عائشة وحفصة ) . قال : ثم أخذ يسوق الحديث ، قال : « كنا معشر قريش قوماً نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم ، فطفق نساؤها يتعلمن من نسائهم ، قال : وكان منزلي في دار أُميَّة بن زيد بالعوالي ، فغضبت يوماً على امرأتي ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني ، فقالت : ما تنكر أن أراجعك فوالله إن أزواج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليراجعنه ، وتهجره إحداهنَّ اليوم إلى الليل ، قال : فانطلقت فدخلت على حفصة ، فقلت : أتراجعين رسول الله صلى الله عليه سلم؟ قالت : نعم ، قلت : وتهجره إحداكنَّ اليوم إلى الليل؟ قالت : نعم ، قلت : قد خاب من فعل ذلك منكن وخسر ، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله ، فإذا هي قد هلكت ، لا تراجعي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا تسأليه شيئاً ، وسليني من مالي ما بدا لك ، ولا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم ( أي أجمل ) وأحب إلى رسول الله صلى الله وسلم منك يريد عائشة ، قال : وكان لي جار من الأنصار ، وكنا نتناوب النزول إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ينزل يوماً وأنزل يوماً ، فيأتيني بخبر الوحي وغيره وآتيه بمثل ذلك ، قال : وكنا نتحدث أن غسان تنعل الخيل لتغزونا ، فنزل صاحبي يوماً ، ثم أتى عشاء ، فضر بابي ، ثم ناداني ، فخرجت إليه ، فقال : حدث أمر عظيم ، فقلت : وما ذاك ، أَجاءت غسان؟ قال : لا ، بل أعظم من ذلك وأطول ، طلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، فقلت : قد خابت حفصة وخسرت ، قد كنت أظن هذا كائناً ، حتى إذا صليت الصبح شددت عليّ ثيابي ، ثم نزلت ، فدخلت على حفصة وهي تبكي فقلت : أطلقكن رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالت : لا أدري ، هو هذا معتزل في هذه المشربة ، فأتيت غلاماً له أسود فقلت استأذن لعمر ، فدخ الغلام ثم خرج إلي فقال : ذكرتك له فصمت ، فانطلقت حتى أتيت المنبر ، فإذا عنده رهط جلوس يبكي بعضهم ، فجلست عنده قليلاً ، ثم غلبني ما أجد فأتيت الغلام ، فقلت : استأذن لعمر فدخل ثم خرج إلي ، فقال : فقد ذكرتك له فصمت ، فخرجت فجلست إلى المنبر ، ثم غلبني ما أجد ، فأتيت الغلام فقلت : استأذن لعمر : فدخل ثم خرج إلي فقال : قد ذكرتك له فصمت فوليت مدبراً . فإذا الغلام يدعوني . فقال : ادخل قد أذن لك . فدخلت فسلمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا هو متكىء على رمال حصير وقد أثر في جنبه فقلت : أطقلت يا رسول الله نساءك؟ فرفع رأسه إليّ ، وقال : » لا « ، فقلت : ألله أكبر ، ولو رأيتنا يا رسول الله وكنا معشر قريش قوماً نغلب النساء ، فلما قدمنا المدينة وجدنا قوماً تغلبهم نساؤهم . فطفق نساؤنا يتعلمن من نسائهم . فغضبت على امرأتي يوماً ، فإذا هي تراجعني ، فأنكرت أن تراجعني . فقالت : ما تنكر أن أراجعك؟ فوالله إن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ليراجعنه وتهجره إحداهن اليوم إلى الليل ، فقلت : قد خاب من فعل ذلك منكم وخسرن ، أفتأمن إحداكن أن يغضب الله عليها لغضب رسوله فإذا هي قد هلكت؟ فتبسم رسول الله صلى عليه وسلم فقلت : يا رسول الله قد دخلت على حفصة ، فقلت : لا يغرنك أن كانت جارتك هي أوسم أو أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منك ، فتبسم أُخْرى ، فقلت : استأنس يا رسول الله؟ قال : » نعم « ، فجلست فرفعت رأسي في البيت فوالله ما رأيت في البيت شيئاً يرد البصر إلاّ أهب مقامه ، فقلت : ادع الله يا رسول الله أن يوسع على أُمتك ، فقد وسع على فارس والروم . وهم لا يعبدون الله ، فاستوى جالساً وقال : » أفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في الحياة الدنيا « ، فقلت : استغفر لي يا رسول الله ، وكان أقسم أن لا يدخل عليهن شهراً من شدة موجدته عليهن ، حتى عاتبه الله عزَّ وجلَّ » .(1/2578)
وروى البخاري : عن أنَس قال ، قال عمر : اجتمع نساء النبي صلى الله عليه وسلم في الغيرة عليه فقلت لهن : { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ } فنزلت هذه الآية ، وقد تقدم أنه وافق القرآن في أماكن منها في نزول الحجاب ومنها في أسارى بدر ، ومنها قوله : لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله تعالى : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] . وقد تبين مما أوردناه تفسير هذه الآيات الكريمات ، ومعنى قوله : { مُسْلِمَاتٍ مُّؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ } ظاهر ، وقوله تعالى : { سَائِحَاتٍ } أي صائمات قاله ابن عباس وعكرمة ومجاهد ، وتقدم فيه حديث مرفوع ، ولفظه « سياحة هذه الأمة الصيام » ، وقال زيد بن أسلم { سَائِحَاتٍ } أي مهاجرات ، وتلا { السائحون } [ التوبة : 112 ] أي المهاجرون ، والقول الأول أولى ، والله أعلم . وقوله تعالى : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } أي منهن ثيبات ، ومنهن أبكاراً ، ليكون ذلك أشهى إلى النفس ، فإن التنوع يبسط النفس ، ولهذا قال : { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً } قال : وعند الله نبيّه صلى الله عليه وسلم في هذه الآية أن يزوجه ، فالثيب أسية امرأة فرعون ، وبالأبكار مريم بنت عمران ، وذكر الحافظ ابن عساكر ، عن ابن عمر قال : « جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمرت خديجة فقال : إن الله يقرؤها السلام ويبشرها ببيت في الجنة من قصب : بعيد من اللهب لا نصب فيه ولا صخب ، من لؤلؤة جوفاء بين بيت مريم بنت عمران وبيت آسية بن مزاحم » .(1/2579)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحًا عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8)
قال علي رضي الله عنه في قوله : { قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } يقول أدبوهم وعلموهم ، وقال ابن عباس : اعلموا بطاعة الله واتقوا معاصي الله وأمروا أهليكم بالذكر ينجيكم الله من النار ، وقال مجاهد : اتقوا الله وأوصوا أهليكم بتقوى الله ، وقال قتادة : تأمرهم بطاعة الله وتنهاهم عن معصية الله ، وأن تقوم عليهم بأمر الله وتساعدهم عليه ، فإذا رأيت لله معصية قذعتهم عنها وزجرتهم عنها ، وقال الضحاك : حق على المسلم أن يعلم أهله من قرابته وإمائه عبيده ما فرض الله عليهم وما نهاهم الله عنه ، وفي معنى هذه الآية الحديث الشريف : « مروا الصبي بالصلاة إذا بلغ سبع سنين ، فإذا بلغ عشر سنين فاضربون عليها » ، قال الفقهاء : وهكذا في الصوم ليكون ذلك تمريناً له على العبادة لكي يبلغ ، وهو مستمر على العبادة والطاعة ومجانبة المعصية وترك المنكر ، وقوله تعالى : { وَقُودُهَا الناس والحجارة } وقودها : أي حطبها الذي يلقى فيها جثث بني آدم . { والحجارة } قيل : المراد بها الأصنام التي تعبد لقوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] ، وقال ابن مسعود ومجاهد : هي حجارة من كبريت ، أنتن من الجيفة ، وقوله تعالى : { عَلَيْهَا مَلاَئِكَةٌ غِلاَظٌ شِدَادٌ } أي طباعهم غليظة قد نزعت من قلوبهم الرحمة بالكافرين بالله { شِدَادٌ } أي تركيبهم في غياة الشدة والكثافة والمنظر المزعج ، كما روى ابن أبي حاتم . عن عكرمة أنه قال : إذا وصل أول أهل النار إلى النار ، وجدوا على الباب أربعمائة ألف من خزنة جهنم سود وجوههم ، كالحة أنيابهم ، وقد نزع الله من قلوبهم الرحمة ، ليس في قلب واحد منهم مثقال ذرة من الرحمة . لو طير الطير من منكب أحدهم لطار شهرين قبل أن يبلغ منكبه الآخر ، ثم يجدون على الباب التسعة عشر ، عرض صدر أحدهم سبعون خريفاً ، ثم يهوون من باب إلى باب خمسمائة سنة ، ثم يجدون على كل باب منها مثل ما وجدوا على الباب الأول حتى ينتهوا إلى آخرها ، وقوله تعالى : { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } أي مهما أمرهم به تعالى يبادروا إليه ، لا يتأخرون عنه طرفة عين ، وهم قادرون على فعله ليس بهم عجز عنه ، وهؤلاء هم الزبانية .
وقوله تعالى : { ياأيها الذين كَفَرُواْ لاَ تَعْتَذِرُواْ اليوم إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي يقال للكفرة يوم القيامة لا تعتذروا فإنه لا يقبل منكم ، وإنما تجزون اليوم بأعمالكم ، ثم قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ توبوا إِلَى الله تَوْبَةً نَّصُوحاً } أي توبة صادقة جازمة تمحو ما قبلها من السيئات ، وتلم شعث التائب وتجمعه وتكفه عما كان يتعاطاه من الدناءات ، قال عمر ( التوبة النصوح ) أن يتوب من الذنب ، ثم لا يعود فيه أو لا يريد أن يعود فيه ، وقال أبو الأحوص : سئل عمر عن التوبة النصوح ، فقال : أن يتوب الرجل من العمل السيء ثم لا يعود إليه أبداً ، وقال ابن مسعود { تَوْبَةً نَّصُوحاً } قال : يتوب ثم لا يعود ، ولهذا قال العلماء : التوبة النصوح هو أن يقلع عن الذنب في الحاضر ، ويندم على ما سلف منه في الماضي ، ويعزم على أن لا يفعل في المستقبل ، ثم إن كان الحق لآدمي رده إليه بطريقه ، وفي الحديث الصحيح :(1/2580)
« الندم توبة » ، وعن أُبيّ بن كعب قال : « قيل لنا : أشياء تكون في آخر هذه الأمّة عند اقتراب الساعة : منها نكاح الرجل امرأته أو أمته في دبرها ، وذلك مما حرم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله ، ومنها نكاح الرجل الرجل ، وذلك مما حرّم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله ، ومنها نكاح المرأة المرأة ، وذلك مما حرم الله ورسوله ويمقت الله عليه ورسوله ، وليس لهؤلاء صلاة ما أقاموا على هذا حتى يتوبوا إل الله توبة نصوحاً ، قال زر : فقلت لأُبي بن كعب : فما التوبة النصوح؟ فقال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : » هو الندم على الذنب حين يفرط منك فتستغفر الله بندامتك منه عند الحاضر ثم لا تعود إليه أبداً « » وقال الحسن : « التوبة النصوح أن تبغض الذنب كما أحببته ، وتستغفر منه إذا ذكرته ، فأما إذا جزم بالتوبة وصمم عليها فإنها تجب ما قبلها من الخطيئات ، كما ثبت في الصحيح : » الإسلام يجب ما قبله ، والتوبة تجب ما قبلها « وهل من شرط التوبة النصوح الاستمرار على ذلك إلى الممات - كما تقدم في الحديث وفي الأثر - ثم لا يعود فيه أبداً ، أو يكفي العزم على أن لا يعود في تكفير الماضي بحيث لو قوع منه ذلك الذنب بعد ذلك لا يكون ذلك ضاراً في تكفير ما تقدم لعموم قوله عليه السلام : » التوبة تجب ما قبلها « ؟ وللأول أن يحتج بما ثبت في الصحيح أيضاً : » من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام أخذ الأول والآخر « فإذا كان هذا الإسلام الذي هو أقوى من التوبة بطريق الأُولى ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُكَفِّرَ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } وعسى من الله موجبة { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ } أي ولا يخزيهم معه يعني يوم القيامة { نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ } ، كما تقدّم في سورة الحديد : { يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَآ إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال مجاهد والضحّاك : هذا يقوله المؤمنون حين يرون يوم القيامة نور المنافقين قد طفىء روى الإمام أحمد بن يحيى بن غسان عن رجُل من بني كنانة قال :(1/2581)
« صلَّيت خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح فسمعته يقول : » اللهم لا تخزني يوم القيامة « » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » أنا أول من يؤذن له في السجود يوم القيامة ، وأول من يؤذن له برفع رأسه ، فأنظر بين يدي فأعرف أمتي من بين الأمم ، وأنظر عن يميني فأعرف من أمتي من بين الأمم ، وأنظر عن شمالي فأعرف أمتي من بين الأمم « ، فقال رجل : يا رسول الله : وكيف تعرف أُمتك من بين الأُمم؟ قال : » غر محجلون من آثار الطهور ، ولا يكون أحد من الأمم كذلك غيرهم ، وأعرفهم يؤتون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم بسيماهم في وجوههم من أثر السجود ، وأعرفهم بنورهم يسعى بين أيديهم « » .(1/2582)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (9) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَامْرَأَتَ لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ فَخَانَتَاهُمَا فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَقِيلَ ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفّار والمنافقين هؤلاء بالسلاح والقتال ، وهؤلاء بإقامة الحدود عليهم { واغلظ عَلَيْهِمْ } أي في الدنيا ، { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } أي في الآخرة ، ثم قال تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي في مخالطتهم المسلمين ومعاشرتهم لهم أن ذلك لا يجدي عنهم شيئاً ، إن لم يكن الإيمان حاصلاً في قلوبهم ، ثم ذكر المثل فقال : { امرأت نُوحٍ وامرأت لُوطٍ كَانَتَا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبَادِنَا صَالِحَيْنِ } أي نبيين رسولين عندهما في صحبتهما ليلاً ونهاراً ، يؤاكلانهما ويضاجعانهما ويعاشرانهما أشد العشر والاختلاط ، { فَخَانَتَاهُمَا } أي في الإيمان لم يوافقهما على الإيمان ، ولا صدقاهما في الرسالة ، فلم يجد ذلك كله شيئاً ولا دفع عنهما محذوراً ، ولهذا قال تعالى : { فَلَمْ يُغْنِيَا عَنْهُمَا مِنَ الله شَيْئاً } أي لكفرهما ، { وَقِيلَ } أي للمرأتين { ادخلا النار مَعَ الداخلين } ، وليس المراد بقوله { فَخَانَتَاهُمَا } في فاحشة بل في الدين ، فإن نساء الأنبياء معصومات عن الوقوع في الفاحشة لحرمة الأنبياء ، كما قدمنا في سورة النور ، قال ابن عباس { فَخَانَتَاهُمَا } قال : ما زنتا ، أما خيانة امرأة نوح فكانت تخبر أنه مجنون ، وأما خيانة امرأة لوط فكانت تدل قومها على أضيافه ، وقال الضحّاك : عن ابن عباس : ما بغت امرأة نبي قط إنما كانت خيانتهما في الدين .(1/2583)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِنْ رُوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ (12)
وهذا مثل ضربه الله للمؤمنين ، أنهم لا تضرهم مخالطة الكفارين إذا كانوا محتاجين إليهم ، كما قال تعالى : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } [ آل عمران : 28 ] قال قتادة : كان فرعون أعتى أهل الأرض وأكفرهم ، فوالله ما ضر امرأته كفر زوجها حين أطاعت ربها ، ليلعموا أن الله تعالى حكم عدل لا يؤاخذ أحداً إلاّ بذنبه ، وروى ابن جرير ، عن سلمان قال : كانت امرأة فرعون تعذب في الشمس ، فإذا انصرف عنها أظلتها الملائكة بأجنحتها ، وكانت ترى بيتها في الجنة ، فقولها : { رَبِّ ابن لِي عِندَكَ بَيْتاً فِي الجنة } قال العلماء : اختارت الجار قبل الدار ، { وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ } أي خلصني منه فإني أبرأ إليك من عمله { وَنَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين } وهذه المرأة هي ( آسية بنت مزاحم ) رضي الله عنها ، عذَّبها فرعون فشدَّ يديها ورجليها بالأوتاد وهي صابرة ، فرأت بيتها في الجنة فضحكت حين رأته ، فقال فرعون : ألا تعجبون من جنونها! إنا نعذّبها وهي تضحك ، فقبض الله روحها في الجنة رضي الله عنها ، وقوله تعالى : { وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا } أي حفظته وصانته ، والإحصان : هو العفاف والحرية { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } أي بواسطة الملك وهو ( جبريل ) فإن الله بعثه إليها فتمثل لها في صورة بشر سوي ، وأمره الله تعالى أن ينفخ فيه بِفيهِ ي جيب درعها ، فنزلت النفخة فولجت في فرجها ، فكان منه الحمل بعيسى عليه السلام ، ولهذا قال تعالى : { فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ } أي بقدره وشرعه ، { وَكَانَتْ مِنَ القانتين } . وفي الصحيحين ، عن أبي موسى الأشعري ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلاّ آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وخديجة بن خويلد ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » .(1/2584)
تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئًا وَهُوَ حَسِيرٌ (4) وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُومًا لِلشَّيَاطِينِ وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السَّعِيرِ (5)
يُمَجد تعالى نفسه الكريمة ، ويخبر أنه { بِيَدِهِ الملك } أي هو المتصرف في جميع المخلوقات ، بما يشاء ، لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل ، لقهره وحكمته وعدله ، ولهذا قال تعالى : { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، ثم قال تعالى : { الذي خَلَقَ الموت والحياة } ومعنى الآية أنه أوجد الخلائق من العدم ليبلوهم ، أي يختبرهم أيهم أحسن عملاً ، عن قتادة قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله أذل بني آدم بالموت ، وجعل الدنيا دار حياة ثم دار موت ، وجعل الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء » ، وقوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أي خير عملاً كما قال محمد بن عجلان ، ولم يقل أكثر عملاً ، ثم قال تعالى : { وَهُوَ العزيز الغفور } أي هو العزيز العظيم ، المنيع الجناب ، وهو غفور لمن تاب إليه أناب ، بعد ما عصاه وخالف أمره ، فهو مع ذلك يرحم ويصفح ويتجاوز ، ثم قال تعالى : { الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات طِبَاقاً } أي طبقة بعد طبقة ، وقوله تعالى : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } أي ليس فيه اختلاف ولا تنافر ، ولا نقص ولا عيب ولا خلل ، ولهذا قال تعالى : { فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } أي انظر إلى السماء فتأملها ، هل ترى فيها عيباً أو نقصاً أو خللاً أو فطوراً؟ قال ابن عباس ومجاهد { هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } أي شقوق ، وقال السدي : أي من خروق ، وقال قتادة : أي هل ترى خللاً يا ابن آدم؟ وقوله تعالى : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ } مرتين ، { يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً } قال ابن عباس : ذليلاً ، وقال مجاهد صاغراً ، { وَهُوَ حَسِيرٌ } يعني وهو كليل ، وقال مجاهد : الحسير المنقطع من الإعياء ، ومعنى الآية : إنك لو كررت البصر مهما كررت ، لا نقلب إليك أي لرجع إلي البصر { خَاسِئاً } عن أن يرى عيباً أو خللاً ، { وَهُوَ حَسِيرٌ } أي كليل قط انقطع من الإعياء ، من كثرة التكرر ولا يرى نقصاً ، ولما نفى عنها من خلقها النقص ، بيّن كمالها وزينتها فقال : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ } وهي الكواكب التي وضعت فيها من السيارات والثوابت ، وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } عاد الضمير في قوله { وَجَعَلْنَاهَا } على جنس المصابيح لا على عينها ، لأنه لا يرمى بالكواكب التي في السماء ، بل بشهب من دونها ، وقد تكون مستمدة منها ، والله أعلم . { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } أي جعلنا للشياطين هذا الخزي في الدنيا ، وأعتدنا لهم عذاب السعير في الآخرى كما قال تعالى : { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } [ الصافات : 10 ] قال قتادة : إنما خلقت هذه النجوم لثلاث خصال : خلقها الله زينة للسماء ، ورجوماً للشياطين ، وعلامات يهتدى بها ، فمن تأول فيها غير ذلك فقدقال برأيه ، وأخطأ حظه ، وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به .(1/2585)
وَلِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذَا أُلْقُوا فِيهَا سَمِعُوا لَهَا شَهِيقًا وَهِيَ تَفُورُ (7) تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قَالُوا بَلَى قَدْ جَاءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ كَبِيرٍ (9) وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقًا لِأَصْحَابِ السَّعِيرِ (11)
يقول تعالى : وأعتدنا { وَلِلَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المصير } أي بئس المآل والمنقلب ، { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً } يعني الصياح ، { وَهِيَ تَفُورُ } قال الثوري : تغلي بهم كما يغلي الحَبُ القليل في الماء الكثير ، وقوله تعالى : { تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ } أي تكاد ينفصل بعضها من بعض ، من شدة غيظها عليهم وحنقها بهم ، { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } . يذكر تعالى عدله في خلقه ، وأنه لا يعذب أحداً إلاّ بعد قيام الحجة عليه ، وإرسال الرسول إليه ، كما قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، وقال تعالى : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } [ الزمر : 71 ] ، وهكذا عادوا على أنفسهم بالملامة ، وندموا حيث لا تنفعهم الندامة ، فقالوا : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير } ، أي لو كانت لنا عقول ننتفع بها لما كنا على ما كنا عليه ، من الكفر ، بالله والاغترار به ، ولكن لم يكن لنا فهم نعي به ما جاءت به الرسل ، ولا كان لنا عقل يرشدنا إلى اتباعهم ، قال الله تعالى : { فاعترفوا بِذَنبِهِمْ فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير } . وفي الحديث : « لن يهلك الناس حتى يعذروا من أنفسهم » ، وفي حديث آخر : « لا يدخل أحد النار إالاّ وهو يعلم أن النار أولى به من الجنة » .(1/2586)
إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (12) وَأَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (13) أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَإِلَيْهِ النُّشُورُ (15)
يقول تعالى مخبراً عمن يخاف مقام ربه ، فينكف عن المعاصي ويقوم بالطاعات ، حيث لا يراه أحد إلا الله تعالى ، بأنه له { مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } أي تكفّر عنه ذنوبه ، ويجازي بالثواب الجزيل ، كما ثبت في الصحيحين : « سبعة يظلهم الله تعالى في ظل عرشه يوم لا ظل إلاّ ظله » فذكر منهم رجلاً دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله ، ورجلاً تصدق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه ، ثم قال تعالى منبهاً على أن مطلع على الضمائر والسرائر { وَأَسِرُّواْ قَوْلَكُمْ أَوِ اجهروا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي بما يخطر في القلوب { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } أي ألا يعلم الخالق؟ وقيل معناه : ألا يعلم الله مخلوقه؟ والأول أولى لقوله : { وَهُوَ اللطيف الخبير } ثم ذكر نعمته على خلقه في تسخيره لهم الأرض . وتذليله أياها لهم ، بأن جعلها قارة ساكنة لا تميد ولا تضطرب ، بما جعل فيها من الجبال ، وأنبع فيها من العيون ، وسلك فيها من السبل ، وهيأ فيها من المنافع ومواضع الزروع والثمار فقال تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض ذَلُولاً فامشوا فِي مَنَاكِبِهَا } أي فسافروا حيث شئتم من أقطارها ، وترددوا في أقاليمها وأرجائها في أنواع المكاسب والتجارات ، واعلموا أن سعيكم لا يجري عليكم شيئاً إلاّ أن ييسره الله لكم ، ولهذا قال تعالى : { وَكُلُواْ مِن رِّزْقِهِ } فالسعي في السبب لا ينافي التوكل ، كما قال رسول الله : « لو أنكم تتوكلون على الله حق توكله لرزقكم كما يرزق الطير ، تغدو خماصاً وتروح بطاناً » فأثبت لها رواحاً وغدواً لطلب الرزق مع توكلها على الله عزَّ وجلَّ ، وهو المسخر المسير المسبب { وَإِلَيْهِ النشور } أي المرجع يوم القيامة ، قال ابن عباس ومجاهد : مناكبها : أطرافها وفجاجها ونواحيها .(1/2587)
أَأَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذَا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَلَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (18) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا الرَّحْمَنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ (19)
وهذا أيضاً من لطفه ورحمته بخلقه ، أنه قادر على تعذيبهم بسبب كفر بعضهم ، وهو مع هذا يحلم ويصفح ، ويؤجل ولا يعجل ، كما قال تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [ فاطر : 45 ] الآية ، وقال هاهنا : { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } أي تذهب وتجيء وتضطرب ، { أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السمآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً } أي ريحاً فيها حصباء تدمغكم كما قال تعالى : { أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } [ الإسراء : 68 ] ، وهكذا توعدهم هاهنا بقوله : { فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } أي كيف يكون إنذاري ، وعاقبة من تخلف عنه وكذب به ، ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي من الأمم السالفة والقرون الخالية ، { فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } أي فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم؟ أي عظيماً شديداً أليماً ، ثم قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ } أي تارة يصففن أجنحتهن في الهواء ، وتارة تجمع جناحاً وتنشر جناحاً ، { مَا يُمْسِكُهُنَّ } أي في الجو { إِلاَّ الرحمن } أي بما سخر لهن من الهواء من رحمته ولطفه ، { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } أي بما يصلح كل شيء من مخلوقاته . وهذه كقوله تعالى : { أَلَمْ يَرَوْاْ إلى الطير مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السمآء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الله إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ النحل : 79 ] .(1/2588)
أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ (21) أَفَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (22) قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَقِيلَ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)
يقول تعالى للمشركين الذين عبدوا معه غيره يبتغون عندهم نصراً ورزقاً منكراً عليهم : { أَمَّنْ هذا الذي هُوَ جُندٌ لَّكُمْ يَنصُرُكُمْ مِّن دُونِ الرحمن } ؟ أي ليس لكم من دونه من ولي ولا واق ، ولا ناصر لكم غيره ، ولهذا قال تعالى : { إِنِ الكافرون إِلاَّ فِي غُرُورٍ } . ثم قال تعالى : { أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } ؟ أي من هذا الذي إذا قطع الله عنكم رزقه يرزقكم بعده؟ أي لا أحد يعطي ويمنع ، ويخلق ويرزق إلاّ الله وحده لا شريك له ، قال تعالى : { بَل لَّجُّواْ } أي استمروا في طغيانهم وإفكهم وضلالهم ، { فِي عُتُوٍّ } أي في معاندة واستكبار { وَنُفُورٍ } على أدبارهم عن الحق ، لا يسمعون له ولا يتبعونه ، ثم قال تعالى : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؟ وهذا مثل ضربه الله للمؤمن والكافر ، فالكافر مثله فيما هو فيه كمثل من يمشي { مُكِبّاً على وَجْهِهِ } أي يمشي منجياً لا مستوياً { على وَجْهِهِ } أي لا يدري أين يسلك ولا كيف يذهب ، بل تائه حائر ضال ، أهذا أهدى { أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً } أي منتصب القامة { عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ؟ أي على طريق واضح بيّن ، هذا مثلهم في الدنيا ، وكذلك يكونون في الآخرة ، فالمؤمن يحشر يمشي سوياً على صراط مستقيم ، مفض به إلى الجنة الفيحاء ، وأما الكافر فإنه يحشر يمشي على وجهه إلى نار جهنم { فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم } [ الصافات : 23 ] . عن أنَس بن مالك قال ، « قيل : يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ فقال : » أليس الذي أمشاهم على أرجلهم قادراً على أن يمشيهم على وجوههم «
وقوله تعالى : { قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ } أي ابتدأ خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً ، { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } أي العقول والإدرك ، { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي قلّما تستعملون هذه القوى ، التي أنعم الله بها عليكم في طاعته وامتثال أوامره وترك زاجره ، { قُلْ هُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض } أي بثكم ونشركم في أقطار الأرض ، منع اختلاف ألسنتكم ولغاتكم وألوانكم ، { وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي تجمعون بعد هذا التفرق والشتات ، يجمعكم كما فرقكم ويعيدكم كما بدأكم ، ثم قال تعالى مخبراً عن الكفار ، المنكرين للمعاد ، المستبعدين وقوعه { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؟ أي متى يقع هذا الذي تخبرنا عنه ، { قُلْ إِنَّمَا العلم عِنْدَ الله } أي لا يعلم وقت ذلك على التعيين إلاّ الله عزَّ وجلَّ ، لكنه أمرني أن أخبركم أن هذا كائن وواقع لا محالة فاحذروه { وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي وإنما عليَّ البلاغ وقد أديته إليكم ، قال الله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } أي لما قامت القيامة وشاهدها الكفّار ، ورأَوا أن الأمر كان قريباً ، فلما وقع ما كذبوا به ساءهم ذلك ، وجاءهم من أمر الله ما لم يكن لهم في بال ولا حساب ، { وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } [ الزمر : 47 ] ، ولهذا يقال لهم على وجه التقريع والتوبيخ { هذا الذي كُنتُم بِهِ تَدَّعُونَ } أي تستعجلون .(1/2589)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَمَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمَنُ آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَاؤُكُمْ غَوْرًا فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِمَاءٍ مَعِينٍ (30)
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين بالله الجاحدين لنعمه { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ الله وَمَن مَّعِيَ أَوْ رَحِمَنَا فَمَن يُجِيرُ الكافرين مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي خلصوا أنفسكم ، فإنه لا منقذ لكم من الله إلاّ التوبة والإنابة ، ولا ينفعكم وقوع ما تتمنون لنا من العذاب والنكال ، فسواء عذبنا الله أو رحمنا ، فلا مناص لكم من نكاله وعذابه الأليم الواقع بكم ، ثم قال تعالى : { قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } أي آمنا برب العالمين الرحمن الرحيم ، وعليه توكلنا في جميع أُمورنا ، كما قال تعالى : { فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، ولهذا قال تعالى : { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي منا ومنكم ، ولمن تكون العاقبة في الدنيا والآخرة؟ ثم قال تعالى إظهاراً للرحمة في خلقه { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً } إي ذاهباً في الأرض إلى أسفل فلا ينال بالفؤوس الحداد ولا السواعد الشداد ، والغائر عكس النابع ، ولهذا قال تعالى : { فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } أي نابع سائح جار على وجه الأرض ، أي لا يقدر على ذلك إلاّ الله عزَّ وجلَّ ، فمن فضله وكرمه أن أنبع لكم المياه ، وأجراها في سائر أقطار الأرض ، بحسب ما يحتاج العابد إليه من القلة والكثرة ، فلله الحمد والمنة .(1/2590)
ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ (1) مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4) فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)
قد تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة ، بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وقيل : المراد بقوله { ن } حوت عظيم وقيل : المراد بقوله { ن } لوح من نور ، وقيل : المراد بقوله { ن } الدواة ، { والقلم } القلم ، روي عن الحسن وقتادة في قوله { ن } قالا : هي الدواة ، وقوله تعالى : { والقلم } الظاهر أنه جنس القلم الذي يكتب به كقوله تعالى : { الذى عَلَّمَ بالقلم * عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } [ العلق : 4-5 ] فهو قسم منه تعالى ، وتنبيه لخلقه على ما أنعم به عليهم ، من تعليم الكتابة التي بها تنال العلوم ، ولهذا قال : { وَمَا يَسْطُرُونَ } قال ابن عباس : يعني وما يكتبون ، وقال أبو الضحى عنه { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي وما يعملون ، وقال السدي { وَمَا يَسْطُرُونَ } يعني الملائكة وما تكتب من أعمال العباد ، وقال آخرون : بل المراد هاهنا بالقلم الذي أجراه الله بالقدر ، حين كتب مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرضن بخمسين ألف عام ، روى ابن أبي حاتم عن الوليد بن عبادة بن الصامت قالت : « دعاني أبي حين حضره الموت ، فقال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » إن أول ما خلق الله القلم فقال : اكتب ، قال : يا ربّ وما أكتب؟ قال اكتب القدر وما هو كائن إلى الأبد « وعن ابن عباس أنه كان يحدّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إن أول شيء خلقه الله القلم فأمره فكتب كل شيء « . وقال مجاهد { والقلم } يعني الذي كتب الذكر ، وقوله تعالى : { وَمَا يَسْطُرُونَ } أي يكتبون كما تقدم .
وقوله تعالى : { مَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ } أي لست ولله الحمد بمجنون ، كما يقوله الجهلة من قومك ، المكذبون بما جئتهم به من الهدى حيث نسبوك إلى الجنون ، { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } أي بل إن لك الأجر العظيم ، والثواب الجزيل الذي لا ينقطع ولا يبيد ، على إبلاغك رسالة ربك إلى الخلق ، وصبرك على أذاهم ، ومعنى { غَيْرَ مَمْنُونٍ } أي غير مقطوع ، كقوله : { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] { وَإِنَّ لَكَ لأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ } أي غير مقطوع عنهم ، وقال مجاهد { غَيْرَ مَمْنُونٍ } : أي غير محسوب ، وهو يرجع إلى ما قلناه ، وقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } قال ابن عباس : وإنك لعلى دين عظيم وهو الإسلام ، وقال عطية : لعلى أدب عظيم ، وقال قتادة : » ذكر لنا أن سعد بن هشام سأل عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ألست تقرأ القرآن؟ قال : بلى ، قالت : فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن « ، وورى الإمام أحمد عن الحسن قال : » سألت عائشة عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان خلقه القرآن «(1/2591)
، وقال ابن جرير ، عن سعد بن هشام قال : « أتيت عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها فقلت لها : أخبريني بخلق النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : كان خلقه القرآن ، أما تقرأ : { وَإِنَّكَ لعلى خُلُقٍ عَظِيمٍ } » ؟ ومعنى هذا أنه عليه الصلاة والسلام صار امتثال القرآن سجية له وخلقاً ، وترك ضبعه الجبلي ، فمهما أمره القرآن فعله ، ومهما نهاه عنه تركه ، هذا مع ما جبله الله عليه من الخلق العظيم ، من الحياء والكرم والشجاعة والصفح والحلم ، وكل خلق جميل ، كما ثبت في الصحيحين عن أنَس ، قال : « خدمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عشر سنين فما قال لي : أُفٍّ قط ، ولا قال لشيء فعلتُه لِمَ فعلتَه؟ ولا لشيء لم أفعله أَلاَ فعلته؟ وكان صلى الله عليه وسلم أحسن الناس خُلقاً ولا مست خزاً ولا حريراً ولا شيئاً كان ألين من كف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا شممت مسكاً ولا عطراً كان أطيب من عرق رسول الله صلى الله عليه وسلم » وروى البخاري ، « عن البراء قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس وجهاً ، وأحسن الناس خَلقاً ليس بالطويل ولا بالقصير » ، وروى الإمام أحمد ، عن عائشة قالت : ما ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده خادماً قط ، ولا ضرب امرأة ، ولا ضرب بيده شيئاً قط إلاّ أن يجاهد في سبيل الله ، ولا خير بين شيئين قط إلاّ كان أحبهما إليه أيسرهما حتى يكون إثماً ، فإذا كان إِثماً كان أبعد الناس من الإثم ، ولا انتقم لنفسه من شيء يؤتى إليه إلاّ أن تنتهك حرمات الله ، فيكون هو ينتقم لله عزَّ وجلَّ .
وقوله تعالى : { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَييِّكُمُ المفتون } أي فستعلم يا محمد وسيعلم مخالفوك ومكذبوك ، من المفتون الضال منك ومنهم . وهذا كقوله تعالى : { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر } [ القمر : 26 ] ، قال ابن عباس في هذه الآية : ستعلم ويعلمون يوم القيامة ، { بِأَييِّكُمُ المفتون } أي المجنون ، وقال قتادة : { بِأَييِّكُمُ المفتون } أي أولى بالشيطان ، ومعنى المفتون ظاهر أي الذي قد افتتن عن الحق وضل عنه ، وإنما دخلت الباء في قوله : { بِأَييِّكُمُ } لتدل على تضمين الفعل في قوله { فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ } وتقديره : فستعلم ويعلمون ، أي فستخبر ويخبرون بأيكم المفتون ، والله أعلم ، ثم قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } أي هو يعلم تعالى أي الفريقين منكم ومنهم هو المهتدي ، ويعلم الحزب الضال عن الحق .(1/2592)
فَلَا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ (14) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)
يقول تعالى : كما أنعمنا عليك وأعطيناك الشرع المستقيم ، والخلق العظيم { فَلاَ تُطِعِ المكذبين * وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } قال ابن عباس : لو ترخص لهم فيرخصون ، وقال مجاهد : تركن إلى آلهتهم وتترك ما أنت عليه من الحق ، ثم قال تعالى : { وَلاَ تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَّهِينٍ } وذلك أن الكاذب لضعفه ومهانته ، يجترىء على أسماء الله تعالى ، باستعمالها في كل وقت في غير محلها ، قال ابن عباس : المهين الكاذب ، وقال الحسن : { كُلَّ حَلاَّفٍ } مكابر { مَّهِينٍ } ضعيف ، وقوله تعالى : { هَمَّازٍ } يعني الاغتياب ، { مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ } يعني الذي يمشي بين الناس ويحرش بينهم ، وينقل ال حديث لفساد ذات البين وهي الحالقة ، وقد ثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : « مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقبرين فقال : » إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير ، أما أحدهما فكان لا يستبرىء من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة « » وعن همام بن الحارث قال : « مر رجل على حذيفة فقيل : إن هذا يرفع الحديث إلى الأمراء ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه سلم يقول : » لا يدخل الجنة قتات « » وعن أبي وائل قال : « بلغ حذيفة عن رجل أنه ينم الحديث فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » لا يدخل الجنة نمام « » ، وروى الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد بن السكن « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » ألا أخبركم بخياركم؟ « قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : » الذين إذا رؤوا ذكر الله عزَّ وجلَّ ، ثم قال : « ألا أخبركم بشراركم؟ المشاءون بالنميمة ، المفسدون بين الأحبة ، الباغون للبرآء العَنَت » « .
وقوله تعالى : { مَّنَّاعٍ لِّلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ أي يمنع ما عليه وما لديه من الخير { مُعْتَدٍ } في تناول ما أحل الله له ، يتجاوز فيها الحد المشروع ، { أَثِيمٍ } أي تناول المحرمات ، وقوله تعالى : { عُتُلٍّ بَعْدَ ذَلِكَ زَنِيمٍ } أما العتل فهو الفظ الغليظ ، الجموع المنوع . روى الإمام أحمد ، عن حارثة بن وهب قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ألا أنبئكم بأهل الجنة؟ كل ضعيف متضعف لو أقسم على الله لأبره ، ألا أنبئكم بأهل النار؟ كل عتل جواظ مستكبر « وفي رواية : » كل جواظ جعظري مستكبر « ، وفي أخرى لأحمد : » كل جعظري ، جواظ مستكبر ، جمّاع ، منّاع « وفي الحديث : » تبكي السماء من عبد أصح الله جسمه ، وأرحب جوفه ، وأعطاه من الدنيا هضما ، فكان للناس ظلوماً ، فذلك العتل الزنيم « ، فالعتل هو الشديد القوي في المأكل والمشرب والمنكح وغير ذلك ، وأما الزنيم في لغة العب فهو الدعي في القوم ، ومنه قول ( حسان بن ثابت ) يذم بعض كفّار قريش :(1/2593)
وأنت زنيم نيط في آل هاشم ... كما نيط خلف الراكب القدح الفرد
وقال ابن عباس في قوله { زَنِيمٍ } قال : الدعي الفاحش اللئيم : وأنشد :
زنيم تداعاه الرجال زيادة ... كما زيد في عرض الأديم الأكارع
والمراد به ( الأخنس بن شريق ) ، وقال مجاهد عن ابن عباس : { الزنيم } الملحق النسب ، وقال سعيد بن المسيب : هو الملصق بالقوم ليس منهم؛ وسئل عكرمة عن الزنيم فقال : هو ولد الزنا ، وقال سعيد بن جبير : الزنيم الذي يعرف بالشر ، كما تعرف الشاة بزنمتها ، والزنيم الملصق ، وقال الضحاك : كانت له زنمة في أصل أذنة ، ويقال : هو اللئم الملصق في النسب ، والأقوال في هذا كثيرة ، وترجع إلى ما قلناه ، وهو أن الزنيم هو المشهور بالشر ، الذي يعرف به من بين الناس وغالباً يكون دعياً ولد زنان ، فإنه في الغالب يتسلط الشيطان عليه ما لا يتسلط على غيره ، وقوله تعالى : { أَن كَانَ ذَا مَالٍ وَبَنِينَ * إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين } يقول تعالى هذا مقابلة ما أنعم الله عليه من المال والبنين ، كفر بآيات الله عزَّ وجلَّ وأعرض عنها ، وزعم أنها كذب مأخوذ من أساطير الأولين ، كقوله تعالى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالاً مَّمْدُوداً * وَبَنِينَ شُهُوداً * وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً } [ المدثر : 11-16 ] . { سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم } ، قال ابن جرير : سنين أمره بياناً واضحاً ، حتى يعرفوه ولا يخفى عليهم ، كما لا نخفي عليهم السمة على الخراطيم ، وقال قتادة : { سَنَسِمُهُ عَلَى الخرطوم } : شين لا يفارقه آخر ما عليه ، وعنه : سما على أنفه ، وقال ابن عباس : يقاتل يوم بدر فيخطم السيف في القتال ، وقال آخرون : { سَنَسِمُهُ } سمة أهل النار ، يعني نسود وجهه يوم القيامة ، وعبر عن الوجه بالخرطوم ، ولا مانع من اجتماع الجميع عليه في الدنيا والآخرة ، وفي الحديث : « من مات همازاً لمازاً ملقباً للناس كان علامته يوم القيامة أن يسمه الله على الخرطوم من كلا الشفتين » .(1/2594)
إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (17) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (21) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (23) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (28) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (30) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (31) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (32) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (33)
هذا مثل ضربه الله تعالى لكفّار قريش ، فما أهدى إليهم من الرحمة العظيمة ، وهو بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، فقابلوه بالتكذيب والرد والمحاربة ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ } أي اختبرناهم { كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة } وهي البستان المشتمل على أنواع الثمار والفواكة ، { إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } أي حلفوا ليجذن ثمرها ليلاً ، لئلا يعلم بهم فقير ولا سائل ، ولا يتصدقوا منه بشيء ، { وَلاَ يَسْتَثْنُونَ } أي فيما حلفوا به ، { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ } أي أصابتها آفة سماوية ، { فَأَصْبَحَتْ كالصريم } قال ابن عباس : أي كالليل الأسود ، وقال السدي : مثل الزرع إذا حصد أي هشيماً يبساً ، عن ابن مسعود قال ، « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إياكم والمعاصي ، إن العبد ليذنب الذنب فيحرم به رزقاً قد كان هيء له « ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كالصريم } » قد حرموا خير جنتهم بذنبهم ، { فَتَنَادَوْاْ مُصْبِحِينَ } أي وقت الصبح نادى بعضهم بعضاً ليذهبوا إلى ( الجذاذ ) أي القطع ، { أَنِ اغدوا على حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ } أي تريدون الصرام ، قال مجاهد : كان حرثهم عنباً ، { فانطلقوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ } أي يتناجون فيما بينهم ، بحيث لا يُسْمِعُون أحداً كلامهم ، ثم فسر عالم السر والنجوى ما كانوا يتخافتون به ، فقال تعالى : { فانطلقوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } أي يقول بعضهم لبعض لا تمكنوا اليوم فقيراً يدخلها عليكم ، قال تعالى : { وَغَدَوْاْ على حَرْدٍ } أي قوة وشدة ، وقال مجاهد : على جد ، وقال عكرمة : على غيظ ، { قَادِرِينَ } أي عليها فيما يزعمون ويرومون ، { فَلَمَّا رَأَوْهَا قالوا إِنَّا لَضَآلُّونَ } أي فلما وصلوا إليها وأشرفوا عليها ، وهي على الحالة التي قال الله عزَّ وجلَّ ، قد استحالت عن تلك النضارة والزهوة وكثرة الثمار ، إلى أن صارت سوداء مدلهمة لا ينتفع بشيء منها ، فاعتقدوا أنهم قد أخطأوا الطريق ، ولهذا قالوا : { إِنَّا لَضَآلُّونَ } أي قد سلكنا إليها غير الطريق فتهنا عنها ، ثم تيقنوا أنها هي فقالوا { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي بل هي هذه ، ولكن نحن لا حظ لنا ولا نصيب .
وقال تعالى : { قَالَ أَوْسَطُهُمْ } ، أي أعدلهم وخيرهم { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } ! قال مجاهد والسدي أي لولا تستثنون ، وكان استثناؤهم في ذلك الزمان تسبيحاً ، وقال ابن جرير : هو قول القائل ( إن شاء الله ) ، وقيل : { لَوْلاَ تُسَبِّحُونَ } أي هلا تسبحون الله وتشكرونه على ما أعطاكم وأنعم به عليكم { قَالُواْ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أتوا بالطاعة حيث لا تنفع ، وندموا واعترفوا حيث لا ينجع ، ولهذا قالوا : { إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ * فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَلاَوَمُونَ } أي لوم بعضهم بعضاً ، وعلى ما كانوا أصروا عليه من منع المساكين ، فما كان جواب بعضهم لبعض ألاّ الاعتراف بالخطيئة والذنب ، { قَالُواْ ياويلنا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ } أي اعتدينا وبغينا وجاوزنا الحد حتى أصابنا ما أصابنا { عسى رَبُّنَآ أَن يُبْدِلَنَا خَيْراً مِّنْهَآ إِنَّآ إلى رَبِّنَا رَاغِبُونَ } قيل : راغبون في بذلها لهم في الدنيا ، وقيل : احتسبوا ثوابها في الدار الآخرة ، والله أعلم .(1/2595)
ذكر بعض السلف أن هؤلاء قد كانوا من أهل اليمن ، وقيل : كانوا من أهل الحبشة ، وكان أبوهم قد خلف لهم هذه الجنة ، وكان يسير فيها سيرة حسنة ، فكان ما يستغل منها يرد فليها ما تحتاج إليه ، ويدخر لعياله قوت سنتهم ، ويتصدق بالفاضل ، فلما مات وورثه بنوه قالوا : لقد كان أبونا أحمق ، إذ كان يصرف من هذه شيئاً للفقراء ، ولو أنا منعناهم لتوفر ذلك علينا ، فلما عزموا على ذلك عوقبوا بنقيض قصدهم ، فأذهب الله ما بأيديهم بالكلية ( رأس المال والربح الصدقة ) فلم يبق لهم شيء؛ قال الله تعالى { كَذَلِكَ العذاب } أي هكذا عذاب من خالف أمر الله ، وبخل بما أتاه الله وأنعم به عليه ، ومنع حق المسكين والفقير ، وبدلّل نعمة الله كفراً ، { وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي هذه عقوبة الدنيا وعذاب الآخرة أشق .(1/2596)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَفَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ (38) أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذَلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكَائِهِمْ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (41)
لما ذكر حال أهل الجنة الدنيوية ، وما أصابهم فيها من النقمة حين عصوا الله عزَّ وجلَّ ، بيّن أن لمن اتقاه وأطاعه في الدار الآخرة جنات النعيم ، التي لا تبيد ولا تفرغ ولا ينقضي نعيمها ، ثم قال تعالى : { أَفَنَجْعَلُ المسلمين كالمجرمين } ؟ أي أفنساوي بين هؤلاء وهؤلاء في الجزاء؟ كلا ورب الأرض والسماء ، ولهذا قال : { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } ! أي كيف تظنون ذلك ، ثم قال تعالى : { أَمْ لَكُمْ كِتَابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ * إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ } يقول تعالى أفبأيديكم كتاب منزل من السماء ، تدرسونه وتحفظونه وتتداولونه ، بنقل الخلف عن السلف ، متضمن حكماً مؤكداً كما تدعونه؟ { إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَمَا تَخَيَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ أَيْمَانٌ عَلَيْنَا بَالِغَةٌ إلى يَوْمِ القيامة إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } أي أمعكم عهود منا ومواثيق مؤكدة؟ { إِنَّ لَكُمْ لَمَا تَحْكُمُونَ } أي أنه سيحصل لكم ما تريدون وتشتهون ، { سَلْهُمْ أَيُّهُم بِذَلِكَ زَعِيمٌ } أي قل لهم من هو المتضمن المتكفل بهذا! قال ابن عباس : أيهم بذلك كفيل { أَمْ لَهُمْ شُرَكَآءُ } أي من الأصنام والأنداد { فَلْيَأتُواْ بِشُرَكَآئِهِمْ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } .(1/2597)
يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ (42) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَقَدْ كَانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَهُمْ سَالِمُونَ (43) فَذَرْنِي وَمَنْ يُكَذِّبُ بِهَذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (44) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47)
لما ذكر تعالى أن للمتقين عند ربهم جنات النعيم ، بين متى ذلك كائن وواقع فقال تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ } يعني يوم القيامة وما يكون فيه من الأهوال ، والبلاء والامتحان والأمور العظام ، روى البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « يكشف ربنا عن ساقه فيسجد ، له كل مؤمن ومؤمنة ويبقى من كان يسد في الدنيا رياء وسمعه فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقاً واحداً » وقال ابن عباس : هو يوم القيامة يوم كرب وشدة . وعن ابن مسعود { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } قال : عن أمر عظيم كقول الشاعر :
شاتل الحرب عن ساق ، ... وقال ابن جرير عن مجاهد : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } قال : شدة الأمر وجده ، وقال ابن عباس قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } هو الأمر الشديد الفظيع من الهول يوم القيامة ، وقال العوفي ، عن ابن عباس قوله : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } يقول : حين يكشف الأمر وتبدو الأعمال ، وكشفه دخول الآخرة ، وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } يعني عننور عظيم يخرون له سجداً » ، وقوله تعالى : { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي في الدار الآخرة بإجرامهم وتكبرهم في الدنيا ، فعوقبوا بنقيض ما كانوا عليه ، لما دعوا إلى السجود في الدنيا فامتنعوا منه مع صحتهم وسلامتهم ، كذلك عوقبوا بعدم قدرتهم عليه في الآخرة ، إذا تجلى الرب عزَّ وجلَّ فيسجد له المؤمنون ، ولا يستطيع أحد من الكافرين أو المنافقين أن يسجد ، بل يعود ظهر أحدهمه طبقاً واحداً ، كلما أراد أحدهم أن يسجد خرّ لقفاه ، ثم قال تعالى : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث } يعني القرآن ، وهذا تهديد شديد أي دعني وإياه أنا أعلم كيف أستدرجه ثم آخذه أخذ عزيز مقتدر ، ولهذا قال تعالى : { سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } أي وهم لا يشعرون ، بل يعتقدون أن ذلك من الله كرامة ، وهو في نفس الأمر إهانة ، كما قال تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 5556 ] ، ولهذا قال ههنا : { وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي أوخرهم وأمدهم ، وذلك من كيدي ومكري بهم ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي عظيم لمن خالف أمري ، « وكذب رسلي ، واجترأ على معصيتي ، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : » إن الله تعالى ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته « ، ثم قرأ : { وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] . وقوله تعالى : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ * أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ } ! المعنى أنك يا محمد تدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ بلا أجر تأخذه منهم ، بل ترجو ثواب ذلك عند الله تعالى ، وهم يكذبون بما جئتهم به ، بمجرد الجهل والكفر والعناد .(1/2598)
فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تَكُنْ كَصَاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْلَا أَنْ تَدَارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50) وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَمَا هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (52)
يقول تعالى : { فاصبر } يا محمد على أذى قومك لك وتكذيبهم ، فإن الله سيحكم لك ويجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة ، { وَلاَ تَكُن كَصَاحِبِ الحوت } يعني ذا النون وهو ( يونس بن متى ) عليه السلام حين ذهب مغاضباً على قومه ، فكان من أمره ما كان من ركوبه في البحر ، والتقام الحوت له ، وشرود الحوت في البحار ، وسماعه تسبيح البحر بما فيه للعلي القدير ، فحنيئذٍ نادى في الظلمات : { أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] ، قال الله تعالى : { فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين } [ الأنبياء : 88 ] ، وقال تعالى : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الصافات : 143-144 ] ، وقال هاهنا : { إِذْ نادى وَهُوَ مَكْظُومٌ } قال ابن عباس ومجاهد : وهو مغموم ، وقال عطاء : مكروب ، وقد قدمنا في الحديث أنه لما قال { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] خرجت الكلمة تحنّ حول العرش ، فقالت الملائكة : يا رب ، هذا صوت ضعيف معروف من بلاد غريبة ، فقال الله تبارك وتعالى : أما تعرفون هذا؟ قالوا : لا ، قال هذا يونس ، قالوا : يا رب عبدك الذي لا يزال يرفع له عمل صالح ودعوة مجابة ، قال : نعم ، قالوا : أفلا ترحم ما كان يعمله في الرخاء فتنجيه من البلاء ، فأمر الله الحوت فألقاه بالعراء ، ولهذا قال الله تعالى : { فاجتباه رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصالحين } ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى » وقوله تعالى : { وَإِن يَكَادُ الذين كَفَرُواْ لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ } قال ابن عباس ومجاهد { لَيُزْلِقُونَكَْ } لينفذوك { بِأَبْصَارِهِم } أي يحسدونك لبغضهم إياك ، لولا وقاية الله لك وحمايته إياك منهم ، وفي هذه الآية دليل على أن العين إصابتها وتأثيرها حق يأمر الله عزَّ وجلَّ ، كما وردت بذلك الأحاديث المروية ، روى أبو داود عن أنَس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا رقية إلاّ من عين أو حمة أو دم لا يرقأ » وروى ابن ماجه ، عن بريدة بن الحصيب قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا رقية إلاّ من عين أو حمة » وروى مسلم في « صحيحه » ، عن ابن عباس ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « العين حق ، ولو كان شيء سابق القدر سبقت العين وإذا استغسلتم فاغسلوا » وعن ابن عباس قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعوّذ الحسن والحسين يقول : » أعيذكما بكلمات الله التامة من كل شيطان وهامة ، ومن كل عين لامة « ويقول : » هكذا كان إبراهيم يعوذ إسحاق وإسماعيل عليهما السلام « » .(1/2599)
وروى الإمام أحمد ، عن جابر بن عبد الله « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اشتكى ، فأتاه جبريل ، فقال : باسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، من كل حاسد وعين والله يشفيك ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن العين حق « » ، حديث أسماء بن عميس : قال الإمام أحمد ، عن عبيد بن رفاعة الزرقي قال ، قالت أسماء : « يا رسول الله إن بني جعفر تصيبهم العين أفأسترقي لهم؟ قال : » نعم . فلو كان شيء يسبق القدر لسبقته العين « » حديث عائشة رضي الله عنها : روى ابن ماجه ، عن عائشة رضي الله عنها « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرها أن تسترقي من العين » وعن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « استعيذوا بالله فإن النفس حق » ، وقال أبو داود عن عائشة قالت : « كان يؤمر العائن فيتوضأ ويغسل من العين » حديث سهل بن حنيف : قال الإمام أحمد ، عن أبي أمامة بن سهل بن حنيف أن أباه حدّثه : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج وساروا معه نحو مكة ، حتى إذا كانوا بشعب الخرار من ( الجحفة ) اغتسل سهل بن الأحنف ، كان رجلاً أبيض حسن الجسم والجلد ، فنظر إليه عامر بن ربيعة أخو بني عندي بن كعب وهو يغتسل ، فقال : ما رأيت كاليوم ولا جلد مخبأة ، فلبط سهل ، فأتى رسول الله صلى الله عليه سلم ، فقيل له : يا رسول الله هل لك في سهل؟ والله ما يرفع رأسه ولا يفيق ، قال : » هل تتهمون فيه من أحد؟ « قالوا : نظر إليه عامر بن ربيعة ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عامراً فتغيظ عليه ، وقال : » علام يقتل أحدكم أخاه؟ هلا إذا رأيت ما يعجبك برّكت؟ - ثم قال - اغتسل له « فغسل وجهه ويديه ومرفقيه وركبته وأطراف رجليه وداخلة إزاره في قدح ، ثم صبَّ ذلك الماء عليه ، فصبه رجل على رأسه وظهره من خلفه ، ثم يكفأ القدح وراءه ففعل ذلك فراح سهل مع الناس ليس به بأس » حديث عبد الله بن عمرو : قال الإمام أحمد ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا عدوى ولا طيرة ولا هامة ولا حسد والعين حق » وقوله تعالى : { وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } أي يزدرونه بأعينهم ، ويؤذونه بألسنتهم ، ويقولون { إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ } أي لمجيئه بالقرآن ، قال الله تعالى : { وَمَا هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } .(1/2600)
الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَعَادٌ بِالْقَارِعَةِ (4) فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ (6) سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرَى لَهُمْ مِنْ بَاقِيَةٍ (8) وَجَاءَ فِرْعَوْنُ وَمَنْ قَبْلَهُ وَالْمُؤْتَفِكَاتُ بِالْخَاطِئَةِ (9) فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَابِيَةً (10) إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ (12)
{ الحاقة } من أسماء يوم القيامة ، لأن فيها يتحقق الوعد والوعيد ، ولهذا عظمَّ الله أمرها فقال { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحاقة } ، ثم ذكر تعالى أهلاكه الأمم المكذبين بها فقال تعالى : { فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُواْ بالطاغية } وهي الصيحة التي أسكتتهم والزلزلة التي أسكنتهم ، هكذا قال قتادة : { الطاغية } الصيحة ، وهو اختيار ابن جرير وقال مجاهد : { الطاغية } الذنوب ، وكذا قال ابن زيد إنها الطغيان ، وقرأ : { كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَآ } [ الشمس : 11 ] ، { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ } أي باردة ، قال قتادة والسدي : { عَاتِيَةٍ } أي شديدة الهبوب ، عتت عليهم حتى نقبت عن أفئدتهم ، وقال الضحّاك : { صَرْصَرٍ } باردة { عَاتِيَةٍ } عتت عليهم بغير رحمة ولا بركة ، وقال علي : عتت على الخزنة فخرجت بغير حساب ، { سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ } أي سلطها عليهم ، { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } أي كوامل متتابعات مشائيم ، قال ابن مسعود : { حُسُوماً } متتابعات ، وعن عكرمة والربيع : مشائيم عليهم كقوله تعالى : { في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } [ فصلت : 16 ] ويقال : إنها التي تسميها الناس الأعجاز ، وكأن الناس أخذوا ذلك من قوله تعالى : { فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } . وقيل : لأنها تكون في عحجز الشتاء ، قال ابن عباس : { خَاوِيَةٍ } خربة ، وقال غيره : بالية ، أي جعلت الريح تضرب بأحدهم الأرض فيخرّ ميتاً على أُمّ رَأسه ، فينشدخ رأسه ، وتبقى جثته هامدة ، كأنها قائمة النخلة إذا خرت بلا إغصان ، وقد ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « نصرت بالصَّبا وأهلك عاد بالدَّبور » وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما فتح الله على عاد من الريح التي هلكوا بها إلا مثل موضع الخاتم ، فمرت أهل البادية فحملتهم ومواشيهم وأموالهم فجعلتهم بين السماء والأرض ، فلما رأى ذلك أهل الحاضرة من عادٍ ، الريحَ وما فيها قالوا : هذا عارض ممطرنا ، فألقت أهل البادية ، ومواشيهم على أهل الحاضرة » { فَهَلْ ترى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ } ؟ أي هل تحس منهم من أحد من بقاياهم أو ممن ينتسب إليهم؟ بل بادوا عن آخرهم ، ولم يجعل الله لهم خلفاً ، ثم قال تعالى : { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ } أي ومن قبله من الأمم المشبهين له ، وقوله تعالى : { والمؤتفكات } وهم الأمم المكذبون بالرسل ، { بِالْخَاطِئَةِ } وهي التكذيب بما أنزل الله ، قال الربيع { بِالْخَاطِئَةِ } أي بالمعصية ، وقال مجاهد : بالخطايا ، ولهذا قال تعالى : { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ } أي كل كذب رسول الله إليهم كما قال تعالى : { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل } [ ص : 14 ] { كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ وَعِيدِ } [ ق : 14 ] ، ومن كذب برسول فقد كذب بالجميع ، كما قال تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين } [ الشعراء : 105 ] ، { كَذَّبَتْ عَادٌ المرسلين } [ الشعراء : 123 ] وإنما جاء إلى كل أمّة رسول واحد ، ولهذا قال هاهنا : { فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } أي عظيمة شديدة أليمة ، قال مجاهد { رَّابِيَةً } : شديدة ، وقال السدي : مهلكة .(1/2601)
ثم قال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء } أي ازداد على الحد ، وقال ابن عباس : { طَغَا المآء } كثر ، وذلك بسبب دعوة نوح عليه السلام ، فاستجاب الله له ، وعمَّ أهل الأرض بالطوفان إلا من كان مع نوح في السفينة ، فالناس كلهم من سلالة نوح وذريته ، قال علي بن أبي طالب : لم تنزل قطرة من ماء إلا بكيل على يدي ملك ، فلما كان يوم نوح أذن للماء دون الخزان ، فطغى الماء على الخزان ، فخرج ، فذلك قوله تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء } أي زاد على الحد بإذن الله ، { حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية } ولم ينزل شيء من الريح إلا بكيل على يدي ملك إلا يوم عاد فإنه أذن لها دون الخزان فخرجت ، فذلك قوله تعالى : { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } ، ولهذا قال تعالى ممتناً على الناس { حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية } وهي السفينة الجارية على وجه الماء ، { لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً } أي وأبقينا لكم من جنسها ما تركبون على تيار الماء في البحار ، كما قال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ } [ الزخرف : 12 ] وقال تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون * وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } [ يس : 41-42 ] وقال قتادة : أبقى الله السفينة حتى أدركها أوائل هذه الأمة ، والأول أظهر ، ولهذا قال تعالى : { وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } أي وتفهم هذه النعمة وتذكرها أذن واعية ، قال ابن عباس : حافظة سامعة ، وقال قتادة : { أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } عقلت عن الله فانتفعت بما سمعت من كتاب الله . وقال الضحّاك : { وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } سمعتها أذن ووعت ، أي من له سمع صحيح وعقل رجيح ، وهذا عام في كل من فهم ووعي .(1/2602)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13) وَحُمِلَتِ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (15) وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16) وَالْمَلَكُ عَلَى أَرْجَائِهَا وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ (17) يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ (18)
يقول تعالى مخبراً عن أهوال يوم القيامة ، وأول ذلك ( نفخة الفزع ) ، ثم يعقبها ( نفخة الصعق ) حيث يصعق من في السماوات ومن في الأرض ، إلا من شاء الله ، ثم بعدها ( نخفة القيامة ) ، لرب العالمين ، وقد أكدها ههنا بأنها واحدة لأن أمر الله لا يخالف ولا يمانع ، ولا يحتاج إلى تكرار ولا تأكيد ، قال الربيع : هي النخفة الأخيرة ، والظاهر ما قلناه ، ولهذا قال هاهنا : { وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } أي فمدت مد الأديم ، وتبدلت الأرض غيرا لأرض ، { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة } أي قامت القيامة ، { وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } . عن علي قال : تنشق السماء من المجرة ، وقال ابن جريج : هي كقوله : { وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً } [ النبأ : 19 ] ، { والملك على أَرْجَآئِهَآ } الملك اسم جنس أي الملائكةن علىأرجاء السماء : أي حافاتها ، وقال الضحّاك : أطرافها ، وقال الحسن البصري : أبوابها ، وقال الربيع بن أنَس في قوله : { والملك على أَرْجَآئِهَآ } يقول : على ما استدق من السماء ينظرون إلى أهل الأرض ، وقوله تعالى : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } أي يوم القيامة يحمل العرش ثمانية من الملائكة ، عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أذن لي أن أحدث عن ملك من ملائكة الله تعالى من حملة العرش أن ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام » وعن سعيد بن جبير في قوله تعالى : { وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ } قال : ثمانية صفوف من الملائكة . وقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } أي تعرضون على عالم السر والنجوى ، الذي لا يخفى عليه شيء من أموركم ، بل هو عالم بالظواهر والسرائر والضمائر ، ولهذا قال تعالى : { لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } ، وقد قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا ، وزنوا أنفسكم قبل توزنوا ، فإنه أخف عليكم من الحساب غداً ، وتزينوا للعرض الأكبر { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } ، وروى الإمام أحمد ، عن أبي موسى قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يعرض الناس يوم القيامة ثلاث عرضات : فأما عرضتان فجدال ومعاذير ، وأما الثالثة فعند ذلك تطير الصحف في الأيدي فآخذ بيمينه وآخذ بشماله » .(1/2603)
فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَاؤُمُ اقْرَءُوا كِتَابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلَاقٍ حِسَابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (22) قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ (23) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخَالِيَةِ (24)
يخبر تعالى عن سعادة من يؤتى كتابه يوم القيامة بيمينه ، وفرحة بذلك وأنه من شدة فرحه يقول لكل من لقيه : { هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } أي خذوا اقرأوا كتابيه ، لأنه يعلم أن الذي فيه خير وحسنات محضة ، لأنه ممن بدل الله سيئاته حسنات ، وعن عبد الله بن عبد الله بن حنظلة ( غسيل الملائكة ) قال : إن الله يوقف عبده يوم القيامة فيبدي أي يظهر سيئاته في ظهر صحيفته ، فيقول له : أنت عملت هذا فيقول : نعم أي رب ، فيقول له : إني لم أفضحك به وإني قد غفرت ، فيقول عند ذلك : { هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } ، { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } حين نجا من فضيحته يوم القيامة ، وقد تقدم في الصحيح حديث ابن عمر حين سئل عن النجوى فقال : سمعت رسول الله صل الله عليه وسلم يقول : « يدني الله العبد يوم القيامة فيقرره بذنوبه كلها ، حتى إذا رأى أنه قد هلك ، قال الله تعالى : إني سترتها عليك في الدنيا وأنا أغفرها لك اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته بيمينه ، وأما الكافر والمنافق فيقول الأشهاد هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين » ، وقوله تعالى : { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } أي قد كنت موقناً في الدنيا ، أن هذا اليوم كائن لا محالة ، كما قال تعالى : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ } [ البقرة : 46 ] ، قال تعالى : { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } أي مرضية ، { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } أي رفيعة قصورها ، حسان حورها ، نعمية دُورها ، دائم حبورها ، روى ابن أبي حاتم ، عن أبي أمامة قال : « سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم : هل يتزاور أهل الجنة؟ قال : » نعم . إنه ليهبط أهل الدرجة العليا إلى أهل الدرجة السفلى فيحيونهم ويسلمون عليهم ولا يستطيع أهل الدرجة السفلى يصعدون إلى الأعلين تقصر بهم أعمالهم « » ، وقد ثبت في الصحيح : « أن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض » وقوله تعالى : { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } قال البراء بن عازب : أي قريبة يتناولها أحدهم وهو نائم على سريره ، وكذا قال غير واحد ، روى الطبراني ، عن سلمان الفارسي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يدخل أحد الجنة إلا بجواز : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله لفلان بن فلان أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية » ؛ وفي رواية : « يعطى المؤمن جوازاً على الصراط : بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله العزيز الحكيم لفلان : أدخلوه جنة عالية قطوفها دانية » ، وقوله تعالى : { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية } أي يقال لهم ذلك تفضلاً عليهم وامتناناً ، وانعاماً وإحساناً ، وإلا فقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « » اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحداً منكم لن يدخله عمله الجنة « قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : » ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل « » .(1/2604)
وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ (25) وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ (26) يَا لَيْتَهَا كَانَتِ الْقَاضِيَةَ (27) مَا أَغْنَى عَنِّي مَالِيَهْ (28) هَلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كَانَ لَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هَاهُنَا حَمِيمٌ (35) وَلَا طَعَامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ (36) لَا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخَاطِئُونَ (37)
وهذا إخبار عن حال الأشقياء إذا أعطي أحدهم كتابه في العرصات بشماله فحينئذٍ يندم غاية الندم ، { فَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ * وَلَمْ أَدْرِ مَا حِسَابِيَهْ * ياليتها كَانَتِ القاضية } قال الضحّاك : يعني موتة لا حياة بعدها ، وقال قتادة : تمنّى الموت ولم يكن شيء في الدنيا أكره إليه منه ، { مَآ أغنى عَنِّي مَالِيَهْ * هَّلَكَ عَنِّي سُلْطَانِيَهْ } أي لم يدفع عني مالي ولا جاهي عذاب الله وبأسه ، بل خلص الأمر إليّ وحدي؛ فلا معين لي ولا مجير فعندها يقول الله عزَّ وجلَّ : { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ * ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ } أي يأمر الزبانية أن تأخذه عنفاً من المحشر فتغله ، أي تضع الأغلال في عنقه ، ثم تورده إلى جهنم فتصليه إيّاها ، أي تغمره فيها . عن المنهال بن عمرو قال : إذا قال الله تعالى : خذوه ، ابتدره سبعون ألف ملك ، إن الملك منهم ليقول : هكذا ، فيلقى سبعين ألفاً في النار ، وقال الفضيل بن عياض إذا قال الرب عزَّ وجلَّ { خُذُوهُ فَغُلُّوهُ } ابتدره سبعون ألف ملك أيهم يجعل الغل في عنقه ، { ثُمَّ الجحيم صَلُّوهُ } أي أغمروه فيها ، وقوله تعالى : { ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعاً فَاسْلُكُوهُ } قال كعب الأحبار : كل حلقة منها قدر حديد الدنيا ، وقال ابن عباس : بذراع الملك ، وقال العوفي عن ابن عباس : يسلك في دبره حتى يخرج من منخريه حتى لا يقوم على رجليه ، روى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو أن رضاضة مثل هذه - وأشار إلى جمجمة - أرسلت من السماء إلى الأرض وهي مسيرة خمسمائة سنة لبلغت الأرض قبل الليل ، ولو أنها أرسلت من رأس السلسلة لسارت أربعين خريفاً الليل والنهار قبل أن تبلغ قعرها وأصلها » وقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ لاَ يُؤْمِنُ بالله العظيم * وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين } أي لا يقوم بحق الله عليه من طاعته وعبادته ، ولا ينفع خلقه ويؤدي حقهم ، فإن لله على العباد أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وللعباد بعضهم على بعض حق الإحسان والمعاونة على البر والتقوى ، ولهذا أمر الله بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وقبض النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : « الصلاة ، وما ملكت أيمانكم » ، وقوله تعالى : { فَلَيْسَ لَهُ اليوم هَا هُنَا حَمِيمٌ * وَلاَ طَعَامٌ إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ * لاَّ يَأْكُلُهُ إِلاَّ الخاطئون } أي ليس له اليوم من ينقذه من عذاب الله تعالى؛ لا { حَمِيمٌ } وهو القريب ، ولا { شَفِيعٍ } يطاع ، ولا طعام له هاهنا { إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ } قال قتادة : هو شر طعام أهل النار ، وقال الضحّاك : هو شجرة في جهنم ، وقال ابن عباس : ما أدري ما الغسلين؟ ولكني أظنه الزقوم ، وقال عكرمة عنه : الغسلين : الدم والماء يسيل من لحومهم ، وعنه : الغسلين صديد أهل النار .(1/2605)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ (38) وَمَا لَا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ (41) وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (42) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (43)
يقول تعالى مقسماً لخلقه ، بما يشاهدونه من آياته في مخلوقاته ، الدالة على كماله في أسمائه وصفاته ، وما غاب عنهم مما لا يشاهدونه من المغيبات عنهم ، إن القرآن كلامه ووحيه وتنزله على عبده ورسوله ، الذي اصطفاه لتبليغ الرسالة وأداء الأمانة ، فقال تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لاَ تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، أضافه إليه على معنى التبليغ ، { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } فأضافه الله تارة إلى ( جبريل ) الرسول الملكي ، وتارة إلى ( محمد ) الرسول البشري ، لأن كلا منهما مبلغ عن الله ، ما استأمنه عليه من وحيه وكلامه . ولهذا قال تعالى : { تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين } قال عمر بن الخطاب : « خرجت أتعرض رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن أسلم ، فوجدته قد سبقني إلى المسجد فقمت خلفه ، فاستفتح سورة الحاقة فجعلت أعجب من تأليف القرآن ، قال : فقلت : هذا والله شاعر كما قالت قريش ، قال : فقرأ : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ } ، قال : فقلت : كاهن ، قال : فقرأ : { وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين } إلى آخر السورة ، قال فوقع الإاسلام في قلبي كل موقع » فهذا من جملة الأسباب التي جعلها الله تعالى مؤثرة في هداية عمر بن الخطاب رضي الله عنه .(1/2606)
وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ (44) لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ (47) وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ (50) وَإِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)
يقول تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا } أي محمد صلى الله عليه وسلم ، لو كان كما يزعمون مفترياً علينا ، فزاد في الراسلة أو نقص منها ، أوقال شيئاً من عنده ، فنسبه إلينا لعاجلناه بالعقوبة ، ولهذا قال تعالى : { لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين } قيل : معناه لانتقمنا منه باليمين لأنها أشد في البطش ، وقيل : لأخذنا بيمينه ، { ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } قال ابن عباس : وهو نياط القلب ، وهو العرق الذي القلب معلق فيه؛ وقال محمد بن كعب : هو القلب ومراقه وما يليه ، وقوله تعالى : { فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } أي فما يقدر أحد منكم على أن يحجز بيننا وبينه ، إذا أردنا به شيئاً من ذلك ، والمعنى في هذا بل هو صادق بار راشد ، لأن الله عزَّ وجلَّ مقرر له ما يبلغه عنه ، ومؤيد له بالمعجزات الباهرات والدلالات القاطعات ، ثم قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ } . كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } [ فصلت : 44 ] ثم قال تعالى : { وَإِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنكُمْ مُّكَذِّبِينَ } أي مع هذا البيان والوضوح ، سيوجد منكم من يكذب بالقرآن ، ثم قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الكافرين } قال ابن جرير : وإن التكذيب لحسرة على الكافرين يوم القيامة ، ويحتمل عود الضمير على القرآن ، أي وإن القرآن والإيمان به لحسرة في نفس الأمر على الكافرين ، كما قال تعالى : { كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ المجرمين } [ الشعراء : 200 ] ، وقال تعالى : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [ سبأ : 54 ] ، ولهذا قال هاهنا : { وَإِنَّهُ لَحَقُّ اليقين } أي الخبر الصدق الحق ، الذي لا مرية فيه ولا شك ولا ريب ، ثم قال تعالى : { فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } أي الذي أنزل هذا القرآن العظيم .(1/2607)
سَأَلَ سَائِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ (1) لِلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعَارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4) فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا (6) وَنَرَاهُ قَرِيبًا (7)
{ سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } أي استعجل سائل بعذاب واقع ، كقوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ } [ الحج : 47 ] . قال النسائي ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } ، قال : ( النصر بن الحارث ) وقال العوفي عن ابن عباس في قوله تعالى : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } ذلك سؤال الكفّار عن عذاب الله وهو واقع بهم ، وقال مجاهد في قوله تعالى : { سَأَلَ سَآئِلٌ } دعا داع بعذاب واقع يقع في الآخرة ، قال وهو قولهم : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، وقوله تعالى : { لِّلْكَافِرِينَ } أي مرصد معد للكافرين ، { لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } أي لا دافع له إذا أراد الله كونه ، ولهذا قال تعالى : { مِّنَ الله ذِي المعارج } قال ابن عباس : ذو الدرجات ، وعنه : ذو العلو والفواضل ، وقال مجاهد { ذِي المعارج } معارج السماء ، وقال قتادة : ذي الفواضل والنعم ، وقوله تعالى : { تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ } قال قتادة : { تَعْرُجُ } : تصعد ، وأما الروح فيحتمل أن يكون المراد به جبريل ، ويكون من باب عطف الخاص على العام ، ويحتمل أن يكون اسم جنس لأرواح بني آدم ، فإنها إذا قبضت يصعد بها إلى السماء ، كما دل عليه حديث البراء ، في قبض الروح الطيبة وفيه . « فلا يزال يصعد بها من سماء إلى سماء ، حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله » .
وقوله تعالى : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } فيه أربعة أقوال : أحدها : أن المراد بذلك مسافة ما بين العرش العظيم إلى أسفل السافلين ، وهو قرار الأرض السابعة ، وذلك مسيرة خمسين ألف سنة ، عن ابن عباس في قوله : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : منتهى أمره من أسف الأرضين ، إلى منتهى أمره من فوق السماوات خمسين ألف سنة . القول الثاني : إن المراد بذلك مدة بقاء الدنيا منذ خلق الله هذا العالم إلى قيام الساعة ، قال : الدنيا عمرها خمسو ألف سنة ، وذلك عمرها يوم سماها الله عزَّ وجلَّ يوماً . وعن عكرمة : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : الدنيا من أولها إلى آخرها مقدار خمسين ألف سنة لا يدري أحدكم مضى ولا كم بقي إلاّ الله عزَّ وجلَّ . القول الثالث : أنه اليوم الفاصل بين الدنيا والآخرة وهو قول غريب جداً ، روي عن محمد بن كعب قال : هو يوم الفصل بين الدنيا والآخرة . القول الرابع : أن المراد بذلك يوم القيامة ، وبه قال الضحّاك وابن زيد وعكرمة ، وروي عن ابن عباس في قوله تعالى : { تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } قال : هو يوم القيامة جعله الله تعالى على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة ، روى الإمام أحمد عن أبي سعيد قال :(1/2608)
« قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } ما أطول هذا اليوم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمنين حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا « » وقال الإمام أحمد ، عن أبي هريرة رضي الله عه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من صاحب كنز لا يؤدي حقه إلا جعل صفائح يحمى عليها في نار جهنم ، فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره ، حتى يحكم الله بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار » .
وقوله تعالى : { فاصبر صَبْراً جَمِيلاً } أي اصبر يا محمد على تكذيب قولك لك ، واستعجالهم العذاب استبعاداً لوقوعه كقوله تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق } [ الشورى : 18 ] ، ولهذا قال : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً } أي وقوع العذاب ، وقيام الساعة يراه الكفرة بعيد الوقوع بمعنى مستحيل الوقوع { وَنَرَاهُ قَرِيباً } أي المؤمنون يعتقدون كونه قريباً وإن كان له أمد لا يعلمه إلا الله عزَّ وجلَّ ، ولكن كل ما هو آتٍ فهو قريب وواقع لا محالة .(1/2609)
يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ (9) وَلَا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ (12) وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنْجِيهِ (14) كَلَّا إِنَّهَا لَظَى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوَى (16) تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى (17) وَجَمَعَ فَأَوْعَى (18)
يقول تعالى العذاب واقع بالكافرين { يَوْمَ تَكُونُ السمآء كالمهل } ، قال ابن عباس ، ومجاهد : أي كدردي الزيت ، { وَتَكُونُ الجبال كالعهن } أي كالصوف المنفوش ، قاله مجاهد وقتادة ، وهذه الآية كقوله تعالى : { وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش } [ القارعة : 5 ] ، وقوله تعالى : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ } أي لا يسأل القريب قريبه عن حاله ، وهو يراه في أسوأ الأحوال فتشغله نفسه عن غيره . قال ابن عباس : يعرف بعضهم بعضاً ويتعارفون بينهم ، ثم يفر بعضهم من بعض بعد ذلك ، يقول الله تعالى : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 37 ] ، وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : { واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } [ لقمان : 33 ] ، وكقوله تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 34-37 ] ، وقوله تعالى : { يَوَدُّ المجرم لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ التي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلاَّ } أي لا يقبل منه فداء ولو جاء بأهل الأرض ، وبأعز ما يجده من المال ، ولو بملء الأرض ذهباً ، أو من ولده الذي كان في الدنيا حشاشة كبده ، يود يوم القيامة إذا رأى الأهوال أن يفتدي من عذاب الله به ، قال مجاهد والسدي : { فَصِيلَتِهِ } قبيلته وعشيرته ، وقال عكرمة ، فخذه الذي هو منهم ، وقوله تعالى : { إِنَّهَا لظى } يصف النار وشدة حرها { نَزَّاعَةً للشوى } ، قال ابن عباس ومجاهد : جلدة الرأس ، وعن ابن عباس : { نَزَّاعَةً للشوى } الجلود والهام ، وقال أبو صالح { نَزَّاعَةً للشوى } يعني أطراف اليدين والرجلين ، وقال الحسن البصري : تحرق كل شيء فيه ويبقى فؤاده يصيح ، وقال الضحّاك : تبري اللحم والجلد عن العظم ، حتى لا تترك منه شيئاً ، وقوله تعالى : { تَدْعُواْ مَنْ أَدْبَرَ وتولى * وَجَمَعَ فأوعى } أي تدعو النار إليها أبناءها الذين خلقهم الله لها ، فتدعوهم يوم القيامة بلسان طلق ذلق ، ثم تلتقطهم من بين أهل المحشر ، كما يلتقط الطير الحب ، وذلك أنهم كانوا ممن أدبر وتولى ، أي كذب بقلبه وترك العمل بجوارحه { وَجَمَعَ فأوعى } أي جمع المال بعضه على بعض ، فأوعاه أي أوكاه ومنع حق الله منه ، من الواجب عليه في النفقات ومن إخراج الزكاة ، وقد ورد في الحديث : « ولا توعي فيوعي الله عليك » ، وكان عبد الله بن عكيم لا يربط له كيساً ، يقول ، سمعت الله يقول : { وَجَمَعَ فأوعى } ، وقال الحسن البصري : يا ابن آدم سمعت وعيد الله ثم أوعيت الدنيا ، وقال قتادة في قوله : { وَجَمَعَ فأوعى } قال : كان جموعاً قموماً للخبيث .(1/2610)
إِنَّ الْإِنْسَانَ خُلِقَ هَلُوعًا (19) إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعًا (20) وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعًا (21) إِلَّا الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ (23) وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (25) وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَالَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذَابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (29) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (31) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (32) وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِمْ قَائِمُونَ (33) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (34) أُولَئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)
يقول تعالى مخبراً عن الإنسان ، ما هو مجبول عليه من الأخلاق الدنيئة { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً } ، ثم فسره بقوله : { إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً } أي إذا مسه الضر فزع وجزع ، وانخلع قلبه من شدة الرعب ، وأيس أن يحصله له بعد ذلك خير { وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً } أي إذا حصلت له نعمة من الله بخل بها على غيره ، ومنع حق الله تعالى فيها . وفي الحديث : « شر ما في الرجُل : شح هالع وجُبن خالع » ثم قال تعالى : { إِلاَّ المصلين } أي إلا من عصمه الله ووفقه وهداه إلى الخير ، ويسر له أسبابه وهم المصلون { الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } قبل : معناه يحافظون على أوقاتها وواجباتها ، قاله ابن مسعود ، وقيل : المراد بالدوام ههنا السكون والخشوع كقوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } [ المؤمنون : 1-2 ] قاله عقبة بن عامر ، ومنه الماء الدائم وهو الساكن والراكد؛ وهذا يدل على وجوب الطمأنينة في الصلاة؛ فإن الذي لا يطمئن في ركوعه وسجوده لم يسكن فيها ولم يدم ، بل ينقرها نقر الغراب ، فلا يفلح في صلاته؛ وقيل المراد بذلك الذين إذا عملوا عملاً داوموا عليه ، وأثبتوه كما جاء في الصحيح عن عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أحب الأعمال إلى الله أدومها وإن قلّ » ، قالت : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عمل عملاً داوم عليه ، وقوله تعالى : { والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّآئِلِ والمحروم } أي في أموالهم نصيب مقرر لذوي الحاجات ، { والذين يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدين } أي يوقنون بالمعاد والحساب والجزاء ، فهم يعملون عمل من يرجو الثواب ويخاف العقاب ، ولهذا قال تعالى : { والذين هُم مِّنْ عَذَابِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ } أي خائفون وجلون ، { إِنَّ عَذَابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ } أي لا يأمنه أحد إلا بأمان من الله تبارك وتعالى ، وقوله تعالى : { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } أي يكفونها عن الحرام ، ويمنعونها أن توضع في غير ما أذن الله فيه ، ولهذا قال تعالى : { إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي في الإماء ، { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذَلِكَ فأولئك هُمُ العادون } وقد تقدم تفسير هذا بما أغنى عن إعادته ههنا ، وقوله تعالى : { والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } أي إذا اؤتمنوا لم يخونوا ، وإذا عاهدوا لم يغدروا ، { وَالَّذِينَ هُمْ بِشَهَادَاتِهِم قَائِمُونَ } أي محافظون عليها لا يزيدون فيها ، ولا ينقصون منها ولا يكتمونها { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] ، ثم قال تعالى : { وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } أي على مواقيتها وأركانها وواجباتها ومستحباتها ، فافتتح الكلام بذكر الصلاة ، واختتمه بذكرها ، فدل على الاعتناء بها والتنويه بشرفها ، { أولئك فِي جَنَّاتٍ مُّكْرَمُونَ } أي مكرمون بأنواع الملاذ والمسار .(1/2611)
فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ عِزِينَ (37) أَيَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلَّا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ (40) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْرًا مِنْهُمْ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا كَأَنَّهُمْ إِلَى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذَلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (44)
يقول تعالى منكراً على الكفّار الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهم مشاهدون لما أيده الله به من المعجزات الباهرات ، ثم هم شاردون يميناً وشمالاً فرقاً فرقاً ، { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } [ المدثر : 50-51 ] ، قال تعالى : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } أي فما لهؤلاء الكفّار الذين عندك يا محمد { مُهْطِعِينَ } أي مسرعين نافرين منك ، قال الحسن { مُهْطِعِينَ } أي منطلقين ، { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ } واحدها عزة أي متفرقين ، وقال ابن عباس : { فَمَالِ الَّذِينَ كَفَرُواْ قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ } قال : قبلك ينظرون { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ } العزين : الصعب من الناس عن يمين وشمال معرضين يستهزئون به ، وعن الحسن في قوله : { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال عِزِينَ } أي متفرقين يأخذون يميناً وشمالاً يقولون : ما قال هذا الرجل؟ وفي الحديث : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على أصحابه وهم حلق فقال : » ما لي أراكم عزين « » ؟ . وقوله تعالى : { أَيَطْمَعُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ * كَلاَّ } أي أيطمع هؤلاء ، والحلة هذه من فرارهم عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ونفارهم عن الحق ، أن يدخلوا جنات النعيم؟ كلا ، بل مأواهم جهنم ، ثم قال تعالى مقرراً لوقوع المعاد والعذاب بهم مستدلاً عليهم بالبداءة : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّمَّا يَعْلَمُونَ } أي من المني الضعيف ، كما قال تعالى : { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [ المرسلات : 20 ] ، وقال : { فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ * خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ * يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب } [ الطارق : 5-7 ] ، ثم قال تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب } أي الذي خلق السماوات والأرض ، وسخَّر الكواكب تبدو من مشارقها وتغيب في مغاربها ، { إِنَّا لَقَادِرُونَ * على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ } أي يوم القيامة نعيدهم بأبدان خير من هذه فإنه قدرته صالحة لذلك ، { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي بعاجزين ، كما قال تعالى : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ * بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } [ القيامة : 3-4 ] ، وقال تعالى : { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ * على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الواقعة : 60-61 ] ، واختار ابن جرير { على أَن نُّبَدِّلَ خَيْراً مِّنْهُمْ } أي أمة تطيعنا و لا تعصينا وجعلها كقوله : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] ، والمعنى الأول أظهر لدلالة الآيات الاخر عليه ، والله سبحانه وتعالى أعلم . ثم قال تعالى : { فَذَرْهُمْ } أي يا محمد { يَخُوضُواْ وَيَلْعَبُواْ } أي دعهم في تكذيبهم وكفرهم وعنادهم ، { حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ } أي فسيعلمون غب ذلك ويذوقون وباله ، { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } أي يقومون من القبور ، إذا دعاهم الرب تبارك وتعالى لموقف الحساب ، ينهضون سراعاً { كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } قال ابن عباس : إلى علم يسعون ، وقال أبو العالية : إلى غاية يسعون إليها . { نُصُبٍ } يضم النون والصاد وهو الصنم ، أي كأنهم في إسراعهم إلى الموقف ، كما كانوا في الدنيا يهرولون إلى النصب إذا عاينوه ، { يُوفِضُونَ } يبتدرون أيهم يستلمه أول ، وهذا مروي عن مجاهد وقتادة والضحّاك وغيرهم ، وقوله تعالى : { خَاشِعَةً أَبْصَارُهُمْ } أي خاضعة { تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ } أي في مقابلة ما استكبروا في الدنيا عن الطاعة { ذَلِكَ اليوم الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ } .(1/2612)
إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (1) قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ وَأَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرْكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لَا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)
يقول تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام ، أنه أرسله إلى قومه ، آمراً له أن ينذرهم بأس الله قبل حلوله بهم ، فإن تابوا وأنابوا رفع عنهم ، ولهذا قال تعالى : { أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالَ ياقوم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي بيّن النذارة ، ظاهر الأمر واضحه { أَنِ اعبدوا الله واتقوه } أي اتركوا محارمه واجتنبوا مآثمه ، { وَأَطِيعُونِ } فيما آمركم به وأنهاكم عنه ، { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } أي إذا فعلتم ما آمركم به وصدقتم ما أرسلت به إليكم غفر الله لكم ذنوبكم ، { وَيُؤَخِّرْكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي يمد في أعماركم ويدرأ عنكم العذاب ، وقد يستدل بهذه الآية من يقول : إن الطاعة والبر وصلة الرحم يزاد بها في العمر حقيقة ، كما ورد به الحديث : « صلة الرحم تزيد في العمر » ، وقوله تعالى : { إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ لَوْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي بادروا بالطاعة قبل حلول النقمة ، فإنَّ أمره تعالى لا يرد ولا يمانع ، فإنه العظيم الذي قد قهر كل شيء ، العزيز الذي دانت لعزته جميع المخلوقات .(1/2613)
قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعَائِي إِلَّا فِرَارًا (6) وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَارًا (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَارًا (9) فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا (10) يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا (11) وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا (12) مَا لَكُمْ لَا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَارًا (13) وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَارًا (14) أَلَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا (15) وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُورًا وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجًا (16) وَاللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَبَاتًا (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجًا (18) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِسَاطًا (19) لِتَسْلُكُوا مِنْهَا سُبُلًا فِجَاجًا (20)
يخبر تعالى عن عبده ورسوله ( نوح ) عليه السلام ، أنه اشتكى إلى ربه عزَّ وجلَّ ، ما لقي من قومه من تلك المدة الطويلة التي هي ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ، وما بيّن لقومه ووضّح لهم فقال : { رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَنَهَاراً } أي لم أترك دعاؤهم في ليل ولا نهار ، وامتثالاً لأمرك وابتغاء لطاعتك ، { فَلَمْ يَزِدْهُمْ دعآئي إِلاَّ فِرَاراً } أي كلما دعوتهم ليقتربوا من الحق ، فروا منه وحادوا عنه ، { وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جعلوا أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِمْ واستغشوا ثِيَابَهُمْ } أي سدوا آذانهم لئلا يسمعوا ما أدعوهم إليه ، كما أخبر تعالى عن كفار قريش { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } [ فصلت : 26 ] ، { واستغشوا ثِيَابَهُمْ } قال ابن عباس : تنكروا له لئلا يعرفهم ، وقال السدي : غطوا رؤوسهم لئلا يسمعوا ما يقول ، { وَأَصَرُّواْ } أي استمروا على ما هم فيه من الشرك ، والكفر العظيم الفظيع ، { واستكبروا استكبارا } أي واستنكفوا عن اتباع الحق والانقياد له ، { ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهَاراً } أي جهرة بين الناس ، { ثُمَّ إني أَعْلَنْتُ لَهُمْ } أي كلاماً ظاهراً بصوت عال { وَأَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْرَاراً } أي فيما بيني وبينهم ، فنوّع عليهم الدعوة لتكون أنجع فيهم ، { فَقُلْتُ استغفروا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّاراً } أي ارجعوا إليه وإرجعوا عما أنتم فيه وتوبوا إليه من قريب ، فإنه من تاب إليه تاب الله عليه ، { يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } أي متواصلة الأمطار ، قال ابن عباس : يتبع بعضه بعضاً ، وقوله تعالى : { وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَل لَّكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَل لَّكُمْ أَنْهَاراً } أي إذا تبتم إلى الله وأطعتموه ، كثر الرزق عليكم وأسقاكم من بركات السماء ، وأنبت لكم من بركات الأرض ، وأمدّكم { بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ } أي أعطاكم الأموال والأولاد ، وجعل لكم جنات فيها أنواع الثمار وخللها بالأنهار الجارية بينها ، هذا مقام الدعوة بالترغيب ، ثم عدل بهم إلى دعوتهم بالترهيب ، فقال : { مَّا لَكُمْ لاَ تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقَاراً } ؟ أي عظمة قال ابن عباس : لم لا تعظمون الله حق عظمته ، أي لا تخافون من بأسه ونقمته { وَقَدْ خَلَقَكُمْ أَطْوَاراً } قيل : معناه من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة قاله ابن عباس وقتادة .
وقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً } أي واحدة فوق واحدة ، ومعها يدور سائر الكواكب تبعاً ، ولكن للسيارة حركة معاكسة لحركة أفلاكها ، فإنها تسير من المغرب إلى المشرق ، وكل يقطع فلكه بحسبه فالقمر يقطع فلكه في كل شهر مرّة ، والشمس في كل سنة مرة ، وزحل في كل ثلاثين سنة مرة ، وإنما المقصود أن الله سبحانه وتعالى : { خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً * وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } أي فاوت بينهما في الاستنارة ، فجعل كلاً منهما أنموذجاً على حدة ، ليعرف الليل والنهار بمطلع الشمس ومغيبها ، وقدّر للقمر منازل وبروجاً ، وفاوت نوره ، فتارة يزداد حتى يتناهى ، ثم يشرع في النقص حتى يستسر ، ليدل على مضي الشهور والأعوام ، كما قال تعالى :(1/2614)
{ هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } [ يونس : 5 ] الآية ، وقوله تعالى : { والله أَنبَتَكُمْ مِّنَ الأرض نَبَاتاً } هذا اسم مصدر والإيتان به ههنا أحسن ، { ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيهَا } إي إذا متم { وَيُخْرِجُكُمْ إِخْرَاجاً } أي يوم القيامة يعيدكم كما بدأكم أول مرة ، { والله جَعَلَ لَكُمُ الأرض بِسَاطاً } أي بسطها ومهدها وثبتها بالجبال الراسيات الشم الشامخات ، { لِّتَسْلُكُواْ مِنْهَا سُبُلاً فِجَاجاً } أي خلقها لكم لتستقروا عليها ، وتسلكوا فيها أين شئتم من نواحيها وأرجائها ، ينبههم نوح عليه السلام على قدرة الله وعظمته في خلق السماوات والأرض ، ونعمه عليهم فيما جعل لهم من المنافع السماوية والأرضية ، فهو الخالق الرازق جعل السماء بناء ، والأرض مهاداً ، وأوسع على خلقه من رزقه ، فهو الذي يجب أن يعبد ويوحد ولا يشرك به أحد .(1/2615)
قَالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا (21) وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا (22) وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا (23) وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا (24)
يقول تعالى : مخبراً عن نوح عليه السلام ، أنهم عصوه وخالفوه وكذبوه ، واتبعوا من غفل عن أمر الله ، ومتع بمال وأولاده ، وهي في نفس الأمر استدراج لا إكرام ، ولهذا قال : { واتبعوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَاراً } ، وقوله تعالى : { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } قال مجاهد : { كُبَّاراً } أي عظيماً ، وقال ابن زيد : { كُبَّاراً } أي كبيراً ، والعرب تقول : أمر عجيب وعجاب وعجّاب ، بالتخفيف والتشديد بمعنى واحد ، { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } أي باتباعهم لهم وهم على الضلال ، كما يقولون لهم يوم القيامة : { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } [ سبأ : 33 ] ، ولهذا قال هاهنا : { وَقَالُواْ لاَ تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلاَ تَذَرُنَّ وَدّاً وَلاَ سُوَاعاً وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } وهذه أسماء أصنامهم التي كانوا يعبدونها من دون الله ، عن ابن عباس : صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد ، أما ( ود ) فكانت لكلب بدومة الجندل ، وأما ( سُواع ) فكانت لهذيل ، وأما ( يغوث ) فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ ، وأما ( يعوق ) فكانت لهمدان ، وأما ( نسر ) فكانت لحمير لال ذي كلاع ، وهي أسماء رجال صالحين من قوم نوح عليه السلام ، فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون فيها أنصاباً ، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك ونسخ العلم عبدت . وقال ابن جرير عن محمد بن قيس { وَلاَ يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْراً } قال : كانوا قوماً صالحين بين آدم ونوح ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم ، لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة فصوروهم ، فلما ماتوا وجاء آخرون دب إليهم إبليس فقال : إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر فعبدوهم ، وقوله تعالى : { وَقَدْ أَضَلُّواْ كَثِيراً } يعني الأصنام التي اتخذوها أضلوا بها خلقاً كثيراً ، فإنه استمرت عبادتها إلى زماننا هذا ، في العرب والعجم وسائر صنوف بني آدم ، وقد قال الخليل عليه السلام في دعائه : { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } [ إبراهيم : 35 ] . وقوله تعالى : { وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ ضَلاَلاً } دعاء منه على قومه لتمردهم وكفرهم وعنادهم ، كما دعا موسى على فرعون وملئه في قوله : { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 88 ] وقد استجاب الله لكل من النبيين في قومه ، وأغرق أمته بتكذيبهم لما جاءهم به .(1/2616)
مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا (25) وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِنًا وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَبَارًا (28)
يقول تعالى : { مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ } أي من كثرة ذنوبهم وعتوهم ، وإصرارهم على كفرهم ، ومخالفتهم رسولهم ، { أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً } أي نقلوا من البحار إلى حرارة النار ، { فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً } أي لم يكن لهم معين ولا مجير ، ينقذهم من عذاب الله ، كقوله تعالى : { قَالَ لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ } [ هود : 43 ] . { وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } أي لا تترك على وجه الأرض منهم أحداً ، ولا { دَيَّاراً } وهذه من صيغ تأكيد النفي ، قال الضحّاك { دَيَّاراً } واحداً ، وقال السدي : الديار الذي يسكن الدار ، فاستجاب الله له فأهلك جميع من على وجه الأرض من الكافرين ، حتى ولد نوح لصلبه الذي اعتزل عن أبيه ، وقال : { سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء } [ هود : 43 ] عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو رحم الله من قوم نوح أحداً لرحم امرأة لما رأت الماء حملت ولدها ، ثم صعدت الجبل ، فلما بلغها الماء صعدت به منكبها ، فلما بلغ الماء منكبها وضعت ولدها على رأسها ، فلما بلغ الماء رأسها رفع ولدها بيدها ، فلو رحم الله منهم أحداً لرحم هذه المرأة » ، ونجى الله أصحاب السفينة الذين آمنوا من نوح عليه السلام وهم الذين أمره الله بحملهم معه ، وقوله تعالى : { إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّواْ عِبَادَكَ } أي إنك إن أبقيت منهم أحداً ، أضلوا عبادك اي الذين تخلقهم بعدهم { وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } أي فاجراً في الأعمال كافر القلب ، وذلك لخبرته بهم ومكثه بين أظهرهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً ثم قال : { رَّبِّ اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِمَن دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً } قال الضحّاك يعني مسجدي ، ولا مانع من حمل الآية على ظاهرها وهو أنه دعا لكل من دخل منزله وهو مؤمن ، وقد روى الإمام أحمد ، عن أبي سعيد أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا تصحب إلاّ مؤمناً ولا يأكل طعامك إلاّ تقي » ، وقوله تعالى : { وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } دعاء لجميع المؤمنين والمؤمنات وذلك يعم الأحياء منهم والأموات ، ولهذا يستحب مثل هذا الدعاء اقتداء بنوح عليه السلام ، وبما جاء في الآثار ، والأدعية المشهورة المشروعة ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَزِدِ الظالمين إِلاَّ تَبَاراً } قال السدي : إلاّ هلاكاً . وقال مجاهد : إلاّ خساراً أي في الدنيا والآخرة .(1/2617)
قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنَا أَحَدًا (2) وَأَنَّهُ تَعَالَى جَدُّ رَبِّنَا مَا اتَّخَذَ صَاحِبَةً وَلَا وَلَدًا (3) وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى اللَّهِ شَطَطًا (4) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (5) وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزَادُوهُمْ رَهَقًا (6) وَأَنَّهُمْ ظَنُّوا كَمَا ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَدًا (7)
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم ، أن يخبر قومه أن الجن استمعوا القرآن ، فآمنوا به و صدقوه وانقادوا له فقال تعالى : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يهدي إِلَى الرشد } أي إلى السداد والنجاح { فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } كقوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن } [ الأحقاف : 29 ] ، وقوله تعالى : { وَأَنَّهُ تعالى جَدُّ رَبِّنَا } قال ابن عباس { جَدُّ رَبِّنَا } ألاؤه وقدرته ونعمته على خلقه ، وقال مجاهد : جلال ربنا ، وقال قتادة : تعالى جلاله وعظمته وأمره ، وقال السدي : تعالى أمر ربنا ، وقال سعيد بن جبير : { تعالى جَدُّ رَبِّنَا } أي تعالى ربنا ، وقوله تعالى : { مَا اتخذ صَاحِبَةً وَلاَ وَلَداً } أي تعالى عن اتخاذ الصاحبة والأولاد ، أي قالت الجن : تنزه الرب جلَّ جلاله عن اتخاذ الصاحبة والولد ، ثم قالوا : { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا عَلَى الله شَطَطاً } قال مجاهد { سَفِيهُنَا } يعنون إبليس ، { شَطَطاً } أي جوراً ، وقال ابن زيد : أي ظلماً كبيراً ، ويحتمل أن يكون المراد بقولهم : سفيهنا اسم جنس لكل من زعم أن الله صاحبه أو ولداً ، ولهذا قالوا : { وَأَنَّهُ كَانَ يَقُولُ سَفِيهُنَا } أي قبل إسلامه ، { عَلَى الله شَطَطاً } أي باطلاً وزوراً ، ولهذا قالوا : { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن تَقُولَ الإنس والجن عَلَى الله كَذِباً } أي ما حسبنا أن الإنس والجن ، يتمالأون على الكذب على الله تعالى ، في نسبة الصاحبة والولد إليه ، فلما سمعنا هذا القرآن وآمنا به علمنا أنهم كانوا يكذبون على الله في ذلك .
وقوله تعالى : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } ، كانت عادة العرب في جاهليتها يعوذون بعظيم ذلك المكان من الجان ، أن يصيبهم بشيء يسؤوهم ، فلما رأت الجن أن الإنس يعوذون بهم من خوفهم منهم { زَادُوهُمْ رَهَقاً } أي خوفاً وإرهاباً وذعراً ، حتى بقوا أشد منهم مخافة وأكثر تعوذاً بهم ، كما قال قتادة { فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } أي إثماً ، وازدادت الجن عليهم بذلك جراءة ، وقال الثوري { فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } أي ازدادت الجن عليهم جرأة ، وقال السدي : كان الرجل يخرج بأهله فيأتي الأرض فينزلها فيقول : أعوذ بسيد هذا الوادي من الجن أن أضر أنا فيه ومالي أو ولدي أو ما شيتي ، قال قتادة : فإذا عاذ بهم من دون الله رهقتهم الجن الأذى عند ذلك ، وعن عكرمة قال : كان الجن يفرقون من الإنس كما يفرق الإنس منهم أو أشد ، فكان الإنس إذا نزلوا وادياً هرب الجن ، فيقول سيد القوم : نعوذ بسيد أهل هذا الوادي ، فقال الجن : نراهم يفرقون منا كما نفرق منهم ، فدنوا من الإنس ، فأصابوهم بالخبل والجنون ، فذلك قول الله عزَّ وجلَّ : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } أي إثماً ، وقال أبو العالية { رَهَقاً } أي خوفاً ، وقال ابن عباس : أي إثماً ، وقال مجاهد : زاد الكفار طغياناً ، روى ابن أبي حاتم .(1/2618)
عن كردم بن أبي السائب الأنصاري قال : خرجت مع أبي من المدينة في حاجة ، وذلك أول ما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة ، فآوانا المبيت إلى راعي غنم ، فلما انتهى صف الليل جاء ذئب ، فأخذ حملاً من الغنم ، فوثب الراعي ، فقال : يا عامر الوادي جارك فنادى مناد لا نراه ، يقول : يا سرحان أرسله ، فأتى الحمل يشتد حتى دخل في الغنم لم تصبه كدمة ، وأنزل الله تعالى على رسوله بمكة : { وَأَنَّهُ كَانَ رِجَالٌ مِّنَ الإنس يَعُوذُونَ بِرِجَالٍ مِّنَ الجن فَزَادُوهُمْ رَهَقاً } . وقوله تعالى : { وَأَنَّهُمْ ظَنُّواْ كَمَا ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَبْعَثَ الله أَحَداً } أي لن يبعث الله بعد هذه المدة رسولاً .(1/2619)
وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8) وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهَابًا رَصَدًا (9) وَأَنَّا لَا نَدْرِي أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَدًا (10)
يخبر تعالى عن الجن حين بعث الله رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم وأنزل عليه القرآن ، وكان من حفظه له أن السماء ملئت حرساً شديداً ، وحفظت من سائر أرجائها ، وطردت الشياطين عن مقاعدها لئلا يسترقون شيئاً من القرآن ، وهذا من لطف الله تعالى بخلقه ، ورحمته بعباده ، وحفظه لكتابه العزيز ، ولهذا قال الجن : { وَأَنَّا لَمَسْنَا السمآء فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَشُهُباً * وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } أي من يروم أن يسترق السمع اليوم ، يجد له شهاباً مرصداً له ، لا يتخطاه ولا يتعداه بل يمحقه ويهلكه ، { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } أي ما ندري هذا الأمر الذي قد حدث في السماء ، لا ندري أشر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشداً ، وهذا من أدبهم في العبارة حيث أسندوا الشر إلى غير فاعل ، والخير أضافوه إلى الله عزَّ وجلَّ ، وقد ورد في الصحيح : « والشر ليس إليك » وقد كانت الكواكب يرمى بها قبل ذلك ، وهذا هو السبب الذي حملهم على تطلب السبب في ذلك ، فأخذوا يضربون مشارق الأرض ومغاربها ، فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ بأصحابه في الصلاة ، فعرفوا أن هذا هو الذي حفظت من أجله السماء ، فآمن من آمن منهم ، وتمرد في طغيانه من بقي ، كما تقدم حديث ابن عباس عند قوله في سورة الأحقاف : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن } [ الأحقاف : 29 ] الآية . ولا شك أنه لما حدث هذا الأمر وهو كثرة الشهب في السماء والرمي بها ، هال ذلك الإنس والجن وانزعجوا له ، وظنوا أن ذلك لخراب العالم ، فأتوا إبليس فحدَّثوه بالذي كان من أمرهم فقال : ائتوني من كل أرض بقبضة من تراب أشمها ، فأتوه ، فشم فقال : صاحبكم بمكة فبعث سبعة نفر من جن نصيبين فقدموا فوجدوا نبي الله صلى الله عليه وسلم قائماً يصلي في المسجد الحرام ، يقرأ القرآن ، فدنوا منه حرصاً على القرآن حتى كادت كلاكلهم تصيبه ، ثم أسلموا فأنزل الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم .(1/2620)
وَأَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ كُنَّا طَرَائِقَ قِدَدًا (11) وَأَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَلَنْ نُعْجِزَهُ هَرَبًا (12) وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدَى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلَا يَخَافُ بَخْسًا وَلَا رَهَقًا (13) وَأَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَمِنَّا الْقَاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولَئِكَ تَحَرَّوْا رَشَدًا (14) وَأَمَّا الْقَاسِطُونَ فَكَانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَبًا (15) وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُمْ مَاءً غَدَقًا (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَمَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَابًا صَعَدًا (17)
يقول تعالى مخبراً عن الجن { وَأَنَّا مِنَّا الصالحون وَمِنَّا دُونَ ذَلِكَ } أي غير ذلك ، { كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } أي طرائق متعددة مختلفة وآراء متفرقة ، قال ابن عباس ومجاهد { كُنَّا طَرَآئِقَ قِدَداً } أي منها المؤمن ومنا الكافر ، وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة العباس بن أحمد الدمشقي قال ، سمعت بعض الجن وأنا في منزل لي بالليل ينشد :
قلوب براها الحب حتى تعلقت ... مذاهبها في كل غرب وشارق
تهيم بحب الله والله ربها ... معلقة بالله دون الخلائق
وقوله تعالى : { وَأَنَّا ظَنَنَّآ أَن لَّن نُّعْجِزَ الله فِي الأرض وَلَن نُّعْجِزَهُ هَرَباً } أي نعلم أن قدرة الله حاكمة علينا ، وأنا لا نعجزه ولو أمعنا في الهرب ، فإنه علينا قادر لا يعجزه أحد منا . { وَأَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الهدى آمَنَّا بِهِ } يفتخرون بذلك وهو مفخر لهم وشرف رفيع ، وصفة حسنة ، وقولهم : { فَمَن يُؤْمِن بِرَبِّهِ فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } قال ابن عباس وقتادة : فلا يخاف أن ينقص من حسناته أو يحمل عليه غير سيئاته ، كما قال تعالى : { فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } [ طه : 112 ] ، { وَأَنَّا مِنَّا المسلمون وَمِنَّا القاسطون } أي منا المسلم ومنا القاسط ، وهو الجائر عن الحق الناكب عنه بخلاف المقسط ، فإنه العادل ، { فَمَنْ أَسْلَمَ فأولئك تَحَرَّوْاْ رَشَداً } أي طلبوا لأنفسهم النجاة ، { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } أي وقوداً تسعر بهم ، { وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً * لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } اختلف المفسرون في معنى هذا على قولين : ( أحدهما ) : وأن لو استقام القاسطون على طريقة الإسلام ، واستمروا عليها { لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } أي كثيراً ، والمراد بذلك سعة الرزق كقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } [ الأعراف : 96 ] ، وعلى هذا يكون معنى قوله : { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } أي لنختبرهم من يستمر على الهداية ممن يرتد إلى الغواية ، قال ابن عباس : { وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة } يعني بالاستقامة الطاعة ، وقال مجاهد : يعني الإسلام . وقال قتادة : { وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة } يقول : لو آمنوا كلهم لأوسعنا عليهم من الدنيا . وقال مقاتل : نزلت في كفار قريش حين منعوا المطر سبع سنين ، ( والقول الثاني ) : { وَأَلَّوِ استقاموا عَلَى الطريقة } الضلال { لأَسْقَيْنَاهُم مَّآءً غَدَقاً } أي لأوسعنا علينا الرزق استدراجاً ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } [ الأنعام : 44 ] وهذا قول أبي مجلز ، وحكاه البغوي عن الربيع ، وزيد بمن أسلم ، والكلبي ، وله اتجاه ويتأيد بقوله { لِّنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } ، وقوله : { وَمَن يُعْرِضْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذَاباً صَعَداً } أي عذاباً مشقاً موجعاً مؤلماً ، قال ابن عباس ومجاهد { عَذَاباً صَعَداً } أي مشقة لا راحة معها ، وعن ابن عباس : جبل في جهنم .(1/2621)
وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا (18) وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كَادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَدًا (19) قُلْ إِنَّمَا أَدْعُو رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِهِ أَحَدًا (20) قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (22) إِلَّا بَلَاغًا مِنَ اللَّهِ وَرِسَالَاتِهِ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا (23) حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِرًا وَأَقَلُّ عَدَدًا (24)
قال قتادة في قوله تعالى : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } قال : كانت اليهود والنصارى إذا دخلوا كنائسهم وبيعهم أشركوا بالله ، فأمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يوحّده وحده ، وقال ابن عباس : لم يكن يوم نزلت هذه الآية في الأرض مسجد إلاّ المسجد الحرام ، ومسجد إيليا بيت المقدس ، وروى ابن جرير ، عن سعيد بن جبير قال ، قالت الجن لنبي الله صلى الله عليه وسلم : كيف لنا أن نأتي المسجد ونحن ناؤون؟ أي بعيدون عنك ، وكيف نشهد الصلاة ونحن ناؤون عنك؟ فنزلت : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ فَلاَ تَدْعُواْ مَعَ الله أَحَداً } . وقال عكرمة : نزلت في المساجد كلها ، وقوله تعالى : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } قال ابن عباس يقول : لما سمعوا النبي صلى الله عليه وسلم يتلو القرآن ، كادوا يركبونه من الحرص لمّا يتلو القرآن ، ودنوا منه فلم يعلم بهم حتى أتاه الرسول فجعل يقرئه : { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } [ الجن : 1 ] يستمعون القرآن ، وقال الحسن : لما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا إله إلا الله ويدعو الناس إلى ربهم كادت العرب تلبد عليه جميعاً ، وقال قتادة : تلبّدت الإنس والجن على هذا الأمر ليطفئوه ، فأبى الله إلاّ أن ينصره ويمضيه ويظهره على من ناوأه ، وهو الأظهر لقوله بعده : { قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } أي قال لهم الرسول لما آذوه وخالفوه وكذبوه ، وتظاهروا عليه ليبطلوا ما جاء به من الحق واجتمعوا على عداوته { قُلْ إِنَّمَآ أَدْعُو رَبِّي } أي إنما أعبد ربي وحده لا شريك له وأستجير به وأتوكل عليه { وَلاَ أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً } .
وقوله : { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً } أي إنما أنا عبد من عباد الله ، ليس إليّ من الأمر شيء في هدايتكم ولا غوايتكم ، بل المرجع في ذلك كله إلى الله عزَّ وجلَّ ، ثم أخبر عن نفسه أيضاً أنه لا يجيره من الله أحد ، أي لو عصيته ، فإنه لا يقدر أحد على إنقاذي من عذابه { وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } قال مجاهد : لا ملجأ ، وقال قتادة : أي لا نصير ولا ملجأ ، وفي رواية : لا ولي ولا مئل ، وقوله تعالى : { إِلاَّ بَلاَغاً مِّنَ الله وَرِسَالاَتِهِ } مستثنى من قوله : { قُلْ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ رَشَداً } ويحتمل أن يكون استثناء من قوله : { لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ } اي لا يجيرني منه ويخلصني إلاّ إبلاغي الرسالة التي أوجب أداءها عليّ ، كما قال تعالى : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [ المائدة : 67 ] ، وقوله تعالى : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي أنا رسول الله أبلغكم رسالة الله فمن يعص بعد ذلك فله جزاء { نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي لا محيد لهم عنها ولا خروج لهم منها ، وقوله تعالى : { حتى إِذَا رَأَوْاْ مَا يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } أي حتى إذا رأى هؤلاء المشركون ما يدعون يوم القيامة ، فسيعلمون يومئذٍ { مَنْ أَضْعَفُ نَاصِراً وَأَقَلُّ عَدَداً } هم أم المؤمنون الموحدون لله تعالى ، أي بل المشركين لا ناصر لهم بالكلية ، وهم أقل عدداً من جنود الله عزَّ وجلَّ .(1/2622)
قُلْ إِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ مَا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَدًا (25) عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا (26) إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا (27) لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالَاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَدًا (28)
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس : إنه لا علم له بوقت الساعة ، ولا يدري أقريب وقتها أم بعيد { قُلْ إِنْ أدري أَقَرِيبٌ مَّا تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ ربي أَمَداً } أي مدة طويلة ، { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } هذه كقوله تعالى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } [ البقرة : 255 ] وهذا يعم الرسول الملكي والبشري ، ثم قال تعالى : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } أي يخصه بمزيد معقبات من الملائكة يحفظونه من أمر الله ، ويساوقونه على ما معه من وحي الله ، ولهذا قال : { لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } ، وقد اختلف المفسرون في الضمير في قوله { عَدَداً } إلى من يعود؟ فقيل : إنه عائد إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، روى ابن جرير ، عن سعيد بن جبير في قوله : { فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً } قال : أربعة حفظة من الملائكة مع جبريل { لِّيَعْلَمَ } محمد صلى الله عليه وسلم { أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } ، وقال قتادة : { لِّيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُواْ رِسَالاَتِ رَبِّهِمْ } قال : ليعلم نبي الله أن الرسل قد بلغت عن الله ، وأن الملائكة حفظتها ودفعت عنها ، وقيل المراد : ليعلم أهل الشرك أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، قال مجاهد : ليعلم من كذب الرسل أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، وفي هذا نظر ، ويحتمل أن يكون الضمير عائداً إلى الله عزَّ وجلَّ ، ويكون المعنى في ذلك أنه يحفظ رسله بملائكته ليتمكنوا من أداء رسالاته ، ويحفظ ما ينزله إليهم من الوحي ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم ، ويكون ذلك كقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ } [ البقرة : 143 ] ، وكقوله تعالى : { وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين } [ العنكبوت : 11 ] إلى أمثال ذلك ، مع العلم بأنه تعالى يعلم الأشياء قبل كونها قطعاً لا محالة ، ولهذا قال بعد ذلك : { وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وأحصى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً } .(1/2623)
يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا (4) إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا (5) إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا (7) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا (9)
يأمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يترك التزمل ، وهو التغطي ، وينهض إلى القيام لربه عزَّ وجلَّ ، كما قال تعالى : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [ الإسراء : 79 ] ، فقال تعالى : { ياأيها المزمل * قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً } ، قال ابن عباس { ياأيها المزمل } يعني يا أيها النائم ، وقال قتادة : المزمل في ثيابه ، وقال إبراهيم النخعي : نزلت وهو متزمل بقطيفة ، وقوله تعالى : { نِّصْفَهُ } بدل من الليل { أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } أي أمرناك أن تقوم نصف الليل بزيادة قليلة ، أو نقصان قليل ، لا حرج عليك في ذلك ، وقوله تعالى : { وَرَتِّلِ القرآن تَرْتِيلاً } أي أقرأه على تمهل ، فإنه يكون عوناً على فهم القرآن وتدبره ، وكذلك كان يقرأ صلوات الله وسلامه عليه ، قالت عائشة : كان يقرأ السورة فيرتلها ، حتى تكون أطول من أطول منها ، وفي « صححيح البخاري » عن أنَس أنه سئل عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : كانت مداً ، ثم قرأ : { بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ } [ الفاتحة : 1 ، النمل : 30 ] يمد بسم الله ويمد الرحمن ويمد الرحيم ، وعن أُمّ سلمة رضي الله عنها أنها سئلت عن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : كان يقطع قراءته آية آية : { بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ * الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين * الرحمن الرحيم * مالك يَوْمِ الدين } [ الفاتحة : 1-4 ] ، وفي الحديث : « يقال لقارىء القرآن : اقرأ وارق ورتل كما كنت ترتل في الدنيا فإن منزلتك عند آخر آية تقرؤها » وقد قدمنا في أول التفسير الأحاديث الدالة على استحباب الترتيل ، وتحسين الصوت بالقراءة ، كما جاء في الحديث : « زينوا القرآن بأصواتكم » ، و « ليس منا من لم يتغن بالقرآن » وقال ابن مسعود : لا تنثروه نثر الرمل ، ولا تهذوه هذّ الشعر ، قفوا عند عجائبه وحركوا به القلوب ، ولا يكن همّ أحدكم آخر السورة ، وقوله تعالى : { إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً } قال الحسن وقتادة : أي العمل به ، وقيل : ثقيل وقت نزوله من عظمته ، كما قال زيد بن ثابت رضي الله عنه : أُنزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفخذه على فخذي ، فكادت ترض فخذي ، روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها « أن الحارث بن هشام سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : كيف يأتيك الوحي؟ فقال : » أحياناً يأتي في مثل صلصة الجرس ، وهو أشد عليّ فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال ، وأحياناً يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول « قالت : عائشة : ولقد رأيته ينزل عليه الوحي صلى الله عليه وسلم في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقاً »(1/2624)
وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : « إن كان ليوحى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على راحلته فتضرب بجرانها » .
وقوله تعالى : { إِنَّ نَاشِئَةَ الليل هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } قال عمر : الليل كله ناشئة ، وقال مجاهد : نشأ إذا قام من الليل ، وفي رواية عنه : بعد العشاء ، والغرض أن { نَاشِئَةَ الليل } هي ساعاته وأوقاته ، وكل ساعة منه تسمى ناشئة ، والمقصود أن قيام الليل هو أشد مواطأة بين القلب واللسان ، وأجمع على التلاوة ، ولهذا قال تعالى : { هِيَ أَشَدُّ وَطْأً وَأَقْوَمُ قِيلاً } أي أجمع للخاطر في أداء القراءة وتفهمها من قيام النهار ، لأنه وقت انتشار الناس ولغط الأصوات وأوقات المعاش ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ لَكَ فِي النهار سَبْحَاً طَوِيلاً } ، قال أبو العالية ومجاهد : فراغاً طويلاً ، وقال قتادة : فراغاً وبغية ومتقلباً ، وقال السدي : { سَبْحَاً طَوِيلاً } تطوعاً كثيراً ، وقال عبد الرحمن بن زيد { سَبْحَاً طَوِيلاً } قال : لحوائجك فأفرغ لدينك الليل ، وهذا حين كانت صلاة الليل فريضة ، ثم إن الله تبارك وتعالى منَّ على عباده فخففها ، ووضعها . روى الإمام أحمد ، عن زرارة بن أوفى ، عن سعيد بن هشام قال : قلت : « يا أمّ المؤمنين أنبئيني عن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : ألست تقرأ القرآن؟ قلت : بلى ، قالت : فإن خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم كان القرآن ، فهممت أن أقوم ، ثم بدا لي قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا أم المؤمنين أنبئيني عن قيام رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : ألست تقرأ هذه السورة : { ياأيها المزمل } ؟ قلت : بلى ، قالت : فإن الله افترض قيام الليل في أول هذه السورة ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه حولاً حتى انفتخت أقدامهم » ، وأمسك الله خاتمتها في السماء اثني عشر شهراً ، ثم أنزل الله التخفيف في آخر هذه السورة فصار قيام الليل تطوعاً من بعد فريضة . وروي عن عائشة رضي الله عنها قالت : « كنت أجعل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حصيراً يصلي عليه من الليل ، فتسامع الناس به فاجتمعوا فخرج كالمغضب وكان بهم رحيماً فخشي أن يكتب عليهم قيام الليل فقال : » يا أيها الناس اكلفوا من الأعمال ما تطيقون فإن الله لا يمل من الثواب حتى تملوا من العمل وخير الأعمال ما ديم عليه « ونزل القرآن : { ياأيها المزمل * قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً * نِّصْفَهُ أَوِ انقص مِنْهُ قَلِيلاً * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ } حتى كان الرجل يربط الحبل ويتعلق ، فمكثوا بذلك ثمانية أشهر فرأى الله ما يبتغون من رضوانه فرحمهم فردهم إلى الفريضة وترك قيام الليل .
وقال ابن جرير : لما نزلت { ياأيها المزمل } قاموا حولاً حتى ورمت أقدامهم وسوقهم حتى نزلت :(1/2625)
{ فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } [ المزمل : 20 ] قال : فاستراح الناس . وقوله تعالى : { واذكر اسم رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } أي أكثر من ذكره ، وانقطع إليه ، وتفرغ لعبادته إذا فرغت من أشغالك ، كما قال تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب } [ الشرح : 7 ] أي إذا فرغت من أشغالك فانصب في طاعته ، وعبادته لتكون فارغ البال ، { وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً } أي أخلص له العبادة ، وقال الحسن : اجتهد وابتل إليه نفسك ، وقال ابن جرير : يقال للعابد متبتل ، ومنه الحديث المروي ( نهى عن التبتل ) يعني الانقطاع إلى العبادة وترك التزوج ، وقوله تعالى : { رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً } أي هو المالك المتصرف في المشارق والمغارب الذي لا إله إلا هو ، وكما أفردته بالعبادة فأفرده بالتوكل فاتخذه وكيلاً ، كما قال تعالى : { فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وكقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] .(1/2626)
وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا (10) وَذَرْنِي وَالْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلًا (11) إِنَّ لَدَيْنَا أَنْكَالًا وَجَحِيمًا (12) وَطَعَامًا ذَا غُصَّةٍ وَعَذَابًا أَلِيمًا (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَالْجِبَالُ وَكَانَتِ الْجِبَالُ كَثِيبًا مَهِيلًا (14) إِنَّا أَرْسَلْنَا إِلَيْكُمْ رَسُولًا شَاهِدًا عَلَيْكُمْ كَمَا أَرْسَلْنَا إِلَى فِرْعَوْنَ رَسُولًا (15) فَعَصَى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْنَاهُ أَخْذًا وَبِيلًا (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17) السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18)
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر ، ما يقوله سفهاء قومه ، وأن يهجرهم هجراً جميلاً ، وهو الذي لا عتاب معه ، ثم قال له متهدداً لكفار قومه : { وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة } أي والمكذبين المترفين أصحاب الأموال ، { وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } أي رويداً ، كما قال تعالى : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] ، ولهذا قال هاهنا : { إِنَّ لَدَيْنَآ أَنكَالاً } وهي القيود ، قال ابن عباس وعكرمة والسدي وغير واحد ، و { جَحِيماً } وهي السعير المضطرمة ، { وَطَعَاماً ذَا غُصَّةٍ } قال ابن عباس : ينشب في الحلق فلا يدخل ولا يخرج ، { وَعَذَاباً أَلِيماً * يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال } أي تزلزل ، { وَكَانَتِ الجبال كَثِيباً مَّهِيلاً } أي تصير ككثبان الرمال بعد ما كانت حجارة صماء ، ثم إنها تنسف نسفاً فلا يبقى منها شيء إلا ذهب ، حتى تصير الأرض { قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً } [ طه : 106-107 ] أي وادياً { ولا أَمْتاً } [ طه : 107 ] أي رابية ، ومعناه لا شي ينخفض ولا شيء يرتفع ، ثم قال تعالى مخاطباً لكفار قريش والمراد سائر الناس : { إِنَّآ أَرْسَلْنَآ إِلَيْكُمْ رَسُولاً شَاهِداً عَلَيْكُمْ } أي بأعمالكم ، { كَمَآ أَرْسَلْنَآ إلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً * فعصى فِرْعَوْنُ الرسول فَأَخَذْنَاهُ أَخْذاً وَبِيلاً } قال ابن عباس { أَخْذاً وَبِيلاً } أي شديداً ، فاحذروا أنتم أن تكذبوا هذا الرسول ، فيصيبكم ما أصاب فرعون حيث أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، كما قال تعالى : { فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى } [ النازعات : 25 ] ، وقوله تعالى : { فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِن كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } أي فكيف تخافون أيها الناس يوماً يجعل الولدان شيباً إن كفرتم بالله ولم تصدقوا به؟ وكيف يحصل لكم أمان من يوم هذا الفزع العظيم إن كفرتم ، ومعنى قوله : { يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } أي من شدة أهواله وزلازله وبلابله ، وذلك حين يقول الله تعالى لآدم : ابعث بعث النار ، فيقول : من كم؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة ، وقوله تعالى : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } قال الحسن وقتادة : أي بسببه من شدته ، وهوله ، وقوله تعالى : { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } أي كان وعد هذا اليوم مفعولاً ، أي واقعاً لا محالة وكائناً لا محيد عنه .(1/2627)
إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (19) إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنَى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَاللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتَابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضَى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرًا وَأَعْظَمَ أَجْرًا وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)
يقول تعالى : { إِنَّ هذه } أي السورة { تَذْكِرَةٌ } أي يتذكر بها أولو الألباب ، ولهذا قال تعالى : { فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } أي ممن شاء الله تعالى هدايته ، ثم قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أدنى مِن ثُلُثَيِ الليل وَنِصْفَهُ وَثُلُثَهُ وَطَآئِفَةٌ مِّنَ الذين مَعَكَ } أي تارة هكذا وتارة هكذا ، وذلك كله من غير قصد منكم ، ولكن لا تقدرون على المواظبة على ما أمركم به من قيام الليل ، لأنه يشق عليكم ، ولهذا قال : { والله يُقَدِّرُ الليل والنهار } أي تارة يعتدلان ، وتارة يأخذ هذا من هذا ، وهذا من هذا ، { عَلِمَ أَن لَّن تُحْصُوهُ } أي الفرض الذي أوجبه عليكم { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } أي من غير تحديد بوقت ، أي ولكن قوموا من الليل ما تيسر ، وعبر عن الصلاة بالقراءة كما قال : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } [ الإسراء : 110 ] أي بقراءتك { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } [ الإسراء : 110 ] ، وقد استدل أبو حنيفة رحمه الله بهذه الآية وهي قوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } على أنه لا يجب تعين قراءة الفاتحة في الصلاة ، واعتضد بحديث المسيء صلاته : « ثم اقرأ ما تيسر معك من القرآن » ، وقد أجاب الجمهور بحديث عبادة من الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب » وعن أبي هريرة مرفوعاً : « لا تجزىء صلاة من لم يقرأ بأُمّ القرآن » وقوله تعالى : { عَلِمَ أَن سَيَكُونُ مِنكُمْ مرضى وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله } أي علم أن سيكون من هذه الأمة ذوو أعذار ، من مرضى لا يستطيعون القيام ومسافرين يبتغون من فضل الله في المكاسب والمتاجر ، وآخرين مشغولين بالغزو في سبيل الله ، ولهذا قال تعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } أي قوموا بما تيسرعليكم منه ، روى ابن جرير ، عن أبي رجاء قال : قلت للحسن : يا أبا سعيد ما تقول في رجل قد استظهر القرآن كله عن ظهر قلبه ، ولا يقوم به إنما يصلي المكتوبة؟ قال : يتوسد القرآن لعن الله ذاك ، قال الله تعالى للعبد الصالح : { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ } [ يوسف : 68 ] ، { وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ } [ الأنعام : 91 ] ، قلت : يا أبا سعيد قال الله تعالى : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ القرآن } ، قال : نعم ، ولو خمس آيات ، وهذا ظاهر من مذهب الحسن البصري ، أنه كان يرى حقاً واجباً على حملة القرآن ، أن يقوموا ولو بشيء منه في الليل ، ولهذا جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « سئل عن رجل نام حتى أصبح؟ قال : » ذاك رجُل بال الشيطان في أُذنه « »(1/2628)
، فقيل : معناه نام عن المكتوبة ، وقيل : عن قيام الليل .
وقوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة } أي أقيموا صلاتكم الواجبة عليكم وآتوا الزكاة المفروضة ، وهذا يدل لمن قال بأن فرض الزكاة نزل بمكة ، لكن مقادير النصب والمخرج لم تبين إلا بالمدينة والله أعلم . وقد قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد : إن هذه الآية نسخت الذي كان الله قد أوجبه على المسلمين أولاً من قيام الليل ، وقد ثبت في الصحيحين « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لذلك الرجل : » خمس صلوات في اليوم والليلة « ، قال : هل عليّ غيرها؟ قال : » لا ، إلا أن تطوّع « » ، وقوله تعالى : { وَأَقْرِضُواُ الله قَرْضاً حَسَناً } يعني من الصدقات ، فإن الله يجازي على ذلك أحسن الجزاء وأوفره كما قال تعالى : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] ، وقوله تعالى : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنفُسِكُمْ مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله هُوَ خَيْراً وَأَعْظَمَ أَجْراً } أي جميع ما تقدموه بين أيديكم فهو لكم حاصل ، وهو خير مما أبقيتموه لأنفسكم في الدنيا ، عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » أيكم ماله أحب إليه من مال وارثه؟ « قالوا : يا رسول الله ، ما منا من أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه ، قال : » اعلموا ما تقولون « ، قالوا : ما نعلم إلا ذلك يا رسول الله ، قال : » إنما مال أحدكم ما قدّم ، ومال وارثه ما أخر « » ثم قال تعالى : { واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي أكثروا من ذكره واستغفاره في أموركم كلها ، فإنه غفور رحيم لمن استغفر .(1/2629)
يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ (4) وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَلَا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَلِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذَا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9) عَلَى الْكَافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)
روى البخاري : عن جابر بن عبد الله ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « جاورت بحراء فلما قضيت جواري ، هبطت فنوديت ، عن يميني ، فلم أر شيئاً ، ونظرت عن شمالي فلم أر شيئاً ، ونظرت أمامي فلم أر شيئاً ، ونظرت خلفي فلم أر شيئاً ، فرفعت رأسي فرأيت شيئاً ، فأتيت خديجة ، فقلت : دثروني وصبوا عليَّ ماء بارداً - قال - فدثروني وصبُّوا عليَّ ماء بارداً ، قال : فنزلت : { ياأيها المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } » وعن أبي سلمة قال : أخبرني جابر بن عبد الله أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يحدِّث عن فترة الوحي فقال في حديثه : « فبينا أنا أمشي إذْ سمعتُ صوتاً من السماء ، فرفعت بصري قَبل السماء ، فإذا الملك الذي جاءني بحراء قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فجثثت منه حتى هويت إلى الأرض ، فجئت إلى أهلي فقتل : زملوني ، زملوني ، فزملوني ، فأنزل : { ياأيها المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ } - إلى - { فاهجر } » ، قال أبو سلمة : والرجز : الأوثان ، « ثم حمى الوحي وتتابع » وهذا السياق ثقتضي أنه قد نزل الوحي قبل هذا لقوله : « فإذا الملك الذي كان بحراء » ، وهو جبريل حين أتاه بقوله : { اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] ، ثم إنه حصل بعد هذه الفترة ثم نزل الملك بعد هذا ، كما قال الإمام أحمد ، عن جابر بن عبد الله ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه سلم يقول : « ثم فتر الوحي عني فترة ، فبينا أنا أمشي سمعت صوتاً من السماء ، فرفعت بصري قبَل السماء فإذا الملك الذي جاءني قاعد على كرسي بين السماء والأرض ، فجثثت منه فرقاً حتى هويت إلى الأرض ، فجئت أهلي ، فقلت لهم : زملوني ، زملوني ، فزملوني ، فأنزل الله تعالى : { ياأيها المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * والرجز فاهجر } ثم حمى الوحي وتتابع » وروى الطبراني ، عن ابن عباس قال : إن الوليد بن المغيرة صنع لقريش طعاماً فلما أكلوا منه قال : ما تقولون في هذا الرجل؟ فقال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : ليس بساحر ، وقال بعضهم : كاهن ، وقال بعضهم : ليس بكاهن ، وقال بعضهم : شاعر ، وقال بعضهم : ليس بشاعر ، وقال بعضهم : بل ساحر يؤثر ، فأجمع رأيهم على أنه سحر يؤثر ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه سلم ، فحزن وقنّع رأسه وتدثر ، فأنزل الله تعالى : { ياأيها المدثر * قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } وقوله تعالى : { قُمْ فَأَنذِرْ } أي شمر عن ساق العزم وأنذر الناس { وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ } أي عظّم { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } سئل ابن عباس عن هذه الآية : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } فقال : لا تلبسها على معصية ولا على غدرة ، ثم قال : أما سمعت قول غيلان بن سلمة الثقفي :(1/2630)
فإني بحمد الله لا ثوب فاجر ... لبست ولا من غدرة أتقنع
وفي رواية عنه : فطهر من الذنوب ، وقال مجاهد : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } قال : نفسك ليس ثيابه ، قال : نفسك ليس ثيابه ، وفي رواية عنه : أي عملك فأصلح ، وقال قتادة : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي طهرها من المعاصي ، وقال محمد بن سيرين : { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } أي اغسلها بالماء ، وقال ابن زيد : كان المشركون لا يتطهرون ، فأمره الله أن يتطهر وأن يطهر ثيابه ، وهذا القول اختاره ابن جرير ، وقد تشمل الآية جميع ذلك مع طهارة القلب ، فإن العرب تطلب الثياب عليه . وقال سعيد بن جبير { وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ } وقلبك ونيتك فطهر .
وقوله تعالى : { والرجز فاهجر } قال ابن عباس : والرجز وهو الأصنام فاهجر ، وقال الضحّاك { والرجز فاهجر } : أي اترك المعصية ، وعلى كل تقدير ، فلا يلزم تلبسه بشيء من ذلك كقوله تعالى : { ياأيها النبي اتق الله وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } [ الأحزاب : 1 ] . وقوله تعالى : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } ، قال ابن عباس : لا تعط العطية تلتمس أكثر منها ، وقال الحسن البصري : لا تمتن بعملك على ربك تستكثره ، واختاره ابن جرير ، وقال مجاهد : لا تضعف أن تستكثرهم بها تأخذ عليه عوضاً من الدنيا ، فهذه أربعة أقوال ، والأظهر القول الأول ، والله أعلم . وقوله تعالى : { وَلِرَبِّكَ فاصبر } أي اجعل صبرك على أذاهم لوجه ربك عزَّ وجلَّ ، قال مجاهد . وقال إبراهيم النخعي : اصبر عطيتك لله عزَّ وجلَّ . وقوله تعالى : { فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ } قال ابن عباس ومجاهد : { الناقور } الصور ، قال مجاهد : وهو كهيئة القرن ، وفي الحديث : « » كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ينتظر متى يؤمر فينفخ؟ « فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم : فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال : » قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا « » ، وقوله تعالى : { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ } أي شديد ، { عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ } أي غير سهل عليهم ، كما قال تعالى : { يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ } [ القمر : 8 ] ، وقد روينا عن ( زرارة بن أوفى ) قاضي البصرة أنه صلى بهم الصبح فقرأ هذه السورة ، فلما وصل إلى قوله تعالى : { فَإِذَا نُقِرَ فِي الناقور * فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ } شهق شهقة ، ثم خرّ ميتاً رحمه الله تعالى .(1/2631)
ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا (11) وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا (12) وَبَنِينَ شُهُودًا (13) وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15) كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20) ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ (23) فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ (25) سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ (27) لَا تُبْقِي وَلَا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ (30)
يقول تعالى متوعداً لهذا الخبيث ، الذي أنعم الله عليه بنعم الدنيا ، فكفر بأنعم الله وبدلها كفراً ، وقابلها بالجحود بآيات الله والافتراء عليها ، وقد عدّد الله عليه نعمه حيث قال تعالى : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } أي خرج من بطن أمه وحده لا ما له ولا ولد ، ثم رزقه الله تعالى : { مَالاً مَّمْدُوداً } أي واسعاً كثيراً ، قيل : ألف دينار ، وقيل : مائة ألف دنيار ، وقيل أرضاً يستغلها ، وقيل غير ذلك ، وجعل له { وَبَنِينَ شُهُوداً } قال مجاهد : لا يغيبون ، أي حضوراً عنده لا يسافرون ، وهم قعود عند أبيهم يتمتع بهم ويتملى بهم ، وكانوا فيما ذكره السدي ثلاثة عشر ، وقال ابن عباس ومجاهد : كانوا عشرة ، وهذا أبلغ في النعمة ، وهو إقامتهم عنده ، { وَمَهَّدتُّ لَهُ تَمْهِيداً } أي مكنته من صنوف المال والأثاث وغير ذلك ، { ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلاَّ إِنَّهُ كان لآيَاتِنَا عَنِيداً } أي معانداً وهو الكفر على نعمه بعد العلم . قال الله تعالى : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } . روى ابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد « عن النبي صلى الله عليه وسلم { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } قال : هو جبل في النار من نار يكلف أنه يصعده ، فإذا وضع يده ذابت ، وإذا رفعها عادت » ، وقال ابن عباس { صَعُوداً } صخرة في جهنم يسحب عليها الكافر على وجهه ، وقال السدي : { صَعُوداً } : صخرة ملساء في جهنم يكلف أن يصعدها ، وقال مجاهد : { سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً } أي مشقة من العذاب ، وقال قتادة : عذاباً لا راحة فيه ، واختاره ابن جرير ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ } أي إنما أرهقناه صعوداً لبعده عن الإيمان لأنه فكّر { وَقَدَّرَ } أي تروّى ماذا يقول في القرآن حين سئل عن القرآن ففكّر ماذا يختلق من المقال { وَقَدَّرَ } أي تروّى { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } دعاء عليه { ثُمَّ نَظَرَ } أي أعاد النظرة والتروي { ثُمَّ عَبَسَ } أي قبض بين عينيه وقطّب { وَبَسَرَ } أي كلح وكره ، ومنه قول توبة بن حمير :
وقد رابني منها صدود رأيته ... وإعراضها عن حاجتي وبُسُورها
وقوله تعالى : { ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر } أي صرف عن الحق ، ورجع القهقرى مستكبراً عن الانقياد للقرآن { فَقَالَ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } أي هذا سحر ينقله محمد عن غيره ممن قبله ويحكيه عنهم ولهذا قال : { إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر } أي ليس بكلام الله ، وهذا المذكور في هذا السياق هو ( الوليد بن المغيرة ) المخزومي ، أحد رؤساء قريش لعنه الله ، قال ابن عباس : « دخل الوليد بن المغيرة أبي بكر » ، فسأله عن القرآن ، فلما أخبره خرج على قريش فقال : يا عجباً لما يقول ابن أبي كبشة فوالله ما هو بشعر ، ولا بسحر ، ولا بهذي من الجنون ، وإن قوله لمن كلام الله ، فلما سمع بذلك النفر من قريش ائتمروا ، وقالوا : والله لئن صبا الوليد لتصبو قريش ، فلما سمع بذلك أبو جهل بن هشام قال : أنا والله أكفيكم شأنه ، فانطلق حتى دخل عليه بيته ، فقال الوليد : ألم تر إلى قومك قد جمعوا لك الصدقة؟ فقال : ألست أكثرهم مالاً وولداً؟ فقال له أبو جهل : يتحدثون أنك إنما تدخل على ابن أبي قحافة لتصيب من طعامه ، فقال الوليد : أقد تحدث به عيشرتي؟ فلا والله لا أقر ابن أي قحافة ولا عمر ولا ابن أبي كبشة ، وما قوله إلا سحر يؤثر ، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } إلى قوله : { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } وقال قتادة : زعموا أنه قال : والله لقد نظرت فيما قال الرجل ، فإذا هو ليس بشعر وإن له لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإنه ليعلو وما يعلى عليه وما أشك أنه سحر فأنزل الله : { فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } الآية ، { ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ } قبض ماب ين عينيه وكلح ، وروى ابن جرير عن عكرمة :(1/2632)
« أن الوليد بن المغيرة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقرأ عليه القرآن فكأنه رقّ له ، فبلغ ذلك أبا جهل بن هشام ، فأتاه فقال : أي عم إن قومك يريدون أن يجمعوا لك مالاً . قال : لم؟ قال : يعطونكه ، فإنك أتيت محمداً تعرض له قبله ، قال : قد علمت قريش إني أكثرها مالاً ، قال : فقل فيه قولاً يعلم قومك أنك منكر لما قال ، وأنك كاره له . قال : فماذا أقول فيه؟ فوالله ما منكم رجل أعلم بالأشعار مني ولا أعلم برجزه ولا بقصيده ، ولا بأشعار الجن ، والله ما يشبه الذي يقول شيئاً من هذا ، والله إن لقوله الذي يقوله لحلاوة . وأنه ليحطم ما تحته ، وإنه ليعلو وما يعلى قال : والله لا يرضى قومك حتى تقول فيه ، قال : فدعني حتى أتفكر فيه ، فلما فكر قال : إن هذا إلا سحر يؤثره عن غيره ، فنزلت : { ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً } حتى بلغ { تِسْعَةَ عَشَرَ } » وقد زعم السدي أنهم لما اجتمعوا في دار الندوة ليجمعوا رأيهم على قول يقولونه فيه قيل أن يقدم عليهم وفود العرب للحج ليصدوهم عنه ، فقال قائلون : شاعر . وقال آخرون : ساحر ، وقال آخرون : كاهن ، وقال آخرون : مجنون ، كما قال تعالى : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 48 ، الفرقان : 9 ] ، كل هذا والوليد يفكر فيما يقوله فيه ، ففكر وقدر ، ونظر عبس وبسر ، فقال : { فَقَالَ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هاذآ إِلاَّ قَوْلُ البشر } قال الله تعالى : { سَأُصْلِيهِ سَقَرَ } أي سأغمره فيها من جميع جهاته ، ثم قال تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سَقَرُ } ؟ وهذا تهويل لأمرها وتفخيم ، ثم فسر ذلك بقوله تعالى : { لاَ تُبْقِي وَلاَ تَذَرُ } أي تأكل لحومهم وعروقهم وعصبهم وجلودهم .(1/2633)
ثم تبدل غير ذلك وهم في ذلك لا يموتون ولا يحيون .
وقوله تعالى : { لَوَّاحَةٌ لِّلْبَشَرِ } قال مجاهد : أي للجلد ، وقال أبو رزين : تلفح الجلد لفحة فتدعه أسود من الليل ، وقال ابن عباس : تحرق بشرة الإنسان ، وقوله تعالى : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } أي من مقدمي الزبانية ، عظيم خلقهم ، غليظ خلقهم ، روى ابن أبي حاتم ، عن البراء في قوله تعالى : { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } قال : « إن رهطاً من اليهود سألوا رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن خزنة جهنم ، فقال : الله ورسوله أعلم ، فجاء رجل فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله تعالى عليه ساعتئذٍ { عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ } فأخبر أصحابه » وروى الحافظ البزار عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، غلب أصحابك اليوم ، فقال : » بأي شيء «؟ قال : سألتهم يهود : هل أعلمكم نبيكم عدة خزنة أهل النار؟ قالوا : لا نعلم حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أفغلب قوم يسألون عما لا يعلمون فقالوا : لا نعلم ، حتى نسأل نبينا صلى الله عليه وسلم ؟ عليَّ بأعداء الله ، لكنهم قد سألوا نبيهم أن يريهم الله جهرة « ، فأرسل إليهم فدعاهم ، قالوا : يا أبا القاسم كم عدة خزنة أهل النار؟ قال : » هكذا « وطبّق كفيه ، ثم طبقه كفيه مرتين وعقد واحدة ، وقال لأصحابه : » إن سئلتم عن تربة الجنة فهي الدرمك « فلما سألوه فأخبرهم بعدة خزنة أهل النار ، قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما تربة الجنة « فنظر بعضه إلى بعض ، فقالوا : خبزة يا أبا القاسم ، فقال : » الخبز من الدرمك « » .(1/2634)
وَمَا جَعَلْنَا أَصْحَابَ النَّارِ إِلَّا مَلَائِكَةً وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَيَزْدَادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيمَانًا وَلَا يَرْتَابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْمُؤْمِنُونَ وَلِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْكَافِرُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31) كَلَّا وَالْقَمَرِ (32) وَاللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَالصُّبْحِ إِذَا أَسْفَرَ (34) إِنَّهَا لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35) نَذِيرًا لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)
يقول تعالى : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً } أي خزانها { إِلاَّ مَلاَئِكَةً } أي زبانية غلاظاً شداً ، وذلك رد على مشركي قريش حين ذكر عدد الخزنة ، فقال أبو جهل : يا معشر قريش أما يستطيع كل عشرة منكم لواحد منهم فتغلبونهم ، فقال الله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَآ أَصْحَابَ النار إِلاَّ مَلاَئِكَةً } أي شديدي الخلق لا يقاومون ولا يغالبون ، وقد قيل : إن ( أبا الأشدين ) قال : يا معشر قريش أكفوني منهم اثنين ، وأنا أكفيكم منهم سبعة عشر إعجاباً منه بنفسه ، وكان قد بلغ من القوة فيما يزعمون أنه كان يقف على جلد البقرة . ويجاذبه عشرة لينزعوه من تحت قدميه ، فيتمزق الجلد ولا يتزحزح عنه ، قال السهيلي : وهو الذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصارعته وقال : إن صرعتني آمنت بك ، فصرعه النبي صلى الله علثه وسلم مراراً فلم يؤمن ، وقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي إنما ذكرنا عدتهم أنهم تسعة عشر اختباراً منا للناس ، { لِيَسْتَيْقِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } أي يعلمون أن هذا الرسول حق ، فإنه نطق بمطابقة ما بأيديهم من الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء قبله ، وقوله تعالى : { وَيَزْدَادَ الذين آمنوا إِيمَاناً } أي إلى إيمانهم بما يشهدون من صدق أخبار نبيهم صلى الله عليه وسلم ، { وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي من المنافقين ، { والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } أي يقولون ما الحكمة في ذكر هذا هاهنا؟ قال الله تعالى : { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة ، وقوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } أي ما يعلم عددهم وكثرتهم إلاّ هو تعالى ، لئلا يتوهم متوهم أنهم تسعة عشر فقط ، وقد ثبت في حديث الإسراء عن صفة البيت المعمور الذي في السماء السابعة : « فإذا هو يدخله في كل يوم سبعون ألف ملك لا يعودون إليه آخر ما عليهم » .
وروى الإمام أحمد ، عن أبي ذر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطّت السماء ، وحق لها أن تئط ، ما فيها موضع أربع أصابع إلاّ عليه ملك ساجد ، لو علمتم ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً ولا تلذذتم بالنساء على الفرشات ، ولخرجتم إلى الصعدات تجأرون إلى الله تعالى « فقال أبو ذر : والله لوددت أني شجرة تعضد » ، وعن جابر بن عبد الله قال ، « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ما في السماوات السبع موضع قدم ولا شبر ولا كف ، إلاّ وفيه ملك قائم أو ملك ساجد أو ملك راكع ، فإذا كان يوم القيامة قالوا جميعاً سبحانك ما عبدناك حق عبادتك إلاّ أنا لم نشرك بك شيئاً »(1/2635)
وعن ابن مسعود أنه قال : « إن من السماوات سماء ما فيها موضع شبر إلاّ وعليه جبهة ملك أو قدماه قائم ، ثم قرأ : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون * وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون } » [ الصافات : 165-166 ] . وروى محمد بن نصر ، عن عباد بن منصور قال : سمعت عدي بن أرطأة وهو يخطبنا على منبر المدائن قال : سمعت رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن لله تعالى ملائكة ترعد فرائصهم من خيفته ، ما منهم ملك تقطر منه دمعة من عينه إلاّ وقعت على ملك يصلي ، وإن منهم ملائكة سجوداً منذ خلق السماوات والأرض لم يرفعوا رؤوسهم ولا يرفعونها إلى يوم القيامة ، فإذا رفعوا رؤوسهم نظروا إلى وجه الله عزَّ وجلَّ قالو : سبحانك ما عبدناك حق عبادتك » وقوله تعالى : { وَمَا هِيَ إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ } أي النار التي وصفت { إِلاَّ ذكرى لِلْبَشَرِ } ، ثم قال تعالى : { كَلاَّ والقمر * والليل إِذْ أَدْبَرَ } أي وّلى { والصبح إِذَآ أَسْفَرَ } أي أشرق { إِنَّهَا لإِحْدَى الكبر } أي العظائم يعني النار ، قاله ابن عباس و مجاهد ، { نَذِيراً لِّلْبَشَرِ * لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ } أي لمن شاء أن يقبل النذارة ويهتدي للحق ، أو يتأخر عنها ويولي ويردها .(1/2636)
كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلَّا أَصْحَابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَسَاءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42) قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ (45) وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ (47) فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَمَا لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتَى صُحُفًا مُنَشَّرَةً (52) كَلَّا بَلْ لَا يَخَافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلَّا إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (55) وَمَا يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوَى وَأَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)
يقول تعالى مخبراً أن { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ } أي معتقلة بعملها يوم القيامة { إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين } فإنهم { فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ المجرمين } أي يسألون المجرمين وهم في الغرفات ، وأولئك في الدركات قائلين لهم { مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُواْ لَمْ نَكُ مِنَ المصلين * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ المسكين } أي ما عبدنا ربنا ولا أحسنا إلى خلقه من جنسنا ، { وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الخآئضين } أي نتكلم فيما لا نعلم ، وقال قتادة : كلما غوى غاوٍ غوينا معه ، { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين * حتى أَتَانَا اليقين } يعني الموت كقوله تعالى : { واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين } [ الحجر : 99 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما هو - يعني عثمان بن مظعون - فقد جاءه اليقين من ربه » قال تعالى : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين } أي من كان متصفاً بمثل هذه الصفات ، فإنه لا تنفعه يوم القيامة شفاعة شافع فيه ، لأن الشفاعة إنما تنجح إذا كان المحل قابلاً ، فأما من وافى الله كافراً ، فإن له النار لا محالة خالداً فيها . ثم قال تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ } أي فما لهؤلاء الكفرة الذين قبلك عما تدعوهم إليه وتذكرهم به معرضين { كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ * فَرَّتْ مِن قَسْوَرَةٍ } أي كأنهم في نفارهم عن الحق ، وإعراضهم عنه ، حمر من حمر الوحش إذا فرت ممن يريد صيدها من أسد ، وقوله تعالى : { بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امرىء مِّنْهُمْ أَن يؤتى صُحُفاً مُّنَشَّرَةً } أي بل يريد كل واحد من هؤلاء المشركين أن ينزل عليه كتاب كما أنزل الله على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال مجاهد وغيره كقوله تعالى : { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله الله } [ الأنعام : 124 ] ، وفي رواية عن قتادة : يريدون أن يؤتوا براءة بغير عمل ، فقوله تعالى : { كَلاَّ بَل لاَّ يَخَافُونَ الآخرة } أي إنما أفسدهم عدم إيمانهم بها وتكذيبهم بوقوعها . ثم قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ } أي حقاً إن القرآن تذكرة ، { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ * وَمَا يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } كقوله : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } [ الإنسان : 30 ، التكوير : 29 ] ، وقوله تعالى : { هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة } أي هو أهل أن يخاف منه ، وهو أن يغفر ذنب من تاب إليه وأناب . عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « قرأ رسول الله صلى عليه وسلم الآية { هُوَ أَهْلُ التقوى وَأَهْلُ المغفرة } وقال : » قال ربكم أنا أهل أن أتقى فلا يجعل معي إله ، فمن اتقى أن يجعل معي إلهاً كان أهلاً أن أغفر له « » .(1/2637)
لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ (1) وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظَامَهُ (3) بَلَى قَادِرِينَ عَلَى أَنْ نُسَوِّيَ بَنَانَهُ (4) بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسَانُ لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ (5) يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ (6) فَإِذَا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَخَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَجُمِعَ الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ (9) يَقُولُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلَّا لَا وَزَرَ (11) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّأُ الْإِنْسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسَانُ عَلَى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14) وَلَوْ أَلْقَى مَعَاذِيرَهُ (15)
قد تقدم أن المقسم عليه إذا كان منتفياً جاز الإتيان بلا قبل القسم لتأكيد النفي ، والمقسم عليه هاهنا هو إثبات المعاد ، والرد على ما يزعمه الجهلة من عدم بعث الأجساد ، ولهذا قال تعالى : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة * وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة } قال الحسن : أقسم بيوم القيامة ولم يقسم بالنفس اللوامة ، وقال قتادة : بل أقسم بهما جميعاً والصحيح أنه أقسم بهما معاً وهو المروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير ، واختاره ابن جرير ، فأما يوم القيامة فمعروف ، وأما النفس اللوامة فقال الحسن البصري : إن المؤمن والله ما نراه إلاّ يلوم نفسه : ما أردت بكلمتي ، ما أردت بأكلتي ، ما أردت بحديث نفسي ، وإن الفاجر يمضي قدماً قدماً ما يعاتب نفسه ، وعن سماك أنه سأل عكرمة عن قوله { وَلاَ أُقْسِمُ بالنفس اللوامة } قال : يلوم على الخبر والشر : لو فعلت كذا وكذا ، وعن سعيد بن جبير قال : تلوم على الخبر والشر ، وقال مجاهد : تندم على ما فات وتلوم عليه ، وقال ابن عباس : اللوامة المذمومة ، وقال قتادة : { اللوامة } الفاجرة ، قال ابن جرير : وكل هذه الأقوال متقاربة المعنى ، والأشبه بظاهر التنزيل أنها التي تلوم صاحبها على الخير والشر ، وتندم على ما فات . وقوله تعالى : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَلَّن نَّجْمَعَ عِظَامَهُ } ؟ أي يوم القيامة ، أيظن أنا لا نقدر على إعادة عظامه وجمعها من أماكنها المتفرقة؟ { بلى قَادِرِينَ على أَن نُّسَوِّيَ بَنَانَهُ } قال ابن عباس : أن نجعله خفاً أو حافراً ، والظاهر من الآية أن قوله تعالى : { قَادِرِينَ } حال من قوله تعالى : { نَّجْمَعَ } أي أيظن الإنسان أنا لا نجمع عظامه؟ بلى سنجمعها قادرين على أن نسوي بنانه ، أي قدرتنا صالحة لجمعها ، ولو شئنا لبعثناه أزيد مما كان ، فنجعل بنانه وهي أطراف أصابعه مستوية ، وهذا معنى قول ابن قتيبة والزجاج ، وقوله : { بَلْ يُرِيدُ الإنسان لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } قال ابن عباس : يعني يمضي قدماً ، وعنه : يقول الإنسان : أعمل ثم أتوب قبل يوم القيامة ، ويقال : هو الكفر بالحق بين يدي القيامة ، وقال مجاهد { لِيَفْجُرَ أَمَامَهُ } : ليمضي أمامه راكباً رأسه ، وقال الحسن : لا يلفى ابن آدم إلاّ تنزع نفسه إلى معصية الله قدماً إلاّ من عصمه الله تعالى ، وروي عن غير واحد من السلف : هو الذي يعجل الذنوب ويسوّف التوبة ، وقال ابن عباس : هو الكافر يكذب بيوم الحساب ، وهذا هو الأظهر من المراد ، ولهذا قال بعده : { يَسْأَلُ أَيَّانَ يَوْمُ القيامة } ؟ أي يقول متى يكون يوم القيامة ، وإنما سؤاله سؤال استبعاد لوقوعه وتكذيب لوجوده ، كما قال تعالى : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ } [ سبأ : 29-30 ] ، وقال تعالى هاهنا : { فَإِذَا بَرِقَ البصر } بكسر الراء أي حار كقوله تعالى :(1/2638)
{ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } [ إبراهيم : 43 ] ، والمقصود أن الأبصار تنبهر يوم القيامة وتخشع وتحار وتذل من شدة الأهوال ، ومن عظم ما تشاهده يوم القيامة من الأمور .
وقوله تعالى : { وَخَسَفَ القمر } أي ذهب ضوؤه ، { وَجُمِعَ الشمس والقمر } قال مجاهد : كوّرا ، كقوله { إِذَا الشمس كُوِّرَتْ } [ التكوير : 1 ] ، وقوله تعالى : { يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر } أي إذا عاين ابن آدم هذه الأهوال يوم القيامة ، حينئذٍ يريد أن يفر ويقول : { أَيْنَ المفر } ؟ أي هل من ملجأ أو مؤئل ، قال الله تعالى : { كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر } قال ابن مسعود وابن عباس : أي لا نجاة ، وهذه الآية كقوله تعالى : { مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ } [ الشورى : 47 ] أي ليس لكم مكان تتنكرون فيه ، وكذا قال هاهنا : { لاَ وَزَرَ } أي ليس لكم مكان تعتصمون فيه ، ولهذا قال : { إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر } أي المرجع والمصير ، ثم قال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } أي يخبر بجميع أعماله قديمها وحديثها ، أولها وآخرها ، صغيرها وكبيرها كما قال تعالى : { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] ، وهكذا قال هاهنا : { بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ * وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } أي هو شهيد على نفسه عالم بما فعله ولو اعتذر وأنكر ، كما قال تعالى : { اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ] وقال ابن عباس { بَلِ الإنسان على نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ } يقول : سمعه وبصره ويديه ورجليه وجوارحه ، وقال قتادة : شاهد على نفسه ، وفي رواية قال : إذا شئت والله رأيته بصيراً بعيوب الناس وذنوبهم ، غافلاً عن ذنوبه وكان يقال : إن في الإنجيل مكتوباً : يا ابن آدم تبصر القذاة في عين أخيك . وتترك الجذع عن عينك لا تبصره ، وقال مجاهد : { وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } ولو جادل عها فهو يصير عليها ، وقال قتادة : { وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } ولو اعتذر يومئذٍ بباطل لا يقبل منه ، وقال السدي : { وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } حجته ، واختاره ابن جرير . وقال الضحّاك ولو ألقى ستورة . وأهل اليمن يسمون الستر المعذار ، والصحيح قول مجاهد وأصحابه . كقوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، وكقوله تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ على شَيْءٍ أَلاَ إِنَّهُمْ هُمُ الكاذبون } [ المجادلة : 18 ] ، وقال ابن عباس : { وَلَوْ ألقى مَعَاذِيرَهُ } هي الاعتذار ألم تسمع أنه قال : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ } [ غافر : 52 ] .(1/2639)
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) كَلَّا بَلْ تُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ (20) وَتَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ (23) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ (25)
هذا تعليم من الله عزَّ وجلَّ لرسول الله صلى الله عليه وسلم في كيفية تلقيه الوحي من الملك ، فإنه كان يبادر إلى أخذه ، ويسابق الملك في قراءته ، فأمره الله عزَّ وجلَّ أن يستمع له ، وتكفل الله له أن يجمعه في صدره ، وأن يبينه له ويوضحه ، فالحالة الأولى جمعه في صدره ، والثانية تلاوته ، والثالثة تفسيره وإيضاح معناه ، ولهذا قال تعالى : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } أي بالقرآن كما قال تعالى : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } [ طه : 114 ] الآية ، ثم قال تعالى : { إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } أي في صدرك ، { وَقُرْآنَهُ } أي أن تقرأه { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ } أي إذا تلاه عليك الملك عن الله تعالى { فاتبع قُرْآنَهُ } أي فاستمع له ثم اقرأه كما أقرأك ، { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } أي بعد حفظه وتلاوته نبينه لك ونوضحه ونلهمك معناه على ما أردنا وشرعنا . عن ابن عباس قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعالج من التنزيل شدة فكان يحرك شفتيه ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } قال : معه في صدرك ، ثم تقرأه { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ } أي فاستمع له وأنصت ، { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } فكان بعد ذلك إذا انطلق جبريل قرأه كما أقرأه » وفي رواية للبخاري : « فكان إذا أتاه جبريل أطرق ، فإذا ذهب قرأه كما ونعده الله عزَّ وجلَّ » ، وروى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أنزل عليه الوحي يلقى منه شدة ، وكان إذا نزل عليه عرف في تحركيه شفتيه ، يتلقى أوله ويحرك به شفتيه خشية أن ينسى أوله قبل أن يفرغ من آخره ، فأنزل الله تعالى : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ } » وقال ابن عباس : كان لا يفتر من القرآن مخافة أن ينساه ، فقال الله تعالى : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ } أن نجمعه لك { وَقُرْآنَهُ } أن نقرئك فلا تنسى ، وقال ابن عباس { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } تبيين حلاله وحرامه ، وكذا قال قتادة .
وقوله تعالى : { كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ العاجلة * وَتَذَرُونَ الآخرة } أي إنما يحملهم على التكذيب بيوم القيامة ، أنهم إنما همتهم إلى الدار الدنيا العاجلة ، وهم لاهون متشاغلون عن الآخرة ، ثم قال تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } من النضارة أي حسنة بهية مشرقة مسرورة ، { إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } أي تراه عياناً ، كما رواه البخاري في « صحيحه » : « إنكم سترون ربكم عياناً » وقد ثبت رؤية المؤمنين لله عزَّ وجلَّ في الدار الآخرة ، في الأحاديث الصحاح من طرق متواترة عند أئمة الحديث ، لا يمكن دفعها ولا منعها ، لحديث أبي هريرة وهما في الصحيحين(1/2640)
« أن ناساً قالوا : يا رسول الله هل نرى ربنا يوم القيامة؟ فقال : » هل تضارون في رؤية الشمس والقمر ليس دونهما سحاب؟ « قالوا : لا ، قال : » إنكم ترون ربكم كذلك « » وفي الصحيحين عن جرير قال : « نظر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القمر ليلة البدر ، فقال : » إنكم ترون ربكم كما ترون هذا القمر ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس ولا قبل غروبها فافعلوا « » ، وفي الصحيحين عن أبي موسى قال ، « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما ما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى الله عزَّ وجلَّ إلاّ رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن » وفي مسلم عن صهيب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « » إذا دخل أهل الجنة الجنة - قال - يقول الله تعالى تريدون شيئاً أزيدكم؟ فيقولون : ألم تبيض وجوهنا! ألم تدخلنا الجنة وتنجنا من النار! قال : فيكشف الحجاب ، فما أعطوا شيئاً أحب إليهم من النظر إلى ربهم وهي الزيادة « ، ثم تلا هذه الآية : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } » [ يونس : 26 ] ، ففي هذه الأحاديث أن المؤمنين ينظرون إلى ربهم عزَّ وجلَّ في العرصات وفي روضات الجنات ، وروى الإمام أحمد ، عن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أدنى أهل الجنة منزلة لينظر في ملكه ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه ، ينظر إلى أزواجه وخدمه ، وإن أفضلهم منزلة لينظر في وجه الله كل يوم مرتين » ، قال الحسن { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ } قال : حسنة ، { إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } قال : تنظر إلى الخالق ، وحق لها أن تنضر وهي تنظر إلى الخالق ، وقوله تعالى : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ بَاسِرَةٌ * تَظُنُّ أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } هذه وجوه الفجار تكون يوم القيامة باسرة ، قال قتادة : كالحة ، وقال السدي : تغير ألوانها ، وقال ابن زيد { بَاسِرَةٌ } أي عابسة { تَظُنُّ } أي تستيقن { أَن يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ } قال مجاهد : داهية ، وقال قتادة : شر ، وقال السدي : تستيقن أنها هالكة ، وقال ابن زيد : تظن أن ستدخل النار ، وهذا المقام كقوله تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] ، وكقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } [ عبس : 38-39 ] ، وكقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاعِمَةٌ * لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } [ الغاشية : 8-10 ] وأشباه ذلك من الآيات الكريمة .(1/2641)
كَلَّا إِذَا بَلَغَتِ التَّرَاقِيَ (26) وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ (27) وَظَنَّ أَنَّهُ الْفِرَاقُ (28) وَالْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلَى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَسَاقُ (30) فَلَا صَدَّقَ وَلَا صَلَّى (31) وَلَكِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلَى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (34) ثُمَّ أَوْلَى لَكَ فَأَوْلَى (35) أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى (40)
يخبر تعالى عن حالة الاحتضار ، وما عنده من الأهوال ، ثبتنا الله هنالك بالقول الثابت ، فقال تعالى : { كَلاَّ إِذَا بَلَغَتِ التراقي } إن جعلنا ( كلا ) رادعة فمعناها : لست يا ابن آدم هناك تكذب بما أخبرت به ، بل صار ذلك عندك عياناً ، وإن جعلناها بمعنى ( حقاً ) فظاهر أي حقاً إذا بلغت التراقي أي انتزعت روحك من جسدك وبلغت تراقيك ، والتراقي جمع ( ترقوة ) وهي العظام التي بين ثغرة النحر والعاتق كقوله تعالى : { فَلَوْلاَ إِذَا بَلَغَتِ الحلقوم * وَأَنتُمْ حِينَئِذٍ تَنظُرُونَ * وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ } [ الواقعة : 83-85 ] ، { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } ؟ قال ابن عباس : أي من راق يرقي؟ وقال أبو قلابة؟ أي من طبيب شاف . وعن ابن عباس : { وَقِيلَ مَنْ رَاقٍ } قيل : من يرقى بروحه ملائكة الرحمة أم ملائكة العذاب؟ فعلى هذا يكون من كلام الملائكة ، وقال ابن عباس في قوله : { والتفت الساق بالساق } قال : التفت عليه الدنيا والآخرة ، وعنه { والتفت الساق بالساق } يقول : آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من أيام الآخرة ، فتلقي الشدة بالشدة إلاّ من رحمه الله ، وقال عكرمة : { والتفت الساق بالساق } الأمر العظيم بالأمر العظيم ، وقال مجاهد : بلاء ببلاء ، وقال الحسن البصري : هما ساقاك إذا التفتا ، وكذا قال السدي عن الحسن : هو لفهما في الكفن ، وقال الضحّاك : { والتفت الساق بالساق } اجتمع عليه أمران : الناس يجهزون جسده ، والملائكة يجهزون روحه .
وقوله تعالى : { إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المساق } أي المرجع والمآب ، وذلك أن الروج ترفع إلى السماوات ، فيقول الله عزَّ وجلَّ : ردوا عبدي إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ، منها أخرجهم تارة أُخرى ، كما ورد في حديث البراء الطويل ، وقوله جلَّ وعلا : { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولكن كَذَّبَ وتولى } هذا إخبار عن الكافر الذي كان في الدار الدنيا مكذباً للحق بقلبه ، متولياً عن العمل بقالبه ، فلا خير فيه باطناً ولا ظاهراً ، ولهذا قال تعالى : { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولكن كَذَّبَ وتولى * ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى } أي جذلان أشراً بطراً ، لا همة له ولا عمل ، كما قال تعالى : { وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ } [ المطففين : 31 ] ، وقال تعالى : { إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً * إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } [ الانشقاق : 13-14 ] أي يرجع ، وقال ابن عباس : { ثُمَّ ذَهَبَ إلى أَهْلِهِ يتمطى } أي يختال ، وقال قتادة : يتبختر ، قال الله تعالى : { أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى } وهذا تهديد ووعيد من الله تعالى للكافر ، المتبختر في مشيه ، أي يحق لك أن تمشي هكذا وقد كفرت بخالقك وبارئك ، وذلك على سبيل التهكم والتهديد ، كقوله تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] ، وكقوله تعالى :(1/2642)
{ كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } [ المرسلات : 46 ] وكقوله جلَّ جلاله : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } [ فصلت : 40 ] إلى غير ذلك ، عن سعيد بن جبير قال : قلت لابن عباس : { أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى } ؟ قال : قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي جهل ، ثم أنزله الله عزَّ وجلَّ . وقال قتادة في قوله : { أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى } وعيد على أثر وعيد كما تسمعون ، وزعموا أن عدو الله أبا جهل أخذ نبيّ الله صلى الله عليه وسلم بمجامع ثيابه ثم قال : { أولى لَكَ فأولى * ثُمَّ أولى لَكَ فأولى } ، فقال عدو الله أبو جهل : أتوعدني يا محمد؟ والله لا تستطيع أنت ولا ربك شيئاً ، وإني لأعز من مشى بين جبليها .
وقوله تعالى : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى } ؟ قال السدي : يعني لا يبعث ، وقال مجاهد : يعني لا يؤمر ولا ينهى ، والظاهر أن الآية تعم الحالين ، أي ليس يترك في هذه الدنيا مهملاً ، لا يؤمر ولا ينهى ، ولا يترك في قبره سدى لا يبعث ، بل هو مأمور منهي في الدنيا محشور إلى الله في الدار الآخرة ، والمقصود هنا إثبات المعاد ، ولهذا قال تعالى مستدلاً على الإعادة بالبداءة { أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى } أي أما كان الإنسان نطفة ضعيفة من ماء مهين { يمنى } أي يراق من الأصلاب في الأرحام { ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فسوى } أي فصار علقة ثم مضغة ثم شكل ونفخ فيه الروح فصار خلقاً آخر سوياً ، سليم الأعضاء ذكراً أو أُنثى بإذن الله وتقديره : ولهذا قال تعالى : { فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى } ، ثم قال تعالى : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى } ؟ أي أما هذا الذي أنشأ هذا الخلق السوي من هذه النطفة الضعيفة ، بقادر على أن يعيده كما بدأه؟ كقوله تعالى : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] ، روى أبو داود عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ منكم بالتين والزيتون فانتهى إلى آخرها { أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين } فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين؛ ومن قرأ : { لاَ أُقْسِمُ بِيَوْمِ القيامة } فانتهى إلى قوله : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى } فليقل بلى ، ومن قرأ : { والمرسلات } فبلغ { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ؟ فليقل : آمنا بالله » ، وعن قتادة قوله تعالى : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى } ذكر لنا « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأها قال : » سبحانك وبلى « وكان ابن عباس إذا مر بهذه الآية : { أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى } ؟ قال : سبحانك فبلى .(1/2643)
هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (2) إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا (3)
يقول تعالى مخبراً عن الإنسان ، أنه أوجده بعد أن لم يكن شيئاً يذكر لحقارته وضعفه ، فقال تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } ثم بيّن ذلك فقال جل جلاله : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } أي أخلاط ، والمشج والمشيج ، الشيء المختلط بعضه في بعض ، قال ابن عباس : يعني ماء الرجل وماء المرأة إذا اجتمعا واختلطا ، ثم ينتقل بعد من طور إلى طور ، وحال إلى حال ، وقال عكرمة ومجاهد : الأمشاج هو اختلاط ماء الرجل بماء المرأة ، وقوله تعالى : { نَّبْتَلِيهِ } أي نختبره كقوله جلَّ جلاله : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } [ هود : 7 ، الملك : 2 ] ، { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } أي جعلنا له سمعاً وبصراً يتمكن بهما من الطاعة والمعصية ، وقوله جلّ وعلا : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل } أي بيناه له ووضحناه وبصرناه به كقوله جلَّ وعلا : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } [ فصلت : 17 ] ، وكقوله جلّ وعلا : { وَهَدَيْنَاهُ النجدين } [ البلد : 10 ] أي بينا له طريق الخير وطريق الشر ، وهذا قول عكرمة ومجاهد والجمهور ، وروي عن الضحّاك والسدي { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل } يعني خروجه من الرحم ، وهذا قول غريب ، والصحيح المشهور الأول ، وقوله تعالى : { إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } منصوب على الحال في الهاء في قوله : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل } تقديره : فهو في ذلك ما شقي وإما سعيد ، كما جاء في الحديث الصحيح : « كل الناس يغدو فبائع نفسه فموبقها أو معتقها » ، وقد تقدم من رواية جابر بن عبد الله رضي الله تعالى عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لكل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه إما شاكراً وإما كفواً » ، وروى الإمام أحمد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من خارج يخرج إلاّ ببابه رايتان : راية بيد ملك ، وراية بيد شيطان ، فإن خرج لما يحب الله اتبعه الملك برايته ، فلم يزل تحت راية الملك حتى يرجع إلى بيته ، وإن خرج لما يسخط الله اتبعه الشيطان برايته فلم يزل تحت راية الشيطان حتى يرجع إلى بيته » .(1/2644)
إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَ وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (4) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا (5) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا (7) وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا (8) إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا شُكُورًا (9) إِنَّا نَخَافُ مِنْ رَبِّنَا يَوْمًا عَبُوسًا قَمْطَرِيرًا (10) فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُورًا (11) وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيرًا (12)
يخبر تعالى عما أرصده للكافرين من خلقه ، من السلاسل والأغلال والسعير وهو اللهب ، والحريق في نار جهنم كما قال تعالى : { إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل يُسْحَبُونَ * فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ } [ غافر : 71-72 ] ، ولما ذكر ما أعده لهؤلاء الأشقياء من السعير قال بعده : { إِنَّ الأبرار يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُوراً } ، وقد علم ما في الكافور من التبريد والرائحة الطيبة ، مع ما يضاف إلى ذلك من اللذاذة في الجنة ، قال الحسن : برد الكافور في طيب الزنجبيل ، ولهذا قال : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } أي هذا الذي مزج لهؤلاء الأبرار من الكافور ، هو عين يشرب بها المقربون من عباد الله صرفاً بلا مزج ويروون بها ، قاب بها ، قال بعضهم : هذا الشراب في طيبه كالكافور ، وقال بعضهم : هو من عين كافور ، وقوله تعالى : { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } أي يتصرفون فيها حيث شاءوا وأين شاءوا ، من قصورهم ودورهم ومجالسهم ومحالهم ، والتفجير هو الاتباع ، كما قال تعالى : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] ، وقال : { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } [ الكهف : 33 ] وقال مجاهد : { يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيراً } يقودونها حيث شاءوا ، وقال الثوري : يصرفونها حيث شاءوا ، وقوله تعالى : { يُوفُونَ بالنذر وَيَخَافُونَ يَوْماً كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } أي يتعبدون الله فيما أوجبه عليهم من فعل الطاعات وما أوجبوه على أنفسهم بطريق النذر ، وفي الحديث : « من نذر أن يطيع الله فليطعه ، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه » ، ويتركون المحرمات التي نهاهم عنها خيفة من سوء الحساب يوم المعاد وهو اليوم الذي يكون { شَرُّهُ مُسْتَطِيراً } أي منتشراً عاماً على الناس إلاّ من رحم الله ، قال ابن عباس : فاشياً ، وقال قتادة : استطار والله شر ذلك اليوم ملأ السماوات والأرض .
وقوله تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ } قيل : على حب الله تعالى لدلالة السياق عليه ، مجاهد ومقاتل ، واختاره ابن جرير كقوله تعالى : { وَآتَى المال على حُبِّهِ } [ البقرة : 177 ] ، وكقوله تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] ، وروى البيهقي عن نافع قال : مرض ابن عمر فاشتهى عنباً أول ما جاء العنب ، فأرسلت صفية يعني امرأة فانتشرت عنقوداً بدرهم ، فاتبع الرسول سائل ، فلما دخل به قال السائل : السائل ، فقال ابن عمر : أعطوه إياه فأعطوه إياه ، وفي الصحيح : « أفضل الصدقة أن تصدّق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر » أي في حال محبتك للمال وحرصك عليه وحاجتك إليه ، ولهذا قال تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } أما المسكين واليتيم فقد تقدم بيانهما وصفتهما ، وأما الأسير فقال الحسن والضحّاك : الأسير من أهل القبلة ، وقال ابن عباس : « كان أسراؤهم يومئذٍ مشركين ، يشهد لهذا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر أصحابه يوم بدر أن يكرموا الأسارى ، فكانوا يقدمونهم على أنفسهم عند الغداء »(1/2645)
، وقال عكرمة : هم العبيد ، واختاره ابن جرير لعموم الآية للمسلم والمشرك ، وقد وصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالإحسان إلى الأرقاء حتى كان آخر ما أوصى به أن جعل يقول : « الصلاة وما ملكت أيمانكم » قال مجاهد : هو المحبوس ، أي يطعمون الطعام لهؤلاء ، وهم يشتهونه ويحبونه قائلين بلسان الحال : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله } أي رجاء ثواب الله ورضاه { لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } أي لا نطلب منكم مجازاة تكافئوننا بها ولا أن تشركونا عند الناس ، قال مجاهد : أما والله ما قالوه بألسنتهم ، ولكن علم الله به من قلوبهم ، فأتى عليهم به ، ليرغب في ذلك راغب { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } أي إنما نفعل هذا لعل الله أن يرحمنا ويتلقانا بلطفه في اليوم العبوس القمطرير ، قال ابن عباس { عَبُوساً } ضيقاً { قَمْطَرِيراً } طويلاً ، وقال عكرمة : يعبس الكافر يومئذٍ حتى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران ، وقال مجاهد : { عَبُوساً } العابس الشفتين ، { قَمْطَرِيراً } قال : يقبض الوجه باليسور ، وقال سعيد بن جبير وقتادة : تعبس فيه الوجوه من الهول { قَمْطَرِيراً } تقلص الجبين وما بين العينين من الهول ، وقال ابن زيد : العبوس الشر ، والقمطرير الشديد ، وقال ابن جرير : والقمطرير هو الشديد ، يقال : هو يوم فمطرير ويوم قماطر ، ويوم عصيب وعصبصب .
قال الله تعالى : { فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } وهذا من باب التجانس البليغ ، { فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم } أي آمنهم مما خافوا منه ، { وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً } أي في وجوههم ، { وَسُرُوراً } أي في قلوبهم وهذه كقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } [ عبس : 38-39 ] وذلك أن القلب إذا سر استنار الوجه . قال كعب بن مالك في حديثه الطويل : « وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سر استنار وجهه حتى كأنه فلقة قمر ، وقالت عائشة رضي الله عنها ، » دخل عليَّ رسول الله صلى الله وسلم مسروراً تبرق أسارير وجهه « » الحديث . وقوله تعالى : { وَجَزَاهُمْ بِمَا صَبَرُواْ } أي بسبب صبرهم أعطاهم ونولهم وبوأهم { جَنَّةً وَحَرِيراً } أي منزلاً رحباً ، وعشياً رغداً ، ولباساً حسناً .(1/2646)
مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13) وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلَالُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلًا (14) وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَأَكْوَابٍ كَانَتْ قَوَارِيرَا (15) قَوَارِيرَ مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا (16) وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْسًا كَانَ مِزَاجُهَا زَنْجَبِيلًا (17) عَيْنًا فِيهَا تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا (18) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤًا مَنْثُورًا (19) وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا (20) عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُنْدُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا (21) إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا (22)
يخبر تعالى عن أهل الجنة وما هم فيه من النعيم المقيم ، وما أسبغ عليهم من الفضل العظيم فقال تعالى : { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا على الأرائك } تقدم الكلام على ذلك في سورة الصافات ، وأن ألأرائك هي السرر تحت الحجال ، وقوله تعالى : { لاَ يَرَوْنَ فِيهَا شَمْساً وَلاَ زَمْهَرِيراً } أي ليس عندهم حرّ مزعج ، ولا برد مؤلم ، { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا } أي قريبة إليهم أغصانها ، { وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } أي متى تعاطاه دنا القطف إليه ، تدلى من أعلى غصنه كأنه سامع طائع ، كما قال تعالى : { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } [ الحاقة : 23 ] قال مجاهد : إن قام ارتفعت معه بقدر ، وإن قعد تذلّلت له حتى ينالها ، وإن اضطجع تذلّلت له حتى ينالها فذلك قوله تعالى : { تَذْلِيلاً } ، وقال قتادة : لا يرد أيديهم عنها شوك ولا بعد ، وقوله جلَّت عظمته : { وَيُطَافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِّن فِضَّةٍ وَأَكْوابٍ } أي يطوف عليهم الخدم بأواني الطعام ، وهي في من فظة ، وأكواب الشراب وهي التي لا عرى لها ولا خراطيم ، وقوله : { قَوَارِيرَاْ مِن فِضَّةٍ } فالأول منصوب بخبر كان ، أي كانت قوارير ، والثاني منصوب إما على الدلية أو تمييز ، قال ابن عباس : بياض الفضة في صفاء الزجاج ، والقوارير لا تكون إلاّ من زجاج ، فهذه الأكواب هي من فضة ، وهي مع هذا شفافة يرى ما في باطنها من ظاهرها ، وهذا مما لا نظير له في الدنيا ، قال ابن عباس : ليس في الجنة شيء إلاّ قد أعطيتهم في الدنيا شبه إلاّ قوارير من فضة ، وقوله تعالى : { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } أي على قدر ريّهم لا تزيد عنه ولا تنقص ، بل هي معدة لذلك مقدرة بحسب ري صاحبها ، وهذا أبلغ في الاعتناء والشرف والكرامة ، وقال ابن عباس : { قَدَّرُوهَا تَقْدِيراً } قدرت للكف ، وقال الضحّاك : على قدر كف الخادم ، وهذا لا ينافي القول الأول ، فإنها مقدرة في القدر والري .
وقوله تعالى : { وَيُسْقَوْنَ فِيهَا كَأْساً كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً } أي ويسقون - يعني الأبرار أيضاً - في هذه الأكواب { كَأْساً } أي خمراً ، { كَانَ مِزَاجُهَا زَنجَبِيلاً } فتارة يمزج لهم الشراب بالكافور وهو بارد ، وتارة بالزنجبيل ، وهو حار ليعتدل الأمر ، وهؤلاء يمزج لهم من هذا تارة ومن هذا تارة ، وأما المقربون فإنهم يشربون من كل منهما صرفاً كما قاله قتادة وغير واحد ، وقد تقدم قوله جلا وعلا : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ الله } [ الإنسان : 6 ] ، وقال هاهنا : { عَيْناً فِيهَا تسمى سَلْسَبِيلاً } أي الزنجبيل عين في الجنة تسمى سلسبيلاً ، قال عكرمة ، اسم عين في الجنة . وقال مجاهد : سميت بذلك لسلامة مسيلها وحدة جريها ، وقوله تعالى : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } أي يطوف على أهل الجنة ولدان من ولدان الجنة { مُّخَلَّدُونَ } أي على حالة واحدة ، مخلدون عليها لا يتغيرون عنها لا تزيد أعمارهم عن تلك السن ، وقوله تعالى : { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } أي إذا رأيتهم في صباحة وجوههم ، وحسن ألوانهم وثيابهم وحليهم { إِذَا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَّنثُوراً } ولا يكون في التشبيه أحسن من هذا ، ولا في المنظر أحسن من اللؤلؤ المنثور على المكان الحسن ، قال قتادة : ما من أهل الجنة من أحد إلاّ يسعى عليه ألف خادم كل خادم على عمل ما عليه صاحبه ، وقوله جلا وعلا : { وَإِذَا رَأَيْتَ } أي وإذا رأيت يا محمد { ثَمَّ } أي هناك يعني في الجنة ونعيمها ، وسعتها وارتفاعها ، وما فيها من الحبرة والسرور { رَأَيْتَ نَعِيماً وَمُلْكاً كَبِيراً } أي مملكة لله هناك عظيمة ، وسلطاناً باهراً ، وثبت في الصحيح(1/2647)
« أن الله تعالى يقول لآخر أهل النار خروجاً منها ، وآخر أهل الجنة دخولاً إليها : » إن لك مثل الدنيا وعشرة أمثالها « » ، وفي الحديث عن ابن عمر مرفوعاً : « إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه » فإذا كان هذا عطاؤه تعالى لأدنى من يكون في الجنة ، فما ظنك بما هو أعلى منزلة وأحظى عنده تعالى؟ .
وقوله جلَّ جلاله : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } أي لباس أهل الجنة فيها الحرير ( السندس ) وهو رفيع الحرير كالقمصان ونحوها مما يلي أبدانهم ، و ( الاستبرق ) وهو ما فيه بريق ولمعان وهو مما يلي الظاهر ، كما هو المعهود في اللباس ، { وحلوا أَسَاوِرَ مِن فِضَّةٍ } وهذه صفة الأبرار ، وأما المقربون فكما قال تعالى : { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الحج : 23 ، فاطر : 33 ] لما ذكر تعالى زينة الظاهر بالحرير والحلي قال بعده : { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } أي طهر بواطنهم من الحسد والحقد ، والغل والأذى وسائر الأخلاق الرديئة ، كما روينا عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : إذا انتهى أهل الجنة إلى باب الجنة وجدوا هنالك عينين فكأنما ألهموا ذلك فشربوا من إحداهما ، فأذهب الله ما في بطونهم من أذى ، ثم اغتسلوا من الأُخرى ، فجرت عليهم نضرة النعيم ، فأخبر سبحانه وتعالى بحالهم الظاهر وجمالهم الباطن ، وقوله تعالى : { إِنَّ هذا كَانَ لَكُمْ جَزَآءً وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } أي يقال لهم ذلك تكريماً لهم وأحساناً إليهم كما قال تعالى : { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية } [ الحاقة : 24 ] ، وكقوله تعالى : { ونودوا أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 43 ] وقوله تعالى : { وَكَانَ سَعْيُكُم مَّشْكُوراً } أي جزاكم الله تعالى على القليل بالكثير .(1/2648)
إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلَا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا (24) وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (25) وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا (26) إِنَّ هَؤُلَاءِ يُحِبُّونَ الْعَاجِلَةَ وَيَذَرُونَ وَرَاءَهُمْ يَوْمًا ثَقِيلًا (27) نَحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَا أَسْرَهُمْ وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَا أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلًا (28) إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (29) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (31)
يقول تعالى ممتناً على رسوله صلى الله عليه وسلم بما أنزله عليه من القرآن العظيم ، { فاصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ } أي كما أكرمتك بما أنزلت عليك فاصبر على قضائه وقدره ، واعلم أنه سيدبرك بحسن تدبيره ، { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } أي لا تطع الكافرين والمنافقين إن أرادوا صدك عما أنزل إليك ، بل بلغ ما أنزل إليك من ربك وتوكل على الله فإن الله يعصمك من الناس ، فالآثم هو الفاجر في أفعاله والكفور هو الكافر قلبه ، { واذكر اسم رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي أول النهار وآخره ، { وَمِنَ الليل فاسجد لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً } ، كقوله تعالى : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] الآية ، وكقوله تعالى : { ياأيها المزمل * قُمِ اليل إِلاَّ قَلِيلاً } [ المزمل : 1-2 ] ، ثم قال تعالى منكراً على الكفّار ومن أشبههم حب الدنيا والإقبال عليها ، وترك الدار الآخرة وراء ظهورهم ، { إِنَّ هؤلاء يُحِبُّونَ العاجلة وَيَذَرُونَ وَرَآءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً } يعني يوم القيامة ، ثم قال تعالى : { نَّحْنُ خَلَقْنَاهُمْ وَشَدَدْنَآ أَسْرَهُمْ } ، قال ابن عباس مجاهد : يعني خلقهم { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } أي وإذا شئنا بعثنا يوم القيامة ، وبدلناهم فأعدناهم خلقاً جديداً ، وهذا استدلال بالبداءة على الرجعة ، وقال ابن جرير : { وَإِذَا شِئْنَا بَدَّلْنَآ أَمْثَالَهُمْ تَبْدِيلاً } أي وإذا شئنا أتينا بقوم آخرين غيرهم كقوله تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً } [ النساء : 133 ] ، وكقوله تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ } [ إبراهيم : 19-20 ، فاطر : 16-17 ] ثم قال تعالى : { إِنَّ هذه تَذْكِرَةٌ } يعني هذه السورة تذكرة ، { فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } أي طريقاً ومسلكاً ، أي من شاء اهتدى بالقرآن ، { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله إِنَّ الله } أي لا يقدر أحد أن يهدي نفسه ولا يدخل في الإيمان ولا يجر لنفسه نفعاً { إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أي عليم بمن يستحق الهداية فييسرها له ويقيض له أسبابها ، ومن يستحق الغواية فيصرفه عن الهدى ، وله الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } ، ثم قال : { يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمين أَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، فمن يهده فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له .(1/2649)
وَالْمُرْسَلَاتِ عُرْفًا (1) فَالْعَاصِفَاتِ عَصْفًا (2) وَالنَّاشِرَاتِ نَشْرًا (3) فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا (4) فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا (5) عُذْرًا أَوْ نُذْرًا (6) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9) وَإِذَا الْجِبَالُ نُسِفَتْ (10) وَإِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الْفَصْلِ (14) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)
روى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة { والمرسلات عُرْفاً } قال : هي الملائكة ، وروي عن أبي صالح أنه قال : هي الرسل . وقال الثوري ، عن أبي العبيدين قال : سألت ابن مسعود عن المرسلات عرفاً ، قال : الريح : وكذا قال في : { العاصفات عَصْفاً * والناشرات نَشْراً } إنها الريح ، وكذا قال ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وتوقف ابن جرير في : { المرسلات عُرْفاً } هل هي الملائكة إذا أرسلت بالعرف ، أو كعرف الفرس يتبع بعضهم بعضاً ، أو هي الرياح إذا هبت شيئاً فشيئاً؟ وقطع بأن { العاصفات عَصْفاً } الرياح ، وتوقف في { الناشرات نَشْراً } هل هي الملائكة أو الريح كما تقدم ، وعن أبي صالح أن { الناشرات نَشْراً } هي المطر ، والأظهر أن { المرسلات } هي الرياح ، كما قال تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } [ الحجر : 22 ] ، وقال تعالى : { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } [ الأعراف : 57 ] ، وهكذا { العاصفات } هي الرياح ، يُقال : عصفت الرياح إذا هبت بتصويت ، وكذا { الناشرات } هي الرياح التي تنشر السحاب في آفاق السماء كما يشاء الرب عزَّ وجلَّ ، وقوله تعالى : { فالفارقات فَرْقاً * فالملقيات ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً } يعني الملائكة فإنها تنزل بأمر الله على الرسل تفرق بين الحق والباطل ، والهدى والغي ، والحلال والحرام ، وتلقى إلى الرسل وحياً فيه إعذار إلى الخلق ، وإنذار لهم عقاب الله إن خالفوا أمره ، وقوله تعالى : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ } هذا هو المقسم عليه أي ما وعدتم به من قيام الساعة والنفخ في الصور وبعث الأجساد وجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ومجازاة كل عامل بعمله إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، إن هذا كله لواقع أي كائن لا محالة ، ثم قال تعالى : { فَإِذَا النجوم طُمِسَتْ } أي ذهبت ضوءها كقوله تعالى : { وَإِذَا النجوم انكدرت } [ التكوير : 2 ] ، وقوله : { وَإِذَا السمآء فُرِجَتْ } أي فطرت وانشقت وتدلت أرجاؤها ووهت أطرافها ، { وَإِذَا الجبال نُسِفَتْ } أي ذهب بها فلا يبقى لها عين ولا أثر ، كقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] الآية ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 47 ] وقوله تعالى : { وَإِذَا الرسل أُقِّتَتْ } قال ابن عباس : جمعت ، كقوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل } [ المائدة : 109 ] وقال مجاهد : { أُقِّتَتْ } أجلت ، ثم قال تعالى : { لأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ * لِيَوْمِ الفصل * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } يقول تعالى : لأي يوم أجلت الرسل وأرجىء أمرها حتى تقوم الساعة ، كما قال تعالى : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام } [ إبراهيم : 47 ] وذلك في يوم الفصل كما قال تعالى : { لِيَوْمِ الفصل } ثم قال تعالى معظماً لشأه : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الفصل } ؟ { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي ويل لهم من عذاب الله غداً .(1/2650)
أَلَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (20) فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (21) إِلَى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ الْقَادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفَاتًا (25) أَحْيَاءً وَأَمْوَاتًا (26) وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتًا (27) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28)
يقول تعالى : { أَلَمْ نُهْلِكِ الأولين } يعني المكذبين للرسل المخالفين لما جاءهم به ، { ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الآخرين } أي ممن أشبههم ، ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ، ثم قال تعالى ممتناً على خلقه ومحتجاً على الإعادة بالبداءة : { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } أي ضعيف حقير بالنسبة إلى قدرة الباري عزَّ وجلَّ ، كما تقدم في سورة يس : « ابن آدم أنّى تعجزني ، وقد خلقتك من مثل هذه؟ » { فَجَعَلْنَاهُ فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } يعني جمعناه في الرحم ، وهو حافظ لما أودع فيه من الماء ، وقوله تعالى : { إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ } يعني إلى مدة معينة من ستة أشهر أو تسعة أشهر ، ولهذا قال تعالى : { فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ، ثم قال تعالى : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض كِفَاتاً * أَحْيَآءً وَأَمْواتاً } قال مجاهد : يكفت الميت فلا يرى منه شيء ، وقال الشعبي : بطنها لأمواتكم وظهرها لأحيائكم ، { وَجَعَلْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ شَامِخَاتٍ } يعني الجبال رسى بها الأرض لئلا تميد وتضطرب ، { وَأَسْقَيْنَاكُم مَّآءً فُرَاتاً } أي عذباً زلالاً من السحاب ، أو مما أنبعه من عيون الأرض ، { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي ويل لمن تأمل هذه المخلوقات ، الدّالة على عظمة خالقها ، ثم بعد هذا يستمر على تكذيبه وكفره .(1/2651)
انْطَلِقُوا إِلَى مَا كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلَى ظِلٍّ ذِي ثَلَاثِ شُعَبٍ (30) لَا ظَلِيلٍ وَلَا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمَالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هَذَا يَوْمُ لَا يَنْطِقُونَ (35) وَلَا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْنَاكُمْ وَالْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كَانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)
يقول تعالى مخبراً عن الكفار المكذبين بالمعاد والجزاء أنهم يُقال لهم يوم القيامة { انطلقوا إلى مَا كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ * انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ } يعني لهب النار إذا ارتفع وصعد معه دخان ، فمن شدته وقوته أن له ثلاث شعب ، { لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللهب } أي ظل الدخان المقابل للهب لا ظليل في هو في نفسه { وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللهب } يعني ولا يقيم حزّ اللهب ، قوله تعالى : { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقصر } أي يتطاير الشرر من لهبها كالقصر ، قال ابن مسعود : كالحصون ، وقال ابن عباس ومجاهد : يعني أُصول الشجر { كَأَنَّهُ جمالت صُفْرٌ } أي كالإبل السود ، قال مجاهد والحسن واختاره ابن جرير ، وعن ابن عباس { جمالت صُفْرٌ } يعني حبال السفن وعنه { جمالت صُفْرٌ } : قطع نحاس ، عبد الرحمن بن عباس : قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما : { إِنَّهَا تَرْمِي بِشَرَرٍ كالقصر } قال : كنا نعمد إلى الخشبة ثلاثة أذرع ، وفوق ذلك فنرفعه للبناء ، فنسميه القصر { كَأَنَّهُ جمالت صُفْرٌ } حبال السفن تجمع حتى تكون كأوساط الرجال { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ثم قال تعالى : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ } أي لا يتكلمون ، { وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } أي لا يقدرون على الكلام ولا يؤذن لهم فيه ليتعذروا بل قد قامت عليهم الحجة ، ووقع القول عليهم بما ظلموا فهم لا ينطقون ، وعرصات القيامة حالات ، والرب تعالى يخبر عن هذه الحارة تارة وعن هذه الحارة تارة ، ليدل على شدة الأهوال والزلازل يومئذٍ ، ولهذا يقول بعد كل فصل من هذا الكلام { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ، وقوله تعالى : { هذا يَوْمُ الفصل جَمَعْنَاكُمْ والأولين * فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ } وهذه مخاطبة من الخالق تعالى لعباده يقول لهم : { هذا يَوْمُ الفصل جَمَعْنَاكُمْ والأولين } يعني أنه جمعهم بقدرته في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، وقوله تعالى : { فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ } ، تهديد شديد ووعيد أكيد أي إن قدرتم على أن تتخلصوا من قبضتي ، وتنجوا من حكمي فافعلوا ، فإنكم لا تقدرون على ذلك ، كما قال تعالى : { يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } [ الرحمن : 33 ] . عن عبادة بن الصامت أنه قال : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ينفذهم ويسمعهم الداعي ويقول الله : { هذا يَوْمُ الفصل جَمَعْنَاكُمْ والأولين * فَإِن كَانَ لَكمُ كَيْدٌ فَكِيدُونِ } اليوم لا ينجو مني جبار عنيد ، ولا شيطان مريد .(1/2652)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلَالٍ وَعُيُونٍ (41) وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45) كُلُوا وَتَمَتَّعُوا قَلِيلًا إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لَا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)
يقول تعالى مخبراً عن عبادة المتقين ، إنهم يوم القيامة يكونون في جنات وعيون أي بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من ظل اليحموم وهو الدخان الأسود المنتن ، وقوله تعالى : { وَفَوَاكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ } أي ومن سائر أنواع الثمار مهما طلبوا وجدوا ، { كُلُواْ واشربوا هنيائا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي يقال لهم ذلك على سبيل الإحسان إليهم ، ثم قال تعالى : { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } أي جزاؤنا لمن أحسن العمل ، { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ، وقوله تعالى : { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } خطاب للمكذبين بيوم الدين ، وأمرهم أمر تهديد ووعيد ، فقال تعالى : { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً } أي مدة قليلة قريبة قصيرة . { إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } أي ثم تساقون إلى نار جهنم التي تقدم ذكرها ، { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ، كما قال تعالى : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] ، وقال تعالى : { ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ يونس : 70 ] . وقوله تعالى : { وَإذَا قِيلَ لَهُمُ اركعوا لاَ يَرْكَعُونَ } أي إذا أمر هؤلاء الجهلة من الكفار أن يكونوا من المصلين مع الجماعة امتنعوا من ذلك واستكبروا عنه ولهذا قال تعالى : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } ، ثم قال تعالى : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } ؟ أي إذا لم يؤمنوا بهذا القرآن فبأي كلام يؤمنون به؟ كقوله تعالى : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وءاياته يُؤْمِنُونَ } [ الجاثية : 6 ] روي عن أبي هريرة : « إذا قرأ { والمرسلات عُرْفاً } [ المرسلات : 1 ] فقراً { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } فليقل آمنت بالله وبما أنزل » .(1/2653)
عَمَّ يَتَسَاءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (4) ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ (5) أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا (6) وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا (7) وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجًا (8) وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتًا (9) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا (10) وَجَعَلْنَا النَّهَارَ مَعَاشًا (11) وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعًا شِدَادًا (12) وَجَعَلْنَا سِرَاجًا وَهَّاجًا (13) وَأَنْزَلْنَا مِنَ الْمُعْصِرَاتِ مَاءً ثَجَّاجًا (14) لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَنَبَاتًا (15) وَجَنَّاتٍ أَلْفَافًا (16)
يقول تعالى منكراً على المشركين في تساؤلهم عن يوم القيامة إنكاراً لوقوعها : { عَمَّ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ النبإ العظيم } أي : عن أي شيء يتساءلون عن أمر القيامة ، وهو النبأ العظيم : يعني الخبر الهائل المفظع الباهر ، قال قتادة : النبأ العظيم : البعث بعد الموت ، وقال مجاهد : هو القرآن ، والأظهر الأول ، لقوله : { الذي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ } يعني الناس فيه مؤمن به وكافر ، ثم قال تعالى متوعداً لمنكري القيامة : { كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ } وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، ثم شرع تبارك وتعالى يبين قدرته العظيمة على خلق الأشياء الغريبة والأمور العجيبة ، الدالة على قدرته على ما يشاء من أمر المعاد وغيره ، فقال : { أَلَمْ نَجْعَلِ الأرض مِهَاداً } أي ممهدة للخلائق ذلولاً لهم ، قارة ساكنة ثابتة { والجبال أَوْتَاداً } أي جعلها لها أوتاداً ، أرساها بها وثبتها وقررها ، حتى سكنت ولم تضطرب بمن عليها ، ثم قال تعالى : { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } يعني ذكراً وأنثى ، يتمتع كل منهما بالآخر ، ويحصل التناسل بذلك كقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } [ الروم : 21 ] ، وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا نَوْمَكُمْ سُبَاتاً } أي قطعاً للحركة لتحصل الراحة من كثرة الترداد ، والسعي في المعايش في عرض النهار ، { وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً } إي يغشى الناس بظلامه وسواده ، كما قال : { والليل إِذَا يَغْشَاهَا } [ الشمس : 4 ] ، وقال قتادة { وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً } أي سكناً ، وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } أي جعلناه مشرقاً نيراً مضيئاً ليتمكن الناس من التصرف فيه والذهاب والمجيء للمعاش والتكسب والتجارات وغير ذلك .
وقوله تعالى : { وَبَنَيْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِدَاداً } يعني السماوات والسبع في اتساعها وارتفاعها ، وإحكامها وإتقانها وتزيينها بالكواكب الثوابت والسيارات ، ولهذا قال تعالى : { وَجَعَلْنَا سِرَاجاً وَهَّاجاً } يعني الشمس المنيرة على جميع العالم يتوهج ضوءها لأهل الأرض كلهم ، وقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ المعصرات مَآءً ثَجَّاجاً } قال ابن عباس : المعصرات : الرياح ، تستدر المطر من السحاب ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : من المعصرات أي من السحاب ، وقال الفراء : هي السحاب التي تتحلب بالمطر ولم تمطر بعد ، كما يقال : امرأة معصر إذ دنا حيضها ولم تحض ، وعن الحسن وقتادة : { مِنَ المعصرات } يعني السماوات وهذا قول غريب ، والأظهر أن المراد بالمعصرات السحاب ، كما قال تعالى : { الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السمآء كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } [ الروم : 48 ] أي من بينه ، وقوله جلَّ وعلا : { مَآءً ثَجَّاجاً } قال مجاهد : { ثَجَّاجاً } : منصباً ، وقال الثوري : متتابعاً ، وقال ابن زيد : كثيراً ، قال ابن جرير : ولا يعرف في كلام العرب في صفة الكثرة الثج ، وإنما الثج الصب المتتابع ، ومنه قول النبي صلى الله عليه وسلم : « أفضل الحج العج والثج »(1/2654)
يعني صب دماء البدن . قلت : وفي حديث المستحاضة : « إنما أثج ثجاً » وهذا في دلالة على استعمال في الصب المتتابع الكثير ، والله أعلم . وقوله تعالى : { لِّنُخْرِجَ بِهِ حَبّاً وَنَبَاتاً } أي لنخرج بهذا الماء الكثير الطيب النافع المبارك { حَبّاً } يدخر للأناسي والأنعام ، { وَنَبَاتاً } أي خضراً يؤكل رطباً ، { وَجَنَّاتٍ } أي بساتين وحدائق من ثمرات متنوعة وألوان مختلفة وطعوم وروائح متفاوتة ، وإن كان ذلك في بقعة واحدة من الأرض مجتمعاً ، ولهذا قال : { وَجَنَّاتٍ أَلْفَافاً } قال ابن عباس وغيره : ألفافاً مجتمعة ، وهذه كقوله تعالى : { فِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ الرعد : 4 ] .(1/2655)
إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كَانَ مِيقَاتًا (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجًا (18) وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19) وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا (21) لِلطَّاغِينَ مَآبًا (22) لَابِثِينَ فِيهَا أَحْقَابًا (23) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْدًا وَلَا شَرَابًا (24) إِلَّا حَمِيمًا وَغَسَّاقًا (25) جَزَاءً وِفَاقًا (26) إِنَّهُمْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ حِسَابًا (27) وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كِذَّابًا (28) وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَابًا (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذَابًا (30)
يقول تعالى مخبراً عن يوم الفصل ، وهو ( يوم القيامة ) أنه مؤقت بأجل معدود ، لا يزاد عليه ولا ينقص منه ، ولا يعلم وقته على التعيين إلا الله عزَّ وجلَّ ، كما قال تعالى : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } [ هود : 104 ] أنه { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } قال مجاهد : زمراً زمراً . قال ابن جرير : يعني تأتي كل أمة مع رسولها ، كقوله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [ الإسراء : 71 ] قال البخاري : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » ما بين النفختين أربعون « قالوا : أربعون يوماً ، قال : » أبيت « ، قالوا : أربعون شهراً؟ قال : » أبيت « ، قالوا : أربعون سنة؟ قال : » أبيت « ، قال : » ثم ينزل الله من السماء ماء فينبتون كما ينبت البقل ليس من الإنسان شيء إلا بلي إلا عظماً واحداً ، وهو ( عجب الذنب ) ومنه يركب الخلق يوم القيامة « » { وَفُتِحَتِ السمآء فَكَانَتْ أَبْوَاباً } أي طرقاً ومسالك لنزول الملائكة ، { وَسُيِّرَتِ الجبال فَكَانَتْ سَرَاباً } كقوله تعالى : { وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش } [ القارعة : 5 ] ، وقال ههنا { فَكَانَتْ سَرَاباً } أي يخيل إلى الناظر أنها شيء وليست بشيء ، وبعد هذا تذهب بالكلية فلا عين ولا أثر ، كما قال تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً } [ طه : 105107 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَاداً } أي مرصدة معدة { لِّلطَّاغِينَ } وهم المردة العصاة المخالفون للرسل ، { مَآباً } أي مرجعاً ومنقلباً ومصيراً ونزلاء ، وقال الحسن وقتادة : لا يدخل أحد الجنة حتى يجتاز النار ، فإن كان معه جواز نجا وإلا احتبس ، وقوله تعالى : { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } أي ماكثين فيها أحقاباً وهي جمع حقب وهو المدة من الزمان ، وقد اختلفوا في مقداره ، فقال ابن جرير ، قال علي بن أبي طالب لهلال الهجري : ما تجدون الحقب في كتاب الله المنزل؟ قال : نجده ثمانين سنة ، كل سنة اثنا عشر شهراً ، كل شهر ثلاثون يوماً ، كل يوم ألف سنة ، وعن الحسن والسدي : سبعون سنة . وعن عبد الله بن عمرو : الحقب أربعون سنة ، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون ، وقال بشيربن كعب : ذكر لي أن الحقب الواحد ثلثمائة سنة ، أثنا عشر شهراً ، كل سنة ثلثمائة وستون يوماً ، كل يوم منها كألف سنة . وقال السدي : { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } سبعمائة حقب ، كل حقب سبعون سنة ، كل سنة ثلثمائة وستون يوماً ، كل يوم كألف سنة مما تعدون ، وقال خالد بن معدان هذه الآية ، وقوله تعالى : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ }(1/2656)
[ هود : 107-108 ] في أهل التوحيد ، قال بن جرير : والصحيح أنها لا انقضاء لها ، كما روي عن سالم : سمعت الحسن يسأل عن قوله تعالى : { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } قال أما الأحقاب فليس لها عدة إلا الخلود في النار ، ولكن ذكروا أن الحقب سبعون سنة ، كل يوم منها كألف سنة مما تعدون ، وقال قتادة ، قال الله تعالى : { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } وهو ما لا انقطاع له وكلما مضى حقب جاء حقب بعده . وقال الربيع بن أنس : { لاَّبِثِينَ فِيهَآ أَحْقَاباً } لا يعلم عدة هذه الأحاب إلا الله عزَّ وجلَّ ، وذكر لنا أن الحقب الواحد ثمانون سنة ، والسنة ثلثمائة وستون يوماً ، كل يوم كألف سنة مما تعدون .
وقوله تعالى : { لاَّ يَذُوقُونَ فِيهَا بَرْداً وَلاَ شَرَاباً } أي لا يجدون في جهنم برداً لقلوبهم ، ولا شراباً طيباً يتغذون به ، ولهذا قال تعالى : { إِلاَّ حَمِيماً وَغَسَّاقاً } ، وقال أبو العالية : استثنى من البرد الحميم ، ومن الشارب الغساق ، قال الربيع بن أنَس : فأما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى حره وحمُّوه ، والغساق هو ما اجتمع من صديد أهل النار ، وعرقهم ودموعهم وجروحهم ، فهو بارد لا يستطاع من برده ولا يواجه من نتنه ، وقوله تعالى : { جَزَآءً وِفَاقاً } أي هذا الذي صاروا إليه من هذه العقوبة ، وفق أعمالهم الفاسدة التي كانوا يعملونها في الدنيا ، ثم قال تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ حِسَاباً } أي لم يكونوا يعتقدون أن ثم داراً يجازون فيها ويحاسبون ، { وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا كِذَّاباً } أي وكانوا يكذبون بحجج الله ودلائله على خلقه التي أنزلها على رسُلِهِ صلوات الله وسلامه عليهم فيقابلونها بالتكذيب والمعاندة ، وقوله { كِذَّاباً } أي تكذيباً ، وهو مصدر من غير الفعل ، وقوله تعالى : { وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ كِتَاباً } أي وقد علمنا أعمال العباد وكتبناها عليهم ، وسنجزيهم على ذلك إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، وقوله تعالى : { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } أي يقال لأهل النار ذوقوا ما أنتم فيه فلن نزيدكم إلاّ عذاباً من جنسه وآخر من شكله أزواج قال قتادة : لم ينزل على آية أشد من هذه الآية { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } فهم في مزيد من العذاب أبداً .(1/2657)
إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازًا (31) حَدَائِقَ وَأَعْنَابًا (32) وَكَوَاعِبَ أَتْرَابًا (33) وَكَأْسًا دِهَاقًا (34) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا كِذَّابًا (35) جَزَاءً مِنْ رَبِّكَ عَطَاءً حِسَابًا (36)
يقول تعالى مخبراً عن السعداء ، وما أعد الله تعالى لهم من الكرامة والنعيم المقيم ، فقال تعالى : { إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفَازاً } قال ابن عباس متنزهاً ، وقال مجاهد : فازوا فنجوا من النار ، والأظهر ههنا قول ابن عباس لأنه قال بعده : { حَدَآئِقَ } والحدائق البساتين من النخيل وغيرها ، { وَأَعْنَاباً * وَكَوَاعِبَ أَتْرَاباً } أي وحوراً كواعب ، قال ابن عباس ومجاهد { كَوَاعِبَ } أي نواهد ، يعنون أن ثديهن نواهد لهم يتدلين ، لأنهن أبكار ( عرب أتراب ) أي في سن واحد ، كما تقدم بيانه في سورة الواقعة ، روى ابن أبي حاتم ، عن ابن أبي القاسم الدمشقي ، عن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن قمص أهل الجنة لتبدو من رضوان الله ، وأن السحابة لتمر بهم فتناديهم : يا أهل الجنة ماذا تريدون أن أمطركم؟ حتى إنها لتمطرهم الكواعب الأتراب » . وقوله تعالى : { وَكَأْساً دِهَاقاً } قال ابن عباس : مملوءة متتابعة ، وقال عكرمة : صافية ، وقال مجاهد والحسن { دِهَاقاً } الملأى المترعة ، وقال سعيد بن جبير : هي المتتابعة ، وقوله تعالى : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ كِذَّاباً } كقوله : { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } [ الطور : 23 ] أي ليس فيها كلام لاغ عار عن الفائدة ولا إثم كذب ، بل هي دار السلام وكل ما فيها سالم من النقص ، وقوله : { جَزَآءً مِّن رَّبِّكَ عَطَآءً حِسَاباً } أي هذا الذي ذكرناه ، جازاهم اللهبه بفضله ومنّه و إحسانه { عَطَآءً حِسَاباً } أي كافياً وافياً سالماً كثيراً ، ومنه حسبي الله ، أي الله كافيَّ .(1/2658)
رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الرَّحْمَنِ لَا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَابًا (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا (38) ذَلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شَاءَ اتَّخَذَ إِلَى رَبِّهِ مَآبًا (39) إِنَّا أَنْذَرْنَاكُمْ عَذَابًا قَرِيبًا يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَابًا (40)
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وأنه رب السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، وأنه الرحمن الذي شملت رحمته كل شيء ، وقوله تعالى : { لاَ يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطَاباً } أي لا يقدر أحد على ابتداء مخاطبته إلا بإذنه ، كقوله تعالى : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وكقوله تعالى : { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ هود : 105 ] ، وقوله تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الروح والملائكة صَفّاً لاَّ يَتَكَلَّمُونَ } اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا ما هو؟ على أقوال : أحدها : ما روي عن ابن عباس أنهم أرواح بني آدم . الثاني : هم بنو آدم ، قاله الحسن وقتادة : الثالث : أنهم خلق من خلق الله على صور بني آدم وليسوا بملائكة ولا ببشر قاله ابن عباس ومجاهد . الرابع : هو جبريل ، قال الشعبي وسعيد بن جبير والضحّاك . الخامس أنه ملك من الملائكة بقدر جميع المخلوقات ، قال ابن عباس : هو ملك عظيم من أعظم الملائكة خلقاً ، والأشبه عندي - والله أعلم - أنهم بنو آدم ، وقوله تعالى : { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن } كقوله : { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ هود : 105 ] ، وكما ثبت في الصحيح : « ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل » ، وقوله تعالى : { وَقَالَ صَوَاباً } أي حقاً ، ومن الحق { لاَ إله إِلاَّ الله } [ الصافات : 35 ] ، كما قاله عكرمة : وقوله تعالى : { ذَلِكَ اليوم الحق } أي الكائن لا محالة ، { فَمَن شَآءَ اتخذ إلى رَبِّهِ مَآباً } أي مرجعاً وطريقاً يهتدي إليه ، ومنهجاً يمر به عليه ، وقوله تعالى : { إِنَّآ أَنذَرْنَاكُمْ عَذَاباً قَرِيباً } يعني يوم القيامة لتأكيد وقوعه صار قريباً ، لأن كل ماهو آت قريب ، { يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي يعرض عليه جميع أعماله خيرها وشرها . قديمها وحديثها كقوله تعالى : { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } [ الكهف : 49 ] ، وكقوله تعالى : { يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] ، { وَيَقُولُ الكافر ياليتني كُنتُ تُرَاباً } أي يود الكافر يومئذٍ أنه كان في الدار الدنيا تراباً ، ولم يكن خلق ولا خرج إلى الوجود ، وذلك حين عاين عذاب الله ، ونظر إلى أعماله الفاسدة قد سطرت عليه بأيدي الملائكة السفرة الكرام البررة ، وقيل : إنما يود ذلك حين يحكم الله بين الحيوانات التي كانت في الدنيا ، فيفصل بينها بحكمه العدل الذي لا يجوز ، حتى نه ليقتص للشاة الجماء من القرناء ، فإذا فرع من الحكم بينها قال لها : كوني تراباً فعند ذلك يقول الكافر { ياليتني كُنتُ تُرَاباً } أي كنت حيواناً فأرجع إلى التراب ، وقد ورد معنى هذا في حديث الصور المشهور ، وورد فيه آثار عن أبي هريرة وعبد الله بن عمرو وغيرهما .(1/2659)
وَالنَّازِعَاتِ غَرْقًا (1) وَالنَّاشِطَاتِ نَشْطًا (2) وَالسَّابِحَاتِ سَبْحًا (3) فَالسَّابِقَاتِ سَبْقًا (4) فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ (8) أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ (9) يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحَافِرَةِ (10) أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا نَخِرَةً (11) قَالُوا تِلْكَ إِذًا كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ (12) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ (13) فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)
{ والنازعات غَرْقاً } : الملائكة حين تنزع أرواح بني آدم ، فمنهم من تأخذ روحه بعسر فتغرق في نزعها ، ومنهم من تأخذ روحه بسهولة وكأنما حلته من نشاط ، وهو قوله : { والناشطات نَشْطاً } قاله ابن عباس وغيره ، وعنه { والنازعات } : هي أنفس الكفّار تنزع ثم تنشط ثم تغرق في النار ، وقال مجاهد : { والنازعات غَرْقاً } : الموت . وقال الحسن وقتادة { والنازعات غَرْقاً * والناشطات نَشْطاً } : هي النجوم ، والصحيح الأوّل وعليه الأكثرون . وأما قوله تعالى : { والسابحات سَبْحاً } فقال ابن مسعود : هي الملائكة ، وقال قتادة : هي النجوم ، وقال عطاْ : هي السفن ، وقوله تعالى : { فالسابقات سَبْقاً } : يعني الملائكة ، قال الحسن : سبقت إلى الإيمان والتصديق ، وقال قتادة : هي النجوم ، وقال عطاء : هي الخيل في سبيل الله ، وقوله تعالى : { فالمدبرات أَمْراً } قال علي ومجاهد : هي الملائكة تدبر الأمر من السماء والأرض ، يعني بأمر ربها عزَّ وجلَّ ، وقوله تعالى : { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة } قال ابن عباس : هما النفختان الأولى والثانية ، قال مجاهد : أما الأولى { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة } فكقوله جلَّت عظمته : { يَوْمَ تَرْجُفُ الأرض والجبال } [ المزمل : 14 ] ، وأما الثانية وهي الرادفة ، كقوله : { وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً } [ الحاقة : 14 ] ، وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » جاءت الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه « فقال رجل : يا رسول الله أرأيت إن جعلت صلاتي كلها عليك؟ قال : » إذاً يكفيك الله ما أهمك من دنياك وآخرتك « » رواه أحمد والترمذي ، ولفظ الترمذي : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال : » يا أيها الناس اذكروا الله جاءت الراجفة تتبعها الرادفة جاء الموت بما فيه « » وقوله تعالى : { قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } قال ابن عباس : يعني خائفة { أَبْصَارُهَا خَاشِعَةٌ } أي أبصار أصحابها وإنما أضيفت إليها للملابسة ، أي ذليلة حقيرة مما عاينت من الأهوال .
وقوله تعالى : { يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة } يعني مشركي قريش ، يستبعدون وقوع البعث بعد المصير إلى { الحافرة } وهي القبور وبعد تمزق أجسادهم وتفتت عظامهم ونخورها ، ولهذا قالوا : { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً } وقرىء : ناخرة أي بالية ، قال ابن عباس : وهو العظم إذا بلي ودخلت الريح فيه ، { قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } . وعن ابن عباس وقتادة : الحافرة الحياة بعد الموت ، وقال ابن زيد : الحافرة النار ، وما أكثر أسماءها! هي النار والجحيم وسقر وجهنم والهاوية والحافرة ولظى والحطمة ، وأما قولهم : { تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } فقال محمد بن كعب ، قالت قريش : لرئن أحيانا الله بعد أن نموت لنخسرن ، قال الله تعالى : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بالساهرة } أي فإنما هو أمر من الله لا مثنوية فيه ولا تأكيد فإذا الناس قيام ينظرون ، وهو أن يأمر تعالى إسرافيل فينفخ في الصور نفخة البعث ، فإذا الألولون والآخرون قيام بين يدي الرب عزَّ وجلَّ ينظرون ، كما قال تعالى :(1/2660)
{ يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 52 ] وقال تعالى : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } [ القمر : 50 ] وقال تعالى : { وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النحل : 77 ] قال مجاهد : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ } صيحة واحدة ، وأشد ما يكون الرب عزَّ وجلَّ غضباً على خلقه يوم يبعثهم ، قال الحسن البصري : زجرة من الغضب ، وقوله تعالى : { فَإِذَا هُم بالساهرة } قال ابن عباس : الساهرة الأرض كلها ، وقال عكرمة والحسن : الساهرة وجه الأرض ، قال مجاهد : كانوا بأسفلها فأخرجوا إلى أعلاهالا ، عن سهل بن سعد الساعدي { فَإِذَا هُم بالساهرة } قال : أرض بيضاء عفراء خالية كالخبزة النّقي ، وقال الربيع بن آنس : { فَإِذَا هُم بالساهرة } يقول الله عزَّ وجلَّ : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات وَبَرَزُواْ للَّهِ الواحد الْقَهَّارِ } [ إبراهيم : 48 ] ، ويقول تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً } [ طه : 105-107 ] ، ويقول تعالى : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] ، وهي أرض لم يعمل عليها خطيئة ولم يهرق عليها دم .(1/2661)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (15) إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (16) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلَى أَنْ تَزَكَّى (18) وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى (19) فَأَرَاهُ الْآيَةَ الْكُبْرَى (20) فَكَذَّبَ وَعَصَى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعَى (22) فَحَشَرَ فَنَادَى (23) فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَى (24) فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكَالَ الْآخِرَةِ وَالْأُولَى (25) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشَى (26)
يخبر تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم عن عبده ورسوله موسى عليه السلام ، أنه ابتعثه إلى فرعون وأيده الله بالمعجزات ، ومع هذا استمر على كفره طغيانه حتى أخذه الله أخذ عزيز مقتدر ، وكذلك عاقبة من خالفك يا محمد وكذب بما جئت به ، ولهذا قال في آخر القصة : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى } فقوله تعالى : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ موسى } أي هل سمعت بخبره { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ } أي كلمة نداء { بالواد المقدس } أي المطهر ، { طُوًى } وهو اسم الوادي على الصحيح ، فقال له : { اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } أي تجبر وتمرد وعتا ، { فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى } أي قل له هل لك أن تجيب إلى طريقة تزكى به أي تسلم وتطيع ، { وَأَهْدِيَكَ إلى رَبِّكَ } أي أدلك إلى عبادة ربك { فتخشى } أي فيصير قلبك خاضعاً له مطيعاً خاشعاً ، بعد ما كان قاسياً خبيثاً بعيداً من الخير ، { فَأَرَاهُ الآية الكبرى } يعني فأظهر له موسى مع هذه الدعوة الحق حجة قوية ، ودليلاً واضحاً على صدق ما جاء به من عند الله ، { فَكَذَّبَ وعصى } أي فكذب بالحق ، وخالف ما أمره به من الطاعة ، { ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى } أي في مقابلة الحق بالباطل وهو جمعه السحرة ، ليقابلوا ما جاء به موسى عليه السلام من المعجزات الباهرات { فَحَشَرَ فنادى } أي في قومه ، { فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } قال ابن عباس و مجاهد : وهذه الكلمة قالها فرعون بعد قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] بأربعين سنة ، قال الله تعالى : { فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى } أي انتقم الله منه انتقاماً جعله به عبرة ونكالاً لأمثاله من المتمردين في الدنيا ، { وَيَوْمَ القيامة بِئْسَ الرفد المرفود } [ هود : 99 ] ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ } [ القصص : 41 ] ، وهذا هو الصحيح في معنى الآية أن المراد بقوله : { نَكَالَ الآخرة والأولى } أي الدنيا والآخرة ، وقيل : المراد بذلك كلمتاه الأولى والثانية ، وقيل : كفره وعصيانه ، والصحيح الأول ، وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِّمَن يخشى } أي لمن يتعظ وينزجر .(1/2662)
أَأَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ بَنَاهَا (27) رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا (28) وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا (29) وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا (30) أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا (31) وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا (32) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (33)
يقول تعالى محتجاً على منكري البعث في إعادة الخلق بعد بدئه { أَأَنتُمْ } أيها الناس { أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء } يعني بل السماء أشد خلقاً منكم كما قال تعالى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 57 ] ، وقوله تعالى : { بَنَاهَا } فسره بقوله : { رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا } أي جعلها عالية البناء ، بعيدة الفناء ، متسوة الأرجاء ، مكللة بالكواكب في الليلة الظلماء ، وقوله تعالى : { وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أي جعل ليلها مظلماً أسود حالكاً ، ونهارها مضيئاً مشرقاً واضحاً ، قال ابن عباس : أغطش ليلها أظلمه ، { وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا } أي أنار نهارها ، وقوله تعالى : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } فسّره بقوله تعالى : { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا } وقد تقدم في سورة « حم السجدة » أن الأرض خلقت قبل خلق السماء ، ولكن إنما دحيت بعد خلق السماء بمعنى أنه أخرج ما كان فيها بالقوة إلى الفعل ، عن ابن عباس { دَحَاهَا } ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وشقق فيها الأنهار ، وجعل فيها الجبال والرمال والسبل الآكام فذلك قوله : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } ، وقد تقدم تقرير ذلك هناك ، وقوله تعالى : { والجبال أَرْسَاهَا } أي قررها وأثبتها في أماكنها ، وهو الحكيم العليم ، الرؤوف بخلقه الرحيم . وقوله تعالى : { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } أي دحا الأرض فأتبع عيونها ، وأظهر مكنونها ، وأجرى أنهارها ، وأنبت زروعها وأشجارها وثبت جبالها لتستقر بأهلها ويقر قرارها ، كل ذلك متاعاً لخلقه ولما يحتاجون إليه من الأنعام ، التي يأكلونها ويركبونها مدة احتياجهم إليها في هذه الدار ، إلى أن ينتهي الأمد وينقضي الأجل .(1/2663)
فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ مَا سَعَى (35) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرَى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغَى (37) وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (38) فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَى (39) وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى (41) يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْرَاهَا (43) إِلَى رَبِّكَ مُنْتَهَاهَا (44) إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشَاهَا (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا (46)
يقول تعالى : { فَإِذَا جَآءَتِ الطآمة الكبرى } وهو يقوم القيامة ، قاله ابن عباس سميت بذلك ، لأنها تطم على كل أمر هائل مفظع ، كما قال تعالى : { والساعة أدهى وَأَمَرُّ } [ القمر : 46 ] ، { يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإنسان مَا سعى } أي حنيئذٍ يتذكر ابن آدم جميع عمله ، خيره وشره كما قال تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى } [ الفجر : 23 ] ، و { وَبُرِّزَتِ الجحيم لِمَن يرى } أي أظهرت للناظرين فرآها الناس عياناً ، { فَأَمَّا مَن طغى } أي تمرد وعتا ، { وَآثَرَ الحياة الدنيا } أي قدمها على أمر دينه وأُخراه ، { فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى } ، أي فإن مصيره إلى الجحيم وإن مطعمه من الزقوم ومشربه من الحميم ، { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النفس عَنِ الهوى } أي خاف القيام بين يدي الله عز وجل ، وخاف حكم الله فيه ، ونهى نفسه عن هواها ، وردها إلى طاعة مولاها ، { فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } أي منقلبة ومصيره إلى الجنة الفيحاء ، ثم قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إلى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ } أي ليس علمها إليك ولا إلى أحد من الخلق ، بل مردها ومرجعها إلى الله عزَّ وجلَّ ، فهو الذي يعلم وقتها على التعيين { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله } [ الأحزاب : 63 ] ، وقال هاهنا : { إلى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ } ، ولهذا « لما سأل جبريل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن وقت الساعة ، قال : » ما المسؤول عنها بأعلم من السائل « » ، وقوله تعالى : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا } أي إنما بعتك لتنذر الناس ، وتحذرهم من بأس الله وعذابه ، فمن خشي الله وخاف مقامه ووعيده اتبعك فأفلح وأنجح ، والخيبة والخسار على من كَذَّبك وخالفك ، وقوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } أي إذا قاموا من قبورهم إلى المحشر يستقصرون مدة الحياة الدنيا ، وحتى كأنها ع ندهم كانت عيشة من يوم أو ضحى من يوم ، قال ابن عباس : أم عيشة فما بين الظهر إلى غروب الشمس ، { أَوْ ضُحَاهَا } ما بين طلوع الشمس إلى نصف النهار ، وقال قتادة : وقت الدنيا في أعين القوم حين عاينوا الآخرة .(1/2664)
عَبَسَ وَتَوَلَّى (1) أَنْ جَاءَهُ الْأَعْمَى (2) وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرَى (4) أَمَّا مَنِ اسْتَغْنَى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَمَا عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى (7) وَأَمَّا مَنْ جَاءَكَ يَسْعَى (8) وَهُوَ يَخْشَى (9) فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلَّا إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14) بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرَامٍ بَرَرَةٍ (16)
ذكر غير واحد من المفسرين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يوماً يخاطب بعض عظماء قريش ، وقد طمع في إسلامه ، فبينما هو يخاطبه ويناجيه إذ أقبل ابن أم مكتوم ، وكان ممن أسلم قديماً ، فجعل يسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ويلح عليه ، وود النبي صلى الله عليه وسلم أن لو كف ساعته تلك ، ليتمكن من مخاطبة ذلك الرجل طمعاً ورغبة في هدايته وعبس في وجه ابن أم مكتوم وأعرض عنه ، وأقبل على الآخر ، فأنزل الله تعالى ، { عَبَسَ وتولى * أَن جَآءَهُ الأعمى * وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يزكى } أي يحصل زكاة وطهارة في نفسه ، { أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنفَعَهُ الذكرى } أي يحصل له اتعاض وازدجار عن المحارم . { أَمَّا مَنِ استغنى * فَأَنتَ لَهُ تصدى } أي أما الغني فأنت تَعرَّض له لعله يهتدي { وَمَا عَلَيْكَ أَلاَّ يزكى } أي ما أنت بمطالب به إذا لم يزك نفسه . { وَأَمَّا مَن جَآءَكَ يسعى * وَهُوَ يخشى } أي يقصدك ويؤمك أن لا ليهتدي بما تقول له ، { فَأَنتَ عَنْهُ تلهى } أي تتشاغل . ومن ههنا أمر الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يخص بالإنذار أحداً ، بل يساوي فيه بين الشريف والضعيف ، والفقير والغني ، والسادة والعبيد ، والرجال والنساء ، والصغار والكبار ، ثم الله تعالى يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة ، روى الحافظ أبو يعلى عن أنَس رضي الله عنه في قوله : { عَبَسَ وتولى } قال : جاء ابن أم مكتوم إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو يكلم ( أبيّ بن خلف ) فأعرض عنه ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { عَبَسَ وتولى * أَن جَآءَهُ الأعمى } فكان النبي صلى الله عليه وسلم بعد ذلك يكرمه ، وعن عائشة قالت : « أنزلت { عَبَسَ وتولى } في ابن أم مكتوم الأعمى ، أتى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل يقول أرشدني . قالت : وعند رسول الله صلى الله عليه وسلم رجل من عظماء المشركين قالت : فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعرض عنه ، ويقبل على الآخر ، ويقول : » أترى بما أقول بأساً؟ فيقول : لا ، ففي هذا أنزلت : { عَبَسَ وتولى } « ، وهكذا ذكر غير واحد من السلف والخلف : أنها نزلت في ابن أم مكتوم ، والمشهور أن اسمه عبد الله ، وقوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } أي هذه الوصية بالمساواة بين الناس ، في إبلاغ العلم بين شريفهم ووضيعهم ، وقال قتادة : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ } يعني القرآن { فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } أي فمن شاء ذكر الله تعالى في جميع أموره ، ويحتمل عود الضمير إلى الوحي لدلالة الكلام عليه ، وقوله تعالى : { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ } أي هذه السورة أو العظة { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ } أي معظلة موقرة ، { مَّرْفُوعَةٍ } أي عالية القدرة ، { مُّطَهَّرَةٍ } أي من الدنس والزيادة والنقص ، وقوله تعالى : { بِأَيْدِي سَفَرَةٍ } قال ابن عباس ومجاهد : هي الملائكة ، وقال وهب بن منبه : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال قتادة : هم القراء ، وقال ابن جرير : والصحيح أن السفرة الملائكة ، والسفرة يعني بين الله تعالى وبين خلقه ، ومنه السفير الذي يسعى بين الناس في الصلح والخير ، كما قال الشاعر :(1/2665)
وما أدع السفارة بين قومي ... وما أمشي بغش إن مشيت
وقال البخاري : سفرة : الملائكة ، سفرتُ أصلحت بينهم ، وجُعلت الملائكة إذا نزلت بوحي الله تعالى وتأديته كالسفير الذي يصلح بين القوم ، وقوله تعالى : { كِرَامٍ بَرَرَةٍ } أي خَلْقهم كريم ، وأخلاقهم بارة طاهرة ، وفي الصحيح : « الذي يقرأ القرآن وهو ماهر به مع السفرة الكرام البررة ، والذي يقرؤه وهو عليه شاق له أجران » .(1/2666)
قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21) ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ (23) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا (27) وَعِنَبًا وَقَضْبًا (28) وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا (29) وَحَدَائِقَ غُلْبًا (30) وَفَاكِهَةً وَأَبًّا (31) مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ (32)
يقول تعالى ذاماً لمن أنكر البعث والنشور من بني آدم : { قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ } ، قال ابن عباس : لعن الإنسان ، وهذا الجنس الإنسان المكذب لكثرة تكذيبه { مَآ أَكْفَرَهُ } أي ما أشد كفره ، وقال ابن جرير : ويحتمل أن يكون المراد أي شيء جعله كافراً أي ما حمله على التكذيب بالمعاد؟ وقال قتادة : { مَآ أَكْفَرَهُ } ما ألعنه ، ثم بين تعالى له كيف خلقه من الشيء الحقير ، وأنه قادر على إعادته كما بدأه فقال تعالى : { مِنْ أَيِّ شَيءٍ خَلَقَهُ * مِن نُّطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ } أي قدّر أجله ورزقه وعمله وشقي أو سعيد { ثُمَّ السبيل يَسَّرَهُ } قال ابن عباس : ثم يسر عليه خروجه من بطن أمه ، وقال مجاهد : هذه كقوله تعالى : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ الإنسان : 3 ] أي بيناه له وأوضحناه وسهلنا عليه علمه ، وهذا هو الأرجح والله أعلم ، وقوله تعالى : { ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } أي أنه بعد خلقه له { أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ } أي جعله ذا قبر ، والعرب تقول قبرت الرجل إذا ولي ذلك منه . وأقبره الله ، وطردت عني فلاناً وأطرده الله ، أي جعله طريداً ، وقوله تعالى : { ثُمَّ إِذَا شَآءَ أَنشَرَهُ } أي بعثه بعد موته ، ومنه يقال البعث والنشور ، عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « » يأكل التراب كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه « ، قيل : وما هو يا رسول الله؟ قال : » مثل حبة خردل منه تنشأون « » وهذا الحديث ثابت في الصحيحين بدون هذه الزيادة ، ولفظه : « كل ابن آدم يبلى إلا عجب الذنب منه خلق وفيه يركب » ، وقوله تعالى : { كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } قال ابن جرير : يقول جل ثناؤه كلا ليس الأمر كما يقول هذا الإنسان الكافر من أنه قد أدى حق الله عليه في نفسه وماله ، { لَمَّا يَقْضِ مَآ أَمَرَهُ } يقول : لم يؤدما فرض عليه من الفرائض لربه عزّ وجلّ ، عن مجاهد قال : لا يقضي أحد أبداً كل ما افترض عليه .
وقوله تعالى : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ } فيه امتنان ، وفيه استدلال بإحياء النبات من الأرض الهامدة ، على أحياء الأجسام بعدما كانت عظاماً بالية وتراباً متمزقاً ، { أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً } أي أنزلناه من السماء على الأرض ، { ثُمَّ شَقَقْنَا الأرض شَقّاً } أي أسكناه فيها فيدخل في تخومها ، فنبت وارتفع وظهر على وجه الأرض ، { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً } ، فالحب كل ما يذكر من الحبوب ، والعنب معروف ، والقضب هو الفصفصة التي تأكلها الدواب رطبة ، ويقال لها القت أيضاً ، قال ذلك ابن عباس وقتادة ، وقال الحسن البصري : القضب العلف ، { وَزَيْتُوناً } وهو معروف ، وهو أدم وعصيره أدم ، ويستصبح به ويدهن به ، { وَنَخْلاً } يؤكل بلحاً وبسراً ، ورطباً وتمراً ، ونيئاً ومطبوخاً ، ويعتصر منه رب وخل .(1/2667)
{ وَحَدَآئِقَ غُلْباً } أي بساتين ، قال الحسن وقتادة : غلباً نخل غلاظ كرام ، وقال ابن عباس ومجاهد : كل ما التفت واجتمع ، وقال ابن عباس ايضاً { غُلْباً } الشجر الذي يستظل به ، وقال عكرمة : { غُلْباً } أي غلاظ الأوساط ، وقوله تعالى : { وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } أما الفاكهة فكل ما يتفكه به من الثمار ، قال ابن عباس : الفاكهة كل ما أكل رطباً ، والأب ما أنبت الأرض مما تأكله الدواب ولا يأكله الناس ، وفي رواية عنه : هو الحشيش للبهائم ، وقال مجاهد : الأب الكلأ ، وعن مجاهد والحسن : الأب للبهائم كالفاكهة لبني آدم ، وعن عطاء كل شيء نبت على وجه الأرض فهو أب ، وقال الضحاك : كل شيء أنبتته الأرض سوى الفاكهة فهو الأب . وقال العوفي ، عن ابن عباس : الأب : الكلأ والمرعى . روي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قرأ { عَبَسَ وتولى } [ عبس : 1 ] فلما أتى على هذه الآية : { وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } قال : قد عرفنا الفاكهة فما الأب؟ فقال لعمرك يا ابن الخطاب إن هذا لهو التكلف ، وهذا محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه ، وإلاّ فهو يعلم أنه من نبات الأرض لقوله : { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَآئِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } . وقوله تعالى : { مَّتَاعاً لَّكُمْ وَلأَنْعَامِكُمْ } أي عيشة لكم ولأنعامكم في هذه الدار ، إلى يوم القيامة .(1/2668)
فَإِذَا جَاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ (35) وَصَاحِبَتِهِ وَبَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ (41) أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)
قال ابن عباس : { الصآخة } اسم من أسماء يوم القيامة ، عظّمه الله وحذره عباده ، وقال البغوي : { الصآخة } يعني يوم القيامة ، سميت بذلك لأنها تضخ الأسماع ، أي تبالغ في إسماعها حتى تكاد تصمها ، { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ } أي يراهم ويفر منهم؛ لأن الهول عظيم ، والخطب جليل ، قال عكرمة : يلقى الرجل زوجته فيقول لها : يا هذه أي بعل كنت لك؟ فتقول : نعم البعل كنت ، وتثني بخير ما استطاعت ، فيقول لها : فإني أطلب إليك اليوم حسنة واحدة تهبيها لي لعلي أنحو مما ترين ، فتقول له : ما أيسر ما طلبت ، ولكن لا أطيق أن أعطيك شيئاً أتخوف مثل الذي تخاف ، قال : وإن الرجل ليلقى ابنه فيعلق به فيقول : يا بني أي ولد كنت لك؟ فيثني بخير ، فيقول له : يا بني إني احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك لعلي أنجو بها مما ترى فيقول ولده : يا أبتِ ما أيسر ما طلبت ، ولكني أتخوف مثل الذي تتخوف ، فلا أستطيع أن أُعطيك شيئاً ، يقول الله تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ } وفي الحديث الصحيح في أمر الشفاعة : « حتى عيسى ابن مريم يقول : لا أسأله اليوم إلاّ نفسي ، لا أسأله مريم التي ولدتني » ، عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » تحشرون حفاة عراة مشاة غرلاً « قال ، فقالت زوجته : يا رسول الله ننظر أو يرى بعضنا عورة بعض قال : » لكل امرىء يوميئذٍ شأن يغنيه « : أو قال : » ما أشغله عن النظر « » وروى النسائي عن عروة عن عائشة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » يبعث الناس يوم القيامة حفاة عراة غرلاً « فقالت عائشة : يا رسول الله فكيف بالعورات؟ فقال : » لكل امرىء منهم يومئذٍ شأن يغنيه « » وعن أنَس بن مالك قال : « سألت عائشة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله بأبي أنت وأُمي ، إني سائلتك عن حديث فتخبرني أنت به ، قال : » إن كان عندي منه علم « قالت يا نبي الله كيف يحشر الرجال؟ قال : » حفاة عراة « ثم انتظرت ساعة ، فقالت : يا رسول الله كيف يحشر النساء؟ قال : » كذلك حفاة عراة « ، قالت : واسوأتها من يوم القيامة ، قال : » وعن أي ذلك تسألين إنه قد نزل علي أية لا يضرك كان عليك ثياب ولا يكون « ، قالت : أية آية هي يا نبي الله؟ قال : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } »(1/2669)
، وقال البغوي في « تفسيره » . « عن سودة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : قال رسول الله عليه وسلم : » يبعث الناس حفاة عراة غرلاً قد ألجمهم العرف وبلغ شحوم الآذان « ، فقلت : يا رسول الله واسوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟ فقال : قد شغل الناس { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } » وقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } أي يكون الناس هنالك فريقين ، وجوه مسفرة أي مستنيرة { ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ } أي مسرورة فرحة ، قد ظهر البشر على وجوههم ، وهؤلاء هم أهل الجنة ، { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } أي يعلوها وتغشاها { قَتَرَةٌ } أي سواد ، وفي الحديث : « يلجم الكافر العرق ثم تقع الغبرة على وجوههم » ، فهو قوله تعالى : { وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } ، وقال ابن عباس { تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ } أي يغشاها سواد الوجوه ، وقوله تعالى : { أولئك هُمُ الكفرة الفجرة } أي الكفرة قلوبهم ، الفجرة في أعمالهم كما قال تعالى : { وَلاَ يلدوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً } [ نوح : 27 ] .(1/2670)
إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَإِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَإِذَا الْجِبَالُ سُيِّرَتْ (3) وَإِذَا الْعِشَارُ عُطِّلَتْ (4) وَإِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَإِذَا الْبِحَارُ سُجِّرَتْ (6) وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَإِذَا الْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9) وَإِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11) وَإِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَإِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا أَحْضَرَتْ (14)
قال ابن عباس : { إِذَا الشمس كُوِّرَتْ } يعني أظلمتن وقال العوفي عه : ذهبت ، وقال مجاهد : اضمحلت وذهبت ، وقال قتادة : ذهب ضوءها ، وقال سعيد بن جبير : { كُوِّرَتْ } غورت ، وقال زيد بن أسلم : تقع في الأرض ، قال ابن جرير : والصواب من القول عندنا في ذلك أن التكوير جمع الشيء بعضه على بعض ، ومنه تكوير العمامة وجمع الثياب بعضها إلى بضع ، فمعنى قوله تعالى : { كُوِّرَتْ } جمع بعضها إلى بعض ، ثم لفت فرمى بها ، وإذا فعل بها ذلك ذهبت ضوءها ، روي عن ابن عباس أنه قال : « يكور الله الشمس والقمر والنجوم يوم القيامة في البحر ويبعث الله ريحاً دبوراً فتضرمها ناراً » ، وروى البخاري ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « الشمس والقمر يكوران يوم القيامة » وقوله تعالى : { وَإِذَا النجوم انكدرت } أي انتثرت كما قال تعالى : { وَإِذَا الكواكب انتثرت } [ الانفطار : 2 ] . وأصل الانكدار الانصباب ، قال أبي بن كعب : ست آيات قبل يوم القيامة ، بينا الناس في أسواقهم إذ ذهب ضوء الشمس ، فبينما هم كذلك إذ تناثرت النجوم ، فبينما هم كذلك إذا وقعت الجبال على وجه الأرض ، فتحركت واضطربت واختلطت ، ففزعت الجن إلى الإنس والإنس إلى الجن ، واختلطت الدواب والطير والوحوش ، فماجوا بعضهم في بعض ، { وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ } قال : اختلطت ، { وَإِذَا العشار عُطِّلَتْ } قال : أهملها أهلها ، { وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ } قال ، قالت الجن : نحن نأتيكم بالخبر ، قال : فانطلقوا إلى البحر ، فإذا هو نار تتأجج ، قال : فبينما هم كذلك إذ تصدعت الأرض صدعة واحدة إلى الأرض السابعة السفلى ، وإلى السماء السابعة العليا ، قال : فبينما هم كذلك إذ جاءتهم الريح فأماتتهم . وقال ابن عباس : { وَإِذَا النجوم انكدرت } أي تغيرت ، وعن يزيد بن أبي مريم مرفوعاً : « انكدرت في جهنم ، وكل من عبد من دون الله فهو في جهنم ، إلاّ ما كان من عيسى وأمه ، ولو رضيا أن يعبدا لدخلاها » .
وقوله تعالى : { وَإِذَا الجبال سُيِّرَتْ } أي زالت عن أماكنها ونسفت فتركت الأرض قاعاً صفصفاً وقوله : { وَإِذَا العشار عُطِّلَتْ } عشار الإبل ، قال مجاهد : { عُطِّلَتْ } تركت وسيّبت ، وقال أُبّي بن كعب ، أهملها أهلها ، وقال الربيع بن خيثم : لم تحلب وتخلى عنها أربابها ، والمعنى في هذا كله متقارب ، والمقصود أن العشار من الإبل وهي خيارها والحوامل منها ، واحدتها عشراء قد اشتغل الناس عنها وعن كفالتها والانتفاع بها ، بما دهمهم من الأمر العظيم الهائل ، وهو أمر يوم القيامة ووقوع مقدماتها ، وقيل : بل يكون ذلك يوم القيامة يراها أصحابها ، كذلك لا سبيل لهم إليها ، وقد قيل في العشار : إنها السحاب تعطل عن المسير بين السماء والأرض لخراب الدنيا ، والراجح إنها الإبل ، والله أعلم .(1/2671)
وقوله تعالى : { وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ } أي جمعت كما قال تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [ الأنعام : 38 ] قال ابن عباس : يحشر كل شيء حتى الذباب ، وقال عكرمة : حشرها موتها ، وعن ابن عباس قال : حشر البهائم موتها وحشر كل شيء الموت غير الجن والإنس . وعن الربيع بن خيثم { وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ } قال : أتى عليها أمر الله ، وعن أُبيّ بن كعب أنه قال : { وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ } اختلطت ، قال ابن جرير : والأولى قول من قال حشرت جمعت ، قال الله تعالى : { والطير مَحْشُورَةً } [ ص : 19 ] أي مجموعة ، وقوله تعالى : { وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ } قال ابن عباس : يرسل الله عليها الرياح الدبور فتسعرها وتصير ناراً تأجج ، وفي « سنن أبي داود » : « لا يركب البحر إلاّ حاج أو معتمر أو غاز ، فإن تحت البحر ناراً وتحت النار بحراً » الحديث ، وقال مجاهد : { سُجِّرَتْ } : أوقتدت ، وقال الحسن : يبست ، وقال الضحّاك وقتادة : غاض ماؤها فذهب فلم يبق فيها قطرة ، وقال الضحّاك أيضاً : { سُجِّرَتْ } فجّرت ، وقال السدي : فتحت وصيرت ، وقوله تعالى : { وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ } أي جمع كل شكل إلى نظيره كقوله تعالى : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] أي الضرباء كل رجل مع كل قوم كانوا يعملون عمله ، روى النعمان بن بشير أن عمر بن الخطاب خطب الناس فقرأ : { وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ } قال : تزوجها أن تؤلف كل شيعة إلى شيعتهم ، يقرن بين الرجل الصالح مع الرجل الصالح ، ويقرن بين الرجل السوء مع الرجل السوء في النار ، فذلك تزويج الأنفس ، وعن ابن عباس في قوله تعالى : { وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ } قال : ذلك حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة ، وقال مجاهد : { وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ } قال : الأمثال من الناس جمع بينهم ، واختاره ابن جرير ، وقال الحسن البصري وعكرمة : زوجت الأرواج بالأبدان ، وقيل : زوج المؤمنون بالحور العين ، وزوج الكافرون بالشياطين .
وقوله تعالى : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } المؤودة هي التي كانت أهل الجاهلية يدسونها في التراب كراهية البنات ، فيوم تسأل المؤءُدة على أي ذنب قُتلت ليكون ذلك تهديداً لقاتلها ، فإنه إذا سئل المظلوم فما ظن الظالم إذاً؟ وقال ابن عباس : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ } أي سألت أي طالبت بدمها . وقد وردت أحاديث تتعلق بالموءُدة فقال الإمام أحمد عن جذامة بنت وهب أخت عكاشة قالت : « حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ناس وهو يقول : لقد هممت أن أنهى عن الغيلة فنظرت في الروم وفارس ، فإذا هم يغيلون أولادهم ، ولا يضر أولادهم ذلك شيئاً ثم سألوه عن العزل؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ذلك الوأد الخفي وهو الموءُدة سئلت « وروى الإمام أحمد عن سلمة بن يزيد الجعفي قال :(1/2672)
« انطلقت أنا وأخي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : يا رسول الله إن أمنا مليكة كانت تصل الرحم ، وتقري الضيف ، وتفعل ، هلكت في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئاً؟ قال : » لا « قلنا : فإنها كانت وأدت أُختاً لنا في الجاهلية فهل ذلك نافعها شيئاً؟ قال : » الوائدة والموءُودة في النار ، إلاّ أن يدرك الوائدة الإسلام فيعفو الله عنها « » وفي الحديث : « النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والموءُودة في الجنة » وعن قرة قال : سمعت الحسن يقول : « قيل ، يا رسول الله مَن في الجنة؟ قال : الموءُودة في الجنة » وقال ابن عباس : أطفال المشركين في الجنة ، فمن زعم أنهم في النار فقد كذب؛ يقول الله تعالى : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ * بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } ، قال ابن عباس : خهي المدفونة ، وقال عبد الرزاق : « جاء قيس بن عاصم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أودت بنات لي في الجاهلية ، قال : » أعتق عن كل واحدة منهم رقبة « قال : يا رسول الله إني صاحب إبل ، قال فانحر عن كل واحدة منهم بدنة » وقوله تعالى : { وَإِذَا الصحف نُشِرَتْ } قال الضحّاك : أعطى كل إنسان صحيفته بيمينه أو بشماله ، وقال قتادة : يا ابن آدم تملي فيها ثم تطوي ، ثم تنشر عليك يوم القيامة ، فلينظر رجل ماذا يملي في صحيفته ، وقوله تعالى : { وَإِذَا السمآء كُشِطَتْ } قال مجاهد : اجتذبت؛ وقال السدي : كشفت ، وقال الضحّاك : تنكشط فتذهب ، وقوله تعالى : { وَإِذَا الجحيم سُعِّرَتْ } قال السدي : أحميت ، وقال قتادة : أوقدت ، قال وإنما يسعرها غضب الله وخطايا بني آدم ، وقوله تعالى : { وَإِذَا الجنة أُزْلِفَتْ } قال الضحّاك : أي قربت إلى أهلها ، وقوله تعالى : { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ } هذه هو الجواب اي إذا وقعت هذه الأمور حينئذٍ تعلم كل نفس ما عملت ، وأحضر ذلك لها كما قال تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً وَمَا عَمِلَتْ مِن سواء تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدَاً بَعِيداً } [ آل عمران : 39 ] ، وقال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] . وعن زيد بن أسلم عن أبيه قال : لما نزلت : { إِذَا الشمس كُوِّرَتْ } قال عمر : لما بلغ { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّآ أَحْضَرَتْ } قال : لهذا أجري الحديث .(1/2673)
فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوَارِ الْكُنَّسِ (16) وَاللَّيْلِ إِذَا عَسْعَسَ (17) وَالصُّبْحِ إِذَا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19) ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطَاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21) وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَلَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَمَا هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (27) لِمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَمَا تَشَاءُونَ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (29)
{ فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس * الجوار الكنس } قال علي : هي النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل . وروى ابن جرير عن خالد بن عرعرة سمعت علياً ، وسئل عن { لاَ أُقْسِمُ بالخنس * الجوار الكنس } فقال : هي النجوم تخنس بالنهار وتظهر بالليل ، وكذا روي عن ابن عباس ومجاهد والحسن : أنها النجوم ، وقال بعض الأئمة : إنما قيل للنجوم الخنس ، أي في حال طلوعها ، ثم هي جوار في فلكها ، وفي حال غيبوبتها يقال لها كنّس ، من قول العرب : أوى الظبي إلى كناسه ، إذا تغيب فيه ، وروى الأعمش عن عبد الله { فَلاَ أُقْسِمُ بالخنس } قال : يقر الوحش ، وقال ابن عباس { الجوار الكنس } البقر تكنس إلى الظل ، وقال العوفي عن ابن عباس : هي الظباء ، وقال أبو الشعثاء : هي الظباء والبقر ، وتوقف ابن جرير في المراد بقوله : { الخنس * الجوار الكنس } هل هو النجوم أو الظباء وبقر الوحش؟ قال : ويحتمل أن يكون الجميع مراداً ، وقوله تعالى : { والليل إِذَا عَسْعَسَ } فيه قولان ( أحدهما ) : إقباله بظلامه ، قال مجاهد : أظلم : وقال سعيد بن جبير : إذا نشأ ، وقال الحسن البصري : إذا غشي الناس ، ( والثاني ) : إدباره ، قال ابن عباس : { إِذَا عَسْعَسَ } إذا أدبر ، وكذا قال مجاهد وقتادة والضحّاك ( إذا عسعس ) أي إذا ذهب فتولى ، وقد اختار ابن جرير أن المراد بقوله : { إِذَا عَسْعَسَ } إذا أدبر ، قال : لقوله تعالى : { والصبح إِذَا تَنَفَّسَ } أي أضاء ، واستشهد بقول الشاعر أيضاً :
حتى إذا الصبح له تنفسا ... وانجاب عنها ليلها وعسعسا
أي أدبر ، وعندي أن المراد بقوله : { إِذَا عَسْعَسَ } إذا أقبل ، وإن كان يصح استعماله في الإدبار أيضاً ، لكن الإقبال هنا أنسب ، كأنه أقسم بالليل وظلامه إذا أقبل ، وبالفجر وضيائه إذا أشرق ، كما قال تعالى : { والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى } [ الليل : 1-2 ] ، وقال تعالى : { والضحى * والليل إِذَا سجى } [ الضحى : 1-2 ] ، وقال تعالى : { فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً } [ الأنعام : 96 ] و غير ذلك من الآيات ، وقوله تعالى : { والصبح إِذَا تَنَفَّسَ } قال الضحّاك : إذا طلع ، وقال قتادة : إذا أضاء وأقبل ، وقال سعيد بن جبير : إذا نشأ ، وقال ابن جرير : يعني ضوء النهار إذا أقبل وتبيّن .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ } يعني إن هذا القرآن لتبليغ رسول كريم ، أي ملك شريف حسن الخلق بهي المنظر ، وهو ( جبريل ) عليه الصلاة والسلام ، { ذِي قُوَّةٍ } كقوله تعالى : { عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى * ذُو مِرَّةٍ فاستوى } [ النجم : 5-6 ] أي شديد الخلق شديد البطش والفعل ، { عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ } أي له مكانة عند الله عزَّ وجلَّ ومنزلة رفيعة ، { مُّطَاعٍ ثَمَّ } أي له وجاهة وهو مسموع القول مطاع في الملأ الأعلى ، قال قتادة : { مُّطَاعٍ ثَمَّ } أي في السماوات ، يعني ليس هو من أفناد الملائكة ، بل هو من السادة والأشراف ، معتنى به انتخب لهذه الرسالة العظيمة ، وقوله تعالى : { أَمِينٍ } صفة لجبريل بالأمانة ، وهذا عظيم جداً ، أن الرب عزَّ وجلَّ يزكي عبده ورسوله الملكي جبريل كما زكى عبده ورسوله البشري محمداً صلى الله عليه وسلم بقوله تعالى : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } قال الشعبي وميمون : المراد بقوله { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين } يعني ولقد رأى محمد ( جبريل ) ، الذي يأتيه بالرسالة عن الله عزَّ وجلَّ ، على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح ، { بالأفق المبين } أي البين ، وهي الرؤية الأولى كانت بالبطحاء ، وهي المذكورة في قوله :(1/2674)
{ عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى * ذُو مِرَّةٍ فاستوى * وَهُوَ بالأفق الأعلى } [ النجم : 5-7 ] ، والظاهر أن هذه السورة نزلت قبل ليلة الإسراء ، لأنه لم يذكر فيها إلاّ هذه الرؤية وهي الأولى ، وأما الثانية وهي المذكورة في قوله تعالى : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى * عِندَ سِدْرَةِ المنتهى * عِندَهَا جَنَّةُ المأوى * إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى } [ النجم : 13-16 ] فتلك إنما ذكرت في سورة النجم ، وقد نزلت بعد سورة الإسراء ، وقوله تعالى : { وَمَا هُوَ عَلَى الغيب بِضَنِينٍ } أي بمتهم ، ومنهم من قرأ ذلك بالضاد ، أي ببخيل ، بل يبذله لكل أحد . قال سفيان بن عيينه : ( ظنين ) و ( ضنين ) سواء ، ت أي ما هو بفاجر ، و ( الظنين ) المتهم ، و ( الظنين ) البخيل ، وقال قتادة : كان القرآن غيباً فأنزله الله على محمد ، فما ضنّ به على الناس بل نشره وبلغه وبذله لكل من أراده ، واختار ابن جرير قراءة الضاد . ( قلت ) : وكلاهما متواتر ومعناه صحيح كما تقدَّم ، وقوله تعالى : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } أي وما هذا القرآن بقول شيطان رجيم ، أي لا يقدر على حمله ولا يريده ولا ينبغي له ، كما قال تعالى : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ } [ الشعراء : 210-212 ] . « وقوله تعالى : { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } ؟ فأين تذهب عقولكم في تكذيبكم بهذا القرآن ، مع ظهوره ووضوحه وبيان كونه حقاً من عند الله عزَّ وجلَّ! كما قال الصديق رضي الله عنه لوفد بني حنيفة حين قدموا مسلمين ، وأمرهم فتلوا عليه شيئاً من قرآن مسيلمة الكذّاب الذي هو في غاية الهذيان والركاكة فقال : ويحكم أين تذهب عقولكم؟ والله إن هذا الكلام لم يخرج من إل » أي من إله ، وقال قتادة : { فَأيْنَ تَذْهَبُونَ } أي عن كتاب الله وعن طاعته ، وقوله تعالى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أي هذا القرآن ذكر لجميع الناس يتذكرون به ويتعظون { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } أي لمن أراد الهداية فعليه بهذا القرآن فإنه مناجاة له وهداية ، ولا هداية فيما سواه ، { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين } أي ليست المشيئة موكولة إليكم ، بل ذلك كله تابع لمشيئة الله تعالى رب العالمين ، قال سفيان الثوري : لما نزلت هذه الآية : { لِمَن شَآءَ مِنكُمْ أَن يَسْتَقِيمَ } قال أبو جهل : الأمر إلينا إن شئنا استقمنا ، وإن شئنا لم نستقم ، فأنزل الله تعالى : { وَمَا تَشَآءُونَ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّ العالمين } .(1/2675)
إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1) وَإِذَا الْكَوَاكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَإِذَا الْبِحَارُ فُجِّرَتْ (3) وَإِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4) عَلِمَتْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ مَا شَاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلَّا بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9) وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ (10) كِرَامًا كَاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ (12)
يقول تعالى : { إِذَا السمآء انفطرت } أي انشقت ، كما قال تعالى : { السَّمَآءُ مُنفَطِرٌ بِهِ } [ المزمل : 18 ] ، { وَإِذَا الكواكب انتثرت } أي تساقطت ، { وَإِذَا البحار فُجِّرَتْ } قال ابن عباس : فجر الله بعضها في بعض ، وقال الحسن : فجر الله بعضها في بعض فذهب ماؤها ، وقال قتادة : اختلط عذبها بمالحها ، وقال الكلبي : ملئت . { وَإِذَا القبور بُعْثِرَتْ } قال ابن عباس : بحثت . وقال السدي : تبعثر - تحرك فيخرج من فيها ، { عَلِمَتْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ وَأَخَّرَتْ } أي إذا كان هذا حصل هذا ، وقوله تعالى : { ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم } ؟ هذا تهديد من الله للإنسان والمعنى : ما غرك يا ابن آدم { بِرَبِّكَ الكريم } أي العظيم ، حتى أقدمت على معصيته ، وقابلته بما لا يليق؟ كما جاء في الحديث : « يقول الله تعالى يوم القيامة : يا ابن آدم ما غرك بي؟ يا ابن آدم ماذا أجبت المرسلين » ؟ وعن يحيى البكاء قال : سمعت ابن عمر يقول وقرأ هذه الآية : { ياأيها الإنسان مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الكريم } قال ابن عمر : غره والله جهله ، وقال قتادة : ما غرّ ابن آدم غير هذا العدو الشيطان ، وقال الفضل بن عياض : لو قال لي ، ما غرّك بي؟ لقلت : ستورك المرخاة ، وقال أبو بكر الوراق : لو قال لي : ما غرك بربك الكريم؟ لقلت : غرني كرم الكريم ، وقال بعض أهل الإشارة : إنما قال بربك الكريم دون سائر أسمائه وصفاته ، كأنه لقنه الإجابة ، وهذا الذي تخليه هذا القائل ليس بطائل ، لأنه إنما أتى باسمه الكريم ، لينبه على أنه لا ينبغي أن يقابل الكريم بالأفعال القبيحة وأعمال الفجور ، وقوله تعالى : { الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ } أي جعلك سوياً مستقيماً معتدل القامة ، منتصبها في أحسنت الهيئات والأشكال ، روى الإمام أحمد عن بشر بن جحاش القرشي « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوماً في كفه ، فوضع عليها إصبعه ثم قال : » قال الله عزَّ وجلَّ : يا ابن آدم أنّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذا؟ حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين بريدن وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت ، حتى إذا بلغت التراقي : قلت : أتصدق وأنّى أوان الصدقة؟ « » .
وقوله تعالى : { في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ } يقال مجاهد : في أي شبه أب أو أم ، أو خال ، أو عم ، وقال عكرمة في قوله تعالى : { في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ } إن شاء في صورة قرد ، وإن شاء في صورة خنزير ، وكذا قال أبو صالح : إن شاء في صورة كلب ، وإن شاء في صورة حمار ، وإن شاء في صورة خنزير ، وقال قتادة : قادر والله ربنا على ذلك ، ومعنى هذا القول عندهم أن الله عزَّ وجلَّ قادر على خلق النطفة على شكل قبيح ، من الحيوانات المنكرة الخلق ، ولكن بقدرته ولطفه وحلمه ، يخلقه على شكل حسن مستقيم ، معتدل تام حسن المنظر والهيئة ، وقوله تعالى : { كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بالدين } أي إنما يحملكم على مواجهة الكريم ومقابلته بالمعاصي ، تكذيب قلوبكم بالمعاد والجزاء والحساب ، وقوله تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } يعني وإن عليكم لملائكة حفظة كراماً ، فلا تقبلوهم بالقبائح ، فإنهم يكتبون عليكم جميع أعمالكم ، عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى عليه وسلم :(1/2676)
« إن الله ينهاكم عن التعري ، فاستحيوا من ملائكة الله الذين معكم الكاتبين الذي لا يفارقونكم إلاّ عند إحدى ثلاث حالات : الغائط والجنابة والغسل ، فإذا اغتسل أحدكم بالعراء فليستتر بثوبه أو بجرم حائط أو ببعيره » وفي الحديث : « ما من حافظين يرفعان إلى الله عزَّ وجلَّ ما حفظا في يوم فيرى في أول الصحيفة ، وفي آخرها استغفاراً إلاّ قال الله تعالى : قد غفرت لعبدي ما بين طرفي الصحيفة » ، عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن لله ملائكة يعرفون بني آدم - وأحسبه قال : ويعرفون أعمالهم - فإذا نظروا إلى عبد يعمل بطاعة الله ذكروه بينهم وسموه ، وقالوا : أفلح الليلة فلان ، نجا الليلة فلان ، وإذا نظروا إلى عبد يعمل بمعصية الله ذكروه بينهم وسموه وقالوا : هلك الليلة فلان » .(1/2677)
إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14) يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ (15) وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ (16) وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئًا وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)
يخبر تعالى عما يصير الأبرار إليه من النعيم ، وهم الذين أطاعوا الله عزَّ وجلَّ ولم يقابلوهن بالمعاصي ، ثم ذكر ما يصير إليه الفجار من الجحيم والعذاب المقيم ، ولهذا قال : { يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدين } أي يوم الحساب والجزاء والقيامة ، { وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَآئِبِينَ } أي لا يغيبون عن العذاب ساعة واحدة ، ولا يخفف عنهم من عذابها ، ولا يجابون إلى ما يسألون من الموت أو الراحة ولو يوماً واحداً ، وقوله تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين } تعظيم لشِأن يوم القيامة ، ثم أكده بقوله تعالى : { ثُمَّ مَآ أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدين } ، ثم فسره بقوله : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً } أي لا يقدر أحد على نفع أحد ولا خلاصة مما هو فيه ، إلاّ أن يأذن الله لمن يشاء ويرضى ، وفي الحديث قال عليه السلام : « يا بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار لا أملك لكم من الله شيئاً » ، ولهذا قال : { والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } كقوله تعالى : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] قال قتادة : { يَوْمَ لاَ تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً والأمر يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ } والأمر والله اليوم لله ، لكنه لا ينازعه فيه يومئذٍ أحد .(1/2678)
وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلَا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « لما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلاً ، فأنزل الله تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } فحسنوا الكيل بعد ذلك » ، وروى ابن جرير ، عن عبد الله قال : قال له رجل : يا أبا عبد الرحمن إن أهل المدينة ليوفون الكيل ، قال : وما يمنعهم أن يوفوا الكيل ، وقد قال الله تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } - حتى بلغ - { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين } ، والمراد بالتطفيف هاهنا البخص في المكيال والميزان . إما بالازدياد إن اقتضى من الناس ، وإما النقصان إن قضاهم ، ولهذا فسر تعالى المطففين الذين وعدهم بالخسار والهلاك بقوله تعالى : { إِذَا اكتالوا عَلَى الناس } أي من الناس { يَسْتَوْفُونَ } أي يأخذون حقهم بالوافي الزائد ، { وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } أي ينقضون ، والأحسن أن يجعل « كالوا ووزنوا » متعدياً ويكون ( هم ) في حل نصب ، وقد أمر الله تعالى بالوفاء في الكيل والميزان فقال تعالى : { وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ } [ الإسراء : 35 ] ، وقال تعالى : { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } [ الرحمن : 9 ] ، وأهلك الله قوم شعيب ودمرهم على ما كانوا يبخسون الناس في الميزان والمكيال ، ثم قال تعالى متوعداً لهم : { أَلا يَظُنُّ أولئك أَنَّهُمْ مَّبْعُوثُونَ * لِيَوْمٍ عَظِيمٍ } ؟ أي ما يخاف أولئك من البعث والقيام بين يدي من يعلم السرائر والضمائر ، في يوم عظيم الهول ، كثير الفزع جليل الخطب ، من خسر فيه أدخل ناراً حامية؟ وقوله تعالى : { يَوْمَ يَقُومُ الناس لِرَبِّ العالمين } أي يقومون حفاة عراة ، في موقف صعب حرج ، ضيف على المجرم ، ويغشاهم من أمر الله تعالى ما تعجز القوى والحواس عنه ، عن ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « » يوم يقوم الناس لرب العالمين « حتى يغيب أحدهم في رشحه إلى أنصاف أذنيه » ، وفي رواية لأحمد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يوم يقوم الناس لرب العالمين ، لعظمة الرحمن عزَّ وجلَّ يوم القيامة ، حتى إن العرق ليلجم الرجال إلى أنصاف آذانهم » حديث آخر : وروى الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود الكِنْدي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا كان يوم القيامة أدنيت الشمس من العباد حتى تكون قدر ميل أو ميلين - قال - فتصهرهم الشمس فيكونون في العرق كقدر أعمالهم ، منهم من يأخذه إلى عقبيه ومنهم من يأخذه إلى ركبتيه ، ومنهم من يأخذه إلى حقوبه ، ومنهم من يلجمه إلجاماً » حديث آخر : روى الإمام أحمد ، عن عقبة بن عامر قال ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « تدنو الشمس من الأرض فيعرق الناس ، فمن الناس من يبلغ عرقه عقبيه ، ومنه من يبلغ إلى نصف الساق ، ومنهم من يبلغ ركبتيه ، ومنهم من يبلغ العجز ، ومنه من يبلغ الخاصرة ، ومنهم من يبلغ منكبيه ، ومنهم من يبلغ وسط فيه - وأشار بيده فألجمها فاه - رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يشير بيده هكذا - ومنهم من يغطيه عرقه »(1/2679)
وضرب بيده ، إشارة ، وفي « سنن أبي داود » « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتعوذ بالله من ضيق المقام يوم القيامة » ، وعن ابن مسعود : يقومون أربعين سنة رافعي رؤوسهم إلى السماء لا يكلمهم أحد قد ألجم العرق برهم وفاجرهم .(1/2680)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)
يقول تعالى حقا : { إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ } أي إن مصيرهم ومأواهم { لَفِي سِجِّينٍ } فعّيل من السجن ، وهو الضيق كما يقال : فسّيق وخمّير وسكّير ونحو ذلك ، ولهذا عظّم أمره فقاله تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } ؟ أي هو أمر عظيم ، وسجين مقيم ، وعذاب أليم ، ثم قال قائلون : هي تحت الأرض السابعة ، وقد تقدم في حديث البراء بن عازب « يقول الله عزَّ وجلَّ في روح الكافر » اكتبوا كتابه في سجين « » ، وقيل : بئر في جهنم ، والصحيح أن سجيناً مأخوذ من السجن وهو الضيق ، فإن المخلوقات كل ما تسافل منها ضاق وكل ما تعالى منها اتسع ، ولما كان مصير الفجار إلى جهنم وهي أسفل السافلين ، كما قال تعالى : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ التين : 5-6 ] وقال هاهنا : { كَلاَّ إِنَّ كِتَابَ الفجار لَفِي سِجِّينٍ * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } وهو يجمع الضيق والسفول كما قال تعالى : { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] ، وقوله تعالى : { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ } ليس تفسيراً لقوله : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ } ، وإ ، ما هو تفسير لما كتاب لهم من المصير إلى سجين ، أي مرقوم مكتوب مفروغ منه ، لا يزاد فيه أحد ولا ينقص منه أحد ، ثم قال تعالى : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي إذا صاروا يوم القيامة إلى ما أوعدهم الله من السجن والعذاب المهين ، { وَيْلٌ } لهم والمراد من ذلك الهلاك والدمار كما يقال : ويل لفلان ، ثم قال تعالى : مفسراً للمكذبين الفجّار الكفرة : { الذين يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدين } أي لا يصدقون بقوعه ، ولا يعتقدون كونه ، ويستبعدون أمره ، قال الله تعالى : { وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ } أي معتد في أفعاله من تعاطي الحرام ، والمجاوزة في تناول المباح ، والأثيم في أقواله إن حدث كذب ، وإن وعد أخلف وإن خاصم فجر .
وقوله تعالى : { إِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الأولين } أي إذا سمع كلام الله تعالى من الرسول يكذب به ، ويظن به ظن السوء ، فيعتقد أنه مفتعل مجموع من كتب الأوائل ، كما قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين } [ النحل : 24 ] ، وقال تعالى : { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] قال الله تعالى : { كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي ليس الأمر كما زعموا ، ولا كما قالوا : إن هذا القرآن أساطير الأولين ، بل هو كلام الله ووحيه وتنزيله على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وإنما حجب قلوبهم عن الإيمان به ، وما عليها من الرين الذي قد لبس قلوبهم ، من كثرة الذنوب والخطايا ، ولهذا قال تعالى : { مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } والرين يعتري قلوب الكافرين ، والغَيْن للمقربين ، وقد روى الترمذي والنسائي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(1/2681)
« إن العبد إذا أذنب ذنباً كانت نكتة سوداء في قلبه ، فإن تاب منها صقل قلبه ، وإن زاد زادت ، فذلك قوله تعالى : { كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } » ولفظ النسائي : « إن العبد إذا أخطأ خطئية نكت في قلبه نكتة سوداء ، فإن هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه ، فإن عاد زيد فيها حتى تعلو قلبه ، فهو الران الذي قال الله تعالى : { كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } » وقال الحسن البصري : هو الذنب حتى يعمى القلب فيموت ، وقوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } أي ثم هم يوم القيامة محجوبون عن رؤية ربهم وخالقهم ، قال الإمام الشافعي : وفي هذه الآية دليل على أن المؤمنين يرونه عزَّ وجلَّ يومئذٍ ، وهذا الذي قاله في غاية الحسن ، وهو استدلال بمفهوم هذه الآية ، كما دل عليه منطوق قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22-23 ] ، وكما دلت على ذلك الأحاديث الصحاح المتواترة ، في رؤية المؤمنين ربهم عزَّ وجلَّ في الكافرون ، وينظر إليه المؤمنون كل يوم غدوة وعشية ، وقوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُواْ الجحيم } أي ثم هم مع هذا الحرمان عن رؤية الرحمن ، من أهل النيران ، { ثُمَّ يُقَالُ هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي يقال لهم ذلك ، على وجه التقريع والتوبيخ ، والتصغير والتحقير .(1/2682)
كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)
يقول تعالى : حقاً إن كتاب الأبرار - وهم بخلاف الفجار - { لَفِي عِلِّيِّينَ } أي مصيرهم إلى عليين وهو بخلاف سجين ، روى الأعمش عن هلال بن يساف قال : سأل ابن عباس كعباً - وأنا حاضر - عن سجين؟ قال : هي الأرض السابعة وفيها أرواح الكفار ، وسأله عن عليين؟ فقال : هي السماء السابعة وفيها أرواح المؤمنين ، وقال ابن عباس : { لَفِي عِلِّيِّينَ } يعني الجنة ، وفي رواية عنه : أعمالهم في السماء عند الله ، وقال قتادة : عليون ساق العرش اليمنى ، وقال غيره : عليون عند سدرة المنتهى ، والظاهر أن عليين مأخوذ من العلو ، وكلما علا الشيء وارتفع عظم واتسع ، ولهذا قال تعالى معظماً ومفخماً شأنه : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ } ؟ ثم قال تعالى مؤكداً لما كتب لهم : { كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * يَشْهَدُهُ المقربون } وهم الملائكة قال قتادة ، وقال ابن عباس : يشهده من كل سماء مقربوها ، ثم قال تعالى : { إِنَّ الأبرار لَفِي نَعِيمٍ } أي يوم القيامة هم في نعيم مقيم ، وجنات فيها فضل عميم { عَلَى الأرآئك } وهي السرر تحت الحجال { يَنظُرُونَ } قيل : معناه ينظرون في ملكهم ، وما أعطاهم الله من الخير ، والفضل الذي لا ينقضي ولا يبيد ، وقيل : معناه : { عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ } إلى الله عزَّ وجلَّ ، كما تقدم في حديث ابن عمر : « إن أدنى أهل الجنة منزلة لمن ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة يرى أقصاه كما يرى أدناه وإن أعلاهم لمن ينظر إلى الله عزَّ وجلَّ في اليوم مرتين » وقوله تعالى : { تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النعيم } أي تعرف إذا نظرت إليهم في وجوههم { نَضْرَةَ النعيم } أي صفة الترافة والسرور ، والدعة والرياسة ، مما هم فيه من النعيم العظيم . وقوله تعالى : { يُسْقَوْنَ مِن رَّحِيقٍ مَّخْتُومٍ } أي يسقون من خمر من الجنة ، والرحيق من أسماء الخمر ، وفي الحديث : « أيما مؤمن سقى مؤمناً شربة ماء على ضمإ سقاه الله تعالى يوم القيامة من الرحيق المختوم ، وأيما مؤمن أطعم مؤمناً على جوع أطعمه الله من ثمار الجنة ، وأيما مؤمن كسا مؤمناً ثوباً على عري كساه الله من خضر الجنة » ، وقال ابن مسعود في قوله : { خِتَامُهُ مِسْكٌ } أي خلطه مسك ، وقال ابن عياش : طيب الله لهم الخمر ، فكان آخر شيء جعل فيها مسك ختم بمسك ، وقال الحسن : عاقبته مسك ، وقال ابن جرير ، عن أبي الدرداء : { خِتَامُهُ مِسْكٌ } قال : شارب أبيض مثل الفضة يختمون به شرابهم ، ولو أن رجلاً من أهل الدنيا أدخل أصبعه فيه ثم أخرجها ، لم يبق ذو روح إلاّ وجد طيبها ، وقال مجاهد : { خِتَامُهُ مِسْكٌ } طيبه مسك ، وقوله تعالى : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون } أي وفي مثل هذا الحال فليتفاخر المتفاخرون ، وليتباهى وليستبق إلى مثله المستبقون كقوله تعالى : { لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون } [ الصافات : 61 ] ، وقوله تعالى : { وَمِزَاجُهُ مِن تَسْنِيمٍ } أي مزاج هذا الرحيق الموصوف { مِن تَسْنِيمٍ } أي من شراب يقال له تسنيم ، وهو أشرف شارب أهل الجنة وأعلاه ، ولهذا قال : { عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا المقربون } أي يشربها المقربون صرفاً ، وتمزج لأصحاب اليمين مزجاً .(1/2683)
إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36)
يخبر تعالى عن المجرمين ، أنهم كانوا في الدار الدنيا يضحكون من المؤمنين ، أي يستهزئون بهم ويحتقرونهم ، وإذا مروا بالمؤمنين يتغامزون عليهم أي محتقرين لهم { وَإِذَا انقلبوا إلى أَهْلِهِمُ انقلبوا فَكِهِينَ } أي وإذا انقلب : أي رجع هؤلاء المجرمون إلى منازلهم انقلبوا إليها فاكهين ، أي مهما طلبوا وجدوا ، ومع هذا ما شكروا نعمة الله عليهم ، بل اشتغلوا بالقوم المؤمنين يحقرونهم ويحسدونهم { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ } أي لكونهم على غير دينهم ، قال الله تعالى : { وَمَآ أُرْسِلُواْ عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ } أي وما بعث هؤلاء المجرمون ، حافظين على هؤلاء المؤمنين ، ما يصدر منهم من أعمالهم وأقوالهم ، ولا كلفوا بهم ، فلم اشتغلوا بهم وجعلوهم نصب أعينهم؟ كما قال تعالى : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين * فاتخذتموهم سِخْرِيّاً حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } [ المؤمنون : 109-110 ] ، ولهذا قال ههنا : { فاليوم } يعني يوم القيامة { الذين آمَنُواْ مِنَ الكفار يَضْحَكُونَ } أي في مقابلة ما ضحك بهم أولئك { عَلَى الأرآئك يَنظُرُونَ } أي إلى الله عزَّ وجلَّ ، ينظرون إلى ربهم في دار كرامته ، وقوله تعالى : { هَلْ ثُوِّبَ الكفار مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } ؟ أي هل جوزي الكفار على ما كانوا يقابلون به المؤمنين ، من الاستهزاء والسخرية أم لا؟ يعني قد جوزوا أوفر الجزاء وأتمه وأكلمه .(1/2684)
إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (2) وَإِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ (4) وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ (5) يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا (8) وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا (9) وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا (11) وَيَصْلَى سَعِيرًا (12) إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14) بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا (15)
يقول تعالى : { إِذَا السمآء انشقت } وذلك يوم القيامة ، { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا } أي استمعت لربها وأطاعت أمره فيما أمرها به من الانشقاق ، وذلك يوم القيامة { وَحُقَّتْ } أي وحق لها أن تطيع أمره ، لأنه العظيم الذي لا يمانع ولا يغالب ، بل قد قهر كل شيء وذل له كل شيء ، ثم قال : { وَإِذَا الأرض مُدَّتْ } أي بسطت وفرشت ووسعت ، وفي الحديث « إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مد الأديم ، وحتى لا يكون لبشر من الناس إلاّ موضع قدميه » وقوله تعالى : { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } أي ألقت ما في بطونها من الأموات وتخلت عنهم ، { وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } كما تقدم ، وقوله : { ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً } أي إنك ساع إلى ربك سعياً وعامل عملاً { فَمُلاَقِيهِ } ثم إنك ستلقى ما عملت من خير أو شر ، عن جابر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال جبريل : يا محمد عش ما شئت فإنك ميت ، وأحب ما شئت فإنك مفارقه ، واعمل ما شئت فإنك ملاقيه » ، ومن الناس من يعيد الضمير على قوله { رَبِّكَ } أي فملاق ربك ومعناه فيجازيك بعملك ويكافئك على سعيك ، قال ابن عباس : تعمل عملاً الله به خيراً كان أو شراً ، وقال قتادة : { ياأيها الإنسان إِنَّكَ كَادِحٌ إلى رَبِّكَ كَدْحاً } إن كدحك يا ابن آدم لضعيف ، فمن استطاع أن يكون كدحه في طاعة الله فيلفعل ولا قوة إلاّ بالله ، ثم قال تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } أي سهلاً لا تعسير أي لا يحقق عليه جميع دقائق أعماله ، فإن من حوسب كذلك هلك لا محالة ، روى الإمام أحمد « عن عائشة رضي الله عنها قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من نوقش الحساب عذب « ، قالت ، فقلت : أفليس قال الله تعالى : { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } ، قال : » ليس ذلك بالحساب ، ولكن ذلك العرض ، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب « » وروى ابن جرير ، « عن عائشة رضي الله عنها قالت؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنه ليس أحد يحاسب يوم القيامة إلاّ معذباً « ، فقلت : أليس الله يقول { فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَاباً يَسِيراً } ؟ قال : » ذاك العرض ، إنه من نوقش الحساب عذب « ، وقال بيده على إصبعه كأنه ينكت » وفي رواية عن عائشة قالت : « من نوقش الحساب - أو من حوسب - عذب ، ثم قالت : إنما الحساب اليسير عرض الله تعالى وهو يراهم » وقوله تعالى : { وَيَنقَلِبُ إلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً } أي ويرجع إلى أهله في الجنة { مَسْرُوراً } أي فرحاً مغتبطاً بما أعطاه الله عزَّ وجلَّ ، وقد روى الطبراني عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :(1/2685)
« إنكم تعملون أعمالاً لا تعرف ، ويوشك الغائب أن يثوب إلى أهله فمسرور أو مكظوم » وقوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَآءَ ظَهْرِهِ } أي بشماله من وراء ظهره تثنى يده إلى ورائه ، ويعطى كتابه بها كذلك { فَسَوْفَ يَدْعُواْ ثُبُوراً } أي خساراً وهلاكاً { ويصلى سَعِيراً * إِنَّهُ كَانَ في أَهْلِهِ مَسْرُوراً } أي فرحاً لا يفكر في العواقب ، ولا يخاف مما أمامه فأعقبه ذلك الفرح اليسير الحزن الطويل ، { إِنَّهُ ظَنَّ أَن لَّن يَحُورَ } أي كان يعتقد أنه لا يرجع إلى الله ، ولا يعيده بعد موته ، قال ابن عباس وقتادة وغيرهما ، والحَوْر هو الرجوع ، قال الله : { بلى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيراً } يعني بلى سيعيده الله كما بدأه ويجازيه على أعماله خيرها وشرها فإنه { كَانَ بِهِ بَصِيراً } أي عليماً خبيراً .(1/2686)
فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ (17) وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ (19) فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لَا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (24) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)
قال علي وابن عباس : { الشفق } الحمرة ، وقال عبد الرزاق ، عن أبي هريرة : { الشفق } البياض ، فالشفق هو حمرة الأفق ، إما قبل طلوع الشمس ، كما قاله مجاهد ، وإما بعد غروبها كما هو معروف عند أهل اللغة ، قال الخليل : الشفق : الحمرة من غروب الشمس إلى وقت العشاء الآخرة ، فإذا ذهب قيل : غاب الشفق ، وفي الحديث : « وقت المغرب ما لم يغب الشفق » ، ولكن صح عن مجاهد أنه قال في هذه الآية : { فَلاَ أُقْسِمُ بالشفق } هو النهار كله ، وإنما حمله على هذا قرنه بقوله تعالى : { والليل وَمَا وَسَقَ } أي جمع ، كأنه أقسم بالضياء والظلام ، قال ابن جرير : أقسم الله بالنهار مدبراً وبالليل مقبلاً ، وقال آخرون : الشفق اسم للحمرة والبياض ، وهو من الأضداد . قال ابن عباس ومجاهد : { وَمَا وَسَقَ } وما جمع ، قال قتادة : وما جمع من نجم ودابة ، وقال عكرمة : ما ساق من ظلمة إذا كان الليل ذهب كل شيء إلى مأواه ، وقوله تعالى : { والقمر إِذَا اتسق } قال ابن عباس : إذا اجتمع واستوى ، وقال الحسن : إذا اجتمع وامتلأ ، وقال قتادة : إذا استدار ، ومعنى كلامهم إنه إذا تكامل نوره وأبدر جعله مقابلاً لليل وما وسق .
وقوله تعالى : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } قال البخاري ، قال ابن عباس : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } حالاً بعد حال ، قال : هذا نبيكم صلى الله عليه وسلم ، وقال الشعبي { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } قال : لتركبنّ يا محمد سماء بعد سماء ، يعني ليلة الإسراء ، وقيل : { طَبَقاً عَن طَبقٍ } منزلاً على منزل ، ويقال : أمراً بعد أمر ، وحالاً بعد حال ، وقال السدي : { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } أعمال من قبلكم منزلاً بعد منزل ، وكأنه أراد معنى الحديث الصحيح : « » لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه « ، قالوا : يا رسول الله : اليهود والنصارى؟ قال : » فمن؟ « » وقال ابن مسعود : { طَبَقاً عَن طَبقٍ } السماء مرة كالدهان ، ومرة تنشق ، وقال سعيد بن جبير { لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَن طَبقٍ } قال : قوم كانوا في الدنيا خسيسٌ أمرهم فارتفعوا في الآخرة ، وآخرون كانوا أشرافاً في الدنيا فاتضعوا في الآخرة ، وقال عكرمة : { طَبَقاً عَن طَبقٍ } حالاً بعد حال فطيماً بعدما كان رضيعاً ، وشيخاً بعد ما كان شاباً ، وقال الحسن البصري : { طَبَقاً عَن طَبقٍ } يقول : حالاً بعد حال ، رخاء بعد شدة ، وشدة بعد رخاء ، وغنى بعد فقر ، وفقراً بعد غنى ، وصحهة بعد سقم ، وسقماً بعد صحة . ثم قال ابن جرير : والصواب من التأويل قول من ق ل : لتركبن أنت يا محمد حالاً بعد حال ، وأمراً بعد أمر من الشدائد ، والمراد بذلك وإن كان الخطاب موجهاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم جميع الناس ، وأنهم يلقون من شدائد يوم القيامة وأحواله أهوالاً ، وقوله تعالى : { فَمَا لَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِىءَ عَلَيْهِمُ القرآن لاَ يَسْجُدُونَ } أي فماذا يمنعهم من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر ، وما لهم إذا قرئت عليهم آيات الله وهو هذا القرآن لا يسجدون إعظاماً وإكراماً واحتراماً؟ وقوله تعالى : { بَلِ الذين كَفَرُواْ يُكَذِّبُونَ } أي من سجيتهم التكذيب والعناد والمخالفة للحق ، { والله أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ } قال مجاهد وقتادة : يكتمون في صدورهم ، { فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي فأخبرهم يا محمد بأن الله عزَّ وجلَّ قد أعد لهم عذاباً إليماً ، وقوله تعالى : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } هذه استثناء منقطع يعني لكن الذين آمنوا أي بقلوبهم { وَعَمِلُواْ الصالحات } أي بجوارحهم { لَهُمْ أَجْرٌ } أي في الدار الآخرة { غَيْرُ مَمْنُونٍ } قال ابن عباس : غير منقوص ، وقال مجاهد : غير محسوب ، وحاصل قولهما : أنه غير مقطوع ، كما قال تعالى :(1/2687)
{ عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] ، وقال السدي : قال بعضهمه : غير ممنون « غير منقوص ، وقال بعضهم : غير ممنوع عليهم ، وهذا القول قد أنكره غير واحد ، فإن الله عزَّ وجلَّ له المنة على أهل الجنة ، في كل حال وآن ولحظة ، وإنما دخلوها بفضله ورحمته لا بأعمالهم ، فله عليهم المنة دائماً سرمداً ، والحمد لله وحده أبداً .(1/2688)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)
يقسم تعالى بالسماء وبروجها وهي النجوم العظام ، قال ابن عباس : البروج النجوم ، وقال يحيى بن رافع : البروج قصور في السماء ، وقال المنهال بن عمرو : { والسمآء ذَاتِ البروج } الخلق الحسن ، واختبار ابن جرير أنها منازل الشمس والقمر ، وهي اثنتا عشر برجاً تسير الشمس في كل واحد منها شهراً ، ويسير القمر في كل واحد منهما يومين وثلثا ، فذلك ثمانية وعشرون منزلة ويستسر ليلتين ، وقوله تعالى : { واليوم الموعود * وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } اختلف المفسرون في ذلك فروي عن أبي هريرة مرفوعاً { واليوم الموعود } يوم القيامة ، { وَشَاهِدٍ } يوم الجمعة ، { وَمَشْهُودٍ } يوم عرفة . روى الإمام أحمد ، عن أبي هريرة أنه قال في هذه الآية { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال : « الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة ، والموعود يوم القيامة » وعن سعيد بن المسيب أنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن سيد الأيام يوم الجمعة ، وهو الشاهد ، والمشهود يوم عرفة » ، وروى ابن جرير عن ابن عباس قال : الشاهد هو محمد صلى الله عليه وسلم ، والمشهود يوم القيامة . ثم قرأ : { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [ هود : 103 ] . وسأل رجل الحسن بن علي عن { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } فقال : سألت أحداً قبلي؟ قال : نعم ، سألت ابن عمر وابن الزبير فقالا : يوم الذبح ويوم الجمعة ، فقال : لا ، ولكن الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم ، ثم قرأ : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] والمشهود يوم القايمة ، ثم قرأ : { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [ هود : 103 ] وهكذا قال الحسن البصري ، وقال مجاهد والضحّاك : الشاهد ابن آدم ، والمشهود يوم القيامة؛ وعن عكرمة : الشاهد محمد صلى الله عليه وسلم ، والمشهود يوم الجمعة ، وقال ابن عباس : الشاهد الله ، والمشهود يوم القيامة ، وقال ابن أبي حاتم عن مجاهد عن ابن عباس { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } قال : الشاهد الإنسان ، والمشهود يوم الجمعة ، وقال ابن جرير ، عن ابن عباس : { وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ } الشاهد يوم عرفة ، والمشهود يوم القيامة ، قال ابن جرير : وقال آخرون : { المشهود } يوم الجمعة ، لحديث أبي الدرداء قال ، قال رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم : « أكثروا من الصلاة يوم الجمعة ، فإنه يوم مشهود تشهده الملائكة » ، وعن سعيد بن جبير : « الشاهد الله ، وتلا : { وكفى بالله شَهِيداً } [ النساء : 79 ، 116 ، الفتح : 28 ] والمشهود نحن ، وقال الأكثرون على أن الشاهد يوم الجمعة والمشهود يوم عرفة .
وقوله تعالى : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } أي لعن أصحاب الأُخدود ، وجمعه أخاديد وهي الحفر في الأرض ، وهذا خبر عن قوم من الكفار عمدوا إلى ما عندهم من المؤمنين بالله عزَّ وجلَّ فقهروهم ، وأرادوهم أن يرجعوا عن دينهم فأبوا ع ليهم ، فحفروا لهم في الأرض أُخدوداً ، وأججوا فيه ناراً ، وأعدوا لها وقوداً يسعرونها به ، ثم أرادوهم فلم يقبلوا منهم ، فقذفوهم فيها ، ولهذا قال تعالى : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود * النار ذَاتِ الوقود * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ } أي مشاهدون لما يفعل بأولئك المؤمنين * قال الله تعالى : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد } أي وما كان لهم عندهم ذنب إلاّ إيمانهم بالله { العزيز } الذي يضام من لاذ بجنابه ، { الحميد } فلي جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره ، ثم قال تعالى : { الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } من تمام الصفة أنه المالك لجميع السماوات والأرض وما فيهما وما بينهما ، { والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي لا يغيب عنه شيء في جميع السماوات والأرض ، ولا تخفى عليه خافية ، وقد اختلف أهل التفسير في أهل هذه القصة من هم؟ فعن علي أنهم أهل فارس ، حين أراد ملكهم تحليل تزويج المحارم فامتنع عليه علماؤهم ، فعمد إلى حفر أُخدود ، فقذف فيه من أنكر عليه منهم ، واستمر فيهم تحليل المحارم إلى اليوم .(1/2689)
وعن ابن عباس قال : نتاس من بني إسرائيل خدو أُخدوداً في الأرض ، ثم أوقدوا فيه ناراً ، ثم أقاموا على ذلك الأخدود رجلاً ونساء ، فعرضوا عليها ، وزعموا أنه دانيال وأصحابه ، وقيل غير ذلك .
وقد روى الإمام أحمد : حدثنا عفان ، حدثنا بن سلمة عن ثابت عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن صهيب الرومي « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » كان فيمن كان قبلكم ملك ، وكان له ساحر ، فلما كبر الساحر قال للملك : إني قد كبر سني وحضر أجلي ، فادفع إليّ غلاماً لأعلمه السحر ، فدفع إليه غلاماً كان يعلمه السحر ، وكان بين الساحر وبين الملك راهب ، فأتى الغلام على الراهب ، فسمع من كلامه فأعجبه نحوه وكلامه ، وكان إذا أتى الساحر ضربه ، وقال : ما حبسك؟ وإذا أتى أهله ضربوه ، وقالوا ما حبسك؟ فشكا ذلك إلى الراهب ، فقال : إذا أراد الساحر أن يضربك فقل : حبسني أهلي ، وإذا أراد أهلك أن يضربوك فقل : حبسني الساحر ، قال : فبينما هو ذات يوم إذا أتى على دابة فظيعة عظيمة قد حبست الناس فلا يستطيعون أن يجوزوا ، فاقل : اليوم أعلم : أمر الراهب أحب إلى الله أم أمر الساحر؟ قال : فأخذ حجراً ، فقال : الله مإن كان أمر الراهب أحب وأرضى من أمر الساحر فاقتل الدابة حتى يجوز الناس ، ورماها فقتلها ، ومضى الناس ، فأخبر الراهب بذلك ، فقال : أي بني أنت أفضل مني ، وإنك ستبتلى ، فإن ابتليت فلا تدلّ عليّ ، فكان الغلام يبرىء الأكمه والأبرص وسائر الأدواء ويشفيهم ، وكان للملك جليس ، فعمي ، فسمع به ، فأتاه بهدايا كثيرة فقال : اشفني ولك ما هاهنا أجمع ، فقال : ما أنا أشفي أحداً ، إنما يشفي الله عزَّ وجلَّ ، فإن آمنت به دعوت الله فشفاك ، فآمن فدعا لله فشفاه ، ثم أتى الملك فجلس منه نحو ما كان يجلس ، فقال الملك : يا فلان من رد عليك بصرك؟ فقال : ربي؟ فقال : أنا! قال : لا ، ربي وربك الله ، قال : ولك رب غيري؟ قال : نعم ، ربي وربك الله ، فلم يزل يعذبه حتى دل على الغلام ، فبعث إليه فقال : أي بني بلغ من سحرك أن تبرىء الأكمه والأبرص وهذه الأدواء؟ قال : ما أشفي أحداً إنما يشفي الله عزَّ وجلَّ . قال : أنا؟ قال : لا ، قال : أولك رب غرير؟ ق ال : ربي وربك الله ، فأخذه أيضاً بالعذاب ، فلم يزل به حتى دل على الراهب ، فأتى بالراهب ، فقال : ارجع عن دينك ، فأبى فوضع المنشار في مفرق رأسه حتى وقع شقاه ، وقال الأعمى : ارجع عن دينك فأبى ، فوضع المنشار في مفرق رأسه ، حتى وقع شقاه إلى الأرض ، وقال للغلام : ارجع عن دينك فأبى ، فبعث به مع نفس إلى جبل كذا وكذا ، وقال : إذا بلغتم ذروته فإن رجع عن دينه وإلاّ فدهدهوه ، فذهبوا به فلما عدلوا به الجبل قال : اللهم أكفنيهم بما شئت ، فرجف بهم الجبل ، فدهدهوا أجمعون ، وجاء الغلام يتلمس حتى دخل على الملكم ، فقال : ما فعل أصحابك؟ فقال : كفانيهم الله تعالى : فبعث به مع نفسر في قرقور ، فقال : إذا لججتم به البحر ، فإن رجع عن دينه وإلاّ فغرقوه في البحر ، فلججوا به البحر ، فقال الغلام : اللهم اكفنيهم بما شئت فغرقوا أجمعون ، وجاء الغلام حتى دخل الملك ، فقال : ما فعل أصحابك؟ فقال : كفانيهم الله تعالى ، ثم قال الملك : إنك لست بقاتلي حتى تفعل ما آمرك به ، فإن أنت فعلت ما آمرك به قتلتني ، وإلا فإنك لا تستطيع قتلي ، قال : وما هو ، قال : تجمع الناس في صعيد واحد ، ثم تصلبني على جذع ، وتأخذ سهماً من كنانتي ، ثم قال : باسم الله رب الغلام ، فإنك إذا فعلت ذلك قتلتني ، ففعل ووضع السهم في كبد قوسه ، ثم رماه وقال : باسم الله رب الغلام ، فوقع السهم في صدغه فوضع الغلام يده على موضع السهم ، ومات ، فقال الناس : آمنا برب الغلام . فقيل للملك : أرأيت ما كنت تحذر؟ فقد والله نزل بك؛ قد أمن الناس كلهم ، فأمر بأفواه السكك فخدت فيها الأخاديد ، وأضرمت فيها النيران ، وقال : من رجع عن دينه فدعوه وإلاّ فأقحموه فيها ، قال : فكانوا يتعادون فيها ويتدافعون امرأة بابن لها ترضعه ، فكأنها تقاعست أن تقع في النار ، فقال الصبي : اصبري يا أُماه فإنك على الحق « .(1/2690)
وروى ابن أبي حاتم ، عن الربيع بن أنس في قوله تعالى : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود } قال : سمعنا أنهم كانوا قوماً في زمان الفترة ، فلما رأوا ما وقع في الناس من الفتنة والشر ، وصاروا أحزاباً كل حزب لما لديهم فرحون ، اعتزلوا إلى قرية سكنوها وأقاموا على عبادة الله مخلصين له الدين ، فكان هذا أمرهم حتى سمع بهم جبار من الجبارين وحدث حديثهم فأرسل إليهم ، فأمرهم أن يعبدوا الأوثان التي اتخذوا وأنهم أبو عليه كلهم ، وقالوا : لا نعبد إلاّ الله وحده لا شريك له ، فقال لهم : إن لم تعبدوا هذه الآلهة التي عبدت فإني قاتلكم ، فأبوا عليه ، فخد أخدوداً من نار ، وقال لهم الجبار بعد أن وقفهم عليها ، اختاروا هذه أو الذي نحن فيه ، فقالوا : هذه أحب إلينا وفيهم نساء وذرية ، ففزعت الذرية ، فقالوا لهم - أي آباؤهم : لا نار من بعد اليوم ، فوقعوا فيها ، فقبضت أرواحهم ، من قبل أن يمسهم حرها ، وخرجت النار من مكانها فأحاطت بالجبارين ، فأحرقهم الله بها ، ففي ذلك أنزل الله عزَّ وجلَّ : { قُتِلَ أَصْحَابُ الأخدود * النار ذَاتِ الوقود * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ على مَا يَفْعَلُونَ بالمؤمنين شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد * الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض والله عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ، وقوله تعالى : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات } أي حرقوا ، قاله ابن عباس ومجاهد { ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } أي لم يقلعوا عما فعلوا ويندموا على ما أسلفوا { فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } وذلك أن الجزاء من جنس العمل ، قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة .(1/2691)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين أن { لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } بخلاف ما أعد لأعدائه من الحرق والجحيم . ولهذا قال : { ذَلِكَ الفوز الكبير } ، ثم قال تعالى : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } أي إن بطشه وانتقامه من أعدائه ، الذين كذبوا رسله وخالفوا أمره ، لشديد عظيم قوي ، فإنه تعالى ذو القوة المتين ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ } أي من قوته وقدرته التامة ، يبدىء الخلق ويعيده ، كما بدأه بلا ممانع ولا مدافع { وَهُوَ الغفور الودود } أي يغفر ذنب من تاب إليه وخضع لديه ، و { الودود } قال ابن عباس : هو الحبيب { ذُو العرش } أي صاحب العرش العظيم العالي على جميع الخلائق ، و { المجيد } فيه قراءتان : الرفع على أنه صفة للرب عزَّ وجلَّ ، والجر على أنه صفة للعرض ، وكلاهما معنى صحيح ، { فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } أي مهما أراد فعله لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقهره وعدله ، كما روينا على أبي بكر الصدّيق أنه قيل له وهو في مرض الموت : هل نظر إليك الطبيب ، قال : نعم ، قالوا : فما قال لك؟ قال لي : إني فعال لما أريد ، وقوله تعالى : { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ } أي هل بلغك ما أحل الله بهم من البأس ، وأنزل عليهم من النقمة التي لم يردها عنهم أحد؟ وهذا تقرير لقوله تعالى : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ } أي إذا أخذ الظالم أخذه أخذاً أليماً شديداً أخذ عزيز مقتدر ، عن عمرو بن ميمون قال : « مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ : { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود } فقام يستمع فقال : » نعم قد جاءني « » وقوله تعالى : { بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ } أي هم في شك وريب وكفر وعناد ، { والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ } أي هو قادر عليهم قاهر لا يفوتونه ولا يعجزونه ، { بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ } أي عظيم كريم ، { فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ } أي في الملأ الأعلى ، محفوظ من الزيادة والنقص ، والتحريف والتبديل ، روى ابن أبي حاتم عن عبد الرحمن بن سلمان قال : « ما من شيء قضى الله ، القرآن فما قبله وما بعده ، إلاّ وهو في اللوح المحفوظ ، واللوح المحفوظ بين عيني إسرافيل لا يؤذن له بالنظر فيه » وقال الحسن البصري : إن هذا القرآن المجيد عند الله في لوح محفوظ ، ينزل منه ما يشاء على من يشاء من خلقه ، وقد روى البغوي عن ابن عباس قال : « إن في صدر اللوح : لا إله إلاّ الله وحده ، دينه الإسلام ، ومحد عبده ورسوله ، فمن آمن وصدق بوعده و اتبع رسله أدخله الجنة » وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله تعالى خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء صفحاتها من ياقوتة حمراء ، قلمه نور ، وكتابه نور ، لله فيه في كل يوم ستون وثلاثمائة لحظة ، يخلق ويرزق ويميت ويحيي ويعز ويذل ويفعل ما يشاء » .(1/2692)
وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10)
يقسم تبارك وتعالى بالسماء ، وما جعل فيها من الكواكب النيرة ، ولهذا قال تعالى : { والسمآء والطارق } ، ثم قال : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الطارق } ، ثم قسَّره بقوله : { النجم الثاقب } ، قال قتادة وغيره : إما سمي النجم طارقاً لأنه إنما يرى بالليل ويختفي بالنهار ، ويؤيده ما جاء في الحديث : « إلاّ طارقاً بخير يا رحمن » وقوله تعالى : { الثاقب } قال ابن عباس : المضيء ، وقال السدي : يثقب الشياطين إذا أرسل عليها ، وقال عكرمة : هو مضيء ومحرق للشيطان ، وقوله تعالى : { إِن كُلُّ نَفْسٍ لَّمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ } أي كل نفس عليها من الله حافظ يحرسها من الآفات ، كما قال تعالى : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } [ الرعد : 11 ] ، وقوله تعالى : { فَلْيَنظُرِ الإنسان مِمَّ خُلِقَ } تنبيه للإنسان على ضعف أصله الذي خلق منه ، وإرشاد له إلى الاعتراف بالمعاد ، لأن من قدر على البداءة ، فهو قادر على الإعادة بطريق الأولى ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] ، وقوله تعالى : { خُلِقَ مِن مَّآءٍ دَافِقٍ } يعني المني يخرج دفقاً من الرجل ومن المرأة ، فيتولد منهما الولد بإذن الله عزَّ وجلَّ ، ولهذا قال : { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب } يعني صلب الرجل وترائب المرأة وهو ( صدرها ) ، وقال ابن عباس : صلب الرجل وترائب المرأة أصفر رقيق لا يكون الولد إلاّ منهما ، وعنه قال : هذه الترائب ووضع يده على صدره ، وعن مجاهد : الترائب ما بين المنكبين إلى الصدر ، وعنه أيضاً ، الترائب أسفل من التراقي ، وقال الثوري : فوق الثديين ، وقال قتادة : { يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصلب والترآئب } من بين صلبه ونحره ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ على رَجْعِهِ لَقَادِرٌ } فيه قولان : ( أحدهما ) : على رجع هذا الماء الدافق إلى مقره الذي خرج منه لقادر على ذلك ، قاله مجاهد وعكرمة وغيرهما ، ( الثاني ) : إنه على رجع هذا الإنسان المخلوق من ماء دافق ، أي إعادته وبعثه إلى الدار الآخرة لقادر ، قال الضحّاك واختاره ابن جرير ، ولهذا قال تعالى : { يَوْمَ تبلى السرآئر } أي يوم القيامة تبلى فيه السرائر أي تظهر وتبدو ، ويبقى السر علانية والمكنون مشهوراً ، وقوله تعالى : { فَمَا لَهُ } أي الإنسان يوم القيامة { مِن قُوَّةٍ } أي في نفسه ، { وَلاَ نَاصِرٍ } أي من خارج منه ، أي لا يقدر على أن ينقذ نفسه من عذاب الله ، ولا يستطيع له أحد ذلك .(1/2693)
وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17)
قال ابن عباس : الرجع المطر ، وعنه : هو السحاب فيه المطر ، وقال قتادة : ترجع رزق العباد كل عام ، ولولا ذلك لهلكوا وهلكت مواشيهم ، { والأرض ذَاتِ الصدع } قال ابن عباس : هو انصداعها عن النبات ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ } قال ابن عباس : حق ، وقال غيره : حكم عدل ، { وَمَا هوَ بالهزل } أي بل هو جد حق ، ثم أخبر عن الكافرين بأنهم يكذبون به ، ويصدون عن سبيله فقال : { إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً } أي يمكرون بالناس ، في دعوتهم إلى خلاف القرآن ، ثم قال تعالى { فَمَهِّلِ الكافرين } أي أنظرهم ولا تستعجل لهم ، { وَأَكِيدُ كَيْداً } أي قليلاً وسترى ماذا أحل بهم ، من العذاب والنكال ، والعقوبة والهلاك كما قال تعالى : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] .(1/2694)
سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى (3) وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى (4) فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى (5) سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى (6) إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى (7) وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)
عن ابن عباس : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قرأ : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } قال : ( سبحان ربي الأعلى ) » وقوله تعالى : { الذي خَلَقَ فسوى } أي خلق الخليقة وسوّى كل مخلوق في أحسن الهيئات ، وقوله تعالى : { والذي قَدَّرَ فهدى } . قال مجاهد : هدى الإنسان للشقاوة والسعادة . وهدى الأنعام لمراتعها ، وهذه الآية كقوله تعالى : { قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] أي قدّر قدراً وهدى الخلائق إليه ، كما ثبت في « صحيح مسلم » : « إن الله قدَّر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء » وقوله تعالى : { والذي أَخْرَجَ المرعى } أي من جميع صنوف النباتات والزروع ، { فَجَعَلَهُ غُثَآءً أحوى } قال ابن عباس : هشيماً متغيراً ، وقوله تعالى : { سَنُقْرِئُكَ } أي يا محمد { فَلاَ تنسى } وهذا إخبار من الله تعالى ووعد منه له ، بأنه سيقرئه قراءة لا ينساها { إِلاَّ مَا شَآءَ الله } وهذا اختيار ابن جرير ، وقال ابن قتادة : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا ينسى شيئاً إلاّ ما شاء الله » ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر وَمَا يخفى } أي يعلم ما يجهر به العباد ، وما يخفونه من أقوالهم وأفعالهم ، لا يخفى عليه منه ذلك شيء ، وقوله تعالى : { وَنُيَسِّرُكَ لليسرى } أي نسهل عليك أفعال الخير ، ونشرع لك شرعاً سهلاً سمحاً ، لا اعوجاج فيه ولا حرج ولا عشر ، وقوله تعالى : { فَذَكِّرْ إِن نَّفَعَتِ الذكرى } أي ذكّر حيث تنفع التذكرة ، ومن ههنا يؤخذ الأدب في نشر العلم فلا يضعه عند غير أهله ، كما قال علي رضي الله عنه : ما أنت بمحدث قوماً حديثاً لا تبلغه عقولهم إلاّ كان فتنة لبعضهم . وقال : حدثوا الناس بما يعرفون ، أتحبون أن يكذّب الله ورسوله؟ وقوله تعالى : { سَيَذَّكَّرُ مَن يخشى } أي سيتعظ بما تبلغه يا محمد من قبله يخشى الله ويعلم أنه ملاقيه ، { وَيَتَجَنَّبُهَا الأشقى * الذى يَصْلَى النار الكبرى * ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } أي لا يموت فيستريح ، ولا يحيى حياة تنفعه بل هي مضرة عليه ، لأن بسببها يشعر ما يعاقب به من أليم العذاب وأنواع النكال ، عن أبي سعيد الخدري قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ولكن أناس تصبيهم النار بذنوبهم - أو قال بخطاياهم - فيميتهم إماتة حتى إذا ما صاروا فحماً أذن في الشفاعة فجيء بهم ضبائر ضبائر ، فبثوا على أنهار الجنة فيقال : يا أهل الجنة أفيضوا عليهم ، فينبتون نبات الحبة في حميل السيل » { وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } [ الزخرف : 77 ] ، وقال تعالى : { لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا } [ فاطر : 36 ] إلى غير ذلك من الآيات في هذا المعنى .(1/2695)
قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17) إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى (18) صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى (19)
يقول تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } أي ظهر نفسه من الأخلاق الرذيلة ، واتبع ما أنزل الله على الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، { وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى } أي أقام الصلاة في أوقاتها ابتغاء رضوان الله وامتثالاً لشرع الله ، روي عن جابر بن عبد الله يرفعه { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } قال : « من شهد أن لا إله إلاّ الله ، وخلع الأنداد . وشهد أني رسول الله { وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى } قال : » هي الصلوات الخمس والمحافظة عليها والاهتمام بها « » ، وكذا قال ابن عباس إن المراد بذلك الصلوات الخمس ، واختاره ابن جرير ، وعن عمر بن عبد العزيز أنه كان يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر ، ويتلو هذه الآية : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى } ، وقال قتادة في هذه الآية : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى } زكى ماله وأرضى خالقه ، ثم قال تعالى : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا } أي تقدمونها على أمر الآخرة ، وتبدّونها على ما فيه نفعكم وصلاحكم في معاشكم ومعادكم ، { والآخرة خَيْرٌ وأبقى } أي ثواب الله في الدار الآخرة ، خير من الدنيا وأبقى ، فإن الدنيا دانية فانية ، والآخرة شريفة باقية ، فكيف يؤثر عاقل ما يفنى على ما يبقى ، ويهتم بما يزول عنه قريباً ويترك الاهتمام بدار البقاء والخلد؟ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له » عن عرفجة الثقفي قال : استقرأت ابن مسعود : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } فلما بلغ { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا } ترك القراءة وأقبل على أصحابه وقال : آثرنا الدنيا على الآخرة ، فسكت القوم ، فقال : آثرنا الدنيا لأنا رأينا زينتها ونساءها وطعامها وشرابها ، وزويت عنا الآخرة ، فاخترنا هذا العاجل وتركنا الآجل ، وهذا منه على وجه التواضع والهضم ، وفي الحديث : « من أحب دنياه أضر بأخرته ، ومن أحب آخرته أضر بدنياه فآثروا ما يبقى على من يفنى » وقوله تعالى : { إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى } كقوله في سورة النجم : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى * وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى * أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى * وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزآء الأوفى * وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى } [ النجم : 36-42 ] الآيات إلى آخرهن؛ وهكذا قال عكرمة في قوله تعالى : { إِنَّ هذا لَفِي الصحف الأولى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى } يقول : الآيات التي في { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى } ، وقال أبو العالية : قصة هذه السورة في الصحف الأولى ، واختبار ابن جرير أن المراد بقوله : { إِنَّ هذا } إشارة إلى قوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى * بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا * والآخرة خَيْرٌ وأبقى } ، ثم قال تعالى : { إِنَّ هذا } أي مضمون هذا الكلام { لَفِي الصحف الأولى * صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وموسى } وهذا الذي اختباره حسن قوي ، وقد روي عن قتادة وابن زيد نحوه ، والله أعلم .(1/2696)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ (2) عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ (3) تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً (4) تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ (6) لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)
الغاشية من أسماء يوم القيامة ، لأنها تغشى الناس وتعمهم ، روي عن عمرو بن ميمون أنه قال : « مرَّ النبي صلى الله عليه وسلم على امرأة تقرأ : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الغاشية } فقام يستمع ، ويقول : » نعم قد جاءني « » وقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ } أي ذليلة ، وقال ابن عباس : تخشع ولا ينفعها عملها ، وقوله تعالى : { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } أي قد عملت عملاً كثيراً ونصبت فيه ، وصليت يوم القيامة ناراً حامية ، عن أبي عمران الجوني قال : مرَّ عمر بن الخطاب رضي الله عنه بدير راهب ، قال : فناداه : يا راهب ، فأشرف ، قال : فجعل عمر ينظر إليه ويبكي ، فقيل له : يا أمير المؤمنين ما يبكيك من هذا؟ قال : ذكر قول الله عزَّ وجلَّ في كتابه : { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تصلى نَاراً حَامِيَةً } فذاك الذي أبكاني ، قال ابن عباس : { عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ } النصارى ، وعن عكرمة والسدي : عملة في الدنيا بالمعاصي ، ناصبة في النار بالعذاب والإهلاك . وقال ابن عباس : { تصلى نَاراً حَامِيَةً } أي حارة شديدة الحر ، { تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } أي قد انتهى حرها وغليانها ، وقوله تعالى : { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } قال ابن عباس : شجر من النار ، وقال سعيد بن جبير : هو الزقوم ، وعنه أنها الحجارة ، وقال البخاري ، قال مجاهد : الضريع نبت يقال له الشبرق يسميه أهل الحجاز الضريع إذا يبس ، وهو سم ، وقال قتادة : { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ } من شر الطعام وأبشعه وأخبثه ، وقوله تعالى : { لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ } يعني لا يحصل به مقصود ولا يندفع به محذور .(1/2697)
وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ (8) لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ (10) لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً (11) فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ (12) فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)
لما ذكر حال الأشقياء ثَنى بذكر السعداء فقال : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ } أي يوم القيامة ، { نَّاعِمَةٌ } أي يعرف النعيم فيها ، وإنما حصل لها ذلك بسعيها ، { لِّسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ } قد رضيت عملها ، وقوله تعالى : { فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ } أي رفيعة بهية في الغرقات آمنون ، { لاَّ تَسْمَعُ فِيهَا لاَغِيَةً } أي لا تسمع في الجنة التي هم فيها كلمة لغو ، كما قال تعالى : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً } [ الواقعة : 25 ] ، وقال تعالى : { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } [ الطور : 23 ] ، { فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ } أي سارحة وليس المراد بها عيناً واحدة وإنما هذا جنس يعني فيها عيون جاريات ، وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنهار الجنة تفجر من تحت تلال - أو من تحت جبال - المسك » ، { فِيهَا سُرُرٌ مَّرْفُوعَةٌ } أي عالية ناعمة ، كثيرة الفرش مرتفعة السمك عليها الحور العين ، فإذا أراد ولي الله أن يجلس على تلك السرر العالية تواضعت له ، { وَأَكْوَابٌ مَّوْضُوعَةٌ } يعني أواني الشرب معدة مرصدة لمن أرادها ، { وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ } قال ابن عباس : النمارق الوسائد ، وقوله تعالى : { وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ } قال ابن عباس : الزرابي البسط ، ومعنى مبثوثة : أي هاهنا وهنا لمن أراد الجلوس عليها ، عن أُسامة بن زيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » ألا هل من مشمر للجنة فإن الجنة لا خطر لها ، هي ورب الكعبة نور يتلألأ ، وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وثمرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة ، ومقام في أبد في دار سليمة ، وفاكهة وخضرة ، وحبرة ونعمة ، في محلة عالية بهية «! ، قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها ، قال : » قولوا : إن شاء الله « قال القوم إن شاء الله » .(1/2698)
أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21) لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ (26)
يقول تعالى آمراً عباده بالنظر في مخلوقاته الدالة على قدرته وعظمته : { أَفَلاَ يَنظُرُونَ إِلَى الإبل كَيْفَ خُلِقَتْ } ؟ فإنها خلق عجيب و تركيبها غريب ، فإنها في غاية القوة والشدة ، وهي مع ذلك تنقاد للقائد الضعيف ، وتؤكل وينتفع بوبرها ويشرب لبنها ، ونبهوا بذلك لأن العرب غالب دوابهم كانت الإبل ، وكان شريح القاضي يقول : اخرجوا بنا حتى ننظر إلى الإبل كيف خلقت ، وإلى السماء كيف رفعت! أي كيف رفعها لله عزَّ وجلَّ عن الأرض هذا الرفع العظيم ، كما قال تعالى : { أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ ق : 6 ] ، { وإلى الجبال كَيْفَ نُصِبَتْ } أي جعلت منصوبة فإنها ثابتة راسية لئلا تميد الأرض بأهلها : « وجعل فيها ما جعل من المنافع والمعادن ، { وَإِلَى الأرض كَيْفَ سُطِحَتْ } ! أي كيف بسطت ومدت ومهدت ، فنبه البدوي على الاستدلال بما يشاهده من بعيره الذي هو راكب عليه ، والسماء التي فوق رأسه ، والجبل الذي تجاهه ، والأرض التي تحته ، على قدرة خالق ذلك وصانعه ، وأنه الرب العظيم الخالق المالك المتصرف ، وأنه الإله الذي لا يستحق العبادة سواه ، عن أنَس قال : » كنا نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كل شيء ، فكان يعجبنا أن يجيء الرجل من أهل البادية العاقل فيسأله ، ونحن نسمع فجاء رجل من أهل البادية فقال : يا محمد إنا أتانا رسولك ، فزعم لنا أنك تزعم أن الله أرسلك ، قال : « صدق » قال : فمن خلق السماء؟ قال : « الله » ، قال : فمن خلق الأرض؟ قال : « الله » ، قال : فمن نصب هذه الجبال وجعل فيها ما جعل؟ قال : « الله » ، وقال : فبالذي خلق السماء والأرض ونصب هذه الجبال الله أرسلك؟ قال : « نعم » . قال : وزعم رسولك أن علينا خمس صلوات في يومنا وليلتنا؟ قال : « صدق » ، قال : فبالذي أرسلك آلله أمرك بها ، قال : « نعم » ، قال : وزعم رسولك أن علينا حج البيت من استطاع إليه سبيلاً؟ قال : « صدق » ، قال : ثم ولى ، فقال : والذي بعثك بالحق لا أزيد عليهن شيئاً ولا أنقص منهن شيئاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن صدق ليدخلن الجنة » « .
وقوله تعالى : { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } أي فذكر يا محمد الناس بما أرسلت به إليهم { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } [ الرعد : 40 ] ، ولهذا قال : { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } ؛ قال ابن عباس ومجاهد : لست عليهم بجبار ، أي لست تخلق الإيمان في قلوبهم ، وقال ابن زيد : لست بالذي تكرههم على الإيمان ، عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/2699)
« » أُمرت أن أُقاتل الناس حتى يقولوا : لا إله إلا الله فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عزَّ وجلَّ « ، ثم قرأَ : { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } » وقوله تعالى : { إِلاَّ مَن تولى وَكَفَرَ } أي تولى عن العمل بأركانه ، وكفر بالحق بجنانه ولسانه ، وهذه كقوله تعالى : { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولكن كَذَّبَ وتولى } [ القيامة : 31-32 ] ، ولهذا قال : { فَيُعَذِّبُهُ الله العذاب الأكبر } ، روى الإمام أحمد : « أن أبا أمامة الباهلي مرَّ على خالد بن يزيد بن معاوية ، فسأله عن أَلين كلمة سمعها من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » ألا كلكم يدخل الجنة إلا من شرد على الله شراد البعير عن أهله « » وقوله تعالى : { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ } أي مرجعهم ومنقلبهم ، { ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } أي نحن نحاسبهم على أعمالهم ونجازيهم بها ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشرّ .(1/2700)
وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)
أمّا الفجر فمعروف وهو الصبح ، وعن مسروق : المراد به فجر يوم النحر خاصة ، وهو خاتمة الليالي العشر ، وقيل : المراد بذلك الصلاة التي تفعل عنده ، والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة ، وقد ثبت في « صحيح البخاري » : « » ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام « يعني عشر ذي الحجة ، قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال : » ولا الجهاد في سبيل الله ، إلا رجُلاً خرج بنفسه وماله ، ثم لم يرجع من ذلك بشيء « » وقيل : المراد بذلك العشر الأول من المحرم ، عن ابن عباس : { وَلَيالٍ عَشْرٍ } قال : هو العشر الأول من رمضان ، والصحيح القول الأول . روي عن جابر يرفعه : « إن العشر عشر الأضحى ، والوتر يوم عرفة والشفع يوم النحر » وقوله تعالى : { والشفع والوتر } الوتر يوم عرفة لكونه التاسع ، والشفع يوم النحر لكونه العاشر ، قاله ابن عباس : قول ثانٍ : عن واصل بن السائب قال : سألت عطاء عن قوله : { والشفع والوتر } قلت : صلاتنا وترنا هذا؟ قال : لا ، ولكن الشفع يوم عرفة والوتر ليلة الأضحى . قول ثالث : عن أبي سعيد بن عوف قال : سمعت عبد الله بن الزبير يخطب الناس فقام غليه رجل ، فقال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن الشفع والوتر؟ فقال : الشفع قول الله تعالى : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 203 ] ، والوتر قوله تعالى : { وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 203 ] . وفي الصحيحين : « إن لله تسعة وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر » قول رابع : قال الحسن البصري : الخلق كلهم شفع ووتر ، أقسم تعالى بخلقه ، وقال ابن عباس : { والشفع والوتر } قال : الله وتر واحد ، وأنتم شفع ، ويقال : الشفع صلاة الغداة ، والوتر صلاة المغرب . قول خامس : عن مجاهد { والشفع والوتر } قال : الشفع الزوج ، والوتر الله عزَّ وجلَّ ، وعنه : الله الوتر وخلقه الشفع الذكر والأنثى ، وعنه : كل شيء خلقه الله شفع : السماء والأرض ، والبر والبحر ، والجن والإنس ، والشمس والقمر ، ونحو هذا ، كقوله تعالى : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الذاريات : 49 ] أي لتعلموا أن خالق الأزواج واحد . قول سادس : قال الحسن : { والشفع والوتر } هو العدد منه شفع ، ومنه وتر . قول سابع : قال أبو العالية والربيع بن أنَس؛ هي الصلاة منها شفع كالرباعية والثنائية ، ومنها وتر كالمغرب ، فإنها ثلاث ، وهي وتر النهار ، وكذلك صلاة الوتر في آخر التهجد من الليل ، ولم يجزم ابن جرير بشيء من الأقوال في الشفع والوتر .
وقوله تعالى : { واليل إِذَا يَسْرِ } قال ابن عباس : أي إذا ذهب ، وقال مجاهد وأبو العالية { واليل إِذَا يَسْرِ } : إذا سار أي ذهب ، ويحتمل إذا سار ، أي أقبل ، وهذا أنسب لأنه في مقابلة قوله : { والفجر } فإن الفجر هو إقبال النهار ، وإدبار الليل ، فإذا حمل قوله : { واليل إِذَا يَسْرِ } على إقباله كان قسماً بإقبال الليل وإدبار النهار وبالعكس .(1/2701)
كقوله : { والليل إِذَا عَسْعَسَ * والصبح إِذَا تَنَفَّسَ } [ التكوير : 17-18 ] وقال الضّحاك : { واليل إِذَا يَسْرِ } أي يجري ، وقال عكرمة : { واليل إِذَا يَسْرِ } يعني ليلة جمع ليلة المزدلفة ، وقوله تعالى : { هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِى حِجْرٍ } أي لذي عقل ولب وحجى ، وإنما سمي العقل ( حجراً ) لأنه يمنع الإنسان من تعاطي ما لا يليق به من الأفعال والأقوال ، وحجَر الحاكم على فلان إذا منعه التصرف ، وهذا القسم هو بأوقات العبادة ، وبنفس العبادة من حج وصلاة وغير ذلك من أنواع القرب ، التي يتقرب إليه عباده المتقون المطيعون له ، الخائفون منه ، المتواضعون لديه ، الخاشعون لوجهه الكريم ، ولما ذكر هؤلاء وعبادتهم طاعتهم قال بعده : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ } ؟ وهؤلاء كانوا متمردين عتاة جبارين ، خارجين عن طاعته مكذبين لرسله ، فذكر تعالى كيف أهلكهم ودمرهم وجعلهم أحاديث وعبراً ، فقال : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد } ؟ وهؤلاء ( عاد الأولى ) وهم الذي بعث الله فيهم رسوله هوداً عليه السلام فكذبوه وخالفوه ، فأنجاه الله من بين أظهرهم ومن آمن معه منهم وأهلكهم { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة : 6 ] ، وقد ذكر الله قصتهم في القرآن ، ليعتبر بمصرعهم المؤمنون ، قوله تعالى : { إِرَمَ ذَاتِ العماد } عطف بيان زيادة تعريف بهم ، وقوله تعالى : { ذَاتِ العماد } لأنهم كانوا يسكنون بيوت الشعر التي ترفع بالأعمدة الشداد ، وقد كانوا أشد الناس في زمانهم خلقة وأقواهم بطشاً ، ولهذا ذكّرهم ( هود ) بتلك النعمة ، وأرشدهم إلى أن يستعملوها في طاعة ربهم الذي خلقهم فقال : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً فاذكروا آلآءَ الله . . . وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأرض مُفْسِدِينَ } [ الأعراف : 69-74 ] .
وقوله تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } [ فصلت : 15 ] ، وقال هاهنا : { التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد } أي القبيلة التي لم يخلق مثلها في بلادهم لقوتهم وشدتهم وعظم تركيبهم ، وقال مجاهد : إرم أمة قديمة يعني عاداً الأولى ، قال قتادة والسدي : إن إرم بيت مملكة عاد ، وكانوا أهل عمد لا يقيمون ، وقال ابن عباس : إنما قيل لهم ذات العماد لطولهم ، واختار الأول ابن جرير ، وقوله تعالى : { التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد } الضمير يعود على القبيلة ، أي لم يخلق مثل تلك القبيلة في البلاد يعني في زمانهم ، روي عن المقدام أنه ذكر { إِرَمَ ذَاتِ العماد } فقال : « كان الرجل منهم يأتي على الصخرة فيحملها على الحي فيهلكهم »(1/2702)
، وسواء كانت العماد أبنية بنوها ، أو أعمدة بيوتهم للبدو ، أو سلاحهم يقاتلون به ، أو طول الواحد منهم ، فهم قبيلة وأمة من الأمم ، وهم المذكورون في القرآن في غير ما موضع ، المقرنون بثمود كما ههنا ، والله أعلم . ومن زعم أن المراد بقوله : { إِرَمَ ذَاتِ العماد } مدينة إما دمشق ، أو اسكندرية أو غيرهما ، فضعيف لأنه لا يتسق الكلام حينئذٍ ، ثم المراد إنما هو الإخبار عن إهلاك القبيلة المسماة بعاد ، وما أحل الله بهم من بأسه الذي لا يرد ، لا أن المراد الإخبار عن مدينة أو إقليم ، وقوله ابن جرير : يحتمل أن يكون المراد بقوله : { إِرَمَ ذَاتِ العماد } قبيلة أو بلدة كانت عاد تسكنها فلذلك لم تصرف ، فيه نظر ، لأن المراد من السياق إما هو الإخبار عن القبيلة ، ولهذا قال بعده : { وَثَمُودَ الذين جَابُواْ الصخر بالواد } يعني يقطعون الصخر بالوادي ، قال ابن عباس : ينحتونها ويخرقونها ، يقال : اجتاب الثوب : إذا فتحه ، وقال تعالى : { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِينَ } [ الشعراء : 149 ] ، وقال ابن إسحاق : كانوا عرباً وكان منزلهم بوادي القرى ، وقد ذكرنا قصة عاد مستقصاة في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته . وقوله تعالى : { وَفِرْعَوْنَ ذِى الأوتاد } قال ابن عباس : الأوتاد الجنود الذين يشدون له أمره ، ويقال : كان فرعون يوتد أيديهم وأرجلهم في أوتاد من حديد يعلقهم بها ، وكذا قال مجاهد : كان يوتد الناس بالأوتاد ، وقال السدي : كان يربط الرجل كل قائمة من قوائمه في وتد ثم يرسل عليه صخرة عظيمة فيشدخه ، وقال ثابت البناني : قيل لفرعون ذي الأوتاد ، لأنه ضرب لامرأته أربعة أوتاد ، ثم جعل على ظهرها رحى عظيمة حتى ماتت ، وقوله تعالى : { الذين طَغَوْاْ فِي البلاد * فَأَكْثَرُواْ فِيهَا الفساد } أي تمردوا وعتوا وعاثوا في الأرض بالإفساد والأذية للناس ، { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ } أي أنزل عليهم رجزاً من السماء ، وأحل بهم عقوبة لا يردها عن القوم المجرمين ، وقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } قال ابن عباس : يسمع ويرى يعني يرصد خلقه فيما يعملون ، ويجازي كلاً بسعيه في الدنيا والأخرى ، وسيعرض الخلائق كلهم عليه فيحكم فيهم بعدله ويقابل كلاً بما يستحقه وهو المنزه عن الظلم والجور .(1/2703)
فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَلْ لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20)
يقول تعالى منكراً على الإنسان ، إذ وسع الله تعالى عليه في الرزق ليختبره ، فيعتقد أن ذلك من الله إكرام له ، وليس كذلك بل هو ابتلاء وامتحان ، كما قال تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55-56 ] وكذلك في الجانب الآخر إذا ابتلاه وامتحنه وضيق عليه في الرزق ، يعتقد أن ذلك من الله إهانة له ، قال الله تعالى : { كَلاَّ } أي ليس الأمر كما زعم لا في هذا ولا في هذا ، فإن الله تعالى يعطي المال من يحب ومن لا يحب ، ويضيق على من يحب ومن لا يحب ، وإنما المدار في ذلك على طاعة الله في كل من الحالين ، إذا كان غنياً بأن يشكر الله على ذلك ، وإذا كان فقيراً بأن يصبر ، وقوله تعالى : { بَل لاَّ تُكْرِمُونَ اليتيم } فيه أمر بالإكرام له كما جاء في الحديث : « خير بيت في المسلمين بيت فيه يتيم يحسن إليه ، وشر بيت في المسلمين بيت في يتيم يساء إليه » وقال صلى الله عليه وسلم : « » أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة « وقرن بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام » ، { وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين } يعني لا يأمرون بالإحسان إلى الفقراء والمساكين ويحث بعضه على بعض في ذلك { وَتَأْكُلُونَ التراث } يعني الميراث { أَكْلاً لَّمّاً } أي من أي جهة حصل لهم من حلال أو حرام { وَتُحِبُّونَ المال حُبّاً جَمّاً } أي كثيراً فاحشاً .(1/2704)
كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30)
يخبر تعالى عما يقع يوم القيامة من الأهوال العظيمة فقال تعالى : { كَلاَّ } أي حقاً { إِذَا دُكَّتِ الأرض دَكّاً دَكّاً } أي وطئت ومهدت وسويت الأرض والجبال ، وقام الخلائق من قبورهم لربهم { وَجَآءَ رَبُّكَ } يعني لفصل القضاء بين خلقه ، وذلك بعدما يستشفعون إليه بسيد ولد آدم على الإطلاق ، محمد صلوات الله وسلامه عليه ، فيجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء ، والملائكة يجيئون بين يديه صفوفاً صفوفاً ، وقوله تعالى : { وجياء يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ } روى الإمام مسلم في « صحيحه » : عن عبد الله بن مسعود قال رسول الله صل الله عليه وسلم : « يؤتى لها سبعون ألف زمام مع كل زمام سبعون ألف ملك يجرونها » ، وقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان } أي عمله موما كان أسفله في قديم دهره وحديثه ، { وأنى لَهُ الذكرى } أي وكيف تنفعه الذكرى ، { يَقُولُ ياليتني قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي } يعني يندم على ما كان سلف منه من المعاصي إن كان عاصياً ، ويود لو كان ازداد من الطاهات إن كان طائعاً ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل عن جبير بن نفير عن محمد بن عمرة ، وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : لو أن عبداً خرَّ على وجهه من يوم ولد إلى أن يموت في طاعة الله لحقره يوم القيامة ، ولَوَدَّ أنه رد إلى الدنيا كيما يزداد من الأجر والثواب ، وقال الله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ } أي ليس أحد أشد عذابا من تعذب الله من عصاه ، { وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } أي وليس أحد أشد قبضاً ووثقاً من الزبانية لمن كفر بربهم عزَّ وجلَّ ، وهذا في حق المجرمين من الخلائق والظالمين ، فأما النفس الزكية المطمئنة وهي الساكنة الثابتة الدائرة مع الحق ، فيقال لها : { ياأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى رَبِّكِ } أي إلى جواره وثوابه وما أعد لعباده في جنته { رَاضِيَةً } أي في نفسها ، { مَّرْضِيَّةً } أي قد رضيت عن الله ، ورضي الله عها وأرضاها ، { فادخلي فِي عِبَادِي } أي في جملتهم ، { وادخلي جَنَّتِي } وهذا يقال لها عند الاحتضار ، وفي يوم القيامة أيضا ، كما ِأن الملائكة يبشرون المؤمن عند احتضاره وعند قيامه من قبره فكذلك هاهنا ، ثم اختلف المفسرون فيمن نزلت هذه الآية ، فروي أنها نزلت في عثمان بن عفّان ، وقيل : إنها نزلت في حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه ، وقال ابن عباس في قوله تعالى : { ياأيتها النفس المطمئنة * ارجعي إلى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً } قال : « نزلت وأبو بكر جالس فقال : يا رسول الله ما أحسن هذا؟ فقال : » أما إنه سيقال لك هذا « » وروى الحافظ ابن عساكر ، عن أمامة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : « قل : اللهم إني أسألك نفساً بك مطمئنة ، تؤمن بلقائك ، وترضى بقضائك ، وتقنع بعطائك » .(1/2705)
لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10)
هذا قسم من الله تبارك وتعالى بمكة ( أُم القرى ) في حال كون الساكن فيها حلالاً ، لينبّه على عظمة قدرها في حال إحرام أهلها ، قال مجاهد : { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } لا ، رد عليهم ، أقسم بهذا البلد ، وقال ابن عباس : { لاَ أُقْسِمُ بهذا البلد } يعني مكة { وَأَنتَ حِلٌّ بهذا البلد } قال : أنت يا محمد يحل لك أن تقاتل به ، وقال مجاهد : ما أصبت فيه فهو حلال لك ، وقال الحسن البصري : أحلها الله له ساعة من نهار ، وهذا المعنى قد ورد به الحديث المتفق على صحته : « إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه ، وإنما أحلت لي ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فليبلغ الشاهد الغائب » وفي لفظ آخر : « فإن أحد ترخّص بقتال رسول الله فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم » ، وقوله تعالى : { وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ } قال ابن عباس : الوالد الذي يلد { وَمَا وَلَدَ } العاقر الذي لا يولد له ، وقال مجاهد وقتادة والضحّاك : يعني بالوالد آدم { وَمَا وَلَدَ } ولده ، وهذا الذي ذهب إليه مجاهد وأصحابه حسن قوي ، لأنه تعالى لما أقسم بأُم القرى وهي المساكن ، أقسم بعده بالساكن ، وهو ( آدم ) أبو البشر وولده ، واختار ابن جرير أنه عام في كل ولد وولده وهو محتمل أيضاً ، وقوله تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي كَبَدٍ } روي عن ابن مسعود وابن عباس : يعني منتصباً ، زاد ابن عباس : منتصباً في بطن أمه ، والكبد : الاستواء والاستقامة ، ومعنى هذا القول : لقد خلقناه سوياً مستقيماً ، كقوله تعالى : { الذي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ * في أَىِّ صُورَةٍ مَّا شَآءَ رَكَّبَكَ } [ الانفطار : 7-8 ] ، وكقوله تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] وقال ابن عباس : { فِي كَبَدٍ } في شدة خلق ، ألم ترى إليه وذكر مولده ونبات أسنانه ، وقال مجاهد : { فِي كَبَدٍ } نطفة ، ثم علقة ، ثم مضغة ، يكبد في الخلق ، وهو كقوله تعالى : { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } [ الأحقاف : 15 ] فهو يكابد ذلك ، وقال سعيد بن جبير : { فِي كَبَدٍ } في شدة وطلب معيشة ، وقال قتادة : في مشقة ، وقال الحسن : يكابد أمر الدنيا وأمر من الآخرة ، وفي رواية : يكابد مضايق الدنيا وشدائد الآخرة ، واختبار ابن جرير أن المراد بذلك مكابدة الأمور ومشاقها .
وقال تعالى : { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } قال الحسن البصري : يعني يأخذ ماله ، وقال قتادة : يظن أن لن يسأل عن هذا المال من أين اكتسبه وأين أنفقه ، وقال السدي : { أَيَحْسَبُ أَن لَّن يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ } قال : الله عزَّ وجلَّ يظن أن لن يقدر عليه ربه ، وقوله تعالى : { يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالاً لُّبَداً } أي يقول ابن آدم : أنفقت { مَالاً لُّبَداً } أي كثيراً قاله مجاهد والحسن ، { أَيَحْسَبُ أَن لَّمْ يَرَهُ أَحَدٌ } قال مجاهد : أي أيحسب أن لم يره الله عزَّ وجلَّ ، وكذا قال غيره من السلف ، وقوله تعالى : { أَلَمْ نَجْعَل لَّهُ عَيْنَيْنِ } أي يبصر بهما { وَلِسَاناً } أي ينطق به فيعبر عما في ضميره { وَشَفَتَيْنِ } يستعين بهما على الكلام ، وأكل الطعام ، وجمالاً لوجهه وفمه .(1/2706)
وقد روى الحافظ ابن عساكر عن مكحول قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « يقول الله تعالى : يا ابن آدم ، قد أنعمت عليك نعماً عظاماً ، لا تحصي عددها ولا تطيق شكرها ، وإن مما أنعمت عليك أن جعلت لك عينين تنظر بهما ، وجعلت لهما غطاء ، فانظر بعينيك إلى ما أحللت لك ، وإن رأيت ما حرمت عليك ، فأطبق عليهما غطاءهما ، وجعلت لك لساناً وجعلت له غلافاً ، فانطق بما أمرتك ، وأحللت لك فإن عرض عليك ما حرمت عليك فأغلق عليك لسانك ، وجعلت لك فرجاً وجعلت لك ستراً ، فأصب بفرجك ما احللت لك ، فإن عرض عليك ما حرمت عليك فأرخ عليك سترك ، يا ابن آدم إنك لا تحمل سخطي ولا تطيق انتقامي » ، { وَهَدَيْنَاهُ النجدين } : الطريقين ، قال ابن مسعود : الخير والشر ، وعن أبي رجاء قال : « سمعت الحسن يقول : { وَهَدَيْنَاهُ النجدين } قال : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله علي وسلم كان يقول : » يا أيها الناس إنهما النجدان : نجد الخير ، ونجد الشر ، فما جعل نجد الشر أحب إليكم من نجد الخير « ، وقال ابن عباس : { وَهَدَيْنَاهُ النجدين } قال : الثديين ، قال ابن جرير : والصواب القول الأول ، نظير هذه الآية قوله تعالى : { إِنَّا هَدَيْنَاهُ السبيل إِمَّا شَاكِراً وَإِمَّا كَفُوراً } [ الإنسان : 3 ] .(1/2707)
فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)
روى ابن جرير عن ابن عمر في قوله تعالى : { فَلاَ اقتحم } أي دخل { العقبة } قال : جبل في جهنم ، وقال كعب الأحبار ، هو سبعون درجة في جهنم ، وقال الحسن البصري : عقبة في جهنم ، وقال قتادة : إنها عقبة قحمة شديدة فاقتحموها بطاعة الله تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة } ؟ ثم أخبر تعالى عن اقتحامها فقال : { فَكُّ رَقَبَةٍ * أَوْ إِطْعَامٌ } ، وقال ابن زيد : { فَلاَ اقتحم العقبة } أي أفلا سلك الطريق التي فيها النجاة والخير ، ثم بينها فقال تعالى : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا العقبة * فَكُّ رَقَبَةٍ } ، عن سعيد بن مرجانة عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » من أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل إرب - إو عضو - منها إرباً منه من النار حتى إنه ليعتق باليد اليد ، وبالرجل الرجل ، وبالفرج الفرج « ، فقال علي بن الحسين : أنت سمعت هذا من أبي هريرة؟ فقال : سعيد : نعم ، فقال علي بن الحسين لغلام له أفره غلمانه ، ادع مطرفاً ، فلما قام بين يديه ، قال : اذهب فأنت حر لوجه الله » وعند مسلم أن هذا الغلام الذي أعتقه علي بن الحسين بن زيد العابدين كان قد أعطي فيه عشرة آلاف درهم ، وعن عمرو بن عبسة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من بنى مسجداً ليذكر الله فيه بنى الله له بيتاً في الجنة ، ومن أعتق نفساً مسلمة كانت فديته من جهنم ، ومن شاب شيبة في الإسلام كانت له نوراً يوم القيامة » وفي الحديث : « من ولد له ثلاثة أولاد في الإسلام فماتوا قبل أن يبلغوا الحنث أدخله الله الجنة بفضل رحمته إياهم ، ومن شاب شيبة في سبيل الله كانت له نوراً يوم القيامة ، ومن رمى بسهم في سبيل الله بلغ به العدو أصاب أو أخطأ كان له عتق رقبة ، ومن أعتق رقبة مؤمنة أعتق الله بكل عضو منه عضواً منه من النار ، و من أعتق زوجين في سبيل الله فإن للجنة ثمانية أبواب يدخله الله من أي باب شاء منها » وهذه أسانيد جيدة قوية ولله الحمد .
وقوله تعالى : { أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ } قال ابن عباس : ذي مجاعة ، والسغب : هو الجوع ، وقال النخعي : في يوم الطعامُ فيه عزيز ، وقال قتادة : في يوم مشتهى فيه الطعام ، وقوله تعالى : { يَتِيماً } أي أطعم في مثل هذا اليوم يتيماً { ذَا مَقْرَبَةٍ } أي ذا قرابة منه ، ما جاء في الحديث الصحيح : « الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم اثنتان ، صدقة وصلة » وقوله تعالى : { أَوْ مِسْكِيناً ذَا مَتْرَبَةٍ } أي فقيراً مدقعاً لا صقاً بالتراب ، وهو الدقعاء أيضاً ، قال ابن عباس : ذا متربة هو المطروح في الطريق ، الذي لا بيبت له ولا شيء يقيه من التراب ، وفي رواية : هو الذي لصق بالدقعاء من الفقر والحاجة ليس له شيء ، وقال عكرمة : هو الفقير المدين المحتاج ، وقال سعيد بن جبير : هو الذي لا أحد له ، وقال قتادة : هو ذو العيال ، وكل هذه قريبة المعنى ، وقوله تعالى : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ } أي ثم هو من هذه الأوصاف الجميلة الطاهرة مؤمن بقلبه ، محتسب ثواب ذلك عند الله عزَّ وجلَّ ، كما قال تعالى :(1/2708)
{ وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [ الإسراء : 19 ] ، وقال تعالى : { وَتَوَاصَوْاْ بالصبر وَتَوَاصَوْاْ بالمرحمة } أي كان من المؤمنين العاملين صالحاً ، « المتواصين بالصبر على أذى الناس ، وعلى الرحمة بهم » ، كما جاء في الحديث : « الراحمون يرحمهم الرحمن ، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء » وعن عبد الله بن عمرو يرويه قال : « من لم يرحم صغيرنا ويعرف حق كبيرنا فليس منا » ، وقوله تعالى : { أولئك أَصْحَابُ الميمنة } أي المتصفون بهذه الصفات من أصحاب اليمين ، ثم قال : { والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ المشأمة } أي أصحاب الشمال ، { عَلَيْهِمْ نَارٌ مُّؤْصَدَةٌ } أي مطقبة عليهم فلا محيد لهم عنها ، ولا خروج لهم منها ، قال أبو هريرة { مُّؤْصَدَةٌ } أي مطبقة ، وقال ابن عباس : مغلقة الأبواب ، وقال مجاهد : أصد الباب أي أغلق ، وقال الضحّاك { مُّؤْصَدَةٌ } حيط بلا باب له ، وقال قتادة : { مُّؤْصَدَةٌ } مطبقة فلا ضوء فيها ولا فرج ولا خروج منها آخر الأبد ، وقال أبو عمران الجوني : إذا كان يوم القيامة أمر الله بكل جبار وكل شيطان ، وكل من كان يخاف الناس في الدنيا شره ، فأوثوا بالحديد ، ثم أمر بهم إلى جهنم ثم أوصدوها عليهم أي أطبقوها ، قال : فلا والله لا تستقر أقدامهم على قرار أبداً ، ولا والله لا ينظرون فيها إلى أديم سماء أبداً ، ولا والله لا يذوقون فيها بارد شراب أبداً .(1/2709)
وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)
قال مجاهد { والشمس وَضُحَاهَا } : أي وضوئها ، وقال قتادة : { وَضُحَاهَا } النهار كله . قال ابن جرير : والصواب أن يقال : أقسم الله بالشمس ونهارها ، لأن ضوء الشمس الظاهر هو النهار ، { والقمر إِذَا تَلاَهَا } قال مجاهد : تبعها ، وقال ابن عباس : { والقمر إِذَا تَلاَهَا } قال : يتلو النهار ، وقال قتادة : إذا تلاها ليلة الهلال إذا سقطت الشمس رؤي الهلال . وقال ابن زيد : هو يتلوها في النصف الأول من الشهر ، ثم هي تتلوه وهو يتقدمها في النصف الأخير من الشهر ، وقوله تعالى : { والنهار إِذَا جَلاَّهَا } قال مجاهد : أضاءها ، وقال قتادة : إذا غشيها النهار ، وتأول بعضهم ذلك بمعنى : والنهار إذا جلا الظلمة لدلالة الكلام عليها . ( قلت ) : ولو أن القائل تأول ذلك بمعنى { والنهار إِذَا جَلاَّهَا } أي البسيطة لكان أولى ، ولصح تأويله في قوله تعالى : { والليل إِذَا يَغْشَاهَا } فكان أجود وأقوى ، والله أعلم . ولهذا قال مجاهد : { والنهار إِذَا جَلاَّهَا } إنه كقوله تعالى : { والنهار إِذَا تجلى } [ الليل : 2 ] ، وأما ابن جرير فاختار عود الضمير ذلك كله على الشمس لجريان ذكرها ، وقالوا في قوله تعالى : { والليل إِذَا يَغْشَاهَا } يعني إذا يغشى الشمس حين تغيب فتظلم الآفاق . وقال بقية : إذا جاء الليل قال الرب جلَّ جلاله : غشي عبادي خلقي العظيم ، فالليل تهابه ، والذي خلقه أحق أن أن يهاب . وقوله تعالى : { والسمآء وَمَا بَنَاهَا } يحتمل أن تكون ( ما ) هاهنا مصدرية بمعنى : والسماء وبنائها ، وهو قول قتادة ، ويحتمل أن تكون بمعنى ( من ) يعني : والسماء وبانيها ، وهو قول مجاهد ، وكلاهما متلازم والبناء هو الرفع كقوله تعالى : { والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ } - أي بقوة - { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } ، وقوله تعالى : { والأرض وَمَا طَحَاهَا } قال مجاهد : { طَحَاهَا } دحاها ، وقال ابن عباس : أي خلق فيها ، وقال مجاهد وقتادة والضحّاك : { طَحَاهَا } بسطها ، وهذا أشهر الأقوال ، وعليه الأكثر من المفسرين وهو المعروف عند أهل اللغة ، قال الجوهري : طحوته مثل دحوته أي بسطته ، وقوله تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا } أي خلقها سوية مستقيمة على الفطرة القويمة كما قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } [ الروم : 30 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل مولود يولد على الفطرة » وفي « صحيح مسلم » : « يقول الله عزَّ وجلَّ : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم » و قوله تعالى : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } أي فأرشدها إلى فجورها وتقواها أي بين ذلك لها وهداها إلى ما قدر لها ، قال ابن عباس : بيّن لها الخير والشر ، وقال سعيد بن جبير : ألهمها الخير والشر ، وقال ابن زيد : جعل فيها فجورها وتقواها . وفي الحديث : « أن رجلاً من مزينة أو جهينة أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت ما يعمل الناس فيه ويتكادحون ، أشيء قضي عليهم من قدر قد سبق ، أم شيء مما يستقبلون مما أتاهم به نبيه صلى الله عليه وسلم وأكدت به عليهم الحجة؟ قال : » بل شيء قد قضي عليهم « ، قال : ففيم نعمل؟ قال : » من كان الله خلقه لإحدى المنزلتين يهيئه لها ، وتصديق ذلك في كتاب الله تعالى : { وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا * فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } « » .(1/2710)
وقوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } المعنى قد أفلح من زكى نفسه بطاعة الله ، وظهرها من الأخلاق الدنيئة والرذائل ، كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى * وَذَكَرَ اسم رَبِّهِ فصلى } [ الأعلى : 14-15 ] { وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } أي دسسها أي أخملها حتى ركب المعاصي وترك طاعة الله عزَّ وجلَّ ، وقد يحتمل أن يكون المعنى : قد أفلح من زكى نفسه ، وقد خاب من دسّى الله نفسه ، كما قال ابن عباس ، وروى ابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة قال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : { فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا } قال : » اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها « » ، وفي رواية « عن عائشة أنها فقدت النبي صلى الله عليه وسلم من مضجعه ، فلمسته بيدها فوقعت عليه وهو ساجد ، وهو يقول : » رب أعط نفسي تقواها ، وزكّها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها « » حديث آخر : روى الإمام أحمد ، عن زيد بن أرقم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل ، والهرم والجبن والبخل وعذاب القبر ، اللهم آت نفسي تقواها ، وزكها أنت خير من زكاها ، أنت وليها ومولاها ، اللهم إني أعوذ بك من قلب لا يخشع ، ومن نفس لا تشبع ، وعلم لا ينفع ، ودعوة لا يستجاب لها » قال زيد : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمناهن ونحن نعلمكموهن .(1/2711)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)
يخبر تعالى عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم ، بسبب ما كانوا عليه من الطغيان والبغي ، فأعقبهم ذلك تكذيباً في قلوبهم بما جاءهم به رسولهم عليه الصلاة والسلام من الهدى واليقين { إِذِ انبعث أَشْقَاهَا } أي أشقى القبيلة وهو ( قدار بن سالف ) عاقر الناقة ، وهو الذي قال الله تعالى : { فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ } [ القمر : 29 ] الآية ، وكان هذا الرجل عزيزاً شريفاً في قومه ، نسيباً رئيساً مطاعاً ، كما قال الإمام أحمد : « خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر الناقة ، وذكر الذي عقرها ، فقال : » { إِذِ انبعث أَشْقَاهَا } انبعث لها رجل عارم عزيز منيع في رهطه مثل أبي زمعة « » وروى ابن أبي حاتم ، عن عمار بن ياسر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : « ألا أحدثك بأشقى الناس؟ » قال : بلى ، قال : « رجلان أحيمر ثمود الذي عقر الناقة ، والذي يضربك يا علي على هذا - يعني قرنه - حتى تبتل منه هذه » يعني لحيته « وقوله تعالى : { فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ الله } يعني صالحاً عليه السلام { نَاقَةَ الله } أي احذروا ناقلة الله أن تمسوها بسوء ، { وَسُقْيَاهَا } أي لا تعتدوا عليها في سقياها فإن لها شرب يوم ، ولكم شرب يوم معلوم ، قال الله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا } أي كذبوه فيما جاءهم به ، فأعقبهم ذلك أن عقروا الناقة ، التي أخرجها الله من الصخرة آية لهم وحجة عليهم ، { فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ } أي غضب عليهم فدمّر عليهم ، { فَسَوَّاهَا } أي فجعل العقوبة نازلة عليهم على السواء . قال قتادة : بلغنا أن أحيمر ثمود لم يعقر الناقة حتى تابعه صغيرهم وكبيره وذكرهم وأنثاهم ، فلما اشترك القوم في عقرها دمدم الله عليهم بذنبهم فسواها ، وقوله تعالى : { وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا } قال ابن عباس : لا يخاف الله من أحد تبعة ، وقال الضحّاك والسدي : { وَلاَ يَخَافُ عُقْبَاهَا } أي لم يخف الذي عقرها عاقبة ما صنع ، والقول الأول أولى لدلالة السياق عليه ، والله أعلم .(1/2712)
وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11)
أقسم تعالى بالليل { إِذَا يغشى } أي إذا غشى الخليقة بظلامه ، { والنهار إِذَا تجلى } أي بضيائه وإشراقه ، { وَمَا خَلَقَ الذكر والأنثى } كقوله تعالى : { وَخَلَقْنَاكُمْ أَزْوَاجاً } [ النبأ : 8 ] ، { إِنَّ سَعْيَكُمْ لشتى } أي أعمال العباد التي اكتسبوها متضادة ومتخالفة ، فمن فاعل خيراً ومن فاعل شراً ، قال الله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى } أي أعطى ما أمر بإخراجه ، واتقى الله في أموره ، { وَصَدَّقَ بالحسنى } بالمجازاة على ذلك أي بالثواب . وقال ابن عباس ، ومجاهد : { وَصَدَّقَ بالحسنى } أي بالخُلْف ، وقال الضحّاك : بلا إله إلاّ الله ، وقال أُبيّ بن كعب : « سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحسنى قال : » الحسنى : الجنة « » وقوله تعالى : { فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى } قال ابن عباس : يعني للخير ، وقال زيد بن أسلم : يعني للجنة ، { وَأَمَّا مَن بَخِلَ } أي بما عنده { واستغنى } قال ابن عباس : أي بخل بماله واستغنى عن ربه عزَّ وجلَّ : { وَكَذَّبَ بالحسنى } أي بالجزاء في الدار الآخرة { فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى } أي لطريق الشر ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] ، والآيات في هذا المعنى كثيرة دالة على أن الله عزَّ وجلَّ يجازي من قصد الخير بالتوفيق له ، ومن قصد الشر بالخذلان ، وكل ذلك بقدر مقدر ، والأحاديث الدالة على هذا المعنى كثيرة ، روى البخاري عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : « كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بقيع الغرقد في جنازة فقال : » ما منكم من أحد إلاّ وقد كتب مقعده من الجنة ومقعده من النار « فقالوا : يا رسول الله أفلا نتكل؟ فقال : » اعلموا فكل ميسر لما خلق له « ، ثم قرأ : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى * وَصَدَّقَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى } - إلى قوله - { للعسرى } » ، وفي رواية أُخرى عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : « كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله معه مخصرة فنكس ، فجعل ينكت بمخصرته ، ثم قال : » ما منكم من أحد - أو ما من نفس منفوسة - إلاّ كتب مكانها من الجنة والنار ، وإلاّ قد كتبت شقية أو سعيدة « ، فقال رجل : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا وندع العمل؟ فمن كان منا من أهل السعادة فسيصير إلى أهل السعادة ، ومن كان منا من أهل الشقاء فسيصير إلى أهل الشقاء؟ فقال : » أما أهل السعاد فييسرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاء فييسرون إلى عمل أهل الشقاء « ، ثم قرأ : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى * وَصَدَّقَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى * وَكَذَّبَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى } »(1/2713)
وعن جابر بن عبد الله « أنه قال : يا رسول الله أنعمل لأمر قد فرغ منه أو لأمر نستأنفه؟ فقال : » لأمر قد فرغ منه « فقال سراقة : فيم العمل إذاً؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » كل عامل ميسر لعمله « » وفي الحديث : « » ما من يوم غربت فيه شمسه إلاّ وبجنبتيها ملكان يناديان يسمعهما خلق الله كلهم إلاّ الثقلين : اللهم أعط منفقاً خلفاً وأعط ممسكاً تلفاً « وأنزل الله في ذلك القرآن : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى * وَصَدَّقَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى * وَكَذَّبَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى } » وذكر أن هذه الآية نزلت في ( أبي بكر الصديق ) رضي الله عنه كان يعتق على الإسلام بمكة ، فكان يعتق عجائز ونساء إذا أسلمن ، فقال له أبوه : أي بني أراك تعتق أُناساً ضعفاء ، فلو أنك تعتق رجالاً جلداء يقومون معك ، ويمنعونك ويدفعون عنك ، فقال : أي أبت إنما أريد ما عن الله ، فنزلت الآية : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى * وَصَدَّقَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى } ، وقوله تعالى : { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى } قال مجاهد : أي إذا مات ، وقال زيد بن أسلم : إذا تردى في النار .(1/2714)
إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21)
قال قتادة { إِنَّ عَلَيْنَا للهدى } : أي نبيّن الحلال والحرام ، وقال غيره : من سلك طريق الهدى وصل إلى الله ، وجعله كقوله تعالى : { وعلى الله قَصْدُ السبيل } [ النحل : 9 ] ، وقوله : { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى } أي الجميع ملكنا وأنا المتصرف فيهما ، وقوله تعالى : { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى } قال مجاهد : أي توهج ، وفي الحديث : « إن أهون أهل النار عذاباً يوم القيامة رجل توضع في أخمص قدميه جمرتان يغلي منهما دماغه » أخرجه البخاري . وفي رواية مسلم : « إن أهون أهل النار عذاباً من له نعلان وشراكان من نار يغلي منهما دماغه كما يغلي المرجل ما يرى أن أحداً أشد منه عذاباً وإنه لأهونهم عذاباً » ، وقوله تعالى : { لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى } أي لا يدخلها إلاّ الأشقى ، ثم فسره فقال : { الذي كَذَّبَ } أي بقلبه { وتولى } أي عن العمل بجوارحه وأركانه ، عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » لا يدخل النار إلاّ شقي « ، قيل : ومن الشقي؟ قال : » الذي لا يعمل بطاعة ، ولا يترك لله معصية « » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » كل أمتي تدخل الجنة يوم القيامة إلاّ من أبى « ، قالوا : ومن يأبى يا رسول الله؟ قال : » من أطاعني دخل الجنة ، ومن عصاني فقد أبى « » ، وقوله تعالى : { وَسَيُجَنَّبُهَا الأتقى } أي وسيزحزح عن النار التقي النقي ، الأتقى ثم فسره بقوله : { الذى يُؤْتِي مَالَهُ يتزكى } أي يصرف ماله في طاعة ربه ليزكي نفسه { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى } أي ليس بذله في مكافأة من أسدى إليه معروفاً ، وإنما دفعه ذلك { ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى } أي طمعاً في أن يحصل له رؤيته في الدار الآخرة في روضات الجنات ، قال الله تعالى : { وَلَسَوْفَ يرضى } أي ولسوف يرضى من اتصف بهذه الصفات ، وقد ذكر المفسرون أن هذه الآيات نزلت في أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، حتى إن بعضهم حكى الإجماع . على ذلك ، ولا شك أنه داخل فيها وأولى الأمة بعمومها فإنه كان صدّيقاً تقياً ، كريماً جواداً ، بذالاً لأمواله في طاعة مولاه ، ونصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان فضله وإحسانه على السادات والرؤساء من سائر القبائل ، ولهذا قال له ( عروة بن مسعود ) وهو سيد ثقيف يوم صلح الحديبية : أما والله لولا يدٌ لك عندي لم أجزك بها لأجبتك ، وكان الصدّيق قد أغلظ له في المقالة ، فإذا كان هذا حاله مع سادات العرب ورؤساء القبائل فكيف بمن عداهم؟ ولهذا قال تعالى : { وَمَا لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تجزى * إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ رَبِّهِ الأعلى * وَلَسَوْفَ يرضى } . وفي الصحيحين « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » من أعتق زوجين في سبيل الله ، دعته خزنة الجنة يا عبد الله هذا خير « ، فقال أبو بكر : يا رسول الله ما على من يدعى منها ضرورة ، فهل يدعى منها كلها أحد؟ قال : » نعم وأرجو أن تكون منهم « » .(1/2715)
وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)
روى الإمام أحمد ، عن جندب بن عبد الله قال : « اشتكى النبي صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلة أو ليلتين ، فأتت امرأة فقالت : يا محمد ما آرى شيطانك إلاّ قد تركك ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { والضحى * والليل إِذَا سجى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } » وفي رواية : أبطأ جبريل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال المشركون : ودع محمداً ربه ، فأنزل الله تعالى : { والضحى * والليل إِذَا سجى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } ، وهذا قسم منه تعالى بالضحى وما جعل فيه من الضياء { والليل إِذَا سجى } أي سكن فأظلم وادلهم ، وذلك دليل ظاهر على قدرته تعالى ، كما قال تعالى : { والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى } [ الليل : 1-2 ] ، وقال تعالى : { فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم } [ الأنعام : 96 ] ، وقوله تعالى : { مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ } أي ما تركك { وَمَا قلى } أي وما أبغظك ، { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى } أي وللدار الآخرة خير لك من هذه الدار ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا وأعظمهم لها إطراحاً ، كما هو معلوم بالضرورة من سيرته ، ولما خيَّر عليه السلام في آخر عمره ، بين الخلد في الدنيا إلى آخرها ثم الجنة ، وبين الصيرورة إلى الله عزَّ وجلَّ ، اختار ما عند الله على هذه الدنيا الدنية ، ورى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن مسعود قال : « اضطجع رسول الله صلى الله عليه وسلم على حصير فأثر في جنبه ، فلما استيقظ جعلت أمسح جنبه ، وقلت : يا رسول الله ألا آذنتنا حتى نبسط لك على الحصير شيئاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما لي وللدنيا إنما مثلي ومثل الدنيا كراكب ظلّ تحت شجرة ثم راح وتركها « » وقوله تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } أي في الدار الآخرة يعطيه حتى يرضيه في أُمته ، وفيما أعده له من الكرامة ، ومن جملته نهر الكوثر الذي حفتاه قباب اللؤلؤ المجوف وطينه مسك أذفر كما سيأتي . وروي عن ابن عباس أنه قال : « عرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو مفتوح على أُمته من بعده كنزاً كنزاً فسرّ بذلك ، فأنزل الله { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } فأعطاه في الجنة ألف ألف قصر في كل قصر ما ينبغي له من الأزواج والخدم » ، وقال السدي عن ابن عباس : من رضاء محمد صلى الله عليه وسلم أن لا يدخل أحد من أهل بيته النار ، قال الحسن : يعني بذلك الشفاعة ، ثم قال تعالى يعدّد نعمه على عبده ورسوله محمد صلوات الله سلامه عليه : { أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فآوى } وذلك أن أباه توفي وهو حمل في بطن أمه ، ثم توفيت أمه آمنة بنت وهب وله من العمر ست سنين ، ثم كان في كفالة جده عبد المطلب إلى أن توفي وله من العمر ثمان سنين ، فكفله عمه أبو طالب ، ثم لم يزل يحوطه وينصره ويرفع من قدره ويوقره ويكف عنه أذى قومه بعد أن ابتعثه الله على رأس أربعين سنة من عمره ، هذا وأبو طالب على دين قومه من عبادة الأوثان ، وكل ذلك بقدر الله وحسن تدبيره ، إلى أن توفي أبو طالب قبل الهجرة بقليل ، فأقدم عليه سفهاء قريش وجهالهم ، فاختار الله له الهجرة من بين أظهرهم إلى بلد الأنصار من الأوس والخزرج ، كما أجرى الله سنته على الوجه الأتم الأكمل ، فلما وصل إليهم آووه ونصروه وحاطوه وقاتلوا بين يديه رضي الله عنهم أجمعين ، وكل هذا من حفظ الله له وكلاءته وعنايته به .(1/2716)
وقوله تعالى : { وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى } كقوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } [ الشورى : 52 ] الآية ، ومنهم من قال : إن المراد بهذا أن النبي صلى الله عليه وسلم ضلّ في شعاب مكّة وهو صغير ثم رجع ، وقيل : إنه ضل وهو مع عمه في طريق الشام وكان راكباً ناقة في الليل ، فجاء إبليس فعدل بها عن الطريق ، فجاء جبريل فنفخ إبليس نفخة ذهب منها إلى الحبشة ، ثم عدل بالراحلة إلى الطريق ، حكاهما البغوي ، وقوله تعالى : { وَوَجَدَكَ عَآئِلاً فأغنى } أي كنت فقيراً ذا عيال فأغناك الله عمن سواه ، فجمع له بين مقامي الفقير الصابر ، والغني الشاكر ، صلوات الله وسلامه عليه ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ليس الغنى عن كثرة العرض ولكن الغنى غنى النفس » وفي « صحيح مسلم » عن عبد الله بن عمرو قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه » ثم قال تعالى : { فَأَمَّا اليتيم فَلاَ تَقْهَرْ } أي كما كنت يتيماً فآواك الله ، فلا تقهر اليتيم ، أي لا تذله وتنهره وتهنه ، ولكن أحسن إليه وتلطف به ، وقال قتادة : كن لليتم كالأب الرحيم ، { وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } أي وكما كنت ضالاً فهداك الله ، فلا تنهر السائل في العلم المسترشد ، قال ابن إسحاق : { وَأَمَّا السآئل فَلاَ تَنْهَرْ } أي فلا تكن جباراً ولا متكبراً ، ولا فحاشاً ولا فظاً على الضعفاء من عباد الله ، وقال قتادة : يعني ردّ المسكين برحمة ولين ، { وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ } أي وكما كنت عائلاً فقيراً فأغناك الله ، فحدث بنعمة الله عليك ، كما جاء في الدعاء المأثور : « واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها عليك ، قابليها وأتمها علينا »(1/2717)
وعن أبي نضرة قال : كان المسلمون يرون أن من شكر النعم أن يحدث بها ، وفي الصحيحين عن أنس « أن المهاجرين قالوا : يا رسول الله ذهب الأنصار بالأجر كله ، قال : لا ، ما دعوتم الله لهم ، وأثنيتم عليهم » ، وروى أبو داود عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يشكر الله من لا يشكر الناس » وقال مجاهد : يعني النبوة التي أعطاك ربك ، وفي رواية عنه : القرآن ، وقال الحسن بن علي : ما عملت من خير فحدّث إخوانك ، وقال ابن إسحاق : ما جاءك من الله من نعمة وكرامة من النبوة ، فحدث بها واذكرها وادع إليها .(1/2718)
أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)
يقول تعالى : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } يعني قد شرحنا لك صدرك أي نورناه ، وجعلناه فسيحاً رحيباً واسعاً كقوله : { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } [ الأنعام : 125 ] ، وكما شرح الله صدره كذلك جعل شرعه فسيحاً سمحاً سهلاً ، لا حرج فيه ولا إصر ولا ضيق؟ وقيل : المراد بقوله : { أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ } شرح صدره ليلة الإسراء ، وهذا وإ ، كان واقعاً ليلة الإسراء ولكن لا منافاة ، فإن من حملة شرح صدره الحسي الشرح المعنوي أيضاً ، وقوله تعالى : { وَوَضَعْنَا عَنكَ وِزْرَكَ } ، بمعنى { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] ، { الذي أَنقَضَ ظَهْرَكَ } الإنقاض الصوت أي أثقلك حمله ، وقوله تعالى : { وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ } قال مجاهد : لا أذكر إلاّ ذكرت معي « أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله » وقال قتادة : رفع الله ذكره في الدنيا والآخرة ، فليس خطيب ولا متشهد ولا صاحب صلاة إلاّ ينادي بها ، أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، روى ابن جرير عن أبي سعيد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أتاني جبريل فقال : إن ربي وربك يقول ، كيف رفعت ذكرك؟ قال : الله أعلم ، قال : إذا ذكرتُ ذكرتَ معي » وحكى البغوي عن ابن عباس ومجاهد أن المراد بذلك الأذان ، يعني ذكره فيه ، كما قال حسان بن ثابت :
وضم الإله اسم النبي إلى اسمه ... إذا قال في الخمس المؤذن أشهد
وشق له من اسمه ليجله ... فذو العرش محمود وهذا محمد
وقال آخرون : رفع الله ذكره في الأولين والآخرين ، ونوه به حين أخذ الميثاق على جميع النبيين أن يؤمنوا به ، وأن يأمروا أُممهم بالإيمان به ، ثم شهر ذكره في أمته ، فلا يذكر إلاّ ذكر معه .
وقوله تعالى : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً * إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } أخبر تعالى أن مع العسر يوجد اليسر ، ثم أكد هذا الخبر ، بقوله { إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } ، قال الحسن : كانوا يقولون : لا يغلب عسر واحد يسرين اثنين ، وعن قتادة ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشّر أصحابه بهذه الآية فقال : « لن يغلب عسر يُسْرَيْن » ، ومعنى هذا أن العسر معرف في الحالين ، فهو مفرد ، واليسر منكر ، فتعدّد ، ولهذا قال : « لن يغلب عسر يسرين » يعني قوله : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً * إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } فالعسر الاول عين الثاني ، واليسر تعدّد ومما يروى عن الشافعي أنه قال :
صبراً جميلاً ما أقرب الفرجا ... من راقب الله في الامور نجا
من صدّق الله لم ينله أذى ... ومن رجاه يكون حيث رجا(1/2719)
وقال الشاعر :
ولرب نازلة يضيق بها الفتى ... ذرعاً وعند الله منها المخرج
كملت فلما استحكمت حلقاتها ... فرجت وكان يظنها لا تفرج
وقوله تعالى : { فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب * وإلى رَبِّكَ فارغب } أي إذا فرغت من أُمور الدنيا وأشغالها ، وقطعت علائقها فانصب إلى العبادة ، وقم إليها نشيطاً فارغ البال ، واخلص لربك النية والرغبة ، قال مجاهد في هذه الآية : إذا فرغت من أمر الدنيا فقمت إلى الصلاة فانصب لربك ، وعن ابن مسعود : إذا فرغت من الفرائض فانصب في قيام الليل ، وفي رواية عنه { فانصب } بعد فراغك من الصلاة وأنت جالس ، وقال ابن عباس { فَإِذَا فَرَغْتَ فانصب } يعني في الدعاء ، وقال الضحّاك { فَإِذَا فَرَغْتَ } أي من الجهاد { فانصب } أي في العبادة { وإلى رَبِّكَ فارغب } قال الثوري : اجعل نيتك ورغبتك إلى الله عزَّ وجلَّ .(1/2720)
وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8)
اختلف المفسرون هاهنا على أقوال كثيرة فقيل : المراد بالتين دمشق ، وقيل : الجبل الذي عندها ، وقال القرطبي : هو مسجد أصحاب الكهف ، وروي عن ابن عباس : أنه مسجد نوح الذي على الجودي ، وقال مجاهد : هو تينكم هذا { والزيتون } قال قتادة : هو مسجد بيت المقدس ، وقال مجاهد وعكرمة : هو هذا الزيتون الذي تعصرون ، { وَطُورِ سِينِينَ } هو الجبل الذي كلم الله عليه موسى عليه السلام ، { وهذا البلد الأمين } يعني مكة ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وقال بعض الائمة : هذه محال ثلاثة ، بعث الله في كل واحد منها نبياً مرسلاً من أولي العزم ، أصحاب الشرائع الكبار . ( فالأول ) محله التين والزيتون وهي ( بيت المقدس ) التي بعث الله فيها عيسى ابن مريم عليه السلام ، ( والثاني ) طور سينين وهو ( طور سيناء ) الذي كلم الله عليه موسى بن عمران ، ( والثالث ) مكة وهو ( البلد الأمين ) الذي من دخله كان آمناً ، وهو الذي أرسل فيه محمداً صلى الله عليه وسلم ، قالوا : وفي آخر التوراة ذكر هذه الأماكن الثلاثة : جاء الله من طور سيناء - يعني الذي كلم الله عليه موسى بن عمران - وأشرق من ساعير - يعني جبل المقدس الذي بعث الله منه عيسى - واستعلن من جبال فاران - يعني جبال مكة التي أرسل الله منها محمداً صلى الله عليه وسلم ، فذكرهم مخبراً عنهم على الترتيب الوجودي ، بحسب ترتيبهم في الزمان ، ولهذا أقسم بالأشراف ثم الأشراف منه ، ثم بالأشراف منهما ، وقوله تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } هذه هو المقسم عليه ، وهو أنه تعالى خلق الإنسان في أحسن صورة وشكل؛ منتصب القامة ، سويّ الأعضاء حسنها . { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } أي إلى النار . أي بعد هذا الحسن والنضارة ، مصيره إلى النار إن لم يطع اله ويتبع الرسل ، ولهذا قال : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } ، وقال بعضهم : { ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ } أي إلى أرذل العمر . واختار ذلك ابن جرير ، ولو كان هذا هو المراد لما حسن استثناء المؤمنين من ذلك ، لأن الهرم قد يصيب بعضهم ، وإنما المراد ما ذكرناه كقوله تعالى : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ العصر : 1-3 ] ، وقوله : { فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } أي غير مقطوع ، ثم قال : { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ } أي يا ابن آدم { بالدين } ؟ أي بالجزاء في المعاد ، ولقد علمت البدأة وعرفت أن من قدر على البدأة فهو ق در على الرجعة بطريق الأولى : فأي شيء يحملك على التكذيب بالمعاد وقد عرفت هذا؟ روى ابن أبي حاتم عن منصور قال : قلت لمجاهد : { فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بالدين } عنى به النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : « معاذ الله » عنى به الإنسان ، وقوله تعالى : { أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين } أي أما هو أحكم الحاكمين الذي لا يجور ولا يظلم أحداً ، ومن عدله أن يقيم القيامة فينتصف للمظلوم في الدنيا ممن ظلمه ، وقد قدمنا في حديث أبي هريرة مرفوعاً : فإذا قرأ أحدكم والتين والزيتون فأتى على آخرها { أَلَيْسَ الله بِأَحْكَمِ الحاكمين } فليقل : بلى وأنا على ذلك من الشاهدين .(1/2721)
اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)
عن عائشة قالت : « أول ما بدىء به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلاّ جاءت مثل فلق الصبح ، ثم حبّب إليه الخلاء فكان يأتي حراء فيتحنث فيه وهو التعبد الليالي ذوات العدد ، ويتزود لذلك ، ثم يرجع إلى خديجة ، فيتزود لمثلها حتى فجأه الوحي ، وهو في غار حراء فجاءه الملك فيه ، فقال : اقرأ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فقلت : ما أنا بقارىء قال فأخذني فغطّني ، حتى بلغ من الجهد ، ثم أرسلاني فقال : اقرأ ، فقالت : ما أنا بقاىء ، فغطّني الثانية ، حتى بلغ مني الجهد ثم أرسلني فقال : اقرأ ، فقلت : ما أنا بقارىء ، فغطّني الثالثة حتى بلغ من الجهد ، ثم أرسلني ، فقال : اقرأ باسم ربك الذي خلق حتى بلغ ما لم يعلم « . قال : فرجع بها ترجف بوادره ، حتى دخل على خديجة فقال : » زمّلوني زمّلوني « ، فزمَّلوه حتى ذهب عنه الروع فقال : يا خديجة : » مالي «؟! وأخبرها الخبر ، وقال : » قد خشيت على نفسي « . فقالت له : » كلا أبشر فوالله لا يخزيك الله أبداً ، إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتحمل الكل ، وتقري الضيف ، وتعين على نوائب الحق « ، ثم انطلقت به خديجة حتى أتت به ( ورقة بن نوفل ) بن أسد بن عبد العزى بن قصي ، وهو ابن عم خديجة أخي أبيها ، وكان أمرأ قد تنصر في الجاهلية ، وكان يكتب الكتاب العربي ، وكتب بالعربية من الإنجيل ما شاء الله أن يكتب ، وكان شيخاً كبيراً قد عمي ، فقالت خديجة : أي ابن عم ، اسمع من ابن أخيك ، فقال ورقة : ابن أخي ما ترى؟ فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما رأى فقال ورقة : هذا الناموس الذي أنزل على موسى ، ليتني فيها جذعاً ، ليتني أكون حياً حين جئت به إلاّ عودي ، وإن يدركني يومك أنصرك نصراً مؤزراً ، ثم لم ينشب ورقة أن توفي ، وفتر الوحي » فأول شيء نزل من القرآن هذه الآيات الكريمات المباركات ، وهن أول رحمة رحم الله بها العباد ، وأول نعمة أنعم الله بها عليهم ، وفيها التنبيه على ابتداء خلق الإنسان من علقة ، وأن من كرمه تعالى أن علّم الإنسان ما لم يعلم فشرّفه وكرّمه بالعلم ، وهو القدر الذي امتاز به أبو البرية آدم على الملائكة ، والعلم تارة يكون في الأذهان ، وتارة يكون في اللسان ، وتارة يكون في الكتابة بالبنان ، ذهني ، ولفظي ، ورسمي ، فلهذا قال : { اقرأ وَرَبُّكَ الأكرم * الذى عَلَّمَ بالقلم * عَلَّمَ الإنسان مَا لَمْ يَعْلَمْ } ، وفي الآثر : من عمل بما علم ورثه الله علم ما لم يكن يعلم .(1/2722)
كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19)
يخبر تعالى عن الإنسان ، أنه ذوأشر وبطر وطغيان ، إذا رأة نفسه قد استغنى وكثر ماله ، ثم تهدده وتوعده ووعظه فقال : { إِنَّ إلى رَبِّكَ الرجعى } أي إلى الله المصير والمرجع ، وسيحاسبك على مالك من أين جمعته وفيم صرفته ، عن عبد الله بن مسعود قال : منهومان لا يشبعان : صاحب العلم وصاحب الدنيا ، ولا يستويان ، فأما صاحب العلم فيزداد رضى الرحمن ، وأما صاحب الدنيا فيتمادى في الطغيان ، قال ، ثم قرأ عبد الله : { إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى } ، وقال الآخر : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } [ فاطر : 28 ] ، وقد روى هذا مرفوعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : « منهومان لا يشبعان : طالب علم ، وطالب الدنيا » ، ثم قال تعالى : { أَرَأَيْتَ الذي ينهى * عَبْداً إِذَا صلى } نزلت في ( أبي جهل ) لعنه الله ، توعد النبي صلى الله عليه وسلم على الصلاة عند البيت ، فوعظه تعالى بالتي هي أحسن أولاً . فقال : { أَرَأَيْتَ إِن كَانَ على الهدى } أي فما ظنك إن كان هذا الذي تنهاه على الطريق المستقيمة في فعله { أَوْ أَمَرَ بالتقوى } بقوله وأنت تزجره وتتوعده على صلاته؟ ولهذا قال : { أَلَمْ يَعْلَم بِأَنَّ الله يرى } ؟ أي أما علم هذا الناهي لهذا المتهدي أن الله يراه ويسمع كلامه ، وسيجازيه على فعله أتم الجزاء ، ثم قال تعالى متوعداً ومتهدداً { كَلاَّ لَئِن لَّمْ يَنتَهِ } أي لئن لم يرجع عما هو فيه من الشقاق والعناد { لَنَسْفَعاً بالناصية } أي لنسمنّها سواداً يوم القيامة ، ثم قال : { نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ } يعني ناصية ( أبي جهل ) كاذبة في مقالها ، خاطئة في أفعالها ، { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ } أي قومه وعشيرته أي ليدعهم يستنصر بهم ، { سَنَدْعُ الزبانية } وهم ملائكة العذاب حتى يعلم من يغلب ، أحزبنا أو حزبه؟ روى البخاري عن ابن عباس قال ، قال أبو جهل : « لئن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لأطأن على عنقه ، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقال : » لئن فعل لأخذته الملائكة « » عن ابن عباس قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي عند المقام . فمّر به أبو جهل بن هشام . فقال : يا محمد ألم أنهك عن هذا؟ وتوعّده فأغلظ له رسول الله صلى الله عليه وسلم وانتهره . فقال : يا محمد بأي شيء تهددني؟ أما والله إني لأكثر هذا الوادي نادياً ، فأنزل الله : { فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ * سَنَدْعُ الزبانية } وقال ابن عباس : لو دعا ناديه لأخذته ملائكة العذاب من ساعته » وروى ابن جرير : عن أبي هريرة قال؛ « قال أبو جهل : هل يعفر محمد وجهه بين أظهركم؟ قالوا : نعم ، قال ، فقال : واللات والعزى لئن رأتيه يصلي كذلك لأطأن على رقبته ، ولأعفرن وجهه في التراب ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي ليطأ على رقبته ، قال : فما فجأهم منه إلاّ وهو ينكص على عقبيه ويتقي بيديه ، قال : فقيل له مالك؟ فقال : إن بيني وبينه خندقاً من نار وهولاً وأجنحة! قال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لو دنا من لاختطفته الملائكة عضواً عضواً « ، قال : وأنزل الله : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى } »(1/2723)
إلى أخر السورة ، وقوله تعالى : { كَلاَّ لاَ تُطِعْهُ } يعني يا محمد لا تطعه فيما ينهاك عنه من المداومة على العبادة وكثرتها ، وصلِّ حيث شئت ولا تبالِهِ ، فإن الله حافظك وناصرك وهو يعصمك من الناس ، { واسجد واقترب } كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء » وتقدم أيضاً « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يسجد في { إِذَا السمآء انشقت } و { اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ } » .(1/2724)
إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)
يخبر تعالى أنه أنزل القرآن { لَيْلَةِ القدر } وهي الليلة المباركة التي قال الله عزَّ وجلَّ : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] وهي من شهر رمضان ، كما قال تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } [ البقرة : 185 ] ، قال ابن عباس : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال تعالى معظماً لشأن ليلة القدر التي اختصها بإنزال القرآن العظيم فيها ، فقال : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر * لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } . روى ابن أبي حاتم ، عن مجاهد « أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر رجلاً من بني إسرائيل لبس السلاح في سبيل الله ألف شهر ، قال : فعجب المسلمون من ذلك قال : فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر * وَمَآ أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ القدر * لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } » التي لبس ذلك الرجل السلاح في سبيل الله ألف شهر ، وورى ابن جرير ، عن مجاهد قال : « كان في بني إسرائيل رجل يقوم الليل حتى يصبح ، ثم يجاهد العدوّ بالنهار حتى يمسي ، ففعل ذلك ألف شهر ، فأنزل الله هذه الآية { لَيْلَةُ القدر خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ } قيام تلك الليلة خير من عمل ذلك الرجل » ، وقال سفيان الثوري : بلغني عن مجاهد ليلة القدر خير من ألف شهر قال : عملها وصيامها وقيامها خير من ألف شهر ، وعن مجاهد : ليلة القدر خير من ألف شهر ليس في تلك الشهور ليلة القدر ، وقال عمرو بن قيس : عملٌ فيها خير من علم ألف شهر ، وهذا القول بأنها أفضل من عبادة ألف شهر ليس فيها ليلة القدر وهو اختيار ابن جرير ، وهو الصواب ، كقوله صلى الله عليه وسلم : « رباط ليلة في سبيل الله خير من ألف ليلة فيما سواه من المنازل » وفي الحديث الصحيح في فضائل رمضان قال عليه السلام : « فيه ليلة خير من ألف شهر من حرم خيرها فقد حرم » ولما كانت ليلة القدر تعدل عبادتها عبادة ألف شهر ، ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » من قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه « وقوله تعالى : { تَنَزَّلُ الملائكة والروح فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِم مِّن كُلِّ أَمْرٍ } أي يكثر تنزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها ، والملائكة يتنزلون مع تنزل البركة والرحمة ، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ، ويحيطون بحلق الذكر ، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم تعظيماً له ، وأما الرح فقيل : المراد به ههنا جبريل عليه السلام ، فيكون من باب عطف الخاص على العام ، وقيل : هم ضرب من الملائكة كما تقدم في سورة النبأ ، والله أعلم وقوله تعالى : { مِّن كُلِّ أَمْرٍ } قال مجاهد : سلام هي من كل أمر ، وقال سعيد بن منصور عن مجاهد في قوله : { سَلاَمٌ هِيَ } قال : هي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءاً ، أو يعمل فيها أذى ، وقال قتادة : تقضى فيها الأمور ، وتقدر الآجال والأرزاق ، كما قال تعالى :(1/2725)
{ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } [ الدخان : 4 ] ، وروى أبو داود الطيالسي ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر : « إنها ليلة سابعة ، أو تاسعة وعشرين ، وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى » وقال قتادة وابن زيد في قوله : { سَلاَمٌ هِيَ } يعني هي خير كلها ليس فيها شر إلى مطلع الفجر ، وأمارة ليلة القدر أنها صافية بلجة ، كأن فيها قمراً ساطعاً ، سكانة ساجية لا برد فيها ولا حر ، والشمس صبيحتها تخرج مستوية ليس لها شعاع مثل القمر ليلة البدر ، عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : في ليلة القدر : « ليلة سمحة طلقة لا حارة ولا باردة وتصبح شمس صبيحتها ضعيفة حمراء » وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إني رأيت ليلة القدر فأنسيتها وهي في العشر الأواخر من لياليها وهي طلقة بلجة . لا حارة ولا باردة ، كأن فيها قمراً لا يخرج شيطانها حتى يضيء فجرها » .
فصل
اختلف العلماء هل كانت ليلة القدر في الأمم السالفة أو هي من خصائص هذه الأمة؟ فقال الزهري : حدثنا مالك أنه بلغه « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أُرِي أعمار الناس قبله أو ما شاء الله من ذلك ، فكأنه تقاصر أعمار أُمته أن لا يبلغوا من العمل الذي بلغ غيرهم في طول العمر ، فأعطاه الله ليلة القدر خيراً من ألف شهر » وهذا الذي قاله مالك يقتضي تخصيص هذه الأمة بليلة القدر . وقيل : إنها كانت في الأمم الماضين كما هي في أمتنا . ثم هي باقية إلى يوم القيامة وفي رمضان خاصة لا كما روي عن ابن مسعود ومن تابعه من علماء أهل الكوفة من أنها توجد في جميع السنة ، وترتجى في جيمع الشهور على السواء ، وقد ترجم أبو داود في « سننه » على هذا فقال : ( باب بيان أن ليلة القدر في كل رمضان ) ، ثم روى بسنده عن عبد الله بن عمر قال : « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أسمع عن ليلة القدر؟ فقال : هي في كل رمضان » ، وقد حكي عن أبي حنيفة رحمه الله رواية أنها ترتجى في كل شهر رمضان وهو وجه حكاه الغزالي .(1/2726)
فصل
ثم قد قيل : إنها تكون في أول ليلة من شهر رمضان ، وقيل : إنها تقع ليلة سبع عشرة ، وهو قول الشافعي ، ويحكى عن الحسن البصري ، ووجهوه بأنها ليلة بدر ، وكانت ليلة جمعه هي السابعة عشرة من شهر رمشان ، وفي صبيحتها كانت وقعة بدر ، وهو اليوم الذي قال الله تعالى فيه : { يَوْمَ الفرقان } [ الأنفال : 41 ] . قيل : ليلة تسع عشرة ، يحكى عن علي وابن مسعود ، وقيل : ليلة أحدى وعشرين لحديث أبي سعيد الخدري قال : « اعتكف رسول الله صلى الله عليه وسلم في العشر الأول من رمضان ، واعتكفنا معه ، فأتاه جبريل فقال : إن الذي تطلب أمامك ، فاعتكف العشر الأوسط ، فاعتكفنا معه ، فأتاه جبريل فقال : الذي تطلب أمامك ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم خطيباً صبيحة عشرين من رضمان ، فقال : » من كان اعتكف معي فليرجع فإني رأيت ليلة القدر ، وإني أنسيتها وإنها في العشر الأواخر في وتر . وإني رأيت كأني أسجد في طين وماء « . وكان سقف المسجد جريداً من النخل . وما نرى في السماء شيئاً ، فجاءت قزعة ، فمطرنا فصلّى بنا النبي صلى الله عليه وسلم ، حتى رأيت أثر الطين والماء على جبهة رسول الله صلى الله عليه وسلم تصديق رؤياه في صبح إحدى وعشرين » قال الشافعي : وهذا الحديث أصح الروايات . وقيل : ليلة لثلاث وعشرين . وقيل : تكون ليلة خمس وعشرين لما رواه البخاري عن عبد الله بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « التمسوها في العشر الأواخر من رمضان في تاسعة تبقى ، في سابعة تبقى ، في خامسة تبقى » فسره كثيرون بليالي الأوتار ، وهو أظهر وأشهر ، وحمله آخرون على الأشفاع . وقيل : إنها تكون ليلة سبع وعشرين ، لما رواه مسلم في « صحيحه » عن أُبي بن كعب « عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنها ليلة سبع وعشرين » ، قال الغمام أحمد : عن زر : سألت أُبي بن كعب قلت : أبا المنذر إن أخاك ابن مسعود يقول : من يقم الحول يصب ليلة القدر ، قال : يرحمه الله لقد علم أنها في شهر رمضان ، وأنها ليلة سبع وعشرين ، ثم حلف ، قلت : وكيف تعلمون ذلك؟ قال : بالعلامة أو بالآية التي أخبرنا بها ، تطلع ذلك اليوملا شعاع لها يعني الشمس ، وهو قول طائفة من السلف ، ومذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله ، وهو رواية عن أبي حنيفة أيضاً ، وقيل : إنها تكون في ليلة تسع وعشرين ، روى الإمام أحمد بن حنبل « عن عبادة بن الصامت أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ليلة القدر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » في رمضان فالتمسوها في العشر الأواخر فإنا في وتر إحدى وعشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين أو سبع وعشرين أو تسع وعشرين أو في آخر ليلة «(1/2727)
، وعن أبي هريرة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في ليلة القدر : » إنها في ليلة سابعة أو تاسعة وعشرين ، وإن الملائكة تلك الليلة في الأرض أكثر من عدد الحصى « وقيل : إنها تكون في آخر ليلة لما تقدم من هذا الحديث آنفاً ، ولما رواه الترمذي والنسائي من حديث عيينة بن عبد الرحمن عن أبيه عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » في تسع يبقين أو سبع يبقين أو خمس يبقين أو ثلاث أو آخر ليلة يعني التمسوا ليلة القدر « وفي » المسند « من طريق أبي سلمة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم في ليلة القدر : » إنها آخر ليلة « .
فصل
قال الشافعي في هذه الروايات : صدرت من النبي صلى الله عليه وسلم جواباً للسائل إذا قيل له : أنلتمس ليلة القدر في الليلة الفلانية؟ يقول : » نعم « ، وإنما ليلة القدر ليلة معينة لا تنتقل ، وروي عن أبي قلابة أنه قال : ليلة القدر تنتقل في العشر الأواخر ، وهذا الذي حكاه عن أبي قلابة هو الأشبه ، والله أعلم وقد يستأنس لهذا القول بما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر » أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أروا ليلة القدر في المنام في السبع الأواخر من رمضان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أرى رؤياكم قد تواطأت في السبع الأواخر . فمن كان متحريها ، فليتحرها في السبع الأواخر » ، وفيهما أيضاً عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « تحروا ليلة القدر في الوتر من العشر الأواخر من رمضان » ، ويحتج الشافعي أنها لا تنتقل وأنها معينة من الشهر بما رواه البخاري في « صحيحه » عن عبادة بن الصامت قال : « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر ، فتلاحى رجلان من المسلمين فقال : » خرجت لأخبركم بليلة القدر فتلاحى فلان وفلان فرفعت ، وعسى أن يكون خيراً لكم فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة « » ، وجه الدلالة منه أنها لو لم تكن معينة مستمرة التعيين لما حصل لهم العلم بعينها في كل سنة ، إذ لو كانت تنتقل لما علموا تعيينها إلاّ ذلك العام فقط ، اللهم إلاّ أن يقال إنه إنما خرج ليعلمهم بها تلك السنة فقط ، وقوله : « فتلاحى فلان وفلان فرفعت » فيه استئناس لما يقال : إن المماراة تقطع الفائدة والعلم النافع ، كما جاء في الحديث :(1/2728)
« إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه » وقوله : « فرفعت » أي رفع علم تعيينها لكم ، لا أنها رفعت بالكلية من الوجود ، كما يقوله جهلة الشيعة ، لأنه قد قال بعد هذا : « فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة » ، وقوله : « وعسى أن يكون خيراً لكم » يعني عدم تعيينها لكم فإنها إذا كانت مبهمة اجتهد طلابها في ابتغائها في جميع محال رجائها ، فكان أكثر للعبادة بخلاف ما إذا علموا عينها ، فإنها كانت الهمم تتقاصر على قيامها فقط ، وإنما اقتضت الحكمة إبهامها لتعم العبادة جميع الشهر في اتبغائها ، ويكون الاجتهاد في العشر الأخير أكثر ، ولهذا « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله عزَّ وجلَّ ، ثم اعتكف أزواجه بعده » عن ابن عمر : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان » ، وقالت عائشة : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل العشر أحيا الليل وأيقظ أهله ، وشد المئزر » ، ولمسلم عنها : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجتهد في العشر ما لا يجتهد في غيره » ، وهذا معنى قولها وشد المئرز وقيل : المراد بذلك اعتزال النساء ، ويحتمل أن يكون كناية عن الأمرين لما رواه الإمام أحمد ، عن عائشة قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بقي عشر من رمضان شدة مئرزة ، واعتزل نساءه » ، وقد حكي عن مالك رحمه الله أن جميع ليالي العشر في تطلب ليلة القدر على السواء ، لا يترجح منها ليلة على أُخرى ، والمستحب الإكثار من الدعاء في جميع الأوقات وفي شهر رمضان أكثر ، وفي العشر الأخير مه ، ثم في أوتاره أكثر ، والمستحب أن يكثر من هذا الدعاء : اللهم إنك عفوت حب العفو فاعف عني ، لما رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن بريدة أن عائشة قالت : « يا رسول الله : إن وافقت ليلة القدر فما أدعو؟ قال : » قولي : اللهم إنك عفو تحب العفو فاعف عني « » .(1/2729)
لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)
أما أهل الكتاب فهم اليهود والنصارى ، والمشركون عبدة الأوثان والنيران من العرب ومن العجم ، قال مجاهد : لم يكونوا { مُنفَكِّينَ } يعني منتهين حتى يتبين لهم الحق { حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } أي هذا القرآن ، ولهذا قال تعالى : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } ثم فسر البينة بقوله : { رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم وما يتلوه من القرآن العظيم الذي هو مكتتب في الملأ الأعلى في صحف مطهرة . كقوله تعالى : { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [ عبس : 13-16 ] ، وقوله تعالى : { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } قال انب جرير : أي في الصحف المطهرة كتب من الله قيمة عادلة مستقيمة ، ليس فها خطأ لأنها من عند الله عزَّ وجلَّ ، قال قتادة { رَسُولٌ مِّنَ الله يَتْلُواْ صُحُفاً مُّطَهَّرَةً } يذكر القرآن بأحسن الذكر . ويثني عليه بأحسن الثناء ، وق ابن زيد : { فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ } مستقيمة معتدلة ، وقوله تعالى : { وَمَا تَفَرَّقَ الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينة } كقوله تعالى : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } [ آل عمران : 105 ] ، يعني بذلك أهل الكتب المنزلة على الأمم قبلنا ، وبعد ما أقام الله عليهم الحجج والبينات تفرقوا ، واختلفوا في الذي أراده الله من كتبهم ، واختلفوا اختلافاً كبيراً ، كما جاء في الحديث المروي من طرق : « » إن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة وإن النصارى اختلفوا على اثنين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاثة وسبعين فرقة ، كلها في النار إلاّ واحدة « ، قالوا : من هم يا رسول الله؟ قال : » ما أنا عليه وأصحابي « » ، وقوله تعالى : { وَمَآ أمروا إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } كقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] ، ولهذا قال : { حُنَفَآءَ } أي متحنفين من الشرك إلى التوحيد ، كقوله : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل : 36 ] ، وقد تقدم تقرير الحنيف في سورة الأنعام بما أغنى عن إعادته ها هنا ، { وَيُقِيمُواْ الصلاة } وهي أشرف عبادات البدن ، { وَيُؤْتُواْ الزكاة } وهي الإحسان إلى الفقراء والمحاويج { وَذَلِكَ دِينُ القيمة } أي الملة القائمة العادلة ، أو الأمة المستقيمة المعتدلة .(1/2730)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)
يخبر تعالى عن مآل الفجار من كفرة أهل الكتاب والمشركين ، المخالفين لكتب الله المنزلة وأنبياء الله المرسلة ، أنهم يوم القيامة في نار جهنم { خَالِدِينَ فِيهَآ } أي ماكثين فيها لا يحولون عنها ولا يزولون ، { أولئك هُمْ شَرُّ البرية } أي شر الخليقة التي برأها الله وذرأها ، ثم أخبر تعالى عن حال الأبرار الذين آمنوا بقلوبهم وعملوا الصالحات بأبدانهم بأنهم خير البرية ، و قد استدل بهذه الآية أبو هريرة وطائفة من العلماء على تفضيل المؤمنين من البرية على الملائكة لقوله : { أولئك هُمْ خَيْرُ البرية } ، ثم قال تعالى : { جَزَآؤُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } أي يوم القيامة { جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِى مِنْ تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي بلا انفصال ولا انقضاء ولا فراغ { رِّضِىَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } ومقام رضاه عنهم أعلى مما أوتوه من النعيم القيم { وَرَضُواْ عَنْهُ } فيما منحهم من الفضل العميم . وقوله تعالى : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ } أي هذا الجزاء حاصل لمن خشي الله واتقاه حق تقواه ، وعبده كأنه يراه ، عن أبي هريرة قال ، « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ألا أخبركم بخير البرية؟ « قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : » رجل أخذ بعنان فرسه في سبيل الله كلما كانت هيعة استوى عليه ، ألا أخبركم بخير البرية؟ قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : « رجل في ثلة من غنمه يقيم الصلاة ويؤتي الزكاة ، » ألا أخبركم بخير البرية «؟ قالوا : بلى ، قال : » الذي يسأل بالله ولا يعطي به « » .(1/2731)
إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)
قال ابن عباس { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } : أي تحركت من أسفلها { وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا } يعني ألقت ما فيها من الموتى ، كقوله تعالى : { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] ، وكقوله : { وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ } [ الانشقاق : 4 ] ، وفي الحديث : « تلقى الأرض كبدها أمثال الأسطوان من الذهب والفضة ، فيجيء القاتل فيقول في هذا قتلت ، ويجيء القاطع فيقول في هذا قطعت رحمي ، ويجيء السارق فيقول في هذا قطعت يدي ، ثم يدعونه فلا يأخذون منه شيئاً » ، وقوله عزَّ وجلَّ : { وَقَالَ الإنسان مَا لَهَا } أي استنكر أمرها بعدما كانت قارة ساكنة ثابتة ، وهو مستقر على ظهرها أي تقلبت الحال ، فصارت متحركة مضطربة ، قد جاءها من أمر الله تعالى ما قد أعده لها من الزلزال الذي لا محيد لها عه ، ثم ألقت ما في بطنها من الأموات من الأولين والآخرين ، وحينئذٍ استنكر الناس أمرها ، وتبدل الأرض غير الأرض والسماوات ، وبرزوا لله الواحد القهار ، وقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } أي تحدث بما عمل العاملون على ظهرها ، عن أبي هريرة قال : « قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } قال : » أتدرون ما أخبارها؟ « قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : » فإن أخبارها أن تشهد كل عبد وأمة بما عمل على ظهرها ، أن تقول : عمل كذا وكذا يوم كذا وكذا ، فهذه أخبارها « ، وفي » معجم الطبراني « ، » تحفظوا من الأرض فإنها أمكم ، وإنه ليس من أحد عامل عليها خيراً أو شراً إلاّ وهي مخبرة « وقوله تعالى : { بِأَنَّ رَبَّكَ أوحى لَهَا } قال البخاري : أوحى لها ، وأوحى إليها ، ووحى لها ، ووحى إليها ، وكذا قال ابن عباس { أوحى لَهَا } أي أوحى إاليها ، والظاهر أن هذا مضمن بمعنى أذن لها ، وقال ابن عباس : { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } قال ، قال لها ربها قولي ، فقالت؛ وقال مجاهد { أوحى لَهَا } أي أمرها ، وقال القرظي : أمرها أن تنشق عنهم ، وقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ الناس أَشْتَاتاً } أي يرجعون عن موقف الحساب { أَشْتَاتاً } أي أنواعاً وأصنافاً ما بين شقي وسعيد ، مأمور به إلى الجنة ومأمور به إلى النار ، قال ابن جريج : يتصدعون أشتاتاً فلا يجتمعون آخر ما عليهم ، وقال السدي { أَشْتَاتاً } فرقاً .
وقوله تعالى : { لِّيُرَوْاْ أَعْمَالَهُمْ } أي ليجازوا بما عملوا في الدنيا من خير وشر ، ولهذا قال : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } . روى البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » الخيل لثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر « الحديث . فسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر؟ فقال :(1/2732)
« ما أنزل الله فيها شيئاً إلاّ هذه الآية الفاذة الجامعة : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } » وروى الإمام أحمد عن صعصعة بن معاوية عم الفرزدق أنه « أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقرأ عليه : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } قال : حسبي أن لا أسمع غيرها » ، وفي « صحيح البخاري » عن عدي مرفوعاً : « اتقوا النار ولو بشرق تمرة ولو بكلمة طيبة » ، وله أيضاً في الصحيح : « لا تحقرن من المعروف شيئاً ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستسقي ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط » وفي الصحيح أيضاً : « يا معشر نساء المؤمنات لا تحقرنَّ جارة لجارتها ولو فرسن شاة » يعني ظلفها ، وفي الحديث الآخر : « ردوا السائل ولو بظلف محرق » وعن عائشة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » يا عائشة استتري من النار ولو بشق تمرة فإنها تسد من الجائع مسدها من الشبعان « » وروي عن عائشة أنها تصدقت بعنبة وقالت : كم فيها من مثقال ذرة ، وروى ابن جرير عن عبد الله بن عمرو بن العاص أنه قال : « لما نزلت { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } وأبو بكر الصديق رضي الله عنه قاعد ، فبكى حين أنزلت ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما يبكيك يا أبا بكر «؟ قال يبكيني هذه السورة . فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لولا أنكم تخطئون وتذنبون فيغفر الله لكم لخلق الله أمة يخطئون ويذنبون فيغفر لهم « » .
وروى ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير في قول الله تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } وذلك لمانزلت هذه الآية : { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً } [ الإنسان : 8 ] كان المسلمون يرون أنهم لا يؤجرون على الشيء القليل إذا أعطوه ، فيجيء المسكين إلى أبوابهم ، فيستقلون أن يعطوه التمرة الكسرة والجوزة نحو ذلك فيردونه ويقولون : ما هذا بشيء إنما نؤجر على ما نعطي ونحن نحبه ، وكان آخرون يرون أنه لا يلامون على الذنب اليسير : الكذبة والنظرة والغيبة وأشباه ذلك ، يقولون : إنما وعد الله النار على الكبائر ، فرغبهم في القليل من الخير أن يعلموه فإنه يؤشك أن يكثر ، وحذرهم اليسير من الشر ، فإنه يوشك أن يكثر ، فنزلت { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } يعني وزن أصغر { خَيْراً يَرَهُ } يعني في كتاب ويسره ذلك قال : يكتب لكل بر وفاجر بكل سيئة سيئة واحدة وبكل حسنة عشر حسنات ، فإذا كان يوم القيامة ضاعف الله حسنات المؤمنين أيضاً بكل واحدة عشراً ويمحو عنه بكل حسنة عشر سيئات فمن زادت حسناته عن سيئاته مثقال ذرة دخل الجنة . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إياكم ومحقرات الذنوب فإنهن يجتمعن على الرجل حتى يهلكنه « وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهن مثلاً كمثل قوم نزلوا أرض فلاة ، فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود والرجل يجيء بالعود ، حتى جمعوا سواداً ، وأججوا ناراً ، وأنضجوا ما قذفوا فيها » .(1/2733)
وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)
يقسم تعالى بالخيل إذا أجريت في سبيله ، فعدت وضبحت ، وهو الصوت الذي يسمع من الفرس حين تعدو ، { فالموريات قَدْحاً } يعني اصطكاك نعالها للصخر ، فتقدح منه النار ، { فالمغيرات صُبْحاً } يغني الإغارة وقت الصباح كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغير صباحاً ويستمع الأذان ، فإن سمع أذناً وإلاّ أغار ، وقوله تعالى : { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } يعني غباراً في مكان معترك الخيول ، { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } أي توسطن ذلك المكان كلهن جمع ، روى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : بينا أنا في الحجر جالساً جاءني رجل فسألني عن : { والعاديات ضَبْحاً } فقلت له : الخيل حين تغير في سبيل الله ، ثم تأوي إلى الليل فيصنعون طعامهم ، ويورون نارهم ، فانفتل عني ، فذهب إلى علي رضي الله عنه وهو عند سقاية زمزم ، فسأله عن العاديات ضبحاً ، فقال : سألت عنهم أحداً قبلي؟ قال : نعم سألت ابن عباس ، فقال : الخيل حين تغير في سبيل الله ، وقال اذهب فادعه لي ، فلما وقف على رأسه ، قال : أتفتي الناس بما لاعلم لك؟ والله لئن كان أول غزوة في الإسلام برد ، وما كان معنا إلاّ فرسان فرس للزبير وفرس للمقداد ، فكيف تكون العاديات ضبحاً؟ إنما العاديات ضبحاً من عرفة إلى المزدلفة ومن المزدلفة إلى منى ، وفي لفظ : إنما العاديات ضبحاً من عرفة إلى المزدلفة ، فإذا أووا إلى المزدلفة أوروا النيران ، فمذهب ابن عباس أنها الخيل . وقال ( علي ) إنها الإبل . قال عطاء : ما ضبحت دابة قط إلاّ فرس أو كلب ، وقال عطاء : سمعت ابن عباس يصف الضبح : أح أح ، وقال أكثر هؤلاء في قوله : { فالموريات قَدْحاً } يعني بحوافرها ، وقيل : أسعرت الحرب بين ركبانهن ، وقيل : هو إيقاد النار إذا رجعوا إلى منازلهم من الليل ، وقيل : المراد بذلك نيران القبائل ، قال ابن جرير : والصواب الأول : الخيل حين تقدح بحوافرها ، وقوله تعالى : { فالمغيرات صُبْحاً } قال ابن عباس ومجاهد : يعني إغارة الخيل صبحاً في سبيل الله ، وقال : من فسرها بالإبل هو الدفع صبحاً من المزدلفة إلى منى ، وقالوا كلهم في قوله : { فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً } هو المكان الذي حلت فيه أثارت به الغبار إما في حج أو غزو ، وقوله تعالى : { فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً } قال ابن عباس وعطاء : يعني جمع الكفار من العدو ، ويحتمل أن يكون فوسطن بذلك المكان جميعاً ويكون منصوباً على الحال المؤكدة ، وقوله تعالى : { إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ } هذا هو المقسم عليه ، بمعنى أنه لنعم ربه لكفور جحود ، قال ابن عباس ومجاهد : الكنود الكفور . قال الحسن : الكنود هو الذي يعد المصائب وينسى نعم الله عليه ، وقوله تعالى : { وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } قال قتادة والثوري : وإن الله على ذلك لشهيد ، ويحتمل أن يعود الضمير على الإنسان فيكون تقديره : وإن الإنسان على كونه كنوداً لشهيد ، أي بلسان حاله ، أي ظاهر ذلك عليه في أقواله وأفعاله كما قال تعالى :(1/2734)
{ شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } [ التوبة : 17 ] وقوله تعالى : { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } أي وإنه لحب الخير وهو المال { لَشَدِيدٌ } ، وفيه مذهبان : ( أحدهما ) : أن المعنى وإنه لشديد المحبة للمال ، ( والثاني ) وإنه لحريص بخيل من محبة المال ، وكلاهما صحيح ، ثم قال تبارك وتعالى مزهداً في الدنيا ، ومرغباً في الآخرة ، ومنبهاً على ما هو كائن بعد هذه الحال ، وما يستقبله الإنسان من الأهوال { أَفَلاَ يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي القبور } أي أخرج ما فيها من الأموات ، { وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور } يعني أبرز وأظهر ما كانوا يسرون في نفوسهم ، { إِنَّ رَبَّهُم بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّخَبِيرٌ } أي لعالم بجميع ما كانوا يصنعون ، ومجازيهم عليه أوفر الجزاء ، ولا يظلم مثقال ذرة .(1/2735)
الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11)
القارعة من أسماء يوم القيامة ، كالحاقة والطامة والصاخة والغاشية وغير ذلك . ثم قال تعالى معظماً أمرها ومهولاً لشأنها { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا القارعة } ؟ ثم فسر ذلك بقوله : { يَوْمَ يَكُونُ الناس كالفراش المبثوث } أي في انتشارهم وتفرقهم وذهابهم ومجيئهم ، من حيرتهم مما هم فيه كأنهم فراش مبثوث ، كما قال تعالى : { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } [ القمر : 7 ] وقوله تعالى : { وَتَكُونُ الجبال كالعهن المنفوش } يعني صارت كأنها الصوف المنفوش الذي قد شرع في الذهاب والتمزق ، وقال مجاهد : { العهن } الصوف ، ثم أخبر تعالى عما يؤول إليه عمل العاملين ، وما يصيرون إليه من الكرامة والإهانة بحسب أعمالهم ، فقال : { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } أي رجحت حسناته على سيئاته ، { فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } يعني في الجنة ، { وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي رجحت سيئاته على حسناته ، { فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ } قيل : معناه فهو ساقط هاو بأم رأسه في نار جهنم ، وعبّر عنه بأمه يعني ( دماغه ) ، قال قتادة : يهوي في النار على رأسه ، وقيل : معاه فأمه التي يرجع إليها ويصير في المعاد إليها ( هاوية ) وهي أسم من أسماء النار ، قال ابن جرير : وإنما قيل للهاوية أمه لأنه لا مأوى له غيرها ، وقال ابن زيد : الهاوية النار هي أمه ومأواه التي يرجع إليها ويأوي إليها ، وقرأ : { وَمَأْوَاهُمُ النار } [ آل عمران : 151 ، النور : 57 ] . وروي عن قتادة أنه قال : هي النار وهي مأواهم ، ولهذا قال تعالى مفسراً للهاوية : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ * نَارٌ حَامِيَةٌ } ، روى ابن جرير عن الأشعث بن عبد الله الأعمى قال : إذا مات المؤمن ذهب بروحه إلى أرواح المؤمنين ، فيقولون : روّحوا أخاكم ، فإنه كان في غم الدنيا ، قال : ويسألونه ما فعل فلان؟ فيقول : مات أو ما جاءكم فيقولون : ذهب به إلى أمه الهاوية ، وقوله تعالى : { نَارٌ حَامِيَةٌ } أي حارة شديدة الحر ، قوية اللهب والسعير ، عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « » نار بني آدم التي توقدون جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم « ، قالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية؟ فقال : » إنها فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً « » وفي رواية : « كلهن مثل حرها » وروى الإمام أحمد ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم ، وضربت بالبحر مرتين ، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد » ، وروى الترمذي وابن ماجة ، عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت فهي سوداء مظلمة » وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اشتكت النار إلى ربها فقالت : يا رب أكل بعضي بعضاً فأذن لها بنفسين نفس في الشتاء ، ونفس في الصيف ، فأشد ما تجدون في الشتاء من بردها ، وأشد ما تجدون في الصيف من حرها » وفي الصحيحين : « إذا اشتد الحر فأبردوا عن الصلاة فإن شدة الحر من فيح جهنم » .(1/2736)
أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)
يقول تعالى : أشغلكم حب الدنيا ونعيمها وزهرتها عن طلب الآخرة وابتغائها ، وتمادى بكم ذلك حتى جاءكم الموت وزرتم المقابر ، وصرتم من أهلها ، عن زيد بن أسلم قال ، « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أَلْهَاكُمُ التكاثر } عن الطاعة ، { حتى زُرْتُمُ المقابر } حتى يأتيكم الموت » وقال الحسن البصري : { أَلْهَاكُمُ التكاثر } في الأموال والأولاد ، وعن أُبيّ بن كعب قال : « كنا نرى هذا القرآن حتى نزلت : { أَلْهَاكُمُ التكاثر } يعني : » لو كان لابن آدم واد من ذهب « » وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الشخير قال : انتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : « { أَلْهَاكُمُ التكاثر } يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلاّ ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأمضيت؟ » وروى مسلم في « صحيحه » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يقول العبد : مالي مالي ، وإنما له من ماله ثلاث : ما أكل فأفنى ، أو لبس فأبلى ، أو تصدّق فأمضى ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس » ، وروى البخاري عن أنَس بن مالك قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يتبع الميت ثلاثة فيرجع اثنان ويبقى معه واحد : يتبعه أهله وماله وعمله ، فيرجع أهله وماله ، ويبقى عمله » وعن أنَس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يهرم ابن آدم ويبقى معه اثنتان : الحرص والأمل » ، وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة الأحنف بن قيس أنه رأى في يد رجل درهماً فقال : لمن هذا الدرهم؟ فقال الرجل : لي ، فقال : إنما هو لك إذا أنفقته في أجر ، أو ابتغاء شكر ، ثم أنشد الأحنف متمثلاً قول الشاعر :
أنت للمال إذا أمسكته ... فإذا أنفقته فالمال لك
وقال ابن بريدة : نزلت في قبيلتين من قبائل الأنصار ( بني حارثة ) و ( بني الحارث ) تفاخروا وتكاثروا ، فقالت إحداهما : فيكم مثل فلان بن فلان وفلان ، وقال الآخرون : مثل ذلك تفاخروا بالأحياء ، ثم قالوا : انطلقوا بنا إلى القبور فجعلت إحدى الطائفتين ، تقول : فيكم مثل فلان يشيرون إلى القبور ، ومثل فلان . وفعل الآخرون مثل ذلك ، فأنزل الله : { أَلْهَاكُمُ التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر } لقد كان لكم فيما رأيتم عبرة وشغل ، وقال قتادة : كانوا يقولون : نحن أكثر من بني فلان ، ونحن أعد من بني فلان ، حتى صاروا من أهل القبور كلهم ، والصحيح أن لمراد قوله : { حتى زُرْتُمُ المقابر } أي صرتم إليها ودفنتم فيها ، كما جاء في الصحيح « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على رجل من الأعراب يعوده ، فقال : » لا بأس طهور إن شاء الله « ، فقال ، قلت : طهور ، بل هي حمى تفور ، على شيخ كبير ، تزيره القبور ، قال : » فنعم إذن « »(1/2737)
وعن ميمون بن مهران قال : كنت جالساً عند عمر بن عبد العزيز فقرأ : { أَلْهَاكُمُ التكاثر * حتى زُرْتُمُ المقابر } فلبث هنهية ثم قال : يا ميمون ما أرى المقابر إلاّ زيار وما للزائر بد من أن يرجع إلى منزله يعني أن يرجع إلى منزله أي إلى جنة أو إلى نار ، وهكذا ذكر أن بعض الأعراب سمع رجلاً يتلو هذه الآية : { حتى زُرْتُمُ المقابر } فقال : بعث اليوم ورب الكعبة ، أي أن الزائر سيرحل من مقامه ذلك إلى غيره ، وقوله تعالى : { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } قال الحسن البصري هذا وعيد بعد وعيد ، وقال الضحّاك { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } يعني أيها الكفار ، { ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } يعني أيها المؤمنون ، وقوله تعالى : { كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين } أي لو علمتم حق العلم لما ألهاكم التكاثر عن طلب الدار الآخرة حتى صرتم إلى المقابر ثم قال : { لَتَرَوُنَّ الجحيم * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين } هذا تفسير الوعيد المتقدم ، وهو قوله : { كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ * ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ } توعدهم بهذا الحال وهو رؤية أهل النار ، التي إذا زفرت زفرة واحدة ، خرّ كل ملك مقرب ونبي مرسل على ركبتيه ، من المهابة والعظمة ومعاينة الأهوال ، على ما جاء به الأثر المروي في ذلك .
وقوله تعالى : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } أي ثم لتسألن يومئذٍ عن شكر ما أنعم الله به عليكم ، من الصحة والأمن والرزق وغير ذلك ، ما إذا قابلتم به نعمه من شكره وعبادته . روى ابن جرير ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « بينما أبو بكر وعمر جالسان إذا جاءهما النبي صلى الله عليه وسلم فقال : » ما أجلسكما هاهنا؟ « ، قالا : والذي بعثك بالحق ما أخرجنا من بيوتنا إلاّ الجوع ، قال : » والذي يعثني بالحق ما أخرجني غيره « ، فانطلقوا حتى أتوا بيت رجل من الأنصار ، فاستقبلتهم المرأة ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم : » أين فلان؟ « قالت : ذهب يستعذب لنا ماء ، فجاء صاحبهم يحمل قربته ، فقال : مرحباً ما زار العباد شيء أفضل من نبي زارني اليوم ، فعلق قربته بكرب نخلة ، وانطلق فجاءهم بعذق ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » ألا كنت اجتنيت « ، فقال : أحببت أن تكونوا الذين تختارون على أعينكم ، ثم أخذ الشفرة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : » إياك والحلوب « فذبح لهم يومئذٍ ، فأكلوا فقال النبي صلى عليه وسلم : » لتسألن عن هذا يوم القيامة أخرجكم الجوع ، فلم ترجعوا حتى أصبتم هذا ، فهذا من النعيم « »(1/2738)
وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال : « أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر رطباً وشربوا ماء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هذا من النعيم الذي تسألون عنه « » وروى الإمام أحمد عن محمد بن الربيع قال : « لما نزلت { أَلْهَاكُمُ التكاثر } فقرأ حتى بلغ { لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } قالوا : يا رسول الله عن أي نعيم نسأل؟ وإنما هما الأسودان الماء والتمر ، وسيوفنا على رقابنا ، والعدو حاضر ، فعن أي نعيم نسأل؟ قال : » أما إن ذلك سيكون « » .
وروى الترمذي ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن أول ما يسأل عنه العبد من النعيم أن يقال له ألم نصحّ لك بدنك ، ونروك من الماء البارد » ؟ وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن الزبير قال ، قال الزبير : « لمّا نزلت { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } قالوا : يا رسول الله لأي نعيم نسأل عنه وإنما هما الأسودان التمر والماء؟ قال : » إن ذلك سيكون « » وفي رواية عن عكرمة : « قالت الصحابة : يا رسول الله ، وأي نعيم نحن فيه؟ وإنما نأكل في أنصاف بطوننا خبز الشعير؟ فأوحى إلى نبيّه صلى الله عليه وسلم : قل لهم : أليس تحتذون النعال ، وتشربون الماء البارد؟ فهذا من النعيم » وعن ابن مسعود مرفوعاً : « الأمن والصحة » . وقال زيد بن أسلم « عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } يعني شبع البطون ، وبارد الشراب ، وظلال المساكن ، واعتدال الخلق ولذة النوم » ، وقال مجاهد : عن كل لذة من لذات الدنيا ، وقال الحسن البصري : من النعيم الغداء والعشاء ، وقول مجاهد أشمل هذه الأقوال ، وقال ابن عباس : { ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النعيم } قال : النعيم صحة الأبدان والأسماع والأبصار ، يسأل الله العباد فيما استعملوها ، وهو أعلم بذلك منهم ، وهو قوله تعالى : { إِنَّ السمع والبصر والفؤاد كُلُّ أولئك كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } [ الإسراء : 36 ] . وثبت في « صحيح البخاري » و « سنن الترمذي » عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس : الصحة والفراغ » ، ومعنى هذا أنهم مقصرون في شكر هاتين النعمتين لا يقومون بواجبهما ، ومن لا يقوم بحق ما وجب عليه فهو مغبون .(1/2739)
وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)
العصر : الزمان الذي يقع فيه حركات بن آدم من خير وشر ، وقال زيد بن أسلم : هو العصر ، والمشهور الأول ، فأقسم تعالى بذلك على أن الإنسان لفي خسر أي في خسارة وهلاك { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } فاستثنى من جنس الإنسان عن الخسران ، الذين آمنوا بقلوبهم ، وعملوا الصالحات بجوارحهم { وَتَوَاصَوْاْ بالحق } وهو أداء الطاعات ، وترك المحرمات ، { وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } أي على المصائب والأقدار ، وأذى من يؤذي ، ممن يأمرونه بالمعروف وينهونه عن المنكر .(1/2740)
وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)
الهماز بالقول ، واللماز بالفعل ، يعني يزدري الناس وينتقص بهم ، قال ابن عباس : { هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } طعان معياب ، وقال الربيع بن أنَس : الهمزة : يهمزه في وجهه ، واللمزة : من خلفه ، وقال قتادة : الهمزة واللمزة لسانه وعينه ، ويأكل لحوم الناس ويطعن عليهم ، وقال مجاهد : الهمزة باليد والعين ، واللمز باللسان ، ثم قال بعضهم : المراد بذلك ( الأخنس بن شريق ) ، وقال مجاهد : هي عامة ، وقوله تعالى : { الذى جَمَعَ مَالاً وَعَدَّدَهُ } أي جمعه بعضه على بعض وأحصى عدده كقوله تعالى : { وَجَمَعَ فأوعى } [ المعارج : 18 ] قال محمد بن كعب : ألهاه ماله بالنهار ، فإذا كان الليل نام كأنه جيفة منتنة . وقوله تعالى : { يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ } أي يظن أن جمعه المال يخلده في هذه الدار ، { كَلاَّ } أي ليس الأمر كما زعم ولا كما حسب ، ثم قال تعالى : { لَيُنبَذَنَّ فِي الحطمة } أي ليلقين هذا الذي جمع مالاً فعدده { فِي الحطمة } وهي اسم من أسماء النار ، لأنها تحطم من فيها ، ولهذا قال : { وَمَآ أَدْرَاكَ مَا الحطمة * نَارُ الله الموقدة * التي تَطَّلِعُ عَلَى الأفئدة } قال ثابت البناني : تحرقهم إلى الأفئدة وهم أحياء ، وقال محمد بن كعب : تأكل كل شيء من جسده ، حتى إذا بلغت فؤاده حذو حلقه ترجع على جسده . وقوله تعالى : { إِنَّهَا عَلَيْهِم مُّؤْصَدَةٌ } أي مطبقة كما تقدم تفسيره في سورة البلد . وقوله تعالى : { فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } أي عمد من حديد ، وقال السدي : من نار ، قال ابن عباسك { فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } يعني الأبواب هي الممددة ، وعنه : أدخلهم في عمد ممدة عليهم بعماد . في أعناقهم السلاسل . فسدت بها الأبواب . وقال قتادة : كان نحدث أنهم يعذبون بعمد في النار ، واختاره ابن جرير ، وقال أبو صالح : { فِي عَمَدٍ مُّمَدَّدَةِ } يعني القيود الثقال .(1/2741)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ (1) أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4) فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)
هذه من النعم التي امتن الله بها على قريش ، فيما صرف عنهم من أصحاب الفيل ، الذين كانوا قد عزموا على هدم الكعبة ومحو أثرها من الوجود ، فأبادهم الله ، وأرغم آنافهم ، وخيب سعيهم ، وأضل عملهم وردهم بشر خيبة ، هذه قصة أصحاب الفيل على وجه الإيجاز والاختصار . يروى أن أبرهة الأشرم بنى كنيسة هائلة بصنعاء ، رفيعةالبناء عالية الفِناء مزخرفة الأرجاء ، سمتها العرب ( القليس ) لارتفاعها ، لأن الناظر إليها تكاد تصقط فلنسوته عن رأسه من ارتفاع بنائها ، وعزم أبرهة على أن يصرف حج العرب إليها كما يحج إلى الكعبة بمكة ، ونادى بذلك في مملكته ، فكرهت العرب ذلك ، وغضبت قريش ، لذلك غضباً شديداً ، حتى قصدها بعضهم وتوصل إلى أن دخلها ، فأحدث فيها وكرّ راجعاً ، فلما رأى السدنة ذلك الحدث رفعوا أمره إلى ملكهم ( أبرهة ) وقالوا له : إنما صنع هذا بعض قريش غضباً لبيتهم الذي ضاهيت هذا به ، فأقسم أبرهة ليسيرن إلى بيت مكة وليخربنه حجراً حجراً ، وذكر مقاتل أن فتية من قريش دخلوها ، فأججوا فيها ناراً ، وكان يوماً فيه هواء شديد فاحترقت ، فتأهب أبرهة لذلك ، وصار في جيش كثيف عرمرم لئلا يصده أحد عنه ، واستصحب معه فيلاً عظيماً كبير الجثة لم ير مثله ، يقال له ( محمود ) ، ويقال : كان معه اثنا عشر فيلاً غيره ، فلما سمعت العرب بمسيره أعظموا ذلك جداً ، ورأوا أن حقاً عليهم المحاجبة دون البيت ، ورد من أراده بكيد ، فخرج إليه رجل من أشراف أهل اليمن وملوكهم يقال له ( ذو نفر ) فدعا قومه إلى حرب أبرهة وجهاده عن بيت الله ، فأجابوه وقاتلوا أبرهة فهزمهم ، ثم مضى لوجهه حتى إذا كان بأرض خثعم اعترض له ( نفيل بن حبيب ) الخثعمي في قومه فقاتلوه ، فهزمهم أبرهة وأسر نفيل بن حبيب ، فأراد قتله ثم عفا عنه ، واستصحبه معه ليدله في بلاد الحجاز ، فلما اقترب من أرض الطائف خرج إليه أهلها ثقيف وصانعوه خيفة على بيتهم الذي عندهم الذي يسمونه اللات ، فأكرمهم وبعثوا معه ( أبا رغال ) دليلاً ، فلما انتهى أبرهة إلى المغمس وهو قريب من مكة نزل به ، وأغار جيشه على سرح أهل مكة من الإبل وغيرها ، فأخذوه ، وكان في السرح مائتا بعير لعبد المطلب ، وبعث أبرهه حناطة الحِمْيَري إلى مكة ، وأمره أن يأتيه بأشرف قريش ، وأن يخبره أن الملك لم يجىء لقتالكم إلاّ أن تصدُّوه عن البيت ، فجاء حناط فدل على عبد المطلب بن هاشم وبلغه عن أبرهة ما قال ، فقال له عبد المطلب : والله ما نريد حربه ، وما لنا بذلك من طاقة ، هذا بيت الله الحرام وبيت خليله إبراهيم ، فإن يمنعه منه فهو بيته وحرمه ، وإن يخلي بينه وبينه ، فوالله ما عندنا دفع عنه ، فقال له حناطة : فاذهب معي إليه ، فذهب معه ، فلما رآه أبرهة أجله - وكان عبد المطلب رجلاً جسيماً حسن المنظر - ونزل أبرهة عن سريره وجلس معه على البساط ، وقال لترجمانه : قل له ما حاجتك؟ فقال للترجمان : إن حاجتي أن يرد عليّ الملك مائتي بعير أصابها لي ، فقال أبرهة لترجمانه : قل له : لقد كنت أعجبتني حين رأيتك ، ثم قد زهدت فيك حين كلمتني ، أتكلمني في مائتي بعير أصبتها لك ، وتترك بيتاً هو دينك ودين آبائك ، قد جئت لهدمه لا تكلمني فيه؟ فقال له عبد المطلب : إني أنا رب الإبل ، وإن للبيت رباً سيمنعه ، قال : ما كان ليمتنع مني ، قال : أنت وذاك ، ويقال : إنه ذهب معه عبد المطلب جماعة من أشراف العرب ، فعرضوا على أبرهة ثلث أموال تهامة على أن يرجع عن البيت ، فأبى عليهم ، ورد أبرهة على عبد المطلب إبله ، ورجع عبد المطلب إلى قريش ، فأمره بالخروج من مكة ، والتحصن في رؤوس الجبال تخوفاً عليهم من معرة الجيش ، ثم قام عبد المطلب فأخذ بحلقة باب الكعبة ، وقال معه نفر من قريش يدعون الله ، ويستنصرون على أبرهة وجنده ، فقال عبد المطلب وهو آخذ بحلقة الكعبة :(1/2742)
اللهم إن المرء يمنع ... رحله فامنح رحالك
وانصر على آل الصليب ... وعابديه اليوم آلك
لا يغلبنّ صليبهم ... ومحالهم أبداً محالك
ثم خرج إلى رؤوس الجبال . وذكر مقاتل أنهم تركوا عند البيت مائة بدنة مقلدة ، لعل بعض الجيش ينال منها شيئاً بغير حق فينتقم الله منهم ، فلما أصبح أبرهة تهيأ لدخول مكة وهيأ جيشه ، فلما وجهوا الفيل نحو كة ، برك الفيل ، وخرج ( نفيل بن حبيب ) يشتد حتى صعد في الجبل ، وضربوا الفيل ليقوم ، فأبى ، فضربوا في رأسه بالطبرزين وأدخلوا محاجن لهم في مراقه ، فنزعوه بها ليقم فأبى ، فوجهوه راجعاً إلى اليمن ، فقام يهرول ، ووجهوه الى الشام ، ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى المشرق ، ففعل مثل ذلك ، ووجهوه إلى مكة فبرك ، وأرسل الله عليهم طيراً من البحر أمثال الخطاطيف والبلسان مع كل طائر منها ثلاثة أحجار يحملها : حجر في منقاره وحجران في رجليه أمثال الحصى والعدس ، لا يصيب منه أحداً إلاّ هلك ، وليس كلهم أصابت ، وخرجوا هاربين يبتدرون الطريق ، ويسألون عن ( نفيل ) ليدلّهم على الطريق ، هذا ونفيل على رأس الجبل مع قريش ، وعر الحجاز ينظرون ماذا أنزل الله بأصحاب الفيل من النقمة ، وجعل نفيل يقول :
أين المفر والإله الطالب ... والأشرم المغلوب ليس الغالب
وذكر الواقدي بإسناده : أنهم لما تعبأوا لدخول الحرم ، وهيأوا افيل جعلوا لا يصرفونه إلى جهة من سائر الجهات إلاّ ذهب فيها ، فإذا وجهوه إلى الحرم ربض وصاح ، وجعل أبرهة يحمل على سائس الفيل وينهره ويضربه ليقهر الفيل على دخول الحرم ، وعبد المطلب وجماعة من أشراف مكة على حراس ينظرون ما الحبشة يصنعون ، وماذا يلقون من أمر الفيل وهو العجب العجاب ، فبينما هم كذلك إذ بعث الله عليهم { طَيْراً أَبَابِيلَ } أي قطعاً قطعاً صفراً دون الحمام وأرجلها حمر ، ومع كل طائر ثلاثة أحجار ، وجاءت حلّقت عليهم ، وأرسلت تلك الأحجار عليهم فهلكوا ، قال عطاء : لي كلهم أصابه العذاب في الساعة الراهنة ، بل منهم من هلك سريعاً ، ومنهم من جعل يتساقط عضواً عضواً ، وهم هاربون ، وكأن أبرهة ممن تساقط عضواً عضواً حتى مات ببلاد خثعم ، قال ابن إسحاق : فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ، كان فيما يعد به على قريش من نعمته عليهم وفضله ، ما رد عليهم من أمر الحبشة لبقاء أمرهم ومدتهم فقال : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الفيل } إلى قوله : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } ، وقوله :(1/2743)
{ لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف * فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت * الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 4 ] . قال ابن هشام : « الأبابيل » الجماعات ولم تتكلم العرب بواحدة قال : وأما « السجيل » فأخبرني يونس النحوي أنه عند العرب الشديد الصلب ، « والعصف » ورق الزرق الذي يقضب واحدته عصفة . انتهى ما ذكره . وقال ابن عباس والضحّاك : أبابيل يتبع بعضها بعضاً ، وقال الحسن البصري وقتادة : الأبابيل الكثيرة ، وقال مجاهد « أبابيل » شتى متتابعة مجتمعة ، وقال ابن زيد : « الأبابيل » المختلفة تأتي من ههنا ، ومن ههنا ، أتتهم من كل مكان ، وقال عكرمة : كانت طيراً خضراً خرجت من البحر لها رؤوس كرؤوس السباع . وعن ابن عباس ومجاهد : كانت الطير الأبابيل مثل التي يقال لها عنقاء مغرب ، وقال عبيد بن عمير : لما أراد الله أن يهلك أصحاب الفيل بعث عليهم طيراً أنشئت من البحر أمثال الخطاطيف ، كل طير منها يحمل ثلاثة أحجار حجرين في رجليه وحجراً في منقاره ، قال : فجاءت حتى صفت على رؤوسهم ثم صاحت وألقت ما في أرجلها ومناقيرها ، فما يقع على رأس رجل إلاّ خرج من دبره ، ولا يقع على شيء من جسده إلاّ خرج من الجانب الآخر ، وبعث الله ريحاً شديدة فضربت الحجارة فزادتها شدة فأهلكوا جميعاً . وقال ابن عباس { حِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ } قال : طين من حجارة .
وقوله تعالى : { فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } قال سعيد بن جبير : يعني التين الذي تسميه العامة هبور ، وقال ابن عباس : العصف القشرة التي على الحبة كالغلاف على الحنطة ، وقال ابن زيد : العصف ورق الزرع ، وورق البقل إذا أكلته البهائم فراثته فصار دريناً ، المعنى أن الله سبحاه وتعالى أهلكهم ودمّرهم وردهم بكيدهم وغيظهم ، لم ينالوا خيراً ، وأهلك عامتهم ولم يرجع منه مخبر إلاّ وهو جريح ، كما يروى لأمية بن أبي الصلت بن ربيعة قوله :
إن آيات ربنا باقيات ... ما يماري فيها إلاّ الكفور
خلق الليل والنهار فكل ... مستبين حسابه مقدور
ثم يجلو النهار رب رحيم ... بمهاة شعاعها منشور
حبس الفيل بالمغمّس حتى ... صار يحبو كأنه معقور
خلّفوه ثم ابذعرّوا جميعاً ... كلهم عظم ساقه مكسور
كل دِين يوم القيامة عند ... الله إلاّ دين الحنيفة بور(1/2744)
وقد قدمنا في تفسير الفتح « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أطل يوم الحديبية على الثنية التي تهبط به على قريش بركت ناقته ، فزجرها فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، أي حرنت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما خلأت القصواء وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل « ، ثم قال : » والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم خطة يعظمون فيها حرمات الله إلاّ أجبتهم إليها « ، ثم زجرها فقامت » وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم فتح مكة : « إن الله حبس عن مكة الفيل وسلّط عليها رسوله والمؤمنين ، وإنه قد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ألا فيبلغ الشاهد الغائب » .(1/2745)
لِإِيلَافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلَافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتَاءِ وَالصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هَذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَآمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)
هذه السورة مفصولة عن التي قبلها من المصحف الإمام ، كتبوا بينهما سطر ( بسم الله الرحمن الرحيم ) وإن كانت متعلقة بما قبلها ، كما صرح بذلك محمد بن إسحاق وعبد الرحمن بن زيد ، لأن المعنى عندهما : حبسنا عن مكة الفيل ، وأهلكنا أهله { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } أي لائتلافهم واجتماعهم في بالدهم آمنين ، وقيل : المراد بذلك ما كانوا يألفونه من الرحلة في الشتاء إلى اليمن ، وفي الصيف إلى الشام في المتاجر وغير ذلك ، ثم يرجعون إلى بلدهم آمنين في أسفارهم ، لعظمتهم عند الناس لكونهم سكان حرم الله ، فمن عرفهم احترمهم ومن سار معهم آمن بهم ، وهذا حالهم في أسفارهم ورحلتهم في شتاتهم وصيفهم ، وأما في حال إقامتهم في البلد فكما قال الله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] ، ولهذا قال تعالى : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ } بدل من الأول ومفسر له ، ولهذا قال تعالى : { إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف } وقال ابن جرير : الصواب أن اللام لام التعجب ، كأنه يقول : اعجبوا لإيلاف قريش ونعمتي عليهم في ذلك ، قال : وذلك لإجماع المسلمين على أنهما سورتان منفصلتان مستقلتان ، ثم أرشدهم إلى شكر هذه النعمة العظيمة فقال : { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت } أي فليوحدوه بالعبادة كما جعل لهم حرماً آمناً وبيتاً محرماً ، كما قال تعالى : { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا } [ النمل : 91 ] وقوله تعالى : { الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ } أي هو رب البيت وهو الذي أطعمهم من جوع { وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } أي تفضل عليهم بالأمن والرخص ، فليفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، ولا يعبدوا من دونه صنماً ولا نداً ولا وثناً ، ولهذا من استجاب لهذا الأمر ، جمع الله له بين أمن الدنيا وأمن الآخرة ، ومن عصاه سلبهما منه ، كما قال تعالى : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] ، عن أُسامة بن زيد قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ * إِيلاَفِهِمْ رِحْلَةَ الشتآء والصيف } ويحكم يا معشر قريش اعبدوا رب هذا البيت الذي أطعمكم من جوع وآمنكم من خوف .(1/2746)
أَرَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذَلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَلَا يَحُضُّ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4) الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ (6) وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ (7)
يقول تعالى : { أَرَأَيْتَ } يا محمد { الذي يُكَذِّبُ بالدين } وهو المعاد والجزاء والثواب { فَذَلِكَ الذي يَدُعُّ اليتيم } أي هو الذي يقهر اليتيم ولا يطعمه ولا يحسن إليه { وَلاَ يَحُضُّ على طَعَامِ المسكين } كقوله { وَلاَ تَحَآضُّونَ على طَعَامِ المسكين } [ الفجر : 18 ] ، ثم قال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } قال ابن عباس : يعني المنافقين الذين يصلون في العلانية ، ولا يصلون في السر ، ولهذا قال : { لِّلْمُصَلِّينَ } الذين من أهل الصلاة ثم هم عنها ساهون ، إما عن فعلها بالكلية ، أو يخرجها عن وقتها ، وقال عطاء بن دينار : الحمد لله الذي قال : { عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } ولم يقل { في صلاتهم ساهون } فيؤخرونها إلى آخر الوقت ، أو لا يؤدونها بأركانها وشروطها عن الخشوع فيها والتدبر لمعانيها ، فاللفظ يشمل ذلك كله ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم قال : « تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، يجلس يرقب الشمس ، حتى إذا كانت بين قرني الشيطان فنقر أربعاً ، لا يذكر الله فيها إلاّ قليلاً » ، فهذا أخّر صلاة العصر التي هي الوسطى - كما ثبت به النص - إلى آخر وقتها ، وهو وقت كراهة ، ثم قال إليها فنقرها نقر الغراب ، لم يطمئن ولا خشع فيها أيضاً ، ولهذا قال : « لا يذكر الله فيها إلاّ قليلاً » ولعله إنما حمله على القيام إليها مراءاة الناس ، لا ابتغاء وجه الله ، فهو كما إذا لم يصل بالكلية ، قال الله تعالى : { إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى يُرَآءُونَ الناس وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 142 ] ، وقال تعالى هاهنا : { الذين هُمْ يُرَآءُونَ } ، وروى الطبراني عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن في جهنم لوادياً تستعيذ جهنم من ذلك الوادي في كل يوم أربعمائة مرة ، أعدّ ذلك الوادي للمرائين من أمة محمد : لحامل كتاب الله ، وللمصدق في غير ذات الله ، وللحاج إلى بيت الله ، وللخارج في سبيل الله » وروى الإمام أحمد عن عمرو بن مرة قال : كنا جلوساً عند أبي عبيدة ، فذكرا الرياء ، فقال رجل يكنى بأبي يزيد : سمعت عبد الله بن عمرو يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من سمّع بعمله سمّع الله به سامع خلقه وحقّره وصغّره » ، ومما يتعلق بقوله تعالى : { الذين هُمْ يُرَآءُونَ } أن من عمل عملاً لله فاطلع عليه الناس فأعجبه ذلك أن هذا لا يعد رياء ، لما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « كنت أصلي ، فدخل عليّ رجل ، فأعجبني ذلك فذكرته لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » كتب لك أجران : أجر السر ، وأجر العلانية « » .(1/2747)
وفي رواية عنه قال ، « قال رجل : يا رسول الله! الرجل يعمل العمل يسره فإذا اطلع عليه أعجبه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » له أجران : أجر السر وأجر العلانية « » وعن سعد بن أبي وقاص قال : « سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن { الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } قال : » هم الذين يؤخرون الصلاة عن وقتها « » ، قلت : وتأخير الصلاة عن وقتها يحتمل تركها بالكلية ، ويحتمل صلاتها بعد وقتها شرعاً ، أو تأخيرها عن أول الوقت .
وقوله تعالى : { وَيَمْنَعُونَ الماعون } أي لا أحسنوا عبادة ربهم ، ولا أحسنوا إلى خلقه ، حتى ولا بإعارة ما ينتفع به من بقاء عينه ورجوعه إليهم ، فهؤلاء لمنع الزكاة وأنواع القربات أولى وأولى . وقد قال مجاهد { الماعون } الزكاة ، وقال الحسن البصري : إن صلى راءى ، وإن فاتته لم يأس عليها ، ويمنع زكاة ماله ، وفي لفظ : صدقة ماله ، وقال زيد بن أسلم : هم المنافقون ظهرت الصلاة فصلوها ، وخفيت الزكاة فمنعوها . وسئل ابن مسعود عن الماعون؟ فقال : هو ما يتعاطاه الناس بينهم من الفأس والقدر والدلو وأشباه ذلك ، وقال ابن جرير ، عن عبد الله قال : « كنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم نتحدث أن الماعون الدلو والفأس والقدر لا يستغنى عنهن » ، ولفظ النسائي عن عبد الله قال : كل معروف صدقة ، وكنا نعد الماعون على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم عارية الدلو والقدر ، وعن ابن عباس : { وَيَمْنَعُونَ الماعون } يعني متاع البيت ، وكذا قال مجاهد والنخعي أنها العارية للأمتعة ، وقد اختلف الناس في ذلك ، فمنهم من قال : يمنعون ا لزكاة ، ومنهم من قال : يمنعون الطاعة ، ومنهم من قال : يمنعون العارية ، وعن علي : الماعون منع الناس الفأس والقدر والدلو ، وقال عكرمة : رأس الماعون زكاة المال وأدناه المنخل والدلو والإبرة ، وهذا الذي قاله عكرمة حسن ، فإنه يشمل الأقوال كلها ، وترجع كلها إلى شيء واحد ، وهو ترك المعاونة بمال أو منفعة ، ولهذا جاء في الحديث : « كل معروف صدقة » .(1/2748)
إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)
روى مسلم عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا في المسجد إذا أغفى إعفاءة ، ثم رفع رأسه مبتسماً قلنا : ما أضحكك يا رسول الله؟ قال : » لقد أنزلت عليَّ آنفاً سورة « فقرأ : { بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ * إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر * فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر * إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } ، ثم قال : » أتدرون ما الكوثر؟ « قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : فإنه نهر في الجنة وعدنيه ربي عزَّ وجلَّ عليه خير كثير ، هو حوض ترد عليه أمتي يوم القيامة آنيته عدد النجوم في السماء فيختلج العبد منهم ، فأقول : رب إنه من أمتي ، فيقول : إنك لا تدري ما أحدث بعدك » وقد استدل كثير من القراء على أن هذه السورة مدنية ، فأما قوله تعالى : { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر } فقد تقدم في هذا الحديث أنه نهر في الجنة ، وقد رواه الإمام أحمد عن أنَس أنه قرأ هذه الآية : { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر } قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعطيت الكوثر فإذا هو نهر يجري ولم يشق شقاً ، وإذا حافتاه قباب اللؤلؤ فضربت بيدي في تربته ، فإذا مسك أذفر ، وإذا حصباؤه اللؤلؤ » وعن أنس بن مالك قال : « لما عرج بالنبي صلى الله عليه وسلم إلى السماء قال : أتيت على نهر حافتاه قباب اللؤلؤ المجوف فقلت : ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا الكوثر » وروى ابن جرير ، عن أنَس بن مالك قال : « لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم مضى به جبريل في السماء الدنيا ، فإذا هو بنهر عليه قصر من اللؤلؤ وزبرجد ، فذهب يشم ترابه ، فإذا هو مسك ، قال : » يا جبريل ما هذا النهر؟ « قال : هو الكوثر الذي خبأ لك ربك » ؛ وفي رواية عن أنَس قال : « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكوثر؟ فقال : » هو نهر أعطانيه الله تعالى في الجنة ترابه مسك ، أبيض من اللبن ، وأحلى من العسل ، ترده طير أعناقها مثل أعناق الجزر « ، قال أبو بكر : يا رسول الله إنها لناعمة؟ قال : » أكلها أنعم منها « » وقال البخاري : حدَّثنا خالد بن يزيد الكاهلي . حدثنا إسرائيل عن أبي إسحاق عن أبي عبدية عن عائشة رضي الله عنها قال : « سألتها عن قوله تعالى : { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر } قالت : نهر أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم شاطئاه عليه در مجوف آنيته كعدد النجوم » وعن عائشة قالت : « الكوثر نهر في الجنة شاطئاه در مجوف ، وقال إسرائيل : نهر في الجنة عليه من الآنية عدد نجوم السماء »(1/2749)
، وعن مسروق قال ، قلت لعائشة : « يا أم المؤمنين حدِّثيني عن الكوثر؟ قالت : نهر في بطنان الجنة ، قلت : وما بطنان الجنة؟ قالت : وسطها ، حافتاه قصور اللؤلؤ والياقوت ، ترابه المسك ، وحصباؤه اللؤلؤ والياقوت » .
وقال البخاري ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال في الكوثر : هو الخير الذي أعطاه الله إياه قال أبو بشر : قلت لسعيد بن جبير : فإن ناساً يزعمون أنه نهر في الجنة ، فقال سعيد : النهر الذي في الجنة من الخير الذي أعطاه الله إياه . وروى سعيد بن جبير عن أبن عباس قال : الكوثر الخير الكثير ، وهذا التفسير يعم النهر وغيره ، لأن الكوثر من الكثرة وهو الخير الكثير ، ومن ذلك النهر كما قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد ، حتى قال مجاهد : هو الخير الكثير في الدنيا والآخرة ، وقال عكرمة : هو النبوة والقرآن وثواب الآخرة ، وقد صح عن ابن عباس أنه فسره بالنهر أيضاً ، فقال ابن جرير : عن ابن عباس قال : « الكوثر نهر في الجنة ، حافتاه ذهب وفضة ، يجري على الياقوت والدر ، ماؤه أبيض من الثلج ، وأحلى من العسل » . وعن ابن عمر أنه قال : الكوثر نهر في الجنة حافتاه ذهب وفضة ، يجري على الدر والياقوت ، ماؤه أشد بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل . وقد روي مرفوعاً فقال الإمام أحمد : عن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الكوثر نهر في الجنة ، حافتاه من ذهب ، والماء يجري على اللؤلؤ ، وماؤه أشد بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل » وروى ابن جرير عن عطاء بن السائب قال : قال لي محارب بن دثار ما قال سعيد بن جبير في الكوثر . قلت : حدثنا عن ابن عباس أنه قال : هو الخير الكثير ، فقال : صدق الله إنه للخير الكثير؛ ولكن حدثنا ابن عمر قال : لما نزلت { إِنَّآ أَعْطَيْنَاكَ الكوثر } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الكوثر نهر في الجنة حافتاه من ذهب يجري على الدر والياقوت » وهكذا روي عن أنَس وأبي العالية ومجاهد وغير واحد من السلف أن الكوثر نهر في الجنة ، وقال عطاء : هو حوض في الجنة .
وقوله تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر } أي كما أعطيناك الخير الكثير في الدنيا والآخرة ومن ذلك النهر الذي تقدم صفته ، فأخلص لربك صلاتك المكتوبة والنافلة ، ونحرك فاعبده وحده لا شريك له ، وانحر على اسمه وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين * لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } [ الأنعام : 162-163 ] قال ابن عباس : يعني بذلك نحر البدن ونحرها ، وقيل : المراد بقوله : { وانحر } وضع اليد اليمنى على اليسرى تحت النحر ، وقيل : { وانحر } أي استقبل بنحرك القبلة ، والصحيح القول الأول : أن المراد بالنحر ذبح المناسك ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العيد ثم ينحر نسكه ويقول :(1/2750)
« من صلى صلاتنا ونسك نسكنا فقد أصاب النسك ، ومن نسك قبل الصلاة فلا نسك له » الحديث . قال ابن جرير : والصواب قول من قال : إن معنى ذلك فاجعل صلاتك كلها لربك خالصاً ، دون ما سواه من الأنداد والآلهة ، وكذلك نحرك أجعله له دون الأوثان ، شكراً له على ما أعطاك من الكرامة والخير الذي لا كفاء له وخصك به ، وهذا الذي قاله في غاية الحسن ، وقوله تعالى : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } أي إن مبغضك يا محمد ، ومبغض ما جئت به من الهدى والحق ، والبرهان الساطع والنور المبين { هُوَ الأبتر } الأقل والأذل المنقطع ذكره ، قال ابن عباس ومجاهد : نزلت في العاص بن وائل ، وقال يزيد بن رومان : قال ، كان العاص بن وائل إذا ذكر سول الله صلى الله عليه وسلم يقول : دعه فإنه رجل أبتر لا عقب له ، فإذا هلك انقطع ذكره ، فأنزل الله هذه السورة ، وقيل : نزلت في عقبة بن أبي معيط ، وقال عطاء : نزل في ( أبي لهب ) وذلك حين مات ابن لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذهب أبو لهب إلى المشركين ، فقال : بتر محمد الليلة فأنز الله في ذلك : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } ، وعن ابن عباس : نزلت في ( أبي جهل ) وعنه { إِنَّ شَانِئَكَ } يعني عدوك ، وهذا يعم جميع من تصف بذلك ممن ذكر وغيرهم ، وقال عكرمة : الأبتر الفرد ، وقال السدي : كانوا إذا مات ذكور الرجل ، قالوا : بتر ، فلما مات أبناء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالوا : بتر محمد ، فأنزل الله : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } ، وهذا يرجع إلى ما قلناه من أن الأبتر الذي إذا مات انقطع ذكره . فتوهموا لجهلهم أنه إذا مات بنوه انقطع ذكره ، وحاشا وكلا ، بل قد أبقى الله ذكره على رؤوس الأشهاد ، وأوجب شرعه على رقاب العباد ، مستمراً على دوام الآباد ، إلى يوم المحشر والمعاد ، صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم التناد .(1/2751)
قُلْ يَا أَيُّهَا الْكَافِرُونَ (1) لَا أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ (2) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (3) وَلَا أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدْتُمْ (4) وَلَا أَنْتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ (6)
هذه سورة البراءة من العمل الذي يعمله المشركون ، فقوله تعالى : { قُلْ ياأيها الكافرون } يشمل كل كافر على وجه الأرض ، ولكن الموجهون بهذا الخطاب هم ( كفار قريش ) دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة الأوثان سنة ، ويعبدون معبوده سنة ، فأنزل الله هذه السورة وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم فيها أن يتبرأ من دينهم بالكلية . فقال : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } يعني من الأصنام والأنداد ، { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } وهو الله وحده لا شريك له ، ثم قال : { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } ، أي لا أعبد عبادتكم أي ولا أسلكها ولا أقتدي بها ، وإنما أعدب الله على الوجه الذي يحبه ويرضاه ، ولهذا قال : { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } أي لا تقتدون بأوامر وشرعه في عبادته ، بل قد اخترعتم شيئاً من تلقاء أنفسكم ، كما قال : { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَمَا تَهْوَى الأنفس } [ النجم : 23 ] فتبرأ منهم في جميع ما هم فيه ، ولهذا كان كلمة الإسلام « لا إله إلاّ الله محمد رسول الله » أي لا معبود إلاّ الله ، ولا طريق إليه إلاّ بما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، والمشركون يعبدون غير الله عبادة لم يأذن الله بها ، ولهذا قال : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } ، كما قال تعالى : { وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } [ يونس : 41 ] ، وقال : { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } [ القصص : 55 ، الشورى : 15 ] ، وقال البخاري { لَكُمْ دِينُكُمْ } الكفر ، { وَلِيَ دِينِ } الإسلام ، ولم يقل : ديني ، لأن الآيات بالنون فحذف الياء ، كما قال : { فَهُوَ يَهْدِينِ } [ الشعراء : 78 ] و { يَشْفِينِ } ، وقال غيره : { لاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } الآن ولا أجيبكم بما بقي من عمري { وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } ، ونقل ابن جرير عن بعض أهل العربية أن ذلك من باب التأكيد كقوله : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً * إِنَّ مَعَ العسر يُسْراً } [ الشرح : 5-6 ] فهذه ثلاثة أقوال : أولهما : ما ذكرناه أولاً . الثاني : ما حكاه البخاري وغيره من المفسرين أن المراد : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } في الماضي { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَآ أَعْبُدُ } في المستقبل . الثالث : أن ذلك تأكيد محض . وثمّ قول رابع : نصره ابن تيمية في بعض كتبه ، وهو أن المراد بقوله : { لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ } نفي الفعل لأنها جملة فعلية ، { وَلاَ أَنَآ عَابِدٌ مَّا عَبَدتُّمْ } نفي قبوله لذلك بالكلية ، لأن النفي بالجملة الإسمية آكد ، فكأنه نفي الفعل ، وكونه قابلاً لذلك ، ومعناه فني الوقوع ، ونفي الإمكان الشرعي أيضاً ، وهو قول حسن أيضاً ، والله أعلم .(1/2752)
إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ (1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا (3)
روى البخاري ، عن ابن عباس قال : « كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فكأن بعضهم وجد في نفسه ، فقال : لم يدخل هذا معنا ، ولنا أبناء مثله؟ فقال عمر : إنه ممن قد علمتم ، فدعاهم ذات يوم فأدخله معهم ، فما رأيت أنه دعاني يومئذٍ إلاّ ليريهم ، فقال : ما تقولون في قول الله عزَّ وجلَّ { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } ؟ فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا ، وسكت بعضهم فلم يقل شيئاً ، فقال لي : أكذلك تقول يا ابن عباس : فقلت : لا ، فقال : ما تقول؟ فقلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلمه له قال : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } فذلك علامة أجلك { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } فقال عمر بن الخطاب : لا أعلم منها إلاّ ما تقول » وروى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : « لما نزلت { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » نعيت إليَّ نفسي « ، وأنه مقبوض في تلك السنة ، وهكذا قال مجاهد والضحّاك وغير واحد إنها أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه ، وعن ابن عباس قال : لما نزلت : { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } حتى ختم السورة قال : نعيت لرسول الله صلى لله عليه وسلم نفسه حين نزلت ، قال : فأخذ بأشد ما كان قط اجتهاداً في أمر الآخرة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك : » جاء الفتح ونصر الله ، وجاء أهل اليمن « ، فقال رجل : يا رسول الله وما أهل اليمن؟ قال : » قوم رقيقة قلوبهم ، لينة طباعهم ، الإيمان يمان والفقه يمان « » ، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الفتح : « لا هجرة ولكن جهاد ونية ، ولكن إذا استنفرتم فانفروا » ، فالذي فسر به بعض الصحابة من جلساء عمر رضي الله عنهم أجمعين من أنه قد أمرنا إذا فتح الله علينا المدائن والحصون ، أن نحمد الله ونشكره ونسبِّحه ، يعني نصلي له ونستغفره ، معنى مليح صحيح ، وقد ثبت له شاهد من صلاة النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة وقت الضحى ثماني ركعات ، فيستجب لأمير الجيش إذا فتح بلداً أن يصلي فيه أول ما يدخله ثماني ركعات ، وهكذا فعل سعد بن أبي وقاص يوم فتح المدائن ، وأما ما فسر به ابن عباس وعمر رضي الله تعالى عنهما من أن هذه السورة نعي فيها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم روحه الكريمة ، وأعلم أنك إذا فتحت مكة وهي قريتك التي أخرجتك ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، فقد فرغ شغلنا بك في الدنيا فتهيأ للقدوم علينا والوفود إلينا فللآخرة خير لك من الدنيا ، ولسوف يعطيك ربك فترضى ، ولهذا قال : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } .(1/2753)
روى البخاري ، عن مسروق ، عن عائشة قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول في ركوعه وسجوده : » سبحانك اللهم ربنا وبحمدك ، اللهم اغفر لي « يتأول القرآن » ، وقالت عائشة : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكثر في آخر أمره من قول : » سبحان الله وبحمده أستغفر الله وأتوب إليه « ، وقال : » إن ربي كان أخبرني أني سأرى علامة في أُمتي ، وأمرني إذا رأيتها أن أسبح بحمده وأستغفره إنه كان تواباً ، فقد رأيتها { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح * وَرَأَيْتَ الناس يَدْخُلُونَ فِي دِينِ الله أَفْوَاجاً * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ واستغفره إِنَّهُ كَانَ تَوَّاباً } « » والمراد بالفتح هاهنا فتح مكة قولاً وا حداً ، فإن أحياء العرب كانت تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون : إن ظهر على قومه فهو نبي ، فلما فتح الله عليه مكة دخلوا في دين الله أفواجاً ، فلم تمض سنتان حتى استوسقت جزيرة العرب إيماناً ولم يبق في سائر قبائل العرب إلاّ مظهر الإسلام و الله الحمد والمنة ، وقد روى البخاري في « صحيحه » عن عمرو بن سلمة قال : « لما كان الفتح بادر كل قوم بإسلامهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانت الأحياء تتلوم بإسلامها فتح مكة يقولون : دعوه وقومه ، فإن ظهر عليهم فهو نبي » ، الحديث . وقال الإمام أحمد بسنده : « حدَّثني جار لجابر بن عبد الله قال : قدمت من سفر فجاءني ( جابر بن عبد الله ) فسلم عليَّ ، فجعلت أحدِّثه عن افتراق الناس وما أحدثوا ، فجعل جابر يبكي ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » إن الناس دخلوا في دين الله أفواجاً ، وسيخرجون منه أفواجاً « » .(1/2754)
تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ (1) مَا أَغْنَى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ (2) سَيَصْلَى نَارًا ذَاتَ لَهَبٍ (3) وَامْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4) فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)
روى البخاري : عن ابن عباس « أن النبي صلى الله عليه وسلم خرج إلى البطحاء فصعد الجبل فنادى : » يا صباحاه « فاجتمعت إليه قريش ، فقال : أرأيتم إن حدثتكم أن العدو مصبحكم أو ممسيكم أكنتم تصدقوني؟ » قالوا : نعم ، قال : « فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد » ، فقال أبو لهب : ألهذا جمعتنا؟ تباً لك ، فأنزل الله : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } إلى آخرها « وفي رواية : » فقام ينفض يديه وهو يقول : تباً لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } « الأول دعاء عليه ، والثاني خبر عنه ، فأبو لهب هذا هو أحد أعمام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واسمه ( عبد العزى بن عبد المطلب ) وكان كثير الأذية لرسول الله صلى الله عليه وسلم والبغض له ، والتنقص له ولدينه ، روى الإمام أحمد عن أبي الزناد قال : » أخبرني رجل يقال له ( ربيعة بن عباد ) من بني الديل وكان جاهلياً فأسلم قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم في الجاهلية في سوق ذي المجاز وهو يقول : « يا أيها الناس قولوا لا إله إلاّ الله تفلحوا » والناس مجتمعون عليه ، ووراءه رجل وضيء الوجه ، أحول ذو غديرتين ، يقول : إنه صابيء كاذب ، يتبعه حيث ذهب ، فسألت عنه ، فقالوا : هذا عمه أبو لهب « وقال محمد بن إسحاق . عن ربيعة بن عباد : » إني لمع أبي رجل شاب أنظر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبع القبائل ، ووراءه رجل أحول وضيء الوجه ذو جمة ، يقف رسول الله صلى الله عليه وسلم على القبيلة فيقول : « يا بني فلان إني رسول الله إليكم آمركم أن تعبدو الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تصدقوني وتمنعوني حق أنفذ عن الله ما بعثني به » ، وإذا فرغ من مقالته قال الآخر من خلفه : يا بني فلان هذا يريد منكم أن تسلخوا اللات والعزى وحلفاءكم من الجن إلى ما جاء به من البدعة والضلالة ، فلا تسمعوا له ، ولا تتبعوه ، فقلت لأبي : من هذا؟ قال عمه أبو لهب « فقوله تعالى : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ } خسرت وخابت وضل عمله وسعيه ، { وَتَبَّ } أي وقد تبّ تحقق خسارته وهلاكه .
وقوله تعالى : { مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } قال ابن عباس : { وَمَا كَسَبَ } يعني ولده ، يروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا قومه إلى الإيمان قال أبو لهب : إن كان ما يقول ابن أخي حقاً فإني أفتدي نفسي يوم القيامة من العذاب بمالي وولدي ، فأنزل الله تعالى : { مَآ أغنى عَنْهُ مَالُهُ وَمَا كَسَبَ } .(1/2755)
وقوله تعالى : { سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ } أي ذات شرر ولهب وإحراق شديد ، { وامرأته حَمَّالَةَ الحطب } وكانت زوجته من سادات نساء قريش ، وهي ( أم جميل ) واسمها ( أروى بن حرب بن أمية ) وهي أخت أبي سفيان ، وكانت عوناً لزوجها على كفره وجحوده وعناده ، فلهذا تكون يوم القيامة عوناً عليه في عذابه في نار جهنم ، ولهذا قال تعالى : { وامرأته حَمَّالَةَ الحطب * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } يعني تحمل الحطب فتلقي على زوجها ليزداد على ما هو فيه ، مهيأة لذلك مستعدة له ، { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } قال مجاهد : من مسد النار ، وعن مجاهد وعكرمة ، { حَمَّالَةَ الحطب } كانت تمشي بالنميمة . وقال ابن عباس والضحّاك : كانت تضع الشوك في طريق رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال سعيد بن المسيب : كانت لها قلادة فاخرة ، فقالت : لأنفقنها في عداوة محمد ، فأعقبها الله منها جبلاً في جيدها من مسد النار ، والمسد الليف ، وقيل : هو قلادة من نار طولها سبعون ذراعاًَ ، قال الجوهري : المسد الليف ، والمسد أيضاً حبل من ليف أو خوص ، وقال مجاهد : { حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } أي طوق من حديد ، أخرج ابن أبي حاتم عن أسماء بنت أبي بكر قالت : لمّا نزلت : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } أقبلت العوراء ( أم جميل ) بن حرب ولها ولولة وفي يدها فهر وهي تقول :
مذمّماً أبيْنا ودينه قليْنا وأمره عصينا ... ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد ومعه أبو بكر ، فلما رآها قال : يا رسول الله قد أقبلتْ وأنا أخاف عليك أن تراك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنها لن تراني » ، وقرأ قرآناً اعتصم به ، كما قال تعالى : { وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً } ، فأقبلت حتى وقفت على أبي بكر ، ولم تر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا أبا بكر إني أخبرت أن صاحبك هجاني ، قال : لا ورب هذا البيت ما هجاك ، فولّت وهي تقول : قد علمت قريش أني ابنة سيدها ، قال : فعثرت أم جميع في مرطها وهي تطوف بالبيت ، فقالت : تعس مذمم . وقد قال بعض أهل العلم في قوله تعالى : { فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } أي في عنقها حبل من نار جهنم ترفع به إلى سفيرها ، ثم ترمى إلى أسفلها ، ثم لا تزال كذلك دائماً .
قال العلماء : وفي هذه السورة معجزة ظاهرة ودليل واضح على النبوّة ، فإنه منذ نزل قوله تعالى : { سيصلى نَاراً ذَاتَ لَهَبٍ * وامرأته حَمَّالَةَ الحطب * فِي جِيدِهَا حَبْلٌ مِّن مَّسَدٍ } فأخبر عنهما بالشقاء وعدم الإيمان لم يقيض لهما أن يؤمنا ولا واحد منهما لا باطناً ولا ظاهراً ، لا سراً ولا علناً ، فكان هذا من أقوى الأدلة الباهرة ، على النبوّة الظاهرة .(1/2756)
قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ (3) وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ (4)
قال عكرمة : لما قالت اليهود : نحن نعبد عزير بن الله ، وقالت النصارى : نحن نعبد المسيح بن الله ، وقالت المجوس : نحن نعبد الشمس والقمر ، وقالت المشركين : نحن نعبد الأوثان أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ } يعني هو الواحد الأحد ، الذي لا نظير له ولا وزير ، ولا شبيه ولا عديل ، لأنه الكامل في جميع صفاته وأفعاله ، وقوله تعالى : { الصمد } يعني الذي يصمد إليه الخلائق في حوائجهم ومسائلهم ، قال ابن عباس : هو السيد الذي قد كمل في سؤدده ، والشريف الذي قد كمل في شرفه ، والعظيم الذي قد كمل في عظمته ، والحليم الذي قد كمل في حلمه ، والعليم الذي قد كمل في علمه ، والحيكم الذي قد كمل في حكمته ، وهو الذي قد كمل في أنواع الشرف والسؤدد ، وهو الله سبحانه ، ليس له كفء وليس كمثله شيء ، سبحان الله الواحد القهار ، وقال الأعمش { الصمد } السيد الذي قد انتهى سؤدده ، وقال الحسن وقتادة : هو الباقي بعد خلقه ، وقال الحسن أيضاً { الصمد } الحي القيوم الذي لا زوال له ، وقال الربيع بن أنَس : هو الذي لم يلد ولم يولد كأنه جعل ما بعده تفسيراً له ، وهو قوله : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ } وهو تفسير جيد ، وقال ابن مسعود والضحّاك والسدي : { الصمد } الذي لا جوف له ، وقال مجاهد { الصمد } المصمت الذي لا جوف له ، وقال الشعبي : هو الذي لا يأكل الطعام ولا يشرب الشراب . وقد قال الحافظ أبو القسام الطبراني في « كتاب السنة » بعد أيراده كثيراً من هذه الأقوال في تفسير الصمد : وكل هذه صحيحة وهي صفات ربنا عزَّ وجلَّ ، هو الذ يصمد إليه في الحوائج ، وهو الذي قد انتهى سؤدده ، وهو الصمد الذي لا جوف له ولا يأكل ولا يشرب ، وهو الباقي بعد خلقه ، وقال البيهقي نحو ذلك ، وقوله تعالى : { لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } أي ليس له ولد ولا والد ولا صاحبة ، قال مجاهد : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } يعني لا صاحبة له ، وهذا كما قال تعالى : { بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ } [ الأنعام : 101 ] أي هو مالك كل شيء وخالقه ، فكيف يكون له من خلقه نظير يساميه ، أو قريب يدانيه؟ تعالى وتقدس وتنزه ، قال تعالى : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } [ مريم : 88-89 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ * لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } [ الأنبياء : 26-27 ] ، وفي « صحيح البخاري » : « لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم » وفي الحديث القدسي : « كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه أياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق ، بأهون عليَّ من إعادته . وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولداً ، وأنا الأحد الصمد لم ألد ولم أولد ولم يكن لي كفواً أحد » .(1/2757)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إِذَا حَسَدَ (5)
قال ابن عباس { الفلق } : الصبح ، وقال ابن جرير : وهي كقوله تعالى : { فَالِقُ الإصباح } [ الأنعام : 96 ] ، وقال ابن عباس : { الفلق } الخلق ، أمر الله نبيّه أن يتعوذ من الخلق كله ، وقال كعب الأحبار : { الفلق } بيت في جهنم ، إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدة حره ، قال ابن جرير : والصواب القول ، إنه فلق الصبح ، وهذا هو الصحيح ، وهو اختيار البخاري رحمه الله تعالى ، { مِن شَرِّ مَا خَلَقَ } أي من شر جميع المخلوقات ، قال الحسن البصري : جهنم وإبليس وذريته مما خلق ، { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } قال مجاهد { غَاسِقٍ } الليل { إِذَا وَقَبَ } غروب الشمس ، وقال الحسن وقتادة : إنه الليل إذا أقبل بظلامه ، وقال الزهري : الشمس إذا غربت ، وعن عطية وقتادة : { إِذَا وَقَبَ } الليل إذا ذهب ، وقال أبو هريرة { وَمِن شَرِّ غَاسِقٍ إِذَا وَقَبَ } الكوكب ، قال ابن جرير ، وقال آخرون : هو القمر ، قالت عائشة رضي الله عنها : « أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدي فأراني القمر حين طلع ، وقال : » تعوذي بالله من شر هذا الغاسق إذا وقب « » ، ولفظ النسائي : « تعوذي بالله من شر هذا ، هذا الغاسق إذا وقب » ، قال الأولون : هذا لا ينافي قولنا ، لأن القمر أية الليل ، ولا يوجد له سلطان إلاّ فيه ، وكذلك النجوم لا تضيء إلاّ بالليل ، فهو يرجع إلى ما قلناه ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَمِن شَرِّ النفاثات فِي العقد } قال مجاهد وعكرمة : يعني السواحر ، قال مجاهد : إذا رقين ونفثن في العقد ، وفي الحديث : « أن جبريل جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال اشتكيت يا محمد؟ فقال : » نعم « ، فقال : باسم الله أرقيك ، من كل داء يؤذيك ، ومن شر كل حاسد وعين ، الله يشفيك » ولعل هذا كان من شكواه صلى الله عليه وسلم حين سحر ، ثم عافاه الله تعالى وشفاه ، ورد كيد السحرة الحساد من اليهود في رؤوسهم وجعل تدميرهم في تدبيرهم .
روى البخاري في كتاب الطب من « صحيحه » ، عن عائشة قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم سحر ، حتى كان يرى أنه يأتي النساء ، ولا يأتيهن . قال سفيان : وهذا أشد ما يكون من السحر إذا كان كذا فقال : » يا عائشة أعلمت أن الله قد أفتاني فيما استفتيته فيه؟ أتاني رجلان فقعد أحدهما عند رأسين والآخر عن رجليَّ ، فقال الذي عند رأسي للآخر : ما بال الرجل؟ قال : مطبوب ، قال : ومن طبه؟ قال ( لبيد بن أعصم ) رجل من بني زريق حليف اليهود كان منافقاً ، قال : وفيم؟ قال : في مشط ومشاطة ، قال : وأين؟ قال : في جف طلعة ذكر ، تحت راعوفة في بئر ذروان ، قالت : فأتى البئر حتى استخرجه ، فقال : « هذه بشر الي أُريتها وكأن ما ءها نقاعة الحناء وكأن نخلها رؤوس الشياطين » ، قال : فاستخرج ، فقلت : أفلا تنشَّرت؟ فقال : « أما الله فقد شفاني ، وأكره أن أثير على أحد من الناس شراً » «(1/2758)
وروى الثعلبي في « تفسيره » ، قال ابن عباس وعائشة رضي الله عنهما : « كان غلام من اليهود يخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فدبت إليه اليهود . فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم ، وعدة من أسنان مشطه ، فأعطاها اليهود فسحوه فيها ، وكان الذي تولى ذلك رجل منهم يقال له ( ابن عاصم ) ثم دسها في بئر لبني زريق ، يقال له ذوبان ، فمرض رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وانتثر شعر رأسه ولبث ستة آشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن ، وجعل يذوب ، ولا يدري ما عراه ، فبينما هو نائم إذ أتاه ملكان فجلس أحدهما عند رأسه والآخر عند رجليه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : ما بال الرجل؟ قال : طبَّ ، قال : وما طب؟ قال : سحر ، قال : ومن سحره؟ قال : لبيد بن الأعصم اليهودي ، قال : وبم طبه؟ قال : بمشط ومشاطة ، قال : وأين هو؟ قال : في حف طلعة ذكر تحت راعوفة في بئر ذروان ، والجف قشر الطلع ، والراعوفة حجر في أسفل البئر ناتىء يقوم عليه الماتح ، فانتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم : مذعوراً ، وقال : » يا عائشة أما شعرت أن الله أخبرني بدائي « ، ثم بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً والزبير وعمار بن ياسر ، فنزحوا ماء البئر ، كأنه نقاعة الحناء ، ثم رفعوا الصخرة ، وأخرجوا الجف ، فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان من مشطه ، وإذا فيه وتر معقود فيه أثنا عشرة عقدة مغروزة بالإبر ، فأنزل الله السورتين ، فجعل كلما قرآ آية انحلت عقدة ، ووجد رسول الله صلى الله عليه وسلم خفة حين انحلت العقدة الأخيرة ، فقام كأنما نشط من عقال ، وجعل جبريل عليه السلام يقول : باسم الله أرقيك ، من كل شيء يؤذيك ، من حاسد وعين ، الله يشيفك ، فقالوا : يا رسول الله أفلا نأخذ الخبيث نقتله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أما أنا فقد شفاني الله ، وأكره أن يثير على الناس شراً « » .(1/2759)
قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلَهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ (4) الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ (6)
هذه ثلاث صفات من صفات الرب عزَّ وجلَّ : ( الربوبية ) و ( الملك ) و { الإلهية ) ، فهو رب كل شيء ومليكه وإلهه ، فجميع الأشياء مخلوقة له مملوكة ، فأمر المستعيذ أن يتعوذ بالمتصف بهذه الصفات { مِن شَرِّ الوسواس الخناس } وهو الشيطان الموكل بالإنسان فإنه ما من أحد من بني آدم إلاّ وله قرين يزيّن له الفواحش ، ولا يألوه جهداً في الخبال ، والمعصوم من عصمه الله ، وقد ثبت في الصحيح : « » ما منكم من أحد إلاّ وقد وكل به قرينه « قالوا : وأنت يا رسول الله؟ قال : » نعم إلاّ أن الله أعانني عليه فأسلم فلا يأمرني إلاّ بخير « » وثبت في الصحيحين « إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم ، وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً - أو قال شراً » وروى الحافظ أبو يعلى الموصلي ، عن أنَس بن مالك ، قال ، « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن الشيطان واضع خطمه على قلب ابن آدم ، فإن ذكر الله خنس ، وإن نسي التقم قلبه ، فذلك الوسواس الخناس « » وفيه دلالة على أن القلب متى ذكر الله تصاغر الشيطان وغلب ، وإن لم يذكر الله تعالى وغلب ، قال ابن عباس في قوله : { الوسواس الخناس } قال : الشيطان جاثم على قلب ابن آدم ، فإذا سها وغفل وسوس ، فإذا ذكر الله خنس .
وقوله تعالى : { الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس } هل يختص هذا بني آدم كما هو الظاهر ، أو يعم بني آدم والجن؟ فيه قولان ، ويكونون قد دخلوا في لفظ الناس تغليباً ، وقوله : { مِنَ الجنة والناس } هل هو تفصيل لقوله : { الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس } ثم بيّنهم فقال : { مِنَ الجنة والناس } وهذا يقوي القول الثاني ، وقيل قوله : { مِنَ الجنة والناس } تفسير للذي يوسوس في صدور الناس من شياطين الإنس والجن كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] ، وكما قال الإمام أحمد عن أبي ذر قال : « أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست فقال : » يا أبا ذر هل صليت؟ « قلت : لا ، قال : » قم فصل « قال : فقمت فصليت ، ثم جلست فقال : » يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن « ، قال ، فقلت : يا رسول الله وللإنس شياطين؟ قال : » نعم « » ، وروى الإمام أحمد ، عن ابن عباس قال : « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله صلى الله إني لأحدث نفسي بالشيء ، لأن آخر من السماء أحب إليّ من أن أتكلم به ، قال؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » الله أكبر ، الله أكبر ، الحمد لله الذي ردّ كيده إلى الوسوسة « » .(1/2760)