« لو أدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قاتلت معه وأبليت ، فقال له حذيفة : أنت كنت تفعل ذلك؟ لقد رأيتنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الأحزاب في ليلة ذات ريح شديدة وقر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ألا رجل يأتي بخبر القوم يكون معي يوم القيامة « فلم يجبه منّا أحد ، ثم الثانية مثله ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : » يا حذيفة قم فأتنا بخبر من القوم « فلم أجد بداً إذ دعاني باسمي أن أقوم فقال : » ائتني بخبر القوم ولا تذعرهم عليّ « ، قال فمضيت كأنما أمشي في حمّام حتى أتيتهم ، فإذا أبو سفيان يصلي ظهره بالنار ، فوضعت سهماً في كيد قوسي وأردت أن أرميه ، ثم ذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : لا تذعرهم عليّ ولو رميته لأصبته ، قال : فرجعت كأنما أمشي في حمّام فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم أصابني البرد حيثن فرغت وقررت ، فأخبرت رسول الله صلى الله عليه وسلم وألبسني من فضل عباءة كانت عليه يصلي فيها فلم أزل نائماً حتى الصبح ، فما أن أصبحت قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » قم يا نومان « » .
وأخرج الحاكم والبيهقي في « الدلائل » عن عبد العزيز ابن أخي حذيفة قال : « ذكر حذيفة رضي الله عنه مشاهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال جلساؤه : أما والله لو شهدنا ذلك لكنا فعلنا وفعلنا ، فقال حذيفة : لا تمنوا ذلك لقد رأيتنا ليلة الأحزاب ونحن صافون قعوداً وأبو سفيان ومن معه من الأحزاب فوقنا ، وقريظة لليهود أسفل منها نخافهم على ذرارينا ، وما أتت علينا قط أشد ظلمة ولا أشد ريحاً في أصوات ريحها أمثال الصواعق وهي ظلمة ما يرى أحدنا أصبعه ، فجعل المنافقون يستأذنون النبي صلى الله عليه وسلم ويقولون : أن بيوتنا عورة وما هي بعورة ، فما يستأذنه أحد منهم إلاّ أذن له ، ويأذن لهم فيتسللون ونحن ثلثمائة أو نحو ذلك إذا استقبلنا رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً رجلاً ، حتى أتى علي وما عليَّ جنة من العدو ولا من البرد إلاّ مرط لامرأتي ما يجاوز ركبتي ، قال فأتاني صلى الله عليه وسلم ، وأنا جاث على ركتبي فقال : : من ذها؟ » فقلت : حذيفة ، قال : « حذيفة؟ » فتقاصرت الأرض فقلت : بلى يا رسول الله كراهية أن اقوم فقمت ، فقال : « إنه كائن في القوم خبر فأتني بخبر القوم : قال : وأنا من أشد الناس فزعاً وأشدهم قراً قال : فخرجت فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » اللهم احفظه من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله ، ومن فوقه ومن تحته « ، قال : فوالله ما خلق الله تعالى فزعاً ولا قراً في جوفي إلاّ خرج من جوفي ، فما أجد فيه شيئاً ، قال : فلما وليت قال صلى الله عليه وسلم : » يا حذيفة لا تحدثن في القوم شيئاً حتى تأتيني « قال : فخرجت حتى إذا دنوت من عسكر القوم نظرت في ضوء نار لهم توقد ، فإذا رجل أدهم ضخم يقول بيده على النار ويسمح خاصرته ويقول : الرحيل الرحيل ولم أكن أعرف أبا سفيان قبل ذلك ، فانتزعت سهماً من كنانتي أبيض الريش ، فأضعه في كبد قوسي لأرميه به في ضوء الناء ، فذكرت قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا تحدثن فيهم شيئاً حتى تأتيني « ، قال : فأمسكت ورددت سهمي إلى كنانتي ثم إني شجعت نفسي حتى دخلت المعسكر ، فإذا أدنى الناس مني بنو عامر يقولون : يا آل عامر الرحيل الرحيل لا مقام لكم ، وإذا الريح في عسكرهم ما تجاوز عسكرهم شبراً ، فوالله إني لأسم صوت الحجارة في رحالهم وفرشهم الريح تضربهم بها ، ثم خرجت نحو النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما انتصفت في الطريق أو نحواً من ذلك ، إذا أنا بنحو من عشرين فارساً أو نحو ذلك معتمين فقالوا : أخبر صابحك أن الله تعالى كفاه القوم ، فرجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مشتمل في شملة يصلي فوالله ما عدا أن رجعت راجعني القر وجعلت أقرقف ، فأوما إلي رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده وهو يصلي ، فدنوت منه ، فأسبل علي شملة ، كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى ، فأخبرته خبر القوم وأخبرته أني تركتهم يرتحلون »(1/2013)
، وأنزل الله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } ولأبي داود : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى؛ وقوله تعالى : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ } أي الأحزاب { وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } تقدم عن حذيفة رضي الله عنه أ ، هم بنو قريظة ، { وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر } أي من شدة الخوف والفزع ، { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } ظن بعض من كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الدائرة على المؤمنين ، وقال محمد بن إسحاق : ظن المؤمنون كل ظن ونجم النفاق ، حتى قال ( معتب بن قشير ) كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر ، وأحدنا لا يقدر على أن يذهب إلى الغائط ، وقال الحسن في قوله عزَّ وجلَّ : { وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا } ظنون مختلفة ظن المنافقون أن محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه يستأصلون ، وأيقن المؤمنون أن ما وعد الله ورسوله حق وأنه سيظهر على الدين كله ولو كره المشركون ، وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال ، « قلنا يوم الخندق : يا رسول الله هل من شيء نقول ، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ قال صلى الله عليه وسلم : » نعم ، قولوا : اللهم اتسر عوراتنا وآمن روعاتنا « » قال : فضرب وجوه أعدائه بالريح ، فهزمهم بالريح .(1/2014)
هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالًا شَدِيدًا (11) وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُورًا (12) وَإِذْ قَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ يَا أَهْلَ يَثْرِبَ لَا مُقَامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِرَارًا (13)
يقول تعالى مخبراً عن ذلك الحال حين نزلت الأحزاب حول المدينة ، والمسلمون محصورون في غاية الجهد والضيق ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، أنهم ابتلوا واختبروا وزلزلوا زلزالاً شديداً ، فحينئذٍ ظهر النفاق وتكلم الذين في قلوبهم مرض بما في أنفسهم ، { وَإِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً } ، أما المنافق فنجم نفاقه ، والذي في قلبه شبهة تنفس بما يجده من الوسواس في نفسه ، لضعف إيمانه وشدة ما هو فيه من ضيق الحال ، قال الله تعالى : { وَإِذْ قَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ ياأهل يَثْرِبَ } يعني المدينة كما جاء في الصحيح : « أريت في المنام دار هجرتكم أرض بين حرتين فذهب وَهْلي أنها هجر فإذا هي يثرب » وفي لفظ المدينة ، وقوله : { لاَ مُقَامَ لَكُمْ } أي ههنا يعنون عند النبي صلى الله عليه وسلم في مقام المرابطة ، { فارجعوا } أي إلى بيوتكم ومنازلكم { وَيَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِّنْهُمُ النبي } ، قال بان عباس رضي الله عنهما : هم بنو حارثة ، قالوا : بيوتنا نخاف عليها السراق ، يعني اعتذروا في الرجوع إلى منازلهم بأنها عورة ، أي ليس دونها ما يحجبها من العدو ، فهم يخشون عليها منهم ، قال الله تعالى : { وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ } أي ليست كما يزعمون { إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } أي هرباً من الزحف .(1/2015)
وَلَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطَارِهَا ثُمَّ سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْهَا وَمَا تَلَبَّثُوا بِهَا إِلَّا يَسِيرًا (14) وَلَقَدْ كَانُوا عَاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لَا يُوَلُّونَ الْأَدْبَارَ وَكَانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْئُولًا (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرَارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَإِذًا لَا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سُوءًا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (17)
يخبر تعالى عن هؤلاء الذين { يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنَا عَوْرَةٌ وَمَا هِيَ بِعَوْرَةٍ إِن يُرِيدُونَ إِلاَّ فِرَاراً } [ الأحزاب : 13 ] أنهم لو دخل عليهم الأعداء من كل جانب من جوانب المدينة وقطر من أقطارها ، ثم سألوا الفتنة وهي الدخول في الكفر لكفروا سريعاً ، وهم لا يحافظون على الإيمان ولا يستمسكون به مع أدنى خوف وفزع ، وهذا ذم لهم في غاية الذم ، ثم قال تعالى يذكرهم بما كانوا عاهدوا الله من قبل هذا الخوف أن لا يولوا الأدبار ولا يفروا من الزحف : { وَكَانَ عَهْدُ الله مَسْئُولاً } أي وإن الله سيسألهم عن ذلك العهد لا بد من ذلك ، ثم أخبرهم أن فرارهم ذلك لا يؤخر آجالهم ولا يطول أعمارهم ، بل ربما كان ذلك سبباً في تعجيل أخذهم غرة ، ولهذا قال تعالى : { وَإِذاً لاَّ تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي بعد هربكم وفراركم ، ثم قال تعالى : { قُلْ مَن ذَا الذي يَعْصِمُكُمْ مِّنَ الله } أي يمنعكم ، { إِنْ أَرَادَ بِكُمْ سواءا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أي ليس لهم ولا لغيرهم من دون الله مجير ولا مغيث .(1/2016)
قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَالْقَائِلِينَ لِإِخْوَانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنَا وَلَا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلَّا قَلِيلًا (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذَا جَاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذَا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولَئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (19)
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بالمعوقين لغيرهم من شهود الحرب ، والقائلين لإخوانهم أي أصحابهم وعشرائهم وخلطائهم { هَلُمَّ إِلَيْنَا } أي إلى ما نحن في من الإقامة من الظلال والثمار وهم مع ذلك { وَلاَ يَأْتُونَ البأس إِلاَّ قَلِيلاً * أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أي بخلاء بالمودة والشفقة عليكم ، وقال السدي { أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ } أي في الغنائم ، { فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت } أي من شدة خوفه وجزعه ، وهكذا خوف هؤلاء الجبناء من القتال { فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } أي فإذا كان الأمن تكلموا كلاماً فصيحاً عالياً ، وادعوا لأنفسهم الشجاعة والنجدة ، وهم يكذبون في ذلك ، قال ابن عباس : { سَلَقُوكُمْ } أي استقبلوكم ، وقال قتادة : أما عند الغنيمة فأشح قوم وأسوأه مقاسمة أعطونا أعطونا ، قد شهدنا معكم ، وأما عند البأس فأجبن قوم وأخذله للحق ، وهم مع ذلك { أَشِحَّةً عَلَى الخير } أي ليس فيهم خير قد جمعوا الجبن والكذب وقلة الخير ، فهم كما قال في أمثالهم الشاعر :
أفي السلم أعيار جفاء وغلظة ... وفي الحرب أمثال النساء العوارك؟
أي في حال المسألة كأنهم الحمر ، وفي الحرب كأنهم النساء الحيض ، ولهذا قال تعالى : { أولئك لَمْ يُؤْمِنُواْ فَأَحْبَطَ الله أَعْمَالَهُمْ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً } أي سهلاً هيناً عنده .(1/2017)
يَحْسَبُونَ الْأَحْزَابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَإِنْ يَأْتِ الْأَحْزَابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الْأَعْرَابِ يَسْأَلُونَ عَنْ أَنْبَائِكُمْ وَلَوْ كَانُوا فِيكُمْ مَا قَاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا (20)
وهذا أيضاً من صفاتهم القبيحة في الجبن والخور والخوف ، { يَحْسَبُونَ الأحزاب لَمْ يَذْهَبُواْ } بل هم قريب منهم وإن لهم عودة إليهم ، { وَإِن يَأْتِ الأحزاب يَوَدُّواْ لَوْ أَنَّهُمْ بَادُونَ فِي الأعراب يَسْأَلُونَ عَنْ أَنبَآئِكُمْ } أي ويودون إذا جاءت الأحزاب أنهم لا يكونون حاضرين معكم في المدينة ، بل في البادية يسألون عن أخباركم وما كان من أمركم مع عدوكم ، { وَلَوْ كَانُواْ فِيكُمْ مَّا قاتلوا إِلاَّ قَلِيلاً } أي ولو كانوا بين أظهركم لما قاتلوا معكم إلاّ قليلاً ، لكثرة جبنهم وذلتهم وضعف يقينهم والله سبحانه وتعالى العالم بهم .(1/2018)
لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا (21) وَلَمَّا رَأَى الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزَابَ قَالُوا هَذَا مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَمَا زَادَهُمْ إِلَّا إِيمَانًا وَتَسْلِيمًا (22)
هذه الآيات الكريمة أصل كبير في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم ، قي أقواله وأفعاله وأحواله ، ولهذا أمر تبارك وتعالى الناس بالتأسي بالنبي صلى الله عليه وسلم في صبره ومصابرته ومرابطته ومجاهدته ، ولهذا قال تعالى للذين تضجروا وتزلزلوا واضطربوا في أمرهم يوم الأحزاب : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } أي هلا اقتديتم به وتأسيتم بشمائله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال تعالى : { لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ الله واليوم الآخر وَذَكَرَ الله كَثِيراً } ثم قال تعالى مخبراً عن عباده المؤمنين ، المصدقين بموعود الله لهم ، وجعله العاقبة لهم في الدنيا والآخرة ، فقال تعالى : { وَلَمَّا رَأَى المؤمنون الأحزاب قَالُواْ هذا مَا وَعَدَنَا الله وَرَسُولُهُ وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ } قال ابن عباس : يعنون قوله تعالى في سورة البقرة : { مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] أي هذا ما وعدنا الله ورسوله من الابتلاء والاختيار والامتحان الذي يعقبه النصر القريب ، ولهذا قال تعالى : { وَصَدَقَ الله وَرَسُولُهُ } ، وقوله تعالى : { وَمَا زَادَهُمْ إِلاَّ إِيمَاناً وَتَسْلِيماً } دليل على زيادة الإيمان وقوته بالنسبة إلى الناس وأحوالهم ، ومعنى قوله جلت عظمته : { وَمَا زَادَهُمْ } أي ذلك الحال والضيق والشدة { إِلاَّ إِيمَاناً } بالله ، { وَتَسْلِيماً } أي انقياداً لأوامره وطاعة لرسوله صلى الله عليه وسلم .(1/2019)
مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ إِنْ شَاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (24)
لما ذكر عز وجل عن المنافقين أنهم نقضوا العهد ، وصف المؤمنين بأنهم استمروا على العهد والميثاق ، و { صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ } قال بعضهم : أجله ، وقال البخاري : عهده ، وهو يرجع إلى الأول { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } أي وما غيروا عهد الله و لا نقضوه ولا بدلوه . روى البخاري عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : نرى هذه الآيات نزلت في أنس بن النضر رضي الله عنه { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ } الآية ، وروى الإمام أحمد عن ثابت قال : « قال أنس عمي ( أنس بن النضر ) رضي الله عنه ، لم يشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر فشق عليه ، وقال : أول مشهد شهده رسول الله صلى الله عليه وسلم غبت عنه ، لئن أران الله تعالى مشهداً فيما بعد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليرين الله عزَّ وجلَّ ما أصنع ، قال : فهاب أن يقول غيرها ، فشهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم أُحد ، فاستقبل سعد بن معاذ رضي الله عنه ، فقال له أنس رضي الله عنه : يا أبا عمرو أين ، واهاً لريح الجنة إني أجده دون أحد ، قال : فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه ، قال : فوجد في جسده بضع وثمانون بين ضربة وطعنة ورمية ، فقالت أخته عمتي الربيع ابنة النضر : فما عرفت أخي إلاّ ببنانه ، قال : فنزلت هذه الآية { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } قال : فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه رضي الله عنهم » . وعن طلحة رضي الله عنه قال : « لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من أُجد صعد المنبر ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، وعزّى المسلمين بما أصابهم ، وأخبرهم بما لهم فيه من الأجر والذخر ، ثم قرأ هذه الآية : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ } الآية كلها ، فقام إليه رجل من المسلمين فقال : يا رسول الله من هؤلاء؟ فأقبلتُ وعليَّ ثوبان أخضران حضرميان فقال : » أيها السائل هذا منهم « » .
قال مجاهد في قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ } يعني عهده { وَمِنْهُمْ مَّن يَنتَظِرُ } يوماً فيه القتال فيصدق في اللقاء ، وقال الحسن : { فَمِنْهُمْ مَّن قضى نَحْبَهُ } يعني موته على الصدق والوفاء ، ومنهم من ينتظر على مثل ذلك ، ومنهم من لم يبدلا تبديلاً ، وقال بعضهم : نحبه نذره ، وقوله تعالى : { وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلاً } أي ما غيروا عهدهم وبدلوا الوفاء بالغدر ، بل استمروا على ما عاهدوا الله عليه وما نقضوه كفعل المنافقين الذين(1/2020)
{ عَاهَدُواْ الله مِن قَبْلُ لاَ يُوَلُّونَ الأدبار } [ الأحزاب : 15 ] ، وقوله تعالى : { لِّيَجْزِيَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ وَيُعَذِّبَ المنافقين إِن شَآءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي إنما يختبر عباده بالخوف والزلزال ، ليميز الخبيث من الطيب ، فيظهر أمر هذا بالفعل وأمر هذا بالفعل ، مع أنه تعالى يعلم الشيء قبل كونه ، ولكن لا يعذب الخلق بعلمه فيهم . حتى يعملوا بما يعلمه منهم كما قال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31 ] ، فهذا علم بالشيء بعد كونه وإن كان السابق حاصلاً به قبل وجوده ، وكذا قال الله تعالى : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } [ آل عمران : 179 ] ، ولهذا قال تعالى هاهنا : { لِّيَجْزِيَ الله الصادقين بِصِدْقِهِمْ } أي يصببرهم على ما عاهدوا الله عليه ، وقيامهم به ومحافظتهم عليه { وَيُعَذِّبَ المنافقين } وهم الناقضون لعهد الله المخالفون لأوامره ، فاستحقوا بذلك عقابه وعذابه ، ولما كانت رحمته ورأفته تبارك وتعالى بخلقه هي الغالبة لغضبه قال : { إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } .(1/2021)
وَرَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُوا خَيْرًا وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ وَكَانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزًا (25)
يقول تعالى مخبراً عن الأحزاب لما أجلاهم عن المدينة بما أرسل عليهم من الريح والجنود الإلهية ، ولولا أن الله جعل رسوله رحمة للعالمين لكانت هذه الريح عليهم أشد من الريح العقيم التي أرسلها على عاد ، ولكن قال تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] فلسط عليهم هواء فرّق شملهم ، وردهم خائبين خاسرين بغيظهم وحنقهم { لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً } لا في الدنيا من الظفر والمغنم ، ولا في الآخرة بما تحملوه من الآثام في مبارزة الرسول صى الله عليه وسلم بالعداوة وهمهم بقتله ، وقوله تبارك وتعالى : { وَكَفَى الله المؤمنين القتال } أي لم يحتاجوا إلى منازلتهم ومبارزتهم حتى يجلوهم عن بلادهم ، بل كفى الله وحده ونصر عبده ، وأعز جنده ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا إله إلاّ الله وحده ، صدق وعده ، ونصر عبده ، وأعز جنده ، وهزم الأحزاب وحده فلا شيء بعده » ، وفي « الصحيحين » عن عبد الله بن أبي أوفى رضي الله عنه قال : « دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم على الأحزاب فقال : » اللهم منزل الكتاب ، سريع الحساب ، اهزم الأحزاب ، الله اهزمهم وزلزلهم « » وفي قوله عزَّ وجلَّ : { وَكَفَى الله المؤمنين القتال } ، إشارة إلى وضع الحرب بينهم وبين قريش ، وهكذا وقع بعدها لم يغزهم المشركون بل غزاهم المسلمون في بلادهم ، قال محمد بن إسحاق : لما انصرف أهل الخندق عن الخندق قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغنا : « لن تغزوكم قريش بعد عامكم هذا ولكنكم تغزونهم » ، فلم تغز قريش بعد ذلك ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم هو يغزوهم بعد ذلك حتى فتح الله تعالى مكة ، وقوله تعالى : { وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً } أي بحوله وقوته ردّهم خائبين لم ينالوا خيراً ، وأعز الله الإسلام وأهله ، فله الحمد والمنة .(1/2022)
وَأَنْزَلَ الَّذِينَ ظَاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ صَيَاصِيهِمْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقًا تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقًا (26) وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ وَأَرْضًا لَمْ تَطَئُوهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (27)
قد تقدم أن ( بني قريظة ) لما قدمت الأحزاب ، ونزلوا على المدينة نقضوا ما كان بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم من العهد ، وكان ذلك بسفارة ( حيي بن أخطب ) لعنه الله د خل حصنهم ، ولم يزل بسيدهم ( كعب بن أسد ) حتى نقض العهد ، وقال : له فيما قال : ويحك قد جئتك بعز الدهر ، أتيتك بقريش وأحابيشها ، وغطفان وأتباعها ، ولا يزالون ههنا حتى يستأصلوا محمداً وأصحابه ، فقال له كعب : بل والله أتيتني بذل الدهر ، فلم يزل يفتل في الذروة والغارب ، حتى أجابه ، فلما نقضت قريظة وبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ساءه وشق عليه وعلى المسلمين جداً ، فلما أيده الله تعالى ونصره ، وكبت الأعداء وردهم خائبين بأخسر صفقة ، ورجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة مؤيداً منصوراً ، ووضع الناس السلاح ، « فبينما رسول الله صلى الله عليه وسلم يغتسل من وعثاء تلك المرابطة ، في بيت أم سلمة رضي الله عنها ، إذ تبدى له جبريل عليه الصلاة والسم متعجراً بعامة من إستبرق على بلغة عليها قطيفة من ديباج ، فقال : أوضعت السلاح يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم : » نعم « ، قال : لكن الملائكة لم تضع أسلحتها ، وهذا الآن رجوعي من طلب القوم ، ثم قال : إن الله تبارك وتعالى يأمرك أن تنهض إلى بني قريظة ، فنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم من فوره ، وأمر الناس بالمسير إلى بني قريظة وكانت على أميال من المدينة وذلك بعد صلاة الظهر ، وقال صلى الله عليه وسلم : » لا يصلين أحد منكم العصر إلاّ في بني قريظة « ، فسار الناس فأدركتهم الصلاة في الطريق ، فصلى بعضهم في الطريق ، وقالوا : لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ تعجيل المسير ، وقال آخرون : لا نصليها إلاّ في بني قريظة ، فلم يعنف واحداً من الفريقين ، وتبعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقد استخلف على المدينة ابن أم مكتوم رضي الله عنه ، وأعطى الراية لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه ، ثم نازلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وحاصرهم خمساً وعشرين ليلة ، فلما طال عليهم الحال نزلوا على حكم ( سعد بن معاذ ) سيد الأوس رضي الله عنه ، لأنهم كانوا حلفاءهم في الجاهلية ، فعند ذلك استدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة ليحكم فيهم ، فلما أقبل وهو راكب على حمار قد وطئوا له عليه جعل الأوس يلوذون به ويقولون : يا سعد إنهم مواليك فأحسن فيهم ، ويرققونه عليهم ويعطفونه ، وهو ساكت لا يرد عليهم ، فلما أكثروا عليه قال رضي الله عنه : لقد آن لسعد أن لا تأخذه في الله لومة لائم ، فعرفوا أنه غير مستبقيهم ، فلما دنا من الخيمة التي فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » قوموا إلى سيدكم « فقام إليه المسلمون ، فانزلوه إعظاماً وإكراماً واحتراماً له في محل ولايته ليكون أنفذ لحكمه فيهم ، فلما جلس قال له رسول الله صلى الله عليه سلم : » إن هؤلاء وأشار إليهم قد نزلوا على حكمك فاحكم فيهم بما شئت « فقال رضي الله عنه : وحكمي نافذ عليهم؟ قال صلى الله وسلم : » نعم « ، قال : نعلى من في هذه الخيمة؟ قال : » نعم « ، قال : وعلى من هاهنا ، وأشار إلى الجانب الذي في رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » نعم « ، فقال رضي الله عنه : إني أحكم أن تقتل مقاتلتهم وتسبى ذريتهم وأموالهم ، وفقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لقد حكمت بحكم الله تعالى من فوق سبعة أرقعة « ، ثم أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأخاديد ، فخدت في الأرض وجيء بهم مكتفين ، فضرب أعناقهم ، وكانوا ما بين السبعمائة إلى الثمانمائة ، وسبي من لم ينبت منهم مع النساء وأموالهم »(1/2023)
، ولهذا قال تعالى : { وَأَنزَلَ الذين ظَاهَرُوهُم } أي عاونوا الأحزاب وساعدوهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم { مِّنْ أَهْلِ الكتاب } يعني بني قريظة من اليهود من بعض أسباط بني إسرائيل ، كان قد نزل آباءهم الحجاز قديماً طمعاً في اتباع النبي الأمي الذي يجدوه مكتوباً عندهم في التوراة والإِنجيل ، { فَلَمَّا جَآءَهُمْ مَّا عَرَفُواْ كَفَرُواْ بِهِ } [ البقرة : 89 ] فعليهم لعنة الله ، وقوله تعالى : { مِن صَيَاصِيهِمْ } يعني حصونهم ، { وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب } وهو الخوف لأنهم كانوا مالأوا المشركين على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، وأخافوا المسلمين وراموا قتلهم فانعكس عليهم الحال ، ولهذا قال تعالى : { فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَتَأْسِرُونَ فَرِيقاً } فالذين قتلوا هم المقاتلة ، والأسراء هم الصغار والنساء ، { وَأَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَدِيَارَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ } أي جعلها لكم من قتلكم لهم { وَأَرْضاً لَّمْ تَطَئُوهَا } قيل : خيبر ، وقيل : مكة ، وقيل : فارس والروم ، قال ابن جرير : يجوز أن يكون الجميع مراداً { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } .(1/2024)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (28) وَإِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِنَاتِ مِنْكُنَّ أَجْرًا عَظِيمًا (29)
هذا أمر من الله تبارك وتعالى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، بأن يخير نساءه بين أن يفارقهن فيذهبن إلى غيره ، ممن يحصل لهن عنده الحياة الدنيا وزينتها ، وبين الصبر على ما عنده من ضيق الحال ، ولهن عند الله تعالى في ذلك الثواب الجزيل ، فاخترن رضي الله عنهن وأرضاهن ، الله ورسوله والدار الآخرة ، فيجمع الله تعالى لهن بعد ذلك بين خير الدنيا وسعادة الآخرة ، روى البخاري « عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاءها حين أمره الله تعالى أن يخبِّر أزواجه ، قالت : فبدأ بي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » إني ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تستعجلي حتى تستأمري أبويك وقد علم أن أبويَّ لم يكونا يأمراني بفراقه قالت : ثم قال : « إن الله تعالى قال : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ } » إلى تمام الآيتين ، فقلت له : ففي أي هذا أستأمر أبويَّ؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة « وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ، » قالت عائشة رضي الله عنها : أنزلت آية التخيير فبدأ بي أول امرأة من نسائه ، فقال صلى الله عليه وسلم : « إن ذاكر لك أمراً فلا عليك أن لا تعجلي حتى تستأمري أبويك » قالت وقد علم أن أبوي لم يكونا يأمراني بفراقه قالت ثم قالت : « إن الله تبارك وتعالى قال : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ } الآيتين ، قالت عائشة رضي الله عنها فقلت أفي هذا أستأمر أبوي؟ فإني أريد الله ورسوله والدار الآخرة . ثم خير نساءه كلهن ، فقلن مثل ما قالت عائشة رضي الله عنهن » « .
وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه قال : » أقبل أبو بكر رضي الله عنه يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والناس ببابه جلوس ، والنبي صلى الله عليه وسلم جالس فلم يؤذن له ، ثم أقبل عمر رضي الله عنه ، فاستأذن فلم يؤذن له ، ثم أذن لأبي بكر وعمر رضي الله عنهما فدخلا والنبي صلى الله عليه وسلم جالس وحوله نساءه ، وهو صلى الله عليه وسلم ساكت ، فقال عمر رضي الله عنه : لأكلمن النبي صلى الله عليه وسلم لعله يضحك ، فقال عمر رضي الله عنه : يا رسول الله لو رأيت ابنة زيد امرأة عمر سألتني النفقة آنفاً فوجأت عنقها ، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، وقال : « هن حولي يسألنني النفقة » ، فقام أبو بكر رضي الله عنه إلى عائشة ليضربها ، وقام عمر رضي الله عنه إلى حفصة كلاهما يقولان : تسألان النبي صلى الله عليه وسلم ما ليس عنده ، فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن : والله لا نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذا المجلس ما ليس عنده «(1/2025)
، قال : وأنزل الله عزَّ وجلَّ الخيار ، فبدأ بعائشة رضي الله عنها فقال : « » إني أذكر لك أمراً ما أحسب أن تعجلي فيه حتى تستأمري أبويك « قالت وما هو؟ قال فتلا عليها : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ } الآية . قالت عائشة رضي الله عنها أفيك أستأمر أبوي؟ بل أختار الله تعالى ورسوله ، وأسألك أن لا تذكر لامرأة من نسائك ما اخترت ، فقال صلى الله عليه وسلم : » إن الله تعالى لم يبعثني معنفاً ولكن بعثني معلماً ميسراً ، لا تسألني امرأة منهن عما اخترت إلاّ أخبرتها « » ، قوله تعالى : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } أي أعطيكن حقوقكن وأطلق سراحكن ، قال عكرمة : وكان تحته يومئذٍ تسع نسوة ، خمس من قريش ( عائشة ، وحفصة ، وأم حبيبة ، وسودة ، وأم سلمة ) رضي الله عنهن ، وكات تحته صلى الله عليه وسلم صفية بن حيي النضيرية ، وميمونة بن الحارث الهلالية ، وزينب بنت جحش الأسدية ، وجويرية بنت الحارث المصطلقية رضي الله عنهن وأرضاهن أجمعين .(1/2026)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) وَمَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَرَسُولِهِ وَتَعْمَلْ صَالِحًا نُؤْتِهَا أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقًا كَرِيمًا (31)
يقول تعالى واعظاً نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، اللاتي اخترن الله ورسوله والدار الآخرة ، بأن من يأت منهم { بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } قال ابن عباس : هي النشوز وسوء الخلق ، وهذا شرط والشرط لا يقتضي الوقوع ، كقوله تعالى : { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] ، وكقوله : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } [ الزخرف : 81 ] ، فلما كانت منزلتهن رفيعة ناسب أن يجعل الذنب لو وقع منهن مغلظاً ، ولهذا قال تعالى : { مَن يَأْتِ مِنكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ يُضَاعَفْ لَهَا العذاب ضِعْفَيْنِ } يعني في الدنيا والآخرة ، { وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيراً } أي سهلاً هنياً؛ ثم ذكر عدله وفضله في قوله : { وَمَن يَقْنُتْ مِنكُنَّ للَّهِ وَرَسُولِهِ } أي تطع الله ورسوله وتستجب { نُؤْتِهَآ أَجْرَهَا مَرَّتَيْنِ وَأَعْتَدْنَا لَهَا رِزْقاً كَرِيماً } أي في الجنة ، فإنهن في منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم في أعلى عليين ، فوق منازل جميع الخلائق ، في الوسيلة التي هي أقرب منازل الجنة إلى العرش .(1/2027)
يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفًا (32) وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى وَأَقِمْنَ الصَّلَاةَ وَآتِينَ الزَّكَاةَ وَأَطِعْنَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا (33) وَاذْكُرْنَ مَا يُتْلَى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ وَالْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ لَطِيفًا خَبِيرًا (34)
هذه آداب أمر الله تعالى بها نساء النبي صلى الله عليه وسلم ، بأنهن إذا اتقين الله عزَّ وجلَّ كما أمرهن ، فإنه لا يشبهن أحد من النساء ولا يلحقهن في الفضيلة والمنزلة ، ثم قال تعالى : { فَلاَ تَخْضَعْنَ بالقول } قال السدي : يعني بذلك ترقيق الكلام إذا خاطبن الرجال ، ولهذا قال تعالى : { فَيَطْمَعَ الذي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ } أي دغل ، { وَقُلْنَ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } قال ابن زيد : قولاً حسناً جميلاً معروفاً في الخير ، ومعنى هذا أنها تخاطب الأجانب بكلام ليس فيه ترخيم ، أي لا تخاطب المرأة الأجانب كما تخاطب زوجها ، وقوله تعالى : { وَقَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ } أي إلزمن بيوتكن ، فلا تخرجن لغير حاجة ، ومن الحوائج الشرعية ، الصلاة في المسجد بشرطه ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تمنعوا إماء الله مساجد الله وليخرجن وهنَّ تفِلات » ، وفي رواية : « وبيوتهن خير لهن » وروى الحافظ البزار عن أنس رضي الله عنه قال : « جئن النساء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلن : يا رسول الله ذهب الرجال بالفضل والجهاد في سبيل الله تعالى ، فما لنا عمل ندرك به عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من قعدت أو كلمة نحوها منكن في بيتها فإنها تدرك عمل المجاهدين في سبيل الله تعالى « وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » إن المرأة عورة فإذا خرجت استشرفها الشيطان ، وأقرب ما تكون بروحة ربها وهي في قعر بيتها « ، وفي الحديث : » صلاة المرأة في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها ، وصلاتها في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها « ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الجاهلية الأولى } قال مجاهد : كانت المرأة تخرج تمشي بين يدي الرجال فذلك تبرج الجاهلية ، وقال قتادة : كانت لهن مشية وتكسر وتغنج فنهى الله تعالى عن ذلك ، وقال مقاتل : التبرج أنها تلقي الخمار على رأسها ولا تشده فيواري قلائدها وقرطها وعنقها ويبدوا ذلك كله منها وذلك التبرج ، ثم عمت نساء المؤمنين في التبرج .
وقوله تعالى : { وَأَقِمْنَ الصلاة وَآتِينَ الزكاة وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ } نهاهن أولاً عن الشر ثم أمرهن بالخير من إقامة الصلاة وهي عبادة الله وحده ، وإيتاء الزكاة وهي الإحسان إلى المخلوقين ، { وَأَطِعْنَ الله وَرَسُولَهُ } ، وهذا من باب عطف العام على الخاص ، وقوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } نص في دخول أزواج النبي صلى الله عليه وسلم في أهل البيت ههنا ، لأنهن سبب نزول هذه الآية ، وسبب النزول داخل فيه قولاً واحداً ، روى ابن جرير عن عكرمة أنه كان ينادي في السوق : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } نزلت في نساء النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وليس المراد أنهن المراد فقط دون غيرهن ، فقد روى ابن أبي حاتم عن العوام بن حوشب رضي الله عنه عن ابن عم له قال :(1/2028)
« دخلت مع أبي على عائشة رضي الله عنها فسألتها عن علي رضي الله عنه ، فقالت رضي الله عنها : تسألني عن رجل كان من أحب الناس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت تحته ابنته وأحب النا إلي؟ لقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً رضي الله عنهم فألقى عليهم ثوباً فقال : » اللهم هؤلاء أهل بيتي فأذهب عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً « قالت : فدنوت منهم فقلت : يا رسول الله وأنا من أهل بيتك؟ فقال صلى الله عليه وسلم : » تنحي فإنك على خير « » .
ورى مسلم في « صحيحه » عن يزيد بن حبان قال : « انطلقت أنا وحصين بن سبرة وعمر بن سلمة إلى ( زيد بن أرقم ) رضي الله عنه ، فلما جلسنا إليه قال له الحصين : لقد لقيت يا زيداً خيراً كثيراً ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصليت خلفه ، لقد لقيت يا زيد خيراً كثيرا ، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : يا ابن أخي والله لقد كبرت سني وقدم عهدي ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فما حدثتكم فاقبلوا وما لا ، فلا تكلفوا فيه ، ثم قال : قام فينا رسول الله صلىلله عليه وسلم يوماً خطيباً بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ووعظ وذكر ثم قال : » أما بعد ألا أيها الناس ، فإنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وأنا تارك فيكم ثقلين ، أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور فخذوا بكتاب الله واستسمكوا به « فحث على كتاب الله عزَّ وجلَّ ورغب فيه ، ثم قال : » وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي « فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال : نساؤه من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم الصدقة بعده . قال : ومن هم؟ هم آل علي وآل عقيل وآل جعفر وآل عباس رضي الله عنهم ، قال : كل هؤلاء حرم الصدقة بعده؟ قال : نعم » . والذي لا يشك فيه من تدبر القرآن أن نساء النبي صلى الله عليه سلم داخلات في قوله تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرجس أَهْلَ البيت وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً } فإن سياق الكلام معهن ، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله : { واذكرن مَا يتلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آيَاتِ الله والحكمة } أي واعملن بما ينزل الله تبارك وتعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم في بيوتكن من الكتاب والسنّة ، واذكرن هذه النعمة التي خصصتن بها من بين الناس ، أن الوحي ينزل في بيوتكن دون سائر الناس ، وعائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما أولاهن بهذه النعمة ، فإنه لم ينزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي في فراش امرأة سواها ، كما نص على ذلك صلوات الله وسلامه عليه ، فناسب أن تخصص بهذه المزية ، وأن تفرد بهذه المرتبة العلية ، ولكن إذا كان أزواجه من أهل بيته فقرابته أحق بهذه التسمية كما تقدم في الحديث :(1/2029)
« وأهل بيتي أحق » ، وهذا يشبه ما ثبت في « صحيح مسلم » « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى من أول يقوم فقال : » هو مسجدي هذا « ، فهذا من هذا القبيل ، فإن الآية إنما نزلت في مسجد قباء ، كما ورد في الأحاديث الأخر ، ولكن إذا كان ذاك أُسس على التقوى من أول يوم فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم أولى بتسميته لذلك والله أعلم . وقوله تعالى : { إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } أي بلطفه بكن بلغتن هذه المنزلة ، وبخربته تتلى فيها آيات الله والحكمة ، فاشكرن الله تعالى على ذلك واحمدنه { إِنَّ الله كَانَ لَطِيفاً خَبِيراً } أي ذا لطف بكن إذ جعلكن في البيوت التي تتلى فيها آيات الله والحكمة وهي ( السنة ) خبيراً بكن إذا اختاركن لرسوله أزواجاً؟(1/2030)
إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (35)
عن أم سلمة رضي الله عنها أنها قالت للنبي صلى الله عليه وسلم يا نبي الله : ما لي أسمع الرجال يذكرون في القرآن ، والنساء لا يذكرون؟ فأنزل الله تعالى : { إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } .
وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال ، قال النساء للنبي صلى الله عليه وسلم ما له يذكر المؤمنين ولا يذكر والمؤمنات؟ فأنزل الله تعالى : { إِنَّ المسلمين والمسلمات } الآية . وقوله تعالى : { إِنَّ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات } دليل على أن الإيمان غير الإسلام وهو أخص منه لقوله تعالى : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 14 ] وفي « الصحيحين » : « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن » فيسلبه الإيمان ولا يلزم من ذلك كفره بإجمال المسلمين ، فدل على أنه أخص منه . وقوله تعالى : { والقانتين والقانتات } القنوت هو الطاعة في سكون ، قال تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً } [ الزمر : 9 ] ، وقال تعالى : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } [ البقرة : 116 ، الروم : 26 ] فالإسلام بعده مرتبة يرتقي إليها وهو { الإيمان } ثم القنوت ناشىء عنهما { والصادقين والصادقات } هذا في الأقوال فإن الصدق خصلة محمودة ، وهو علامة على الإيمان كما أن الكذب أمارة على النفاق؛ ومن صدق نجا ، « عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر » الحديث { والصابرين والصابرات } هذه سجية الأثبات ، وهي الصبر على المصائب ، والعلم بأن المقدر كائن لا محالة ، وتلقي ذلك بالصبر والثبات وإنما الصبر عند الصدمة الأولى ، أي أصعبه في أول وهلة ثم ما بعده أسهل منه وهو صدق السجية وثباتها { والخاشعين والخاشعات } الخشوع هو السكون والطمأنينة والتؤدة والوقار والتواضع ، والحامل عليه الخوف من الله تعالى ومراقبته كما في الحديث : « اعبد الله كأن تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » { والمتصدقين والمتصدقات } الصدقة هي الإحسان إلى الناس المحاويج الضعفاء الذين لا كسب لهم ، وقد ثبت في « الصحيحين » : « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلاّ ظله فذكر منهم ورجل تصديق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه » . وفي الحديث الآخر : « والصدقة تطفىء الخطيئة كما يطفىء الماء النار » والأحاديث في الحث عليها كثيرة جداً .
{ والصائمين والصائمات } والصوم زكاة البدن ، يزكيه ويطهره وينقبه من الأخلاط الرديئة ، كما قال سعيد بن جبير : من صام رمضان وثلاثة أيام من كل شهر دخل في قوله تعالى : { والصائمين والصائمات } ولما كان الصوم من أكبر العون على كسر الشهوة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج ، فإنه أغض للبصر وأحصن للفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء »(1/2031)
ناسب أن يذكره بعده { والحافظين فُرُوجَهُمْ والحافظات } أي عن المحارم والمآثم إلاّ عن المباح ، كما قال عزَّ وجلَّ : { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ } [ المؤمنون : 5-6 ] ، وقوله تعالى : { والذاكرين الله كَثِيراً والذاكرات } ، روى ابن أبي حاتم عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أيقظ الرجل امرأته من الليل فصليا ركعتين كانا تلك الليلة من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات » وفي الحديث : « ألا أخبركم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم وأرفعها في درجاتكم ، وخير لكم من تعاطي الذهب والفضة ، ومن أن تلقوا عدوكم غداً فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم؟ » قالوا : بلى يا رسول الله ، قال صلى الله عليه وسلم : « ذكر الله عزَّ وجلَّ » « ، وروي أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : » أي المجاهدين أعظم أجراً يا رسول الله؟ قال : صلى الله عليه وسلم : « أكثرهم لله تعالى ذكراً » ، قال : فأي الصائمين أكثر أجراً؟ قال صلى الله عليه وسلم : « أكثر لله عزَّ وجلَّ ذكراً » ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة ، كل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أكثرهم لله ذكراً » فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما : ذهب الذاكرون بكل خير ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أجل » « وقوله تعالى : { أَعَدَّ الله لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً } خبر عن هؤلاء المذكورين كلهم ، أي أن الله تعالى قد أعد لهم أي هيأ لهم { مَّغْفِرَةً } منه لذنوبهم { وَأَجْراً عَظِيماً } وهو الجنة .(1/2032)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا (36)
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم ( زينب بن جحش ) لزيد بن حارثة رضي الله عنه ، فاستنكفت منه ، وقالت : أنا خير منه حسباً ، وكانت امرأة فيها حدة ، فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ } الآية كلها ، وقال عبد الرحمن بن أسلم : « نزلت في ( أم كلثوم ) بنت عقبة بن أبي معيط رضي الله عنها ، وكانت أول من هاجر من النساء يعني بعد صلح الحديبية فوهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : قد قبلت ، فزوجها زيد بن حارثة رضي الله عنه يعني والله أعلم بعد فراقه زينب ، فسخطت هي وأخوها ، وقالا : إنما أردنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فزوجنا عبده » قال فنزل القرآن : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً } إلى آخر الآية ، وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه قال : « خطب النبي صلى الله عليه وسلم ( جليبيب ) امرأة من الأنصار إلى أبيها فقال : حتى أستأمر أمها ، فقال صلى الله عليه وسلم : » نعم إذا « قال ، فانطلق الرجل إلى امرأته ، فذكر لها ، فقالت : لاها الله إذن ما وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا جليبياً ، وقد منعناها من فلان وفلان ، قال : والجارية في سترها تسمع ، قال فانطلق الرجل يريد أن يخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقالت الجارية : أتريدون أن تردوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره ، إن كان قد رضيه لكم فأنكحوه ، قال : فكأنها جلت عن أبويها ، وقالا : صدقت ، فذهب أبوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن كنت رضيته فقد رضيناه ، قال صلى الله عليه وسلم : » فإني قد رضيته « » ، قال فزوجها ، ثم فزع أهل المدينة فركب جليبيب فوجدوه قد قتل ، وحوله ناس من المشركين قد قتلهم ، قال أنس رضي الله عنه : فلقد رأيتها وإنها لمن أنفق بيت بالمدينة . وذكر الحافظ أبو عمر بن عبد البر في « الاستيعاب » أن الجارية لما قالت في خدرها : أتردون على رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره؟ نزلت هذه الآية : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ } وقال ابن جريج عن طاووس قال : إنه سأل ابن عباس عن ركعتين بعد العصر ، فنهاه وقرأ ابن عباس رضي الله عنه : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ } فهذه الآية عامة في جميع الأمور ، وذلك أنه إذا حكم الله ورسوله بشيء ، فليس لأحد مخالفته ولا اختيار لأحد هنا ولا رأي ولا قول ، كما قال تبارك وتعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] ، وفي الحديث : « والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به » ، ولهذا شدد في خلاف ذلك فقال : { وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً مُّبِيناً } ، كقوله تعالى : { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ الزمر : 63 ] .(1/2033)
وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَتَخْشَى النَّاسَ وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَاهُ فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ إِذَا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَرًا وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (37)
يقول تعالى مخبراً عن نبيه صلى الله عليه وسلم ، أنه قال لمولاه ( زيد بن حارثة ) رضي الله عنه ، وهو الذي { أَنعَمَ الله عَلَيْهِ } أي بالإسلام ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم { وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ } أي بالعتق من الرق ، وكان سيداً كبير الشأن جليل القدر ، حبيباً إلى النبي صلى الله عليه وسلم يقال له ( الحب ) ويقال لابنه أسامة ( الحب ابن الحب ) قالت عائشة رضي الله عنها : ما بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية إلا أمّره عليهم ، ولو عاش بعده لاستخفله ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد زوّجه بابنة عمته ( زينب بنت جحش ) الأسدية رضي الله عنها ، وأصدقها عشرة دنانير وستين درهماً وخماراً وملحفة ودرعاً؛ فمكث عنده قريباً من سنة أو فوقها ، ثم وقع بينهما فجاء زيد يشكوها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول له : « أمسك عليك زوجك واتق الله » قال الله تعالى : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } . روى ابن أبي حاتم عن علي بن زيد بن جدعان قال : سألني علي بن الحسين رضي الله عنهما ما يقول الحسن في قوله تعالى : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ } ، فذكرت له ، فقال لا ، ولكن الله تعالى أعلم نبيه أنها ستكون من أزواجه قبل أن يتزوجها ، فلما أتاه زيد رضي الله عنه ليشكوها إليه قال : « اتق الله وأمسك عليك زوجك » فقال : قد أخبرتك أني مزوجكها وتخفي في نفسك ما الله مبديه .
وروى ابن جرير عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : لو كتم محمد صلى الله عليه وسلم شيئاً مما أوحي إليه من كتاب الله تعالى لكتم { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } ، وقوله تعالى : { فَلَمَّا قضى زَيْدٌ مِّنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا } الوطر : هو الحاجة والأرب ، أي لما فزع منها وفارقها زوجناكها ، وكان الذي ولي تزويجها منه الله عزَّ وجلَّ ، بمعنى أنه أوحى إليه أن يدخل عليها بلا ولي ولا عقد ولا مهر ولا شهود من البشر ، عن أنس رضي الله عنه قال : « لما انقضت عدة زينب رضي الله عنها قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لزيد بن حارثة : » اذهب فاذكرها عليَّ « فانطلق حتى أتاها وهي تخمر عجينها قال : فلما رأيتها عظمت في صدري ، حتى ما أستطيع أن أنظر إليها وأقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرها ، فوليتها ظهري ونكصت على عقبي ، وقلت : يا زينب أبشري أرسلني رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرك ، قالت : ما أنا بصانعة شيئا حتى أؤمر ربي عزَّ وجلَّ ، فقامت إلى مسجدها ، ونزل القرآن ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخل عليها بغير إذن ، ولقد رأيتنا حين دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأطعمنا عليها الخبز واللحم ، فخرج الناس ويبقى رجال يتحدثون في البيت بعد الطعام ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم واتبعته ، فجعل صلى الله عليه وسلم يتتبع حجر نسائه يسلم عليهم ويقلن : يا رسول الله كيف وجدت أهلك؟ فما أدري أنا أخبرته أن القوم قد خرجوا أو أخبر ، فانطلق حتى دخل البيت فذهبت أدخل معه ، فألقى الستر بيني وبينه ونزل الحجاب ووعظ القوم بما وعظوا به { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ } [ الأحزاب : 53 ] الآية كلها »(1/2034)
، وقد روى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « إن زينب بنت جحش رضي الله عنها كانت تفخر على أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، فتقول : زوجكن أهاليكن ، وزوجني الله تعالى من فوق سبع سماوات » وقوله تعالى : { لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } أي إنما أبحنا لك تزويجها وفعلنا ذلك لئلا يبقى حرج على المؤمنين في تزويج مطلقات الأدعياء ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قبل النبوة قد تبنّى ( زيد بن حارثة ) رضي الله عنه ، فكان يقول له ( زيد بن محمد ) فلما قطع الله تعالى هذه النسبة بقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } [ الأحزاب : 4 ] زاد ذلك بياناً وتأكيداً بوقوع تزويج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش رضي الله عنها لما طلقها زيد بن حارثة ، ولهذا قال تعالى في آية التحريم { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } [ النساء : 23 ] ليحترز من الابن الدعي ، فإن ذلك كثيراً فيهم ، وقوله تعالى : { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } أي وكان هذا الأمر الذي وقع قد قدره الله تعالى وحتمه ، وهو كائن لا محالة ، كانت زينب رضي الله عنه عنها في علم الله ستصير من أزواج النبي صلى الله عليه سلم .(1/2035)
مَا كَانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا (38)
يقول تعالى : { مَّا كَانَ عَلَى النبي مِنْ حَرَجٍ فِيمَا فَرَضَ الله } أي فيما أحل له وأمره به من تزويج زينب رضي الله عنها التي طلقها دعيه زيد بن حارثة رضي الله عنه ، وقوله تعالى : { سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } أي هذا حكم الله تعالى في الأنبياء قبله لم يكن ليأمرهم بشيء وعليهم في ذلك حرج ، وهذا رد من توهم من المنافقين نقصاً في تزويجه امرأة زيد مولاه ودعيه الذي كان قد تبناه ، { وَكَانَ أَمْرُ الله قَدَراً مَّقْدُوراً } أي وكان أمره الذي يقدره كائناً لا محالة ، وواقعاً لا محيد عنه ولا معدل ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .(1/2036)
الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (39) مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (40)
يمدح تبارك وتعالى : { الذين يُبَلِّغُونَ رِسَالاَتِ الله } إي إلى خلقه ويؤدونها بأماناتها { وَيَخْشَوْنَهُ } أي خافونه ولا يخافون أحداً سواه ، فلا تمنعهم سطوة أحد عن إبلاغ رسالات الله تعالى { وكفى بالله حَسِيباً } أي وكفى الله ناصراً ومعيناً ، وسيد الناس في هذا المقام ، بل وفي كل مقام ( محمد ) رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه قام بأداء الرسالة وإبلاغها إلى أهل المشارق والمغارب ، ثم ورث مقام البلاغ عنه أمته من بعده ، فكان أعلى من قام بها بعده أصحابه رضي الله عنهم ، بلغوا عنه كما أمرهم به في جميع أقواله وأفعاله وأحواله ، في ليله ونهاره ، وحضره وسفره ، وسره وعلانيته ، فرضي الله عنهم وأرضاهم ، ثم ورثه كل خلف عن سلفهم إلى زماننا هذا ، فبنورهم يقتدي المهتدون ، وعلى منهجهم يسلك الموفقون ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمر الله فيه مقال ثم لا يقوله ، فيقول الله : ما يمنعك أن تقول منه ، فيقول رب خشية الناس فيقول فأنا أحق أن يخشى » . وقوله تعالى : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } نهى أن يقال بعد هذا ( زيد بن محمد ) أي لم يكن أباه وإن كان قد تبناه ، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يعش له ولد ذكر حتى بلغ الحلم ، فإنه صلى الله عليه وسلم ولد له القاسم والطيب والطاهر من خديجة رضي الله عنها فماتوا صغاراً ، وولد له صلى الله عليه وسلم إبراهيم من مارية القبطية ، فمات أيضاً رضيعاً ، وكان له صلى الله عليه وسلم من خديجة أربع بنات : زينب ورقية وأم كلثوم وفاطمة رضي الله عنهم أجمعين ، فمات في حياته صلى الله عليه وسلم ثلاث ، وتأخرت فاطمة رضي الله عنها حتى أصيبت به صلى الله عليه وسلم ثم ماتت بعده لستة أشهر ، وقوله تعالى : { ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } فهذه الآية نص في أنه لا نبي بعده ، وإذا كان لا نبي بعده فلا رسول بعده بالطريق الأولى والأحرى ، لأن مقام الرسالة أخص من مقام النبوة .
وبذلك وردت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . روى الإمام أحمد عن أبي بن كعب عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مثلي في النبيين كمثل رجل بنى داراً فأحسنها وأكملها وترك فيها موضع لبنة لم يضعها فجعل الناس يطوفون بالبنيان ويعجبون منه ويقولون : لم تم موضع هذه اللبنة؟ فأنا في النبيين موضع تلك اللبنة » حديث آخر : روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/2037)
« » إن الرسالة والنبوة قد انقطعت فلا رسول بعدي ولا نبي « قال فشق ذلك على الناس فقال : » ولكن المبشرات « قالوا : يا رسول الله وما المبشرات؟ قال : » رؤيا الرجل المسلم وهي جزء من أجزاء النبوة « » ، حديث آخر : روى أبو داود الطيالسي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مثلي ومثل الأنبياء كمثل رجل بنى داراً فأكملها وأحسنها إلا موضع لبنة فكان من دخلها فنظر إليها قال : ما أحسنها إلا موضع هذه اللبنة ، فأنا موضع اللبنة ختم بي الأنبياء عليه الصلاة والسلام » حديث آخر : قال الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن مثلي ومثل الأنبياء من قبلي كمثل رجل ابتنى بيوتاً فأكملها وأحسنها وأجملها إلا موضع لبنة من زاوية من زواياها فجعل الناس يطوفون ويعجبهم البنيان ويقولون ألا وضع هاهنا لبنة فيتم بنيانك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فكنت أنا اللبنة » حديث آخر : قال الإمام أحمد عن العرباض بن سارية رضي الله عنه قال ، قال لي النبي صلى الله عليه وسلم : « إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته » حديث آخر : عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » إن لي أسماء : أنا محمد وأنا أحمد ، وأنا الماحي الذي يمحو الله تعالى به الكفر ، وأنا الحاشر الذي يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب الذي ليس بعده نبي « » . فمن رحمة الله تعالى بالعباد إرسال محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، ثم من تشريفه لهم ختم الأنبياء والمرسلين به ، وإكمال الدين الحنيف له ، وقد أخبر تبارك وتعالى في كتابه العزيز أنه لا نبي بعده ليعلموا أن كل من ادعى هذا المقام بعده فهو كذاب أفاك دجال ، ضال مضل .(1/2038)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا (41) وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلَائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَكَانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيمًا (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلَامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْرًا كَرِيمًا (44)
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بكثرة الذكر لربهم تبارك وتعالى ، المنعم عليهم بأنواع النعم وصنوف المنن ، لما لهم في ذلك من جزيل الثواب ، وجميل المآب ، روى الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » ألا أنبئكم بخير أعمالكم وأزكاها عند مليككم فتضربوا أعناقهم ويضربوا أعناقكم «؟ قالوا : وما هو يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم : » ذكر الله عزَّ وجلَّ « » .
وعن عبد الله بن بشر قال : « جاء أعرابيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أحدهما : يا رسول الله أي الناس خير؟ قال صلى الله عليه وسلم : » من طال عمره وحسن عمله « ، وقال الآخر : يا رسول الله إن شرائع الإسلام قد كثرت علينا فمرني بأمر أتشبث به ، قال صلى الله عليه وسلم : » لا يزال لسانك رطباً بذكر الله تعالى « » وفي الحديث : « أكثروا ذكر الله تعالى حتى يقولوا مجنون » ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من قوم جلسوا مجلساً لم يذكروا الله تعالى فيه إلا رأوه حسرة يوم القيامة » ، وقال ابن عباس في قوله تعالى : { اذكروا الله ذِكْراً كَثِيراً } إن الله تعالى لم يفرض على عباده فريضة ، إلا جعل لها حداً معلوماً ، ثم عذر أهلها في حال العذب غير الذكر ، فإن الله تعالى لم يجعل له حداً ينتهي إليه ، ولم يعذر أحداً في تركه إلا مغلوباً على تركه فقال : { فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ } [ النساء : 103 ] بالليل والنهار ، في البر والبحر ، وفي السفر والحضر ، والغنى والفقر ، والسقم والصحة ، والسر والعلانية ، وعلى كل حال . وقال عزَّ وجلَّ : { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته ، والأحاديث والآيات والآثار في الحث على ذكر الله تعالى كثرة جداً .
وقوله تعالى : { وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي عند الصباح والمساء ، كقوله عزَّ وجلَّ : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } [ الروم : 17 ] ، وقوله تعالى : { هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ } هذا تهييج إلى الذكر ، أي أنه سبحانه يذكركم فاذكروه أنتم ، كقوله عزَّ وجلَّ : { فاذكروني أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } [ البقرة : 152 ] ، وقال النبي صلى الله عليه سلم : « يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه » والصلاة من الله تعالى : ثناؤه على العبد عند الملائكة ، حكاه البخاري عن أبي العالية ، وقال غيره : الصلاة من الله عزَّ وجلَّ : الرحمة ، وأما الصلاة من الملائكة فبمعنى الدعاء للناس والاستغفار ، كقوله تبارك وتعالى : { الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم }(1/2039)
[ غافر : 7 ] ، وقوله تعالى : { لِيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } أي بسبب رحمته بكم وثنائه عليكم ودعاء ملائكته لكم ، يخرجكم من ظلمات الجهل والضلال إلى نور الهدى واليقين ، { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } أي في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فإنه هداهم إلى الحق وبصّرهم الطريق ، الذي ضل عنه الدعاة إلى الكفر أو البدعة ، وأما رحمته بهم في الآخرة فآمنهم من الفزع الأكبر ، وأمر ملائكته يتلقونهم بالبشارة بالفوز بالجنة والنجاة من النار ، وما ذاك إلا لمحبته لهم ورأفته بهم . روى الإمام البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي ، قد أخذت صبياً لها ، فألصقته إلى صدرها وأرضعته ، فقال رسول الله صلى لله عليه وسلم : « » أترون هذه تلقي ولدها في النار وهي تقدر على ذلك «؟ قالوا : لا ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فوالله ، للهُ أرحم بعباده من هذه بولدها « » ، وقوله تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } أي تحيتهم من الله تعالى يوم يلقونه سلام ، أي يوم يسلم عليهم ، كما قال عزَّ وجلَّ : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] وقال قتادة : المراد أنهم يحيي بعضهم بعضاً بالسلام يوم يلقون الله في الدار الآخرة ، واختاره ابن جرير . ( قلت ) وقد يستدل بقوله تعالى : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] ، وقوله تعالى : { وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } يعني الجنة وما فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح والملاذ والمناظر مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر .(1/2040)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (45) وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُنِيرًا (46) وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيرًا (47) وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ وَدَعْ أَذَاهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (48)
عن عطاء بن يسار ، قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة ، قال : أجل ، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن { ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } ، وحرزاً للأميين ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ولا سخَّاب في الأسواق ، ولا يدفع السيئة بالسيئة ، ولكن يعفو ويصفح ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا لا إله إلا الله فيفتح بها أعيناً عمياً ، وآذاناً صماً ، وقلوباً غلفاً . وقال وهب بن منبه : إن الله تعالى أوحى إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له ( شعياء ) أن قم في قومك بني إسرائيل ، فإني منطق لسانك بوحي ، وأبعث أمياً من الأميين ، أبعثه ليس بفظ ولا غليظ ولا سخاب في الأسواق ، لو يمر إلى جنب سراج لم يطفئه من سكينته ، ولو يمشي على القصب لم يسمع من تحت قدميه ، أبعثه مبشراً ونذيراً ، لا يقول الخنا ، أفتح به أعيناً كمها وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً ، أسدده لكل أمر جميل ، وأهب له كل خلق كريم ، وأجعل السكينة لباسه ، والبرِّ شعاره ، والتقوى ضميره ، والحكمة منطقه ، والصدق والوفاء طبيعته ، والعفو والمعروف خلقه ، والحق شريعته ، والعدل سيرته ، والهدى إمامه ، والإسلام ملته ، وأحمد اسمه ، أهدي به بعد الضلال ، وأعلِّم به بعد الجهالة ، وأرفع به بعد الخمالة ، وأعرف به بعد النكرة ، وأكثر به بعد القلة ، وأغني به بعد العيلة ، وأجمع به بعد الفرقة ، وأؤلف به بين أمم متفرقة وقلوب مختلفة ، وأهواء متشتتة ، وأستنقذ به فئاماً من الناس عظيمة من الهلكة وأجعل أمته خير أمة أخرجت للناس يأمرون المعروف وينهون عن المنكر ، موحدين مؤمنين مخلصين ، مصدقين لما جاءت به رسلي ، ألهمهم التسبيح والتحميد ، والثناء والتكبير والتوحيد ، في مساجدهم ومجالسهم ومضاجهم ومنقلبهم ومثواهم ، يصلون لي قياماً وقعوداً ، ويقاتلون في سبيل الله صفوفاً وزحوفاً ، ويخرجون من ديارهم ابتغاء مرضاتي ألوفاً ، يطهرون الوجوه والأطراف ، ويشدون الثياب في الأنصاف ، قربانهم دماؤهم ، وأناجيلهم في صدورهم ، رهبان بالليل ، ليوث بالنهار ، وأجعل في أهذ بيته وذريته السابقين والصديقين ، والشهداء والصالحين ، أمته من بعده يهدون بالحق وبه يعدلون ، وأعز من نصرهم وأؤيد من دعا لهم ، وأجعل دائرة السوء على من مخالفهم ، أو بغى عليهم ، أو أراد أن ينتزع شيئاً مما في أيديهم ، أجعلهم ورثة لنبيهم ، والداعية إلى ربهم ، يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ويقيمون الصلاة ويؤتون الزكاة ويوفون بعهدهم ، أختم بهم الخير الذي بدأته بأولهم ، ذلك فضلي أوتيه من أشاء ، وأنا ذو الفضل العظيم .
قال ابن عباس : لما نزلت { ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } وقد كان أمر علياً ومعاذاً رضي الله عنهما أن يسيرا إلى اليمن ، فقال :(1/2041)
« انطلقا فبشرا ولا تنفرا ، ويسرا ولا تعسرا ، إنه قد أنزل عليّ : { ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } » فقوله تعالى : { شَاهِداً } أي لله بالوحدانية ، وأنه لا إله غيره وعلى الناس بأعمالهم يوم القيامة ، { وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] ، كقوله : { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } [ البقرة : 143 ] ، وقوله عزَّ وجلَّ { وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } أي بشيراً للمؤمنين بجزيل الثواب ، ونذيراً للكافرين من وبيل العقاب ، وقوله جلت عظمته { وَدَاعِياً إِلَى الله بِإِذْنِهِ } أي داعياً للخلق إلى عبادة ربهم { وَسِرَاجاً مُّنِيراً } أي وأمرك ظاهر فيما جئت به من الحق كالشمس في إشراقهم وإضاءتها لا يجحدها إلا معاند . وقوله جلَّ وعلا : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي لا تطعهم وتسمع منهم في الذي يقولونه ، { وَدَعْ أَذَاهُمْ } أي اصفح وتجاوز عنهم وكل أمرهم إلى الله تعالى ، ولهذا قال جلَّ جلاله { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً } .(1/2042)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا (49)
هذه الآية الكريمة فيها أحكام كثيرة ، منها إطلاق النكاح على العقد وحده ، وليس في القرآن آية أصرح في ذلك منها ، لقوله تبارك وتعالى : { مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } وفيها دلالة لإباحة طلاق المرأة قبل الدخول بها ، وقوله تعالى : { المؤمنات } خرج مخرج الغالب ، إذ لا فرق في الحكم بين المؤمنة والكتابية في ذلك بالاتفاق ، وقد استدل ابن عباس وجماعة من السلف بهذه الآية على أن الطلاق لا يقع إلا إذا تقدمه نكاح ، لأن الله تعالى قال : { إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } فعقب النكاح وبالطلاق ، وهذا مذهب الشافعي وأحمد بن حنبل ، وذهب مالك وأبو حنيفة إلى صحة الطلاق قبل النكاح ، فيما إذا قال : إن تزوجت فلانة فهي طالق ، فعندهما متى تزوجها طلقت منه ، فأما الجمهور فاحتجوا على عدم وقوع الطلاق بهذه الآية ، قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما ، قال : إذا قال ( كل امرأة أتزوجها فهي طالق ) ليس بشيء ، من أجل أن الله تعالى يقول : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ } ألا ترى أن الطلاق بعد النكاح؟ وقد ورد الحديث بذلك عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا طلاق لابن آدم فيما لا يملك » وفي رواية : « لا طلاق قبل النكاح » وقوله عزَّ وجلَّ : { فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا } هذا أمر مجمع عليه بين العلماء أن المرأة إذا طلقت قبل الدخول بها لا عدة عليها تذهب فتتزوج في فورها من شاءت ، ولا يستثنى من هذا إلا المتوفى عنها زوجها فإنها تعتد منه أربعة أشهر وعشراً وإن لم يكن دخل بها بالإجماع أيضاً ، وقوله تعالى : { فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } المتعة هاهنا أعم من أن تكون نصف الصداق المسمى أو المتعة الخاصة إن لم يكن قد سمى لها ، قال الله تعالى : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } [ البقرة : 237 ] ، وقال عزَّ وجلَّ : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين } [ البقرة : 236 ] . وفي « صحيح البخاري » عن سهل بن سعد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تزوج ( أميمة بن شراحبيل ) فلما أن دخلت عليه صلى الله عليه وسلم بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك ، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين رازقيين . قال علي بن أبي طلحة : إن كان سمى لها صداقاً فليس لها إلا النصف ، وإن لم يكن سمى لها صداقاً أمتعها على قدر عسره ويسره وهو السراح الجميل .(1/2043)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالَاتِكَ اللَّاتِي هَاجَرْنَ مَعَكَ وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ فِي أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ لِكَيْلَا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (50)
يقول تعالى مخاطباً نبيه صلى الله عليه وسلم ، بأنه قد أحل له من النساء أزواجه اللاتي أعطاهن مهورهن وهي الأجور هاهنا كما قاله مجاهد وغير واحد ، وقد كان مهره لنسائه اثنتي عشرة أوقية ونصف ، فالجميع خمسمائة درهم إلا ( أم حبيبة بنت أبي سفيان ) فإنه أمهرها عنه النجاشي رحمه الله تعالى أربعمائة دينار ، وإلا ( صفية بنت حيي ) فإنه اصطفاها من سبي خيبر ، ثم أعتقها وجعل عتقها صداقها ، وكذلك ( جويرية بنت الحارث ) المصطلقية أدى عنها كتابتها إلى ثابت بن قيس بن شماس وتزوجها رضي الله عنهن أجمعين وقوله تعالى : { وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ } أي وأباح لك التسري مما أخذت من المغانم ، وقد ملك صفية وجويرية فأعتقهما وتزوجهما ، وملك ريحانة بنت شمعون النضرية ، ومارية القبطية أم ابنه إبراهيم عليهما السلام ، وكانتا من السراري رضي الله عنهما ، وقوله تعالى : { وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ } الآية ، كان النصارى لا يتزوجون المرأة إلا إذا كان الرجل بينه وبينها سبعة أجداد فصاعداً ، واليهود يتزوج أحدهم بنت أخيه وبنت أخته ، فجاءت هذه الشريعة الكاملة الطاهرة بهدم إفراد النصارى ، فأباح بنت العم والعمة ، وبنت الخال والخالة ، وحرم ما فرطت فيه اليهود من إباحة بنت الأخ والأخت وهذا شنيع فظيع ، روى ابن أبي حاتم عن أم هانىء قالت : خطبني رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعتذرت إليه فعذرني ، ثم أنزل الله تعالى : { إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَمَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّآ أَفَآءَ الله عَلَيْكَ وَبَنَاتِ عَمِّكَ وَبَنَاتِ عَمَّاتِكَ وَبَنَاتِ خَالِكَ وَبَنَاتِ خَالاَتِكَ اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } قالت : فلم أكن أحل له ، ولم أكن ممن هاجر معه ، كنت من الطلقاء ، وقال قتادة : المراد من هاجر معه إلى المدينة ، وفي رواية عنه { اللاتي هَاجَرْنَ مَعَكَ } أي أسلمن ، وقوله تعالى : { وامرأة مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ } أي ويحل لك أيها النبي المرأة المؤمنة ، إن وهبت نفسها لك أن تتزوجها بغير مهر إن شئت ذلك ، عن سهل بن سعد الساعدي « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم جاءته امرأة فقالت : يا رسول الله إني قد وهبت نفسي لك ، فقامت قياماً طويلاً ، فقام رجل فقال : يا رسول الله زوجنيها إن لم يكن لك بها حاجة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هل عندك من شيء تصدقها إياه «؟ فقال : ما عندي إلا إزاري هذا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن أعطيتها إزارك جلست لا إزار لك فالتمس شيئاً « فقال : لا أجد شيئاً ، فقال : » التمس ولو خاتماً من حديد « فالتمس فلم يجد شيئاً ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : » هل معك من القرآن شيء «؟ قال : نعم سورة كذا وسورة كذا السور يسميها فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : » زوجتكها بما معك من القرآن « .(1/2044)
وعن ثابت قال : « كنت مع أنس جالساً وعنده ابنة له ، فقال أنس : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا نبي الله هل لك فيَّ حاجة؟ فقالت انته : ما كان أقل حياءها فقال : » هي خير منك ، رغبت في النبي فعرضت عليه نفسها « » وقال ابن أبي حاتم عن عائشة قالت : التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم خولة بن الحكيم ، وعن عروة كنا نتحدث أن خولة بن الحكيم كانت وهبت نفسها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانت امرأة صالحة ، والغرض من هذا أن اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم كثير ، كما روى البخاري عن عائشة قالت : كنت أغار من اللاتي وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم وأقول : أتهب المرأة نفسها؟ فلما أنزل الله تعالى : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } [ الأحزاب : 51 ] قلت : ما أرى ربك إلا يسارع في هواك . وقد قال ابن عباس : لم يكن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة وهبت نفسها له ، أي أنه لم يقبل واحدة ممن وهبت نفسها له ، وإن كان ذلك مباحاً له ومخصوصاً به لأنه مردود إلى مشيئته ، كما قال الله تعالى : { إِنْ أَرَادَ النبي أَن يَسْتَنكِحَهَا } أي إن اختار ذلك . وقوله تعالى : { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين } قال عكرمة : أي لا تحل الموهوبة لغيرك ، لو أن امرأة وهبت نفسها لرجل لم تحل له حتى يعطيها شيئاً ، أي أنها إذا فرضت المرأة نفسها إلى رجل فإنه متى دخل بها وجب عليه لها مهر مثلها ، ولهذا قال قتادة في قوله : { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين } يقول : ليس لامرأة تهب نفسها لرجل بغير ولي ولا مهر إلا للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { قَدْ عَلِمْنَا مَا فَرَضْنَا عَلَيْهِمْ في أَزْوَاجِهِمْ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } أي من حصرهم في أربع نسوة حرائر ، وما شاءوا من الإماء ، واشتراط الولي والمهر والشهود عليهم ، وقد رخصنا لك في ذلك فلم نوجب عليك شيئاً منه { لِكَيْلاَ يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } .(1/2045)
تُرْجِي مَنْ تَشَاءُ مِنْهُنَّ وَتُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشَاءُ وَمَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكَ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلَا يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَا آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَلِيمًا (51)
{ تُرْجِي } أي تؤخر { مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ } أي من الواهبات ، { وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ } أي من شئت رددتها ، ومن رددتها فأنت فيها أيضاً بالخيار بعد ذلك إن شئت عدت فيها فأويتها ، ولهذا قال : { وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } ، قال الشعبي : كن نساءاً وهبن أنفسهن للنبي صلى الله عليه وسلم فدخل ببعضهن وأرجأ بعضهن لم ينكحهن بعده ، منهن أم شريك ، وقال آخرون : بل المراد بقوله : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ } الآية ، أي من أزواجك لا حرج عليك أن تترك القسم لهن ، فتقدم من شئت ، وتؤخر من شئت ، وتجامع من شئت ، وتترك من شئت؛ ومع هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لهن ، ولهذا ذهب طائفة من الفقهاء من الشافعية وغيرهم إلى أنه لم يكن القسم واجباً عليه صلى الله عليه وسلم ، واحتجوا بهذه الآية الكريمة ، وروى البخاري « عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يستأذن في اليوم المرأة منا بعد أن نزلت هذه الآية : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ وتؤوي إِلَيْكَ مَن تَشَآءُ وَمَنِ ابتغيت مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكَ } فقلت لها : ما كنت تقولين؟ فقالت : كنت أقول : إن كان ذلك إليَّ فإني لا أريد يا رسول الله أن أوثر عليك أحداً » ، ولهذا قال تعالى : { ذَلِكَ أدنى أَن تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَلاَ يَحْزَنَّ وَيَرْضَيْنَ بِمَآ آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ } أي إذا علمن أن الله قد وضع عنك الحرج في القسم ، فإن شئت قسمت وإن شئت لم تقسم ، لا جناح عليك في أي ذلك فعلت ، ثم مع هذا أن تقسم لهن اختياراً منك ، لا أنه على سبيل الوجوب ، فرحن بذلك واستبشرن واعترفن بمنتك عليهن ، في قسمتك وإنصافك لهن وعدلك فيهن ، وقوله تعالى : { والله يَعْلَمُ مَا فِي قلُوبِكُمْ } أي من الميل إلى بعضهن دون بعض مما لا يمكن دفعه ، كما روي « عن عائشة قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ثم يقول : » اللهم هذا فعلي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك « » ، زاد أبو داود : يعني القلب ولهذا عقب ذلك بقوله تعالى : { وَكَانَ الله عَلِيماً } أي بضمائر السرائر ، { حَلِيماً } أي يحلم ويغفر .(1/2046)
لَا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلَا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلَّا مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ رَقِيبًا (52)
هذه الآية نزلت مجازاة لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم على حسن صنيعهن ، في اختيارهن الله ورسوله والدار الآخرة ، لما خيرهن رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، فلما اخترن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان جزاؤهن أن الله تعالى قصره عليهن ، وحرّم عليه أن يتزوج بغيرهن أو يستبدل بهن أزواجاً غيرهن ، ثم إنه تعالى رفع عنه الحرج في ذلك وأباح له التزوج ، ولكن لم يقع منه بعد ذلك تزوج ، لتكون المنة لرسول الله صلى الله عليه وسلم عليهن ، روي « عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ما مات رسول صلى الله عليه وسلم حتى أحل الله له النساء » ، وروى ابن أبي حاتم « عن أم سلمة أنها قالت : لم يمت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أحل له أن يتزوج من النساء ما شاء إلاّ ذات محرم ، وذلك قول الله تعالى : { تُرْجِي مَن تَشَآءُ مِنْهُنَّ } » [ الأحزاب : 51 ] فجعلت هذه ناسخة للتي بعدها في التلاوة كآيتي عدة الوفاة في البقرة ، الأولى ناسخة للتي بعدها والله أعلم . وقال آخرون : بل معنى الآية { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ } أي من بعدما ذكرنا لك من صفة النساء ، اللات أحللنا لك من نسائك اللاتي آتيت أجورهن وما ملكت يمينك ، وبنات العم والعمات ، والخال والخالات ، والواهبة ، وما سوى ذلك من أصناف النساء فلا يحل لك .
قال ابن جرير عن زياد عن رجل من الأنصار قال ، قلت لأبي بن كعب ، أرأيت لو أن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم توفين أما كان له أن يتزوج؟ فقال : وما يمنعه من ذلك؟ قال ، قلت : قول الله تعالى : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ } فقال : إنما أحل الله له ضرباً من النساء ، فقال تعالى : { ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ } إلى قوله { إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ } [ الأحزاب : 50 ] ثم قيل له : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ } ، وروى الترمذي عن ابن عباس قال نهي رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصناف النساء إلاّ ما كان من المؤمنات المهاجرات بقوله تعالى : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ وَلاَ أَن تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ مَا مَلَكَتْ يَمِينُكَ } ، فأحل الله فتياتكم المؤمنات ، وامرأة إن وهبت نفسها للنبي ، وحرم كل ذات دين غير الإسلام ، ثم قال : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ } [ المائدة : 5 ] الآية ، وقال تعالى : { ياأيها النبي إِنَّآ أَحْلَلْنَا لَكَ أَزْوَاجَكَ اللاتي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ } [ الأحزاب : 50 ] إلى قوله { خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ المؤمنين } [ الأحزاب : 50 ] وحرم ما سوى ذلك من أصناف النساء . وقال مجاهد : { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ } أي من بعد ما سمى لك ، لا مسلمة ولا يهودية ، ولا نصرانية ، ولا كافرة ، وقال عكرمة { لاَّ يَحِلُّ لَكَ النسآء مِن بَعْدُ } ، أي التي سمى الله ، واختار ابن جرير رحمه الله أن الآية عامة فيمن ذكر من أصناف النساء ، وفي النساء اللواتي في عصمته وكن تسعاً ، وهذا الذي قاله جيد ولعله مراد كثير ممن حكينا عنه من السلف فإن كثيراً منهم روى عنه هذا وهذا ولا منافاة والله أعلم .(1/2047)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللَّهُ لَا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعًا فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَدًا إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمًا (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئًا أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (54)
هذه آية الحجاب ، وفيها أحكام وآداب شرعية ، وهي مما وافق تنزيلها قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، كما ثبت ذلك في « الصحيحين » عنه أنه قال : « وافقت ربي عزَّ وجلَّ في ثلاث : قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى ، فأنزل الله تعالى : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] ، وقلت : يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهم البر والفاجر فلو حجبتهن فأنزل الله آية الحجاب ، وقلت لأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، لمَّا تمالأن عليه في الغيرة { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ } [ التحريم : 5 ] فنزل كذلك » ، وفي رواية لمسلم : « ذكر أسارى بدر » وهي قضية رابعة . وفي البخاري عن أنس بن مالك : قال ، قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب ، وكان وقت نزولها في صبيحة عرس رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش ، وكان ذلك في ذي القعدة من السنة الخامسة في قول قتادة والواقدي وغيرهما ، قال البخاري « عن أنس بن مالك : لما تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب بنت جحش دعا القوم فطعموا ثم جلسوا يتحدثون ، فإذا هو يتهيأ للقيام فلم يقوموا ، فلما رأى ذلك قام ، فلما قام ، قام من قام ، وقعد ثلاثة نفر ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ليدخل ، فإذا القوم جلوس ، ثم إنهم قاموا فانطلقوا فجئت ، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم أنهم قد انطلقوا فجاء حتى دخل ، فذهبت أدخل فألقى الحجاب بين وبينه ، فأنزل الله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا } » الآية .
وروى ابن أبي حاتم « عن أنس بن مالك قال : أعرس رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض نسائه ، فصنعت أم سليم حيساً ثم جعلته في تَوْر ، فقالت : اذهب بهذا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقرئه منى السلام وأخبره أن هذا منا له قليل ، قال أنس : والناس يومئذٍ في جَهْد فجئت به ، فقلت : يا رسول الله بَعثَتْ بهذا أم سليم إليك ، وهي تقرئك السلام وتقول أخبره أن هذا منا له قليل ، فنظر إليه ثم قال : » ضعه « فوضعه في ناحية البيت ثم قال : » اذهب فادع لي فلاناً وفلاناً « فسمى رجالاً كثيراً ، وقال : » ومن لقيت من المسلمين « ، فدعوت من قال لي ومن لقيت من المسلمين فجئت والبيت والصفة والحجرة ملأى من الناس ، فقلت : يا أبا عثمان كم كانوا؟ فقال : كانو زهاء ثلاثمائة ، قال أنس : فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : » جىءْ به « فجئت به إليه فوضع يده عليه ودعا ، وقال : » ما شاء الله « ثم قال : » ليتحلق عشرة عشرة وليسموا ، وليأكل كل إنسان مما يليه « فجعلوا يسمون ويأكلون حتى أكلوا كلهم ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ارفعه « قال : فجئت فأخذت التور ، فنظرت فيه فما أدري أهو حين وضعت أكثر أم حين أخذت ، قال : وتخلف رجال يتحدثون في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم التي دخل بها معهم مولية وجهها إلى الحائط فأطالوا الحديث ، فشقوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان أشد الناس حياء ، ولو أعلموا كان ذلك عليهم عزيزاً ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على حجره وعلى نسائه ، فلما رأوه قد جاء ظنوا أنهم قد ثقلوا عليه ابتدروا الباب ، فخرجوا ، وجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أرخى الستر ودخل البيت وأنا في الحجرة فمكث رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته يسيراً وأنزل الله عليه القرآن فخرج وهو يتلو هذه الآية : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي } الآيات ، قال أنس : فقرأهن عليَّ قبل الناس فأنا أحدث الناس بهن عهداً » .(1/2048)
فقوله تعالى : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتَ النبي } حظر على المؤمنين أن يدخلوا منازل رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير إذن ، كما كانوا قبل ذلك يصنعون في بيوتهم في الجاهلية وابتداء الإسلام ، حتى غار الله لهذه الأمة فأمرهم بذلك ، وذلك من إكرامه تعالى هذه الأمة ، ثم استثنى من ذلك فقال تعالى : { إِلاَّ أَن يُؤْذَنَ لَكُمْ إلى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ } أي غير متحينين نضجه واستواءه ، أي لا ترقبوا الطعام إذا طبخ حتى إذا قارب الاستواء تعرضتم للدخول ، فإن هذا مما يكرهه ويذمه؛ وهذا دليل على تحريم التطفيل وهو الذي تسميه العرب الضيفن ، ثم قال تعالى : { وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فادخلوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ فانتشروا } ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا دعا أحدم أخاه فليجب عرساً كان أو غيره » ، وفي الصحيح أيضاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو دعيت إلى ذراع لأجبت ، ولو أهدي إليّ كراع لقبلت ، فإذا فرغتم من الذي دعيتم إليه فخففوا عن أهل المنزل وانتشروا في الأرض » ولهذا قال تعالى : { وَلاَ مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ } أي كما وقع لأولئك النفر الثلاثة الذي استرسل بهم الحديث ، { إِنَّ ذلكم كَانَ يُؤْذِي النبي فَيَسْتَحْيِي مِنكُمْ } وقيل : المراد أن دخولكم منزله بغير إذنه كان يشق عليه ويتأذى به ، ولكن كان يكره أن ينهاهم عن ذلك ، من شدة حيائه عليه السلام ، حتى أنزل الله عليه النهي عن ذلك ، ولهذا قال تعالى : { والله لاَ يَسْتَحْيِي مِنَ الحق } أي ولهذا نهاكم عن ذلك وزجركم عنه ، ثم قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فاسألوهن مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } أي وكما نهيتكم عن الدخول عليهن كذلك لا تنظروا إليهن بالكلية ، ولو كان لأحدكم حاجة يريد تناولها منهم فلا ينظر إليهن ، ولا يسألهن حاجة إلاّ من وراء حجاب .(1/2049)
{ ذلكم أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ } أي هذا الذي أمرتكم به وشرعته لكم من الحجاب أطهر وأطيب ، وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَكُمْ أَن تؤْذُواْ رَسُولَ الله وَلاَ أَن تنكحوا أَزْوَاجَهُ مِن بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } قال ابن عباس : نزلت في رجل همَّ أن يتزوج بعض نساء النبي صلى الله عليه وسلم بعده ، قال رجل لسفيان : أهي عائشة؟ قال : قد ذكروا ذلك ، وقال السدي : إن الذي عزم على ذلك ( طلحة بن عبيد الله ) رضي الله عنه ، حتى نزل التنبيه على تحريم ذلك ، ولهذا أجمع العلماء قاطبة على أن من توفي عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم من أزواجه أنه يحرم على غيره تزوجها من بعده ، لأنهم أزواجه في الدنيا والآخرة وأمهات المؤمنين كما تقدم ، وقد عظم الله تبارك وتعالى ذلك وشدد فيه وتوعد عليه بقوله : { إِنَّ ذلكم كَانَ عِندَ الله عَظِيماً } ، ثم قال تعالى : { إِن تُبْدُواْ شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أي مهما تكنه ضمائركم وتنطوي عليه سرائركم ، فإن الله يعلمه فإنه لا تخفى عليه خافية { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور } [ غافر : 19 ] .(1/2050)
لَا جُنَاحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبَائِهِنَّ وَلَا أَبْنَائِهِنَّ وَلَا إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ إِخْوَانِهِنَّ وَلَا أَبْنَاءِ أَخَوَاتِهِنَّ وَلَا نِسَائِهِنَّ وَلَا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ وَاتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (55)
لما أمر تبارك وتعالى النساء بالحجاب من الأجانب ، بيّن أن هؤلاء الأقارب لا يجب الاحتجاب منهم كما استثناهم في سورة النور عند قوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ } [ النور : 31 ] الآية ، وفيها زيادات على هذه وقد تقدم تفسيرها والكلام عليها بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وقوله تعالى : { وَلاَ نِسَآئِهِنَّ } يعني بذلك عدم الاحتجاب من النساء المؤمنات ، وقوله تعالى : { وَلاَ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } يعني به أرقاءهن من الإناث كما تقدم التنبيه عليه ، قال سعيد بن المسيب : إنما يعني به الإماء فقط ، وقوله تعالى : { واتقين الله إِنَّ الله كَانَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيداً } أي وأخشينه في الخلوة والعلانية ، فإنه شهيد على كل شيء ، لا تخفى عليه خافية ، فراقبن الرقيب .(1/2051)
إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (56)
قال البخاري : قال أبو العالية : صلاة الله تعالى ثناؤه عليه عند الملائكة ، وصلاة الملائكة الدعاء ، وقال ابن عباس : يصلون يبركون ، وقال سفيان الثوري : صلاة الرب الرحمة ، وصلاة الملائكة الاستغفار ، والمقصود من هذه الآية ، أن الله سبحانه وتعالى أخبر عباده بمنزلة عبده ونبيه عنده في الملأ الأعلى ، بأنه يثني عليه عند الملائكة المقربين ، وأن الملائكة تصلي عليه ، ثم أمر تعالى أهل العالم السفلي بالصلاة والتسليم عليه ، ليجتمع الثناء عليه من أهل العالمين ( العلوي ) و ( السفلي ) جميعاً ، قال ابن عباس : أن بني إسرائيل قالوا لموسى عليه السلام : هل يصلي ربك؟ فناداه ربه عزَّ وجلَّ : يا موسى سألوك هل يصلي ربك فقل نعم ، أنا أصلي وملائكتي على أنبيائي ورسلي ، فأزل الله عزَّ وجلَّ على نبيه صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } . وقد أخبر سبحانه وتعالى بأنه يصلي على عباده المؤمنين في قوله تعالى : { هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ } [ الأحزاب : 43 ] الآية ، وقال تعالى : { أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ } [ البقرة : 157 ] الآية ، وفي الحديث : « إن الله وملائكته يصلون على ميامين الصفوف » وقد جاءت الأحاديث المتواترة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالأمر بالصلاة عليه ، ونحن نذكر منه إن شاء الله ما تيسر ، روى البخاري عند تفسير هذه الآية عن كعب بن عجرة قال : « قيل يا رسول الله أما السلام عليك فقد عرفناه فكيف الصلاة؟ قال : » قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد ، الله بارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم إن حميد مجيد « » ، وروى ابن أبي حاتم عن كعب بن عجرة قال : « لما نزلت { إِنَّ الله وَمَلاَئِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النبي ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } قال : قلنا يا رسول الله قد علمنا السلام عليك فكيف الصلاة عليك ، قال : » قولوا اللهم صل على محمد وعلى آل محمد كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم إن حميد مجيد « ، ومعنى قولهم : أما السلام عليك فقد عرفناه هو الذي في التشهد وفيه : السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته . حديث آخر وروى البخاري » عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ، قلنا : يا رسول الله هذا السلام عليك فكيف نصلي عليك؟ قال : « قولوا اللهم صل على محمد عبدك ورسولك كما صليت على آل إبراهيم وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم » « .
حديث آخر : قال مسلم عن أبي مسعود الأنصاري قال : » أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم ونحن في مجلس سعد بن عبادة فقال له بشير بن سعيد : أمرنا الله أن نصلي عليك يا رسول الله فكيف نصلي عليك؟ قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى تمنينا أنه لم يسأله ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قولوا اللهم صلي على محمد وعلى آل محمد كما صليت على آل إبراهيم ، وبارك على محمد وعلى آل محمد كما باركت على آل إبراهيم في العالمين إنك حميد مجيد ، والسلام كما قد علمتم » « .(1/2052)
ومن هنا ذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجب على المصلي أن يصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم في التشهد الأخير ، فإن تركه لم تصح صلاته ، على أن الجمهور على خلافه وحكوا الإجماع على خلافه وللقول بوجوبه ظواهر الحديث ، فلا إجماع في هذه المسألة لا قديماً ولا حديثاً ، والله أعلم .
( فضائل الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم )
روى أبو عيسى الترمذي عن عبد الله بن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أولى الناس بي يوم القيامة أكثرهم علي صلاة » حديث آخر : وروى الترمذي عن أبي بن كعب قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا ذهب ثلثا الليل قام فقال : » يا أيها الناس اذكروا الله اذكروا الله ، جاء الراجفة تتبعها الرادفة ، جاء الموت بما فيه ، جاء الموت بما فيه « قال أبي : قلت يا رسول الله إني أكثر الصلاة عليك فكم أجعل لك من صلاتي؟ قال : » ما شئت « قلت الربع ، قال : » ما شئت فإن زدت فهو خير لك « قلت فالنصف قال : » ما شئت فإن زدت فهو خير لك « قلت : فالثلثين ، قال : » ما شئت فإن زدت فهو خير لك « قلت : أجعل لك صلاتي كلها ، قال : » إذن تُكفى همك ويغفر لك ذنبك « » طريق أخرى : روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف قال : « قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتوجه نحو صدقته فدخل فاستقبل القبلة فخر ساجداً فأطال السجود حتى ظننت أن الله قد قبض نفسه فيها فدنوت منه ثم جلست فرفع رأسه فقال : » من هذا قلت : عبد الرحمن ، قال : « ما شأنك؟ » قلت : يا رسول الله سجدت سجدة خشيت أن يكن الله قبض روحك فيها ، فقال : « إن جبريل أتاني فبشرني أن الله عزَّ وجلَّ يقول لك من صلى عليك صليت عليه ومن سلم عليك سلمت فسجدت لله عزَّ وجلَّ شكراً » « حديث آخر : قال الإمام أحمد عن عبد الله بن أبي طلحة عن أبيه : » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء ذات يوم والسرور يرى في وجهه ، فقالوا يا رسول الله إنا لنرى السرور في وجهك ، فقال : « إنه أتاني الملك فقال : يا محمد أما يرضيك أن ربك عزَّ وجلَّ يقول : إنه لا يصلي عليك أحد من أمتك إلاّ صليت عليه عشراً ، ولا يسلم عليك أحد من أمتك إلاّ سلمت عليه عشراً قال : بلى » «(1/2053)
حديث آخر : روى مسلم وأبو داود والترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من صلى عليَّ واحدة صلى الله عليه بها عشراً » حديث آخر : قال الإمام أحمد بن أبي قيس مولى عمر بن العاص قال : « سمعت عبد الله بن عمرو يقول : من صلى على رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة صلى الله عليه وملائكته لها سبعين صلاة ، فليقلَّ عبد من ذلك أو ليكثر ، وسمعت عبد الله بن عمرو يقول : خرج علينا رسول الله رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً كالمودع ، فقال : » أنا محمد النبي الأمي قاله ثلاث مرات ولا نبي بعدي ، أوتيت فواتح الكلام وخواتمه وجوامعه ، وعلمت كم خزنة النار وحملة العرش ، وتجوز بي عوفيت وعوفيت أمتي ، فاسمعوا وأطيعوا ما دمت فيكم ، فإذا ذهب بي فعليكم بكتاب الله أحلوا حلاله وحرموا حرامه « حديث آخر : قال الإمام أحمد عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من صلى علي صلاة واحدة صلى الله عليه عشر صلوات وحط عنه عشر خطيئات « حديث آخر : قال الإمام أحمد عن علي بن الحسين عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » البخيل من ذكرت عنده ثم لم يصل عليّ « حديث آخر : قال إسماعيل القاضي عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إن أبخل الناس من ذكرت عنده فلم يصل عليّ « ، وروى عن الحسن البصري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » بحسب أمرىء من البخل أن أذكر عنده فلا يصليّ عليّ « .
حديث آخر : قال الترمذي عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليَّ ، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له ، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة « وهذا الحديث والذي قبله دليل على وجوب الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم كلما ذكر ، وهو مذهب طائفة من العلماء منهم الطحاوي والحليمي؛ وذهب أخرون إلى أنه تجب الصلاة عليه في المجلس مرة واحدة ، ثم لا تجب في بقية ذلك المجلس ، بل تستجب ، ويتأيد بالحديث الذي رواه الترمذي عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(1/2054)
« ما جلس قوم مجلساً لم يذكروا الله فيه ولم يصلوا على نبيهم إلاّ كان عليهم تِرَةَ يوم القيامة ، فإن شاء عذبهم وإن شاء غفر لهم » ، وحكي عن بعضهم : أنه إنما تجب الصلاة عليه عليه الصلاة والسلام في العمر مرة واحدة امتثالاً لأمر الآية ، ثم هي مستحبة في كل حال ، وهذا هو الذي نصره القاضي عياض بعدما حكى الإجماع على وجوب الصلاة عليه صلى الله عليه وسلم في الجملة .
فصل
وأما الصلاة على غير الأنبياء ، فإن كانت على سبيل التبعية كما تقدم في الحديث : اللهم صلي على محمد وآله وأزواجه وذريته ، فهذا جائز بالإجماع ، وإنما وقع النزاع فيما إذا أفرد غير الأنبياء بالصلاة عليهم ، فقال قائلون : يجوز ذلك ، واحتجوا بقول الله تعالى : { هُوَ الذي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلاَئِكَتُهُ } [ الأحزاب : 43 ] ، وبقوله : { أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } [ البقرة : 157 ] ، وبقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 103 ] الآية . وبحديث عبد الله بن أبي أوفى قال : « كان رسول الله صلى اليه عليه سلم إذا أتاه قوم بصدقتهم قال : » اللهم صلِّ عليهم « فأتاه أبي بصدقته فقال : » اللهم صلى على آل أبي أوفى « » ، وقال الجمهور من العلماء : لا يجوز إفراد غير الأنبياء بالصلاة ، لأن هذا قد صار شعاراً للأنبياء ، إذا ذكروا ، فلا يلحق بهم غيرهم ، فلا يقال : قال أبو بكر صلى الله عليه ، أو قال علي صلى الله عليه ، وإن كان المعنى صحيحاً ، كما لا يقال : قال محمد عزَّ وجلَّ ، وإن كان عزيزاً جليلاً ، لأن هذا من شعار ذكر الله عزَّ وجلَّ ، وحملوا ما ورد في ذلك من الكتاب والسنّة على الدعاء لهم ، ولهذا لم يثبت شعاراً لآل أبي أوفى ولا لجابر وامرأته ، وهذا مسلك حسن . وأما السلام ، فقال الجويني من أصحابنا : هو في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء ، فقال الجويني من أصحابنا : هو في معنى الصلاة فلا يستعمل في الغائب ولا يفرد به غير الأنبياء ، فلا يقال : علي عليه السلام ، وسواء في هذا الأحياء والأموات ، وأما الحاضر فيخاطب به فيقال : سلام عليك وسلام عليكم أو السلام عليك أو عليكم ، وهذا مجمع عليه ، انتهى ما ذكره .
( قلت ) : وقد غلب هذا في عبارة كثير من النساخ للكتب أن يفرد علي رضي الله عنه بأن يقال عليه السلام من دون سائر الصحابة أو كرم الله وجهه ، هذا وإن كان معناه صحيحاً لكن ينبغي أن يسوى بين الصحابة في ذلك فإن هذا من باب التعظيم والتكريم ، فالشيخان وأمير المؤمنين عثمان أولى بذلك منه رضي الله عنهم أجمعين ، قال عكرمة عن ابن عباس : لا تصح الصلاة على أحد إلا على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن يدعى للمسلمين والمسلمات بالمغفرة ، وكتب عمر بن عبد العزيز رحمه الله : أما بعد فإن ناساً من الناس قد التمسوا الدنيا بعمل الآخرة ، وإن ناساً من القصاص قد أحدثوا في الصلاة على خلفائهم وأمرائهم عَدْلَ الصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، فإذا جاءك كتابي هذا ، فمرهم أن تكون صلاتهم على النبيين ، ودعاؤهم للمسلمين عامة ويدعوا ما سوى ذلك .(1/2055)
فرع قال النووي : إذا صلى على النبي صلى الله عليه وسلم فليجمع بين الصلاة والتسليم ، فلا يقتصر على أحدهما فلا يقول : صلى الله عليه فقط ، ولا عليه السلام فقط . وهذا الذي قاله منتزع من هذه الآية الكريمة وهي قوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } فالأولى أن يقال صلى الله عليه وسلم تسليماً .(1/2056)
إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا (57) وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (58)
يقول تعالى متهدداً ومتوعداً من آذاه ، بمخالفة أوامره وارتكاب زواجره ، وإيذاء رسوله بعيب أو بنقص عياذاً بالله من ذلك قال عكرمة { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } نزلت في المصورين ، وفي « الصحيحين » عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يقول الله عزَّ وجلَّ : يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر ، وأنا الدهر أقلب ليله ونهاره » ومعنى هذا أن الجاهلية كانوا يقولون : يا خيبة الدهر ، فعل بنا كذا وكذا ، فيسندون أفعال الله تعالى إلى الدهر ويسبونه ، وإنما الفاعل لذلك هو الله عزَّ وجلَّ فنهى عن ذلك ، وقال ابن عباس في قوله تعالى : { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } نزلت في الذين طعنوا على النبي صلى الله عليه وسلم في تزويجه صفية بن حيي بن أخطب ، والظاهر أن الآية عامة في كل من آذاه بشيء ، ومن آذاه فقد آذى الله كما أن من أطاعه فقد أطاع الله ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الله الله في أصحابي لا تتخذوهم غرضاً بعدي ، فمن أحبهم فبحبي أحبهم ، ومن أبغضهم فببغضي أبغضهم ، ومن آذاهم فقد آذاني ، ومن آذاني فقد آذى الله ، ومن آذى الله يوشك أن يأخذه » وقوله تعالى : { والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا } أي ينسبون إليهم ما هم برآء منه لم يعملوه ولم يفعلوه { فَقَدِ احتملوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } وهذا هو البهت الكبير أن يحكى أو ينقل عن المؤمنين والمؤمنات ما لم يفعلوه على سبيل العيب والتنقص لهم ، ومن أكثر من يدخل في هذا الوعيد الرافضة الذي يتنقصون الصحابة ، ويعيبونهم بما قد برأهم الله منه ، ويصفونهم بنقيض ما أخبر الله عنهم ، فإن الله عزَّ وجلَّ قد أخبر أنه قد رضي عن المهاجرين والأنصار ومدحهم ، وهؤلاء الجهلة الأغبياء يسبونهم ويتنقصونهم ، ويذكرون عنهم ما لم يكن ولا فعلوه أبداً ، فهم في الحقيقة منكسو القلوب ، يذمون الممدوحين ويمدحون المذمومين ، وقد روى « عن عائشة رضي الله عنها قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : » أي الربا أربى عند الله «؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : » أربى الربا عند الله استحلال عرض امرىء مسلم « ثم قرأ : { والذين يُؤْذُونَ المؤمنين والمؤمنات بِغَيْرِ مَا اكتسبوا فَقَدِ احتملوا بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } » .(1/2057)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لَا يُجَاوِرُونَكَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَمَا ثُقِفُوا أُخِذُوا وَقُتِّلُوا تَقْتِيلًا (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (62)
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر النساء المؤمنات خاصة أزواجه وبناته لشرفهن بأن يدنين عليه من جلابيبهن ، ليتميزن عن سمات نساء الجاهلية ، والجلباب هو الرداء فوق الخمار ، وهو بمنزلة الإزار اليوم ، قال الجوهري : الجلباب الملحفة ، قالت امراة من هذيل يرثي قتيلاً لها :
تمشي النسور إليه وهي لاهية ... مشي العذارى عليهن الجلابيب
قال ابن عباس : أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن في حاجة أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسن بالجلابيب ويبدين عيناً واحدة ، وقال محمد بن سيرين : سألت عبيدة السلماني عن قول الله عزَّ وجلَّ : { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } فغطى وجهه ورأسه وأبرز عينه اليسرى ، وقال عكرمة : تغطي ثغرة نحرها بجلبابها تدنيه عليها ، عن أم سلمة قالت : لما نزلت هذه الآية { يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } خرج نساء الأنصار كأن على رؤوسهن الغربان من السكينة وعليهن أكسية سود يلبسنها . وسئل الزهري هل على الوليدة خمار ، متزوجة أو غير متزوجة؟ قال : عليها الخمار إن كانت متزوجة ، وتنهى عن الجلباب ، لأنه يكره لهن أن يتشبهن بالحرائر المحصنات ، وقد قال الله تعالى : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ } .
وروي عن سفيان الثوري أنه قال : لا بأس بالنظر إلى زينة أهل الذمة وإنما نهي عن ذلك لخوف الفتنة لا لحرمتهن ، واستدل بقوله تعالى : { وَنِسَآءِ المؤمنين } ، وقوله : { ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } أي إذا فعلن ذلك عرفن أنهن حرائر ، لسن بإماء ولا عواهر ، قال السدي : كان ناس من فساق أهل المدينة يخرجون بالليل حين يختلط الظلام إلى طرق المدينة ، فيعرضون للنساء وكان مساكن أهل المدينة ضيقة ، فإذا كان الليل خرج النساء إلى الطريق يقضين حاجتهن ، فكان أولئك الفساق يبتغون ذلك منهم ، فإذا رأوا المرأة عليها جلباب قالوا : هذه حرة فكفوا عنها ، وإذا رأوا المرأة ليس عليها جلباب قالوا : هذه أمة فوثبوا عليها ، وقال مجاهد : يتجببن فيعلم أنهن حرائر فلا يتعرض لهن فاسق بأذى ولا ريبة ، وقوله تعالى : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } أي لما سلف في أيام الجاهلية حيث لم يكن عندهن علم بذلك ، ثم قال تعالى متوعداً للمنافقين وهم الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر { والذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } قال عكرمة وغيره : هم الزناة هاهنا ، { والمرجفون فِي المدينة } يعني الذين يقولون جاء الأعداء وجاءت الحروب ، وهو كذب وافتراء ، لئن لم ينتهوا عن ذلك ويرجعوا إلى الحق { لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ } قال ابن عباس : أي لنسلطنك عليهم ، وقال قتادة : لنحرشنك إليهم ، وقال السدي : لنعلمنك بهم ، { ثُمَّ لاَ يُجَاوِرُونَكَ فِيهَآ } أي في المدينة { إِلاَّ قَلِيلاً * مَّلْعُونِينَ } حال منهم في مدة أقامتهم في المدينة مدة قريبة مطرودين مبعدين { أَيْنَمَا ثقفوا } أي وجدوا ، { أُخِذُواْ } لذلتهم وقلتهم ، { وَقُتِّلُواْ تَقْتِيلاً } . ثم قال تعالى : { سُنَّةَ الله فِي الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلُ } أي هذه سنته في المنافقين إذا تمردوا على نفاقهم وكفرهم ، ولم يرجعوا عما هم فيه أن أهل الإيمان يسلطون عليهم ويقهرونهم ، { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } أي وسنّة الله في ذلك لا تبدل ولا تغير .(1/2058)
يَسْأَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيبًا (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكَافِرِينَ وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيرًا (64) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يَا لَيْتَنَا أَطَعْنَا اللَّهَ وَأَطَعْنَا الرَّسُولَا (66) وَقَالُوا رَبَّنَا إِنَّا أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَاءَنَا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا (67) رَبَّنَا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذَابِ وَالْعَنْهُمْ لَعْنًا كَبِيرًا (68)
يقول تعالى مخبراً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه أنه لا علم له بالساعة ، وأرشده أن يرد علمها إلى الله عزَّ وجلَّ ، لكن أخبره أنها قريبة بقوله : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة تَكُونُ قَرِيباً } ، كما قال تعالى : { اقتربت الساعة وانشق القمر } [ القمر : 1 ] ، وقال : { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] ، وقال : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] ، ثم قال : { إِنَّ الله لَعَنَ الكافرين } أي ابعدهم من رحمته { وَأَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً } أي في الدار الآخرة { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي ماكثين مستمرين فلا خروج لهم منها ولا زوال لهم عنها ، { لاَّ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } أي ليس لهم مغيث ولا معين ينقذهم مما هم فيه ، ثم قال : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار يَقُولُونَ ياليتنآ أَطَعْنَا الله وَأَطَعْنَا الرسولا } أي يسحبون في النار على وجوههم ، وتلوى وجوههم على جهنم ، يتمنون أن لو كانوا في الدنيا ممن أطاع الله وأطاع الرسول ، كما أخبر الله عنهم بقوله : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ يَقُولُ ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً } [ الفرقان : 27 ] ، وقال تعالى : { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } [ الحجر : 2 ] ، وهكذا أخبر عليهم في حالتهم هذه أنهم يودون أن لو كانوا أطاعوا الله وأطاعوا الرسول في الدنيا ، { وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا } قال طاووس : { سَادَتَنَا } يعني الأشراف و { كُبَرَآءَنَا } يعني العلماء ، أي اتبعنا السادة وهم الأمراء والكبراء من المشيخة ، وخالفنا الرسل { رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب } أي بكفرهم وإغوائهم إيانا { والعنهم لَعْناً كَبِيراً } قرىء ( كبيراً ) وقرىء ( كثيراً ) وهما متقاربان في المعنى .(1/2059)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهًا (69)
أخرج الإمام البخاري عن تفسير هذه الآية عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن موسى عليه السلام كان رجلاً حيياً ستيراً لا يرى من جلده شيء استحياء منه فآذاه من آذاه من بني إسرائيل ، فقالوا : ما يتستر هذا التستر إلا من عيب في جلده إما برص وإما أدرة وإما آفة ، وإن الله عزَّ وجلَّ أراد أن يبرئه مما قالوا لموسى عليه السلام ، فخلا يوماً وحده ، فخلع ثيابه على حجر ، ثم اغتسل ، فلما فرغ أقبل على ثيابه ليأخذها ، وإن الحجر عدا بثوبه ، فأخذ موسى عصاه وطلب الحجر ، فجعل يقول : ثوبي حجر ، ثوبي حجر ، حتى انتهى إلى ملأ من بني إسرائيل ، فرأوه عرياناً أحسن ما خلق الله عزَّ وجلَّ ، وأبرأه مما يقولون : وقام الحجر ، فأخذ ثوبه ، فلبسه ، وطفق بالحجر ضرباً بعصاه ، فوالله إن بالحجر لَنَدَباً من أثر ضربه ثلاثاً أو أربعاً أو خمساً قال فذلك قوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً } » وعن ابن عباس في قوله : { لاَ تَكُونُواْ كالذين آذَوْاْ موسى } قال ، قال قومه له : إنك آدر ، فخرج ذات يوم يغتسل فوضع ثيابه على صخرة فخرجت الصخرة تشتد بثيابه ، وخرج يتبعها عرياناً ، حتى انتهت به إلى مجالس بني إسرائيل ، قال : فرأوه ليس بآدر فذلك قوله : { فَبرَّأَهُ الله مِمَّا قَالُواْ } ، وروى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن مسعود قال : « قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم قسماً فقال رجل من الأنصار : إن هذه القسمة ما أريد بها وجه الله ، قال ، فقلت : يا عدو الله أما لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قلت ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فاحمر وجهه ثم قال : » رحمة الله على موسى ، لقد أوذي كثيراً من هذا فصبر « » وقوله تعالى : { وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً } أي له وجاهة وجاه عند ربه عزَّ وجلَّ ، قال الحسن البصري : كان مستجاب الدعوة عند الله ، وقال غيره من السلف : لم يسأل الله شيئاً إلا أعطاه ، ولكن منع الرؤية لما يشاء عزَّ وجلَّ ، وقال بعضهم : من وجاهته العظيمة عند الله أنه شفع في أخيه هارون أن يرسله الله معه فأجاب الله سؤاله فقال : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً } [ مريم : 53 ] .(1/2060)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا (71)
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه ، وأن يعبدوهن عبادة من كأنه يراه ، وأن يقولوا { قَوْلاً سَدِيداً } أي مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف ، ووعدهم أنهم إذا فعلوا ذلك أثابهم عليه ، بأن يصلح لهم أعمالهم أن يوفقهم للأعمال الصالحة ، وأن يغفر لهم الذنوب الماضية ، ثم قال تعالى : { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً } وذلك أنه يجار من نار الجحيم ، ويصير إلى النعيم المقيم ، عن أبي موسى الأشعري قال : « صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الظهر فلما انصرف أومأ إلينا بيده فجلسنا فقال : » إن الله تعالى أمرني أن آمركم أن تتقوا الله وتقولوا قولاً سديداً « ثم أتى النساء فقال : » إن الله أمرني أن آمركن أن تتقين الله وتقلن قولاً سديداً « » وعن ابن عباس موقوفاً : من سره أن يكون أكرم الناس فليتق الله ، قال عكرمة : القول السديد لا إله إلا الله ، وقال غيره : السديد الصدق ، وقال مجاهد : هو السداد ، وقال غيره : هو الصواب ، والكل حق .(1/2061)
إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ وَيَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (73)
قال ابن عباس : يعني بالأمانة ( الطاعمة ) عرضها عليهم قبل أن يعرضها على آدم فلم يطقنها ، فقال لآدم : إني قد عرضت الأمانة على السماوات والأرض والجبال فلم يطقنها ، فهل أنت آخذ بما فيها؟ قال : يا رب وما فيها؟ قال : إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت ، فأخذها آدم فحملها ، فذلك قوله تعالى : { وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } وعنه الأمانة ( الفرائض ) عرضها الله على السماوات والأرض والجبال إن أدوها أثابهم وإن ضيعوها عذهبم فكرهوا ذلك وأشفقوا عليه من غير معصية ، ولكن تعظيماً لدين الله أن لا يقوموا بها ، ثم عرضها على آدم فقبلها بما فيها ، وهو قوله تعالى : { وَحَمَلَهَا الإنسان إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً } يعني غراً بأمر الله . وهكذا قال مجاهد والضحاك والحسن البصري : إن الأمانة هي الفرائض ، وقال آخرون : هي الطاعة ، وقال أبي بن كعب من الأمانة أن المرأة اؤتمنت على فرجها ، وقال قتادة : الأمانة الدين والفرائض والحدود ، وقال زيد بن أسلم : الأمانة ثلاثة الصلاة والصوم والاغتسال من الجنابة؛ وكل هذه الأقوال لا تنافي بينها ، وبل هي متفقة وراجعة إلى أنها التكليف وقبول الأوامر والنواهي بشرطها ، وهو أنه إن قام بذلك أثيب ، وإن تركها عوقب ، فقبلها الإنسان على ضعفه وجهله وظلمه ، إلا من وفق الله وبالله المستعان . عن الحسن البصري أنه تلا هذه الآية . { إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السماوات والأرض والجبال } قال : عرضها على السبع الطباق الطرائق التي زينت بالنجوم ، وحملة العرش العظيم ، فقيل لها : هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت : وما فيها؟ قال : قيل لها إن أحسنت جزيت ، وإن أسأت عوقبت ، قالت : لا ، ثم عرضها على الأرضين السبع الشداد التي شدت بالأوتاد ، وذللت بالمهاد ، قال فقيل لها : هل تحملين الأمانة وما فيها؟ قالت : ما فيها؟ قال ، قيل لها : إن أحسنت جزيت وإن أسأت عوقبت ، قالت : لا . وقال مقاتل بن حيان : إن الله تعالى حين خلق خلقه جمع بين الإنس والجن والسماوات والأرض والجبال ، فبدأ بالسماوات فعرض عليهن الأمانة وهي الطاعة ، فقال لهن أتحملن هذه الأمانة ولَكْنَّ عليَّ الفَضْلُ والكرامة والثواب في الجنة؟ فقلن : يا رب إنا لا نستطيع هذا الأمر ، وليس بنا قوة ولكنا لك مطيعون ، ثم عرض الأمانة على الأرضيين فقال لهن : أتحلمن هذه الأمانة وتقبلنها مني وأعطيطن الفضل والكرامة في الدنيا؟ فقلن : لا صبر لنا على هذا يا رب ولا نطيق ولكنا لك سامعون مطيعون لا نعصيك في شء أمرتنا بيه ، ثم قرب آدم فقال له : أتحمل هذه الأمانة وترعاها حق رعايتها؟ فقال عند ذلك آدم : ما لي عندك؟ قال : يا آدم إن أحسنت وأطعت ورعيت الأمانة فلك عندي الكرامة والفضل وحسن الثواب في الجنة ، وإن عصيت ولم ترعها حق رعايتها وأسأت فإني معذبك ومعاقبك وأنزلك النار ، قال : رضيت يا رب ، وتحملها فقال الله عزَّ وجلَّ عند ذلك : قد حملتكها فذلك قوله تعالى : { وَحَمَلَهَا الإنسان } .(1/2062)
وروى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « القتل في سبيل الله يكفر الذنوب كلها أو قال يكفر كل شيء إلا الأمانة ، يؤتى بصاحب الأمانة فيقال له : أدِّ أمانتك فيقول : أنى يا رب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له : أد أمانتك ، فيقول : أنَّى يا رب ، وقد ذهبت الدنيا؟ فيقال له : أد أمانتك ، فيقول : أنَّى يارب وقد ذهبت الدنيا؟ فيقول : اذهبوا به إلى أمه الهاوية ، فيذهب به إلى الهاوية ، فيهوي فيها حتى ينتهي إلى قعرها فيجدها هنالك كهيئتها فيحملها فيضعها على عاتقه ، فيصعد بها إلى شفير جهنم ، حتى إذا رأى أنه قد خرج زلت قدمه فهوى في أثرها أبد الآبدين » قال : والأمانة في الصلاة ، والأمانة في الصوم ، والأمانة في الوضوء ، والأمانة في الحديث ، وأشد ذلك الودائع ، فلقيت البراء فقلت : ألا تسمع ما يقول أخوك عبد الله؟ فقال : صدق ، ومما يتعلق بالأمانة ما روي عن حذيفة رضي الله عنه قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثين قد رأيت أحدهما ، وأنا أنتظر الآخر ، حدثنا « أن الأمانة نزلت في حذر قلوب الرجال ثم نزل القرآن فعلموا من القرآن وعلموا من السنّة ، ثم حدثنا عن رفع الأمانة فقال : ينام الرجل النومة فتقبض الأمانة من قلبه ، فيظل أثرها مثل أثر المَجْل كجمر دحرجته على رجلك ، تراه مُنْتَبراً ، وليس فيه شيء قال : ثم أخذ حصى فدحرجه على رجله قال : فيصبح الناس يتبايعون لا يكاد أحد يؤدي الأمانة ، حتى يقال : إن في بني فلان رجلاً أميناً ، حتى يقال : للرجل ما أجلده وأظرفه وأعقله وما في قلبه حبة خردل من إيمان ، ولقد أتى عليّ زمان ، وما أبالي أيكم بايعت إن كان مسلماً ليردنّه عليّ دينه ، وإن كان نصرانياً أو يهودياً ليردنه عليّ ساعيه ، فأمال اليوم فما كنت أبايع منكم إلا فلاناً وفلاناً » . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا ، حفظ أمامنة ، وصدق حديث ، وحسن خليقة ، وعفة طِعمة » . وقوله تعالى : { لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات } أي إنما الإيمان خوفاً بني آدم الأمانة وهي التكاليف { لِّيُعَذِّبَ الله المنافقين والمنافقات } وهم الذين يظهرون الإيمان خوفاً من أهله ويبطنون الكفر متابعة لأهله { والمشركين والمشركات } وهم الذين ظاهرهم وباطنهم على الشرك بالله ومخالفة رسله ، { وَيَتُوبَ الله عَلَى المؤمنين والمؤمنات } أي وليرحم المؤمنين من الخلق الذين آمنوا بالله وملائكته وكتبه ورسله العاملين بطاعته ، { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } .(1/2063)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنْزِلُ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)
يخبر تعالى عن نفسه الكريمة أن له الحمد المطلق في الدنيا والآخرة ، لأنه المنعم المتفضل على أهل الدنيا والآخرة ، المالك لجميع ذلك ، الحاكم في جميع ذلك ، ولهذا قال تعالى : { الحمد للَّهِ الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } أي الجميع ملكه وعبيده وتحت تصرفه وقهره ، كما قال تعالى : { وَإِنَّ لَنَا لَلآخِرَةَ والأولى } [ الليل : 13 ] ، ثم قال تعالى : { وَلَهُ الحمد فِي الآخرة } فهو المعبود أبداً ، المحمود على طول المدى ، وقوله تعالى : { وَهُوَ الحكيم } أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره ، { الخبير } الذي لا تخفى عليه خافية ولا يغيب عنه شيء ، وقال الزهري : خبير بخلقه حكيم بأمره ، ولهذا قال عزَّ وجلَّ : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا } أي يعلم عدد القطر النازل في أجزاء الأرض ، والحب المبذور والكامن فيها ، ويعلم ما يخرج من ذلك عدده وكيفيته وصفاته { وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء } أي من قطر ورزق ، { وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } أي من الأعمال الصالحة وغير ذلك ، { وَهُوَ الرحيم الغفور } أي الرحيم بعباده فلا يعاجل عصاتهم بالعقوبة { الغفور } عن ذنوب التائبين إليه المتوكلين عليه .(1/2064)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلَى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عَالِمِ الْغَيْبِ لَا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5) وَيَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَيَهْدِي إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)
هذه إحدى الآيات الثلاث التي لا رابع لهن ، مما أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقسم بربه العظيم على وقوع المعاد ، لما أنكره من أنكره من أهل الكفّر والعناد ، فإحداهن في سورة يونس ، وهي قوله تعالى : { وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } [ يونس : 53 ] ، والثانية هذه : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } ، والثالثة في سورة التغابن وهي قوله تعالى : { زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } [ التغابن : 7 ] ، فقال تعالى : { قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } ، ثم وصفه بما يؤكد ذلك ويقرره فقال : { عَالِمِ الغيب لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَلاَ أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } قال مجاهد وقتادة : { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ } لا يغيب عنه ، أي الجميع مندرج تحت علمه فلا يخفى عليه شيء ، فالعظام وإن تلاشت وتفرقت وتمزقت ، فهو عالم أين ذهبت وأين تفرقت ، ثم يعيدها كما بدأها أول مرة فإنه بكل شيء عليم . ثم بيَّن حكمته في إعادة الأبدان وقيام الساعة بقوله تعالى : { لِّيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ * والذين سَعَوْا في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أي سعوا في الصد عن سبيل الله تعالى وتكذيب رسله { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } أي لينعم السعداء من المؤمنين ويعذب الأشقياء من الكافرين ، كما قال الله عزَّ وجلَّ : { لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون } [ الحشر : 20 ] . وقال تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار } [ ص : 28 ] وقوله تعالى : { وَيَرَى الذين أُوتُواْ العلم الذي أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ هُوَ الحق } هذه حكمة أخرى معطوفة على التي قبلها ، وهي أن المؤمنين إذا شاهدوا قيام الساعة ومجازاة الأبرار والفجار رأوه حينئذ عين اليقين ، ويقولون يومئذ { لَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق } [ الأعراف : 43 ] ، { ويهدي إلى صِرَاطِ العزيز الحميد } العزيز هو المنيع الجناب الذي لا يغالب ولا يمانع ، بل قد قهر كل شيء وغلبه ، الحميد في جميع أقواله وأفعاله وشرعه وقدره ، وهو المحمود في ذلك كله جلَّ وعلا .(1/2065)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلَى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذَابِ وَالضَّلَالِ الْبَعِيدِ (8) أَفَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)
هذا إخبار من الله عزَّ وجلَّ عن استبعاد الكفرة الملحدين قيام الساعة ، واستهزائهم بالرسول صلى الله عليه وسلم في إخباره بذلك ، { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ هَلْ نَدُلُّكُمْ على رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذَا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي تفرقت أجسادكم في الأرض وذهبت فيها كل مذهب وتمزقت كل ممزق ، { إِنَّكُمْ } أي بعد هذا الحال { لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي تعودون أحياء ترزقون بعد ذلك؟ { أفترى عَلَى الله كَذِباً أَم بِهِ جِنَّةٌ } ؟ قال الله عزَّ وجلَّ راداً عليهم : { بَلِ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة فِي العذاب والضلال البعيد } أي ليس الأمر كما زعموا ، بل محمد صلى الله عليه وسلم هو الصادق البار الراشد الذي جاء بالحق ، وهم الكذبة الجهلة الأغبياء ، { فِي العذاب } أي الكفر المفضي بهم إلى عذاب الله تعالى ، { والضلال البعيد } من الحق في الدنيا ، ثم قال تعالى منبهاً لهم على قدرته في خلق السماوات والأرض ، { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السمآء والأرض } ، أي حيثما توجهوا وذهبوا ، فالسماء مطلة عليهم والأرض تحتهم ، كما قال عزَّ وجلَّ : { والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ * والأرض فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الماهدون } [ الذاريات : 47-48 ] قال قتادة : إنك إن نظرت عن يمينك أو عن شمالك أو من بين يديك أو من خلفك رأيت السماء والأرض ، وقوله تعالى : { إِن نَّشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الأرض أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِّنَ السمآء } أي لو شئنا لفعلنا بهم ذلك بظلمهم وقدرتنا عليهم ، ولكن نؤخر ذلك لحملنا وعفونا ، ثم قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } ، قال قتادة : { مُّنِيبٍ } تائب ، وعنه : المنيب المقبل إلى الله تعالى ، أي إن في النظر إلى خلق السماوات والأرض ، لدلالة لكل عبد فطن لبيب رجَّاع إلى الله ، على قدرة الله تعالى على بعث الأجساد ووقوع المعاد ، لأن من قدر على خلق هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها ، وهذه الأرضين في انخفاضها ، وأطوالها وأعراضها إنه لقادر على إعادة الأجسام ونشر الرميم من العظام ، كما قال تعالى : { أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى } [ يس : 81 ] ، وقال تعالى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } [ غافر : 57 ] .(1/2066)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ مِنَّا فَضْلًا يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ وَأَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)
يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله داود عليه الصلاة والسلام مما آتاه من الفضل المبين وجمع له بين النبوة والملك المتمكن ، والجنود ذوي العدد والعدد ، وما أعطاه ومنحه من الصوت العظيم الذي كان إذا سبح به تسبح معه الجبال الراسيات ، الصم الشامخات ، وتقف له الطيور السارحات ، والغاديات والرائحات ، وتجاوبه بأنواع اللغات ، وفي الصحيح « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع صوت أبي موسى الأشعري رضي الله عنه يقرأ من الليل ، فوقف فاستمع لقراءته ، ثم قال صلى الله عليه وسلم » لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود « » ومعنى قوله تعالى : { أَوِّبِي } أي سبحي ، والتأويب في اللغة الترجيع ، فأمرت الجبال والطير أن ترجع معه بأصواتها ، وقوله تعالى : { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد } قال الحسن البصري وقتادة : كان لا يحتاج أن يدخله ناراً ولا يضربه بمطرقة ، بل كان يفتله بيده مثل الخيوط ، ولهذا قال تعالى : { أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ } وهي الدروع ، قال قتادة : وهو أول من عملها من الخلق ، وإنما كانت قبل ذلك صفائح ، وقال ابن شوذب : كان داود عليه السلام يرفع في كل يوم درعاً فيبيعها بستة آلاف درهم ، ألفين له ولأهله وأربعة آلاف درهم يطعم بها بني إسرائيل خبز الحواري ، { وَقَدِّرْ فِي السرد } هذا إرشاد من الله تعالى لنبيه داود عليه السلام في تعليمه صنعة الدروع ، قال مجاهد : { وَقَدِّرْ فِي السرد } لا تدق المسمار فيقلق في الحلقة ، ولا تغلظه فيقصمها واجعله بقدر ، وقال الحكم بن عيينة : لا تغلظه فيقصم ولا تدقه فيقلق ، وقال ابن عباس : السرد حلق الحديد : وقال بعضهم : يقال درع مسرودة إذا كانت مسمورة الحلق ، واستشهد بقول الشاعر :
وعليهما مسرودتان قضاهما ... داود أو صنع السوابغ تبغ
وقد ذكر الحافظ ابن عساكر عن وهب بن منبه أن داود عليه السلام كان يخرج متنكراً ، فيسأل الركبان عنه وعن سيرته ، فلا يسأل أحداً إلا أثنى عليه خيراً في عبادته وسيرته وعدله عليه السلام . قال وهب : حتى بعث الله تعالى ملكاً في صورة رجل فلقيه داود عليه الصلاة والسلام ، فسأله كما كان يسأل غيره ، فقال : هو خير الناس لنفسه ولأمته ، مإلا أن فيه خصلة لو لم تكن فيه كان كاملاً ، قال : ما هي؟ قال : يأكل ويطعم عياله من مال المسلمين يعني بيت المال ، فعند ذلك نصب داود عليه السلام إلى ربه عزَّ وجلَّ في الدعاء أن يعلمه عملاً بيده يستغني به ويغني به عياله فألان الله عزَّ وجلَّ له الحديد وعلمه صنعة الدروع فعمل الدروع وهو أول من عملها ، فقال الله تعالى : { أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السرد } يعني مسامير الحلق ، قال : وكان يعمل الدرع فإذا ارتفع من عمله درع باعها فتصدق بثلثها واشترى بثلثها ما يكفيه وعياله ، وأمسك الثلث يتصدق به يوماً بيوم إلى أن يعمل غيرها ، وقال : إن الله تعالى أعطى داود شيئاً لم يعطه غيره من حسن الصوت ، إنه كان إذا قرأ الزبور تجتمع الوحوش إليه حتى يؤخذ بأعناقها وما تنفر ، وما صنعت الشياطين المزامير والبرابط والصنوج إلا على أصناف صوته عليه السلام ، وكان شديد الاجتهاد ، وكان إذا افتتح الزبور بالقراءة كأنما ينفخ في المزامير ، وكان قد أعطي سبعين مزماراً في حلقه ، وقوله تعالى : { واعملوا صَالِحاً } أي في الذي أعطاكم الله تعالى من النعم { إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي مراقب لكم بصير بأعمالكم وأقوالكم لا يخفى عليّ من ذلك شيء .(1/2067)
وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ غُدُوُّهَا شَهْرٌ وَرَوَاحُهَا شَهْرٌ وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَمِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَمَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَاءُ مِنْ مَحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ وَجِفَانٍ كَالْجَوَابِ وَقُدُورٍ رَاسِيَاتٍ اعْمَلُوا آلَ دَاوُودَ شُكْرًا وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ (13)
لما ذكر تعالى ما أنعم به على ( داود ) عطف بذكر ما أعطى ابنه ( سليمان ) عليهما الصلاة والسلام ، من تسخير الريح له تحمل بساطه غدوها شهر ورواحها شهر ، قال الحسن البصري : كان يغدو على بساطه من دمشق فينزل بأصطخر يتغدى بها ، ويذهب رائحاً من إصطخر فيبيت بكابل ، وبين دمشق وإصطخر شهر كامل للمسرع ، وبين إصطخر وكابل شهر كامل للمسرع ، وقوله تعالى : { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر } قال ابن عباس رضي الله عنهما ومجاهد وغير واحد : القطر النحاس ، قال قتادة : وكانت باليمن فكل ما يصنع الناس مما أخرج الله تعالى لسليمان عليه السلام ، قال السدي : وإنما أسيلت له ثلاثة أيام ، وقوله تعالى : { وَمِنَ الجن مَن يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي وسخرنا له الجن يعملون بين يديه { بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي بقدره وتسخيره لهم بمشيئته ، ما يشاء من البنايات وغير ذلك { وَمَن يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنَا } أي ومن يعدل ويخرج منهم الطاعة { نُذِقْهُ مِنْ عَذَابِ السعير } وهو الحرق ، وقوله تعالى : { يَعْمَلُونَ لَهُ مَا يَشَآءُ مِن مَّحَارِيبَ وَتَمَاثِيلَ } أما المحاريب فهي البناء الحسن وهو أشرف شيء في المسكن وصدره ، وقال مجاهد : المحاريب بنيان دون القصور ، وقال الضحاك : هي المساجد ، وقال قتادة : هي القصور والمساجد ، وقال ابن زيد : هي المساكن ، وأما التماثيل ، فقال الضحاك والسدي : التماثيل الصور ، قال مجاهد : وكانت من نحاس وقال قتادة : من طين وزجاج . وقوله تعالى : { وَجِفَانٍ كالجواب وَقُدُورٍ رَّاسِيَاتٍ } الجواب جمع جابية وهي الحوض الذي يجبى فيه الماء ، قال الأعشى :
تروح على آل الملحق جفنة ... كجابية الشيخ العراقي تفهق
وقال ابن عباس { كالجواب } كالحياض ، والقدور الراسيات أي الثابتات في أماكنها لا تتحرك ولا تتحول عن أماكنها لعظمها ، وقال عكرمة : أثافيها منها ، وقوله تعالى : { اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } أي وقلنا لهم اعملوا شكراً على ما أنعم به عليكم في الدين والدنيا ، قال السلمي : الصلاة شكر ، والصيام شكر ، وكل خير تعمله لله عزَّ وجلَّ شكر ، وأفضل الشكر الحمد . وقال القرظي : الشكر تقوى الله تعالى والعمل الصالح ، وهذا يقال لمن هو متلبس بالفعل ، وقد كان آل داود عليهم السلام كذلك قائمين بشكر الله تعالى قولاً وعملاً ، قال ابن أبي حاتم عن ثابت البناني قال : كان داود عليه السلام قد جزأ على أهله وولده ونسائه الصلاة ، فكان لا تأتي عليهم ساعة من الليل والنهار إلا وإنسان من آل داود قائم يصلي فغمرتهم هذه الآية { اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } . وفي « الصحيحين » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وأحب الصيام إلى الله تعالى صيام داود ، كان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى » وقد روي عن جابر رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قالت أم سليمان بن داود عليهم السلام لسيلمان : يا بني لا تكثر النوم بالليل فإن كثرة النوم بالليل تترك الرجل فقيراً يوم القيامة » وقال فضيل في قوله تعالى : { اعملوا آلَ دَاوُودَ شُكْراً } قال : داود يا رب كيف أشكرك والشكر نعمة منك؟ قال : « الآن شكرتني حين علمت أن النعمة مني » ، وقوله تعالى : { وَقَلِيلٌ مِّنْ عِبَادِيَ الشكور } إخبار عن الواقع .(1/2068)
فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ (14)
يذكر تعالى كيفية موت سليمان عليه السلام ، وكيف عمّى الله موته على الجان المسخرين له في الأعمال الشاقة ، فإنه مكث متوكئاً على عصاه وهي منسأته مدة طويلة نحواً من سنة ، فلما أكلتها دابة الأرض وهي ( الأرضة ) ضعفت وسقط إلى الأرض وعلم أنه قد مات قبل ذلك بمدة طويلة ، وتبينت الجن والإنس أيضاً أن الجن لا يعملون الغيب كما كانوا يتوهمون ويهمون الناس ذلك .
قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال سليمان عليه السلام لملك الموت : إذا أمرت بي فأعلمني ، فأتاه فقال : يا سليمان قد أمرت بك قد بقيت لك سويعة ، فدعا الشياطين فبنوا عليه صرحاً من قوارير ، وليس له باب ، فقام يصلي فاتكأ على عصاه ، قال : فدخل عليه ملك الموت فقبض روحه وهو متكىء على عصاه ، ولم يصنع ذلك فراراً من ملك الموت ، قال : والجن تعمل بين يديه وينظرون إليه يحسبون أنه حي . قال : فبعث الله عزَّ وجلَّ دابة الأرض ، قال : والدابة تأكل العيدان يقال لها : القادح ، فدخلت فيها فأكلتها ، حتى إذا أكلت جوف العصا ضعفت وثقل عليها فخر ميتاً فلما رأت الجن ذلك انفضوا وذهبوا ، قال : فذلك قوله تعالى : { مَا دَلَّهُمْ على مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ } قال أصبغ : بلغني أنها قامت سنة تأكل منها قبل أن يخر ، وذكر غير واحد من السلف نحواً من هذا ، والله أعلم .(1/2069)
لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتَانِ عَنْ يَمِينٍ وَشِمَالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَاشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَأَثْلٍ وَشَيْءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُوا وَهَلْ نُجَازِي إِلَّا الْكَفُورَ (17)
كانت سبأ ملوك اليمن وأهلها ، وكانوا في نعمة وعبطة في بلادهم وعيشهم ، واتساع أرزاقهم وزروعهم وثمارهم ، وبعث الله وتبارك وتعالى إليهم الرسل تأمرهم أن يأكلوا من رزقه ويشكروه بتوحيده وعبادته ، فكانوا كذلك ما شاء الله تعالى ، ثم أعرضوا عما أمروا به ، فعوقبوا بإرسال السي والتفرق في البلاد أيدي سبأ شذر مذر ، كما سيأتي قريباً ، روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن وعلة قال : سمعت ابن عباس يقول : « إن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن سبأ ما هو أرجل أم امرأة أم أرض؟ قال صلى الله عليه وسلم : » بل هو رجل ولد له عشرة ، فسكن اليمن منهم ستة ، والشام منهم أربعة ، فأما اليمانيون فمذحج وكندة والأزد والأشعريون وأنمار وحمير ، وأما الشامية فلخم وجذام وعاملة وغسان « » ، قال علماء النسب : اسم سبأ ( عبد شمس بن يشجب بن يعرب بن قحطان ) وإنما سمي سبأ ، لأنه أول من سبأ في العرب ، ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : كان رجلاً من العرب « يعني من سلالة الخليل عليه السلام ، وفي » صحيح البخاري « » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم من ينفر من أسلم ينتضلون فقال : « ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً » ، فأسلم قبيلة من ( الأنصار ) والأنصار أوسها وخزرجها من غسان من عرب اليمن من سبأ ، نزلوا بيثرب لما تفرقت سبأ في البلاد حين بعث الله عزَّ وجلَّ عليهم سيل العرم ، ونزلت طائفة منهم بالشام ، وإنما قيل لهم غسان بماء نزلوا عليه قريب من المشلل ، كما قال حسان بن ثابت رضي الله عنه :
إما سألت فإنا معشر نجب ... الأزد نسبتنا والماء غسان
ومعنى قوله صلى الله عليه وسلم : « ولد له عشرة » أي كان من نسله هؤلاء العشرة الذين يرجع إليهم أصول القبائل من عرب اليمن ، لا أنهم ولدوا من صلبه ، بل منهم من بينه وبينه الأبوان والثلاثة والأقل والأكثر كما هو مقرر مبين في مواضعه من كتب النسب ، ومعنى قوله تعالى صلى الله عليه وسلم : « فتيامن منهم ستة وتشاءم منهم أربعة » أي بعدما أرسل الله تعالى عليهم سيل العرم ، منهم من أقام ببلادهم ، ومنهم من نزح عنها إلى غيرها ، وكان من أمر السد أنه كان الماء يأتيهم من بين جبلين ، وتجتمع إليه أيضاً سيول أمطارهم وأوديتهم ، فعمد ملوكهم الأقادم ، فبنوا بينهما سداً عظيماً محكماً ، حتى ارتفع الماء ، وحكم على حافات ذينك الجبلين ، فغرسوا الأشجار ، واستغلوا الثمار في غاية ما يكون من الكثرة والحسن ، كما ذكر غير واحد من السلف ، أن المرأة كانت تمشي تحت الأشجار وعلى رأسها مكتل أو زنبيل وهو الذي تخترف فيه الثمار فيتساقط من الأشجار في ذلك ما يملؤه ، من غير أن يحتاج إلى كلفة ولا قطاف ، لكثرته ونضجه واستوائه ، وكان هذا السد بمأرب .(1/2070)
ويذكر أنه لم يكن ببلدهم شيء من الذباب ولا البعوض ولا البراغيث ولا شيء من الهوام ، وذلك لاعتدال الهواء وصحة المزاج ، وعناية الله بهم ليوحدوه وبعبدوه ، كما قال تبارك وتعالى : { لَقَدْ كَانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ } ثم فسرها بقوله عزَّ وجلَّ { جَنَّتَانِ عَن يَمِينٍ وَشِمَالٍ } أي من ناحيتي الجبلين والبلدة بين ذلك ، { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَرَبٌّ غَفُورٌ } أي غفور لكم إن استمررتم على التوحيد ، وقوله تعالى : { فَأَعْرَضُواْ } أي عن توحيد الله وعبادته وشكره على ما أنعم به عليهم ، وعدلوا إلى عبادة الشمس من دون الله كما قال الهدهد لسليمان عليه الصلاة والسلام : { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } [ النمل : 22-24 ] قال السدي : أرسل الله عزَّ وجلَّ إليهم اثني عشر ألف نبي والله أعلم .
وقوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ سَيْلَ العرم } المراد بالعرم المياه ، وقيل : الوادي ، وقيل : الماء الغزير ، وذكر غير واحد منهم ابن عباس وقتادة والضحاك : أن الله عزَّ وجلَّ لما أراد عقوبتهم بإرسال العرم عليهم بعث على السد دابة من الأرض ، يقال لها الجرذ ، نقبته ، وانساب الماء في أسفل الوادي ، وخرب ما بين يديه من الأبنية والأشجار وغير ذلك ، ونضب الماء عن الأشجار التي في الجبلين عن يمين وشمال ، فيبست وتحطمت ، وتبدلت تلك الأشجار المثمرة الأنيقة النضرة ، كما قال الله تبارك وتعالى : { وَبَدَّلْنَاهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَوَاتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ } قال ابن عباس ومجاهد : هو الأراك وأكلة البربر { وَأَثْلٍ } هو الطرفاء ، وقال غيره : هو شجر يشبه الطرفاء ، وقيل : هو السمر والله أعلم ، وقوله : { وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } لما كان أجود هذه الأشجار المبدل بها هو السدر ، قال : { وَشَيْءٍ مِّن سِدْرٍ قَلِيلٍ } فهذا الذي صار أمر تينك الجنتين إليه ، بعد الثمار النضيجة والمناظر الحسنة والظلال العميقة والأنهار الجارية ، تبدلت إلى شجر الأراك والطرفاء والسدر ذي الشوك الكثير والثمر القليل ، وذلك بسبب كفرهم وشركهم بالله وتكذيبهم الحق وعدولهم عنه إلى الباطل ، ولهذا قال تعالى : { ذلك جَزَيْنَاهُمْ بِمَا كَفَرُواْ وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور } أي عاقبناهم بكفرهم ، قال مجاهد : ولا يعاقب إلا الكفور . وقال الحسن البصري : صدق الله العظيم لا يعاقب بمثل فعله إلا الكفور ، وقال ابن أبي جاتم عن ابن خيرة وكان من أصحاب علي رضي الله عنه قال : جزاء المعصية الوهن في العبادة ، والضيق في المعيشة ، والتعسر في اللذة ، قيل : وما التعسر في اللذة؟ قال : لا يصادف لذة حلال إلا جاءه من ينغصه إياها .(1/2071)
وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا قُرًى ظَاهِرَةً وَقَدَّرْنَا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّامًا آمِنِينَ (18) فَقَالُوا رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)
يذكر تعالى ما كانوا فيه من النعمة والغبطة والعيش الهني الرغيد ، والبلاد الرخية ، والأماكن الآمنة والقرى المتواصلة المتقاربة بعضها من بعض ، مع كثرة أشجارها وزروعها وثمارها ، بحيث إن مشافرهم لا يحتاج إلى حمل زاد ولا ماء ، بل حيث نزل وجد ماء وثمراً ، ويقيل في قرية ويبيت في أخرى بمقدار ما يحتاجون إليه في سيرهم ، ولهذا قال تعالى : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ القرى التي بَارَكْنَا فِيهَا } قال وهب بن منبه : هي قرى بصنعاء ، وقال مجاهد والحسن : هي قرى الشام ، يعنون أنهم كانوا يسيرون من اليمن إلى الشام في قرى ظاهرة متواصلة ، وقال ابن عباس : القرى التي باركنا فيها بيت المقدس ، وعنه : هي قرى عربية بين المدينة والشام { قُرًى ظَاهِرَةً } أي بينة واضحة يعرفها المسافرون ، يقيلون في واحدة ويبيتون في أخرى ، ولهذا قال تعالى : { وَقَدَّرْنَا فِيهَا السير } أي جعلنا بحسب ما يحتاج المسافرون إليه ، { سِيرُواْ فِيهَا لَيَالِيَ وَأَيَّاماً آمِنِينَ } أي الأمن حاصل لهم في سيرهم ليلاً ونهاراً ، { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وظلموا أَنفُسَهُمْ } وذلك أنهم بطروا هذه النعمة ، وأحبوا مفاوز ومهاومة ، يحتاجون في قطعها إلى الزاد والرواحل والسير في المخاوف ، كما طلب بنو إسرائيل من موسى أن يخرج الله لهم مما تنبت الأرض { مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } [ البقرة : 61 ] مع أنهم كانوا في عيش رغيد ، من مَن وسلوى وما يشتهون من مآكل ومشارب وملابس مرتفعة ، قال تعالى : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } [ النحل : 112 ] ، وقال تعالى في حق هؤلاء { فَقَالُواْ رَبَّنَا بَاعِدْ بَيْنَ أَسْفَارِنَا وظلموا أَنفُسَهُمْ } أي بكفرهم ، { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } أي جعلناهم حديثاً للناس ، وسمراً يتحدثون به من خبرهم ، وكيف مكر الله بهم وفرق شملهم بعد الاجتماع والألفة والعيش الهنيء تفرقوا في البلاد هاهنا وهاهنا ، ولهذا تقول العرب في القوم إذا تفرقوا : تفرقوا أيدي سبأ ، وأيادي سبأ ، وتفرقوا شذر ومذر ، قال الشعبي : أما غسان فلحقوا بعمان فمزقهم الله كل ممزق بالشام ، وأما الأنصار فلحقوا بيثرب ، وأما خزاعة فلحقوا بتهامة ، وأما الأزد لفحقوا بعمان فمزقهم الله كل ممزق .
وقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي إن في هذا الذي حل بهؤلاء من النقمة والعذاب ، وتبديل النعمة وتحويل العافية عقوبة على ما ارتكبوه من الكفر والآثام ، لعبرة لكل عبد صبار على المصائب ، شكور على النعم ، روى الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عجبت من قضاء الله تعالى للمؤمن إن أصابه خير حمد ربه وشكر ، وإن أصابته مصيبة حمد ربه وصبر ، يؤجر المؤمن في كل شيء حتى في اللقمة يرفعها إلى امرأته » ، وهذا الحديث له شاهد في « الصحيحين » من حديث أبي هريرة رضي الله عنه : « عجباً للمؤمن لا يقضي الله تعالى له قضاء إلا كان خيراً له ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له؛ وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له وليس ذلك لأحد إلا للمؤمن » ، قال قتادة : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } كان مطرف يقول : نعم العبد الصبار الشكور الذي إذا أعطي شكر ، وإذا ابتلي صبر .(1/2072)
وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلَّا فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (21)
لما ذكر تعالى قصة سبأ وما كان من أمرهم في اتباعهم الهوى والشيطان ، أخبر عنهم وعن أمثالهم ممن اتبع إبليس والهوى وخالف الرشاد والهدى فقال : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ } ، قال ابن عباس : هذه الآية كقوله تعالى أخباراً عن إبليس { أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] ، وقال { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } [ الأعراف : 17 ] والآيات في هذا كثيرة ، وقال الحسن البصري : لما أهبط الله آدم عليه الصلاة والسلام من الجنة ومعه حواء ، هبط إبليس فرحاً بما أصاب منهما ، وقال : إذا أصبت من الأبوين ما أصبت فالذرية أضعف وأضعف ، وكان ذلك ظناً من إبليس ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين } ، فقال عند ذلك إبليس : لا أفارق ابن آدم ما دام فيه الروح ، أعده وأمنيه وأخدعه ، فقال الله تعالى : « وعزتي وجلالي لا أحجب عنه التوبة ما لم يغرغر بالموت ، ولا يدعوني إلا أجبته ، ولا يسألني إلى أعطيته ، ولا يستغفرني إلا غفرت له » وقوله تبارك وتعالى : { وَمَا كَانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِّن سُلْطَانٍ } قال ابن عباس : أي من حجة ، وقال الحسن البصري : والله ما ضربهم بعصا ولا أكرههم على شيء ، وما كان إلا غروراً وأماني ، دعاهم إليها فأجابوه ، وقوله عزَّ وجلَّ : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يُؤْمِنُ بالآخرة مِمَّنْ هُوَ مِنْهَا فِي شَكٍّ } أي إما سلطناه عليه ليظهر أمر من هو مؤمن بالآخرة والحساب والجزاء ، فيحسن عبادة ربه عزَّ وجلَّ في الدنيا ممن هو منها في شك ، وقوله تعالى : { وَرَبُّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفُيظٌ } أي ومع حفظه ضل من ضل من أتباع إبليس ، ويحفظه وكلاءته سلم من سلم من المؤمنين أتباع الرسل .(1/2073)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَلَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ عِنْدَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23)
بين تبارك وتعالى أنه الإله الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لا نظير له ولا شريك ، بل المستقبل بالأمر وحده من غير مشارك ولا منازع ولا معارض ، فقال : { قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ الله } أي من الآلهة التي عبدت من دونه ، { لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } ، كما قال تعالى : { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } [ فاطر : 13 ] ، وقوله تعالى : { وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ } أي لا يملكون شيئاً استقالالاً ولا على سبيل الشركة { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ } أي وليس لله من هذه الأنداد من معين يستظهر به في الأمور ، بل الخلق كلهم فقراء إليه عبيد لديه ، قال قتادة في قوله عزَّ وجلَّ { وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ } من عون يعينه بشيء ، ثم قال تعالى : { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } أي لعظمته وجلاله وكبريائه ، لا يجترىء أحد أن يشفع عنده تعالى في شيء ، إلا بعد إذنه له في الشفاعة ، كما قال عزَّ وجلَّ : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] وقال جلَّ وعلا : { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى } [ النجم : 26 ] ، وقال تعالى : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 28 ] ولهذا ثبت في « الصحيحين » من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد ولد آدم ، وأكبر شفيع عند الله تعالى ، « أنه حين يقوم المقام المحمود ليشفع في الخلق كلهم ، قال : » فأسجد لله تعالى فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ويفتح عليَّ بمحامد لا أحصيها الآن ، ثم يقال يا محمد ارفع رأسك ، وقل تسمع وسل تعطه واشفع تشفع « » الحديث بتمامه . وقوله تعالى : { حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق } ، وهذا أيضاً مقام رفيع في العظمة ، وهو أنه تعالى إذا تكلم بالوحي فسمع أهل السماوات كلامه أرعدوا من الهيبة حتى يلحقهم مثل الغشي ، قال ابن مسعود { فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } أي زال الفزع منها ، وقال ابن عباس والضحاك والحسن وقتادة في قوله عزَّ وجلَّ : { حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق } يقول : خلي عن قلوبهم ، فإذا كان كذلك سأل بعضهم بعضاً : ماذا قال ربكم . فيخبر بذلك حملة العرش للذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم لمن تحتهم ، حتى ينتهي الخبر إلى أهل السماء الدنيا ، ولهذا قال تعالى : { قَالُواْ الحق } أي أخبروا بما قال من غير زيادة ولا نقصان { وَهُوَ العلي الكبير } .
وقال آخرون : بل معنى قوله تعالى : { حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } يعني المشركين عند الاحتضار ويوم القيامة ، إذا استيقظوا مما كانوا فيه من الغفلة في الدنيا ، قالوا : ماذا قال ربكم؟ فقيل لهم : الحق ، وأخبروا به مما كانوا عنه لاهين في الدنيا ، قال مجاهد { حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } كشف عنها الغطاء يوم القيامة ، وقال الحسن : { حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } يعني ما فيها من الشك والتكذيب ، وقال ابن أسلم { حتى إِذَا فُزِّعَ عَن قُلُوبِهِمْ } يعني ما فيها من الشك قال فزع الشيطان عن قلوبهم وفارقهم وأمانيهم وما كان يضلهم { قَالُواْ مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُواْ الحق وَهُوَ العلي الكبير } قال : وهذا في بني آدم هذا عند الموت أقروا حين لا ينفعهم الإقرار ، وقد اختار ابن جرير القول الأول أن الضمير عائد على ( الملائكة ) وهذا هو الحق الذي لا مرية فيه لصحة الأحاديث فيه الآثار ، قال البخاري عند تفسير هذه الآية الكريمة في « صحيحه » عن سفيان عن أبي هريرة رضي الله عنه أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال :(1/2074)
« إذا قضى الله تعالى الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله كأنه سلسلة على صفوان ، فإذا فزّع عن قلوبهم قالوا : مذا قال ربكم؟ قالوا للذي قال : الحق وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترق السمع ، ومسترق السمع هكذا بعضه فوق بعض ووصف سفيان بيده فحرفها ونشر بين أصابعه فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها وربما ألقاها قبل أن يدركه ، فيكذب معها مائة كذبة فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا ، كذا وكذا ، فيصدّق بتلك الكلمة التي سمت من السماء » . وعن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا أراد الله تبارك وتعالى أو يوحي بأمره تكلم بالوحي ، فإذا تكلم أخذت السماوات منه رجفة أو قال رعدة شديدة من خوف الله تعالى ، فإذا سمع بذلك أهل السماوات صعقوا وخروا لله سجداً ، فيكون أول من يرفع رأسه ( جبريل ) عليه الصلاة والسلام ، فيكلمه الله من وحيه بما أراد ، فيمضي به جبريل عليه الصلاة والسلام على الملائكة ، كلما مر بسماء سماء يسأله ملائكتها : ماذا قال ربنا يا جبريل ، فيقول عليه السلام : قال الحق وهو العلي الكبير ، فيقولون كلهم مثل ما قال جبريل ، فينتهي جبريل بالوحي إلى حيث أمره الله تعالى من السماء والأرض » .(1/2075)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لَا تُسْأَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنَا وَلَا نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَهُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26) قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَاءَ كَلَّا بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
يقول تعالى مقرراً تفرده بالخلق والرزق ، وانفراده بالإلهية أيضاً ، فكما كانوا يعترفون بأنهم لا يرزقهم من السماء والأرض إلا الله ، فكذلك فليعلموا أنه لا إله غيره ، وقوله تعالى : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي و احد من الفريقين مبطل ، والآخر محق ، لا سبيل إلى أن تكونوا أنتم ونحن على الهدى أو على الضلال ، بل واحد منا مصيب ، ونحن قد أقمنا البرهان على التوحيد فدل على بطلان ما أنتم عليه من الشرك بالله تعالى ، ولهذا قال : { وَإِنَّآ أَوْ إِيَّاكُمْ لعلى هُدًى أَوْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } قال قتادة قد قال ذلك أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم للمشركين ، والله ما نحن وإياكم على أمر واحد ، إنَّ أحد الفريقين لمهتد . وقال عكرمة : معناها إنا نحن لعلى هدى وإنكم لفي ضلال مبين ، وقوله تعالى : { قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ } معناه التبري منهم أي لستم منا و لا نحن منكم ، بل ندعوكم إلى الله تعالى وإلى توحيده وإفراده العبادة له ، فإن أجبتم فأنتم منا ونحن منكم ، وإن كذبتم فنحن برآء منكم وأنتم برآء منا كما قال تعالى : { وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس : 41 ] ، وقوله تعالى : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا } أي يوم القيامة يجمع بين الخلائق في صعيد واحد { ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق } أي يحكم بيننا بالعدل ، فيجزي كل عامل بعمله ، إن خيراً فيخر وإن شراً فشر ، وستعلمون يومئذ لمن العزة والنصرة والسعادة الأبدية ، كما قال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] ، ولهذا قال عزَّ وجلَّ : { وَهُوَ الفتاح العليم } أي الحاكم العادل العالم بحقائق الأمور ، وقوله تبارك وتعالى : { قُلْ أَرُونِيَ الذين أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكَآءَ } أي أروني هذه الآلهة التي جعلتموها لله أنداداً وصيرتموها له عدلاً ، { كَلاَّ } أي ليس له نظير ولا نديد ولا شريك ولا عديل ، ولهذا قال تعالى : { بَلْ هُوَ الله } أي الواحد الأحد الذي لا شريك له ، { العزيز الحكيم } أي ذو العزة الذي قد قهر بها كل شيء ، وغلبت كل شيء ، { الحكيم } في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ، تبارك وتعالى وتقدس عما يقولون علواً كبيراً .(1/2076)
وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (28) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعَادُ يَوْمٍ لَا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلَا تَسْتَقْدِمُونَ (30)
يقول تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم تسليماً { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيراً وَنَذِيراً } أي إلى جميع الخلائق من المكلفين كقوله تبارك وتعالى : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] ، { بَشِيراً وَنَذِير } أي تبشر من أطاعك بالجنة ، وتنذر من عصاك بالنار ، { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ، كقوله عزَّ وجلَّ : { وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] ، { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله } [ الأنعام : 116 ] ، قال محمد بن كعب : يعني إلى الناس عامة ، وقال قتادة : أرسل الله تعالى محمداً إلى العرب والعجم ، فأكرمهم على الله تبارك وتعالى أطوعهم لله عزَّ وجلَّ ، وقال ابن أبي حاتم عن عكرمة قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول : إن الله تعالى فضل محمداً صلى الله عليه وسلم على أهل السماء وعلى الأنبياء ، قالوا : يا ابن عباس فيم فضله على الأنبياء؟ قال رضي الله عنه إن الله تعالى قال : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ } [ إبراهيم : 4 ] وقال للنبي صلى الله عليه وسلم : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ كَآفَّةً لِّلنَّاسِ } فأرسله الله تعالى إلى الجن والإنس ، وهذا كما ثبت في « الصحيحين » ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى خاصة وبعثت إلى الناس عامة » ، وفي الصحيح أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « بعثت إلى الأسود والأحمر » قال مجاهد : يعني الجن والإنس ، وقال غيره يعني العرب والعجم ، والكل صحيح ، ثم قال عزَّ وجلَّ مخبراً عن الكفار في استبعادهم قيام الساعة : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وهذه الآية ، كقوله عزَّ وجلَّ : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } [ الشورى : 18 ] الآية ، ثم قال تعالى : { قُل لَّكُم مِّيعَادُ يَوْمٍ لاَّ تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ سَاعَةً وَلاَ تَسْتَقْدِمُونَ } أي لكم ميعاد مؤجل ، لا يزاد ولا ينقص ، فإذا جاء فلا يؤخر ساعة ولا يقدم ، كما قال تعالى : { إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } [ نوح : 4 ] ، وقال عزَّ وجلَّ : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 104-105 ] .(1/2077)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهَذَا الْقُرْآنِ وَلَا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَنْدَادًا وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (33)
يخبر تعالى عن تمادي الكفار في طغيانهم وعنادهم ، وإصرارهم على عدم الإيمان بالقرآن الكريم ، وبما أخبر به من أمر المعاد ، ولهذا قال تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَن نُّؤْمِنَ بهذا القرآن وَلاَ بالذي بَيْنَ يَدَيْهِ } قال الله عزَّ وجلَّ متهدداً لهم ومتوعداً ومخبراً عن مواقفهم الذليلة بين يديه في حال تخاصمهم وتحاجهم ، { يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا } وهم الأتباع { لِلَّذِينَ استكبروا } منهم وهم قادتهم وسادتهم : { لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } أي لولا أنتم تصدونا لكنا اتبعنا الرسل ، وآمنا بما جاءونا به ، فقال لهم القادة والسادة وهم الذين استكبروا { أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ } ، أي نحن ما فعلنا بكم أكثر من أنا دعوناكم فاتبعتمونا من غير دليل ولا برهان ، وخالفتم الأدلة والبراهين والحجج التي جاءت بها الرسل لشهوتكم واختياركم لذلك ، ولهذا قالوا : { بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ * وَقَالَ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } أي بل كنتم تمكرون بنا ليلاً ونهاراً ، وتغرّونا وتخبرونا أنا على هدلى وأنا على شيء ، فإذا جميع ذلك باطل وكذب مبين ، قال قتادة وابن زيد { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار } يقول : بل مكركم بالليل والنهار ، { إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } أي نظراء وآلهة معه وتقيموا لنا شبهاً وأشياء تضلونا بها ، { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } أي الجميع من السادة والأتباع كل ندم على ما سلف منه ، { إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } وهي السلاسل التي تجمع أيديهم مع أعناقهم ، { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي إنما نجازيكم بأعمالكم ، كلٌ بحسبه للقادة عذاب بحسبهم ، وللأتباع بحسبهم ، { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ] قال ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن جهنم لما سيق إليها أهلها تلقاهم لهبها ، ثم لفحتهم لفحة فلم يبق لحم إلا سقط على العرقوب » .(1/2078)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (34) وَقَالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (36) وَمَا أَمْوَالُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنَا زُلْفَى إِلَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ لَهُمْ جَزَاءُ الضِّعْفِ بِمَا عَمِلُوا وَهُمْ فِي الْغُرُفَاتِ آمِنُونَ (37) وَالَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (38) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)
يقول تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم ، وآمراً له بالتأسي بمن قبله من الرسل ، ومخبراً له بأنه ما بعث نبياً في قرية إلا كذبه مترفوها واتبعه ضعفاءهم ، كما قال قوم نوح : { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] ، وقال الكبراء من قوم صالح : { لِلَّذِينَ استضعفوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ * قَالَ الذين استكبروا إِنَّا بالذي آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [ الأعراف : 75-76 ] ، وقال تعالى : { وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } [ الأنعام : 123 ] ، وقال جلَّ وعلا : { وَإِذَآ أَرَدْنَآ أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا القول فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً } [ الإسراء : 16 ] ، وقال جلَّ وعلا هاهنا : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ } أي نبي أو رسول { إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ } وهم أولوا النعمة والحشمة والثروة والرياسة ، قال قتادة : هم جبابرتهم وقادتهم ورؤوسهم في الشر { إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } أي لا نؤمن به ولا نتبعه ، عن أبي رزين قال : « كان رجلان شريكان خرج أحدهما إلى الساحل وبقي الآخر ، فلما بعث النبي صلى الله عليه وسلم كتب إلى صاحبه يسأله ما فعل ، فكتب إليه إنه لم يتبعه أحد من قريش إنما اتبعه أراذل الناس ومساكينهم ، قال : فترك تجارته ثم أتى صاحبه ، فقال؛ دلني عليه ، وكان يقرأ الكتب أو بعض الكتب ، قال : فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إلامَ تدعو؟ قال : » أدعوا إلى كذا وكذا « قال أشهد أنك رسول الله ، قال صلى الله عليه وسلم : » وما علمك بذلك «؟ قال : إنه لم يبعث نبي إلا اتبعه أراذل الناس ومساكينهم » ، قال : فنزلت هذه الآية : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } ، وهكذا قال هرقل لأبي سفيان حين سأله عن تلك المسائل قال فيها : وسألتك أضعفاء الناس اتبعه أم أشرافهم ، فزعمت بن ضعفاؤهم وهم أتباع الرسل . وقال تبارك وتعالى إخباراً عن المتفرقين المكذبين : { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } أي افتخروا بكثرة الأموال والأولاد ، واعتقدوا أن ذلك دليل على محبة الله تعالى لهم واعتنائه بهم ، وأنه ما كان ليعطيهم هذا في الدنيا ثم يعذبهم في الآخرة ، وهيهات لهم ذلك ، قال الله تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55-56 ] ، وقال تبارك وتعالى : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 55 ] ، ولهذا قال عزَّ وجلَّ هاهنا : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } أي يعطي المال لمن يحب ومن لا يحب ، فيفقر من يشاء ويغني من يشاء ، وله الحكمة التامة البالغة ، والحجة القاطعة الدامغة { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ، ثم قال تعالى : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى } أي ليست هذه دليلاً على محبتنا لكم ولا اعتنائنا بكم ، ولهذا قال الله تعالى : { إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } أي إنما يقربكم عندنا زلفى الإيمانُ والعمل الصالح { فأولئك لَهُمْ جَزَآءُ الضعف بِمَا عَمِلُواْ } أي تضاعف لهم الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف { وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ } أي في منازل الجنة العالية { آمِنُونَ } من كل بأس وخوف وأذى ، ومن كل شر يحذر منه .(1/2079)
عن علي رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » إن في الجنة لغرفاً ترى ظهورها من بطونها وبطونها من ظهورها « فقال أعرابي : لمن هي؟ قال صلى الله عليه وسلم : » لمن طيّب الكلام ، وأطعم الطعام ، وآدام الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام « » { والذين يَسْعَوْنَ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } أي يسعون في الصد عن سبيل الله واتباع رسله والتصديق بآياته ، { أولئك فِي العذاب مُحْضَرُونَ } أي جميعهم مجزيون بأعمالهم فيها بحسبهم ، وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ } اي بحسب ما له في ذلك من الحكمة ، يبسط على هذا من المال كثيراً ، ويضيّ على هذا ويقتر عليه رزقه جداً ، وله في ذلك من الحكمة ما لا يدركه غيره ، كما قال تعالى : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 21 ] أي كما هم متفاوتون في الدنيا هذا فقير مدقع وهذا غني موسع عليه ، فكذلك هم في الآخرة ، هذا في الغرفات في أعلى الدرجات ، وهذا في الغمرات في أسفل الدركات ، وأطيب الناس في الدنيا ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « قد أفلح من أسلم ورزق كفافاً وقنعه الله بما آتاه » ، وقوله تعالى : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } أي مهما أنفقتم من شيء فيما أمركم به ، فهو يخلفه عليكم في الدنيا بالبذل ، وفي الآخرة بالجزاء والثواب ، كما ثبت في الحديث : « يقول الله تعالى أنفق أُنفق عليك » ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنفق بلالاً ، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً » ، وعن حديفة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا إن بعد زمانكم هذا زمان عضوض بعض الموسر على ما في يده حذار الإنفاق » ، ثم تلا هذه الآية { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين } ، وفي الحديث : « شرار الناس يبايعون كل مضطر ، ألا إن بيع المضطرين حرام ، ألا إن بيع المضطرين حرام ، المسلم أخو المسلم لا يظلمه ، ولا يخذله ، إن كان عندك معروف فعد به على أخيك ، وإلا فلا تزده هلاكاً إلى هلاكه » ، وقال مجاهد : لا يتأولن أحدكم هذه الآية { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } إذا كان عند أحدكم ما يقيمه فليقصد فيه فإن الرزق مقسوم .(1/2080)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاءِ إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ (40) قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنَا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لَا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (42)
يخبر تعالى أنه يقرّع المشركين يوم القيامة على رؤوس الخلائق ، فيسأل الملائكة الذين كان المشركون يزعمون أنهم يعبدون الأنداد التي هي على صورهم ليقربوهم إلى الله زلفى ، فيقول للملائكة { أهؤلاء إِيَّاكُمْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ } أي أنتم أمرتم هؤلاء بعبادتكم ، كما قال تعالى في سورة الفرقان { أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السبيل } [ الفرقان : 17 ] ، وكما يقول لعيسى عليه الصلاة والسلام : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } [ المائدة : 116 ] ، وهكذا تقول الملائكة : { سُبْحَانَكَ } أي تعاليت وتقدست عن أن يكون معك إله { أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ } أي نحن عبيدك ونبرأ إليك من هؤلاء ، { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن } يعنون الشياطين لأنهم هم الذين زينوا لهم عبادة الأوثان وأضلوهم { أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } ، كما قال تبارك وتعالى : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً * لَّعَنَهُ الله } [ النساء : 117-118 ] ، قال الله عزَّ وجلَّ : { فاليوم لاَ يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَّفْعاً وَلاَ ضَرّاً } أي لا يقع لكم نفع ممن كتم ترجون نفعه اليوم ، من الأنداد والأوثان التي ادخرتم عبادتها لشدائدكم وكربكم ، اليوم لا يملكون لكم نفعاً ولا ضراً ، { وَنَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } وهم المشركون { ذُوقُواْ عَذَابَ النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً .(1/2081)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُكُمْ وَقَالُوا مَا هَذَا إِلَّا إِفْكٌ مُفْتَرًى وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَمَا آتَيْنَاهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَا أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا بَلَغُوا مِعْشَارَ مَا آتَيْنَاهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (45)
يخبر تعالى عن الكفار أنهم يستحقون العقوبة والأليم من العذاب ، لأنهم كانوا إذا تتلى عليهم آياته بينات ، يسمعوننها غضة طرية من لسان رسوله صلى الله عليه وسلم { قَالُواْ مَا هذا إِلاَّ رَجُلٌ يُرِيدُ أَن يَصُدَّكُمْ عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُكُمْ } يعنون أن دين آبائهم هو الحق ، وأن ما جاءهم به الرسول عندهم باطل ، { وَقَالُواْ مَا هاذآ إِلاَّ إِفْكٌ مُّفْتَرًى } يعنون القرآن ، { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَهُمْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ، قال الله تعالى : { وَمَآ آتَيْنَاهُمْ مِّنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَهَا وَمَآ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِّن نَّذِيرٍ } أي ما أنزل الله على العرب من كتاب قبل القرآن ، وما أرسل إليهم نبياً قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد كانوا يودون ذلك ويقولون : لو جاءنا نذير ، أو أنزل علينا كتاب ، لكنا أهدى من غيرنا ، فلما منَّ الله عليهم بذلك كذبوه وجحدوه وعاندوه ، ثم قال تعالى : { وَكَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبلِهِمْ } أي من الأمم { وَمَا بَلَغُواْ مِعْشَارَ مَآ آتَيْنَاهُمْ } ، قال ابن عباس : أي من القوة في الدنيا ، كما قال تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً } [ غافر : 82 ] أي وما دفع ذلك عنهم عذاب الله ولا رده ، بل دمر الله عليهم لما كذبوا رسله ، ولهذا قال : { فَكَذَّبُواْ رُسُلِي فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي فكيف كان عقابي ونكالي وانتصاري لرسلي .(1/2082)
قُلْ إِنَّمَا أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنَى وَفُرَادَى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (46)
يقول تبارك وتعالى : قل يا محمد لهؤلاء الكافرين الزاعمين أنك مجنون : { إِنَّمَآ أَعِظُكُمْ بِوَاحِدَةٍ } أي إنما آمركم بواحدة ، وهي { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } أي تقوموا قياماً خالصاً لله عزَّ وجلَّ من غير هوى ولا عصبية فيسأل بعضكم بعضاً : هل بمحمد من جنون؟ فينصح بعضكم بعضاً ، { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } أي ينظر الرجل لنفسه في أمر محمد صلى الله عليه وسلم ، ويسأل غيره من الناس عن شأنه إن أشكل عليه ويتفكر في ذلك ، ولهذا قال تعالى : { أَن تَقُومُواْ لِلَّهِ مثنى وفرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ } ، وقوله تعالى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } ، قال البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : « صعد النبي صلى الله عليه وسلم الصفا ذات يوم فقال : » يا صباحاه « فاجتمعت إليه قريش فقالوا : مالك؟ فقال : » أرأيتم لو أخبرتكم أن العدو يصبحكم أو يمسيكم أما تصدقوني « قالوا : بلى؟ قال صلى الله عليه وسلم : » فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد « ، فقال أبو لهب : تباً لك ألهذا جمعتنا؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } » [ المسد : 1 ] ، وقد تقدم عند قوله تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] . وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن بريدة عن أبيه رضي الله عنه قال : « خرج إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فنادى ثلاث مرات فقال : » أيها الناس تدرون ما مثلي ومثلكم «؟ قالوا : الله تعالى ورسوله أعلم ، قال صلى الله عليه وسلم : » إنما مثلي ومثلكم مثل قوم خافوا عدواً يأتيهم ، فبعثوا رجلاً يتراءى لهم ، فينما هو كذلك أبصر العدو ، فأقبل لينذرهم وخشي أن يدركه العدو قبل أن ينذر قومه فأهوى بثوبه : أيها الناس أوتيتم ، أيها الناس أوتيتم « ثلاث مرات » .(1/2083)
قُلْ مَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَمَا يُبْدِئُ الْبَاطِلُ وَمَا يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّمَا أَضِلُّ عَلَى نَفْسِي وَإِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين : { مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ } ، أي لا أريد منكم جعلاً ولا عطاء على أداء رسالة الله عزَّ وجلَّ إليكم ، ونصحي إياكم وأمركم بعبادة الله { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله } ، أي إنما أطلب ثواب ذلك من عند الله { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } أي عالم بجميع الأمور بما أنا عليه من إخباري عنه بإرساله إياي إليكم وما أنتم عليه ، وقوله عزَّ وجلَّ : { قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بالحق عَلاَّمُ الغيوب } ، كقوله تعالى : { يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ غافر : 15 ] أي يرسل الملك إلى من يشاء من عباده من أهل الأرض ، وهو علام الغيوب ، فلا تخفى عليه خافية في السماوات ولا في الأرض ، وقوله تبارك وتعالى : { قُلْ جَآءَ الحق وَمَا يُبْدِىءُ الباطل وَمَا يُعِيدُ } أي جاء الحق من الله والشرع العظيم ، وذهب الباطل واضمحل ، كقوله تعالى : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } [ الأنبياء : 18 ] ، ولهذا « لما دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم المسجد الحرام يوم الفتح ، ووجد تلك الأصنام منصوبة حول الكعبة ، جعل يطعن الصنم منها ويقرأ : { وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل إِنَّ الباطل كَانَ زَهُوقاً } [ الإسراء : 81 ] ، { قُلْ جَآءَ الحق وَمَا يُبْدِىءُ الباطل وَمَا يُعِيدُ } » وعن ابن مسعود رضي الله عنه : أي لم يبق للباطل مقالة ولا رياسة ولا كلمة ، وزعم قتادة والسدي أن المراد بالباطل هاهنا إبليس أي أنه لا يخلق أحداً ولا يعيده ولا يقدر على ذلك ، وهذا وإن كان حقاً ، ولكن ليس هو المراد هاهنا والله أعلم ، وقوله تبارك وتعالى : { قُلْ إِن ضَلَلْتُ فَإِنَّمَآ أَضِلُّ على نَفْسِي وَإِنِ اهتديت فَبِمَا يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي } أي الخير كله من عند الله وفيما أنزل الله عزَّ وجلَّ ، من الوحي والحق المبين ، فيه الهدى والبيان والرشاد ، ومن ضل فإنما يضل من تلقاء نفسه ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ } أي سميع لأقوال عباده { قَرِيبٌ } يجيب دعوة الداعي إذا دعاه ، وقد روي في « الصحيحين » : « إنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً قريباً مجيباً » .(1/2084)
وَلَوْ تَرَى إِذْ فَزِعُوا فَلَا فَوْتَ وَأُخِذُوا مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (51) وَقَالُوا آمَنَّا بِهِ وَأَنَّى لَهُمُ التَّنَاوُشُ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (52) وَقَدْ كَفَرُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ وَيَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (53) وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)
يقول تبارك وتعالى : ولو ترى يا محمد إذا فزع هؤلاء المكذبون يوم القيامة { فَلاَ فَوْتَ } أي فلا مفر لهم ولا وزر لهم ولا ملجأ { وَأُخِذُواْ مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } أي لم يمكنوا أن يمعنوا في الهرب ، بل أخذوا من أول وهلة ، قال الحسن البصري : حين خرجوا من قبورهم ، وقال مجاهد وقتادة : من تحت أقدامهم ، وعن ابن عباس والضحاك : يعني عذابهم في الدنيا ، وقال عبد الرحمن بن زيد : يعني قتلهم يوم بدر ، والصحيح أن المراد بذلك يوم القيامة وهو الطامة العظمى ، وإن كان ما ذكر متصلاً بذلك؛ { وقالوا آمَنَّا بِهِ } أي يوم القيامة يقولون آمنا بالله ورسله كما قال تعالى : { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة : 12 ] ، ولهذا قال تعالى : { وأنى لَهُمُ التناوش مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } أي وكيف لهم تعاطي الإيمان ، وقد بعدوا عن محل قبوله منهم ، وصاروا إلى الدار الآخرة ، وهي ( دار الجزاء ) لا دار الابتلاء؟ فلو كانوا آمنوا في الدنيا لكان ذلك نافعهم ، ولكن بعد مصيرهم إلى الدار الآخرة لا سبيل لهم إلى قبول الإيمان ، قال مجاهد : { وأنى لَهُمُ التناوش } قال : التناول لذلك ، وقال الزهري : التناوش تناولهم الإيمان وهم في الآخرة ، وقد انقطعت عنهم الدنيا ، وقال الحسن البصري : أما إنهم طلبوا الأمر من حيث لا ينال ، تعاطوا الإيمان من مكان بعيد ، وقال ابن عباس : طلبوا الرجعة إلى الدنيا والتوبة مما هم فيه وليس بحين رجعة ولا توبة .
وقوله تعالى : { وَقَدْ كَفَرُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } أي كيف يحصل لهم الإيمان في الآخرة ، وقد كفروا بالحق في الدنيا وكذبوا الرسل ، { وَيَقْذِفُونَ بالغيب مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } يعني بالظن ، كما قال تعالى : { رَجْماً بالغيب } [ الكهف : 22 ] فتارة يقولون شاعر ، وتارة يقولون كاهن ، وتارة يقولون ساحر ، وتارة يقولون مجنون ، إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة ، ويكذبون بالبعث والنشور والمعاد ، ويقولون { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } [ الجاثية : 32 ] قال قتادة ومجاهد : يرجمون بالظن ، لا بعث ولا جنة ولا نار ، وقوله تعالى : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } قال الحسن البصري والضحاك وغيرهما : يعني الإيمان ، وقال السدي : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } وهي التوبة ، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله ، وقال مجاهد : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } من هذه الدنيا من مال وزهرة وأهل ، والصحيح أنه لا منافاة بين القولين فإنه قد حيل بينهم وبين شهواتهم في الدنيا وبين ما طلبوه في الآخرة فمنعوا منه . وقوله تعالى : { كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ } أي كما جرى للأمم الماضية المكذبة بالرسل لما جاءهم بأس الله ، تمنوا أن لو آمنوا فلم يقبل منهم { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون } [ غافر : 85 ] ، وقوله تبارك وتعالى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ فِي شَكٍّ مَّرِيبٍ } أي كانوا في الدنيا في شك وريبة فلهذا لم يتقبل منهم الإيمان عند معاينة العذاب ، قال قتادة : إياكم والشك والريبة ، فإن من مات على شك بعث عليه ، ومن مات على يقين بعث عليه .(1/2085)
الْحَمْدُ لِلَّهِ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَاعِلِ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (1)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : كنت لا أدري ما فاطر السماوات والأرض حتى أتاني أعرابيان يختصمان في بئر ، فقال أحدهما لصاحبه : أنا فطرتها أي بدأتها ، وقال ابن عباس : { فَاطِرِ السماوات والأرض } : أي بديع السماوات والأرض ، وقال الضحاك : كل شيء في القرآن فاطر السماوات والأرض : فهو خالق السماوات والأرض ، وقوله تعالى : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً } أي بينه وبين أنبيائه ، { أولي أَجْنِحَةٍ } أي يطيرون بها ليبلغوا ما أمروا به سريعاً { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } أي منهم من له جناحان ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ومنهم من له أكثر من ذلك ، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى جبريل عليه السلام ( ليلة الإسراء ) وله ستمائة جناح بين كل جناحين كما بين المشرق والمغرب ، ولهذا قال جلَّ ونعلا : { يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِي } قال السدي : يزيد في الأجنحة وخلقهم ما يشاء ، وقال الزهري : { يَزِيدُ فِي الخلق مَا يَشَآءُ } يعني حسن الصوت .(1/2086)
مَا يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلَا مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلَا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)
يخبر تعالى أنه ما شاء وما لم يشأ لم يكن ، وأنه لا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، روي « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كان يقول إذا انصرف من الصلاة » لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، اللهم لا مانع لمن أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد « » ، وفي « صحيح مسلم » عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع يقول : » سمع الله لمن حمده ، اللهم ربنا لك الحمد ملء السماوات والأرض ، وملء ما شئت من شيء بعد ، اللهم أهل الثناء والمجد ، أحق ما قال العبد وكلنا لك عبد ، الله لا مانع لما أعطيت ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد « » هذه الآية كقوله تبارك وتعالى : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ } [ يونس : 107 ] ولها نظائر كثيرة .(1/2087)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)
ينبه تعالى عباده ويرشدهم إلى الاستدلال على توحيده ، في إفراد العبادة له ، كما أنه المستقل بالخلق والرزق ، فكذلك فليفرد بالعبادة ولا يشرك به غيره من الأصنام والأنداد والأوثان ، ولهذا قال تعالى : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ فأنى تُؤْفَكُونَ } أي فكيف تؤفكون بعد هذا البيان ، ووضوح هذا البرهان ، وأنتم بعد هذا تعبدون الأنداد والأوثان؟ والله أعلم .(1/2088)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ (6)
يقول تبارك وتعالى : وإن يكذبوك يا محمد هؤلاء المشركون بالله ويخالفوك فيما جئتهم به من التوحيد ، فلك فيمن سلف قبلك من الرسل أسوة ، فإنهم كذلك جاءوا قومهم بالبينات ، وأمروهم بالتوحيد فكذبوهم وخالفوهم ، { وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } أي وسنجزيهم على ذلك أوفر الجزاء ، ثم قال تعالى : { ياأيها الناس إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي المعاد كائن لا محالة ، { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا } أي العيشة الدنيئة ، بالنسبة إلى ما أعد الله لأوليائه وأتباع رسله من الخير العظيم ، فلا تتلهوا عن ذلك الباقي بهذه الزهرة الفانية ، { وَلاَ يَغُرَّنَّكُمْ بالله الغرور } وهو الشيطان ، أي لا يفتنكم الشيطان ويصرفكم عن اتباع الله وتصديق كلماته ، فإنه غرار كذاب أفاك . وهذه كالآية التي في آخر لقمان : { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور } [ لقمان : 33 ] ، وقال زيد بن أسم : هو الشيطان ، كما قال المؤمنون للمنافقين يوم القيامة { وَغرَّتْكُمُ الأماني حتى جَآءَ أَمْرُ الله وَغَرَّكُم بالله الغرور } [ الحديد : 14 ] ثم بيَّن تعالى عداوة إبليس لابن آدم ، فقال : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً } أي هو مبارز لكم بالعداوة ، فعادوه أنتم أشد العداوة وخالفوه ، وكذبوه فيما يغركم به ، { إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير } أي إنما يقصد أن يضلكم حتى تدخلوا معه إلى عذاب السعير ، فهذا هو العدو المبين ، وهذه كقوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } [ الكهف : 50 ] .(1/2089)
الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَفَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَنًا فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (8)
لما ذكر تعالى أن أتباع إبليس مصيرهم إلى السعير ، ذكر بعد ذلك أن الذين كفروا لهم عذاب شديد لأنهم أطاعوا الشيطان وعصوا الرحمن ، وأن الذين آمنوا بالله ورسوله { وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ } أي لما كان منهم من ذنب { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } على ما عملوه من خير ، ثم قال تعالى : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً } يعني كالكفار والفجار ، يعملون أعمالاً سيئة وهم في ذلك يعتقدون ويحسبون أنهم يحسنون صنعاً ، أي فمن كان هكذا قد أضله الله ، ألك فيه حيلة؟ { فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } أي بقدره كان ذلك ، { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } أي لا تأسف على ذلك ، فإن الله حكيم في قدره ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } ، روى ابن أبي حاتم عند هذه الآية عن عبد الله بن الديلمي قال : أتيت عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما وهو في حائظ بالطائف يقال له الوهط ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة ، ثم ألقى عليهم من نوره ، فمن أصابه من نوره يومئذ فقد اهتدى ، ومن أخطأه منه ضل ، فلذلك أقول : جف القلم على ما علم الله عزَّ وجلَّ » .(1/2090)
وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ (9) مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَالَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئَاتِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُولَئِكَ هُوَ يَبُورُ (10) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجًا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلَا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11)
كثيراً ما يستدل تعالى على المعاد بإحيائه الأرض بعد موتها ، ينبه عباده أن يعتبروا بهذا على ذلك ، فإن الأرض تكون ميتة هامدة لا نبات فيها ، فإذا أرسل إليها السحاب تحمل الماء وأنزله عليها ، { اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] ، كذلك الأجساد إذا أراد الله تعالى بعثها ونشورها أنزل من تحت العرش مطراً يعم الأرض جميعاً ، ونبتت الأجساد في قبورها كما تنبت الحبة في الأرض ، ولهذا جاء في الصحيح : « كل ابن آدم يبلى إلا عَجْبَ الذنب ، منه خلق ومنه يركب » ، ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ النشور } وتقدم في الحج حديث أبي رزين ، قلت : « يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى؟ وما آية ذلك في خلقه؟ قال صلى الله عليه وسلم : » يا أبا رزين أما مررت بوادي قومك ممحلاً ثم مررت به يهتز خضراً « قلت : بلى ، قال صلى الله عليه وسلم : » فكذلك يحيي الله الموتى « » ، وقوله تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } أي من كان يحب أن يكون عزيزاً في الدنيا والآخرة فليلزم طاعة الله تعالى فإنه يحصل له مقصوده ، لأن الله تعالى مالك الدنيا والآخرة ، وله العزة جميعاً ، كما قال تعالى : { أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة فَإِنَّ العزة للَّهِ جَمِيعاً } [ النساء : 139 ] ، وقال عزَّ وجلَّ : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ } [ المنافقون : 8 ] قال مجاهد : { مَن كَانَ يُرِيدُ العزة } بعبادة الأوثان { فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } ، وقال قتادة : { مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } أي فليتعزز بطاعة الله عزَّ وجلَّ ، وقوله تبارك وتعالى : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب } يعني الذكر والتلاوة والدعاء؛ روى ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : إذا حدثناكم بحديث أتيناكم بتصديق ذلك من كتاب الله تعالى ، إن العبد المسلم إذا قال : سبحان الله وبحمده والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر تبارك الله ، أخذهن ملك فجعلهن تحت جناحه ، ثم صعد بهن إلى السماء فلا يمر بهن على جمع من الملائكة إلا استغفروا لقائلهن ، حتى يجيء بهن وجه الله عزَّ وجلَّ ، ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه : { إِلَيْهِ يَصْعَدُ الكلم الطيب والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } . وقال كعب الأحبار : إن لسبحانه الله ، والحمد لله ، ولا إله إلا الله ، والله أكبر ، لدوياً حول العرش كدوي النحل ، يذكرن لصاحبهن ، والعمل الصالح في الخزائن .
وقوله تعالى : { والعمل الصالح يَرْفَعُهُ } قال ابن عباس : الكلم الطيب ذكر الله تعالى يصعد به إلى الله عزَّ وجلَّ ، والعمل الصالح أداء الفريضة ، فمن ذكر الله تعالى في أداء فرائضه حمل عمله ذكر الله تعالى يصعد به إلى الله عزَّ وجلَّ ، ومن ذكر الله تعالى ولم يؤد فرائضه رد كلامه على عمله فكان أولى به ، وكذا قال مجاهد : العمل الصالح يرفع الكلام الطيب ، وقال إياس بن معاوية : لولا العمل الصالح لم يرفع الكلام ، وقال الحسن وقتادة : لا يقبل قول إلا بعمل ، وقوله تعالى : { والذين يَمْكُرُونَ السيئات } قال مجاهد : هم المراؤون بأعمالهم يعني يمكرون بالناس ، يوهمون أنهم في طاعة الله تعالى وهم بغضاء إلى الله عزَّ وجلَّ يراؤون بأعمالهم(1/2091)
{ وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 142 ] ، وقال ابن أسلم : هم المشركون ، والصحيح أنها عامة ، والمشركون داخلون بطريق الأولى ، ولهذا قال تعالى : { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَكْرُ أُوْلَئِكَ هُوَ يَبُورُ } أي يفسد ويبطل ، ويظهر زيفهم عن قريب لأولي البصائر والنُّهَى ، فإنه ما أسر أحد سريرة إلا أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه ، وما أسر أحد سريرة إلا كساه الله تعالى رداءها إن خيرا فخير ، وإن شراً فشر ، فالمرائي لا يروج أمره ويستمر إلا على غبي ، أما المؤمنون المتفرسون فلا يروج ذلك عليهم بل ينكشف لهم عن قريب ، وعالم الغيب لا تخفى عليه خافية ، وقوله تبارك وتعالى : { والله خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي ابتدأ خلق أبيكم آدم من تراب ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، { ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْوَاجاً } أي ذكراً وأنثى لطفاً منه ورحمة أن جعل لكم أزواجاً من جنسكم لتسكنوا إليها ، وقوله عزَّ وجلَّ : { وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أي هو عالم بذلك لا يخفى عليه من ذلك شيء بل { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] ، وقد تقدم الكلام على قوله تعالى : { الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } [ الرعد : 8 ] وقوله عزَّ وجلَّ : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } أي ما يعطى بعض النطف من العمر الطويل بعلمه وهو عنده في الكتاب الأول { وَماَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } الضمير عائد على الجنس ، لأن الطويل العمر في الكتاب وفي علم الله تعالى لا ينقص من عمره ، وإنما عاد الضمير على الجنس . قال ابن جرير : وهذا كقولهم عندي ثوب ونصفه ، أي ونصف ثوب آخر .
وروي عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } الآية ، يقول : ليس أحد قضيت له بطول العمر والحياة إلا وهو بالغ ما قدرت له من العمر ، وقد قضيت ذلك له ، فإنما ينتهي إلى الكتاب الذي قدرت لا يزاد عليه ، وليس أحد قدرت له أنه قصير العمر ، والحياة ببالغ العمر ، ولكن ينتهي إلى الكتاب الذي كتبت له ، فذلك قوله تعالى : { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } يقول : كل ذلك في كتاب عنده ، وقال زيد بن أسلم { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } قال : ما لفظت الأرحام من الأولاد من غير تمام وقال عبد الرحمن في تفسيرها ، ألا ترى الناس يعيش الإنسان مائة سنة وآخر يموت حين يولد فهذا هذا ، وقال قتادة : والذي ينقص من عمره فالذي يموت قبل ستين سنة .(1/2092)
وقال مجاهد { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } أي في بطن أمه يكتب له ذلك لم يخلق الخلق على عمر واحد ، بل لهذا العمر ، ولهذا عمر ، فكل ذلك مكتوب لصاحبه بالغ ما بلغ ، وقال بعضهم : بل معناه { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ } أي ما يكتب من الأجل { وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ } وهو ذهابه قليلاً قليلاً الجميع معلوم عند الله تعالى سنة بعد سنة وشهراً بعد شهر ، وجمعة بعد جمعة ، وساعة بعد ساعة الجميع مكتوب عند الله تعالى في كتابه ، نقله ابن جرير عن أبي مالك ، واختار ابن جرير الأول ، ويؤيده عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من سره أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره فليصل رحمه » ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : ذكرنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إن الله تعالى لا يؤخر نفساً إذا أجلها ، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها العبد فيدعون له من بعده فيلحقه دعاؤهم في قبره فذلك زيادة العمر » ، وقوله عزَّ وجلَّ : { إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } أي سهل عليه يسير لديه ، فإن علمه شامل للجميع لا يخفى عليه شيء منها .(1/2093)
وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَوَاخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12)
يقول تعالى منبهاً على قدرته العظيمة في خلقه الأشياء المختلفة ، خلق البحرين العذب الزلال ، وهو هذه الأنهار السارحة بين الناس من كبار وصغار ، بحسب الحاجة إليها في الأقاليم والأمصار ، وهي عذبة سائغ شرابها لمن أراد ذلك { وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي مر وهو البحر الساكن الذي تسير فيه السفن الكبار ، وإنما تكون مالحة زُعاقاً مرة ، ولهذا قال : { وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي مر ، ثم قال تعالى : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً } يعني السمك { وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } ، كما قال عزَّ وجلَّ : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ، وقوله جلَّ وعلا : { وَتَرَى الفلك فِيهِ مَوَاخِرَ } أي تمخره وتشقه بحيزومها وهو مقدمها المسنم الذي يشبه جؤجؤ الطير وهي صدره ، وقال مجاهد : تمخر الريح السفن ولا يمخر الريح من السفن إلا العظام ، وقوله جلَّ وعلا : { لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي بأسفاركم بالتجارة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم ، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تشكرون ربكم على تسخيره لكم هذا الخلق العظيم وهو البحر ، تتصرفون فيه كيف شئتم وتذهبون أين أردتم ، ولا يمتنع عليكم شيء منه ، الجميع من فضله ورحمته .(1/2094)
يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مَا يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لَا يَسْمَعُوا دُعَاءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجَابُوا لَكُمْ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَلَا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)
وهذا أيضاً من قدرته التامة وسلطانه العظيم ، في تسخيره الليل بظلامه والنهار بضيائه ، ويأخذ من طول هذا فيزيده في قصر هذا فيعتدلان ، ثم يأخذ من هذا في هذا فيطول هذا ويقصر هذا ، ثم يتقارضان صيفاً وشتاء { وَسَخَّرَ الشمس والقمر } أي والنجوم السيارات ، الجميع يسيرون بمقدار مبين ، وعلى منهاج مقنن محرر ، تقديراً من عزيز عليم ، { كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي إلى يوم القيامة ، { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ } أي الذي فعل هذا هو الرب العظيم الذي لا إله غيره ، { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } أي من الأصنام والأنداد التي هي على صورة من تزعمون من الملائكة المقربين ، { مَا يَمْلِكُونَ مِن قِطْمِيرٍ } قال ابن عباس : القطمير هو اللفافة التي تكون على نواة التمرة ، أي لا يملكون من السماوات والأرض شيئاً ولا بمقدار هذا القمطير ، ثم قال تعالى : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ } يعني الآلهة التي تدعونها من دون الله لا تسمع دعاءكم لأنها جماد لا أرواح فيها { وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ } أي لا يقدرون على شيء مما تطلبون منها ، { وَيَوْمَ القيامة يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ } أي يتبرأون منكم ، كما قال تعالى : { وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 6 ] ، وقال تعالى : { واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 81-82 ] ، وقوله تعالى : { وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } أي ولا يخبرك بعواقب الأمور ومآلها وما تصير إليه ، مثل خبير بها ، قال قتادة : يعني نفسه تبارك وتعالى فإنه أخبر بالواقع لا محالة .(1/2095)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17) وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَى حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّى فَإِنَّمَا يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)
يخبر تعالى بغنائه عما سواه وبافتقاره المخلوقات كلها إليه ، وتذللها بين يديه ، فقال تعالى : { ياأيها الناس أَنتُمُ الفقرآء إِلَى الله } أي هم محتاجون إليه في جميع الحركات والسكنات ، وهو تعالى الغني عنهم بالذات ، ولهذا قال عزَّ وجلَّ : { والله هُوَ الغني الحميد } أي هو المنفرد بالغنى وحده لا شريك له ، وهو الحميد في جميع ما يفعله ويقوله ويقدره ويشرعه ، وقوله تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ } أي لو شاء لأذهبكم أيها الناس وأتى بقوم غيركم وما هذا عليه بصعب ولا ممتنع ، ولهذا قال تعالى : { وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ } ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } أي يوم القيامة ، { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا } أي وإن تدع نفس مثقلة بأوزارها إلى أن تساعد على حمل ما عليها من الأوزار أو بعضه ، { لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } أي وإن كان قريباً إليها حتى ولو كان أباها أو ابنها ، كل مشغول بنفسه وحاله ، قال عكرمة في قوله تعالى : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا } الآية ، قال : هو الجار يتعلق بجاره يوم القيامة ، فيقول : يا رب سل هذه لم كان يغلق بابه دوني ، وإن الكافر ليتعلق بالمؤمن يوم القيامة فيقول له : يا مؤمن إن لي عندك يداً قد عرفت كيف كنت لك في الدنيا ، وقد احتجت إليك اليوم ، فلا يزال المؤمن يشفع له عند ربه ، حتى يرده إلى منزل دون منزله ، وهو في النار ، وإن الوالد ليتعلق بولده يوم القيامة فيقول يا بني أي والد كنت لك فيثني خيراً ، فيقول له يا بني إني قد احتجت إلى مثقال ذرة من حسناتك أنجو بها مما ترى ، فيقول له ولده : يا أبت ما أيسر ما طلبت ، ولكني أتخوف مثل ما تتخوف ، فلا أستطيع أن أعطيك شيئاً ، ثم يتعلق بزوجته فيقول : يا فلانة أو يا هذه ، أي زوج كنت لك فتثني خيراً ، فيقول لها : إني أطلب إليك حسنة واحدة تهبين لي لعلي أنجو بها مما ترين ، قال فتقول : ما أيسر ما طلبت ، ولكني لا أطيق أن أعطيك شيئاً إني أتخوف مثل الذي تتخوف ، يقول الله تعالى : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا } الآية . ويقول تبارك وتعالى : { لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } [ لقمان : 33 ] ، ويقول تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ * لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 34-37 ] ، ثم قال تبارك وتعالى : { إِنَّمَا تُنذِرُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب وَأَقَامُواْ الصلاة } أي إنما يتعظ بما جئت به أولو البصائر والنهي ، الخائفون من ربهم الفاعلون ما أمرهم به ، { وَمَن تزكى فَإِنَّمَا يتزكى لِنَفْسِهِ } أي ومن عمل صالحاً فإنما يعود على نفسه ، { وَإِلَى الله المصير } أي وإليه المرجع والمآب وهو سريع الحساب ، وسيجزي كل عامل بعمله إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر .(1/2096)
وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ (19) وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ (20) وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ (21) وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ (23) إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَإِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلَّا خَلَا فِيهَا نَذِيرٌ (24) وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالزُّبُرِ وَبِالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (26)
يقول تعالى : كما لا تستوي هذه الأشياء المتباينة المختلفة كالأعمى والبصير ، لا يستويان بل بينهما فرق وبون كثير ، وكما لا تستوي الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور ، كذلك لا تستوي الأحيا ولا الأموات ، وهذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمنين وهم الأحياء ، وللكافرين وهم الأموات ، كقوله تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } [ الأنعام : 122 ] ، وقال عزَّ وجلَّ : { مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } [ هود : 24 ] ؟ فالمؤمن بصير سميع في نور يمشي على صراط مستقيم ، في الدنيا والآخرة حتى يستقر به الحال في الجنات ذات الظلال والعيون ، والكافر أعمى وأصم في ظلمات يمشي لا خروج له منها ، بل هو يتيه في غيه وضلاله في الدنيا والآخرة ، حتى يفضي به ذلك إلى الحرور والسموم والحميم { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ * لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } [ الواقعة : 43-44 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ } أي يهديهم إلى سماع الحجة وقبولها والانقياد لها { وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور } أي كما لا ينتفع الأموات بعد موتتهم وصيرورتهم إلى قبورهم وهم كفار بالهداية والدعوة إليها ، كذلك هؤلاء المشركون الذين كتب عليهم الشقاوة لا حيلة لك فيهم ، ولا تستطيع هدايتهم { إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } ، أي إنما عليك البلاغ والإنذار والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ بالحق بَشِيراً وَنَذِيراً } أي بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين ، { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } أي وما من أمة خلت من بني آدم إلا وقد بعث الله تعالى إليهم النذر وأزاح عنهم العلل ، كما قال تعالى : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] ، وكما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل : 36 ] الآية ، والآيات في هذا كثيرة . وقوله تبارك وتعالى : { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } وهي المعجزات الباهرات والأدلة القاطعات ، { وبالزبر } وهي الكتب ، { وبالكتاب المنير } أي الواضح البين ، { ثُمَّ أَخَذْتُ الذين كَفَرُواْ } ، أي ومع هذا كله كذب أولئك رسلهم فيما جاؤهم به فأخذتهم أي بالعقاب والنكال ، { فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي فكيف رأيت إنكاري عليهم عظيماً شديداً بليغاً؟ والله أعلم .(1/2097)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ (27) وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)
يقول تعالى منبهاً على كمال قدرته في خلقه الأشياء المتنوعة المختلفة من الشيء الواحد ، وهو الماء الذي ينزله من السماء ، يخرج به ثمرات مختلفاً ألوانها من أصفر وأحمر وأخضر وأبيض ، إلى غير ذلك من ألوان الثمار ، كما هو الشاهد من تنوع ألوانها وطعومها وروائحها ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ الرعد : 4 ] ، وقوله تبارك وتعالى : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا } أي وخلق الجبال كذلك مختلفة الألوان كما هو المشاهد أيضاً من بيض وحمر ، وفي بعضها طرائق وهي الجدد جمع جدة مختلفة الألوان أيضاً ، قال ابن عباس : الجدد الطرائق ، ومنها غرابيب سود ، قال عكرمة : الغرابيب الجبال الطوال السود ، وقال ابن جرير : والعرب إذا وصفوا الأسود بكثرة السواد ، قالوا أسود غربيب ، ولهذا قال بعض المفسرين في هذه الآية : هذا من المقدم والمؤخر في قوله تعالى : { وَغَرَابِيبُ سُودٌ } أي سود غرابيب ، وفيما قاله نظر . وقوله تعالى : { وَمِنَ الناس والدوآب والأنعام مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ } أي كذلك الحيوانات من الأناسي ( والدواب ) وهو كل ما دب على القوائم ( والأنعام ) من باب عطف الخاص على العام كذلك هي مختلفة أيضاً ، فالناس منهم بربر وحبوش في غاية السواد ، وصقالبة وروم في غاية البياض ، والعرب بين ذلك ، والهنود دون ذلك ، وكذلك الدواب والأنعام مختلفة الألوان ، حتى في الجنس الواحد بل النوع الواحد ، بل الحيوان الواحد يكون إبلق فيه من هذا اللون ، وهذا اللون ، فتبارك الله أحسن الخالقين ، وقد روى الحافظ البزار في « مسنده » عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أيصبغ ربك؟ قال صلى الله عليه وسلم : » نعم صبغاً لا ينفض أحمر وأصفر وأبيض « » ، ولهذا قال تعالى بعد هذا { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } أي إما يخشاه حق خشيته العلماء العارفون به ، لأنه كلما كانت المعرفة للعظيم القدير أتم والعلم به أكمل ، كانت الخشية له أعظم وأكثر .
قال ابن عباس في قوله تعالى : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } قال : الذين يعلمون أن الله على كل شيء قدير ، وعنه قال : العالم بالرحمن من عباده من لم يشرك به شيئاً ، وأحل حلاله وحرم حرامه ، وحفظ وصيته ، وأيقن أنه ملاقيه ومحاسب بعمله ، وقال سعيد بن جبير : الخشية هي التي تحول بينك وبين معصية الله عزَّ وجلَّ ، وقال الحسن البصري : العالم من خشي الرحمن بالغيب ورغب فيما رغب الله فيه ، وزهد فيما سخط الله فيه ، ثم تلا الحسن : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء إِنَّ الله عَزِيزٌ غَفُورٌ } وعن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : ليس العلم عن كثرة الحديث ولكن العلم عن كثرة الخشية ، وقال مالك : إن العلم ليس بكثرة الرواية وإنما العلم نور يجعله الله في القلب ، وقال سفيان الثوري : كان يقال : العلماء ثلاثة ، عالم بالله عالم بأمر الله ، وعالم بالله ليس بعالم بأمر الله ، وعالم بأمر الله ليس بعالم بالله ، فالعالم بالله وبأمر الله الذي يخشى الله تعالى ويعلم الحدود والفرائض ، والعالم بالله ليس بعالم بأمر الله الذي يخشى الله ولا يعلم الحدود والفرائض ، والعالم بأمر الله ليس بعالم بالله الذي يعلم الحدود والفرائض ولا يخشى الله عزَّ وجلَّ .(1/2098)
إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتَابَ اللَّهِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً يَرْجُونَ تِجَارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)
يخبر تعالى عن عبادة المؤمنين ، الذين يتلون كتابه ويؤمنون به ، ويعملون بما فيه من إقام الصلاة ، والإنفاق مما رزقهم الله تعالى سراً وعلانية بأنهم { يَرْجُونَ تِجَارَةً لَّن تَبُورَ } أي يرجون ثواباً عند الله لا بد من حصوله ، ولهذا قال تعالى : { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } أي ليوفيهم ثواب ما عملوه ويضاعفه لهم بزيادات لم تخطر لهم ، { إِنَّهُ غَفُورٌ } أي لذنوبهم { شَكُورٌ } للقليل من أعمالهم ، قال قتادة : كان مطرف رحمه الله إذا قرأ هذه الآية يقول : هذه آية القرآء .(1/2099)
وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31)
يقول تعالى : { والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } يا محمد من الكتاب وهو القرآن { هُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من الكتب المتقدمة يصدقها ، كما شهدت هي له بالتنويه وأنه منزل من رب العالمين { إِنَّ الله بِعِبَادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ } أي هو خبير بهم بصير بمن يستحق ما يفضله به على من سواه ، ولهذا فضل الأنبياء والرسل على جميع البشر ، وفضل النبيين بعضهم على بعض ورفع بعضهم درجات ، وجعل منزلة محمد صلى الله عليه وسلم فوق جميعهم صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .(1/2100)
ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32)
يقول تعالى : ثم جعلنا القائمين بالكتاب العظيم ، المصدق لما بين يديه من الكتب { الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } وهم هذه الأمة ثم قسمهم إلى ثلاثة أنواع فقال تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } وهو المفرط في فعل بعض الواجبات المرتكب لبعض المحرمات ، { وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } وهو المؤدي للواجبات التارك للمحرمات وقد يترك بعض المستحبات ويفعل بعض المكروهات ، { وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات } وهو الفاعل للواجبات والمستحبات التارك للمحرمات والمكروهات وبعض المباحات ، قال ابن عباس في قوله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } قال : هم أمة محمد صلى الله عليه وسلم ورثهم الله تعالى كل كتاب أنزله ، فظالمهم يغفر له ، ومقتصدهم يحاسب حساباً يسيراً ، وسابقهم يدخل الجنة بغير حساب ، روى الطبراني عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال ذات يوم : « شفاعتي لأهل الكبائر من أمتي » قال ابن عباس : السابق بالخيرات يدخل الجنة بغير حساب ، والمقتصد يدخل الجنة برحمة الله ، والظالم لنفسه وأصحاب الأعراف يدخلون الجنة بشفاعة محمد صلى الله عليه وسلم ، وكذا روي عن غير واحد من السلف : أن الظالم لنفسه من هذه الأمة من المصطفين على ما فيه من عوج وتقصير . وقال آخرون : بل الظالم لنفسه ليس من هذه الأمة ولا من المصطفين الوارثين للكتاب . روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } قال : هو الكافر ، وقال مجاهد في قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } قال : هم أصحاب المشأمة ، وقال الحسن وقتادة : هو المنافق ، ثم قد قال ابن عباس والحسن وقتادة : وهذه الأقسام الثلاثة كالأقسام المذكورة في أول سورة الواقعة وآخرها . والصحيح أن الظالم لنفسه من هذه الأمة ، وهذا اختيار ابن جرير ، كما هو ظاهر الآية ، وكما جاءت به الأحاديث « عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طرق يشد بعضها بعضاً » ، ونحن إن شاء الله تعالى نورد منها ما تيسر :
الحديث الأول : قال الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : في هذه الآية : « { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله } قال : » هؤلاء كلهم بمنزلة واحدة وكلهم في الجنة « ، ومعنى قوله بمنزلة واحدة : أي في أنهم من هذه الأمة وأنهم من أهل الجنة ، وإن كان بينهم فرق في المنازل في الجنة . الحديث الثاني : قال الإمام أحمد عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » قال الله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله } فأما الكذين سبقوا فأولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ، وأما الذين اقتصدوا فأولئك الذين يحاسبون حساباً يسيراً ، وأما الذين ظلموا أنفسهم فأولئك يحبسون في طول المحشر ، ثم هم الذين تلافاهم الله برحتمه ، فهم الذين يقولون : { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } «(1/2101)
الحديث الثالث : قال الحافظ الطبراني عن أُسامة بن زيد رضي الله عنهما : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله } الآية ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كلهم من هذه الأمة » ، الحديث الرابع : قال ابن أبي حاتم عن عوف بن مالك رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أمتي ثلاثة أثلاث ، فثلث يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ثم يدخلون الجنة ، وثلث يمحصون ويكشفون ، ثم تأتي الملائكة فيقولون : وجدناهم يقولون لا إله إلا الله وحده ، يقول الله تعالى : صدقوا ، لا إله إلا أنا أدخلوهم الجنة ، بقولهم لا إله إلا الله وحده واحملوا خطاياهم على أهل النار » ، وهي التي قال الله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] .
( أثر عن ابن مسعود رضي الله عنه )
قال ابن جرير عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : إن هذه الأمة ثلاثة أثلاث يوم القيامة ، ثلث يدخلون الجنة بغير حساب ، وثلث يحاسبون حساباً يسيراً ، وثلث يجيئون بذنوب عظام حتى يقول الله عزّ وجلّ ما هؤلاء؟ وهو أعلم تبارك وتعالى ، فتقول الملائكة : هؤلاء جاءوا بذنوب عظام إلا أنهم لم يشركوا بك شيئاً ، فيقول الرب عزّ وجلّ : أدخلوا هؤلاء في سعة رحمتي ، وتلا عبد الله رضي الله عنه هذه الآية : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } الآية . أثر أخر : قال أبو داود الطيالسي ، عن عقبة بن صهبان الهنائي قال : « سألت عائشة رضي الله عنها عن قول الله تعالى : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } الآية ، فقالت لي : » يا بني ، هؤلاء في الجنة ، أما السابق بالخيرات فمن مضى على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، شهد له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحياة والرزق ، وأما المقتصد فمن اتبع أثراً من أصحابه حتى لحق به ، وأما الظالم لنفسه فمثلي ومثلكم ، قال : فجعلت نفسها رضي الله عنها معنا « » ، وهذا منها رضي الله عنها من باب الهضم والتواضع ، وإلا فهي من أكبر السابقين بالخيرات لأن فضلها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام . وقال عوف الأعرابي ، عن كعب الأحبار رحمه الله قال : إن الظالم لنفسه من هذه الأمة ، والمقتصد ، والسابق بالخيرات ، كلهم في الجنة ، ألم تر أن الله تعالى قال : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } إلى قوله عزّ وجل { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ } قال : فهؤلاء أهل النار ، وعن محمد بن الحنفية رضي الله عنه قال : إنها أمة مرحومة ، الظالم مغفور له ، والمقتصد في الجنان عند الله ، والسابق بالخيرات في الدرجات عند الله .(1/2102)
فهذا ما تيسر من إيراد الأحاديث والآثار المتعلقة بهذا المقام ، وإذا تقرر هذا فإن الآية عامة في جميع الأقسام الثلاثة في هذه الأمة ، والعلماء أغبط الناس بهذه النعمة ، وأولى الناس بهذه الرحمة ، فإنهم كما روى الإمام أحمد رحمه الله عن قيس بن كثير قال : « قدم رجل من أهل المدينة إلى أبي الدرداء رضي الله عنه وهو بدمشق ، فقال : ما أقدمك أي أخي؟ قال : حديث بلغني أنك تحدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : أما قدمت لتجارة؟ قال : لا ، قال : أما قدمت لحاجة؟ قال : لا . قال أما قدمت إلا في طلب هذا الحديث؟ قال : نعم ، قال رضي الله عنه ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » من سلك طريقاً يطلب فيها علماً سلك الله تعالى به طريقاً إلى الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضاً لطالب العلم ، وإنه ليستغفر للعالم من في السماوات والأرض حتى الحيتان في الماء ، وفضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب ، وإن العلماء هم ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا ديناراً ولا درهماً وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذ به أخذ بحظ وافر « » وقد تقدم في أول ( سورة طه ) حديث ثعلبة بن الحكم عن رسول الله صلى الله عليه سولم قال : « يقول الله تعالى يوم القيامة للعلماء إني لم أضع علمي وحكمتي فيكم إلا وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي » .(1/2103)
جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (33) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ (35)
يخبر تعالى أن هؤلاء المصطفين من عباده الذين أورثوا الكتاب المنزل من رب العالمين يوم القيامة ، مأواهم جنات عدن ، أي جنات الإقامة يدخلونها يوم معادهم وقدومهم على الله عزّ وجلّ { يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } كما ثبت في الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء » { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } ، ولهذا كان محظوراً عليهم في الدنيا فأباحه الله تعالى لهم في الآخرة ، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من لبس الحرير في الدنيا لم يلبسه في الآخرة » وقال : « هي لهم في الدنيا ولكم في الآخرة » وقال ابن أبي حاتم ، عن أبي أمامة رضي الله عنه حدَّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكر حلي أهل الجنة فقال : « مسورون بالذهب والفضة ، مكللة بالدر ، وعليهم أكاليل من در وياقوت متواصلة ، وعليهم تاج كتاج الملوك ، شباب جرد مرد مكحولون » { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن } وهو الخوف من المحذور أزاحه عنا وأراحنا مما كنا نتخوفه ونحذره من هموم الدنيا والآخرة ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم ولا نشورهم ، وكأني بأهل ( لا إله إلا الله ) ينفضون التراب عن رؤوسهم ويقولون الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن » وروى الطبراني ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في الموت ولا في القبور ولا في النشور ، وكأني أنظر إليهم عند الصيحة ينفضون رؤوسهم من التراب يقولون : الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إن ربنا لغفور شكور » ، قال ابن عباس : غفر لهم الكثير من السيئات ، وشكر لهم اليسير من الحسنات { الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ } يقولون : الذي أعطانا هذه المنزلة ، وهذا المقام من فضله ومنّه ورحمته ، لم تكن أعمالنا تساوي ذلك ، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » لن يدخل أحداً منكم عمله الجنةً « قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : » ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله تعالى برحمة منه وفضل « » { لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } أي لا يمسنا فيها عناء ولا إعياء ، والنصب واللغوب كل منهما يستعمل في التعب ، وكأن المراد ينفي هذا وهذا عنهم أنهم لا تعب على أبدانهم ولا أرواحهم والله أعلم ، فمن ذلك أنهم كانوا يدئبون أنفسهم في العبادة في الدنيا ، فسقط عنهم التكليف بدخولها ، وصاروا في راحة دائمة مستمرة ، قال الله تبارك وتعالى : { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية } [ الحاقة : 24 ] .(1/2104)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لَا يُقْضَى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَا أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37)
لما ذكر تبارك وتعالى حال السعداء شرع في بيان ما للأشقياء ، فقال : { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ نَارُ جَهَنَّمَ لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ } ، كما قال تعالى : { لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى } [ طه : 74 ] ، وثبت في « صحيح مسلم » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون » ، وقال عزّ وجلّ : { وَنَادَوْاْ يامالك لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } [ الزخرف : 77 ] فهم في حالهم ذلك يرون موتهم راحة لهم ، ولكن لا سبيل إلى ذلك ، قال الله تعالى : { لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا } ، كما قال عزّ وجلّ : { إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } [ الزخرف : 74-75 ] ، وقال جلّ وعلا : { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [ الإسراء : 97 ] ، ثم قال تعالى : { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } [ النبأ : 30 ] أي هذا جزاء كل من كفر بربه وكذب الحق ، وقوله جلت عظمته : { كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } أي ينادون فيها يجأرون إلى الله عزّ وجلّ بأصواتهم : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } أي يسألون الرجعة إلى الدنيا ليعملوا غير عملهم الأول ، وقد علم الرب جل جلاله أنه لو ردهم إلى الدار الدنيا { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ } فلهذا لا يجيبهم إلى سؤالهم ، ولذا قال ههنا : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير } ؟ أي أو ما عشتم في الدنيا أعماراً ، لو كنتم ممن ينتفع بالحق لانتفعتم به في مدة عمركم؟ وقد اختلف المفسرون في مقدار العمر المارد ههنا ، فروي أنه مقدار سبع عشرة سنة ، وقال قتادة : اعلما أن طول العمر حجة فتعوذ بالله أن نعير بطول العمر ، قد نزلت هذه الآية : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } وإن فيهم لابن ثماني عشرة سنة ، وقال وهب بن منبه { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } قال : عشرين سنة ، وقال الحسن : أربعين سنة ، وقال مسروق : إذا بلغ أحدكم أربعين سنة فليأخذ حذره من الله عزّ وجلّ . وروى ابن جرير عن مجاهد قال : سمعت ابن عباس رضي الله عنهما يقول : العمر الذي أعذر الله تعالى لابن آدم { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } أربعون سنة ، وهذا هو اختيار ابن جرير ، ثم روي عن مجاهد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : العمر الذي أعذر الله فيه لابن آدم في قوله : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ } ستون سنة ، فهذه الرواية أصح عن ابن عباس رضي الله عنهما ، وهي الصحيحة في نفس الأمر أيضاً ، لما ثبت في ذلك من الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(1/2105)
« لقد أعذر الله تعالى إلى عبد أحياه حتى بلغ ستين أو سبعين سنة ، لقد أعذر الله تعالى إليه ، لقد أعذر الله تعالى إليه » وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعذر الله عزّ وجلّ إلى امرىء أخر عمره حتى بلغ ستين سنة » ، وفي رواية : « من أتت عليه ستون سنة فقد أعذر الله عزّ وجلّ إليه في العمر » وذكر بعضهم أن العمر الطبيعي عند الأطباء مائة وعشرون سنة ، فالإنسان لا يزال في أزدياد إلى كمال الستين ، ثم يشرع بعد هذا في النقص والهرم ، كما قال الشاعر :
إذا بلغ الفتى ستين عاماً ... فقد ذهب المسرة والفتاء
ولما كان هذا هو العمر الذي يعذر الله تعالى إلى عباده به ، ويزيح به عنهم العلل ، كان هو الغالب على أعمار هذه الأمة ، كما ورد بذلك الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعمار أمتي ما بين الستين إلى السبعين وأقلهم من يجوز ذلك » وقوله تعالى : { وَجَآءَكُمُ النذير } روي عن ابن عباس وعكرمة وقتادة أنهم قالوا : يعني الشيب ، وقال السدي وعبد الرحمن بن زيد : يعني به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقرأ ابن زيد : { هذا نَذِيرٌ مِّنَ النذر الأولى } [ النجم : 56 ] وهذه هو الصحيح عن قتادة أنه قال : احتج عليهم بالعمر والرسل ، وهذا اختيار ابن جرير وهو الأظهر ، لقوله تعالى : { لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } [ الزخرف : 78 ] أي لقد بينا لكم الحق على ألسنة الرسل فأبيتم وخالفتم ، وقال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، وقال تبارك وتعالى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } [ الملك : 8-9 ] ، وقوله تعالى : { فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } أي فذوقوا عذاب النار ، جزاء على مخالفتكم للأنبياء في مدة أعمالكم ، فما لكم اليوم ناصر ينقذكم مما أنتم فيه ، من العذاب والنكال والأغلال .(1/2106)
إِنَّ اللَّهَ عَالِمُ غَيْبِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتًا وَلَا يَزِيدُ الْكَافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَسَارًا (39)
يخبر تعالى بعلمه غيب السماوات والأرض ، وأنه يعلم ما تكنه السرائر ، وما تنطوي عليه الضمائر ، وسيجازي كل عامل بعمله ، ثم قال عزّ وجلّ { هُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض } أي يخلف قوم الآخرين وجيل لجيل قبلهم ، { فَمَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ } أي فإنما يعند وبال ذلك على نفسه دون غيره { وَلاَ يَزِيدُ الكافرين كُفْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً } أي كلما استمروا على كفرهم أبغضهم الله تعالى ، وكلما استمروا فيه خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة بخلاف المؤمنين ، فإنهم كلما طال عمر أحدهم وحسن عمله ، ارتفعت درجته ومنزلته في الجنة وزاد أجره ، وأحبه خالقه وبارئه رب العالمين .(1/2107)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ شُرَكَاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا فَهُمْ عَلَى بَيِّنَتٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا إِلَّا غُرُورًا (40) إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا وَلَئِنْ زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (41)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للمشركين : { أَرَأَيْتُمْ شُرَكَآءَكُمُ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله } أي من الأصنام والأنداد ، { أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات } أي ليس لهم شيء من ذلك ، ما يملكون من قطمير ، وقوله : { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً فَهُمْ على بَيِّنَةٍ مِّنْهُ } أي أم أنزلنا عليهم كتاباً بما يقولونه من الشرك والكفر ، ليس الأمر كذلك { بَلْ إِن يَعِدُ الظالمون بَعْضُهُم بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً } أي بل إنما اتبعوا في ذلك أهواءهم وأمانيهم التي تمنوها لأنفسهم ، وهي غرور وباطل وزور ، ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة ، التي بها تقوم السماء والأرض عن أمره ، وما جعل فيهما من القوة الماسكة لهما فقال : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ } أي أن تضطربا عن أماكنهما كما قال عزّ وجلّ { وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ الحج : 65 ] ، وقال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ } [ الروم : 25 ] ، { وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ } ، أي لا يقدر على دوامهما وإبقائهما إلا هو ، وهو مع ذلك حليم غفور ، أي يرى عباده وهم يكفرون به ويعصونه ، وهو يحلم فيؤخر وينظم ويؤجل ولا يعجل ، ويستر آخرين ويغفر ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } ، وفي « الصحيحين » عن ابي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار ، وعمل النهار قبل الليل ، حجابه النور أو النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إاليه بصره من خلقه » .(1/2108)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدَى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جَاءَهُمْ نَذِيرٌ مَا زَادَهُمْ إِلَّا نُفُورًا (42) اسْتِكْبَارًا فِي الْأَرْضِ وَمَكْرَ السَّيِّئِ وَلَا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا (43)
يخبر تعالى عن قريش والعرب أنهم أقسموا بالله { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } قبل إرسال الرسول إليهم { لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم } أي من جميع الأمم الذين أرسل إليه الرسل ، كقوله تعالى : { أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } [ الأنعام : 157 ] ، وكقوله تعالى : { وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين * لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين * فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ الصافات : 167-170 ] ، قال الله تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ } وهو محمد صلى الله عليه وسلم بما أنزل معه من الكتاب العظيم وهو القرآن المبين { مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } أي ما ازدادوا إلا كفراً إلى كفرهم . ثم بيَّن ذلك بقوله : { استكبارا فِي الأرض } أي استكبروا عن اتباع آيات الله ، { وَمَكْرَ السيىء } أي ومكروا بالناس في صدهم إياهم عن سبيل الله ، { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } أي وما يعود وبال ذلك إلا عليهم أنفسهم دون غيرهم ، قال محمد بن كعب القرظي : ثلاث من فعلهن لم ينج حتى ينزل به ، من مكر ، أو بغي ، أو نكث ، وتصديقها في كتاب الله تعالى : { وَلاَ يَحِيقُ المكر السيىء إِلاَّ بِأَهْلِهِ } ، { إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ } [ يونس : 23 ] ، { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } [ الفتح : 10 ] ، وقوله عزّ وجلّ : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الأولين } يعني عقوبة الله لهم على تكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره ، { فَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَبْدِيلاً } أي لا تغير ولا تبدل بل هي جارية كذلك في كل مكذب { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّتِ الله تَحْوِيلاً } أي { وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سواءا فَلاَ مَرَدَّ لَهُ } [ الرعد : 11 ] ولا يكشف ذلك عنهم ولا يتولهم عنهم أحد ، والله أعلم .(1/2109)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَكَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْءٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ عَلِيمًا قَدِيرًا (44) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِمَا كَسَبُوا مَا تَرَكَ عَلَى ظَهْرِهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيرًا (45)
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المكذبين ، بما جئتهم به من الرسالة ، سيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة الذين كذبوا الرسل ، كيف دمر الله عليهم فخلت منهم منازلهم ، وسلبوا ما كانوا فيه من النعيم ، بعد كمال القوة وكثرة العدد والعدد ، وكثرة الأموال والأولاد ، فما أغنى ذلك شيئاً ولا دفع عنهم من عذاب الله من شيء ، لأنه تعالى لا يعجزه شيء في السماوات والأرض ، { إِنَّهُ كَانَ عَلِيماً قَدِيراً } أي عليم بجميع الكائنات ، قدير على مجموعها ، ثم قال تعالى : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } أي لو آخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك جميع أهل السماوات والأرض ، وما يملكونه من دواب وأرزاق ، قال سعيد بن جبير والسدي في قوله تعالى : { مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } أي لما سقاهم المطر فماتت جميع الدواب { ولكن يُؤَخِّرُهُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي ولكن ينظرهم إلى يوم القيامة فيحاسبهم يومئذ ، ويوفي كل عامل بعمله ، فيجازي بالثواب أهل الطاعة ، وبالعقاب أهل المعصية ، ولهذا قال تبارك وتعالى : { فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ الله كَانَ بِعِبَادِهِ بَصِيراً } .(1/2110)
يس (1) وَالْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (4) تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أُنْذِرَ آبَاؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلَى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (7)
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة ، وروي عن ابن عباس أن { يس } بمعنى يا إنسان ، وقال سعيد بن جبير : هو كذلك في لغة الحبشة ، وقال زيد بن أسلم : هو اسم من أسماء الله تعالى ، { والقرآن الحكيم } أي المحكم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، { إِنَّكَ } أي يا محمد { لَمِنَ المرسلين * على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي على منهج ودين قويم وشرع مستقيم ، { تَنزِيلَ العزيز الرحيم } أي هذا الصراط والمنهج والدين الذي جئت به ، تنزيل من رب العزة الرحيم بعباده المؤمنين ، كما قال تعالى : { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ الشورى : 52-53 ] ، وقوله تعالى : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } يعني بهم العرب ، فإنه ما أتاهم من نذير من قبله ، وقوله تعالى : { لَقَدْ حَقَّ القول على أَكْثَرِهِمْ } ، قال ابن جرير : لقد وجب العذاب على أكثرهم ، بأن الله تعالى قد حتم عليهم في أم الكتاب أنهم لا يؤمنون ، { فَهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } بالله ولا يصدقون رسله .(1/2111)
إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلَالًا فَهِيَ إِلَى الْأَذْقَانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَجَعَلْنَا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (9) وَسَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّمَا تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ وَخَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَأَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ وَكُلَّ شَيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ فِي إِمَامٍ مُبِينٍ (12)
يقول تعالى : إنا جعلنا هؤلاء المحتوم عليهم بالشقاء ، كمن جعل في عنقه غل ، لجمع يديه مع عنقه تحت ذقنه ، فارتفع رأسه فصار مقمحاً ، ولهذا قال تعالى : { فَهُم مُّقْمَحُونَ } والمقمح هو الرافع رأسه ، كما قالت أم زرع في كلامها : وأشرب فأتقمح ، أي أشرب فأروى فأرفع رأسي تهنيئاً وتروياً ، واكتفى بذكر الغل في العنق عن ذكر اليدين وإن كانتا مرادتين ، كما قال الشاعر :
فما أدري إذا يممت أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني
فاكتفى بذكر الخير عن ذكر الشر ، لما دل الكلام والسياق عليه ، وهكذا هذا ، لما كان الغل إنما يعرف فيما جمع اليدين مع العنق اكتفى بذكر العنق عن اليدين ، قال ابن عباس : هو كقوله عزّ وجلّ : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } [ الإسراء : 29 ] يعني بذلك أن أيديهم موثقة إلى أعناقهم لا يستطيعون أن يبسطوها بخير ، وقال مجاهد : { فَهُم مُّقْمَحُونَ } قال : رافعي رؤوسهم وأيديهم موضوعة على أفواههم ، فهم مغلولون عن كل خير ، وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } ، قال مجاهد عن الحق : { ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً } عن الحق فهم يترددون ، وقال قتادة : في الضلالات ، وقوله تعالى : { فَأغْشَيْنَاهُمْ } أي أغشينا أبصارهم عن الحق { فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } أي لا ينتفعون بخير ولا يهتدون إليه ، قال عبد الرحمن بن زيد : جعل الله تعالى هذا السد بينهم وبين الإسلام والإيمان ، فهم لا يخلصون إليه ، وقرأ : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 96-97 ] ، ثم قال : من منعه الله تعالى لا يستطيع ، وقال عكرمة ، قال أبو جهل : لئن رأيت محمداً لأفعلن ولأفعلن ، فأنزلت : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً } إلى قوله : { فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } قال : وكانوا يقولون هذا محمد ، فيقول : أين هو أين هو؟ لا يبصره .
وقال محمد بن إسحاق ، عن محمد بن كعب قال : « قال أبو جهل وهم جلوس : إن محمداً يزعم أنكم إن تابعتموه كنتم ملوكاً فإذا متم بعثتم بعد موتكم ، وكانت لكم جنان خير من جنان الأردن ، وأنكم إن خالفتموه كان لكم منه ذبح ثم بعثتم بعد موتكم وكانت لكم نار تعذبون بها ، وخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عد ذلك وفي يده حفنة من تراب ، وقد أخذ الله تعلى على أعينهم دونه ، فجعل يذروها على رؤوسهم ويقرأ : { يس * والقرآن الحكيم } حتى انتهى إلى قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً ومِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } ، وانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته وباتوا رصداء على بابه حتى خرج عليهم بعد ذلك خارج من الدار ، فقال : ما لكم؟ قالوا : ننتظر محمداً ، قال : قد خرج عليكم ، فما بقي منكم من رجل إلا وضع على رأسه تراباً ، ثم ذهب لحاجته ، فجعل كل رجل منهم ينفض ما على رأسه من التراب ، قال : وقد بلغ النبي صلى الله عليه وسلم قول أبي جهل فقال : » وأنا أقول ذلك إن لهم مني لذبحاً وإنه لآخذهم « »(1/2112)
وقوله تبارك وتعالى : { وَسَوَآءُ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤمِنُونَ } أي قد ختم الله عليهم بالضلالة ، فما يفليد فيهم الإنذارولا يتأثرون به . { إِنَّمَا تُنذِرُ مَنِ اتبع الذكر } أي إنما ينتفع بإنذارك المؤمنون الذين يتبعون { الذكر } وهو القرآن العظيم ، { وَخشِيَ الرحمن بالغيب } أي حيث لا يراه أحد إلا الله تبارك وتعالى ، يعلم أن الله مطلع عليه وعالم بما يفعل ، { فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ } أي لذنوبه { وَأَجْرٍ كَرِيمٍ } أي كثير واسع حسن جميل كما قال تعالى : { إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ الملك : 12 ] .
ثم قال عزّ وجلّ : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى } أي يوم القيامة ، وفيه إشارة إلى أن الله تعالى يحيي قلب من يشاء من الكفار ، الذين قد ماتت قلوبهم بالضلالة ، فيهديهم بعد ذلك إلى الحق ، كما قال تعالى بعد ذكر قسوة القلوب : { اعلموا أَنَّ الله يُحْيِي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [ الحديد : 17 ] ، وقوله تعالى : { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ } أي من الأعمال ، وفي قوله تعالى : { وَآثَارَهُمْ } قولان : أحدهما : نكتب أعمالهم التي باشروها بأنفسهم وآثارهم التي أثروها من بعدهم ، فنجزيهم على ذلك أيضاً إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، كقوله صلى الله عليه وسلم : « من سن في الإسلام سنة حسنة كان له أجرها وأجر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ، ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزارهم شيئاً » وهكذا الحديث الآخر : « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : من علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية بعده » وقال مجاهد في قوله تعالى : { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } قال : ما أورثوا في الضلالة ، وقال سعيد بن جبير : { وَآثَارَهُمْ } يعني ما أثروا ، يقول : ما سنوا من سنة فعمل بها قوم من بعد موتهم ، وهذا القول هو اختيار البغوي . والقول الثاني : أن المراد بذلك آثار خطاهم إلى الطاعة أو المعصية ، قال مجاهد : { مَاَ قَدَّمُواْ } أعمالهم { وَآثَارَهُمْ } قال : خطاهم بأرجلهم . وقال قتادة : لو كان الله عزّ وجلّ مغفلاً شيئاً من شأنك يا ابن آدم أغفل ما تعفي الرياح من هذا الآثار ، ولكن أحصى على ابن آدم أثره وعمله كله ، حتى أحصى هذا الأثر فيما هو من طاعة الله تعالى أو من معصيته ، فمن استطاع منكم أن يكتب أثره في طاعة الله تعالى فليفعل ، وقد وردت في هذا المعنى أحاديث .(1/2113)
الحديث الأول : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : « خلت البقاع حول المسجد ، فأراد بنو سلمة أن ينتقلوا قرب المسجد ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : » إنه بلغني أنكم تريدون أن تنتقلوا قرب المسجد « ، قالوا : نعم يا رسول الله قد أردنا ذلك ، فقال صلى الله عليه وسلم : » يا بني سلمة : دياركم تكتب آثاركم ، دياركم تكتب آثاركم « » الحديث الثاني : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : « كانت بنو سلمة في ناحية من المدينة فأرادوا أن ينتقلوا إلى قريب من المسجد فنزلت : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : » إن آثاركم تكتب « » فلم ينقلوا . وروى الحافظ البزار ، عن أبي سعيد رضي الله عنه قال : إن بني سلمة شكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بد منازلهم من المسجد فنزلت : { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } فأقاموا في مكانهم
. الحديث الثالث : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : كانت الأنصار بعيدة منازلهم من المسجد فأرادوا أن يتحولوا إلى المسجد فنزلت { وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } فثبتوا في منازلهم . الحديث الرابع : عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : « توفي رجل بالمدينة فصلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : » يا ليته مات في غير مولده « فقال رجل من الناس : ولم يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن الرجل إذا توفي في غير مولده قيس له من مولده إلى منقطع أثره في الجنة « » وروى ابن جرير عن ثابت قال : مشيت مع أنس رضي الله عنه فأسرعت المشي فأخذ بيدي فمشينا رويداً ، فلما قضينا الصلاة قال أنس : مشيت مع زيد بن ثابت فأسرعت المشي ، فقال يا أنس أما شعرت أن الآثار تكتب؟ وهذا القول لا تنافي بينه وبين الأول ، بل في هذا تنبيه ودلالة على ذلك بطريق الأَوْلى والأحرى ، فإنه إذا كانت هذه الآثار تكتب فلأن تكتب تلك التي فيها قدوة بهم من خير أو شر بطريق الأولى ، والله أعلم . وقوله تعالى : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ } أي وجميع الكائنات مكتوب في كتاب مسطور مضبوط في لوح محفوظ ، ( والإمام المبين ) هاهنا هو أم الكتاب ، قاله مجاهد وقتادة وكذا في قوله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } [ الإسراء : 71 ] أي بكتاب أعمالهم الشاهد عليهم بما عملوه من خير أو شر كما قال عزّ وجلّ : { وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء } [ الزمر : 69 ] ، وقال تعالى : { وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] .(1/2114)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا أَصْحَابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جَاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنَا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فَقَالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قَالُوا مَا أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَمَا أَنْزَلَ الرَّحْمَنُ مِنْ شَيْءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ (15) قَالُوا رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَمَا عَلَيْنَا إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (17)
يقول تعالى واضرب يا محمد لقومك الذين كذبوك { مَّثَلاً أَصْحَابَ القرية إِذْ جَآءَهَا المرسلون } . قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس وكعب الأحبار : إنها مدينة أنطاكية ، وكان بها ملك يقال له : ( أنطيقس ) كان يعبد الأصنام ، فبعث الله تعالى إليه ثلاثة من الرسل وهم ( صادق ) و ( صدوق ) و ( شلوم ) فكذبهم .
وقوله تعالى : { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا } أي بادروهما بالتكذيب ، { فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ } أي قويناهما وشددنا أزرهما برسول ثالث ، { فقالوا } : أي لأهل تلك القرية { إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } أي من ربكم الذي خلقكم يأمركم بعبادته وحده لا شريك له ، { قَالُواْ مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } أي فكيف أوحي إليكم وأنتم شر ونحن بشر! فلم لا أوحي إلينا مثلكم؟ ولو كنتم رسلاً لكنتم ملائكة ، وهذه شبهة كثير من الأمم المكذبة ، كما أخبر الله تعالى عنهم { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن : 6 ] ! أي استعجبوا من ذلك وأنكروه ، كما قال تعالى : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ] ! ولهذا قال هؤلاء : { مَآ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَمَآ أَنَزلَ الرحمن مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ * قَالُواْ رَبُّنَا يَعْلَمُ إِنَّآ إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ } أي أجابتهم رسلهم الثلاثة قائلين الله يعلم أنا رسله إليكم ، ولو كنا كذبة عليه لانتقم منا أشد الانتقام ، ولكنه سيعزنا وينصرنا عليكم وستعلمون لمن تكون عاقبة الدار كقوله تعالى : { قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } [ العنكبوت : 52 ] ، { وَمَا عَلَيْنَآ إِلاَّ البلاغ المبين } يقولون : إنما علينا أن نبلغكم ما أرسلنا به إليكم ، فإذا أطعتم كانت السعادة في الدنيا والأخرى ، وإن لم تجيبوا فستعلمون غب ذلك ، والله أعلم .(1/2115)
قَالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (18) قَالُوا طَائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَئِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)
فعند ذلك قال لهم أهل القرية : { إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ } أي لم نر على وجوهكم خيراً في عيشنا ، وقال قتادة : يقولون إن أصابنا شر فإنما هو من أجلكم ، وقال مجاهد : يقولون : لم يدخل مثلكم إلى قرية إلاعذب أهلها { لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ } ، قال قتادة : بالحجارة ، وقال مجاهد : بالشتم { وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي عقوبة شديدة ، فقالت لهم رسلهم : { طَائِرُكُم مَّعَكُمْ } أي مردود عليكم ، كقوله تعالى في قوم فرعون : { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ ألا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ الله } [ الأعراف : 131 ] ، وقال قوم صالح : { اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله } [ النمل : 47 ] ، وقال قتادة ووهب بن منبه : أي أعمالكم معكم ، وقوله تعالى : { أَئِن ذُكِّرْتُم بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } أي من أجل أنا ذكرنامكم وأمرناكم بتوحيد الله وإخلاص العبادة له ، قابلتمونا بهذا الكلام وتوعدتمونا وتهددتمونا ، { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ } ، وقال قتادة : أي إن ذكرناكم بالله تطيرتم منا بل أنتم قوم مسرفون .(1/2116)
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (24) إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25)
قال وهب بن منبه : إن أهل القرية هموا بقتل رسلهم ، فجاءهم رجل من أقصى المدينة يسعى لينصرهم من قومه ، قالوا : وهو ( حبيب ) وكان يعلم الحرير وهو الحباك ، وكان رجلاً سقيماً قد أسرع فيه الجذام ، وكان كثير الصدقة يتصدق بنصف كسبه مستقيم الفطرة ، وقال ابن عباس : اسم صاحب يس ( حبيب النجار ) فقتله قومه ، وقال السدي : كان قصاراً ، وقال قتادة : كان يتعبد في غار هناك ، { قَالَ ياقوم اتبعوا المرسلين } يحض قومه على اتباع الرسل الذين أتوهم { اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } أي على إبلاغ الرسالة { وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } فيما يدعونكم إليه من عبادة الله وحده لا شريك له ، { وَمَا لِيَ لاَ أَعْبُدُ الذي فَطَرَنِي } أي وما يمنعني من إخلاص العبادة للذي خلقني وحده لا شريك له ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي يوم المعاد فيجازيكم على أعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، { أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً } ؟ استفهام إنكار وتوبيخ وتقريع { إِن يُرِدْنِ الرحمن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونَ } أي هذه الآلهة التي تعبدونها من دونه ، لا يملكون من الأمر شيئاً ، فإن الله تعالى لو أرادني بسوء ، { فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 117 ] ، وهذه الأصنام لا تملك دفع ذلك ولا منعه ، ولا ينقذوني مما أنا فيه { إني إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي إن اتخذتها آلهة من دون الله ، وقوله تعالى : { إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ فاسمعون } قال ابن إسحاق : يقول لقومه : { إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ } الذي كفرتم به { فاسمعون } أي فأسمعوا قولي ، ويحتمل أن يكون خطابه للرسل بقوله : { إني آمَنتُ بِرَبِّكُمْ } أي الذي أرسلكم { فاسمعون } أي فاشهدوا لي بذلك عنده ، وقد حكاه ابن جرير فقال : وقال آخرون : بل خاطب بذلك الرسل وقال لهم : اسمعوا قولي لشتهدوا لي بما أقول لكم عند ربي ، إني آمنت بربكم واتبعتكم ، وهذا قول أظهر في المعنى والله أعلم ، قال ابن إسحاق فيما بلغه عن ابن عباس : فلما قال ذلك وثبوا عليه وثبة رجل واحد فقتلوه ، ولم يكن له أحد يمنع عنه ، وقال قتادة : جعلوا يرجمونه بالحجارة وهو يقول : اللهم اهدي قومي فإنهم لا يعلمون ، فلم يزالوا به حتى أقعصوه ، وهو يقول كذلك ، فقتلوه رحمه الله .(1/2117)
قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ (29)
قال ابن مسعود : إنهم وطئوه بأرجلهم حتى خرج قصه من دبره وقال الله له : { ادخل الجنة } فدخلها ، فهو يرزق فيها قد أذهب الله عنه سقم الدنيا وحزنها ونصبها ، وقال مجاهد : قيل لحبيب النجار : ادخل الجنة ، وذلك أنه قتل فوجبت له ، فلما رأى الثواب { قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ } قال قتادة : لا تلقى المؤمن إلا ناصحاً لا تلقاه غاشاً ، لما عاين ما عاين من كرامة الله تعالى : { قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين } تمنى والله أن يعلم قومه بما عاين من كرامة وما هجم عليه ، وقال ابن عباس : نصح قومه في حياته بقوله : { ياقوم اتبعوا المرسلين } [ يس : 20 ] ، وبعد مماته في قوله : { قَالَ ياليت قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين } ، وقال سفيان الثوري عن أبي مجلز : { بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ المكرمين } بإيماني بربي وتصديقي المرسلين ، ومقصوده أنهم لو اطلعوا على ما حصل لي من هذا الثواب الجزاء والنعيم المقيم ، لقادهم ذلك إلى اتباع الرسل ، فرحمه الله ورضي الله عنه ، فلقد كان حريصاً على هداية قومه . وقال محمد بن إسحاق ، عن كعب الأحبار أنه ذكر له ( حبيب بن زيد ) الذي كان مسليمة الكذاب قطعه باليمامة ، حين جعل يسأله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجعل يقول له : أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول : نعم ، ثم يقول : أتشهد إني رسول الله ، فيقول : لا اسمع ، فيقول له مسليمة لعنه الله : أتسمع هذا ولا تسمع ذاك؟ فيقول : نعم ، فجعل يقطعه عضواً عضواً كلما سأله لم يزده على ل حتى مات في يديه ، فقال كعب حين قيل له اسمه حبيب ، وكان والله صاحب يس اسمه حبيب . وقوله تبارك وتعالى : { وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } يخبر تعالى أنه انتقم من قومه بعد قتلهم إياه ، غضباً منه تبارك وتعالى عليهم ، لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليه ، ويذكر عزّ وجلّ أنه ما أنزل عليهم وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة عليهم ، بل الأمر كان أيسر من ذلك ، { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } فأهلك الله تعالى ذلك الملك ، وأهلك أهل أنطاكية فبادوا عن وجه الأرض ، فلم يبق منهم باقية ، وقيل : { وَمَا كُنَّا مُنزِلِينَ } أي وما كنا ننزل الملائكة على الأمم إذا أهلكناهم ، بل نبعث عليهم عذاباً يدمرهم ، وقيل : المعنى في قوله تعالى : { وَمَآ أَنزَلْنَا على قَوْمِهِ مِن بَعْدِهِ مِن جُندٍ مِّنَ السمآء } أي من رسالة أُخرى إليهم قال قتادة : فلا و الله ما عاتب الله قومه بعد قتله { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ خَامِدُونَ } قال ابن جرير : والأول أصح لأن الرسالة لا تسمى جنداً .(1/2118)
قال المفسرون : بعث الله تعالى إليهم جبريل عليه الصلاة والسلام ، فأخذ بعضادتي باب بلدهم ، ثم صاح بهم صيحة واحدة ، فإذا هم خامدون عن آخرهم لم تبق بهم روح تترد في جسد ، وقد تقدم عن كثير من السلف أن هذه القرية هي ( أنطاكية ) وأن هؤلاء الثلاثة كانوا رسلاً منعند المسيح عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام كما نص عليه قتادة وغيره ، وفي ذلك نظر من وجوه : أحدها : أن ظاهر القصة يدل على أن هؤلاء كانوا رسل الله عزّ وجلّ لا من جهة المسيح عليه السلام كما قال تعالى : { إِذْ أَرْسَلْنَآ إِلَيْهِمُ اثنين فَكَذَّبُوهُمَا فَعَزَّزْنَا بِثَالِثٍ فقالوا إِنَّآ إِلَيْكُمْ مُّرْسَلُونَ } [ يس : 14 ] ، ولو كان هؤلاء من الحواريين لقالوا عبارة تناسب أنهم من عند المسيح عليه السلام ، ثم لو كانوا رسل المسيح لما قالوا لهم { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } [ إبراهيم : 10 ] . الثاني : أن أهل أنطاكية آمنوا برسل المسيح إليهم ، وكانت أول مدينة آمنت بالمسيح ولهذا كانت عند النصارى إحدى المدائن الأربع اللاتي فيهن بتاركة ، وهن ( القدس ) لأنها بلد المسيح ، و ( أنطاكية ) لأنها أول بلدة آمنت بالمسيح عن آخر أهلها ، و ( الاسكندرية ) لأن فيها اصطلحوا على اتخاذ البتاركة والمطارنة والأساقفة والقساوسة ، ثم ( رومية ) لأنها مادنية الملك قسطنطين الذي نصر دينهم وأوطده ، فإذا تقرر أن أنطاكية أول مدينة آمنت ، فأهل هذه القرية ذكر الله تعالى أنهم كذبوا رسله ، وأنه أهلكهم بصيحة واحدة أخمدتهم ، والله أعلم . الثالث : أن قصة أنطاكية مع الحواريين أصحاب المسيح بعد نزول التوراة ، وقد ذكر غير واحد من السلف أن الله تبارك وتعالى بعد إنزاله التوراة ، لم يهلك أمة من الأمم عن آخرهم بعذاب يبعثه عليهم ، بل أمر المؤمنين بعد ذلك بقتال المشركين ، ذكروه عند قوله تبارك وتعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى } [ القصص : 43 ] فلعلى هذه يتعين أن هذه القرية المذكورة في القرآن قرية أُخْرى غير ( أنطاكية ) كما أطلق ذلك غير واحد من السلف أيضاً ، أو تكون انطاكية إن كان لفظها محفوظاً في هذه القصة مدينة أُخرى غير هذه المشهورة المعروفة ، فإن هذه لم يعرف أنها أهلكت لا في الملة النصرانية ولا قبل ذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(1/2119)
يَا حَسْرَةً عَلَى الْعِبَادِ مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (30) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لَا يَرْجِعُونَ (31) وَإِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (32)
قال ابن عباس : { ياحسرة عَلَى العباد } أي يا ويل العباد ، وقال قتادة : { ياحسرة عَلَى العباد } أي يا حسرة العباد على أنفسهم ، على ما ضيعت من أمر الله وفرطت في جنب الله ، والمعنى : يا حسرتهم وندامتهم يوم القيامة إذا عاينوا العذاب ، كيف كذبوا رسل الله وخالفوا أمر الله؟ فإنهم كانوا { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي يكذبونه ويستهزئون به ، ويجحدون ما أرسل به من الحق ، ثم قال تعالى : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لاَ يَرْجِعُونَ } أي ألم يتعظوا بمن أهلك الله قبلهم من المكذبين للرسل ، كيف لم يكن لهم إلى هذه الدنيا كرة ولا رجعة ، وقوله عزّ وجلّ : { وَإِن كُلٌّ لَّمَّا جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } أي وإن جميع الأمم الماضية والآتية ، ستحضر للحساب يوم القيامة بين يدي الله جلّ وعلا ، فيجازيهم بأعمالهم كلها خيرها وشرها ، ومعننى هذا كقوله جلّ وعلا { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ } [ هود : 111 ] .(1/2120)
وَآيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (35) سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَمِنْ أَنْفُسِهِمْ وَمِمَّا لَا يَعْلَمُونَ (36)
يقول تبارك وتعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ } أي دلالة لهم على وجود الصانع وقدرته التامة وإحيائه الموتى { الأرض الميتة } أي إذا كانت ميتة هامدة لا شيء فيها من النبات ، فإذا أنزل الله تعالى عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زويج بهيج ، ولهذا قال تعالى : { أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } أي جعلنا رزقاً لهم ولأنعامهم ، { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون } أي جعلنا فيها أنهاراً سارحة في أمكنة يحتاجون إليها { لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ } لما امتن على خلقه بإيجاد الزروع لهم ، عطف بذكر الثمار وتنوعها وأصنافها ، وقوله جلّ وعلا : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } أي وما ذاك كله إلا من رحمه الله تعالى بهم ، لا بسعيهم ولا كدهم ولا بحولهم وقوتهم ، ولهذا قال تعالى : { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } أي فهلا يشكرونه على ما أنعم به عليهم من هذه النعم التي لا تعد ولا تحصى ، واختار ابن جرير أن ( ما ) في قوله تعالى : { وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ } بمعنى ( الذي ) تقديره : ليأكلوا من ثمره ومما عملته أيديهم ، أي غرسوه ونصبوه ، قال : وهي كذلك في قراءة ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : { لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } ، ثم قال تبارك وتعالى : { سُبْحَانَ الذي خَلَق الأزواج كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأرض } أي من زروع وثمار ونبات ، { وَمِنْ أَنفُسِهِمْ } فجعلهم ذكراً وأنثى { وَمِمَّا لاَ يَعْلَمُونَ } أي من مخلوقات شتى لا يعرفونها كما قال جلت عظمته : { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الذاريات : 49 ] .(1/2121)
وَآيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)
يقول تعالى : ومن الدلالة لهم على قدرته تبارك وتعالى العظيمة ، خلق الليل والنهار ، هذا بظلامه وهذا بضيائه ، وجعلهما يتعاقبان ، يجيء هذا فيذهب هذا ، ويذهب هذا فيجيء هذا ، كما قال تعالى : { يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } [ الأعراف : 54 ] ، ولهذا قال عزّ وجلّ هاهنا : { وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار } أي نصرمه منه فيذهب فيقبل الليل ، ولهذا قال تبارك وتعالى : { فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } كما جاء في الحديث : « إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا وغربت الشمس فقد أفطر الصائم » هذا هو الظاهر من الآية؛ وقوله جلّ جلاله : { والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم } في معنى قوله : { لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } : قولان : أحدهما : أن المراد مستقرها المكاني ، وهو تحت العرش مما يلي الأرض من ذلك الجانب ، وهي أينما كانت فهي تحت العرش ، هي وجميع المخلوقات لأنه سقفها ، فحينئذٍ تسجد وتستأذن في الطلوع كما جاءت بذلك الأحاديث ، روى البخاري عن أبي ذر رضي الله عنه قال : « كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في المسجد عند غروب الشمس ، فقال صلى الله عليه وسلم : » يا أبي ذر أتدري أي تغرب الشمس «؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال صلى الله عليه وسلم : » فإنها تذهب حتى تسجد تحت العرش ، فذلك قوله تعالى : { والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم } « ، وروى البخاري أيضاً عن أبي ذر رضي الله عنه ، قال : » سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تبارك وتعالى : { والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } قال صلى الله عليه وسلم : « مستقرها تحت العرش » « وعنه قال : » كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد حين غربت الشمس ، فقال صلى الله عليه وسلم : « يا أبا ذر أتدري أين تذهب الشمس؟ » قلت : الله ورسوله أعلم ، قال صلى الله عليه وسلم : « فإنها تذهب حتى تسجد بين يدي ربها عزّ وجلّ ، فتستأذن في الرجوع فيؤذن لها ، كأنها قد قيل لها ارجعي من حيث جئت فترجع إلى مطلعها وذلك مستقرها ثم قرأ { والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } » « . والقول الثاني : أن المراد بمستقرها هو منتهى سيرها وهو يوم القيامة ، يبطل سيرها وتسكن حركتها وتكوّر وينتهي هذا العالم إلى غايته ، وهذا هو مستقرها الزماني ، قال قتادة : { لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } أي لوقتها ولأجلٍ لا تعدوه ، وقيل : المراد أنها لا تزال تنتقل في مطالعها الصيفية إلى مدة لا تزيد عليها ، ثم تنتقل في مطلع الشتاء إلى مدة لا تزيد عليها ، وقرأ ابن مسعود وابن عباس رضي الله عنهم ( والشمس تجري لا مستقر لها ) أي لا قرار لها ولا سكون ، بل هي سائرة ليلاً ونهاراً لا تفتر ولا تقف ، كما قال تبارك وتعالى :(1/2122)
{ وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ } [ إبراهيم : 33 ] أي لا يفتران ولا يقفان إلى يوم القيامة ، و { ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز } أي الذين لا يخالف ولا يمانع { العليم } بجميع الحركات والسكنات ، وقد قدَّر ذلك ووقَّته على منوال ، لا اختلاف فيه ونلا تعاكس ، كما قال عزّ وجلّ : { فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم } [ الأنعام : 96 ] ، ثم قال جلّ وعلا : { والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ } أي جعلناه يسير سيراً آخر ، يستدل به على مضي الشهور ، كما أن الشمس يعرف بها الليل والنهار ، كما قال عزّ وجلّ : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } [ البقرة : 189 ] .
وقال تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } [ يونس : 5 ] الآية ، وقال تبارك وتعالى : { وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً } [ الإسراء : 12 ] ، فجعل الشمس لها ضوء يخصها ، والقمر له نور يخصه ، وفاوت بين سير هذه وهذا ، فالشمس تطلع كل يوم وتغرب في آخره على ضوء واحد ، ولكن تنتقل في مطالعها ومغاربها صيفاً وشتاء ، يطول بسبب ذلك النهار ويقصر الليل ، ثم يطول الليل ويقصر النهار ، وجعل سلطانها بالنهار فهي كوكب نهاري ، وأما القمر فقدره منازل يطلع في أول ليلة من الشهر ضئيلاً قليل النور ، ثم يزداد نوراً في الليلة الثانية ويرتفع منزلة ، ثم كلما ارتفع ازداد ضياء وإن كان مقتبساً من الشمس ، حتى يتكامل نوره في الليلة الرابعة عشرة ، ثم يشرع في النقص إلى آخر الشهر ، حتى يصير { كالعرجون القديم } قال ابن عباس : وهو أصل العذق ، وقال مجاهد { العرجون القديم } : أي العذق اليابس ، يعني ابن عباس أصل العنقود من الرطب إذا عتق ويبس وانحنى ، ثم بعد هذا يبديه الله تعالى جديداً في أول الشهر الآخر . وقوله تبارك وتعالى : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر } قال مجاهد : لكل منهما حد لا يعدوه ولا يقصر دونه ، وإذا جاء سلطان هذا ذهب هذا ، وإذا ذهب سلطان هذا جاء سلطان هذا ، وقال الحسن في قوله تعالى : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر } قال : ذلك ليلة الهلال ، وقال الثوري : لا يدرك هذا ضوء هذا ولا هذا ضوء هذا ، وقال عكرمة في قوله عزّ وجلّ : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر } يعني أن لكل منهما سلطاناً فلا ينبغي للشمس أن تطلع بالليل ، وقوله تعالى : { وَلاَ اليل سَابِقُ النهار } يقول : لا ينبغي إذا كان الليل أن يكون ليل آخر حتى يكون النهار ، فسلطان الشمس بالنهار ، وسلطان القمر بالليل ، وقال الضحّاك : لا يذهب الليل من هاهنا حتى يجيء النهار من هاهنا وأومأ بيده إلى المشرق ، وقال مجاهد : { وَلاَ اليل سَابِقُ النهار } المعنى أنه لا فترة بين الليل والنهار ، بل كل منهما يعقب الآخر بلا مهلة ولا تراخ ، لأنهما مسخران دائبين يتطالبان طلباً حثيثاً ، وقوله تبارك وتعالى : { وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } يعني الليل والنهار والشمس والقمر كلهم { يَسْبَحُونَ } أي يدورون في فلك السماء ، قال ابن عباس : في فلكه كفلكة المغزل ، وقال مجاهد : الفلك كحديدة الرحى أو كفلكة المغزل ، لا يدور المغزل إلا بها ولا تدور إلا به .(1/2123)
وَآيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ (42) وَإِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلَا صَرِيخَ لَهُمْ وَلَا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (44)
يقول تبارك وتعالى : ودلالة لهم أيضاً على قدرته تبارك وتعالى ، وتسخيره البحر ليحمل السفن ، فمن ذلك بل أوله سفينة نوح عليه الصلاة والسلام ، التي أنجاه الله تعالى فيها بمن معه من المؤمنين ، ولهذا قال عزّ وجلّ { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ } أي آباءهم { فِي الفلك المشحون } أي في السفينة المملوءة من الأمتعة والحيوانات ، التي أمره الله تبارك وتعالى أن يحمل فيها من كل زوجين اثنين ، قال ابن عباس { المشحون } الموقر ، وقال الضحّاك وقتادة : هي سفينة نوح عليه الصلاة والسلام ، وقوله جلّ وعلا : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } قال ابن عباس : يعني بذلك الإبل ، فإنها سفن البر يحملون عليها ويركبونها ، وقال السدي في رواية : هي الأنعام ، وقال ابن جرير : عن ابن عباس رضي الله عنه عنهما قال : أتدرون ما قوله تعالى : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } ؟ قلنا : لا ، قال : هي السفن جعلت من بعد سفينة نوح عليه الصلاة والسلام على مثلها ، وكذا قال الضحّاك وقتادة : المراد بقوله تعالى : { وَخَلَقْنَا لَهُمْ مِّن مِّثْلِهِ مَا يَرْكَبُونَ } أي السفن ، ويقوي هذا المذهب في المعنى قوله جلّ وعلا : { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 11-12 ] ، وقوله عزّ وجلّ : { وَإِن نَّشَأْ نُغْرِقْهُمْ } يعني الذين في السفن ، { فَلاَ صَرِيخَ لَهُمْ } أي فلا مغيث لهم مما هم فيه ، { وَلاَ هُمْ يُنقَذُونَ } أي مما أصابهم ، { إِلاَّ رَحْمَةً مِّنَّا } وهذا استثناء منقطع تقديره : ولكن برحمتنا نسيركم في البر والبحر ونسلمكم إلى أجل مسمى ، ولهذا قال تعالى : { وَمَتَاعاً إلى حِينٍ } أي إلى وقت معلوم عند الله عزّ وجلّ .(1/2124)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45) وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (46) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (47)
يقول تعالى مخبراً عن تمادي المشركين في غيهم وضلالهم ، وعدم اكتراثهم بذنوبهم التي أسلفوها ، وما يستقبلون بين أيديهم يوم القيامة : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتقوا مَا بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَمَا خَلْفَكُمْ } قال مجاهد : من الذنوب ، { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } أي لعل الله باتقائكم ذلك يرحمكم ويؤمنكم من عذابه ، وتقدير الكلام أنهم لا يجيبون إلى ذلك بل يعرضون عنه ، واكتفى عن ذلك بقوله تعالى : { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ } : أي على التوحيد وصدق الرسل ، { إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ } أي لا يتأملونها ولا يقبلونها ولا ينتفعون بها ، وقوله عزّ وجلّ : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } أي وإذا أمروا بالانفاق مما رزقهم الله على الفقراء والمحاويج من المسلمين { قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا } اي قالوا لمن أمرهم من المؤمنين بالإنفاق ، محاجين لهم فيما أمروهم به : { أَنُطْعِمُ مَن لَّوْ يَشَآءُ الله أَطْعَمَهُ } أي هؤلاء الذين أمرتمونها بالإنفاق عليهم ، لو شاء الله لأغناهم ولأطعمهم من رزقه ، فنحن نوافق مشيئة الله تعلى فيهم { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي في أمركم لنا بذلك .(1/2125)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) مَا يَنْظُرُونَ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلَا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَلَا إِلَى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50)
يخبر تعالى عن استبعاد الكفرة لقيام الساعة في قولهم : { متى هَذَا الوعد } ، كما قال تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } [ الشورى : 18 ] ، قال الله عزّ وجلّ : { مَا يَنظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَهُمْ يَخِصِّمُونَ } أي ما ينتظرون إلا صيحة واحدة ، وهذه والله أعلم : « نفخة الفزع » ينفخ في الصور نفخة الفزع ، والناس في أسواقهم ومعايشهم يختصمون ويتشاجرون على عادتهم ، فبينما هم كذلك إذ بأمر الله عزّ وجلّ إسرافيل فنفخ في الصورة نفخة يطولها ويمدّها ، فلا يبقى أحد على وجه الارض إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً ، وهي صفحة العنق يتسمع الصوت من قبل السماء ، ثم يساق الموجودون من الناس إلى محشر القيامة بالنار تحيط بهم من جوانبهم ، ولهذا قال تعالى : { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً } أي على ما يملكونه ، الأمر أهم من ذلك ، { وَلاَ إلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ } ، وقد وردت هاهنا آثار وأحاديث ذكرناها في موضع آخر ، ثم يكون بعد هذا : « نفخة الصعق » التي تموت بها الأحياء كلهم ما عدا الحي القيوم ، ثم بعد ذلك ، « نفخة البعث » والله أعلم .(1/2126)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52) إِنْ كَانَتْ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنَا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَلَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)
هذه هي النفخة الثالثة وهي نفخة ( البعث والنشور ) للقيام من الأجداث والقبور ، ولهذا قال تعالى : { فَإِذَا هُم مِّنَ الأجداث إلى رَبِّهِمْ يَنسِلُونَ } والنسلان هو المشي السريع ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً } [ المعارج : 43 ] الآية ، { قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } يعنون قبورهم التي كانوا يعتقدون في الدار الدنيا أنهم لا يبعثون منها ، فلما عاينوا ما كذبوا به في محشرهم { قَالُواْ ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } ؟ وهذا عذابهم في قبورهم ، لأنه بالنسبة إلى ما بعده في الشدة كالرقاد ، قال أبي بن كعب ومجاهد والحسن : ينامون نومة قبل البعث ، قال قتادة . وذلك بين النفختين ، فلذلك يقولون : { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا } فإذا قالوا ذلك أجابهم المؤمنون : { هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون } وقال الحسن : إما يجيبهم بذلك الملائكة؛ وقال عبد الرحمن بن زيد : الجميع من قول الكفار : { ياويلنا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرحمن وَصَدَقَ المرسلون } نقله ابن جرير ، واختار الأول وهو أصح ، وذلك كقوله تبارك وتعالى في الصافات : { وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين * هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [ الصافات : 20-21 ] ، وقوله تعالى : { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } ، كقوله عزّ وجلّ : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بالساهرة } [ النازعات : 13-14 ] ، وقال جلَّت عظمته : { وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ } [ النحل : 77 ] ، وقال جل جلاله : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 52 ] أي إنما نأمرهم أمراً واحداً فإذا الجميع محضرون ، { فاليوم لاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } اي من عملها { وَلاَ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } .(1/2127)
إِنَّ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ (55) هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ فِي ظِلَالٍ عَلَى الْأَرَائِكِ مُتَّكِئُونَ (56) لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ وَلَهُمْ مَا يَدَّعُونَ (57) سَلَامٌ قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)
يخبر تعالى عن أهل الجنة : أنهم يوم القيامة إذا ارتحلوا من العرصات ، فنزلوا في روضات الجنات ، أنهم في شغل عن غيرهم ، بما هم فيه من النعيم المقيم ، والفوز العظيم ، قال الحسن البصري : في شغل عما فيه أهل النار من العذاب ، وقال مجاهد : { فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } أي في نعيم معجبون به ، وقال ابن عباس : { فَاكِهُونَ } أي فرحون ، قال ابن مسعود وابن عباس والحسن وقتادة في قوله تبارك وتعالى : { إِنَّ أَصْحَابَ الجنة اليوم فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } قالوا : شغلهم افتضاض الأبكار ، وقال ابن عباس في رواية عنه : { فِي شُغُلٍ فَاكِهُونَ } أي بسماع الأوتار ، وقوله عزّ وجلّ : { هُمْ وَأَزْوَاجُهُمْ } قال مجاهد : وحلائلهم { فِي ظِلاَلٍ } اي في ظلال الأشجار { عَلَى الأرآئك مُتَّكِئُونَ } قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة { الأرآئك } هي السرر تحت الحجال ، وقوله عزّ وجلّ : { لَهُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ } أي من جميع أنواعها { وَلَهُمْ مَّا يَدَّعُونَ } أي مهما طلبوا وجدوا من جميع أصناف الملاذ ، عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أَلاَ هل مشمر إلى الجنة! فإن الجنة لا خطر لها ، هي ورب الكعبة نور كلها يتلألأ ، وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وثمرة نضيجة ، وزوجة حسناء جميلة ، وجلل كثيرة ، ومقام في أبد في دار سلامة ، وفاكهة خضرة ، وخير ونعمة في محله عالية بهية » ، قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها ، قال صلى الله عليه وسلم : « قولوا إن شاء الله » ، فقال القوم : إن شاء الله « . وقوله تعالى : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } قال ابن عباس : فإن الله تعالى نفسه سلام على أهل الجننة ، وهذا كقوله تعالى : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ } [ الأحزاب : 44 ] ، وقد روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » بينا أهل الجنة في نعيمهم إذ سطع عليهم نور فرفعوا رؤوسهم ، فإذا الرب تعالى قد أشرف عليهم من فوقهم فقال : السلام عليكم يا أهل الجنة ، فذلك قوله تعالى : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } ، قال فينظر إليهم وينظرون إليه ، فلا يلتفتون إلى شيء من النعيم ما داموا ينظرون إليه ، حتى يحتجب عنهم ، ويبقى نوره وبركته عليهم وفي ديارهم « .(1/2128)
وَامْتَازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لَا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَأَنِ اعْبُدُونِي هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيرًا أَفَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62)
يقول تعالى مخبراً عما يؤول إليه حال الكفار يوم القيامة ، من أمره لهم ( أن يمتازوا ) بمعنى يتميزوا عن المؤمنين في موقفهم ، كقوله تعالى : { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } [ يونس : 28 ] ، وقال عزّ وجلّ : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] ، وقال : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] أي يصيرون صدعين فرقتين ، وقوله تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } هذا تقريع من الله تعالى للكفرة من بني آدم ، الذين أطاعوا الشيطان وهو عدوّ لهم مبين ، وعصوا الرحمن وهو الذي خلقهم ورزقهم ، ولهذا قال تعالى : { وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي قد أمرتكم في دار الدنيا بعصيان الشيطان وأمرتكم بعبادتي ، وهذا هو الصراط المستقيم ، فسلكتم غير ذلك واتبعتم الشيطان فيما أمركم به ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً } يقال : جبلاً بكسر الجيم وتشديد اللام ، والمراد بذلك الخلق الكثير ، وقوله تعالى : { أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } أي أفما كان لكم عقل في مخالفة ربكم فيما أمركم به وعدو لكم إلى اتباع الشيطان؟ عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كان يوم القيامة أمر الله تعالى جهنم فيخرج منها عنق ساطع مظلم يقول : { وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون } فيتميز الناس ويجثون ، وهي التي يقول الله عزّ وجلّ : { وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } » .(1/2129)
هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63) اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلَى أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَا أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَلَوْ نَشَاءُ لَطَمَسْنَا عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّرَاطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطَاعُوا مُضِيًّا وَلَا يَرْجِعُونَ (67)
يقال للكفرة من بني آدم يوم القيامة وقد برزت الجحيم لهم تقريعاً وتوبيخاً { هذه جَهَنَّمُ التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } أي هذه التي حذرتكم الرسل فكذبتموهم ، { اصلوها اليوم بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ الطور : 13-14 ] ، وقوله تعالى : { اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } ، هذا حال الكفار والمنافقين يوم القيامة حين ينكرون ما اجترموه في الدنيا ويحلفون ما فعلوه ، فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم بما عملت ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : » أتدرون مم أضحك؟ « قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال صلى الله عليه وسلم : » من مجادلة العبد ربه يوم القيامة ، يقول : رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول : بلى ، فيقول : لا أجيز عليَّ إلا شاهداً من نفسي ، فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك حسيباً ، وبالكرام الكاتبين شهوداً ، فيختم على فيه ، ويقال لأركانه : انطقي ، فتنطق بعمله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول : بعداً لكن وسحقاً فعنكن كنت أناضل « » وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث القيامة الطويل قال فيه : « ثم يلقى الثالث فيقول : ما أنت؟ فيقول : أنا عبدك آمنت بك وبنبيك وبكتابك ، وصمت وصلّيت وتصدقت ، ويثني بخير ما استطاع قال فيقال له : ألا نبعث عليك شاهدنا؟ قال : فيفكر في نفسه من الذي يشهد عليه ، فيختم على فيه ، ويقال : لفخذه انطقي قال فتنطق فخذه ولحمه وعظامه بما كان يعمل ، وذلك المنافق ، وذلك ليعذ من نفسه ، وذلك الذي يسخط الله تعالى عليه » .
روى ابن جرير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : يدعى المؤمن للحساب يوم القيامة ، فيعرض عليه ربه عمله فيما بينه وبينه فيعترف فيقول : نعم أي رب عملت عملت عملت ، قال : فيغفر الله تعالى له ذنوبه ويستره منها ، قالك فما على الأرض خليقة ترى من تلك الذنوب شيئاً ، ويبدو حسناته فود الناس كلهم يرونها ، ويدعى الكافر والمنافق للحساب فيعرض عليه ربه عمله فيجحد ، ويقولك أي رب وعزتك ، لقد كتب عليَّ هذا الملك ما لم أعمل ، فيقول له الملك ، أما عملت كذا في يوم كذا في مكان كذا؟ فيقول : لا وعزتك أي رب ما عملته ، فإذا فعل ذلك ختم الله تعالى على فيه ، قال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : فإني أحسب أول ما ينطق منه الفخذ اليمنى ، ثم تلا : { اليوم نَخْتِمُ على أَفْوَاهِهِمْ وَتُكَلِّمُنَآ أَيْدِيهِمْ وَتَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } .(1/2130)
وقوله تبارك وتعالى : { وَلَوْ نَشَآءُ لَطَمَسْنَا على أَعْيُنِهِمْ فاستبقوا الصراط فأنى يُبْصِرُونَ } ، قال بان عباس في تفسيرها يقول : ولو نشاء لأضللناهم عن الهدى فكيف يهتدون؟ وقال مرة : أعميناهم ، وقال الحسن البصري : لو شاء الله لطمس على أعينهم ، فجعلهم عمياً يترددون ، وقال السدي : ولو نشاء أعمينا أبصارهم ، وقال مجاهد وقتادة والسدي : { فاستبقوا الصراط } يعني الطريق ، وقال ابن زيد يعني بالصراط هاهنا الحق فأنى يبصرون وقد طمسنا على أعينهم؟ وقال ابن عباس : { فأنى يُبْصِرُونَ } لا يبصرون الحق ، وقوله عزّ وجلّ : { وَلَوْ نَشَآءُ لَمَسَخْنَاهُمْ على مَكَانَتِهِمْ } قال ابن عباس : أهلكناهم ، وقال السدي : يعني لغيرها خلقهم ، وقال أبو صالح : لجعلناهم حجارة ، وقال الحسن البصري وقتادة : لأقعدهم على أرجلهم ، ولهذا قال تبارك وتعالى : { فَمَا استطاعوا مُضِيّاً } أي إلى الإمام { وَلاَ يَرْجِعُونَ } إلى وراء بل يلزمون حالاً واحداً لا يتقدمون ولا يتأخرون .(1/2131)
وَمَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَفَلَا يَعْقِلُونَ (68) وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيًّا وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ (70)
يخبر تعالى عن ابن آدم أنه كلما طال عمره ، ردّ إلى الضعف بعد القوة ، والعجز بعد النشاط ، كما قال تعالى : { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَهُوَ العليم القدير } [ الروم : 54 ] ، وقال عزّ وجلّ : { وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً } [ النحل : 70 ، الحج : 5 ] ، والمراد من هذا والله أعلم الإخبار عن هذه الدار ، بأنها دار زوال وانتقال ، لا دار دوام واستقرار ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { أَفَلاَ يَعْقِلُونَ } ؟ أي يتفكرون بعقولهم في ابتداء خلقهم ، ثم صيرورتهم إلى سنن الشيبة ، ثم إلى الشيخوخة ، ليعلموا أنهم خلقوا لدار أخرى ، لا زوال لها ولا انتقال منها ، ولا محيد عنها وهي الدار الآخرة ، وقوله تبارك وتعالى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ } يقول عز وجلّ مخبراً عن نبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : أنه ما علمه الشعر { وَمَا يَنبَغِي لَهُ } أي ما هو ي طبعه فلا يحسنه ولا يحبه ولا تقتضيه جبلته ، ولهذا ورد أنه صلى الله عليه وسلم كان لا يحفظ بيتاً على وزن منتظم ، بل إن أنشده زحفه أو لم يتمه ، قال الشعبي : ما ولد عبد المطلب ذكراً ولا إنثى إلا يقول الشعر ، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن الحسن البصري قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يتمثل بهذا البيت :
( كفى بالإسلام والشيب للمرء ناهياً ) ... ، فاق أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله ، كفى الشيب والإسلام للمرء ناهياً قال أبور بكر أو عمر رضي الله عنهما : أشهد أنك رسول الله ، يقول تعالى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ } . وروى الأموي في « مغازيه » أن رسول الله صلى لله عليه وسلم جعل يمشي بين القتلى يوم بدر ، وهو يقول : « نَفَلّق هاما » ، فيقول الصدّيق رضي الله عنه متمماً للبيت :
. . . . من رجال أعزة ... علينا وهم كانوا أعق وأظلما
وعن عائشة ري الله عنها قالت : كان رسول الله صلى لله عليه وسلم إذا استراب الخبر تمثل فيه ببيت طرفة :
ويأتيك بالأخبار من لم تزود ... وهو في شعر ( طرفة بن العبد ) في معلقته المشهورة :
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... « ويأتيك بالأخبار من لم تزود »
وثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم تمثل يوم حفر الخندق بأبيات عبد الله بن رواحة رضي الله عنه ، ولكن تعباً لقول أ صحابه رضي الله عنهم ، فإنهم كانوا يرتجزون وهم يحفرون فيقولون :
لا هم لولا أنت ما اهتدينا ... ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ... وثبت الأقدام إن لاقينا
إن أولاء قد بغوا علينا ... إذا أرادوا قتنة أبينا(1/2132)
ويرفع صلى الله عليه وسلم صوته بقوله : أبينا ، ويمدها ، وقد روى هذا بزحاف في « الصحيحين » أيضاً ، وكذا ثبت أنه صلى الله عليه وسليم قال يوم حنين وهو راكب البغلة يقدم بها نحور العدو :
أنا النبي لا كذب ... أنا ابن عبد المطلب
لكن قالوا : هذا وقع اتفاقاً من غير قصد لوزن الشعر ، بلى جرى على اللسان من غير قصد إليه ، وكذلك ما ثبت في « الصحيحين » عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غار ، فنكبت اصبعه ، فقال صلى لله عليه وسلم :
هل أنت إلا أصبع دميت ... وفي سبيل الله ما لقيت
وكذ هذا لا ينافي كونه صلى الله عليه وسلم ما علم شعراً وما ينبغي له ، فإن الله تعالى إنما علمه القرآن العظيم : الذي { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] ، وليس هو بشر كما زعمه طائفة من جهلة كفار قريش ، ولا كهانة ولا سحر يؤثر ، كما تنوعت فيه أقوال الضلال وآراء الجهال ، وقد كانت سجيته صلى الله عليه وسلم تأبى صناعة الشعر طبعاً وشرعاً . قال صلى الله عليه وسلم : « لأن يمتلىء جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلىء شعراً » على أن الشعر فيه ما هو مشروع وهو هجاء المشركين ، الذي كان يتعاطاه شعراء الإسلام ، كحسان بن ثابت وكعب بن مالك وعبد الله بن رواحة وأمثالهم وأضرابهم رضي الله عنهم أجمعين ، ومنه ما فيه حكم ومواعظ وآداب ، كما يوجد في شعر جماعة من الجاهلية ، ومنهم ( أمية بن أبي الصلت ) الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم : « آمن شعره وكفر قلبه » ، وقد أنشد بعض الصحابة رضي الله عنهم للنبي صلى الله عليه وسلم مائة بيت يقول صلى الله عليه وسلم عقب لك بيت : « هيه » ، يعني يستطعمه فيزيده منذلك ، وفي الحديث : « إن من البيان سحراً وإن من الشعر حكماً » ، ولهذا قال تعالى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ما علمه الله الشعر ، { وَمَا يَنبَغِي لَهُ } أي وما يصلح له { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } أي ما هذا الذي علمناه { إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } أي بين واضح جلي لمن تأمله وتدبره ، ولهذا قال تعالى : { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً } أي لينذر هذا القرآن المبين كل حي على وجه الأرض ، كقوله : { لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، وإنما ينتفع بنذارته من هو حي القلب مستنير البصيرة ، كما قال قتادة : حب القلب ، حي البصر ، وقال الضحاك : يعني عاقلاً ، { وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين } أي وهو رحمة للمؤمنين وحجة على الكافرين .(1/2133)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنَا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَا أَنْعَامًا فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ (71) وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ (72) وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلَا يَشْكُرُونَ (73)
يذكر تعالى ما أنعم به على خلقه من هذه الأنعام التي سخرها لهم { فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ } قال قتادة : مطيقون أي جعلهم يقهرونها وهي ذليلة لهم ، لا تمتنع منهم بل لو جاء صغير إلى بعير لأناخه ، ولو شاء لأقامه وساقه وذاك ذليل منقاد معه ، وكذا لون كان القطار مائة بعير أو أكثر لسار الجميع بسير الصغير ، وقوله تعالى : { فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } أي منها ما يركبون في الأسفار ، ويحملون عليه الأثقال إلى سائر الجهات والأقطار ، { وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } إذا شاءوا نحروا واجتزروا { وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أي من أصوافها وأوبارها وأشعارها أثاثاً ومتاعاً إلى حين { وَمَشَارِبُ } أي من ألبانها وأبوالها لمن يتداوى ونحو ذلك ، { أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } ؟ أي أفلا يوحدون خالق ذلك ومسخره ولا يشركون به غيره؟(1/2134)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَهُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75) فَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (76)
يقول تعالى منكراً على المشركين في اتخاذهم الأنداد آلهة مع الله ، يبتغون بذلك أن تنصرهم تلك الآلهة ، وترزقهم وتقربهم إلى الله زلفى ، قال الله تعالى : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ } أي لا تقدر الألهة على نصر عابديها ، بل هي أضعف من ذلك وأقل وأذل ، وأحقر وأدحر ، بل لا تقدر على الاستنصار لأنفسها ولا الانتقام ممن أرادها بسوء ، لأنها جماد لا تسمع ولا تعقل ، وقوله تبارك وتعالى : { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ } ، قال مجاهد : يعني عند الحساب يريد أن هذه الأصنام محشورة مجموعة يوم القيامة محضرة عند حساب عابديها ، ليكون ذلك أبلغ في حزنهم وأدل عليهم في إقامة الحجة عليهم ، وقال قتادة : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ } يعني الآلهة ، { وَهُمْ لَهُمْ جُندٌ مُّحْضَرُونَ } والمشركون يغضبون للآلهة في الدنيا ، وهي لا تسوق إليهم خيراً ولا تدفع عنهم شراً إنما هي أصنام ، وهذا القول حسن ، وهو اختيار ابن جرير ، وقوله تعالى : { فَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ } أي تكذيبهم لك وكفرهم بالله ، { إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي نحن نعلم جميع ما هم فيه وسنجزيهم وصفهم ، يوم لا يفقدون من أعمالهم جليلاً ولا حقيراً ، ولا صغيراً ، ولا كبيراً ، بل يعرض عليهم جميع ما كانوا يعملون قديماً وحديثاً .(1/2135)
أَوَلَمْ يَرَ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ نَارًا فَإِذَا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80)
قال مجاهد وعكرمة : « جاء ( أبي بن خلف ) لعنه الله ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده عظم رميم ، وهو يفته ويذروه في الهواء ، وهو يقول : يا محمد أتزعم أن الله يبعث هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم : » نعم ، يميتك الله تعالى ثم يبعثك ثم يحشرك إلى النار « » ، ونزلت هذه الآيات من آخر يس : { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ } إلى آخرهن ، وقال ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « إن العاص بن وائل أخذ عظماً من البطحاء ففته بيده ثم قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : أيحيي الله هذا بعد ما أرى؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : نعم : يمتيك الله ثم يحييك ثم يدخلك جهنم » ، قال : ونزلت من آخر يس ، وعلى كل تقدير سواء كانت هذه الآيات قد نزلت في ( أُبي بن خلف ) أو ( العاص بن وائل ) أو فيهما ، فهي عامة في كل من أنكر البعث ، والألف واللام في قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان } للجنس يعم كل منكر للبعث ، { أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } أي أو لم يستدل من انكر البعث بالبدء على الإعادة ، فإن الله ابتدأ خلق الإنسان من سلالة من ماء مهين ، فخلقه من شيء حقير ضعيف مهين ، كما قال عزّ وجلّ : { أَلَمْ نَخْلُقكُّم مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [ المرسلات : 20 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا خَلَقْنَا الإنسان مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ } [ الإنسان : 2 ] أي من نطفة من أخلاط متفرقة ، فالذي خلقه من هذه النطفة الضعيفة أليس بقادر على إعادته بعد موته؟ كما قال الإمام أحمد في « مسنده » عن بشر بن جحاش قال : « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بصق يوماً في كفه فوضع عليها إصبعه ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » قال الله تعالى : ابن آدم أنى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ، حتى إذا سويتك وعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيذ ، فجمعت ومنعت ، حتى إذا بلغت التراقي قلت : أتصدق وأنى أوان الصدقة؟ « ، ولهذا قال تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } ؟ أي استبعد إعادة الله تعالى ذي القدرة العظيمة ، للأجساد والعظام الرميمة ، ونسي نفسه وأن الله تعالى خلقه من العدم إلى الوجود ، فعلم من نفسه ما هو أعظم مما استبعده وأنكره وجحده ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } أي يعلم العظام في سائر أقطار الأرض وأرجائها؛ أين ذهبت وأين تفرقت وتمزقت .
قال الإمام أحمد ، قال عقبة بن عمرو لحذيفة رضي الله عنهما :(1/2136)
« ألا تحدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال : سمعته صلى الله عليه وسلم يقول : » إن رجلاً حضره الموت فلما أيس من الحياة أوصى أهله إذا أنا مت فاجمعوا لي حطباً كثيراً جزلاً ، ثم أوقدوا فيه ناراً ، حتى إذا أكلت لحمي وخلصت إلى عظمي ، فامتحشت فخذوها فدقوها فذروها في اليم ، ففعلوا ، فجمعه الله تعالى إليه ، ثم قال له : لم فعلت ذلك؟ قال : من خشيتك ، فغفر الله عزّ وجلّ له « » ، وفي « الصحيحين » « بأنه أمر بنيه أن يحرقوهن ، ثم يسحقوه ، ثم يذروا نصفه في البر ونصفه في البحر في يوم رائح ، أي كثير الهواء ، ففعلوا ذلك ، فأمر الله تعالى البحر فجمع ما فيه وأمر البر فجمع ما فيه ، ثم قال له : كن فإذا هو رجل قائم ، فقال له : ما حملك على ما صنعت؟ قال : مخافتك وأنت أعلم ، فما تلافاه أن غفر له » وقوله تعالى : { الذي جَعَلَ لَكُم مِّنَ الشجر الأخضر نَاراً فَإِذَآ أَنتُم مِّنْه تُوقِدُونَ } أي الذي بدأ خلق هذا الشجر من ماء ، حتى صار خضراً نضراً ، ذا ثمر وينع ، ثم أعاده إلى أن صار حطباً يابساً توقد به النار ، كذلك هو فعال لما يشاء قادر على ما يريد لا يمنعه شيء ، قال قتادة : يقول : هذا الذي أخرج هذه النار من هذا الشجر قادرعلى أن يبعثه ، وقيل : المراد بذلك شجر المرخ و الغفار ينبت في أرض الحجاز فيأتي من أراد قدح نار وليس معه زناد ، فيأخذ منه عودين أخضرين ، ويقدح أحدهما بالآخر ، فتتولد النار بينهما كالزناد سواء ، وفي المثل : لكل شجر نار واستمجد المرخ والغفار ، وقال الحكماء : في كل شجر نار إلا العنَّاب .(1/2137)
أَوَلَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلَى وَهُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (81) إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)
يقول تعالى مخبراً منبهاً على قدرته العظيمة ، في خلق السماوات والسبع بما فيها من الكواكب السيارة والثوابت ، والأرضيين السبع وما فيها من جبال ورمال وبحار وقفار وما بين ذلك ، ومرشداً إلى الاستدلال على إعادة الأجساد بخلق هذه الأشياء العظيمة كقوله تعالى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 57 ] وقال عزّ وجلّ هاهنا { أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم } أي مثل البشر فيعيدهم كما بدأهم ، وهذه الآيات الكريمة كقوه عزّ وجلّ : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف : 33 ] ، وقال تبارك وتعالى هاهنا : { بلى وَهُوَ الخلاق العليم * إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } أي إنما يأمر بالشيء أمراً واحداً لا يحتاج إلى تكرار وتأكيد كما قيل :
إذا ما أراد الله أمراً فإنما ... يقول له ( كن ) قولةً ( فيكون )
عن أبي ذر رضي الله عنه ، « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إن الله تعالى يقول يا عبادي كلكم مذنب إلا من عافيت فاستغفروني أغفر لكم ، وكلكم فقير إلا من أغنيت ، إني جوّاد ماجد واجد أفعل ما أشاء ، عطاي كلام ، وعذابي كلام ، إذا أردت شيئاً فإنما أقول له كن فيكون « وقوله تعالى : { فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي تنزيه وتقديس للحي القيوم ، الذي بيده مقاليد السماوات والأرض ، وإليه ترجع العباد يوم المعاد فيجازي كل معامل بعمله ، وهو العادل المنعم المتفضل ، ومعنى قوله سبحانه : { فَسُبْحَانَ الذي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } كقوله عزّ وجلّ : { تَبَارَكَ الذي بِيَدِهِ الملك } [ الملك : 1 ] فالملك والملكوت واحد في المعنى كرحمة ورحموت ، ورهبة ورهبوت ، ومن الناس من زعم أن { الملك } هو عالم الأجساد ، { المَلَكُوتُ } هو عالم الأرواح ، والصحيح الأول ، وهو الذي عليه الجمهور من المفسرين وغيرهم . روى الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : » قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقرأ السبع الطوال في ركعات ، وكان صلى الله عليه وسلم إذا رفع رأسه من الركوع قال : سمع الله لمن حمده ، ثم قال الحمد لله ، ذي الملكوت والجبروت والكبرياء والعظمة ، وكان ركوعه مثل قيامه ، وسجوده مثل ركوعه ، فانصرف وقد كادت تنكسر رجلاي « . عن عوف بن مالك الأشجعي رضي الله عنه قال : » قمت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقام ، فقرأ سورة البقرة ، لا يمر بآية رحمة إلا وقف وسأل ، ولا يمر بآية عذاب إلا وقف وتعوذ ، قال : ثم ركع بقدر قيامه ، يقول في ركوعه : « سبحان ذي الجبروت والملكوت والكبرياء والعظمة » ، ثم سجد بقدر قيامه ، ثم قال في سجوده مثل ذلك ، ثم قام فقرأ بآل عمران ، ثم قرأ سورة « .(1/2138)
وَالصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِرَاتِ زَجْرًا (2) فَالتَّالِيَاتِ ذِكْرًا (3) إِنَّ إِلَهَكُمْ لَوَاحِدٌ (4) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَرَبُّ الْمَشَارِقِ (5)
قال ابن مسعود رضي الله عنه { والصافات صَفَّا } ، { فالزاجرات زَجْراً } ، { فالتاليات ذِكْراً } : هي الملائكة؛ وقال قتادة : الملائكة صفوف في السماء ، روى مسلم عن جابر بن سمرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » ألا تصفّون كما تصف الملائكة عند ربهم؟ « قالنا وكيف تصف الملائكة عند ربهم؟ قال صلى الله عليه وسلم : » يتمون الصفوف المتقدمة ، ويتراصّون في الصف « » وقال السدي معنى قوله تعالى : { فالزاجرات زَجْراً } : أنها تزجر السحاب ، وقال الربيع بن أنَس { فالزاجرات زَجْراً } : ما زجر الله تعالى عنه في القرآن ، { فالتاليات ذِكْراً } قال السدي : الملائكة يجيئون بالكتاب والقرآن من عند الله إلى الناس ، كقوله تعالى : { فالملقيات ذِكْراً * عُذْراً أَوْ نُذْراً } [ المرسلات : 5-6 ] ، وقوله عزّ وجلّ : { إِنَّ إلهكم لَوَاحِدٌ * رَّبُّ السماوات والأرض } ، هذا هو المقسم عليه أنه تعالى لا إله إلا هو رب السماوات والأرض { وَمَا بَيْنَهُمَا } أي من المخلوقات ، { وَرَبُّ المشارق } أي هو المالك المتصرف في الخلق بتسخيره بما فيه من كواكب تبدو من المشرق وتغرب من المغرب ، واكتفى بذكر المشارق عن المغارب لدلالتها عليه ، قد صرح بذلك في قوله عزّ وجلّ : { فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب إِنَّا لَقَادِرُونَ } [ المعارج : 40 ] ، وقال تعالى : { رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين } [ الرحمن : 17 ] يعني في الشتاء والصيف ، للشمس والقمر .(1/2139)
إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6) وَحِفْظًا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ مَارِدٍ (7) لَا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلَى وَيُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جَانِبٍ (8) دُحُورًا وَلَهُمْ عَذَابٌ وَاصِبٌ (9) إِلَّا مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ (10)
يخبر تعالى أنه زين السماء الدنيا للناظرين إليها من أهل الأرض بزينة الكواكب ، فالكواكب السيارة والثوابت تضيء لأهل الأرض ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَجَعَلْنَاهَا رُجُوماً لِّلشَّيَاطِينِ } [ الملك : 5 ] ، وقال عزّ وجلّ : { وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السماء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ *وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ } [ الحجر : 16-17 ] ، فقوله جلّ وعلا هاهنا : { وَحِفْظاً } تقديره : وحفظناها حفظاً : { مِّن كُلِّ شَيْطَانٍ مَّارِدٍ } يعني المتمرد العاتي ، إذا أراد أن يسترق السمع أتاه شهاب ثاقب فأحرقه ، ولهذا قال جلّ جلاله : { لاَّ يَسَّمَّعُونَ إلى الملإ الأعلى } أي لئلا يصلوا إلى الملأ { الملإ الأعلى } وهي السماوات ومن فيها من الملائكة ، كما تقدم بيان ذلك ، ولهذا قال تعالى : { وَيُقْذَفُونَ } أي يرمون { مِن كُلِّ جَانِبٍ } أي من كل كهة يقصدون السماء منها ، { دُحُوراً } أي رجماً يدحرون به ويزجرون ، ويمنعون من الوصول إلى ذلك ويرجمون ، { وَلَهُمْ عَذابٌ وَاصِبٌ } أي في الدار الآخرة ، لهم عذاب دائم موجع مستمر ، كما قال جلّت عظمته : { وَأَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابَ السعير } [ الملك : 5 ] ، وقوله تبارك وتعالى : { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة } أي إلا من اختطف من الشياطين الخطفة ، وهي الكلمة يسمعها من السماء ، فيلقيها إلى الذي تحته ، ويلقيها الآخر إلى الذي تحته ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، ولهذا قال : { إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الخطفة فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ ثَاقِبٌ } أي مستنير ، قال ابن عباس : كان للشياطين مقاعد في السماء ، فكانوا يستمعون الوحي ، وكانت النجوم لا تجري ، وكانت الشياطين لا ترمي ، فإذا سمعوا الوحي نزلوا إلى الأرض ، فزادوا في الكلمة تسعاً ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، جعل الشيطان إذا قعد مقعده جاءه شهاب فلم يخطئه حتى يحرقه ، فشكوا ذلك إلى إبليس لعنه الله ، فقال : ما هو إلا من أمرٍ حدَث ، فبعث جنوده فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم قائم يصلي بين جبلي نخلة ، قال وكيع : يعني بطن نخلة ، فرجعوا إلى إبليس ، فأخبروه ، فقال : هذا الذي حدث .(1/2140)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَهُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمْ مَنْ خَلَقْنَا إِنَّا خَلَقْنَاهُمْ مِنْ طِينٍ لَازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ (12) وَإِذَا ذُكِّرُوا لَا يَذْكُرُونَ (13) وَإِذَا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَقَالُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (15) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَأَنْتُمْ دَاخِرُونَ (18) فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنْظُرُونَ (19)
يقول تعالى : فسل هؤلاء المنكرين للبعث أيما أشد خلقاً هم أم السماوات والأرض ، وما بينهما من الملائكة والشياطين والمخلوقات العظيمة؟ فإنهم يقرون أن هذه المخلوقات أشد خلقاً منهم ، وإذا كان الأمر كذلك فلم ينكرون البعث؟ وهم يشاهدون ما هو أعظم مما أنكروا ، كما قال عزّ وجلّ : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } [ غافر : 57 ] ثم بيَّن أنهم خلقوا من شيء ضعيف فقال : { إِنَّا خَلَقْنَاهُم مِّن طِينٍ لاَّزِبٍ } قال مجاهد والضحّاك : هو الجيد الذي يلتزق بعضه ببعض ، وقال ابن عباس وعكرمة : هو اللزج الجيد ، وقال قتادة : هو الذي يلزق باليد ، وقوله عزّ وجلّ : { بَلْ عَجِبْتَ وَيَسْخَرُونَ } أي بل عجبت يا محمد من تكذيب هؤلاء المنكرين للبعث ، وأنت موقن مصدق بما أخبر الله تعالى من الأمر العجيب ، وهو إعادة الأجسام بعد فنائها ، وهم بخلاف أمرك من شدة تكذيبهم يسخرون مما تقول لهم من ذلك ، قال قتادة : عجيب محمد صلى الله عليه وسلم وسخر ضلاّل بني آدم ، { وَإِذَا رَأَوْاْ آيَةً } أي دلالة واضحة على ذلك { يَسْتَسْخِرُونَ } ، قال مجاهد : يستهزئون ، { وقالوا إِن هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي ما هذا الذي جئت به إلا سحر مبين ، { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأولون } ؟ يستبعدون ذلك ويكذبون به { قُلْ نَعَمْ وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } ، أي قل لهم يا محمد : نعم تبعثون يوم القيامة ، بعدما تصيرون تراباً وعظاماً ، { وَأَنتُمْ دَاخِرُونَ } أي حقيرون تحت القدرة العظيمة ، كما قال تعالى : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } [ النمل : 87 ] ، وقال تعالى : { سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] ، ثم قال جلت عظمته : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } أي فإنما هو أمر واحد من الله عزّ وجلّ ، يدعوهم أن يخرجوا من الأرض ، فإذا هم قيام بين يديه ينظرون إلى أهوال يوم القيامة .(1/2141)
وَقَالُوا يَا وَيْلَنَا هَذَا يَوْمُ الدِّينِ (20) هَذَا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ (23) وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْئُولُونَ (24) مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ (25) بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)
يخبر تعالى عن قيل الكفار يوم القيامة ، أنهم يرجعون على أنفسهم بالملامة ، ويعترفون بأنهم كانوا ظالمين لأنفسم ، فإذا عاينوا أهوال القيامة ، ندموا كل الندامة حيث لا ينفعهم الندم ، { وَقَالُواْ ياويلنا هذا يَوْمُ الدين } ، فقول لهم الملائكة والمؤمنون : { هذا يَوْمُ الفصل الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } على وجه التقريع والتوبيخ ، ويأمر الله تعالى الملائكة أن تميز الكفار من المؤمنين ، في الموقف في محشرهم ومنشرهم ، ولهذا قال تعالى : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } ، قال النعمان بن بشير : يعني بأزواجهم أشباههم وأمثالهم؛ وعن عمر بن الخطاب : { وَأَزْوَاجَهُمْ } قال : إخوانهم ، وقال النعمان : سمعت عمر يقول : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } قال : أشباههم ، قال يجيء أصحاب الزنا مع أصحاب الزنا ، وأصحاب الربا مع أصحاب الربا ، وأصحاب الخمر مع أصحاب الخمر ، وقال ابن عباس : { وَأَزْوَاجَهُمْ } قرناءهم ، { وَمَا كَانُواْ يَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله } أي من الأصنام والأنداد تحشر معهم في أماكنهم ، وقوله تعالى : { فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم } أي أرشدوهم إلى طريق جهنم ، وهذا كقوله تعالى : { مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [ الإسراء : 97 ] ، وقوله تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } أي قفوهم حتى يسألوا عن أعمالهم وأقوالهم ، التي صدرت عنهم في الدار الدنيا ، قال ابن عباس : يعني احبسوهم إنهم محاسبون ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أيما داع دعا إلى شيء كان موقوفاً معه إلى يوم القيامة لا يغادره ولا يفارقه ، وإن دعا رجل رجلاً » ، ثم قرأ : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } ، وقال ابن المبارك : « إن أول ما يسأل عنه الرجل جلساؤه » ثم يقال لهم على سبيل التقريع والتوبيخ { مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ } ؟ أي كما زعمتم أنكم جميع منتصر؟ { بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ } أي منقادون لأمر الله لا يخالفونه ولا يحيدون عنه ، والله أعلم .(1/2142)
وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (27) قَالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ (28) قَالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْمًا طَاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ (31) فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ (36) بَلْ جَاءَ بِالْحَقِّ وَصَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)
يذكر تعالى : أن الكفار يتلاومون في عرصات القيامة ، كما يتخاصمون في دركات النار ، { فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النار } [ غافر : 47 ] ؟ كما قال تعالى : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } [ سبأ : 31 ] وهكذا قالوا لهم ههنا : { إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين } ، قال ابن عباس ، يقولون : كنتم تقهروننا بالقدرة منكم علينا ، لأنا كنا أذلاء وكنتم أعزاء ، وقال مجاهد : يعني عن الحق ، تقوله الكفار للشياطين ، وقال قتادة : قالت الإنس والجن : { إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ اليمين } ، قال من قبل الخير فتنهونا عنه وتبطئونا عنه ، وقال السدي : تأتوننا من قبل الحق وتزينوا لنا الباطل ، وتصدونا عن الحق ، قال الحسن : أي والله يأتيه عند كل خير يريده فيصده عنه ، وقال ابن زيد : معناه تحولون بيننا وبين الخير ، ورددتمونا عن الإسلام والإيمان والعمل بالخير الذي أمرنا به .
وقوله تعالى : { قَالُواْ بَلْ لَّمْ تَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } تقول القادة من الجن والإنس للأتباع : ما الأمر كما تزعمون ، بل كانت قلوبكم منكرة للإيمان ، قابلة للكفر والعصيان ، { وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } اي من حجة على صحة ما دعوناكم إليه ، { بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ } ، أي بل كان فيكم طغيان ومجاوزة للحق ، فلهذا استجبتم لنا وتركتم ا لحق الذي جاءتكم به الأنبياء ، { فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَآ إِنَّا لَذَآئِقُونَ * فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ } ، يقول الكبراء للمستضعفين : حقت علينا كلمة الله إنا من الأشقياء الذائقين للعذاب يوم القيامة ، { فَأَغْوَيْنَاكُمْ } أي دعوناكم إلى الضلالة { إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ } ، أي فدعوناكم إلى ما نحن فيه فاستجبتم لنا ، قال تعالى : { فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ } أي الجميع في النار كل بحسبه ، { إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بالمجرمين * إِنَّهُمْ كانوا } أي في الدار الدنيا { إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ } أي يستكبرون أن يقولوها كما يقولها المؤمنون .
وفي الحديث : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فمن قال : لا إله إلا الله قد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عزّ وجلّ » وروى ابن أبي حاتم عن أبي العلاء قال : يؤتى باليهود يوم القيامة فيقال لهم : ما كنتم تعبدون؟ فيقولون : نعبد الله وعزيراً ، فيقال لهم : خذوا ذات الشمال؛ ثم يؤتى بالنصارى فيقال لهم : ما كنتم تعبدون؟ فيقولون : نعبد الله والمسيح ، فيقال لهم : خذوا ذات الشمال ، ثم يؤتى بالمشركين فيقال لهم : لا إله إلا الله فيستكبرون ، ثم يقال لهم : لا إله إلا الله ، فيستكبرون ، ثم يقال لهم : لا إله إلا الله ، فيستكبرون ، فيقال لهم : خذوا ذات الشمال ، قال أبو نضرة : فينطلقون أسرع من الطير ، قال أبو العلاء : ثم يؤتى بالمسلمين فيقال لهم : ما كنتم تعبدون؟ فيقولون : كنا نعبد الله تعالى ، فيقال لهم : هل تعرفونه إذا رأيتموه؟ فيقولون : نعم ، فيقال لهم : فكيف تعرفونه ولم تروه؟ فيقولون نعلم أنه لا عدل له ، قال : فيتعرف لهم تبارك وتعالى وتقدس وينجي الله المؤمنين .(1/2143)
{ وَيَقُولُونَ أَإِنَّا لتاركوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ } أي أنحن نترك عبادة آلهتنا وآلهة آبائنا عن قول هذا الشاعر المجنون؟ يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الله تعالى تكذيباً لهم ورداً عليهم : { بَلْ جَآءَ بالحق } يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم جاء بالحق ، { وَصَدَّقَ المرسلين } أي صدّقهم فيما أخبروا عنه من الصفات الحميدة ، والمناهج السديدة ، وأخبر عن الله تعالى في شرعه وأمره ، كما أخبروا { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [ فصلت : 43 ] الآية .(1/2144)
إِنَّكُمْ لَذَائِقُو الْعَذَابِ الْأَلِيمِ (38) وَمَا تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَوَاكِهُ وَهُمْ مُكْرَمُونَ (42) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (44) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضَاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لَا فِيهَا غَوْلٌ وَلَا هُمْ عَنْهَا يُنْزَفُونَ (47) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)
يقول تعالى مخاطباً للناس : { إِنَّكُمْ لَذَآئِقُو العذاب الأليم * وَمَا تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } ، ثم استثنى من ذلك عباده المخلصين ، كما قال تعالى : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً * ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً } [ مريم : 71-72 ] ، وقال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين } [ المدثر : 38-39 ] ، ولهذا قال جلّ وعلا هاهنا { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } أي ليسوا يذوقون العذاب الأليم ، ولا يناقشون في الحساب ، بل يتجاوز عن سيئاتهم إن كان لهم سيئات ، ويجزون الحسنة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، إلى أضعاف كثيرة ، وقوله جلّ وعلا { أُوْلَئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَّعْلُومٌ } قال السدي : يعني الجنة ، ثم فسره بقوله تعالى : { فَوَاكِهُ } أي متنوعة { وَهُم مُّكْرَمُونَ } أي يخدمون ويرفهون وينعّمون { فِي جَنَّاتِ النعيم * على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } ، قال مجاهد : لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض ، وقوله تعالى : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ * بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } ، كما قال تعالى : { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ } [ الواقعة : 19 ] نزّه الله سبحانه وتعالى خمر الجنة عن الآفات التي في خمر الدنيا ، من صدع الرأس ، ووجع البطن ، وهو ( الغول ) وذهابها بالعقل جملة ، فقال تعالى : { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } أي بخمر من أنهار جارية ، لا يخافون انقطاعها ولا فراغها ، قال زيد بن أسلم : خمر جارية بيضاء ، أي لونها مشرق حسن بهي ، لا كخمر الدنيا في منظرها البشع الرديء ، من حمرة أو سواد أو اصفرار أو كدورة ، إلى غير ذلك مما ينفر الطبع السليم ، وقوله عزّ وجلّ : { لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } أي طعمها طيب كلونها ، وطيب الطعم دليل على طيب الريح ، بخلاف خمر الدنيا في جميع ذلك ، وقوله تعالى : { لاَ فِيهَا غَوْلٌ } يعني وجع البطن ، كما تفعله خمر الدنيا ، وقيل : المراد بالغول ههنا صداع الرأس ، وروي عن ابن عباس ، وقال قتادة : هو صداع الرأس ووجع البطن؛ وقال السدي : لا تغتال عقولهم ، كما قال الشاعر :
فما زالت الكأس تغتالنا ... وتذهب بالأول الأول
وقال سعيد بن جبير : لا مكروه فيها ولا أذى ، والصحيح قول مجاهد : أنه وجع البطن ، وقوله تعالى : { وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } قال مجاهد : لا تذهب عقولهم ، وقال ابن عباس : في الخمر أربع خصال : ( السكر ، والصداع ، والقيء ، والبول ) ، فذكر الله تعالى خمر الجنة ، فنزّهها عن هذه الخصال ، وقوله تعالى : { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف } أي عفيفات لا ينظرن إلى غير أزواجهن ، كذا قال ابن عباس ومجاهد ، وقوله تبارك وتعالى : { عِينٌ } أي حسان الأعين ، وقيل : ضخام الأعين ، وهي النجلاء العيناء ، فوصف عيونهن بالحسن والعفة ، كقول زليخا في يوسف عليه السلام { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم }(1/2145)
[ يوسف : 32 ] أي هو مع هذا الجمال عفيف تقي نقي ، وهكذا الحور العين { خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرحمن : 70 ] ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف عِينٌ } . وقوله جلّ جلاله : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } وصفهن بترافة الأبدان بأحسن الألوان ، قال ابن عباس : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } يقول : اللؤلؤ المكنون ، وأنشد قول الشاعر :
وهي زهراء مثل لؤلؤة الغوا ... ص ميزت من جوهر مكنون
وقال الحسن : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } يعني مصون لم تسمه الأيدي ، وقال سعيد بن جبير : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } يعني بطن البيض ، وقال السدي : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } يقول : بياض البيض حين ينزع قشره ، واختاره ابن جرير لقوله { مَّكْنُونٌ } قال : والقشرة العليا يمسها جناح الطير والعش ، وتنالها الأيدي بخلاف داخلها ، وفي الحديث عن أنَس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنا أول الناس خروجاً إذا بعثوا ، وأنا خطيبهم إذا وفدوا ، وأنا مبشرهم إذا حزنوا وأنا شفيعهم إذا حبسوا ، لواء الحمد يومئذٍ بيدي ، وأنا أكرم ولد آدم على الله عزّ وجلّ ولا فخر ، يطوف علي ألف خادم كأنهن البيض المكنون أو اللؤلؤ المكنون » .(1/2146)
فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (50) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54) فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ (55) قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هَذَا فَلْيَعْمَلِ الْعَامِلُونَ (61)
يخبر تعالى عن أهل الجنة أنه { فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } أي عن أحوالهم وكيف كانوا في الدنيا ، وماذا كانوا يعانون فيها ، وذلك من حديثهم على شرابهم واجتماعهم في تنادمهم ، ومعاشرتهم في مجالسهم ، وهم جلوس على السرر ، والخدم بين أيديهم ، يسعون ويبحثون بكل خير عظيم ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ } قال مجاهد : يعني شيطاناً ، وقال ابن عباس : هو الرجل المشرك يكون له صاحب من أهل الإيمان في الدنيا ، ولا تنافي بين كلام مجاهد وابن عباس رضي الله عنهما ، فإن الشيطان يكون من الجن فيوسوس في النفس ، ويكون من الإنس ، فيقول كلاماً تسمعه الأذنان ، وكلاهما يتعاونان ، قال الله تعالى : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] وكل منهما يوسوس ، كما قال الله عزّ وجلّ : { مِن شَرِّ الوسواس الخناس * الذى يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ الناس * مِنَ الجنة والناس } [ الناس : 46 ] ولهذا : { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين } أي أأنت تصدّق بالبعث والنشور ، والحساب والجزاء؟ يعني يقول ذلك على وجه التعجب والتكذيب والاستبعاد ، والكفر والعناد { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } ؟ قال مجاهد والسدي : لمحاسبون ، وقال ابن عباس : لمجزيون بأعمالنا ، قال تعالى : { قَالَ هَلْ أَنتُمْ مُّطَّلِعُونَ } أي مشرفون ، يقول المؤمن لأصحابه وجلسائه من أهل الجنة { فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم } قال ابن عباس والسدي : يعني في وسط الجحيم ، وقال الحسن البصري : في وسط الجحيم كأنه شهاب يتقدم ، وقال قتادة : ذكر أنه اطلع فرأى جماجم القوم تغلي ، وقال كعب الأحبار : في الجنة كوى ، إذا أراد أحد من أهلها أن ينظر إلى عدوه في النار ، اطلع فيها فازداد شكراً لله ، { قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ } يقول المؤمن مخاطباً للكافر : والله إن كدت لتهلكني لو أطعتك ، { وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين } أي ولولا فضل الله عليّ لكنت مثلك في سواء الجحيم ، محضر معك في العذاب ، ولكنه رحمني فهداني للإيمان ، وأرشدني إلى توحيده { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله } [ الأعراف : 43 ] . وقوله تعالى : { أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } ؟ هذا من كلام المؤمن ، مغتبطاً نفسه بما أعطاه الله تعالى ، من الخلد في الجنة والإقامة في دار الكرامة ، بلا موت فيها ولا عذاب ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم } . قال الحسن البصري : علموا أن كل نعيم فإن الموت يقطعه ، فقالوا : { لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون } ؟ قيل : لا ، من كلام أهل الجنة ، وقال ابن جرير : هو من كلام الله تعالى ، ومعناه : لمثل هذا النعيم وهذا الفوز فليعمل العاملون في الدنيا ليصيروا إليه في الآخرة .(1/2147)
قال السدي : كان شريكان في بني إسرائيل ، أحدهما مؤمن والآخر كافر ، فافترقا على ستة آلاف دينار ، لكل واحد منهما ثلاثة آلاف دينار ، ثم افترقا فمكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ، ثم التقيا ، فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالكظ أضربت به شيئاً ، اتجرت به شيء؟ قال له المؤمن : لا ، فما صنعت أنت؟ فقال اشتريت به أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً بالف دينا قال فقال له المؤمن : أو فعلت؟ قال : نعم ، قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي ، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ، ثم قال : اللهم إن فلاناً يعني شريكه الكافر اشترى أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً بألف دينار ثم يموت غداً ويتركها . اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار أرضاً ونخلاً وثماراً وأنهاراً في الجنة ، قال : ثم أصبح فقسمها في المساكين ، قال : ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ، ثم التقيا ، فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك أضربت به في شيء؟ أتجرت به في شيء؟ قال : لا ، قال : فما صنعت أنت؟ قال : كانت ضيعتي قد اشتد عليَّ مؤنتها ، فاشتريت رقيقاً بألف دينار ، يقومون لي فيها ويعملون لي فيها ، فقال له المؤمن : أو فعلت؟ قال : نعم ، قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء تعالى أن يصلي ، فلما انصرف أخذ ألف دينار فوضعها بين يديه ثم قال : اللهم أن فلاناً يعني شريكه الكافر اشترى رقيقاً من رقيق الدنيا بألف دينار يموت غداً فيتركهم أو يموتون فيتركونه ، اللهم إني اشتريت منك بهذه الألف دينار رقيقاً في الجنة ، قال : ثم أصبح ، فقسمها في المساكين قال : ثم مكثا ما شاء الله تعالى أن يمكثا ، ثم التقيا ، فقال الكافر للمؤمن : ما صنعت في مالك أضربت به في شيء ، أتجرت به في شيء؟ قال : لا ، فما صنعت أنت؟ قال : كان أمري كله قد تم إلا شيئاً واحداً ، فلانه قد مات عنها زوجها فأصدقتها ألف دينار ، فجاءتني بها ومثلها معها ، فقال له المؤمن : أو فعلت؟ قال : نعم ، قال : فرجع المؤمن حتى إذا كان الليل صلى ما شاء الله تعالى أن يصلي ، فلما انصرف أخذ الألف دينار الباقية فوضعها بين يديه ، وقال : اللهم إن فلاناً يعني شريكه الكافر تزوج زوجة من أزواج الدنيا بألف دنيار ، فيموت غداً فيتركها أو تموت غداً فتتركه ، اللهم وإني أخطب إليك بهذه الألف دينار حوراء عيناء في الجنة ، قال ثم أصبح فقسهما بين المساكين قال فبقي المؤمن ليس عنده شيء ، فخرج شريكه الكافر وهو راكب ، فلما رآه عرفه ، فوقف عليه وسلم عليه وصافحه ، ثم قال له : ألم تأخذ من المال مثل ما آخذت؟ قال : بلى ، قال : وهذه حالي وهذه حالك؟ قال : أخبرني ما صنعت في مالك؟ قال : أقرضته ، قال : من؟ قال : المليء الوفي ، قال : الله ربي ، قال ، فانتزع يده من يده ، ثم قال : { أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } ؟ قال السدي : محاسبون ، قال فانطلق الكافر وتركه ، فلما رآه المؤمن وليس يلوي عليه رجع وتركه وجعل يعيش المؤمن في شدة من الزمان ، ويعيش الكافر في رخاء من الزمان ، قال : فإذا كان يوم القيامة وأدخل الله تعالى المؤمن الجنة ، يمر فإذا هو بأرض ونخل وثمار وأنهار فيقول : لمن هذا؟ فيقال : هذا لك ، فيقول : يا سبحان الله ، أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟ قال ، ثم يمر ، فإذا هو برقيق لا تحصى عدتهم ، فيقول : لمن هذا؟ فيقال : هؤلاء لك ، فيقول : يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟ قال : ثم يمر ، فإذا هو بقبة من ياقوتة حمراء مجوفة فيها حوراء عيناء ، فيقول : لمن هذه؟ فيقال : هذه لك ، فيقول : يا سبحان الله أو بلغ من فضل عملي أن أثاب بمثل هذا؟ قال : ثم يذكر المؤمن شريكه الكافر ، فيقول : { إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ * يَقُولُ أَإِنَّكَ لَمِنَ المصدقين * أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } ، قال : فالجنة عالية ، والنار هاوية ، قال : فيريه الله تعالى شريكه وسط الجحيم من بين أهل النار ، فإذا رآه المؤمن عرفه ، فيقول : { تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين * أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ * إِلاَّ مَوْتَتَنَا الأولى وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * إِنَّ هذا لَهُوَ الفوز العظيم * لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون } بمثل ما قد مُنَّ عليه ، قال : فيتذكر المؤمن ما مر عليه في الدنيا من شدة ، فلا يذكر مما مر عليه في الدنيا من الشدائد أشد عليه من الموت .(1/2148)
أَذَلِكَ خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشَّيَاطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66) ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْبًا مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آبَاءَهُمْ ضَالِّينَ (69) فَهُمْ عَلَى آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ (70)
يقول الله تعالى : أهذا الذي ذكر من نعيم الجنة ، وما فيها من مآكل ومشارب ومناكح ، وغير ذلك من الملاذ خير ضيافةً وعطاءً { أَمْ شَجَرَةُ الزقوم } أي التي في جهنم؟ وقوله عزّ وجلّ : { إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ } ، قال قتادة : ذكر شجرة الزقوم ، فافتتن بها أهل الضلالة ، وقالوا : صاحبكم ينبئكم أن في النار شجرة والنار وتأكل الشجر ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم } غذيت من النار ومنها خلقت ، وقال مجاهد : { إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ } قال أبو جهل لعنه الله : إنما الزقوم التمر والزبد أتزقمه؟ قلت : ومعنى الآية : إنما أخبرناك يا محمد بشجرة الزقوم ، اختباراً تختبر به الناس ، من يصدق منهم ممن يكذب ، كقوله تبارك وتعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ والشجرة الملعونة فِي القرآن وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } [ الإسراء : 60 ] وقوله تعالى : { إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ في أَصْلِ الجحيم } أي أصل منبتها في قرار النار : { طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُءُوسُ الشياطين } تبشيع لها وتكريه لذكرها ، وإنما شبّهها برؤوس الشياطين ، وإن لم تكن معروفة عند المخاطبين ، لأنه قد استقر في النفوس أن الشياطين قبيحة المنظر ، وقوله تعالى : { فَإِنَّهُمْ لآكِلُونَ مِنْهَا فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون } ، ذكر تعالى أنهم يأكلون من هذه الشجرة التي أبشع منها ولا أقبح من منظرها ، مع ما هي عليه من سوء الطعم والريح والطبع ، فإنهم ليضطرون إلى الأكل منها ، لأ ، هم لا يجدون إلا إياها وما هو في معناها ، كما قال تعالى : { لَّيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلاَّ مِن ضَرِيعٍ * لاَّ يُسْمِنُ وَلاَ يُغْنِي مِن جُوعٍ } [ الغاشية : 6-7 ] ، روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية وقال : « اتقوا الله حق تقاته ، فلو أن قطرة من الزقوم قطرت في بحار الدنيا لأفسدت على أهل الأرض معايشهم ، فكيف بمن يكون طعامه؟ » .
وقوله تعالى : { ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْهَا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } ، قال ابن عباس : يعني شرب الحميم على الزقوم ، وعنه : { شَوْباً مِنْ حَمِيمٍ } مزجاً من حميم ، وقال غيره : يعني يمزج لهم الحميم بصديد وغساق ، مما يسيل من فروجهم وعيونهم عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يقول : « يقرب يعني إلى أهل النار ماء فيتكرهه ، فإذا أدني منه شوى وجهه ، ووقعت فروة رأسه فيه ، فإذا شربه قطع أمعاءه ، حتى تخرج من دبره » وروى ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير قال : « إذا جاع أهل النار استغاثوا بشجرة الزقوم ، فأكلوا منها فاختلست جلود وجوههم ، فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم لعرفهم بوجوههم فيها ، ثم يصب عليهم العطش ، فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل ، وهو الذي قد انتهى حره ، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم ، التي سقطت عنها الجلود ويصهر ما في بطونهم ، فيمشون تسيل أمعاؤهم ، وتتساقط جلودهم ثم يضربون بمقامع من حديد ، فيسقط كل عضو على حياله يدعون بالثبور » ، وقوله عزّ وجلّ : { ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لإِلَى الجحيم } أي ثم إن مردهم بعد هذا الفصل لإلى نار تتأجج ، وجحيم تتوقد ، وسعير تتوهج ، كما قال تعالى :(1/2149)
{ يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] هكذا تلا قتادة هذه الآية عند هذه الآية ، وهو تفسير حسن قوي ، وكان عبد الله رضي الله عنه يقول : والذي نفسي بيده لا ينتصف النهار يوم القيامة حتى يقيل أهل الجنة في الجنة ، وأهل النار في النار . ثم قرأ : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [ الفرقان : 24 ] . وقوله تعالى : { إِنَّهُمْ أَلْفَوْاْ آبَآءَهُمْ ضَآلِّينَ } أي إنما جازيناهم بذلك لأنهم وجدوا آباءهم على الضلالة ، فاتبعوهم فيها بمجرد ذلك من غير دليل ولا برهان ، ولهذا قال : { فَهُمْ على آثَارِهِمْ يُهْرَعُونَ } قال مجاهد : شبَّهه بالهرولة ، وقال سعيد بن جبير : يسفهون .(1/2150)
وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)
يخبر تعالى عن الأمم الماضية أن أكثرهم كانوا ضالين يجعلون مع الله آلهة أُخرى . وذكر تعالى أنه أرسل فيهم منذرين ينذرونهم بأس الله ، ويحذرونهم سطوته ونقمته ، وأنهم تمادوا على مخالفة رسلهم وتكذيبهم ، فأهلك الله المكذبين ودمرهم ، ونجى المؤمنين ونصرهم وظفرهم ، ولهذا قال تعالى : { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين * إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } .(1/2151)
وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ (77) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلَامٌ عَلَى نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ (79) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)
لما ذكر تعالى عن أكثر الأولين أنهم ضلوا عن سبيل النجاة شرع يبين ذلك مفصلاً ، فذكر نوحاً عليه الصلاة والسلام وما لقي من قومه من التكذيب ، وأنه لم يؤمن منهم إلا القليل مع طول المدة ، لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، فلما طال عليه ذلك واشتد عليه تكذيبهم ، وكلما دعاهم ازدادوا نُفْرة { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر } [ القمر : 10 ] ، فغضب الله تعالى لغضبه عليهم ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { وَلَقَدْ نَادَانَا نُوحٌ فَلَنِعْمَ المجيبون } له ، { وَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الكرب العظيم } وهو التكذيب والأذى ، { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين } قال ابن عباس : لم تبق إلا ذرية نوح عليه السلام ، وقال قتادة : الناس كلهم من ذرية نوح عليه السلام ، وقد روى الترمذي عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الباقين } قال : سام وحام ويافث ، وروى الإمام أحمد ، عن سمرة رضي الله عنه « أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : سام أبو العرب ، وحام أبو الحبش ، ويافت أبو الروم » ، وقوله تبارك وتعالى : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين } قال ابن عباس : يذكر بخير ، وقال مجاهد : يعني لسان صدق للأنبياء كلهم ، وقال قتادة والسدي : أبقى الله عليه الثناء الحسن في الآخرين ، قال الضحّاك : السلام والثناء الحسن ، وقوله تعالى : { سَلاَمٌ على نُوحٍ فِي العالمين } مفسر لما أبقى عليه من الذكر الجميل والثناء الحسن ، أنه يسلم عليه في جميع الطوائف والأمم ، { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } أي هكذا نجزي من أحسن من العباد في طاعة الله تعالى ، نجعل له لسان صدق يذكر به بعده ، ثم قال تعالى : { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين } أي المصدقين الموحدين الموقنين ، { ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين } أي أهلكناهم فلم تبق منهم عين تطرف ، ولا ذكر ولا عين ولا أثر ، ولا يعرفون إلا بهذه الصفة القبيحة .(1/2152)
وَإِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْرَاهِيمَ (83) إِذْ جَاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ (85) أَئِفْكًا آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَمَا ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (87)
قال ابن عباس : { وَإِنَّ مِن شِيعَتِهِ لإِبْرَاهِيمَ } يقول : من أهل دينه ، وقال مجاهد : على منهاجه وسنته { إِذْ جَآءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } ، قال ابن عباس : يعني شهادة أن لا إله الله ، روى ابن أبي حاتم ، عن عوف قال : قلت لمحمد بن سيرين : « ما القلب السليم؟ قال : يعلم أن الله حق ، و أن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور » ، وقال الحسن؛ سليم من الشرك ، ثمَّ قال تعالى : { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَاذَا تَعْبُدُونَ } ؟ أنكر عليهم عبادة الأصنام والأنداد ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { أَإِفْكاً آلِهَةً دُونَ الله تُرِيدُونَ * فَمَا ظَنُّكُم بِرَبِّ العالمين } ؟ قال قتادة : يعني ما ظنكم أنه فاعل بكم إذا لاقيتموه وقد عبدتم معه غيره؟(1/2153)
فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَرَاغَ إِلَى آلِهَتِهِمْ فَقَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (91) مَا لَكُمْ لَا تَنْطِقُونَ (92) فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْبًا بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ (95) وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ (96) قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97) فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98)
إنما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه ذلك ، ليقيم في البلد إذا ذهبوا إلى عيدهم ، فإنه كان قد أزف خروجهم إلى عيدهم ، فأحب أن يختلي بآلهتهم ليكسرها ، فقال لهم كلاماً هو حق في نفس الأمر ، فهموا منه أنه سقيم على مقتضى ما يعتقدونه ، { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } . قال قتادة : والعرب تقول لمن تفكر : نظر في النجوم ، يعني قتادة أنه نظر إلى السماء متفكراً فيما يلهيهم به ، فقال : { إِنِّي سَقِيمٌ } أي ضعيف ، فأما قوله عليه السلام : « لم يكذب إبراهيم عليه الصلاة والسلام غير ثلاث كذبات : ثنتين في ذات الله تعالى ، قوله : [ { إِنِّي سَقِيمٌ } ، وقوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } ، وقوله في سارة : ( هي أختي ) ] » فهو حديث مخرج في الصحاح والسنن ، ولكن ليس من باب الكذب الحقيقي الذي يذم فاعله حاشا وكلا؛ وإنما هو من المعاريض في الكلام لمقصد شرعي ديني كما جاء في الحديث : « إن في المعاريض لمندوحة عن الكذب » . قال ابن المسيب : رأى نجماً طلع فقال : { إِنِّي سَقِيمٌ } كابد نبي الله عن دينه { فَقَالَ إِنِّي سَقِيمٌ } وقيل : أراد { إِنِّي سَقِيمٌ } أي مريض القلب من عبادتكم الأوثان من دون الله تعالى ، وقال الحسن البصري : خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم فأرادوه على الخروج ، فاضطجع على ظهره وقال : { إِنِّي سَقِيمٌ } وجعل ينظر في السماء ، فلما خرجوا أقبل إلى آلهتهم فكسرها ، ولهذا قال تعالى : { فَتَوَلَّوْاْ عَنْهُ مُدْبِرِينَ } ، وقوله تعالى : { فَرَاغَ إلى آلِهَتِهِمْ } أي ذهب إليها بعد ما خرجوا في سرعة واختفاء ، { فَقَالَ أَلا تَأْكُلُونَ } ؟ وذلك أنهم كانوا قد وضعوا بين أيديها طعاماً قرباناً لتبرّك لهم فيه ، قال السدي : دخل إبراهيم عليه السلام إلى بيت الآلهة ، فإذا هم في بهو عظيم ، وإذا مستقبل باب البهو صنم عظيم ، إلى جنبه أصغر منه ، بعضها إلى جنب بعض ، كل صنم يليه أصغر منه حتى بلغوا باب البهو ، وإذا هم قد جعلوا طعاماً ووضعوه بين أيدي الآلهة ، وقالوا : إذا كان حين نرجع وقد برّكت الآلهة في طعامنا أكلناه ، فلما نظر إبراهيم عليه الصلاة والسلام إلى ما بين أيديهم من الطعام قال : { أَلا تَأْكُلُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنطِقُونَ } ، وقوله تعالى : { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين } قال الفراء : معناه مال عليهم ضرباً باليمين ، وقال قتادة والجوهري : فأقبل عليهم ضرباً باليمين؛ وإنما ضربهم باليمين لأنها أشد وأنكى ، ولهذا تركهم جذاذاً إلا كبيراً لهم لعلهم إليه يرجعون ، كما تقدم في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام تفسير ذلك . وقوله تعالى هاهنا : { فأقبلوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } قال مجاهد : أي يسرعون ، فلما جاءوا ليعاتبوه أخذ في تأنيبهم وعيبهم فقال : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } ؟ أي أتعبدون من دون الله من الأصنام ما أنتم تنحتونها وتجعلونها بأيديكم . { والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } يحتمل أن تكون ( ما ) مصدرية ، فيكون الكلام : خلقكم وعملكم ، ويحتمل أن تكون بمعنى ( الذي ) يقديره والله خلقكم والذي تعملونه ، وكلا القولين متلازم ، والأول أظهر ، لما رواه البخاري عن حذيفة رضي الله عنه مرفوعاً قال : « إن الله تعالى يصنع كل صانع وصنعته » فعند ذلك لما قامت عليهم الحجة عدلوا إلى أخذه باليد والقهر فقالوا : { ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم } ، وكان من أمرهم ما تقدم بيانه في سورة الأنبياء ، ونّجاه الله من النار ، وأظهره عليهم ، وأعلى حجته ونصرها ، ولهذا قال تعالى : { فَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأسفلين } .(1/2154)
وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلَامٍ حَلِيمٍ (101) فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْبَلَاءُ الْمُبِينُ (106) وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلَامٌ عَلَى إِبْرَاهِيمَ (109) كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111) وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وَعَلَى إِسْحَاقَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)
يقول تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، أنه بعدما نصره الله تعالى على قومه ، وأيس من إيمانهم بعد ما شاهدوا من الآيات العظيمة ، هاجر من بين أظهرهم وقال : { وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إلى رَبِّي سَيَهْدِينِ * رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين } يعني أولاداً مطيعين يكونون عوضاً من قومه وعشيرته الذين فارقهم ، قال الله تعالى : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ } هذا الغلام هو ( إسماعيل ) عليه السلام ، فإنه أو ولد بشر به إبراهيم عليه السلام ، وهو أكبر من إسحاق باتفاق المسلمين وأهل لكتاب ، بلى في نص كتابهم ، أن إسماعيل عليه السلام ولد ولإبراهيم عليه السلام ست وثمانون سنة ، وولد إسحاق وعمر إبراهيم عليه الصلاة والسلام تسع وتسعون سنة ، وعندهم أن الله تبارك وتعالى أمر إبراهيم أن يذبح ابنه وحيده ، وفي نسخة أخرى : بكره ، فأقحموا هاهنا كذباً وبهتاناً ( إسحاق ) ولا يجوز هذا لأنه مخالف لنص كتابهم ، وإنما أقحموا إسحاق لأنه أبوهم ، وإسماعيل أبو العرب ، فحسدوهم ، وقد ذهب جماعة من أهل العلم إلى أن الذبيح هو ( إسحاق ) وحكي ذلك عن طائفة من السلف ، حتى نقل عن بعض الصحابة رضي الله عنهم أيضاً ، وليس ذلك في كتاب ولا سنة ، وما أظن ذلك تلقي إلا عن أحبار أهل الكتاب وأخذ ذلك مُسَلَّماً من غير حجة ، وهذا كتاب الله شاهد ومرشد إلى أنه إسماعيل ، فإنه ذكر البشارة بغلام حليم ، وذكر أنه الذبيح ، ثم قال بعد ذلك : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين } ، ولما بشرت الملائكة إبراهيم بإسحاق قالوا : { إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } [ الحجر : 53 ] ، وقال تعالى : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] أي يولد في حياتهما ولد يسمى يعقوب فيكون من ذريته عقبل ونسل ، فكيف يمكن بعد هذا أن يؤمر بذبحه صغيراً؟ وإسماعيل وصف ههنا بالحليم لأنه مناسب لهذا المقام ، وقوله تعالى { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي } أي كبر وترعرع وصار يذهب مع أبيه ويمشي معه ، قال ابن عباس ومجاهد : { فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السعي } بمعنى شب وارتحل ، وأطاق ما يفعله أبوه من السعي والعمل { قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى } قال عبيد بن عمير : رؤيا الأنبياء وحي ، ثم تلا هذه الآية : { قَالَ يابني إني أرى فِي المنام أَنِّي أَذْبَحُكَ فانظر مَاذَا ترى } ؟ ، وإنما أعلم أبنه بذلك ليكون أهون عليه ، وليختبر صبره وجلده وعزمه في صغره على طاعة الله تعالى و طاعة أبيه { قَالَ ياأبت افعل مَا تُؤمَرُ } أي امض لما أمرك الله من ذبحي ، { ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين } أي سأصبر وأحتسب ذلك عند الله عزّ وجلّ ، وصدق صلوات الله وسلامه عليه فيما وعد ، ولهذا قال الله تعالى :(1/2155)
{ واذكر فِي الكتاب إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الوعد وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } [ مريم : 54 ] ، قال تعالى : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أي فلما تشهدا وذكرا الله تعالى ( إبراهيم ) على الذبح و ( الولد ) شهادة الموت ، وقيل : { أَسْلَمَا } يعني استسلما وانقادا ، إبراهيم امتثل أمر الله تعالى وإسماعيل طاعة لله وأبيه ، ومعنى { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } : أي صرعه على وجهه ليذبحه من قفاه ، ولا يشاهد وجهه عند ذبحه ليكون أهون عليه ، قال ابن عباس { وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } أكبه على وجهه .
عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : لما أمر لما أمر إبراهيم عليه السلام بالمناسك عرض له الشيطان عند السعي فسابقه ، فسبقه إبراهيم عليه الصلاة والسلام ، ثم ذهب به جبريل عليه السلام إلى جمرة العقبة ، فعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات ، حتى ذهب ، ثم عرض له عند الجمرة الوسطى ، فرماه بسبع حصيات ، وثم تلَّه للجبين ، وعلى إسماعيل عليه الصلاة والسلام قميص أبيض : فقال له : يا أبت إنه ليس لي ثوب تكفنني فيه غيره ، فاخلعه حتى تكفني فيه ، فعالجه ليخلعه ، فنودي من خلفه : { أَن ياإبراهيم قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ } فالتفت إبراهيم ، فإذا بكبش أبيض أقرن أعين .
وقوله تعالى : { وَنَادَيْنَاهُ أَن ياإبراهيم * قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ } أي قد حصل المقصود من رؤياك بإضجاعك ولدك للذبح ، وذكر السيد وغيره أنه أمرَّ السكين على رقبته فلم تقطع شيئاً ، بل حال بينها وبينه صفحة من نحاس ، ونودي إبراهيم عليه الصلاة والسلام عند ذلك { قَدْ صَدَّقْتَ الرؤيآ } ، وقوله تعالى : { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } أي هكذا نصرف عمن أطاعنا المكاره والشدائد ، ونجعل لهم من أمرهم فرجاً ومخرجاً كقوله تعالى : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2-3 ] ، قال تعالى : { إِنَّ هذا لَهُوَ البلاء المبين } أي الاختبار الواضح الجلي حيث أمر بذبح ولده فسارع إلى ذلك ، مستسلماً لأمر الله تعالى منقاداً لطاعته ولهذا قال تعالى : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } [ النجم : 37 ] ، وقوله تعالى : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } عن علي رضي الله عنه قال : بكبش أبيض أعين أقرن قد ربط بسمرة ، وقال ابن عباس رضي الله عنهما : كبش قد رعى في الجنة أربعين خريفاً ، وروي عن سعيد بن جبير أنه قال : كان الكبش يرتع في الجنة ، حتى شقق عنه ثبير ، وكان عليه عهن أحمر ، قال مجاهد : ذبحه بمنى عند النحر ، وقال الثوري ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ } قال : وعل ، وقال الحسن : ما فدي إسماعيل عليه السلام إلا بتيس من الأروى ، أهبط عليه من ثبير .
( ذكر الآثار الواردة بأنه إسماعيل عليه الصلاة والسلام وهو الصحيح المقطوع به )
تقدمت الرواية عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه إسحاق عليه الصلاة والسلام ، وروى مجاهد وعطاء وغير واحد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه ( إسماعيل ) عليه الصلاة والسلام ، وروى ابن جرير عن عطاء بن أبي رباح ، عن ابن عباس ، أنه قال : المفدى إسماعيل عليه السلام ، وزعمت اليهود أنه إسحاق وكذبت اليهود ، وروى مجاهد ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : الذبيح إسماعيل ، وقال مجاهد : هو إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، وقد رأيت قرني الكبس في الكعبة ، وقال محمد بن إسحاق ، عن الحسن البصري : أنه كان لا يشك في ذلك أن الذي أمر بذبحه من ابني إبراهيم ( إسماعيل ) عليه السلام ، قال ابن إسحاق : وسمعت محمد بن كعب القرظي وهو يقول : إن الذي أمر الله تعالى إبراهيم بذبحه من ابنيه ( إسماعيل ) وإنا لنجد ذلك في كتاب الله تعالى ، وذلك أن الله تعالى حين فرغ من قصة المذبوح من ابنَيْ إبراهيم قال تعالى { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين } ، ويقول الله تعالى :(1/2156)
{ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] يقول : بابن ، وابن ابن ، فلم يكن ليأمره بذبح إسحاق وله فيه من الموعد بما وعد ، وما الذي أمر بذبحه إلا إسماعيل ، قال ابن إسحاق ، سمعته يقول ذلك كثيراً ، وقال ابن إسحاق ، عن محمد بن كعب القرظي : أنه حدثهم أنه ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وهو خليفة إذ كان معه بالشام فقال له عمر : إن هذا لشيء ما كنت أنظر فيه ، وإني لأراه كما قلت ، ثم أرسل إلى رجل كان عنده بالشام كان يهودياً ، فأسلم وحسن إسلامه ، وكان يرى أنه من علمائهم ، فسأله عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه عن ذلك ، قال محمد بن كعب : وأنا عند عمر بن عبد العزيز فقال له عمر : أيُّ ابني إبراهيم أمر بذبحه؟ فقال : إسماعيل والله يا أمير المؤمنين ، وإن يهود لتعلم بذلك ، ولكنهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون أباكم الذي كان من أمر الله فيه ، والفضل الذي ذكر الله تعالى منه ليصبره لما أمر به فهم يجحدون ذلك ، ويزعمون أنه إسحاق ، لأن إسحاق أبوهم ، والله أعلم أيهما كان ، وكل قد كان طاهراً طيباً مطيعاً لله عزّ وجلّ ، وقال عبد الله ابن الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : سألت أبي عن الذبيح ، هل هو إسماعيل أو إسحاق؟ فقال : إسماعيل .
وقال أبن أبي حاتم ، وسمعت أبي يقول : الصحيح أن الذبيح إسماعيل عليه الصلاة والسلام ، قال : وروي عن علي ، وابن عمر ، وأي هريرة ، وأبي الطفيل ، وسعيد بن المسيب ، وسعيد بن جبير ، والحسن ، ومجاهد ، والشعبي ، ومحمد بن كعب القرظي ، وأبي جعفر محمد بن علي ، وأبي صالح رضي الله عنهم أنهم قالوا : الذبيح إسماعيل ، وإنما عول ابن جرير في اختياره أن الذبيح إسحاق على قوله تعالى : { فَبَشَّرْنَاهُ بِغُلاَمٍ حَلِيمٍ } فجعل هذه البشارة هي البشارة بإسحاق في قوله تعالى : { وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ } [ الذاريات : 28 ] ، وليس ما ذهب إليه بمذهب ولا لازم ، بل هو بعيد جداً ، والذي استدل به محمد بن كعب القرظي على أنه ( إسماعيل ) أثبت وأصح وأقوى ، والله أعلم .(1/2157)
وقوله تعالى : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين } لما تقدمت البشارة بالذبيح وهو إسماعيل عطف بذكر البشارة بأخيه إسحاق وقد ذكرت في سورتي هود والحجر ، وقوله تعالى : { نَبِيّاً } أي سيصير منه نبي صالح ، قال ابن عباس : بشر بنبوته ، حين ولد ، وحين نبىء ، وقال قتادة في قوله { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين } قال : بعدما كان من أمره لما جاد الله تعالى بنفسه ، وقوله تعالى : { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ } كقوله تعالى : { قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ هود : 48 ] .(1/2158)
وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (114) وَنَجَّيْنَاهُمَا وَقَوْمَهُمَا مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (115) وَنَصَرْنَاهُمْ فَكَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (116) وَآتَيْنَاهُمَا الْكِتَابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَهَدَيْنَاهُمَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (118) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الْآخِرِينَ (119) سَلَامٌ عَلَى مُوسَى وَهَارُونَ (120) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)
يذكر تعالى ما أنعم به على ( موسى ) و ( هارون ) من النبوة ، والنجاة بمن آمن معهما من قهر فرعون وقومه ، وما كان يعتمد في حقهم من الإساءة العظيمة ، من قتل الأبناء واستحياء النساء ، واستعمالهم في أخس الأشياء ، ثم بعد هذا كله نصرهم عليهم وأقر أعينهم منهم ، فغلبوهم وأخذوا أرضهم وأموالهم ، وما كانوا جمعوه طول حياتهم ، ثم أنزل الله عزّ وجلّ على موسى الكتاب العظيم ، الواضح الجلي المستبين وهو ( التوراة ) كما قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان وَضِيَآءً } [ الأنبياء : 48 ] . وقال عزّ وجلّ هاهنا : { وَآتَيْنَاهُمَا الكتاب المستبين * وَهَدَيْنَاهُمَا الصراط المستقيم } أي في الأقوال والأفعال ، { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِمَا فِي الآخرين } أي أبقينا لهما من بعدهما ذكراً جميلاً ، وثناء حسناًن ثم فسره بقوله تعالى : { سَلاَمٌ على موسى وَهَارُونَ * إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين * إِنَّهُمَا مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين } .(1/2159)
وَإِنَّ إِلْيَاسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلَا تَتَّقُونَ (124) أَتَدْعُونَ بَعْلًا وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخَالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلَامٌ عَلَى إِلْ يَاسِينَ (130) إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)
قال قتادة : يقال إلياس هو إدريس ، وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إلياس هو إدريس ، وكذا قال الضحّاك ، وقال وهب بن منبه : هو إلياس بن نسي بن فنحاص ، بعثه الله تعالى ففي بني إسرائيل بعد ( حزقيل ) عليهما السلام ، وكانوا قد عبدوا صنماً يقال له بعل ، فدعاهم إلى الله تعالى ، ونهاهم عن عبادة ما سواه ، وكان قد آمن به ملكهم ، ثم ارتد ، واستمروا على ضلالتهم ، ولم يؤمن به منهم أحد ، فدعا الله عليهم فحبس عنهم القطر ثلاث سنين ، ثم سألوه أن يكشف ذلك عنهم ووعدوه بالإيمان به إن هم أصابهم المطر ، فدعا الله تعالى لهم ، فجاءهم الغيث ، فاستمروا على أخبث ما كانوا عليه من الكفر ، فسأل الله أن يقبضه إليه ، وكان قد نشأ على يديه ( اليسع بن أخطوب ) عليهما السلام .
{ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَلاَ تَتَّقُونَ } أي ألا تخافون الله عزّ وجلّ في عبادتكم غيره ، { أَتَدْعُونَ بَعْلاً وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين } ؟ قال ابن عباس ومجاهد : { بَعْلاً } يعني رباً ، قال عكرمة وقتادة : وهي لغة أهل اليمن ، وقال ابن إسحاق : أخبرني بعض أهل العلم أنهم كانوا يعبدون امرأة اسمها بعل ، وقال عبد الرحمن بن زيد : هو اسم صنم كان يعبده أهل مدينة يقال لها بعلبك غربي دمشق ، وقال الضحّاك : هو صنم كانوا يعبدونه ، وقوله تعالى : { أَتَدْعُونَ بَعْلاً } ؟ أي أتعبدون صنماً ، { وَتَذَرُونَ أَحْسَنَ الخالقين * الله رَبَّكُمْ وَرَبَّ آبَآئِكُمُ الأولين } أي هو المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، قال الله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي للعذاب يوم الحساب ، { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } أي الموحدين منهم ، وهذا استثناء منقطع ، وقوله تعالى : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين } أي ثناء جميلاً { سَلاَمٌ على إِلْ يَاسِينَ } ، كما يقال في إسماعيل إسماعين ، وهي لغة بني أسد ، وقوله تعالى : { إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المؤمنين } قد تقدم تفسيره ، والله أعلم .(1/2160)
وَإِنَّ لُوطًا لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (134) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137) وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (138)
يخبر تعالى عن عبده ورسوله ( لوط ) عليه السلام أنه بعثه إلى قومه فكذبوه ، فنجاه الله تعالى من بين أظهرهم هو وأهله إلا امرأته ، فإنها هلكت مع من هلك من قومها ، فإن الله تعالى أهلكهم بأنواع من العقوبات ، وجعل محلتهم من الأرض بحيرة منتنة قبيحة المنظر والطعم والريح ، وجعلها بسبيل مقيم يمر بها المسافرون ليلاً ونهاراً ، ولهذا قال تعالى : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؟ أي أفلا تعتبرون بهم كيف دمر الله عليهم وتعلمون أن للكافرين أمثالها . . ؟(1/2161)
وَإِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَهُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143) لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْنَاهُ بِالْعَرَاءِ وَهُوَ سَقِيمٌ (145) وَأَنْبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَأَرْسَلْنَاهُ إِلَى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (148)
قد تقدمت قصة يونس عليه الصلاة والسلام في سورة الأنبياء ، وفي « الصحيحين » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما ينبغي لعبد أن يقول أنا خير من يونس بن متى » ، ونسبه إلى أمه ، وفي رواية إلى أبيه ، وقوله تعالى : { إِذْ أَبَقَ إِلَى الفلك المشحون } قال ابن عباس : هو الموقر أي المملوء بالأمتعة ، { فَسَاهَمَ } أي قارع { فَكَانَ مِنَ المدحضين } أي المغلوبين ، وذلك أن السفينة تلعبت بها الأمواج من كل جانب ، وأشرفوا على الغرق ، فساهموا على أنّ من تقع عليه القرعة يلقى في البحر ، لتخف بهم السفينة ، فوقعت القرعة على نبي الله ( يونس ) عليه الصلاة والسلام ثلاث مرات ، وهم يضنّون به أن يلقى من بينهم ، فتجرد من ثيابه ليقلي نفسه ، وهم يأبون عليه ذلك ، وأمر الله تعالى حوتاً أن يلتقم يونس عليه السلام ، فالتقمه الحوت وذهب به فطاف به البحار كلها ، ولما استقر يونس في بطن الحوت حسب أنه قد مات ، ثم حرك رأسه ورجليه وأطرافه ، فإذا هو حي ، فقال فصلى في بطن الحوت ، وكان من جملة دعائه : « يا رب اتخذت لك مسجداً في موضع لم يبلغه أحد من الناس » ، واختلفوا في مقدار ما لبث في بطن الحوت ، فقيل ثلاثة أيام ، وقيل : سبعة ، وقيل أربعين يوماً ، وقال مجاهد : التقمه ضحى ولفظه عشية ، والله تعالى أعلم بمقدار ذلك . وقوله تعالى : { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين * لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } قيل : لولا ما تقدم له من العمل في الرخاء ، وقال الضحّاك واختاره ابن جرير . وفي الحديث : « تعرّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة » . وقال ابن عباس والحسن وقتادة { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين } يعني المصلين ، وقال بعضهم كان المسبحين في جوف أبويه ، وقيل : المراد { فَلَوْلاَ أَنَّهُ كَانَ مِنَ المسبحين } هو قوله عزّ وجلّ : { فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } [ الأنبياء : 87 ] . روى ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك رضي الله عنه يرفعه : « إن يونس النبي عليه الصلاة والسلام حين بدا له أن يدعو بهذه الكلمات وهو في بطن الحوت ، فقال : اللهم لا إله إلا أنت سبحانك إن كنت من الظالمين ، فأقبلت الدعوة تحن بالعرش ، قالت الملائكة : يا رب هذا صوت ضعيف معروف من بلاد بعيدة غريبة ، فقال الله تعالى : أما تعرفون ذلك؟ قالوا : يا رب ومن هو؟ قال عزّ وجلّ : عبدي يونس ، قالوا : عبدك يونس الذي لم يزل يرفع له عمل متقبل ودعوة مستجابة ، قالوا : يا رب أولا ترحم ما كان يصنع في الرخاء فتنجيه في البلاء؟ قال : بلى ، فأمر الحوت فطرحه بالعراء » .(1/2162)
ولهذا قال تعالى : { فَنَبَذْنَاهُ } أي ألقيناه { بالعرآء } ، قال ابن عباس : وهي الأرض التي ليس بها نبت ولا بناء ، قيل : على جانب دجلة ، وقيل : بأرض اليمن ، فالله أعلم ، { وَهُوَ سَقِيمٌ } أي ضعيف البدن ، قال ابن مسعوود رضي الله عنه : كهيئة الفرخ ليس عليه ريش ، وقال السدي : كهيئة الصبي حين يولد ، وهو المنفوس ، { وَأَنبَتْنَا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِّن يَقْطِينٍ } قال ابن مسعود وابن عباس : ( اليقطين ) هو القرع ، وقال سعيد بن جبير : كل شجرة لا ساق لها فهي من اليقطين ، وفي رواية عنه : كل شجرة تهلك من عامها فهي من اليقطين ، وذكر بعضهم في القرع فوائد : منها سرعة نباته ، وتظليل ورقه لكبره ونعومته ، وأنه لا يقربها الذباب ، وجودة تغذية ثمره ، وأنه يؤكل نيئاً ومطبوخاً بلبه وقشره أيضاً ، وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحب الدباء ، ويتبعه من حواشي الصحفة ، وقوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } ، روي عن ابن عباس أنه قال : إنما كانت رسالة يونس عليه الصلاة والسلام بعدما نبذه الحوت ، وقال مجاهد : أرسل إليهم قبل أن يلتقمه الحوت ، قلت : ولا مانع أن يكون الذين أرسل إليهم أولاً أمر بالعودة إليهم بعد خروجه من الحوت ، فصدقوه كلهم وآمنوا به ، وحكى البغوي : أنه أرسل إلى أمة أخرى بعد خروجه من الحوت كانوا مائة ألف أو يزيدون ، وقوله تعالى : { أَوْ يَزِيدُونَ } قال ابن عباس : بل يزيدون ، وكانوا مائة وثلاثين ألفاً ، وقال سعيد بن جبير : يزيدون سبعين ألفاً؛ وقال مكحول : كانوا مائة ألف وعشرة آلاف ، وقال ابن جرير ، عن أبي بن كعب رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } قال : يزيدون عشرين ألفاً . وقد سلك ابن جرير هاهنا ما سلكه عند قوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] ، المراد ليس أنقص من ذلك بل أزيد ، وقوله تعالى : { فَآمَنُواْ } أي فآمن هؤلاء القوم الذين أرسل إليهم يونس عليه السلام جميعهم ، { فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } أي إلى وقت آجالهم ، كقوله جلت عظمته { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } [ يونس : 98 ] .(1/2163)
فَاسْتَفْتِهِمْ أَلِرَبِّكَ الْبَنَاتُ وَلَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلَائِكَةَ إِنَاثًا وَهُمْ شَاهِدُونَ (150) أَلَا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَنَاتِ عَلَى الْبَنِينَ (153) مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتَابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (157) وَجَعَلُوا بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَبًا وَلَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158) سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)
يقول تعالى منكراً على هؤلاء المشركين في جعلهم لله تعالى البنات { سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] أي من الذكور ، أي يودون لأنفسهم الجيد ، { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [ النحل : 58 ] أي يسوؤه ذلك ولا يختار لنفسه إلا البنين ، يقول عزّ وجلّ فكيف نسبوا إلى الله تعالى القسم الذي لا يختارونه لأنفسهم ، ولهذا قال تعالى : { فاستفتهم } أي سلهم على سبيل الإنكار عليهم { أَلِرَبِّكَ البنات وَلَهُمُ البنون } ؟ كقوله عزّ وجلّ : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } [ النجم : 21-22 ] ، وقوله تبارك وتعالى : { أَمْ خَلَقْنَا الملائكة إِنَاثاً وَهُمْ شَاهِدُونَ } أي كيف حكموا على الملائكة أنهم إناث وما شاهدوا خلقهم كقوله جلّ وعلا : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [ الزخرف : 19 ] أي يسألون عن ذلك يوم القيامة ، وقوله جلت عظمته : { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ } أي من كذبهم { لَيَقُولُونَ وَلَدَ الله } أي صدر منه الولد { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } ، فذكر الله تعالى عنهم في الملائكة ثلاثة أقوال في غاية الكفر والكذب : فأولاً جعلوهم ( بنات الله ) فجعلوا لله ولداً تعالى وتقدس ، ثُمَّ حجعلوا ذلك الولد ( أنثى ) ثم عبدوهم من دون الله تعالى وتقدس وكل منها كاف في التخليد في نار جهنم ، ثم قال تعالى منكراً عليهم : { أَصْطَفَى البنات على البنين } أي : أي شيء يحمله على أن يختار البنات دون البنين؟ كوله عزّ وجلّ : { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } [ الإسراء : 40 ] ، ولهذا قال تبارك وتعالى : { مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } ؟ أي ما لكم عقول تتدبرون بها ما تقولون { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ * أَمْ لَكُمْ سُلْطَانٌ مُّبِينٌ } أي حجة على ما تقولونه ، { فَأْتُواْ بِكِتَابِكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي هاتوا برهاناً على ذلك يكون مستنداً إلى كتاب منزل من السماء ، عن الله تعالى أنه اتخذ ما تقولونه فإن ما تقولونه لا يمكن استناده إلى عقل ، بل لا يجوزه العقل بالكلية . وقوله تعالى : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } قال مجاهد : قال المشركون : الملائكة بنات الله تعالى ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : فمن أمهاتهن؟ قالوا : بنات سروات الجن ، ولهذا قال تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة } أي الذين نسبوا إليهم ذلك { إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } أي إن الذين قالوا ذلك { لَمُحْضَرُونَ } في العذاب يوم الحساب ، لكذبهم في ذلك وافترائهم وقولهم الباطل بلا علم ، قال ابن عباس : زعم أعداء الله أنه تبارك وتعالى هو وإبليس أخوان ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، وقوله جلت عظمته : { سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ } أي تعالى وتقدس وتنزه عن أن يكون له ولد ، وعما يصفه به الظالمون الملحدون علواً كبيراً ، وقوله تعالى : { إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } استثنى منهم المخلصين وهم المتبعون للحق المنزل على كل نبي مرسل ، وجعل ابن جرير هذا الاستنثاء من قوله تعالى : { إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ . . إِلاَّ عِبَادَ الله المخلصين } وفي هذا الذي قاله نظر ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(1/2164)
فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ (161) مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ (162) إِلَّا مَنْ هُوَ صَالِ الْجَحِيمِ (163) وَمَا مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقَامٌ مَعْلُومٌ (164) وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَإِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166) وَإِنْ كَانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنَا ذِكْرًا مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170)
يقول تعالى مخاطباً المشركين : { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم } أي إنما ينقاد لمقالتكم وما أنتم عليه من الضلالة والعبادة الباطلة ، من هو أضل منكم ممن ذرىء للنار ، { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } [ الأعراف : 179 ] فهذا الضرب من الناس هو الذي ينقاد لدين الشرك والكفر والضلالة ، كما قال تبارك وتعالى : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [ الذاريات : 8-9 ] أي إنما يضل به من هو مأفوك ومبطل ، ثم قال تبارك وتعالى منزهاً للملائكة مما نسبوا إليهم من الكفر بهم والكذب عليهم أنهم بنات الله : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } أي له موضع مخصوص في السماوات ومقام العبادات لا يتجاوزه ولا يتعداه ، قال الضحّاك . كان مسروق يروي « عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما من السماء الدنيا موضع إلا عليه ملك ساجد أو قائم « فذلك قوله تعالى : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } » وقال الاعمش ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : « إن في السماوات لسماء ما فيها موضع شبر إلا عليه جبهة ملك أو قدماه ، ثم قرأ عبد الله رضي الله عنه : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } ، قال ابن جريج : كانوا لا يصفون في الصلاة حتى نزلت : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون } فصفوا ، وقال أبو نضرة : كان عمر رضي الله عنه إذا أقيمت الصلاة استقبل الناس بوجهه ، ثم قال : أقيموا صفوفكم ، استووا قياماً ، يريد الله تعالى بكم هدي الملائكة ، ثم يقول : { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون } ، تأخر يا فلان ، تقدم يا فلان ، ثم يتقدم فيكبره » .
وفي « صحيح مسلم » عن حذيفة رضي الله عنه قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض مسجداً ، وتربتها طهوراً « » الحديث ، { وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون } أي نصطف فنسبح الرب ونمجده ونقدسه وننزهه عن النقائص ، فنحن عبيد له فقراء إليه خاضعون لديه ، وقال ابن عباس ومجاهد : { وَمَا مِنَّآ إِلاَّ لَهُ مَقَامٌ مَّعْلُومٌ } الملائكة ، { وَإِنَّا لَنَحْنُ الصآفون } الملائكة { وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون } الملائكة تسبح الله عز وجل وقال قتادة : { وَإِنَّا لَنَحْنُ المسبحون } يعني المصلون يثبتون بمكانهم من العبادة . وقوله جل وعلا : { وَإِن كَانُواْ لَيَقُولُونَ * لَوْ أَنَّ عِندَنَا ذِكْراً مِّنَ الأولين * لَكُنَّا عِبَادَ الله المخلصين } ، أي قد كانوا يتمنون أن تأتيهم يا محمد لو كان عندهم من يذكرهم بأمر الله ، وما كان من أمر القرون الأولى ويأتيهم بكتاب الله كما قال جلّ جلاله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم فَلَمَّا جَآءَهُمْ نَذِيرٌ مَّا زَادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً } [ فاطر : 42 ] ، وقال تعالى : { أَن تقولوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } [ الأنعام : 156 ] ولهذا قال تعالى هاهنا : { فَكَفَرُواْ بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } وعيد أكيد وتهديد شديد ، على كفرهم بربهم عزّ وجلّ وتكذيبهم رسوله صلى الله عليه وسلم .(1/2165)
وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171) إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَإِنَّ جُنْدَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (176) فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)
يقول تبارك وتعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين } أي تقدم في الكتاب الأول أن العاقبة للرسل وأتباعهم في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] ، وقال : عزّ وجلّ : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } [ غافر : 51 ] ، ولهذا قال جل جلاله : { إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون } أي في الدنيا والآخرة كما تقدم بيان نصرتهم على قومهم ، ممن كذبهم وخالفهم ، كيف أهلك الله الكافرين ونجى عباده المؤمنين ، { وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } أي تكون لهم العاقبة ، وقوله جل وعلا : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ } أي اصبر على أذاهم لك وانتظر إلى وقت مؤجل ، فإنا سنجعل لك العاقبة والنصرة والظفر ، وقوله جلت عظمته : { وَأَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } أي انظرهم وارتقب ماذا يحل بهم من العذاب والنكال بمخالفتك وتكذيبك ، ولهذا قال تعالى على وجه التهديد والوعيد : { فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } ، ثم قال عزّ وجلّ : { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } أي هم إنما يستعجلون العذاب لتكذيبهم وكفرهم بك ، ومع هذا يستعجلون العذاب والعقوبة ، قال الله تعالى : { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين } أي فإذا نزل العذاب بمحلتهم فبئس ذلك اليوم يومهم ، بإهلاكهم ودمارهم ، وقال السدي : { فَإِذَا نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ } يعني بدارهم { فَسَآءَ صَبَاحُ المنذرين } أي فبئس ما يصبحون أي بئس الصباح صباحهم ، ولهذا ثبت في « الصحيحين » عن أنَس رضي الله عنه قال : « صبح رسول الله صلى الله عليه وسلم خيبر ، فلما خرجوا بفؤوسهم ومساحيهم ورأوا الجيش رجعوا ، وهم يقولون : محمد والله ، محمد والخميس ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » الله أكبر خربت خيبر ، إنا إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين « » ، وقوله تعالى : { وَتَوَلَّ عَنْهُمْ حتى حِينٍ * وَأَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ } تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(1/2166)
سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (182)
ينزه تبارك وتعالى نفسه الكريمة ويقدسها ، ويبرئها عما يقول الظالمون المكذبون المعتدون ، تعالى وتنزه وتقدس عن قولهم علواً كبيراً ، ولهذا قال تبارك وتعالى : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة } أي ذي العزة التي لا ترام { عَمَّا يَصِفُونَ } أي عن قول هؤلاء المعتدين المفترين ، { وَسَلاَمٌ على المرسلين } أي سلام الله عليهم في الدنيا والآخرة ، { والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } أي له الحمد في الأولى والآخرة في كل حال ، عن قتادة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا سلمتم عليَّ فسلموا على المرسلين فإنما أنا رسول من المرسلين » وعن أبي سعيد رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنه كان إذا أراد أن يسلم قال : » سبحان ربك رب العزة عما يصفون وسلام على المرسلين والحمد لله رب العالمين « » ثم يسلم ، وروى ابن أبي حاتم عن الشعبي قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من سره أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القايمة فليقل آخر مجلسه حين يريد أن يقوم : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ على المرسلين * والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } « » وقد وردت أحاديث في كفارة المجلس : سبحانك اللهم وبحمدك ، لا إله إلا أنت ، أستغفرك وأتوب إليك ، قال ابن كثير : وقد أفردت لها جزءاً على حدة ، ولله الحمد والمنة .(1/2167)
ص وَالْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنَادَوْا وَلَاتَ حِينَ مَنَاصٍ (3)
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وقوله تعالى : { والقرآن ذِي الذكر } أي والقرآن المشتمل على ما فيه ذكر للعباد ، ونفع لهم في المعاش والمعاد ، قال الضحّاك { ذِي الذكر } كقوله تعالى : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } [ الأنبياء : 10 ] أي تذكيركم .
وقال ابن عباس { ذِي الذكر } ذي الشرف أي ذي الشأن والمكانة . ولا منافاة بين القولين فإنه كتاب شريف ، مشتمل على التذكير والإعذار والإنذار ، واختلفوا في جواب هذا القسم : فقال قتادة : جوابه { بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } واختاره ابن جرير ، وقيل : جوابه ما تضمنه سياق السورة بكمالها ، والله أعلم ، وقوله تعالى : { بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } أي إن في هذا القرآن لذكرى لمن يتذكر وعبرة لمن يعتبر ، وإنما لم ينتفع به الكافرون لأنهم { فِي عِزَّةٍ } أي استكبار عنه وحمية ، { وَشِقَاقٍ } أي ومخالفة له ومعاندة ومفارقة ، ثم خوفهم ما أهلك به الأمم الكاذبة قبلهم فقال تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ } أي من أمة مكذبة ، { فَنَادَواْ } أي حين جاءهم العذاب استغاثوا وجأروا إلى الله تعالى ، وليس ذلك بمُجْدٍ عنهم شيئاً ، كما قال عزّ وجلّ : { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ } [ الأنبياء : 12 ] أي يهربون ، قال التميمي : سألت ابن عباس رضي الله عنهما عن قول الله تبارك وتعالى : { فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } ! قال : لليس بحين نداء ولا نزاعٍ ولا فرار ، وعن ابن عباس : ليس بحين مغاث ، نادوا النداء حين لا ينفعهم وأنشد :
تذكَّرَ ليلى لات حين تذكر ... وقال محمد بن كعب : نادوا بالتوحيد حيث تولت الدنيا عنهم ، واستناصوا للتوبة حين تولت الدنيا عنهم ، وقال قتادة : لما رأوا العذاب أرادوا التوبة في غير حين النداء ، وقال مجاهد : { فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } ليس بحين فرار ولا إجابة ، وعن زيد بن أسلم : { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } ولا نداء في غير حين النداء ، وهذه الكلمة ، وهي ( لات ) هي ( لا ) التي للنفي زيدت معها التاء ، كما تزايد في ثم ، فيقولون : ثمت ، ورب ، فيقولون : ربت . وأهل اللغة يقولون : النوص : التأخر ، والبوص : التقدم ، ولهذا قال تبارك وتعالى : { وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } أي ليس حين فرار ، ولا ذهاب ، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب .(1/2168)
وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (4) أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهًا وَاحِدًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ (5) وَانْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ (6) مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ (7) أَأُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذَابِ (8) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبَابِ (10) جُنْدٌ مَا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزَابِ (11)
يقول تعالى مخبراً عن المشركين في تعجبهم من بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيراً ونذيراً ، كما قال عزّ وجلّ : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس } [ يونس : 2 ] الآية ، قال جلّ علا هاهنا : { وعجبوا أَن جَآءَهُم مٌّنذِرٌ مِّنْهُمْ } أي بشر مثلهم ، وقال الكافرون : { هذا سَاحِرٌ كَذَّابٌ * أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً } أي أزعم أن المعبود واحد لا إله إلا هو؟ أنكر المشركون ذلك قبحهم الله تعالى وتعجبوا من ترك الشرك بالله ، فإنهم كانوا قد تلقوا عن آبائهم عبادة الأوثان وأشربته قلوبهم ، فلما دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى خلع ذلك من قلوبهم وإفراد الإله بالوحدانية ، وأعظموا ذلك وتعجبوا ، وقالوا : { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ * وانطلق الملأ مِنْهُمْ أَنِ } وهم سادتهم وقادتهم ورؤساؤهم وكبراؤهم قائلين { امشوا } أي استمروا على دينكم ، { وَاْصْبِرُواْ على آلِهَتِكُمْ } ، ولا تستجيبوا لما يدعوكم إليه محمد من التوحيد ، وقوله تعالى : { إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرَادُ } قال ابن جرير : إن هذا الذي يدعونا إليه محمد صلى الله عليه وسلم من التوحيد لشيء يريد به الشرف عليكم والاستعلاء ، وأن يكون له منكم أتباع ولسنا نجيبه إليه .
( ذكر سبب نزول هذه الآيات الكريمات )
روى ابن جرير ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « لما مرض أبو طالب دخل عليه رهط من قريش فيهم ( أبو جهل ) فقالوا : إن ابن أخيك يشتم آلهتنا ، ويفعل ويفعل ويقول ويقول ، فلو بعثت إليه فنهيته ، فبعث إليه ، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم ، فدخل البيت ، وبينهم وبين أبو طالب قدر مجلس رجُل ، قال : فخشي أبو جهل ، لعنه الله ، إن جلس إلى جنب أبي طالب أن يكون أرق له عليه ، فوثب فجلس في ذلك المجلس ، ولم يجد رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلساً قرب عمه ، فجلس عند الباب ، فقال له أبو طالب : أي أين أخي ، ما بال قومك يشكونك ويزعمون أنك تشتم آلهتهم وتقول وتقول؟ قال : وأكثر عليه من القول ، وتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » يا عم إني إريدهم على كلمة واحدة يقولونها تدين لهم بها العرب ، وتؤدي إليهم بها العجم الجزية « ، ففزعوا لكلمته ولقوله ، فقال القوم : كلمة واحدة نعم وأبيك عشراً ، فقالوا : وما هي؟ وقال أبو طالب : وأي كلمة هي يا ابن أخي؟ قال صلى الله عليه وسلم : » لا إله إلا الله « ، فقاموا فزعين ينفضون ثيابهم ، وهم يقولون : { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } ونزلت من هذا الموضع إلى قوله : { بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } » .
وقولهم : { مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة } أي ما سمعنا بهذا الذي يدعونا إليه محمد بن التوحيد في الملة الآخرة ، قال مجاهد و قتادة : يعنون دين قريش ، وقال السدي : يعنون النصرانية ، وقال ابن عباس : { مَا سَمِعْنَا بهذا فِى الملة الآخرة } يعني دين النصرانية ، قالوا : لو كان هذا القرآن حقاً لأخبرتنا به النصارى { إِنْ هذا إِلاَّ اختلاق } قال مجاهد : كذب ، وقال ابن عباس : تخرص ، وقولهم : { أَأُنزِلَ عَلَيْهِ الذكر مِن بَيْنِنَا } يعني أنهم يستبعدون تخصيصه بإنزال القرآن عليه من بينهم كما قال في الآية الأخرى :(1/2169)
{ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ، ولهذا لما قالوا هذا الذي دل على جهلهم وقلة عقلهم ، في استبعادهم إنزال القرآن على الرسول من بينهم ، قال الله تعالى : { بَل لَّمَّا يَذُوقُواْ عَذَابِ } أي إنما يقولون هذا ، لأنهم ما ذاقوا عذاب الله تعالى ونقمته ، وسيعلمون غِبَّ ما قالوا وما كذبوا به .
ثم قال تعالى مبيناً أنه المتصرف في ملكه ، الفعال لما يشاء ، الذي يهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، وينزل الروح من أمره على من يشاء من عباده ، وأنَّ العباد لا يملكون شيئاً من الأمر وليس إليهم من التصرف في الملك ولا مثقال ذرة ، ولهذا قال تعالى منكراً عليهم : { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ العزيز الوهاب } أي العزيز الذي لا يرام جنابه ، الوهاب الذي يعطي ما يريد لمن يريد ، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً * أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 53-54 ] الآية ، كما أخبر عزّ وجلّ عن قوم صالح عليه السلام حين قالوا : { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ * سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر } [ القمر : 25-26 ] وقوله تعالى : { أَمْ لَهُم مُّلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فَلْيَرْتَقُواْ فِى الأسباب } أي إن كان لهم ذلك فليصعدوا في الأسباب ، قال ابن عباس : يعني طرق السماء ، وقال الضحاك : فليصعدوا إلى السماء السابعة ، ثم قال عزّ وجلّ : { جُندٌ مَّا هُنَالِكَ مَهْزُومٌ مِّن الأحزاب } أي هؤلاء الجند المكذبون سيهزمون ويغلبون ، ويكبتون كما كبت الذين من قبلهم من الأحزاب المكذبين ، وهذه الآية كقوله جلَّت عظمته : { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 44-45 ] كان ذلك يوم بدر { بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ } [ القمر : 46 ] .(1/2170)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتَادِ (12) وَثَمُودُ وَقَوْمُ لُوطٍ وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ أُولَئِكَ الْأَحْزَابُ (13) إِنْ كُلٌّ إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقَابِ (14) وَمَا يَنْظُرُ هَؤُلَاءِ إِلَّا صَيْحَةً وَاحِدَةً مَا لَهَا مِنْ فَوَاقٍ (15) وَقَالُوا رَبَّنَا عَجِّلْ لَنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسَابِ (16)
يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء القرون الماضية وما حل بهم من العذاب والنكال والنقمات في مخالفة الرسل وتكذيب الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، وقد تقدمت قصصهم مبسوطة في أماكن متعددة ، وقوله تعالى : { أولئك الأحزاب } أي كانوا أكثر منكم وأشد قوة وأكثر أموالاً وأولاداً ، فما دفع ذلك عنهم من عذاب الله من شيء لما جاء أمر ربك ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { إِن كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرسل فَحَقَّ عِقَابِ } فجعل علة إهلاكهم هو تكذيبهم بالرسل ، فليحذر المخاطبون من ذلك أشد الحذر ، وقوله تعالى : { وَمَا يَنظُرُ هؤلاءآء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } قال زيد بن أسلم : أي ليس لها مثنوية ، أي ما ينظرون { إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } [ محمد : 18 ] أي فقد اقتربت ودنت وأزفت ، وهذه الصيحة هي نفخة الفزع التي يأمر الله تعالى إسرافيل أن يطولها ، فلا يبقى أحد من أهل السماوات والأرض إلا فزع إلا من استثنى الله عزّ وجلّ ، وقوله جلّ جلاله : { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب } هذا إنكار من الله تعالى على المشركين في دعائهم على أنفسهم بتعجيل العذاب ، فإن القِط هو الكتاب ، وقيل : هو الحظ والنصيب ، قال ابن عباس ومجاهد والضحّاك : سألوا بتعجيل العذاب كما قالوا : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] وقيل : سألوا تعجيل نصيبهم من الجنة إن كانت موجودة ليلقوا ذاك في الدنيا ، وإنما خرج هذا منهم مخرج الاستبعاد والتكذيب ، قال ابن جرير : سألوا تعجيل ما يستحقونه من الخير أو الشر في الدنيا ، وهذا الذي قاله جيد ، ولما كان هذا الكلام منهم على وجه الاستهزاء والاستبعاد قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمراً له بالصبر على أذاهم ، ومبشراً له على صبره بالعاقبة والنصر والظفر .(1/2171)
اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِشْرَاقِ (18) وَالطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ وَآتَيْنَاهُ الْحِكْمَةَ وَفَصْلَ الْخِطَابِ (20)
يذكر تعالى عن عبده وسوله ( داود ) عليه الصلاة والسلام أنه كان ذا أيد ، و ( الأيد ) القوة في العلم والعمل ، قال ابن عباس : الأيد القوة ، وقرأ ابن زيد : { والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [ الذاريات : 47 ] وقال مجاهد : الأيد ، القوة في الطاعة . وقال قتادة : أعطي داود عليه الصلاة والسلام قوة في العبادة وفقهاً في الإسلام ، وقد ذكر لنا أنه عليه الصلاة والسلام كان يقوم ثلث الليل ، ويصوم نصف الدهر ، وهذا ثابت ي « الصحيحين » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أحب الصلاة إلى الله تعالى صلاة داود ، وأحب الصيام إلى لله عزّ وجلّ صيام داود ، كان ينام نصف الليل ، ويقوم ثلثه وينام سدسه ، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً ولا يفر إذا لاقى » ، وأنه كان ( أوَّاباً ) وهو الرجَّاع إلى الله عزّ وجلّ في جميع أموره ، وشؤونه ، وقوله تعالى : { إِنَّا سَخَّرْنَا الجبال مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بالعشي والإشراق } أي أنه تعالى سخر الجبال تسبّح معه عند إشراق الشمس وآخر النهار ، كما قال عزّ وجلّ : { ياجبال أَوِّبِي مَعَهُ والطير } [ سبأ : 10 ] وكذلك كانت الطير تسبح بتسبيحه وترجّع بترجيعه ، إذا مر به الطير وهو سابح في الهواء ، فسمعه وهو يترنم بقراءة الزبور لا يستطيع الذهاب بل يقف في الهواء ، ويسبح معه ويجيبه الجبال الشامخات ترجّع معه وتسبح تبعاً له .
ولهذا قال عزَّ وجلَّ : { والطير مَحْشُورَةً } أي محبوسة في الهواء { كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } أي مطيع يسبح تبعاً له ، قال سعيد بن جبير وقتادة { كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ } أي مطيع ، وقوله تعالى : { وَشَدَدْنَا مُلْكَهُ } أي جعلنا له ملكاً كاملاً من جميع ما يحتاج إليه الملوك ، قال مجاهد : كان أشد أهل الدنيا سلطاناً ، وقال السدي : كان يحرسه كل يوم أربعة آلاف ، وقوله عزّ وعلا : { وَآتَيْنَاهُ الحكمة } قال مجاهد : يعني الفهم والعقل والفطنة ، وعنه : { الحكمة } العدل ، وقال قتادة : كتاب الله واتباع ما فيه وقال : السدي : { الحكمة } النبوة ، وقوله جلّ جلاله : { وَفَصْلَ الخطاب } قال شريح القاضي والشعبي : فصل الخطاب : والشهود والأيمان ، وقال قتادة : شاهدان على المدعي أو يمين المدعي عليه ، وقال مجاهد والسدي : هو إصابة القضاء وفهم ذلك ، وقال مجاهد أيضاً : هو الفصل في الكلام وفي الحكم ، وهذا يشمل كل ذلك ، وهو المراد اختباره ابن جرير ، وعن أبي موسى رضي الله عنه ، أول من قال : ( أما بعد ) داود عليه السلام ، وهو فصل الخطاب ، وكذا قال الشعبي : فصل الخطاب : أما بعد .(1/2172)
وَهَلْ أَتَاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرَابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلَى دَاوُودَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قَالُوا لَا تَخَفْ خَصْمَانِ بَغَى بَعْضُنَا عَلَى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنَا بِالْحَقِّ وَلَا تُشْطِطْ وَاهْدِنَا إِلَى سَوَاءِ الصِّرَاطِ (22) إِنَّ هَذَا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَتِسْعُونَ نَعْجَةً وَلِيَ نَعْجَةٌ وَاحِدَةٌ فَقَالَ أَكْفِلْنِيهَا وَعَزَّنِي فِي الْخِطَابِ (23) قَالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤَالِ نَعْجَتِكَ إِلَى نِعَاجِهِ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْخُلَطَاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَقَلِيلٌ مَا هُمْ وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَخَرَّ رَاكِعًا وَأَنَابَ (24) فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (25)
قد ذكر المفسرون ها هنا قصة أكثرها مأخوذ من الإسرائيليات ، ولم يثبت فيها عن المعصوم حديث يجب اتباعه ، ولكن روى ان أبي حاتم هنا حديثاً ، لا يصح سنده ، لأنه من رواية يزيد الرقاشي عن أنَس رضي الله عنه ، ويزيد وإن كان من الصالحين ، لكنه ضعيف الحديث عند الأئمة؛ فالأولى أن يقتصر على مجرد تلاوة هذه القصة ، وأن يُرَدَّ علمها إلى الله عزّ وجلّ ، فإن القرآن حق ، وما تضمن فهو حق أيضاً ، وقوله تعالى : { فَفَزِعَ مِنْهُمْ } إنما كان ذلك لأنه كان في محرابه ، وهو أشرف مكان في داره ، وكان قد أمر أن لا يدخل عليه أحد ذلك اليوم ، فلم يشعر إلا بشخصين قد تسورا عليه المحراب ، أي احتاطا به ، يسألانه عن شأنهما ، وقوله عزّ وجلّ : { وَعَزَّنِي فِي الخطاب } أي غلبني ، يقال : عز يعز إذا قهر وغلب ، وقوله تعالى : { وَظَنَّ دَاوُودُ أَنَّمَا فَتَنَّاهُ } قال ابن عباس : أي اختبرناه ، وقوله تعالى : { وَخَرَّ رَاكِعاً } أي ساجداً ، { وَأَنَابَ } أي رجع وتاب ويحتمل أنه ركع أولاً ثم سجد بعد ذلك { فَغَفَرْنَا لَهُ ذَلِكَ } أي ما كان منه مما يقال فيه : « حسنات الأبرار سيئات المقربين » .
وقد اختلف الأئمة في سجدة ( ص ) هل هي من عزائم السجود؟ على قولين : الجديد من مذهب الشافعي رضي الله عنه أنها ليست من عزائم السجود ، قل هي سجدة شكر؛ والدليل على ذلك ما روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : السجدة في ( ص ) ليست من عزائم السجود ، وقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يسجد فيها ، وروى البخاري عند تفسيرها عن العوام قال : سألت مجاهداً عن سجدة ( ص ) فقال : سألت ابن عباس رضي الله عنهما من أين سجدت؟ فقال : أو ما تقرأ : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } [ الأنعام : 84 ] ، و { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] فكان داود عليه الصلاة والسلام ممن أمر نبيكم صى الله عليه وسلم أن يقتدي به ، فسجدها داود عليه الصلاة السلام ، فسجدها رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى : { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ } أي وإن له يوم القيامة لقربة يقربه الله عزّ وجلّ بها ، وحسن مرجع ، وهو الدرجات العالية في الجنة لتوبته وعدله التام في ملكه ، كما جاء في الصحيح : « المقسطون على منابر من نور ، عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين ، الذين يقسطون في أهليهم ، وما ولوا » وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أحب الناس إلى الله يوم القيامة ، وأقربهم منه مجلساً إمام عادل ، وإن أبغض الناس إلى الله يوم القيامة وأشدهم عذاباً إمام جائر » .(1/2173)
يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ (26)
هذه وصية من الله عزّ وجلّ لولاة الأمور ، أن يحكموا بين الناس بالحق المنزل من عنده تبارك وتعالى ، ولا يعدلوا عنه فيضلوا عن سبيل الله ، وقد توعد تبارك وتعالى من ضل عن سبيله وتناسى يوم الحساب ، بالوعيد الأكيد والعذاب الشديد ، روى ابن أ بي حاتم بسنده عن أبي زرعة وكان قد قرأ الكتاب أن الوليد بن عبد الملك قال له : أيحاسب الخليفة فإنك قد قرأت الكتاب الأول وقرأت القرآن وفقهت؟ فقلت : يا أمير المؤمنين أقول؟ قال : قل في أمان الله ، قلت : يا أمير المؤمنين أنت أكرم على الله أو داود عليه الصلاة والسلام؟ إن الله تعالى جمع له النبوة والخلافة ثم توعده في كتابه فقال تعالى : { ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله } الآية ، وقال عكرمة : { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدُ بِمَا نَسُواْ يَوْمَ الحساب } هذا من المقدم والمؤخر : لهم عذاب شديد يوم الحساب بما نسوا ، وقال السدي : لهم عذاب شديد بما تركوا أن يعملوا ليوم الحساب ، وهذا القول أظهر ، والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب .(1/2174)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلًا ذَلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (29)
يخبر تعالى أنه ما خلق الخلق عبثاً ، وإنما خلقهم ليعبدوه ويوحّدوه ، ثم يجمعهم يوم الجمع فيثيب المطيع ويعذب الكافر ، ولهذا قال تبارك وتعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ } ، أي الذين لا يرون بعثاً ولا معاداً ، وإنما يعتقدون هذه الدار فقط ، { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار } أي ويل لهم يوم معادهم ونشورهم من النار المعدة لهم ، ثم بيَّن تعالى أنه عزّ وجلّ من عدله وحكمته لا يساوي بين المؤمنين والكافرين ، فقال تعالى : { أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار } أي لا نفعل ذلك ، ولا يستوون عند الله ، وإذا كان الأمر كذلك ، فلا بد من دار أخرى يثاب فيها المطيع ، ويعاقب فيها هذا الفاجر ، وتدل العقول السليمة والفطر المستقيمة على أنه لا بد من معاد وجزاء ، فإنا نرى الظالم الباغي يزداد ماله وولده ونعيمه ، ويموت كذلك ، ونرى المطيع المظلوم يموت بكمده ، فلا بد في حكمه الحكيم العليم العادل ، الذي لا يظلم مثقال ذرة من إنصاف هذا من هذا ، وإذا لم يقع هذا في هذه الدار فتعين أن هناك داراً أخرى ، لهذا الجزاء والمواساة ، ولما كان القرآن يرشد إلى المقاصد الصحيحة والمآخذ العقلية الصريحة قال تعالى : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب } أي ذوو القعول ، هي ( الألباب ) جمع لب وهو العقل ، وقال الحسن البصري : والله ما تدبره بحفظ حروفه ، وإضاعة حدوده ، حتى إن أحدهم ليقول : قرأت القرآن كله ما يرى له القرآن في خلق ولا عمل .(1/2175)
وَوَهَبْنَا لِدَاوُودَ سُلَيْمَانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِنَاتُ الْجِيَادُ (31) فَقَالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوَارَتْ بِالْحِجَابِ (32) رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحًا بِالسُّوقِ وَالْأَعْنَاقِ (33)
يقول تعالى مخبراً أنه وهب لداود ( سليمان ) أي نبياً ، كما قال عزّ وجلّ : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } [ النمل : 16 ] أي في النبوة ، وإلا فقد كان له بنون غيره ، فإنه قد كان عنده مائة امرأة حرائر ، وقوله تعالى : { نِعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } ثناء على سليمان بأنه كثير الطاعة والعبادة والإنابة إلى الله عزّ وجلّ ، وقوله تعالى : { إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بالعشي الصافنات الجياد } أي إذا عرض على سليمان عليه الصلاة والسلام في حال مملكته وسلطانه الخيل الصافنات ، قال مجاهد : وهي التي تقف على ثلاث وطرف حافر الرابعة ، والجياد السراع ، وعن إبراهيم التيمي قال : كانت الخيل التي شغلت سليمان عليه الصلاة والسلام عشرين ألف فرس فعقرها ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزة تبوك أو خيبر وفي سهوتها ستر ، فهبت الريح ، فكشفت ناحية الستر عن بنات لعائشة رضي الله عنها لعب ، فقال صلى الله عليه وسلم : » ما هذا يا عائشة « قالت رضي الله عنها : بناتي ، ورأى بينهن فرساً له جناحان من رقاع ، فقال صل الله عليه وسلم : » ما هذا الذي أرى وسطهن «؟ قالت رضي الله عنها : فرس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما هذا الذي عليه؟ قالت رضي الله عنها : جناحان ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فرس له جناحان » قالت رضي الله عنها : أما سمعت أن سليمان عليه الصلاة والسلام كان له خيل لها أجنحة؟ قالت رضي الله عنها : فضحك صلى الله عليه وسلم حتى رِأيت نواجذه « وقوله تبارك وتعالى : { فَقَالَ إني أَحْبَبْتُ حُبَّ الخير عَن ذِكْرِ رَبِّي حتى تَوَارَتْ بالحجاب } ذكر غير واحد من السلف والمفسرين : أنه اشتغل بعرضها حتى فات وقت صلاة العصر ، والذي يقطع به أنه لم يتركها عمداً ، بل نسياناً ، كما شغل النبي صل الله عليه وسلم يوم الخندق عن صلاة العصر ، حتى صلاها بعد الغروب؛ وذلك ثابت في » الصحيحين « عن جابر رضي الله عنه قال : » جاء عمر رضي الله عنه يوم الخندق بعدما غربت الشمس ، فجعل يسب كفار قريش ، ويقول : يا رسول الله ، والله ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والله ما صليتها » ، قال فقمنا إلى بطحان فتوضأ نبي الله صلى الله عليه وسلم للصلاة وتوضأنا لها ، فصلى العصر بعدما غربت الشمس ، ثم صلى بعدها المغرب « ، ويحتمل أنه كان سائغاً في ملتهم تأخير الصلاة لعذر والغزو والقتال ، والأول أقرب ، لأنه قال بعده : { رُدُّوهَا عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بالسوق والأعناق } قال الحسن البصري : لا والله لا تشغليني عن عبادة ربي آخر ما عليك ، ثم أمر بها فعقرت ، وقال السدي : ضرب أعناقها وعراقيبها بالسيوف ، ولهذاعوضه الله عزّ وجلّ ما هو خير منها ، وهو الريح التي تجري بأمره رخاء حيث أصاب ، غدوها شهر ورواحها شهر ، فهذا أسرع وخير من الخيل .(1/2176)
وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ وَأَلْقَيْنَا عَلَى كُرْسِيِّهِ جَسَدًا ثُمَّ أَنَابَ (34) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَهَبْ لِي مُلْكًا لَا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاءً حَيْثُ أَصَابَ (36) وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَغَوَّاصٍ (37) وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (38) هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (39) وَإِنَّ لَهُ عِنْدَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ (40)
يقول تعالى : { وَلَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمَانَ } أي اختبرناه بأن سلبناه الملك ، { وَأَلْقَيْنَا على كُرْسِيِّهِ جَسَداً } . قال ابن عباس والحسن وقتادة : يعني شيطاناً ، { ثُمَّ أَنَابَ } أي رجع إلى ملكه وسلطانه وأبهته ، قال ابن جرير : وكان اسم ذلك الشيطان صخراً ، وقيل : آصف ، { قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي إِنَّكَ أَنتَ الوهاب } قال بعضهم : معناه لا ينبغي لأحد منم بعدي ولا يصلح لأحد أن يسلبنيه بعدي ، والصحيح أنه سأل من الله تعالى ملكاً لا يكون لأحد من بعده من الشر مثله ، وهذا هو ظاهر السياق من الآية ، وبذلك وردت الأحاديث الصحيحة من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال البخاري عند تفسير هذه الآية ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن عفريتاً من الجن تفت عليَّ البارحة أو كلمة نحوها ليقطع علي الصلاة فأمكنني بالله تبارك وتعالى منه ، وأردت أن أربطه إلى سارية من سواري المسجد حتى تصبحوا وتنظروا إليه كلكم ، فذكرت قول أخي سليمان عليه الصلاة والسلام : { قَالَ رَبِّ اغفر لِي وَهَبْ لِي مُلْكاً لاَّ يَنبَغِي لأَحَدٍ مِّن بعدي } » قال روح : فرده خاسئاً . وروى مسلم في « صحيحه » عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : « قام رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسمعناه يقول : » أعوذ بالله منك ، ثم قال : ألعنك بلعنة الله « ثلاثاً ، وبسط يده كأنه يتناول شيئاً ، فلما فرغ من الصلاة قلنا : يا رسول الله سمعناك تقول في الصلاة شيئاً لم نسمعك تقوله قبل ذلك ، ورأيناك بسطت يدك ، قال : صلى الله عليه وسلم : » إن عدوّ الله إبليس جاء بشهاب من نار ليجعله في وجهي ، فقلت : أعوذ بالله منك ثلاث مرات ، ثم قلت : ألعناك بلعنة الله التامة ، فلم يستأخر ثلاث مراتب ، ثم أردت أن آخذه ، والله لولا دعوة أخينا سليمان لأصبح موثقاً يلعب به صبيان أهل المدينة « » .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام يصلي الصبح ، وأنا خلفه فقرأ ، فالتبست عليه القراءة ، فلما فرغ من صلاته قال : » لو رأيتموني وإبليس فأهويت بيدي ، فما زلت أخنقه حتى وجدت برد لعابه بين أصبعي هاتين الإبهام والتي تليها ولولا دعوة أخي سليمان لأصبح مربوطاً بسارية من سواري المسجد يتلاعب به صبيان المدينة ، فمن استطاع منكم أن لا يحول بينه وبين القبلة أحد فليفعل « » .
وقوله تبارك وتعالى : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } قال الحسن البصري : لما عقر سليمان عليه الصلاة والسلام الخيل غضباً لله عزّ وجلّ ، عوّضه الله تعالى ما هو خير منها وأسرع الريح التي غدوها شهر ورواحها شهر ، وقوله جل علا : { حَيْثُ أَصَابَ } أي حيث أراد من البلاد ، وقوله جل جلاله : { والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ } أي منهم ما هو مستعمل في الأبنية الهائلة من محاريب وتماثيل إلى غير ذلك من الأعمال الشاقة التي لا يقدر عليها البشر ، وطائفة غواصون في البحار يستخرجون ما بها من اللآلىء والجواهر والأشياء النفيسة التي لا توجد إلا فيها ، { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد } أي موثوقون في الأغلال والأكبال ممن تمرد وعصى ، وامتنع من العمل وأبى ، أو قد أساء في صنيعه واعتدى ، وقوله عزّ وجلّ : { هذا عَطَآؤُنَا فامنن أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي هذا الذي أعطيناك من الملك التام والسلطان الكامل كما سألتنا ، فأعظ من شئت ، واحرم من شئت ، لا حساب عليك ، أي مهما فعلت فهو جائز لك ، وقد ثبت في « الصحيحين » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خيِّر بين أن يكون ( عبداً رسولاً ) ، وبين أن يكون ( نبياً ملكاً ) يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، بلا حساب ولا جناح ، اختار المنزلة الأولى بعد ما استشار جبريل عليه السلام ، فقال له : تواضع فاختار المنزلة الأولى ، لأنها أرفع قدراً عند الله عزّ وجلّ وأعلى منزلة من المعاد ، ون كانت المنزلة الثانية وهي النبوة مع الملك عظيمة أيضاً في الدنيا والآخرة ، ولهذا لما ذكر تبارك وتعالى ما أعطى سليمان عليه الصلاة والسلام في الدنيا نبه تعالى أنه ذو حظ عظيم عند الله يوم القيامة أيضاً ، فقال تعالى : { وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لزلفى وَحُسْنَ مَآبٍ } أي في الدار الآخرة .(1/2177)
وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطَانُ بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هَذَا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ (42) وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (43) وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثًا فَاضْرِبْ بِهِ وَلَا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِرًا نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)
يذكر تبارك وتعالى عبده ورسوله ( أيوب ) عليه الصلاة والسلام ، وما كان ابتلاه تعالى به من الضر في جسده وماله وولده ، حتى لم يبق من جسده مغرز إبرة سليماً سوى قلبه ، ولم يبق له من الدنيا شيء يستعين به على مرضه وما هو فيه ، غير أن زوجته حفظت وده لإيمانها بالله تعالى ورسوله ، فكانت تخدم الناس بالأجرة وتطعمه وتخدمه ، نحواً من ثماني عشرة سنة ، وقد كان قبل ذلك من مال جزيل وأولاد وسعة طائلة في الدنيا ، فسلب جميع ذلك حتى رفضه القريب البعيد سوى زوجته رضي الله عنها فإنها كانت لا تفارقه صباحاً ومساء إلا بسبب خدمة الناس ثم تعود إليه قريباً ، فلما طال المطال ، واشتد الحال ، وانتهى القدر ، وتم الأجل المقدر تضرع إلى رب العالمين وإله المرسلين فقال : { أَنِّي مَسَّنِيَ الضر وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } [ الأنبياء : 83 ] ، وفي هذه الآية الكريمة قال { واذكر عَبْدَنَآ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشيطان بِنُصْبٍ وَعَذَابٍ } قيل : { بِنُصْبٍ } في بدني و { وَعَذَابٍ } في مالي وولدي ، فعند ذلك استجاب له أرحم الراحمين ، وأمره أن يقوم من مقامه ، وأن يركض الأرض برجله ، ففعل ، فأنبع الله تعالى عيناً وأمره أن يغتسل منها ، فأذهبت جميع ما كان في بدنه من الأذى ، ثم أمره فضرب الأرض في مكان آخر ، فأنبع له عيناً أخرى ، وأمره أن يشرب منها ، فأذهبت جميع ما كان في باطنه من السوء ، وتكاملت العافية ظاهراً وباطناً؛ ولهذا قال تبارك وتعالى : { اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } . روى ابن جرير وابن أبي حاتم ، عن أنَس بن مالك رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن نبي الله أيوب عليه الصلاة والسلام لبث في بلائه ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد إلا رجلين كانا من أخص إخوانه به ، كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه : تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد في العالمين ، قال له صاحبه : وما ذاك؟ قال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله تعالى ، فيكشف ما به ، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل حتى ذلك له ، فقال أيوب عليه الصلاة والسلام : لا أدري ما تقول غير أن الله عزّ وجلّ يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان ، فيذكران الله تعالى ، فأرجع إلى بيتي فأكفر عنهما كراهية أن يذكر الله تعالى إلا في حق ، قال : وكان يخرج إلى حاجته ، فإذا قضاها أمسكت امرأته بيده حتى يبلغ ، فلما كان ذات يوم أبطأ عليها ، فأوحى الله تبارك وتعالى إلى أيوب عليه الصلاة والسلام أن : { اركض بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بَارِدٌ وَشَرَابٌ } فاستبطأته ، فالتفتت تنظر ، فأقبل عليها ، قد ذهب الله ما به من البلاء ، وهو على أحسن ما كان ، فلما رأته قالت : أي بارك الله فيك ، هل رأيت نبي الله هذا المبتلى ، فوالله القدير على ذلك ، ما رأيت رجلاً أشبه به منك إذ كان صحيحاً ، قال : فإني أنا هو » .(1/2178)
وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بينما أيوب يغتسل عرياناً خر عليه جراد من ذهب فجعل أيوب عليه الصلاة والسلام يحثو في ثوبه ، فناداه ربه عزَّ وجلَّ : يا أيوب ألم أكن أغنيك عما ترى؟ قال عليه الصلاة والسلام : بلا يا رب ، ولكن لا غنى بي عن بركتك » ولهذا قال تبارك وتعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ رَحْمَةً مِّنَّا وذكرى لأُوْلِي الألباب } قال الحسن وقتادة : أحياهم الله تعالى له بأعيانهم وزادهم مثلهم معهم ، وقوله عزّ وجلّ « { رَحْمَةً مِّنَّا } أي به على صبره وثباته وإنباته وتواضعه واستكانته ، { وذكرى لأُوْلِي الألباب } أي لذوي العقول ليعلما أن عاقبة الصبر الفرج ، وقوله جلَّت عظمته : { وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فاضرب بِّهِ وَلاَ تَحْنَثْ } وذلك أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان قد غضب على زوجته ووجد في أمر فعلته ، وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة ، فلما شفاه الله عزّ وجلّ وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب ، فأتفاه الله عزّ وجلّ أن يأخذ { ضِغْثاً } وهو الشمراخ فيه مائة قضيب ، فيضربها به ضربة واحدة ، وقد برت يمينه ، وخرج من حنثه ووفى بنذره ، وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه ، ولهذا قال جلّ وعلا : { إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } أنثى الله تعالى عليه ومدحه بأنه { نِّعْمَ العبد إِنَّهُ أَوَّابٌ } أي رجَّاع منيب؛ ولهذا قال جلّ جلاله : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2-3 ] الآية واستدل كثير من الفقهاء بهذه الآية الكريمة على مسائل في الإيمان والله أعلم .(1/2179)
وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَإِنَّهُمْ عِنْدَنَا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيَارِ (47) وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ (48)
يقول تبارك وتعالى مخبراً عن فضائل عباده المرسلين وأنبيائه العابدين : { واذكر عِبَادَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُوْلِي الأيدي والأبصار } يعني بذلك العمل الصالح والعلم النافع والقوة في العبادة والبصيرة النافذة ، قال ابن عباس : { أُوْلِي الأيدي } : أولي القوة ، { والأبصار } : الفقه في الدين ، وقال مجاهد : { أُوْلِي الأيدي } يعني القوة في طاعة الله تعالى ، { والأبصار } يعني البصر في الحق ، وقال قتادة والسدي : أعطوا قوة في العبادة وبصراً في الدين ، وقوله تبارك وتعالى : { إِنَّآ أَخْلَصْنَاهُمْ بِخَالِصَةٍ ذِكْرَى الدار } قال مجاهد : أي جعلناهم يعملون للآخرة ليس لهم همّ غيرها ، وقال مالك بن دينار : نزع الله تعالى من قلوبهم حب الدنيا وذكرها وأخلصهم بحب الآخرة وذكرها ، وقال سعيد بن جبير : يعني بالدار ( الجنة ) يقول : أخلصناها لهم بذكرهم لها ، وقال ابن زيد : جعل لهم خاصة أفضل شيء في الدار الآخرة ، وقوله تعالى : { وَإِنَّهُمْ عِندَنَا لَمِنَ المصطفين الأخيار } أي المختارين المجتبين الأخيار ، فهم أخيار مختارون ، وقوله تعالى : { واذكر إِسْمَاعِيلَ واليسع وَذَا الكفل وَكُلٌّ مِّنَ الأخيار } . قد تقدم الكلام على قصصهم وأخبارهم في سورة الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وقوله عزّ وجلّ { هذا ذِكْرٌ } [ ص : 49 ] أي هذا فصل فيه ذكر لمن يتذكر وقال السدي : يعني القرآن العظيم .(1/2180)
هَذَا ذِكْرٌ وَإِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوَابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيهَا يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَشَرَابٍ (51) وَعِنْدَهُمْ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ أَتْرَابٌ (52) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسَابِ (53) إِنَّ هَذَا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِنْ نَفَادٍ (54)
يخبر تعالى عن عباده المؤمنين السعداء أن لهم في الدار الآخرة { لَحُسْنَ مَآبٍ } وهو المرجع والمنقلب ، ثم فسره بقوله تعالى : { جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي جنات إقامة { مُّفَتَّحَةً لَّهُمُ الأبواب } والألف واللام هاهنا بمعنى الإضافة ، كأنه يقول مفتحة لهم أبوابها ، أي إذا جاءوها فتحت لهم أبوابها ، وقد ورد في ذكر أبواب الجنة الثمانية أحاديث كثيرة من وجوه عديدة ، وقوله عزّ وجلّ : { مُتَّكِئِينَ فِيهَا } قيل : متربعين على سرير تحت الحجال ، { يَدْعُونَ فِيهَا بِفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ } أي مهما طلبوا وجدوا وأحضر كما أرادوا ، { وَشَرَابٍ } أي من أي أنواعه شاءوا أتتهم به الخدام { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } [ الواقعة : 18 ] ، { وَعِندَهُمْ قَاصِرَاتُ الطرف } أي عن غير أزواجهن فلا يلتفتن إلى غير بعولتهن { أَتْرَابٌ } أي متساويات في السن والعمر ، { هذا مَا تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الحساب } أي هذا الذي ذكرنا من صفة الجنة هي التي وعدها لعباده المتقين ، التي يصيرون إليها بعد نشورهم وقيامهم من قبورهم وسلامتهم من النار ، ثم أخبر تبارك وتعالى عن الجنة أنه لا فراغ لها ولا زوال ولا انقضاء ولا انتهاء فقال تعالى : { إِنَّ هذا لَرِزْقُنَا مَا لَهُ مِن نَّفَادٍ } ، كقوله عزّ وجلّ : { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] ، وكقوله تعالى : { لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } [ فصلت : 8 ] أي غير مقطوع ، وكقوله : { أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عقبى الذين اتقوا وَّعُقْبَى الكافرين النار } [ الرعد : 35 ] ، والآيات في هذا كثيرة جداً .(1/2181)
هَذَا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ الْمِهَادُ (56) هَذَا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ (57) وَآخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ (58) هَذَا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لَا مَرْحَبًا بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُو النَّارِ (59) قَالُوا بَلْ أَنْتُمْ لَا مَرْحَبًا بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا فَبِئْسَ الْقَرَارُ (60) قَالُوا رَبَّنَا مَنْ قَدَّمَ لَنَا هَذَا فَزِدْهُ عَذَابًا ضِعْفًا فِي النَّارِ (61) وَقَالُوا مَا لَنَا لَا نَرَى رِجَالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرَارِ (62) أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصَارُ (63) إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)
لما ذكر تبارك وتعالى مآل السعداء ، ثنَّى بذكر حال الأشقياء ومرجعهم ومآبهم ، فقال عز و جل : { هذا وَإِنَّ لِلطَّاغِينَ } وهم الخارجون عن طاعة الله عزّ و جلّ ، المخالفون لرسل الله صلى الله عليه وسلم { جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا } أي لسوء منقل ومرجع ، ثم فسره بقوله جلّ وعلا : { لَشَرَّ مَآبٍ } أي يدخلونها فتغمرهم من جميع جوانبهم { فَبِئْسَ المهاد * هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } ، أما الحميم فهو الحار الذي قد انتهى حره ، وأما الغساق فهو ضده وهو البارد الذي لا يستطاع من شدة برده المؤلم ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } أي وأشياء من هذا القبيل ، الشيء وضده يعاقبون بها ، عن أبي سعيد رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لو أن دلواً من غسّاق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا » . وقال كعب الأحبار { غَسَّاقٌ } عين في جهنم يسيل إليها حمة كل ذات حمة من حية ، وعقرب وغير ذلك فيستنقع ، فيؤتى بالآدمي ، فيغمس فيها غمسة واحدة فيخرج ، وقد سقط جلده ولحمه عن العظام ، ويتعلق جلده ولحمه في كعبيه وعقبيه ، ويجر لحمه كله كما يجر الرجل ثوبه ، وقال الحسن البصري : { وَآخَرُ مِن شَكْلِهِ أَزْوَاجٌ } : ألوان من العذاب ، كالزمهرير ، والسموم ، وشرب الحميم ، وأكل الزقوم ، والصعود والهويّ ، إلى غير ذلك من الأشياء المختلفة المتضادة ، والجميع مما يعذبون به ، ويهانون بسببه ، وقوله عزّ وجلّ : { هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار } ، هذا إخبار من الله تعالى عن قيل أهل النار بعضهم لبعض ، كما قال تعالى : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 ] يعني بدل السلام يتلاعنون ويتكاذبون ، ويكفر بعضهم ببعض ، فتقول الطائفة التي تدخل قبل الأخرى ، إذا أقبلت مع الخزنة من الزبانية { هذا فَوْجٌ مُّقْتَحِمٌ } أي داخل { مَّعَكُمْ لاَ مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صَالُواْ النار } أي لأنهم من أهل جهنم ، { قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ } أي فيقول لهم الداخلون { قَالُواْ بَلْ أَنتُمْ لاَ مَرْحَباً بِكُمْ أَنتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنَا } أي أنتم دعوتمونا إلى ما أفضى بنا إلى هذا المصير ، { فَبِئْسَ القرار } أي فبئس المنزل والمستقر والمصير { قَالُواْ رَبَّنَا مَن قَدَّمَ لَنَا هذا فَزِدْهُ عَذَاباً ضِعْفاً فِي النار } ، كما عزّ وجلّ : { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ] أي لكل منكم عذاب بحسبه ، { وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار } ؟ هذا إخبار عن الكفار في النار ، أنهم يفتقدون رجالاً كانوا يعتقدون أنهم على الضلالة ، وهم المؤمنون في زعمهم قالوا : ما لنا لا نراهم معنا في النار؟ قال مجاهد : هذا قول أبي جهل يقول : ما لي لا أرى بلالاً وعماراً وصهيباً وفلاناً وفلاناً؟ وهذا ضرب مثلن وإلا فكل الكفار هذا حالهم ، يعتقدون أن المؤمنين يدخلون النار ، فلما دخل الكفار النار ، افتقدوهم فلم يجدوهم ، فقالوا : { وَقَالُواْ مَا لَنَا لاَ نرى رِجَالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِّنَ الأشرار * أَتَّخَذْنَاهُمْ سِخْرِيّاً } أي في الدار الدنيا { أَمْ زَاغَتْ عَنْهُمُ الأبصار } ؟ يسلّون أنفسهم بالمحال ، يقولون : أو لعلهم معنا في جهنم ، ولكن لم يقع بصرنا عليهم ، فعند ذلك يعرفون أنهم في الدرجات العاليات وهو قوله عزّ وجلّ :(1/2182)
{ ونادى أَصْحَابُ الجنة أَصْحَابَ النار أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ الأعراف : 44 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ لَحَقٌّ تَخَاصُمُ أَهْلِ النار } ، أي إن هذا الذي أخبرناك به يا محمد ، من تخاصم أهل النار بعضهم في بعض ، ولعن بعضهم لبعض ، لحقّ لا مرية فيه ولا شك؟(1/2183)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا مُنْذِرٌ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلَى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69) إِنْ يُوحَى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70)
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول للكفار بالله المشركين به المكذبين لرسوله { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ مُنذِرٌ } لست كما تزعمون ، { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله الواحد القهار } أي هو وحده قد قهر كل شيء وغلبه ، { رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } أي هو مالك جميع ذلك ومتصرف فيه ، { العزيز الغفار } أي غفار مع عظمته وعزته ، { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } أي خبر عظيم وشأن بليغ ، وهو إرسال الله تعالى إياي إليكم ، { أَنتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ } أي غافلون ، قال مجاهد { قُلْ هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ } : يعني القرآن ، وقوله تعالى : { مَا كَانَ لِيَ مِنْ عِلْمٍ بالملإ الأعلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ } أي لولا الوحي من أين كنت أدري باختلاف الملأ الأعلى؟ يعني في شأن آدم عليه الصلاة والسلام ، وامتناع إبليس من السجود له ، ومحاجته ربه في تفضيله عليه ، وغير ذلك .(1/2184)
إِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ طِينٍ (71) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (74) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعَالِينَ (75) قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَإِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (78) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قَالَ فَالْحَقُّ وَالْحَقَّ أَقُولُ (84) لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَمِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)
هذه القصة ذكرها الله تبارك وتعالى في سورة البقرة ، وفي أول الأعراف ، وفي سورة الحجر ، وسبحان ، والكهف ، وهاهنا ، وهي أن الله سبحانه وتعالى ، أعلم الملائكة قبل خلق آدم عليه الصلاة والسلام ، بأنه سيخلقه بشراً من صلصال من حمأ مسنون ، وتقدم إليهم بالأمر متى فرغ من خلقه وتسويته ، فليسجدوا له إكراماً وإعظاماً واحتراماً وامتثالاً لأمر الله عزّ وجلّ ، فامتثل الملائكة كلهم سوى إبليس ولم يكن منهم جنساً ، كان من الجن ، فخانه طبعه وجبلته ، فاستنكف عن السجود لآدم ، وخاصم ربه عزّ وجل فيه ، وادعى أنه خير من آدم ، فإنه مخلقو من نار ، وآدم مخلوق من طين ، والنار خير من الطين في زعمه ، وقد أخطأ في ذلك وخالف أمر الله تعالى ، وكفر بذلك فأبعده الله عزّ وجلّ ، وأرغم أنفه وطرده عن باب رحمته ومحل أنسه ، وحضرة قدسه ، وسماه ( إبليس ) إعلاماً له بأنه قد أبلس من الرحمة ، وأنزله من السماء مذموماً مدحوراً إلى الأرض ، فسأل الله إلنظرة إلى يوم البعث فأنظره الحليم الذي لا يعجل على من عصاه ، فلما أمن الهلاك إلى يوم القيامة تمرد وطغى ، وقال : { فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } ، كما قال عزّ وجلّ : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإِسراء : 62 ] وهؤلاء هم المستثنون في الآية الأخرى ، وهي قوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } [ الإسراء : 65 ] ، وقوله تعالى : { قَالَ فالحق والحق أَقُولُ * لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكَ وَمِمَّن تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ } ، قال السدي : هو قسم أقسم الله به ، كقوله تعالى : { ولكن حَقَّ القول مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } [ السجدة : 13 ] ، وكقوله عزّ وجلّ : { قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] .(1/2185)
قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (87) وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين ما أسألكم على هذا البلاغ ، وهذا النصح أجراً تعطوني إياه من عرض الحياة الدنيا { وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين } أي وما أريد على ما أرسلني الله تعالى به ، ولا أبتغي زيادة عليه ، بل ما أمرت به أديته ، لا أزيد عليه ولا أنقص منه ، وإنما أبتغي بذلك وجه الله عزّ وجلّ والدار الآخرة ، قال مسروق : أتينا عبد الله بن مسعود رضي الله عنه فقال : يا أيها الناس من علم شيئاً فيلقل به ، ومن لم يعلم فليقل : الله أعلم ، فإن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : الله أعلم ، فإنْ الله عزّ وجلّ قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين } . وقوله تعالى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } يعني القرآن ذكر لجميع المكلفين من الإنس والجن ، قال ابن عباس { لِّلْعَالَمِينَ } قال : الجن والإنس ، وهذه الآية كقوله تعالى : { لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، وقوله تعالى : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ } أي خبره وصدقه { بَعْدَ حِينِ } أي عن قريب ، قال قتادة : بعد الموت ، قال عكرمة : يعني يوم القيامة ، ولا منافاة بين القولين ، فإن من مات فقد دخل في حكم القيامة ، وقال الحسن البصري : يا ابن آدم عند الموت يأتيك الخبر اليقين .(1/2186)
تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (2) أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا لَاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (4)
يخبر تعالى أن تنزيل هذا الكتاب وهو ( القرآن العظيم ) من عنده تبارك وتعالى ، فهو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك كما قال عزّ وجلّ : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين } [ الشعراء : 192 ] ، وقال تعالى : { تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] ، وقال ها هنا { تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز } أي المنيع الجناب { الحكيم } أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره ، { إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق فاعبد الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين } أي فاعبد الله وحد لا شريك له وادع الخلق إلى ذلك ، وأعلمهم أنه لا تصلح العبادة إلا له وحده ، ولهذا قال تعالى : { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } أي لا يقبل من العمل إلا ما أخلص فيه العامل لله وحده لا شريك له ، وقال قتادة { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } : شهادة أن لا إله إلا الله ، ثم أخبر عزّ وجلّ عن عباد الأصنام من المشركين أنهم يقولون : { مَا نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } أي إنما يحملهم على عبادتهم لهم أنهم عمدوا إلى أصنام ، اتخذوها على صورة الملائكة المقربين في زعمهم ، فعبدوا تلك الصور تنزيلاًَ لذلك منزلة عبادتهم الملائكة ، ليشفعوا لهم عند الله تعالى ، فأما المعاد فكانوا جاحدين له كافرين به ، قال قتادة والسدي : { إِلاَّ لِيُقَرِّبُونَآ إِلَى الله زلفى } أي ليشفعوا لنا ويقربونا عنده منزلة ، ولهذا كانوا يقولون في تلبيتهم إذا حجوا في جاهلتيهم : « لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه ، وما ملك » ، وهذه الشبهة هي التي اعتمدها المشركون في قديم الدهر وحديثه ، وجاءتهم الرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين بردها والنهي عنها ، والدعوة إلى إفراد العبادة لله وحده لا شريك له ، وأن هذا شيء اخترعه المشركون من عند أنفسهم ، لم يأذن الله فيه ، ولا رضي به ، بل أبغضه ، ونهى عنه كما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل : 36 ] ، وقال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] ، وأخبر الملائكة التي في السماوات ، كلهم عبيد خاضعون لله ، لا يشفعون عنده إلا بإذنه لمن ارتضى ، وليسوا عنده كالأمراء عند ملوكهم ، يشفعون عندهم بغير إذنهم { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } [ النحل : 74 ] تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
وقوله عزّ وجلّ : { إِنَّ الله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } أي يوم القيامة { فِي مَا هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي سيفصل بين الخلائق يوم معادهم ، ويجزي كل عامل بعمله ، { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ كَاذِبٌ كَفَّارٌ } أي لا يرشد إلى الهداية ، من قصده الكذب والافتراء على الله تعالى ، وقلبه كافر بآياته وحججه وبراهنيه ، ثم بيَّن تعالى أنه لا ولد له كما يزعمه جهلة المشركين في الملائكة ، و المعاندون من اليهود والنصارى في العزيز وعيسى ، فقال تبارك وتعالى : { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } أي لكان الأمر على خلاف ما يزعمون ، وهذا شرط لا يلزم وقوعه ولا جوازه بل هو محال ، وإنما قصد تجهيلهم فيما ادعوه وزعموه كما قال عزّ وجلّ :(1/2187)
{ لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 17 ] ، فهذا من باب الشرط ، ويجوز تعليق الشرط على المستحيل لمقصد المتكلم ، وقوله تعالى : { سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار } أي تعالى وتنزّه وتقدس ، على أن يكون له ولد ، فإنه الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي قهر الأشياء ، فدانت له وذلت وخضعت ، تبارك وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً .(1/2188)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلَا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5) خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعَامِ ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقًا مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلَاثٍ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)
يخبر تعالى أنه الخالق لما في السماوات والأرض ، وما بين ذلك من الأشياء ، وبأنه مالك الملك المتصرف في يقلّب ليله ونهاره { يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل } أي سخرهما يجريان متعاقبين ، لا يفترقان ، كل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً ، كقوله تعالى : { يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } [ الأعراف : 54 ] ، وقوله عزّ وجلّ : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي إلى مدة معلومة عند الله تعالى ، ثم ينقضي يوم القيامة { أَلا هُوَ العزيز الغفار } أي مع عزته وعظمته وكبريائه ، هو غفار لمن عصاه ثم تاب وأناب إليه ، وقوله : جلت عظمته : { خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي خلقكم مع اختلاف أجناسكم وأصنافكم وألسنتكم وألوانكم { مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } وهو آدم عليه الصلاة والسلام { ثُمَّ جَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وهي حواء عليها السلام كقوله تعالى : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } [ النساء : 1 ] وقوله تعالى : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } أي وخلق لكم من ظهور الأنعام ثمانية أزواج ، وهي المذكورة في سورة الأنعام من الضأن اثنين ، ومن المعز اثنين ، ومن الإبل اثنين ، ومن البقر اثنين ، وقوله عزّ وجلّ : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } أي قدّركم في بطون أمهاتكم { خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ } يكون أحدكم أولاً نطفة ، ثم يكون علقة ، ثم يكون مضغة ، ثم يخلق فيكون لحماً وعظماً وعصباً وعروقاً ، وينفخ فيه الروح فيصير خلقاً آخر { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } [ المؤمنون : 14 ] ، وقوله جلّ وعلا : { فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } يعني ظلمة الرحم ، وظلمة المشيمة ، وظلمة البطن ، كذا قال ابن عباس ومجاهد . وقوله جلّ جلاله : { ذلكم الله رَبُّكُمْ } أي هذا الذي خلقكم وخلق آباءكم ، هو الرب له الملك والتصرف في جميع ذلك { لا إله إِلاَّ هُوَ } أي الذي لا تنبغي العبادة إلا له و حده لا شريك له { فأنى تُصْرَفُونَ } ؟ أي فكيف تعبدون معه غيره؟ وأين يذهب بعقولكم؟(1/2189)
إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَلَا يَرْضَى لِعِبَادِهِ الْكُفْرَ وَإِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) وَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيبًا إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يَدْعُو إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَجَعَلَ لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ (8)
يقول تعالى مخبراً عن نفسه جل وعلا أنه الغني عما سواه من المخلوقات ، كما قال موسى عليه السلام لقومه : { إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ إبراهيم : 8 ] ، وفي الصحيح : « يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم ، كانوا على أفجر قلب رجل منكم ، ما نقص ذلك من ملكي شيئاً » ، وقوله تعالى : { وَلاَ يرضى لِعِبَادِهِ الكفر } أي لا يحبه ولا يأمر به ، { وَإِن تَشْكُرُواْ يَرْضَهُ لَكُمْ } أي يحبه لكم ، ويزدكم من فضله ، { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } أي لا تحمل نفس عن نفس شيئاً ، بل كلٌ مطالب بأمر نفسه ، { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي فلا تخفى عليه خافية ، وقوله عزّ وجلّ : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ } أي عند الحاجة يتضرع ويستغيث بالله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً } [ الإسراء : 67 ] ، ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ إِذَا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِّنْهُ نَسِيَ مَا كَانَ يدعوا إِلَيْهِ مِن قَبْلُ } أي في حال الرفاهية ، ينسى ذلك الدعاء والتضرع ، كما قال جلّ جلاله : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ } [ يونس : 12 ] ، وقوله تعالى : { وَجَعَلَ لِلَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلَّ عَن سَبِيلِهِ } أي في حال العافية يشرك بالله ويجعل له أنداداً ، { قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحَابِ النار } أي قل لمن هذه حالته وطريقته ومسلكه { تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً } وهو تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، كقوله تعالى : { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } [ إبراهيم : 30 ] .(1/2190)
أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (9)
يقول تعالى : أمن هذه صفته ، كمن أشرك بالله وجعل أنداداً؟ لا يستوون عند الله ، كما قال تعالى : { لَيْسُواْ سَوَآءً } [ آل عمران : 113 ] ، وقال تعالى ههنا : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً } أي في حال سجوده ، وفي حال قيامه ، ولهذا استدل بهذه الآية ، من ذهب إلى أن القنوت هو الخشوع في الصلاة ، ليس هو القيام وحده ، قال ابن مسعود : « القانت المطيع لله عزّ وجلّ ، ولرسوله صلى الله عليه وسلم » ، وقال ابن عباس : { آنَآءَ اليل } جوف الليل ، وقال الثوري : بلغنا أن ذلك بين المغرب والعشاء ، وقال الحسن وقتادة { آنَآءَ اليل } أوله وأوسطه وآخره ، وقوله تعالى : { يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } أي في حال عبادته خائف راجٍ ، ولا بد في العبادة من هذا وهذا ، وأن يكون الخوف في مدة الحياة هو الغالب ، ولهذا قال تعالى : { يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } فإذا كان عند الاحتضار ، فليكن الرجاء هو الغالب عليه ، كما قال أنَس رضي الله عنه : « دخل رسول الله صلى الله عليه وسلم على رجل وهو في الموت فقال له : » كيف تجدك «؟ فقال : أرجو وأخاف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا يجتمعان في قلب عبدٍ في مثل هذا الموطن ، إلاّ أعطاه الله عزّ وجلّ الذي يرجو ، وأمّنه الذي يخافه « وعن يحيى البكاء أنه سمع ابن عمر رضي الله عنهما يقرأ : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } قال ابن عمر : ذاك ( عثمان بن عفان ) رضي الله عنه » وإنما ق لابن عمر رضي الله عنهما ذلك ، لكثرة صلاة عثمان رضي الله عنه بالليل وقراءته ، حتى إنه ربما قرأ القرآن في ركعة ، قال الشاعر :
يقطّع الليل تسبيحاً وقرآناً ... وقوله تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ } أي هل يستوي هذا ، والذي قبله ممن جعل لله أنداداً ليضل عن سبيله؟ { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } أي إنما يعلم الفرق بين هذا وهذا ، من له لب ، وهو العقل ، والله أعلم .(1/2191)
قُلْ يَا عِبَادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَأَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةٌ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصًا لَهُ الدِّينَ (11) وَأُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12)
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين ، بالاستمرار على طاعته وتقواه { قُلْ ياعباد الذين آمَنُواْ اتقوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } أي لمن أحسن العمل في هذه الدنيا ، حسنة في دنياهم وأخراهم ، { وَأَرْضُ الله وَاسِعَةٌ } قال مجاهد : فهاجروا فيها وجاهدوا ، واعتزلوا الأوثان ، وقال : إذا دعيتم إلى معصيته فاهربوا ، ثم قرأ : { أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا } [ النساء : 97 ] وقوله تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } قال الأوزاعي : ليس بوزن لهم ولا يكال ، إنما يغرف لهم غرفاً ، وقال ابن جريج : بلغني أنه لا يحسب عليهم ثواب عملهم قط ، ولكن يزادون على ذلك ، وقال السدي : يعني في الجنة ، وقوله : { قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله مُخْلِصاً لَّهُ الدين } أي إنما أمر بإخلاص العبادة لله وحده لا شريك له ، { وَأُمِرْتُ لأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ المسلمين } قال السدي : يعني من أمته صلى الله عليه وسلم .(1/2192)
قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصًا لَهُ دِينِي (14) فَاعْبُدُوا مَا شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذَلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبَادَهُ يَا عِبَادِ فَاتَّقُونِ (16)
يقول تعالى : قل يا محمد وأنت رسول الله { إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وهو يوم القيامة ، ومعناه التعريض بغيره ، بطريق الأولى والأحرى ، { قُلِ الله أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَّهُ دِينِي * فاعبدوا مَا شِئْتُمْ مِّن دُونِهِ } ، وهذا أيضاً تهديد ، وتبرٍّ منهم ، { قُلْ إِنَّ الخاسرين } أي إنما الخاسرون كل الخسران { الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة } أي تفارقوا فلا التقاء لهم أبداً ، وسواء ذهب أهلوهم إلى الجنة ، وذهبوا هم إلى النار ، أو أن الجميع أسكنوا النار ، ولكن الاجتماع لهم ولا سرور { أَلاَ ذَلِكَ هُوَ الخسران المبين } أي هذا هو الخسران المبين ، الظاهر الواضح ، ثم وصف حالهم في النار فقال : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } ، كما قال عزّ وجلّ : { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وكذلك نَجْزِي الظالمين } [ الأعراف : 41 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } [ العنكبوت : 55 ] وقوله جلّ جلاله : { ذَلِكَ يُخَوِّفُ الله بِهِ عِبَادَهُ } أي إنما يقص خبر هذا ليخوف به عباده ، لينزجروا عن المحارم والمآثم ، وقوله تعالى : { ياعباد فاتقون } أي اخشوا بأسي وسطوتي وعذابي ونقمتي .(1/2193)
وَالَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوهَا وَأَنَابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرَى فَبَشِّرْ عِبَادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ وَأُولَئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ (18)
قال زيد بن أسلم : نزلت الآية في ( زيد بن عمرو ) و ( أبي ذر ) و ( سلمان الفارسي ) رضي الله تعالى عنهم ، والصحيح أنها شاملة له ولغيرهم ، ممن اجتنب عبادة الأوثان ، وأناب إلى عبادة الرحمن ، فهؤلاء لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة ، ثم قال عزّ وجلّ : { فَبَشِّرْ عِبَادِ * الذين يَسْتَمِعُونَ القول فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ } أي يفهمونه ويعملون بما فيه كقوله تبارك وتعالى : { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } [ الأعراف : 145 ] ، { أولئك الذين هَدَاهُمُ الله } أي المتصفون بهذه الصفة هم الذين هداهم الله في الدنيا والآخرة ، { وأولئك هُمْ أُوْلُواْ الألباب } أي ذوو العقول الصحيحة ، والفطر المستقيمة .(1/2194)
أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِهَا غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعَادَ (20)
يقول تعالى : أفمن كتب الله أنه شقي هل تقدر أن تنقذه مما هو في من الضلال والهلاك؟ أي لا يهديه أحد من بعد الله ، ثم أخبر عزّ وجلّ عن عباده السعداء أن لهم غرفاً في الجنة ، وهي القصور الشاهقة ، { مِّن فَوْقِهَا غُرَفٌ مَّبْنِيَّةٌ } طباق فوق طباق ، مبنيات محكمات ، مزخرفات عاليات ، وفي الصحيح : « إن في الجنة لغرفاً يرى بطونها من ظهورها ، وظهورها من بطونها ، فقال أعرابي : لمن هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم : » لمن أطاب الكلام ، وأطعم الطعام ، وصلى بالليل والناس نيام « » . وروى الإمام أحمد ، عن سهل بن سعد رضي الله عنه « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وسلم قال : » إن أهل الجنة ليتراءون الغرفة في الجنة كما تراءون الكواكب في أفق السماء « » وروى الإمام أحمد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « قلنا يا رسول الله! إنا إذا رأيناك رقت قلوبنا ، وكنا من أهل الآخرة ، فإذا فارقناك أعجبتنا الدنيا ، وشممنا النساء والأولاد ، قال صلى الله عليه وسلم : » لو أنكم تكونون على كل حال ، على الحال التي أنتم عليها عندي لصافحتكم الملائكة بأكفهم ولزارتكم في بيوتكم ، ولو لم تذنبوا لجاء الله عزّ وجلّ بقوم يذنبون كي يغفر لهم « قلنا : يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال : صلى الله عليه وسلم : » لبنة ذهب ولبنة فضة ، وبلاطها المسك الأذفر ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزغفران ، من يدخلها ينعم ولا يبأس ، ويخلد ولا يموت ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه ، ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم تحمل على الغمام ، وتفتح لها أبواب السماوات ، ويقول الرب تبارك وتعالى : « وعزتي لأنصرك ولو بعد حين » « وقوله تعالى : { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أي تسلك الأنهار بين خلال ذلك كما شاءوا ، وأين أرادوا { وَعْدَ الله } أي هذا الذي ذكرناه وعد وعده والله عباده المؤمنين { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } [ الرعد : 31 ] .(1/2195)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَامًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (21) أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (22)
يخبر تعالى أن أصل الماء في الأرض من السماء ، كما قال عزّ وجلّ : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً } [ الفرقان : 48 ] فإذا أنزل الماء من السماء كَمَن في الأرض ، ثم يصرفه تعالى في أجزاء الأرض كما يشاء ، وينبعه عيوناً ما بين صغار وكبار ، بحسب الحاجة إليها ، ولهذا قال تبارك وتعالى : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض } ، عن ابن عباس قال : ليس في الأرض ماء إلا نزل من السماء ، ولكن عروق في الأرض تغيره ، فذلك قوله تعالى : { فَسَلَكَهُ يَنَابِيعَ فِي الأرض } فمن سره أن يعود الملح عذباً فليصعده ، وقال سعيد بن جبير : أصله من الثلج يعني أن الثلج يتراكم على الجبال ، فيسكن في قرارها ، فتنبع العيون من أسفلها ، وقوله تعالى : { ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } ، أي ثم يخرج بالماء النازل منا لسماء ، والنابع من الأرض { زَرْعاً مُّخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } أي أشكاله وطعومه ، وروائحه ومنافعه ، { ثُمَّ يَهِيجُ } أي بعد نضارته وشبابه يكتهل ، فنراه مصفراً قد خالطه اليبس ، { ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطَاماً } أي ثم يعود يابساً يتحطم ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى لأُوْلِي الألباب } أي الذين يتذكرون بهذا ، فيعتبرون إلى أن الدنيا هكذا تكون خضرة ناضرة حسناء ، ثم تعود عجوزاً شوهاء ، والشاب يعود شيخاً هرماً ، كبيراً ضعيفاً ، وبعد ذلك كله الموت؛ فالسعيد من كان حاله بعده إلى خير ، وقوله تبارك وتعالى : { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } أي هل يستوي هذا ، ومن هو قاسي القلب بعيد من الحق؟ كقوله عزّ وجلّ : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } [ الأنعام : 122 ] ؟ ولهذا قال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِّن ذِكْرِ الله } أي فلا تلين عند ذكره ، ولا تخشع و لا تعي ولا تفهم { أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } .(1/2196)
اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (23)
هذا مدح من الله عزَّ وجلَّ لكتابه ( القرآن الكريم ) المنزل على رسوله الكريم . قال الله تعالى : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } قال مجاهد : يعني القرآن كله متشابه مثاني ، وقال قتادة : الآية تشبه الآية ، والحرف يشبه الحرف ، وقال الضحاك { مَّثَانِيَ } ترديد القول ليفهموا عن ربهم تبارك وتعالى ، وقال عبد الرحمن بن زيد { مَّثَانِيَ } مردَّد ، ردد موسى في القرآن وصالح وهود والأنبياء عليهم الصلاة والسلام في أمكنة كثيرة ، وقال ابن عباس { مَّثَانِيَ } أي القرآن يشبه بعضه بعضاً ويُرَدُّ بعضه على بعض . وقوله تعالى : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله } أي هذه صفة الأبرار ، عند سماع كلام الجبار ، والمهيمن العزيز الغفار ، لما يفهمون منه من الوعد والوعيد ، والتخويف والتهديد ، تقشعر منه جلودهم من الخشية والخوف ، { ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله } ، لما يرجون ويؤملون من رحمته ولطفه ، فهم مخالفون لغيرهم من الفجار من وجوه : أحدها : أن سماع هؤلاء هو تلاوة الآيات ، وسماع أولئك نغمات الأبيات من أصوات القينات . الثاني : أنهم إذا عليهم آيات الرحمن { خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } [ مريم : 58 ] بأدب وخشية ، ورجاء ومحبة ، وفهم وعلم ، كما قال تبارك وتعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } [ الفرقان : 73 ] أي لم يكونوا عند سماعها متشاغلين لاهين عنها بل مصغين إليها ، ويسجدون عندها عن بصيرة لا عن جهل ومتابعة لغيرهم الثالث : أنهم يلزمون الأدب عند سماعها ، كما كان الصحابة رضي الله عنهم عند سماعهم كلام الله تعالى تقشعر جلودهم ، ثم تلين مع قلوبهم إلى ذكر الله ، لم يكونوا يتصارخون ، بل عندهم من الثبات والسكون والأدب والخشية ، مالا يلحقهم أحد في ذلك ، تلا قتادة رحمه الله : { تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إلى ذِكْرِ الله } قال : هذا نعت أولياء الله ، نعتهم الله عزّ وجلّ بأن تقشعر جلودهم وتبكي أعينهم ، وتطمئن قلوبهم إلى ذكر الله ، ولم ينعتهم بذهاب عقولهم ، والغشيان عليهم ، إنما هذا في أهل البدع ، وهذا من الشيطان ، وقال السدي { إلى ذِكْرِ الله } أي إلى وعد الله ، وقوله : { ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ الأنعام : 88 ] أي هذه صفة من هداه الله ، ومن كان على خلاف ذلك ، فهو ممن أضله الله { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } .(1/2197)
أَفَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24) كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذَاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (26)
يقول تعالى : { أَفَمَن يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سواء العذاب يَوْمَ القيامة } ويقرع فيقال له ولأمثاله من الظالمين ، { وَقِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } كمن يأتي آمناً يوم القيامة؟ كما قال الله عزّ وجلّ : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الملك : 22 ] وقال تبارك وتعالى : { أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة } [ فصلت : 40 ] ، واكتفى في هذه الآية بأحد القسمين عن الآخر ، وقوله جلت عظمته : { كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } يعني القرون الماضية المكذبة للرسل أهلكهم الله بذنوبهم وما كان لهم من الله من واقٍ ، وقوله جلّ وعلا { فَأَذَاقَهُمُ الله الخزي فِي الحياة الدنيا } أي بما أنزل بهم من العذاب والنكال ، وتشفي المؤمنين منهم . فليحذر المخاطبون من ذلك فإنهم قد كذبوا أشرف الرسل وخاتم الأنبياء صلى الله عليه وسلم ، والذي أعده الله جلّ جلاله لهم في الآخرة من العذاب الشديد ، أعظم مما أصابهم في الدنيا ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { وَلَعَذَابُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } .(1/2198)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28) ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا فِيهِ شُرَكَاءُ مُتَشَاكِسُونَ وَرَجُلًا سَلَمًا لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (29) إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31)
يقول تعالى : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ } أي بينا للناس فيه بضرب الأمثال { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } فإن المثل يقرب المعنى إلى الأذهان كما قال تبارك وتعالى : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] ، وقوله جل وعلا : { قُرْآناً عَرَبِيّاً غَيْرَ ذِي عِوَجٍ } أي هو قرآن بلسان عربي مبين لا اعوجاج فيه ، ولا انحراف ولا لبس ، بل هو بيان ووضوح وبرهان ، وإنما جعله الله تعالى كذلك ، وأنزله بذلك { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي يحذرون ما فيه من العويد ويعملون بما فيه من الوعد ، ثم قال : { ضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلاً فِيهِ شُرَكَآءُ مُتَشَاكِسُونَ } أي يتنازعون في ذلك العبد المشترك بينهم ، { وَرَجُلاً سَلَماً } أي سالماً { لِّرَجُلٍ } أي خالصاً لا يملكه أحد غيره ، { هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً } ؟ أي لا يستوي هذا وهذا ، كذللك لا يستوي المشرك والذي يعبد آلهة مع الله ، والمؤمن المخلص الذي لا يعبد إلا الله وحده لا شريك له؟ فأين هذا من هذا؟ قال ابن عباس ومجاهد : هذه الآية ضربت مثلاً للمشرك والمخلص ، ولما كان هذا المثل ظاهراً بيناً جلياً قال : { الحمد للَّهِ } أي على إقامة الحجة عليهم { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي فلهذا يشركون بالله ، وقوله تبارك وتعالى : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ } أي إنكم ستنقلون من هذا الدار لا محالة ، وستجتمعون عند الله تعالى في الدار الآخرة ، وتختصمون فيما أنتم فيه في الدينا من التوحيد والشرك بين يدي الله عزّ وجلّ ، فيفصل بينكم ، ويفتح بالحق وهو الفتاح العليم ، فينجي المؤمنين المخلصين والموحدين ، ويعذب الكافرين الجاحدين المشركين المكذبين ، ثم إن هذه الآية وإن كان سياقها في المؤمنين والكافرين ، وذكر الخصومة بينهم في الدار الآخرة ، فإنها شاملة لكل متنازعين في الدنيا ، فإنه تعاد عليهم الخصومة في الدار الآخرة . روي « أنه لما نزلت { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } قال الزبير رضي الله عنه : يا رسول الله أتكرر علينا الخصومة؟ قال صلى الله عليه وسلم : » نعم « ، قال رضي الله عنه : إن الأمر إذاً لشديد » ، وعن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : « لما نزلت هذه السورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُمْ مَّيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } ، قال الزبير رضي الله عنه : أي رسول الله ، أيكرر علينا ما كان بيننا في الدنيا مع خواص الذنوب؟ قال صلى الله عليه وسلم : » نعم ليكررن عليكم حتى يؤدى إلى كل ذي حق حقه « قال الزبير رضي الله عنه : والله إن الأمر لشديد » .
وفي الحديث : « أول الخصمين يوم القيامة الجاران »(1/2199)
وفي « المسند » عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال : « رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم شاتين ينتطحان ، فقال : » أتدري فيم ينتطحان يا أبا ذر « ، قلت : لا ، قال صلى الله عليه وسلم : » لكن الله يدري وسيحكم بينهما « » وقال الحافظ أبو بكر البزار ، عن أنَس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يجاء بالإمام الجائر الخائن يوم القيامة فتخاصمه الرعية ، فيفلحون عليه . فيقال له : سدّ ركناً من أركان جهنم » وعن ابن عباس رضي الله عنهما { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } يقول : يخاصم الصادق الكاذب ، والمظلوم الظالم ، والمهتدي الضال؟ والضعيف المستكبر ، وقد روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : يختصم الناس يوم القيامة حتى تختصم الروح مع الجسد : فتقول الروح للجسد أنت فعلت ، يقول الجسد للروح : أنت أمرت ، وأنت سولت ، فيبعث الله تعالى ملكاً يفصل بينهما ، فيقول لهما : إن مثلكما كمثل رجل مقعد بصير ، والآخر ضرير ، دخلا بستاناً ، فقال المقعد للضرير : إني أرى هاهنا ثماراً ، ولكن لا أصل إليهما ، فقال له الضرير : اركبني فتناوَلها ، فربكه فتناولها ، فأيهما المعتدي ، فيقولان : كلاهما ، فيقول لهما الملك : فإنكما قد حكمتما على أنفسكما ، يعني أن الجسد للروح كالمطية وهو راكبه ، وروى ابن أبي حاتم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : نزلت هذه الآية وما نعلم في أي شيء نزلت : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } قال ، قلنا : من تخاصم؟ ليس بيننان وبين أهل الكتاب خصومة فمن خاصم؟ حتى وقعت الفتنة ، فقال ابن عمر رضي الله عنهما : هذا الذي وعدنا ربنا عزّ وجلّ نختصم فيه ، وقال أبو العالية : { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ } يعني أهل القبلة ، وقال ابن زيد : يعني أهل الإسلام وأهل الكفر ، وقد قدمنا أن الصحيح العموم ، والله سبحانه أعلم .(1/2200)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (32) وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (34) لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (35)
يقول عزّ وجلّ مخاطباً للمشركين الذين افتروا على الله ، وجعلوا معه آلهة أُخرى ، وادعوا أن الملائكة بنات الله ، وجعلوا لله ولداً تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً ومع هذا كذبوا بالحق إذ جاءهم على ألسنة رسل الله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ علَى الله وَكَذَّبَ بالصدق إِذْ جَآءَهُ } أي لا أحد أظلم من هذا ، لأنه جمع بين طرفي الباطل : كذب على الله ، وكذّب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الباطل ، ورد الحق ، ولهذا قال جلت عظمته متوعداً لهم { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } ؟ وهم الجاحدون المكذبون ، ثم قال جل وعلا { والذي جَآءَ بالصدق وَصَدَّقَ بِهِ } ، قال مجاهد وقتادة : { والذي جَآءَ بالصدق } هو الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال السدي : هو جبريل عليه السلام ، { وَصَدَّقَ بِهِ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن عباس : من جاء بلا إلا إلا الله { وَصَدَّقَ بِهِ } يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : أصحاب القرآن المؤمنون يجيئون يوم القيامة ، فيقولون : هذا ما أعطيتمونا فعملنا فيه بما أمرتمونا ، وهذا القول يشمل كل المؤمنين ، فإن المؤمنين يقولون الحق ويعملون به ، والرسول صلى الله عليه وسلم أولى الناس بالدخول في هذه الآية ، فإنه جاء بالصدق وصدّق المرسلين ، وآمن بما أنزل إليه من ربه ، وقال ابن زيد : { والذي جَآءَ بالصدق } هو رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَصَدَّقَ بِهِ } قال المسلمون { أولئك هُمُ المتقون } قال ابن عباس : اتقوا الشرك { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } يعني في الجنة ، مهما طلبوا وجدوا { ذَلِكَ جَزَآءُ المحسنين * لِيُكَفِّرَ الله عَنْهُمْ أَسْوَأَ الذي عَمِلُواْ وَيَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } كما قال عزّ وجلّ في الآية الأخرى : { أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ } [ الأحقاف : 16 ] .(1/2201)
أَلَيْسَ اللَّهُ بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (36) وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَلَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقَامٍ (37) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (40)
يقول الله تعالى : { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } يعني أنه تعالى يكفي من عبده وتوكّل عليه ، وفي الحديث : « أفلح من هدي إلى الإسلام ، وكان عيشه كفافا ، وقنع به » { وَيُخَوِّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ } يعني المشركين يخوفون الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويتوعدونه بأصنامهم وآلهتهم ، التي يدعونها من دون الله جهلاً منهم وضلالاً ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ أَلَيْسَ الله بِعَزِيزٍ ذِي انتقام } أي منيع الجناب لا يضام من استند إلى جنابه ، ولجأ إلى بابه ، فإنه العزيز الذي لا أعز منه ، ولا أشد انتقاماً منه ، ممن كفر به وأشرك وعاند رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } يعني المشركين كانوا يعترفون بأن الله عزّ وجلّ هو الخالق للأشياء كلها ، ومع هذا يعبدون معه غيره ، مما لا يملك لهم ضراً ولا نفعاً ، ولهذا قال تعالى : { قُلْ أَفَرَأَيْتُم مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله إِنْ أَرَادَنِيَ الله بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ } ؟ أي لا تستطيع شيئاً من الأمر ، وفي الحديث : « احفظ الله يحفظك ، احفظ الله تجده تجاهك ، تعرف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة » الحديث . { قُلْ حَسْبِيَ الله } أي الله كافي ، { عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ المتوكلون } ، كما قال ( هود ) عليه الصلاة والسلام : { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ هود : 56 ] ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : « من أحب أن يكون أقوى الناس فليتوكل على الله تعالى ، ومن أحب أن يكون أغنى الناس فليكن بما في يد الله عزّ وجلّ أوثق منه بما في يديه ، ومن أحب أن يكون أكرم الناس فليتق الله عزّ وجلّ » ، وقوله تعالى : { قُلْ ياقوم اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } أي على طريقتكم ، وهذا تهديد ووعيد ، { إِنِّي عَامِلٌ } أي علا طريقي ومنهجي ، { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي ستعلمون غبّ ذلك ووباله ، { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي في الدنيا ، { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي دائم مستمر ، لا محيد له عنه ، وذلك يوم القيامة ، أعاذنا الله منها .(1/2202)
إِنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِهَا وَالَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضَى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَيُرْسِلُ الْأُخْرَى إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)
يقول تعالى مخاطباً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم : { إِنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب } يعني القرآن { لِلنَّاسِ بالحق } أي لجميع الخلق من الإنس والجن ، لتنذرهم به ، { فَمَنِ اهتدى فَلِنَفْسِهِ } أي فإنما يعود نفع ذلك إلى نفسه ، { وَمَن ضَلَّ فَإنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } أي إنما يرجع وبال ذلك على نفسه ، { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أي بموكل أن يهتدوا ، { إِنَّمَآ أَنتَ نَذِيرٌ } [ هود : 12 ] ، { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } [ الرعد : 40 ] ثم قال تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة بأنه المتصرف في الوجود بما يشاء ، وأنه يتوفى الأنفس الوفاة الكبرى بما يرسل من الحفظة الذين يقبضونها من الأبدان ، والوفاة الصغرى عند المنام ، كما قال تبارك وتعالى : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم باليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } [ الأنعام : 60 ] الآية ، وقال : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } [ الأنعام : 61 ] ، فذكر الوفاتين الصغرى ثم الكبرى ، وفي هذه الآية ذكر الكبرى ثم الصغرى ، ولهذا قال تبارك وتعالى : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت وَيُرْسِلُ الأخرى إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } ، فيه دلالة على أنها تجتمع في الملأ الأعلى ، كما ورد في « الصحيحين » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا أوى أحدكم إلى فراشه فلينفضه بداخله إزاره ، فإنه لا يدري ما خَلَفه عليه ، ثم ليقل باسمك ربي وضعت جنبي ، وبك أرفعه ، إن أمسكت نفسي فأرحمها ، وإن أرسلتها فاحفظها بما تحفظ به عبادك الصالحين » ، وقال بعض السلف : يقبض أرواح الأموات إذا ماتوا ، وأرواح الأحياء إذا ناموا ، فتتعارف ما شاء الله تعالى أن تتعارف { فَيُمْسِكُ التي قضى عَلَيْهَا الموت } التي قد ماتت ، ويرسل الأُخرى إلى أجل مسمى ، قال السدي : إلى بقية أجلها ، وقال ابن عباس : يمسك أنفس الأموات ، ويرسل أنفس الأحياء ، ولا يغلظ { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .(1/2203)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعَاءَ قُلْ أَوَلَوْ كَانُوا لَا يَمْلِكُونَ شَيْئًا وَلَا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفَاعَةُ جَمِيعًا لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44) وَإِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَإِذَا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)
يقول تعالى ذاماً للمشركين في اتخاذهم شفعاء من دون الله ، وهم الأصنام والأنداد التي اتخذوها من تلقاء أنفسهم بلا دليل ولا برهان ، وهي لا تملك شيئاً من الأمر ، وليس لها عقل تعقل به ، ولا سمع تسمع به ، ولا بصر تبصر به ، بل هي جمادات أسوأ حالاً من الحيوانات بكثير ، ثم قال : { قُل } أي يا محمد لهؤلاء الزاعمين أن ما تخذوه شفعاء لهم عند الله تعالى ، أخبرهم أن الشفاعة لا تنفع عند الله إلا لمن ارتضاه وأذن له ، فمرجعها كلها إاليه { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، { لَّهُ مُلْكُ السماوات والأرض } أي هو المتصرف في جميع ذلك ، { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي يوم القيامة فيحكم بينكم بعدله ويجزي كلا بعمله ، ثم قال تعالى ذاماً للمشركين أيضاً : { وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ } أي إذا قيل لا إله إلا الله وحده ، { اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } قال مجاهد : اشمأزت انقبضت ، وقال السدي : نفرت ، وقال قتادة : كفرت واستكبرت ، كما قال تعالى : { إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ } [ الصافات : 35 ] أي عن المتابعة والانقياد لها ، فقلوبهم لا تقبل الخير ، ومن لا يقبل الخير يقبل الشر ، ولذلك قال تبارك وتعالى : { وَإِذَا ذُكِرَ الذين مِن دُونِهِ } أي من الأصنام والأنداد { إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي يفرحون ويسرون .(1/2204)
قُلِ اللَّهُمَّ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ عَالِمَ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46) وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذَابِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَبَدَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مَا لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (48)
يقول تبارك وتعالى ، بعد ما ذكر عن المشركين ما ذكر ، من المذمة لهم في حبهم الشرك ، ونفرتهم عن التوحيد { قُلِ اللهم فَاطِرَ السماوات والأرض عَالِمَ الغيب والشهادة } أي ادع أنت الله وحده لا شريك له الذي خلق السماوات والأرض وفطرها ، أي جعلها على غير مثال سبق ، { عَالِمَ الغيب والشهادة } أي السر والعلانية ، { أَنتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبَادِكَ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي في دنياهم ، ستفصل بينهم يوم معادهم ونشورهم وقيامهم من قبورهم ، روى مسلم في « صحيحه » ، عن أبي سلمة عن عبد الرحمن قال : « سألت عائشة رضي الله عنها بأي شيء كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يفتتح صلاته إذا قام من الليل؟ قالت رضي الله عنها : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل افتتح صلاته : » اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك ، إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم « » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قال : اللهم فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، إني أعهد إليك في هذه الدنيا ، أني أشهد أن لا إله إلا أنت وحدك لا شريك لك ، وأن محمداً عبدك ورسولك ، فإنك إن تكلني إلى نفسي تقربني من الشر وتباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلا برحمتك فاجعل لي عندك عهداً توفينيه يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد ، إلا قال الله عزّ وجلّ لملائكته يوم القيامة : إن عبدي قد عهد إليَّ عهداً فأوفوه إياه ، فيدخله الله الجنة » وروى الإمام أحمد ، عن أبي راشد الحبراني قال : « أتيت ( عبد الله بن عمرو ) رضي الله عنهما فقلت له : حدثنا ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فألقى بين يدي صحيفة فقال : هذا ما كتب لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانظرت فيها ، فإذا فيها أنا أبا بكر الصديق رضي الله عنه قال : يا رسول الله علمني ما أقول إذا أصبحت وإذا أمسيت؟ فقال له رسول الله صلى لله عليه وسلم : » يا أبا بكر ، قل : اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة لا إله إلا أنت رب كل شيء ومليكه ، أعوذ بك من شر نفسي ، وشر الشيطان وشركه ، أن أقترف على نفسي سوءاً ، أو أجره إلى مسلم « » وقوله عز وجل : { وَلَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ } وهم المشركون { مَا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ } أي ولو أن جميع ما في الأرض وضعفه معه { لاَفْتَدَوْاْ بِهِ مِن سواء العذاب } الذي أوجبه الله تعالى لهم يوم القيامة ، ومع هذا لا يقبل منهم الفداء ولو كان ملء الأرض ذهباً { يَوْمَ القيامة وَبَدَا لَهُمْ مِّنَ الله مَا لَمْ يَكُونُواْ يَحْتَسِبُونَ } أي وظهر لهم من الله من العذاب والنكال بهم ، ما لم يكن في بالهم ولا في حسابهم ، { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } أي وظهر لهم جزاء ما اكتسبوا في الدار الدنيا من المحارم والمآثم ، { وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي وأحاط بهم من العذاب والنكال ما كانوا يستهزئون به في الدار الدنيا .(1/2205)
فَإِذَا مَسَّ الْإِنْسَانَ ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِنَّا قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قَالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَالَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هَؤُلَاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُوا وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَوَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)
يقول تبارك وتعالى مخبراً عن الإنسان أنه في حال الضراء يتضرع إلى الله عز وجل ، وينيب إليه ويدعوه ، وإذا خوّله نعمة منه بغى وطغى ، وقال : { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ } أي لما يعلم الله تعالى من استحقاقي له ، ولولا أني عند الله خصيص لما خولني هذا ، قال قتادة : { على عِلْمٍ عندي } [ القصص : 78 ] على خبر عندي ، قال الله عزّ وجلّ : { بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ } أي ليس الأمر كما زعم ، بل إنما أنعمنا عليه بهذه النعمة لنختبره فيما أنعمنا عليه أيطيع أم يعصي؟ مع علمنا المتقدم بذلك فهي { فِتْنَةٌ } أي اختبار { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، فلهذا يقولون ويدعون ما يدعون ، { قَدْ قَالَهَا الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي قد قال هذه المقالة وادعى هذه الدعوى كثير ممن سلف من الأمم ، { فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي فما صح قولهم ولا نفعهم جمعهم وما كانوا يكسبون ، { فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ والذين ظَلَمُواْ مِنْ هؤلاء } أي من المخاطبين { سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئَاتُ مَا كَسَبُواْ } ، أي كما أصاب أولئك { وَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ } ، كما قال تبارك وتعالى مخبراً عن قارون { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } [ القصص : 78 ] وقال تعالى : { وَقَالُواْ نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ سبأ : 35 ] ، وقوله تبارك وتعالى : { أَوَلَمْ يعلموا أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } أي يوسعه على قوم ويضيقه على آخرين ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي لعبراً وحججاً .(1/2206)
قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59)
هذه الآية الكريمة دعوة لجميع العصاة من الكفرة وغيرهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار بأن الله تبارك وتعالى يغفر الذنوب جميعاً لمن تاب منها ورجع عنها ، وإن كانت مهما كانت وإن كثرت وكانت مثل زبد البحر ، ولا يصح حمل هذه على غير توبة ، لأن الشرك لا يغفر لمن لم يتب منه ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أن ناساً من أهل الشرك كانوا قد قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ، فأتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزل : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ } [ الفرقان : 68 ] ، ونزل : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } . وعن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما أحب أن لي الدنيا وما فيها بهذه الآية { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } » إلى آخر الآية . وعن عمرو بن عنبسة رضي الله عنه قال : « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم شيخ كبير يدعم على عصاً له فقال : يا رسول الله إن لي غدرات وفجرات ، فهل يغفر لي؟ فقال صلى الله عليه وسلم : » ألست تشهد أن لا إله إلا الله؟ قال : بلى ، وأشهد أنك رسول الله ، فقال صلى لله عليه وسلم : « قد غفر لك غدراتك وفجراتك » « . وروى الإمام أحمد ، عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : { إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ } [ هود : 46 ] وسمعته صلى الله عليه وسلم يقول : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } .
فهذه الأحادث كلها دالة على أن المراد أنه يغفر جميع ذلك مع التوبة ، ولا يقنطن عبد من رحمة الله ، وإن عظمت ذنوبه وكثرت ، فإن باب الرحمة والتوبة واسع ، قال الله تعالى : { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } [ التوبة : 104 ] ، وقال عزّ وجلّ : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 110 ] ، وقال جلّ علا في حق المنافقين : { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً * إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ } [ النساء : 145-146 ] ، وقال تبارك وتعالى : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ } [ البروج : 10 ] قال الحسن البصري رحمه الله : انظروا إلى هذا الكرم والجود قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والمغفرة ، والآيات في هذه كثيرة جداً ، وفي » الصحيحين « عن أبي سعيد رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديث الذي قتل تسعاً وتسعين نفساً ، ثم ندم وسأل عابداً من عباد بني إسرائيل هل له من توبة؟ فقال : لا فقتله وأكمل به مائة ، ثم سأل عالماً من علمائهم هل له من توبة؟ فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أمره بالذهاب إلى قرية يعبد الله فيها فقصدها ، فأتاه الموت في أثناء الطريق ، فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فأمر الله عزّ وجلّ أن يقيسوا ما بين الارضين فإلى أيهما كان أقرب منها ، فوجوده أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر فقبضته ملائكة الرحمة ، هذا معنى الحديث ، وقد كتبناه في موضع آخر بلفظه ، وقال ابن عباس في قوله عزّ وجلّ : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } الآية .(1/2207)
قال : قد دعا الله تعالى إلى مغفرته من زعم أن المسيح هو الله ، ومن زعم أن المسيح هو ابن الله ، ومن زعم أن عزيراً ابن الله ، ومن زعم أن الله فقير ، ومن زعم أن يد الله مغلولة ، ومن زعم أن الله ثالث ثلاثة ، يقول الله تعالى لهؤلاء : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المائدة : 74 ] . ثم دعا إلى التوبة من هو أعظم قولاً من هؤلاء ، من قال : { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] وقال : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] قال ابن عباس رضي الله عنهما : من أيس عباد الله من التوبة بعد هذا فقد جحد كتاب الله عزَّ وجلَّ ، ولكن لا يقدر العبد أن يتوب حتى يتوب الله عليه ، وروى الطبراني عن ابن مسعود قال : إن أعظم آية في كتاب الله { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } [ البقرة : 255 ، آل عمران : 2 ] ، وإن أجمع آية في القرآن بخير وشر { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } [ النحل : 90 ] ، وإن أكثر آية في القرآن فرحاً { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } ، وإن أشد آية في كتاب الله تفويضاً { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2-3 ] . ومرَّ عبد الله بن مسعود رضي الله عنه على قاصّ وهون يذكر الناس ، فقال : يا مذكر لِمَ تقنطِ الناسَ من رحمة الله؟ ثم قرأ : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } .
ذكر أحاديث فيها نفي القنوط
عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « والذي نفسي بيده لو أخطأتم حتى تملأ خطاياكم ما بين السماء والأرض ، ثم استغفرتم الله تعالى لغفر لكم ، والذي نفس محمد بيده لو لم تخطئوا لجاء الله عزَّو جلَّ بقوم يخطئون ثم يستغفرون الله فيغفر لهم »(1/2208)
، عن أبي أيوب الأنصاري رضي الله عنه أنه قال حين حضرته الوفاة : « قد كنت كتمت منكم شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » لولا أنكم تذنبون لخلق الله عزَّ وجلَّ قوماً يذنبون فيغفر لهم « » ، وعن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » كفارة الذنب الندامة « ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لو لم تذنبوا لجاء الله تعالى بقوم يذنبون فيغفر لهم « » ثم استحث تبارك وتعالى عباده إلى المسارعة إلى التوبة ، فقال : { وأنيبوا إلى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُواْ لَهُ } الخ ، أي ارجعوا إلى الله واستسلموا له { مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } أي بادروا بالتوبة والعمل الصالح قبل حلول النقمة ، { واتبعوا أَحْسَنَ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ } وهو القرآن العظيم { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَكُمُ العذاب بَغْتَةً وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } أي من حيث لا تعلمون ولا تشعرون ، ثم قال تعالى : { أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله } أي يوم القيامة يتحسر المجرم المفرط في التوبة والإنابة ويود لو كان من المحسنين المخلصين المطيعين لله عزَّ وجلَّ ، وقوله تبارك وتعالى : { وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين } أي إنما كان عملي في الدنيا عمل ساخر مستهزىء غير موقن مصدق ، { أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المتقين * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين } أي تود لو أعيدت إلى الدنيا لتحسن العمل ، قال ابن عباس : أخبر الله سبحانه وتعالى ما العباد قائلون قبل أن يقولوه ، وعملهم قبل أن يعملوه ، وقال تعالى : { وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [ فاطر : 14 ] ، { أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله وَإِن كُنتُ لَمِنَ الساخرين * أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المتقين * أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى العذاب لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين } فأخبر الله عزَّ وجلَّ أن لو ردوا لما قدروا على الهدى فقال : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 82 ] ، وفي الحديث : « كل أهل النار يرى مقعده من الجنة ، فيقول : لو أن الله هداني فتكون عليه حسرة ، قال : وكان أهل الجنة يرعى مقعده من النار ، فيقول : لولا أن الله هداني قال : فيكون له الشكر » ، ولما تمنى أهل الجرائم العود إلى الدنيا ، وتحسروا على تصديق آيات الله واتباع رسله ، قال الله سبحانه وتعالى : { بلى قَدْ جَآءَتْكَ آيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا واستكبرت وَكُنتَ مِنَ الكافرين } أي قد جاءتك إليها العباد النادم آياتي في الدار الدنيا وقامت حججي عليك ، فكذبت بها واستكبرت عن اتباعها وكنت من الكفارين بها الجاحدين لها .(1/2209)
وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)
يخبر تعالى عن يوم القيامة أنه تسود فيه وجوه وتبيض فيه وجوه ، تسود وجوه أهل الفرقة والاختلاف ، وتبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، قال تعالى : { وَيَوْمَ القيامة تَرَى الذين كَذَبُواْ عَلَى الله } أي في دعواهم له شريكاً وولداً ، { وُجُوهُهُم مُّسْوَدَّةٌ } أي بكذبهم وافترائهم . وقوله تعالى : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْمُتَكَبِّرِينَ } ؟ أي أليست جهنم كافية سجناً وموئلاً ، لهم فيها الخزي والهوان بسبب تكبرهم وتجبرهم عن الانقياد للحق؟ وفي الحديث « إن المتكبرين يحشرون يوم القيامة أشباه الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار ، حتى يدخلوا سجناً من النار في و ادٍ يقال له ( بولس ) من نار الأنيار ، ويسقون من عصارة أهل النار ومن طينه الخبال » ، وقوله تبارك وتعالى : { وَيُنَجِّي الله الذين اتقوا بِمَفَازَتِهِمْ } أي بما سبق لهم من السعادة والفوز عند الله ، { لاَ يَمَسُّهُمُ السواء } أي يوم القيامة { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي ولا يحزنهم الفزع الأكبر ، بل هم آمنون من كل فزع ، مزحزحون عن كل شر ، نائلون كل خير .(1/2210)
اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)
يخبر تعالى أنه خالق الأشياء كلها وربها ومليكها والمتصرف فيها ، وكلٌ تحت تدبيره وقهره وكلاءته ، قال مجاهد : المقاليد هي المفاتيح بالفارسية ، وقال السدي : { لَّهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض } أي خزائن السماوات والأرض ، والمعنى على كلا القولين أن أزمَّة الأمور بيده تبارك وتعالى له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، ولهذا قال جل وعلا : { والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله } أي حججه وبراهينه { أولئك هُمُ الخاسرون } ، وقوله تعالى : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون } ؟ ذكروا في سبب نزولها أن المشركين من جهلهم دعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عبادة آلهتهم ويعبدوا معه إلهه فنزلت : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون * وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } وهذه كقوله تعالى : { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأنعام : 88 ] ، وقوله عزّ وجلّ : { بَلِ الله فاعبد وَكُن مِّنَ الشاكرين } أي أخلص العبادة لله وحده لا شريك له أنت ومن اتبعك وصدقك .(1/2211)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)
يقول تبارك وتعالى : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } أي ما قدر المشركون الله حق قدره حين عبدوا معه غيره وهو العظيم القادر على كل شيء ، المالك لكل شيء ، وكل شيء تحت قدره وقدرته ، قال مجاهد : نزلت في قريش ، وقال السدي : ما عظموه حق تعظيمه ، وقال محمد بن كعب : لو قدروه حق قدره ما كذبوا ، وقال ابن عباس : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } هم الكفار الذين لم يؤمنوا بقدرة الله عليهم ، فمن آمن أن الله على كل شيء قدير فقد قدر الله حق قدره ، ومن لم يؤمن بذلك فلم يقدر الله حق قدره ، وقد وردت أحاديث كثيرة متعلقة بهذه الآية الكريمة ، والطريق فيها وفي أمثالها مذهب السلف ، وهو إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تحريف ، قال البخاري : قوله تعالى : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : « جاء حَبْر من الأحبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد إنا نجد أن الله عزّ و جلّ يجعل السماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، وسائر الخلق على إصبع ، فيقول : أنا الملك . فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه تصديقاً لقول الحبر ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة } » الآية ، وروى الإمام أحمد ، عن عبد الله رضي الله عنه قال : « جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم من أهل الكتاب فقال : يا أبا القاسم ، أبلغك أن الله تعالى يحمل الخلائق على إصبع ، والسماوات على إصبع ، والأرضين على إصبع ، والشجر على إصبع ، والماء والثرى على إصبع ، قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه ، قال : وأنزل الله عزّ وجلّ : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } » إلى آخر الآية . وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « يقبض الله تعالى ألارض ، ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض؟ » وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ هذه الآية ذات يوم على المنبر : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول هكذا بيده يحركها يقبل بها ويدبر : يمجّد الرب نفسه أنا الجبار ، أن المتكبر ، أنا الملك ، أنا العزيز ، أنا الكريم » ، فرجف برسول الله صلى الله عليه وسلم المنبر حتى قلنا : ليخرنَّ به .(1/2212)
وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70)
يقول تبارك وتعالى مخبراً عن هول يوم القيامة وما يكون فيه من الآيات العظيمة والزلازل الهائلة ، فقوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله } هذه النفخة هي الثانية وهي ( نفخة الصعق ) وهي التي يموت بها الأحياء من أهل السماوات والأرض إلا من شاء الله ، كما جاء مصرحاً به مفسراً في حديث الصور المشهور ، ثم يقبض أرواح الباقين حتى يكون آخر من يموت ملك الموت ، وينفرد الحي القيوم الذي كان أولاً ، وهو الباقي آخراً بالديمومة والبقاء ، ويقول : { لِّمَنِ الملك اليوم } [ غافر : 16 ] ثلاث مرات ، ثم يجيب نفسه بنفسه فيقول : { لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] أنا الذي كنت وحدي ، وقد قهرت كل شيء ، وحكمت بالفناء على كل شيء ، ثم يحيي أول من يحيي إسرافيل ، ويأمره أن يفنخ في الصورة أُخرى وهي النفخة الثالثة ( نفخة البعث ) قال الله عزّ وجلّ : { ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أخرى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنظُرُونَ } أي أحياء بعد ما كانوا عظاماً ورفاتاً صاروا أحياء ينظرون إلى أهوال يوم القيامة ، كما قال تعالى : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بالساهرة } [ النازعات : 13-14 ] ، وقال تعالى : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } [ الروم : 25 ] .
روى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يخرج الدجال في أمتي فيمكث فيهم أربعين - لا أدري أربعين يوماً ، أو أربعين شهراً ، أو أربعين عاماً ، أو أربعين ليلة - فيبعث الله تعالى عيسى ابن مريم عليهما الصلاة والسلام كأنه ( عروة بن مسعود الثقفي ) ، فيظهر فيهلكه الله تعالى ، ثم يلبث الناس بعده سنين سبعاً ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله تعالى ريحاً باردة من قبل الشام ، فلا يبقى أحد في قلبه مثقال ذرة من إيمان إلا قبضته ، إنَّ أحدهم لو كان في كبد جبل لدخلت عليه » ، قال : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ويبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً ، قال : فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستجيبون؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان فيعبدونها ، وهم في ذلك دارةٌ أرزاقهم ، حسنٌ عيشهم ، ثم ينفخ في الصور؛ فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتاً ورفع ليتاً ، وأول من يسمعه رجل يلوط حوضه فيصعق ، ثم لا يبقى أحد إلا صعق ، ثم يرسل الله تعالى - أو ينزل الله عزّ وجلّ - مطراً كأنه الطل أو الظل - شك نعمان - فتنبت منه الناس ، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ، ثم يقال : أيها الناس هلموا إلى ربكم { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] قال ، ثم يقال : أخرجوا بعث النار ، فيقال : كم؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون ، فيومئذٍ تبعث الولدان شيباً ويومئذٍ يكشف عن ساق »(1/2213)
وروى البخاري عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « » ما بين النفختين أربعون « ، قالوا : يا أبا هريرة أربعون يوماً؟ قال رضي الله تعالى عنه : أبيت ، قالوا : أربعون سنة؟ قال : أبيت . قالوا : أربعون شهراً؟ قال : أبيت ، ويبلى كل شيء من الإنسان إلا عجب ذنبه فيه يركب الخلق » .
وقوله تبارك وتعالى : { وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا } أي أضاءت يوم القيامة إذا تجلى الحق جل وعلا للخلائق لفصل القضاء ، { وَوُضِعَ الكتاب } قال قتادة : كتاب الأعمال ، { وَجِيءَ بالنبيين } قال ابن عباس : يشهدون على الأمم بأنهم بلغوهم رسالات الله إليهم ، { والشهدآء } أي الشهداء من الملائكة الحفظة على أعمال العباد من خير وشر ، { وَقُضِيَ بَيْنَهُم بالحق } أي بالعدل ، { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ، كما قال تعالى : { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] ، وقال جل وعلا : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] . ولهذا قال : { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } أي من خير أو شر ، { وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ } .(1/2214)
وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72)
يخبر تعالى عن حال الأشقياء الكفار ، كيف يساقون إلى النار سوقاً عنيفاً ، بزجر وتهديد ووعيد ، كما قال عزّ وجلّ : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } [ الطور : 13 ] أي يدفعون إليها دفعاً وهم عطاش ظماء ، كما قال جلّ وعلا في الآية الأخرى : { يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً * وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً } [ مريم : 85-86 ] ، وهم في تلك الحال صم بكم وعمي ، كما قال تعالى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [ الإسراء : 97 ] ، وقوله تبارك وتعالى : { حتى إِذَا جَآءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا } أي بمجرد وصولهم إليها فتحت لهم أبوابها سريعاً لتعجل لهم العقوبة ، ثم يقول لهم خزنتها من الزبانية ، الذين هم غلاظ الأخلاق شداد القوى ، على وجه التقريع والتوبيخ والتنكيل : { أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ } ؟ أي من جنسكم تتمكنون من مخاطبتهم والأخذ عنهم ، { يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ } أي يقيمون عليكم الحجج والبراهين على صحة ما دعوكم إليه ، { وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } أي ويحذرونكم من شر هذا اليوم ، فيقول الكفار لهم : { بلى } أي قد جاءونا وأنذرونا وأقاموا علينا الحجج والبراهين ، { ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } أي ولكن كذبناهم وخالفناهم لما سبق لنا من الشقوة ، كما قال عزّ وجلّ : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا وَقُلْنَا مَا نَزَّلَ الله مِن شَيْءٍ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ كَبِيرٍ } [ الملك : 8-9 ] . وقوله تعالى : { قِيلَ ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } لم يسند هذا القول إلى قائل معين بل أطلقه ليدل على أن الكون شاهد عليهم بأنهم يستحقون ما هم فيه ، بما حكم العدل الخبير عليهم به ، ولهذا قال جلّ علا : { قِيلَ ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا } أي ما كثين فيها لا خروج لكم منها ولا زوال لكم عنها ، { فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } أي فبئس المصير وبئس المقبل لكم بسبب تكبركم في الدنيا وإبائكم عن اتباع الحق ، فبئس الحال وبئس المآل .(1/2215)
وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74)
وهذا إخبار عن حال السعداء المؤمنين ، حين يساقون على النجائب وفداً إلى الجنة ، { زُمَراً } أي جماعة بعد جماعة : المقربون ، ثم الأبرار ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، كل طائفة مع من يناسبهم : الأنبياء مع الأنبياء ، والصديقون مع أشكالهم ، والعلماء مع أقرانهم ، وكل صنف مع صنف ، وكل زمرة تناسب بعضها بعضاً . { حتى إِذَا جَآءُوهَا } أي وصلوا إلى أبواب الجنة بعد مجاوزة الصراط ، حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هذَّبوا ونقوا ، أذن لهم في دخول الجنة ، وقد ثبت في « صحيح مسلم » عن أنس رضي الله عنه قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنا أول شفيع في الجنة » ؛ وفي لفظ : « وأنا أول من يقرع باب الجنة » وروى الإمام أحمد عن أنَس بن مالك رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « آتي باب الجنة يوم القيامة ، فأستفتح ، فيقول الخازن : من أنت؟ فأقول : محمد قال فيقول : بك أمرت أن لا أفتح لأحد قبلك » ، وقال رسول الله صلى لله عليه وسلم : « أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر لا يبصقون فيها ولا يمتخطون فيها ولا يتفلون فيها ، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ومجامرهم الأَلوَّة ، ورشحهم المسك ، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم من الحُسْنِ ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم على قلب واحد يسبِّحون الله تعالى بكرة وعشياً » وروى الحافظ أبو يعلى : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والذين يلونهم على ضوء اشد كوكب دري في السماء إضاءة ، لا يبولون ولا يتغوطون ولا يتفلون ولا يمتخطون ، أمشاطهم الذهب ، ورشحهم المسك ، ومجامرهم الألوّة ، وأزواجهم الحور العين ، أخلاقهم على خلق رجل واحد ، على صورة أبيهم آدم ستون ذراعاً في السماء « .
وقوله تعالى : { حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ } لم يذكر الجواب هاهنا ، وتقديره : إذا كان هذا سعدوا وطابوا وسروا وفرحوا بقدر كل ما يكون لهم فيه نعيم ، وإذا حذف الجواب ههنا ذهب الذهن كل مذهب في الرجاء والأمل ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » « من أنفق زوجين من ماله في سبيل الله تعالى دعي من أبواب الجنة وللجنة أبواب ، فمن كان من أهل الصلاة دعي من باب الصلاة ، ومن كان من أهل الصدقة دعي من باب الصدقة ، ومن كان من أهل الجهاد دعي من باب الجهاد ، ومن كان من أهل الصيام دعي من باب الريّان » ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله : ما على أحد من ضرورة دعي من أيها دعي ، فهل يدعى منها كلها أحد يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم : « نعم وأرجوا أن تكون منهم » «(1/2216)
وفي « صحيح مسلم » عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء » ، وعن معاذ رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مفتاح الجنة لا إله إلا الله » .
وفي « الصحيحين » عن أبي هريرة رضي الله عنه في حديث الشفاعة الطويل : « فيقول الله تعالى : يا محمد أدخل من لا حساب عليه من أمتك من الباب الأيمن ، وهم شركاء الناس في الأبواب الأخر ، والذي نفس محمد بيده إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة ما بين عضادتي الباب لكما بين مكة أو هجر وهجر مكة وفي رواية مكة وبصرى » ، وفي « صحيح مسلم » عن عتبة بن غزوان أنه خطبهم خطبة فقال فيها ، ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة ، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الزحام ، وقوله تبارك وتعالى : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ } أي طابت أعمالكم وأقوالكم وطاب سعيكم وجزاءكم ، وقوله : { فادخلوها خَالِدِينَ } أي ماكثين فيها أبداً لا يبغون عنها حولاً ، { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } أي يقول المؤمنون إذا عاينوا في الجنة ذلك الثواب الوافر ، والعطاء العظيم ، والنعيم المقيم الملك الكبير يقولون عند ذلك : { الحمد للَّهِ الذي صَدَقَنَا وَعْدَهُ } أي الذين كان وعدنا على ألسنة رسله الكرام كما دعوا في الدنيا { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } [ آل عمران : 194 ] ، { وَقَالُواْ الحمد للَّهِ الذي أَذْهَبَ عَنَّا الحزن إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ * الذي أَحَلَّنَا دَارَ المقامة مِن فَضْلِهِ لاَ يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلاَ يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } [ فاطر : 34-35 ] ، وقوله : { وَأَوْرَثَنَا الأرض نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ فَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } . قال أبو العالية وقتادة والسدي : أي أرض الجنة ، فهذه الآية كقوله تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] ، ولهذا قالوا : { نَتَبَوَّأُ مِنَ الجنة حَيْثُ نَشَآءُ } أي أي شئنا حللنا فنعم الأجر أجرنا على عملنا .(1/2217)
وفي « الصحيحين » عن أنَس رضي الله عنه في قصة المعراج قال النبي صلى الله عليه وسلم : « أدخلت الجنة فإذا فيها جنابذ اللؤلؤ ، وإذا ترابها المسك » ، وعن أبي سعيد رضي الله عنه قال : إن ابن صائد سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن تربة الجنة فقال : « درمكة بيضاء مسك خالص » .
وروى ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه في قوله تعالى : { وَسِيقَ الذين اتقوا رَبَّهُمْ إِلَى الجنة زُمَراً } قال : سيقوا حتى انتهوا إلى باب من أبواب الجنة ، فوجدوا عندها شجرة يخرج من تحت ساقها عينان ، فعمدوا إلى إحداهما فتطهروا منها ، فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلم تغير أبشارهم بعدها أبداً ، ولم تشعث أشعارهم بعدها أبداً ، فإنما دهنوا بالدهان ثم عمدوا إلى الأُخْرى ، كأنما أمروا بها فشربوا منها فأذهب ما كان في بطونهم من أذى أو قذى ، وتلقتهم الملائكة على أبواب الجنة : { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ } ، وتلقى كل غلمان صاحبهم يطوفون به فعل الولدان بالحميم جاء من الغيبة ، أبشر قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا ، قد أعد الله لك من الكرامة كذا وكذا ، قال : وينطلق غلام من غلمانه إلى أزواجه من الحور العين ، فيقول : هذا فلان باسمه في الدنيا ، فيقلن : أنت رأيته ، فيقول : نعم ، فيستخفهن الفرح حتى تخرج إلى أسكفة الباب ، قال : فيجيء فإذا هو بنمارق مصفوفة وأكواب موضوعة وزرابي مبثوثة ، قال ، ثم ينظر إلى تأسيس بنيانه ، فإذا هو قد أسس على جندل اللؤلؤ بين أحمر وأخضر وأصفر وأبيض ، ومن كل لون يم يرفع طرفه إلى سقفه ، فلولا أن الله تعالى قدره له لألم أن يذهب ببصره إنه لمثل البرق ، ثم ينظر إلى أزواجه من الحور العين ، ثم يتكىء إلى أريكة من أرائكه ثم يقول : { الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله } [ الأعراف : 43 ] .(1/2218)
وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)
لما ذكر تعالى حكمه في أهل الجنة والنار ، وأنه نزَّل كلا من المحل الذي يليق به ويصلح له ، وهو العادل في ذلك لا يجور ، أخبر عن ملائكته أنهم محدقون من حول العرش المجيد ، يسبحون بحمد ربهم ويمجدونه ، ويعظمونه ويقدسونه وينزهونه عن النقائص والجور ، وقد فصل القضية وقضى الأمر وحكم بالعدل ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي بين الخلائق { بالحق } ، ثم قال { وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين } أي نطق الكون أجمعه ، ناطقه وبهيمه ، لله رب العالمين بالحمد في حكمه وعدله ، ولهذا لم يسند القول إلى قائل بل أطلقه ، فدل على أن جميع المخلوقات شهدت له بالحمد . قال قتادة : افتتح الخلق بالحمد في قوله : { الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض } [ الأنعام : 1 ] ، واختتم بالحمد في قوله تبارك وتعالى : { وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالحق وَقِيلَ الحمد لِلَّهِ رَبِّ العالمين } .(1/2219)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غَافِرِ الذَّنْبِ وَقَابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقَابِ ذِي الطَّوْلِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)
أما الكلام على الحروف المقطعمة فقد تقدم في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا .
وقوله تعالى : { تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز العليم } ، أي تنزيل هذا الكتاب وهو القرآن من الله ذي العزة والعلم فلا يرام جنابه ، ولا يخفى عليه الذَّر وإن تكاثف حجابه ، وقوله عزّ وجلّ : { غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب } أي يغفر ما سلف من الذنب ويقبل التوبة في المستقبل لمن تاب إليه ، وخضع لديه ، وقوله جل وعلا { شَدِيدِ العقاب } أي لمن تمرد وطغى ، وآثر الحياة الدنيا ، وعتا عن أوامر الله تعالى وبغى ، وهذه كقوله : { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم } [ الحجر : 49-50 ] يقرن هذين الوصفين كثيراً من مواضع متعددة من القرآن ليبقى العبد بين الرجاء والخوف ، وقوله تعالى : { ذِي الطول } قال ابن عباس : يعني السعة والغنى ، وقال يزيد بن الأصم { ذِي الطول } يعني الخير الكثير ، وقال عكرمة : ذي المن ، وقال قتادة : ذي النعم والفواضل ، والمعنى أنه المتفضل على عباده ، المتطول عليهم بما هم فيه من المنن والإنعام التي لا يطيقون القيام بشكر واحدة منها ، { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا } [ إبراهيم : 34 ] الآية ، وقوله جلت عظمته : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أي لا نظير له في جميع صفاته فلا إله غيره ولا رب سواه ، { إِلَيْهِ المصير } أي المرجع والمآب ، فيجازي كل عامل بعمله ، وقال أبو بكر بن عياش : جاء رجل إلى عمر بن الخطّاب رضي الله عنه ، قال : يا أمير المؤمنين إني قتلت فهل لي من توبة؟ فقرأ عمر رضي الله عنه : { حم* تَنزِيلُ الكتاب مِنَ الله العزيز العليم * غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب } ، وقال : اعمل ولا تيأس ، وعن يزيد بن الأصم قال : كان رجل من أهل الشام ذو بأس ، وكان يفد إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، ففقده عمر فقال : ما فعل فلان ابن فلان؟ فقالوا : يا أمير المؤمنين تتابع في هذا الشراب ، قال ، فدعا عمر كاتبه ، فقال : اكتب « من عمر بن الخطّاب إلى فلان ابن فلان : سلام عليك ، فإني أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو غافر الذنب وقابل التوب شديد العقاب ذي الطول ، لا إله إلا هو إليه المصير » ، ثم قال لأصحابه : ادعوا الله لأخيكم أن يقبل بقلبه ويتوب الله عليه « ، فلما بلغ الرجل كتاب عمر رضي الله عنه جعل يقرأه ويردّده ويقول : غافر الذنب ، وقابل التوب شديد العقاب ، قد حذرني عقوبته ووعدني أن يغفر لي ، فلم يزل يرددها على نفسه ، ثم بكى ، ثم نزع فأحسن النزع ، فلما بلغ عمر خبره قال : هكذا فاصنعوا إذا رأيتم آخاً لكم زل زلة فسدّدوه ووثقوه ، وادعوا الله له أن يتوب عليه ، ولا تكونوا أعواناً للشيطان عليه .(1/2220)
مَا يُجَادِلُ فِي آيَاتِ اللَّهِ إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلَادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَالْأَحْزَابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَجَادَلُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (5) وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (6)
يقول تعالى : ما يدفع الحق ويجادل فيه بعد البيان وظهور البرهان { إِلاَّ الذين كَفَرُواْ } أي الجاحدون لآيات الله وحججه وبراهينه ، { فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد } أي في أموالهم ونعيمها وزهرتها ، كما قال جل وعلا : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } [ آل عمران : 196-197 ] ، وقال عزّ وجلّ : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] ، ثم قال تعالى مسلياً لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه ، بأن لوه أسوة من سلف من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، فإنه قد كذبهم أممهم وخالفوهم وما آمن بهم منهم إلا قليل ، فقال : { كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ } وهو أول رسول بعثه الله ينهى عن عبادة الأوثان { والأحزاب مِن بَعْدِهِمْ } أي من كل أمة ، { وَهَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ } أي حرصوا على قتله بكل ممكن ، ومنهم من قتل رسوله { وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ الحق } أي ما حلوا بالشبهة ليردوا الحق الواضح الجلي ، روى ابن عباس رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من أعان باطلاً ليدحض به حقاً فقد برئت منه ذمة الله تعالى ، وذمة رسوله صلى الله عليه وسلم » وقوله جلّت عظمته { فَأَخَذْتُهُمْ } أي أهلكتهم على ما صنعوا من هذه الآثام والذنوب العظام ، { فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ } أي فكيف بلغك عذابي لهم ونكالي بهم لقد كان شديداً موجعاً مؤلماً؟ قال قتادة : كان شديداً والله . وقوله جل جلاله : { وَكَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الذين كفروا أَنَّهُمْ أَصْحَابُ النار } أي كما حقت كلمة العذاب على الذين كفروا من الأمم السالفة ، كذلك حقت على المكذبين من هؤلاء الذين كذبوك وخالفوك يا محمد ، بطريق الأولى ، لأن من كذبك فلا وثوق له بتصديق غيرك ، والله أعلم .(1/2221)
الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تَابُوا وَاتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَقِهِمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَقِهِمُ السَّيِّئَاتِ وَمَنْ تَقِ السَّيِّئَاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9)
يخبر تعالى عن الملائكة المقربين من حملة العرش الأربعة ، ومن حوله الملائكة من الكروبيين ، بأنهم { يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ } أي يقرنون بين التسبيح الدال على نفي النقائص ، والتحميد المقتضي لإثبات صفات المدح ، { وَيُؤْمِنُونَ بِهِ } أي خاشعون له أذلاء بين يديه ، وأنهم { وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ } أي من أهل الأرض من آمن بالغيب ، فقيض الله تعالى ملائكته المقربين أن يدعو للمؤمنين بظهر الغيب ، ولما كان هذا من سجايا الملائكة عليهم الصلاة والسلام كانوا يؤمِّنون على دعاء المؤمن لأخي بظهر الغيب ، كما ثبت في الصحيح : « إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك آمين ولك بمثله » قال شهر بن حوشب رضي الله عنه : حملة العرش ثمانية ، أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على حلمك بعد علمك ، وأربعة يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك ، ولهذا يقولون إذا اسغفروا للذين آمنوا : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } أي رحمتك تسع ذنوبهم وخطاياهم ، وعلمك محيط بجميع أعمالهم وأقوالهم وحركاتهم وسكناتهم { فاغفر لِلَّذِينَ تَابُواْ واتبعوا سَبِيلَكَ } ، أي فاصفح عن المسيئين إذا تابوا وأنابوا ، وأقلعوا عما كان فيه ، واتبعوا ما أمرتهم به من فعل الخير وترك المنكرات ، { وَقِهِمْ عَذَابَ الجحيم } أي وزحزحهم عن عذاب الجحيم وهو العذاب الموجع الأليم ، { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أي اجمع بينهم وبينهم لتقر بذلك أعينهم بالاجتماع في منازل متجاورة ، كما قال تبارك وتعالى : { والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الطور : 21 ] أي ساوينا بين الكل في المنزلة لتقر أعينهم ، وما نقصنا العالي حتى يساوي الداني ، بل رفعنا ناقص العمل فساويناه بكثير العمل ، تفضلاً منها ومنه . وقال سعيد بن جبير : إن المؤمن إذا دخل الجنة سأل عن أبيه وابنه وأخيه اين هم؟ فيقال : إنهم لم يبلغوا طبقتك في العمل ، فيقول : إني إنما عملت لي ولهم فيلحقون به في الدرجة ، ثم تلا سعيد بن جبير هذه الآية : { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ وَمَن صَلَحَ مِنْ آبَآئِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } ، وقوله تبارك وتعالى : { أَنتَ العزيز الحكيم } أي الذي لا يمانع ولا يغالب ، { وَقِهِمُ السيئات } أي فعلها ، أو وبالها ممن وقعت منه ، { وَمَن تَقِ السيئات يَوْمَئِذٍ } أي يوم القيامة { فَقَدْ رَحِمْتَهُ } أي لطفت به ونجيته من العقوبة { وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } .(1/2222)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنَادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمَانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قَالُوا رَبَّنَا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَأَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنَا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إِلَى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ وَيُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ رِزْقًا وَمَا يَتَذَكَّرُ إِلَّا مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (14)
يقول تعالى مخبراً عن الكفار : أنهم ينادون يوم القيامة وهم في غمرات النيران يتلظون ، وذلك عندما باشروا من عذاب الله تعالى ما لا قبل لأحد به ، فمقتوا عند ذلك أنفسهم ، وأبغضوها غاية البغض ، بسبب ما أسلفوا من الأعمال السيئة اليت كانت سبب دخولهم النار ، فأخبرتهم الملائكة عند ذلك بأن مقت الله تعالى لهم في الدنيا ، حين كان يعرض عليهم الإيمان فيكفرون ، أشد من مقتكم أيها المعذبون أنفسكم في هذه الحالة ، قال قتادة : المعنى لمقت الله أهل الضلالة حين عرض عليهم الإيمان في الدنيا فتركوه وأبوا أن يقبلوه ، أكبر مما مقتوا أنفسهم ، حين عاينوا عذاب الله يوم القيامة ، وقوله : { قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } قال ابن مسعود رضي الله عنه : هذه الآية ، كقوله تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 28 ] وهذا هو الصواب الذي لا شك فيه ولا مرية ، والمقصود أن الكفار يسألون الرجعة وهم وقوف بين يدي الله عزّ وجلّ في عرصات القيامة ، كما قال عزّ وجلّ : { وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة : 12 ] فلا يجابون ، ثم إذا رأوا النار وعاينوها ووقفوا عليها ونظروا إلى ما فيها من العذاب والنكال ، سألوا الرجعة أشد مما سألوا أول مرة ، فلا يجابون ، قال الله تعالى : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ الأنعام : 27 ] فإذا دخلوا النار وذاقوا مسها وحسيسها ومقامعها وأغلالها ، كان سؤالهم للرجعة أشد وأعظم ، { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ } [ فاطر : 37 ] كقوله : { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } [ المؤمنون : 7 ] ، وفي هذه الآية الكريمة تلطفوا في السؤال وقدموا بين يدي كلامهم مقدمة ، وهي قولهم : { رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } أي وقدرتك عظيمة ، فإنك أحييتنا بعد ما كان أمواتاً ثم أمتنا ثم أحييتنا فأنت قادر على ما تشاء ، وقد اعترفنا بذنوبنا ، وإننا كنا ظالمين لأنفسنا في الدار الدنيا ، { فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } أي فهل انت مجيبنا إلى أن تعيدنا إلى الدار الدنيا؟ فإنك قادر على ذلك لنعمل غير الذي كنا نعمل ، فإن عدنا إلى ما كنا فيه فإنا ظالمون ، فأجيبوا أن لا سبيل إلى عودكم ومرجعكم إلى الدار الدنيا ، ثم علل المنع من ذلك بأن سجاياكم لا تقبل الحق ولا تقتضيه بل تمجه وتنفيه ، { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ } أي أنتم هكذا تكونون ، وإن رددتم إلى الدار الدنيا كما قال عزّ وجلّ { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ }(1/2223)
[ الأنعام : 28 ] .
وقوله جل وعلا : { فالحكم للَّهِ العلي الكبير } أي هو الحاكم في خلقه العادل الذي لا يجور ، فيهدي من يشاء ويضل من يشاء ، ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء ، وقوله جل جلاله : { هُوَ الذي يُرِيكُمْ آيَاتِهِ } أي يظهر قدرته لخلقه بما يشاهدونه في خلقه العلوي والسفلي من الآيات العظيمة ، الدالة على كمال خالقها ومبدعها ومنشئها ، { وَيُنَزِّلُ لَكُم مِّنَ السمآء رِزْقاً } وهو المطر الذي يخرج به من الزروع والثمار ما هو مشاهد بالحس من اختلاف ألوانه وطعومه وروائحه وأشكاله وألوانه وهو ماء واحد ، فالبقدرة العظيمة فاوت بين هذه الأشياء ، { وَمَا يَتَذَكَّرُ } أي يعتبر ويتفكر في هذه الأشياء ويستدل بها على عظمة خالقها { إِلاَّ مَن يُنِيبُ } أي من هو بصير منيب إلى الله تبارك وتعالى . وقوله عزّ وجلّ : { فادعوا الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } أي فأخلصوا لله وحده العبادة والدعاء وخالفوا المشركين في مسلكهم ومذهبهم ، قال الإمام أحمد : كان عبد الله بن الزبير يقول في دُبُر كل صلاة حين يسلم « لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله ، ولا نعبد إلا إياه ، له النعمة وله الفضل ، وله الثناء الحسن ، لا إله إلا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون . قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يهل بهن دُبُر كل صلاة » ، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول عقب الصلوات المكتوبات : « لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك واله الحمد وهو على كل شيء قدير ، لا حول ولا قوة إلا بالله ، لا إله إلا الله . ولا نبعد إلا إياه » الحديث ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ادعوا الله تبارك وتعالى وأنتم موقنون بالإجابة ، واعلموا أن الله تعالى لا يستجيب دعاءً من قبل غافل لاه » .(1/2224)
رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بَارِزُونَ لَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لَا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (17)
يقول تعالى مخبراً عن عظمته وكبريائه ، وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته ، كالسقف لها كما قال تعالى : { تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] . وقد ذكر غير واحد أن العرش من ياقوتة حمراء اتساع ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة ، وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة ، وقوله تعالى : { يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } ، كقوله جلت عظمته : { يُنَزِّلُ الملائكة بالروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أنذروا أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون } [ النحل : 2 ] ، وكقوله تعالى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين * على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين } [ الشعراء : 193-194 ] ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { لِيُنذِرَ يَوْمَ التلاق } ، قال ابن عباس : { يَوْمَ التلاق } اسم من أسماء يوم القيامة حذر الله منه عباده ، يلتقي فيه آدم وآخر ولده ، وقال ابن زيد : يلتقي فيه العباد؟ وقال قتادة والسدي : يلتقي فيه أهل السماء وأهل الأرض والخالق والخلق ، وقال ميمون بن مهران : يلتقي الظالم والمظلوم ، وقد يقال إن يوم التلاق يشمل هذا كله ويشمل أن كل عامل سيلقى ما عمله من خير وشرك ما قال آخرون . وقوله جلّ جلاله : { يَوْمَ هُم بَارِزُونَ لاَ يخفى عَلَى الله مِنْهُمْ شَيْءٌ } أي ظاهرون بادون كلهم ، لا شيء يكنهم ولا يظلمهم ولا يسترهم ، { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } قد تقدم في حديث ابن عمر رضي الله عنهما أنه تعالى يطوي السماوات والأرض بيده ، ثم يقول : أنا الملك ، أنا الجبار ، أنا المتكبر ، أين ملوك الأرض؟ أي الجبارون؟ وفي حديث الصور أنه عزّ وجلّ إذا قبض أرواح جميع خلقه ، فلم يبق سواه وحده لا شريك له ، حينئذٍ يقول : { لِّمَنِ الملك اليوم } ؟ ثلاث مرات ، ثم يجيب نفسه قائلاً : { لِلَّهِ الواحد القهار } أي الذي قهر كل شيء وغلبه ، وقد قال ابن عباس رضي الله عنهما : ينادي مناد بين يدي الساعة يا أيها الناس أتتكم الساعة فيسمعها الأحياء والأموات ، قال ، وينزل الله عزّ وجلّ إلى السماء الدنيا ويقول : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } ، وقوله جلّت عظمته : { اليوم تجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ لاَ ظُلْمَ اليوم إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } ، يخبر تعالى عن عدله في حكمه بين خلقه ، أنه لا يظلم مثقال ذرة من خير ولا من شر ، بل يجزي بالحسنة عشر أمثالها وبالسيئة واحدة ، ولهذا قال تبارك وتعالى : { لاَ ظُلْمَ اليوم } ، كما ثبت في « صيحيح مسلم » : « يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا - إلى أن قال - يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها عليكم ثم أوفيكم أياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله تبارك وتعالى ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلى نفسه » ، وقوله عزّ وجلّ : { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } أي يحاسب الخلائق كلهم كما يحاسب نفساً واحدة ، كما قال جلّ وعلا : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] .(1/2225)
وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ (18) يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَاللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَقْضُونَ بِشَيْءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)
يوم الآزفة : اسم من أسماء يوم القيامة ، وسميت بذلك لاقترابها ، كما قال تعالى : { أَزِفَتِ الآزفة * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ } [ النجم : 57-58 ] ، وقال عزّ وجلّ : { اقتربت الساعة وانشق القمر } [ القمر : 1 ] ، وقال جل وعلا : { فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الذين كَفَرُواْ } [ الملك : 27 ] الآية ، وقوله تبارك وتعالى : { إِذِ القلوب لَدَى الحناجر كَاظِمِينَ } . قال قتادة : وقفت القلوب في الحناجر من الخوف ، فلا تخرج ولا تعود إلى أماكنها ، ومعنى { كَاظِمِينَ } أي ساكتين لا يتكلم أحد إلا بإذنه { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 38 ] ، وقال ابن جريج { كَاظِمِينَ } أي باكين ، وقوله سبحانه { مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلاَ شَفِيعٍ يُطَاعُ } ، أي ليس للذين ظلموا من قريب ينفعهم ، ولا شفيع يشفع فيهم ، بل قد تقطعت بهم الأسباب من كل خير ، وقوله تعالى : { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور } يخبر عزّ وجلّ عن علمه التام المحيط بجميع الأشياء ، جليلها وحقيرها ، صغيرها وكبيرها ، دقيقها ولطيفها ليحذر الناس ربهم ، فيتقوه حق تقواه ، ويراقبوه من يعلم أنه يراه ، فإنه عزّ وجلّ يعلم العين الخائنة ، ويعلم ما تنطوي عليه خبايا الصدور من الضمائر والسرائر ، قال ابن عباس { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور } : هوا لرجل يدخل على أهل البيت بيتهم ، وفيهم المرأة الحسناء ، أو تمر به وبهم المرأة الحسنا ، فإذا غفلوا لحظ إليها ، فإذا فطنوا غض بصره عنها ، فإذا غفلوا لحظ ، فإذا فطنوا غض ، وقد اطلع الله تعالى من قلبه أنه ود لو اطلع على فرجها . وقال الضحّاك { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين } : هو الغمز ، وقول الرجل رأيت ولم ير ، وقال ابن عباس : يعلم الله تعالى من العين في نظرها هل تريد الخيانة أم لا؟ { وَمَا تُخْفِي الصدور } يعلم إذا أنت قدرت عليها هل تزوي بها أم لا؟ وقال السدي : { وَمَا تُخْفِي الصدور } أي من الوسوسة ، وقوله عزّ وجلّ { والله يَقْضِي بالحق } أي يحكم بالعدل . قال ابن عباس : قادر على أن يجزي بالحسنة الحسنة وبالسيئة السيئة { إِنَّ الله هُوَ السميع البصير } وهذا الذي فسر به ابن عباس رضي الله عنهما هذه الآية ، كقوله تبارك وتعالى : { لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى } [ النجم : 31 ] ، وقوله جلّ وعلا : { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } أي من الأصنام والأوثان والأنداد ، { لاَ يَقْضُونَ بِشَيْءٍ } أي لا يملكون شيئاً ولا يحكمون بشيء ، { إِنَّ الله هُوَ السميع البصير } أي سميع لأقوال خلقه بصير بهم ، فيهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وهو الحاكم العادل في جميع ذلك .(1/2226)
أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ كَانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (21) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (22)
يقول تعالى : { أَوَلَمْ يَسِيروُاْ } هؤلاء المكذبون برسالتك يا محمد { فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين كَانُواْ مِن قَبْلِهِمْ } أي من الأمم المكذبة بالأنبياء ، ما حل بهم من العذاب والنكال ، مع أنهم كانوا أشد من هؤلاء قوة { وَآثَاراً فِي الأرض } أي أثروا في الأرض من البنايات والمعالم ما لا يقدر هؤلاء عليه كما قال عزّ وجلّ ، { وَأَثَارُواْ الأرض وَعَمَرُوهَآ أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا } [ الروم : 9 ] مع هذه القوة العظيمة والبأس الشديد ، { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ } وهي كفرهم برسلهم ، { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ } أي وما دف عنهم عذاب الله أحد ولا رده عنهم راد ، ولا وقاهم واق ، ثم ذكر علة أخذه إياهم وذنوبهم التي ارتكبوها واجترموها ، فقال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات } أي بالدلائل الواضحات والبراهين القاطعات ، { فَكَفَرُواْ } أي مع هذا البيان والبرهان كفروا وجحدوا ، { فَأَخَذَهُمُ الله } تعالى أي أهلكهم ودمر عليهم ، { إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب } أي ذو قوة عظيمة وبطش شديد ، وهو { شَدِيدُ العقاب } أي عقابه أليم شديد وجميع ، أعاذنا الله تبارك وتعالى منه .(1/2227)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (23) إِلَى فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَقَارُونَ فَقَالُوا سَاحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا اقْتُلُوا أَبْنَاءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَاسْتَحْيُوا نِسَاءَهُمْ وَمَا كَيْدُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (25) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسَادَ (26) وَقَالَ مُوسَى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لَا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسَابِ (27)
يقول تعالى مسلياً لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه ، ومبشراً له بأن العاقبة والنصرة له في الدنيا والآخرة كما جرى لموسى بن عمران عليه السلام ، فإن الله تعالى أرسله بالآيات البينات ، والدلائل الواضحات ولهذا قال تعالى : { بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } والسلطان هو الحجة والبرهان ، { إلى فِرْعَوْنَ } وهو ملك القبط بالديار المصرية ، { وَهَامَانَ } وهو وزيره في مملكته { وَقَارُونَ } وكان أكثر الناس في زمانه مالاً وتجارة ، { فَقَالُواْ سَاحِرٌ كَذَّابٌ } أي كذبوه وجعلوه ساحراً مجنوناً ، مموّهاً كذاباً في أن الله جل وعلا أرسله وهذه كقوله تعالى : { كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 52 ] ، { فَلَمَّا جَآءَهُمْ بالحق مِنْ عِندِنَا } أي بالبرهان القاطع الدال على أن الله عز وجلّ أرسله إليهم ، { قَالُواْ اقتلوا أَبْنَآءَ الذين آمَنُواْ مَعَهُ واستحيوا نِسَآءَهُمْ } ، وهذا أمر ثاني من فرعون بقتل ذكور بني إسرائيل ، أما الأول فكان لأجل الاحتراز من وجود موسى ، أو لإذلال هذا الشعب وتقليل عددهم ، أو لمجموع الأمرين ، واما الأمر الثاني فلإهانة هذا الشعب ، ولكي يتشاءموا بموسى عليه السلام ، ولهذا قالوا : { أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } [ الأعراف : 129 ] ، قال الله عزّ وجلّ : { وَمَا كَيْدُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } أي وما مكرهم وقصدهم الذي هو تقليل عدد بني إسرائيل لئلا ينصروا عليهم إلا ذاهب وهالك في ضلال { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذروني أَقْتُلْ موسى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } ، وهذا عزم من فرعون لعنه الله تعالى على قتل موسى عليه الصلاة والسلام؛ أي قال لقومه دعون حتى أقتل لكم هذا { وَلْيَدْعُ رَبَّهُ } أي لا أبالي منه ، وهذا في غاية الجحد والعناد { إني أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأرض الفساد } يخشى فرعون أن يضل موسى الناس ويغير رسومهم وعاداتهم ، وهذا كما يقال في المثل : صار فرعون مذكراً ، يعني واعظاً ، يشفق على الناس من موسى عليه السلام ، { وَقَالَ موسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب } أي لما بلغه قول فرعون { ذروني أَقْتُلْ موسى } قال موسى عليه السلام : استجرت بالله ، وعذت به من شره وشر أمثاله ، ولهذا قال : { إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ } أيها المخاطبون { مِّن كُلِّ مُتَكَبِّرٍ } أي عن الحق مجرم { لاَّ يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الحساب } ، ولهذا جاء في الحديث « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا خاف قوماً قال : » اللهم إنا نعوذ بك من شرورهم ، وندرأ بك في نحورهم « » .(1/2228)
وَقَالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلًا أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءَكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَإِنْ يَكُ كَاذِبًا فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِنْ يَكُ صَادِقًا يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28) يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنَا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءَنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ (29)
المشهور أن هذا الرجل المؤمن كان ( قبطياً ) من آل فرعون ، قال السدي : كان ابن عم فرعون ، واختاره ابن جرير ، ورد قول من ذهب إلى أنه كان إسرائيلياً ، لأن فرعون انفعل لكلامه واستمعه وكف عن قتل موسى عليه السلام ، ولو كان إسرائيلياً لأوشك أن يعاجله بالعقوبة لأنه منهم ، قال ابن عباس : لم يؤمن من آل فرعون سوى هذا الرجل وامرأة فرعون ، والذي قال : { ياموسى إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ } [ القصص : 20 ] ، وقد كان هذا الرجل يكتم إيمانه عن قومه القبط ، فلم يظهر إلا هذا اليوم حين قال فرعون : { ذروني أَقْتُلْ موسى } [ غافر : 26 ] فأخذت الرجل غضبة لله عزّ وجلّ ، وأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر ، كما ثبت بذلك الحديث ، ولا أعظم من هذه الكلمة عند فرعون ، وهي قوله : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ } ، اللهم إلا ما رواه البخاري في « صحيحه » عن عروة بن الزبير رضي الله تعالى عنهما قال ، قلت لعبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما : أخبرني بأشد شيء صنعه المشركون برسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصل بِفناء الكعبة إذ أقبل ( عقبة بن أبي معيط ) فأخذ بمنكِب رسول الله صلى الله عليه وسلم ولوى ثوبه في عنقه ، فخنقه خنقاً شديداً ، فأقبل أبو بكر رضي الله عنه ، فأخذ بمنكبه ، ودفعه عن النبي صلى الله عليه وسلم ثم قال : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ } ؟ وروى ابن أبي حاتم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه أنه سئل : « ما أشد ما رأيت قريشاً بلغوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : مَرّ صلى الله عليه وسلم ذات يوم ، فقالوا له : أنت تنهاها أن نعبد ما يعبد آباؤنا؟ فقال : » أنا ذاك « فقاموا إليه ، فأخذوا بمجامع ثيابه ، فرأيت أبا بكر رضي الله عنه محتضنه من ورائه ، وهو يصيح بأعلى صوته ، وإن عينيه ليسيلان وهو يقول : يا قوم : { أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ } ؟ حتى فرغ من الآية كلها » ، وقوله تعالى : { وَقَدْ جَآءَكُمْ بالبينات مِن رَّبِّكُمْ } أي كيف تقتلونه وقد أقام لكم البرهان على صدق ما جاءكم به من الحق؟ ثم تنزل معهم من المخاطبة فقال : { وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الذي يَعِدُكُمْ } ، يعني إذا لم يظهر لكم صحة ما جاءكم به ، فمن العقل والرأي والحزم أن تتركوه ونفسه ، فلا تؤذوه ، فإن يك كاذباً فإن الله سبحانه سيجازيه على كذبه ، وإن يك صادقاً وقد آذيتموه يصبكم بعض الذي يعدكم ، فإنه يتوعدكم إن خالفتموه بعذاب في الدنيا والآخرة ، فينبغي أن لا تتعرضوا له بل اتركوه وشأنه .(1/2229)
وقوله جلا وعلا : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ } أي لو كان هذا كاذباً كما تزعمون ، لكان أمره بيناً يظهر لكل أحد في أقواله وأفعاله ، وهذا نرى أمره سديداً ومنهجه مستقيماً ، ولو كان من المسرفين الكذابين ، لما هداه الله وأرشده إلى ما ترون من انتظام أمره وفعله ، ثم قال المؤمن محذراً قومه زوال نعمة الله عنهم وحلول نقمة الله بهم : { ياقوم لَكُمُ الملك اليوم ظَاهِرِينَ } أي قد أنعم الله عليكم بهذا الملك ، والظهور في الأرض بالكلمة النافذة والجاه العريض ، فراعوا هذه النعمة بشكر الله تعالى وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم ، واحذروا نقمة الله إن كذبتم رسوله { فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ الله إِن جَآءَنَا } أي لا تغني عنكم هذه الجنود وهذه العساكر ولا ترد عنا شيئاً من بأس الله إن أرادنا بسوء . { قَالَ فِرْعَوْنُ } لقومه راداً على ما أشار به هذا الرجل الصالح البار الراشد { مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى } أي ما أقو لكم وأشير عليكم إلا ما أراه لنفسي ، وقد كذب فرعون فإنه كان يتحقق صدق موسى عليه السلام فيما جاء به من الرسالة ، { قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ } [ الإسراء : 102 ] ، وقال الله تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] ، فقوله : { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } كذب فيه وافترى ، وخان رعيته فغشهم وما نصحهم ، وكذا وله : { مَآ أُرِيكُمْ إِلاَّ مَآ أرى } أي وما أدعوكم إلا إلى طريق الحق والصدق والرشد ، وقد كذب أيضاً في ذلك وإن كان قومه قد أطاعوه واتبعوه ، قال الله تبارك وتعالى : { فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } [ هود : 97 ] ، وقال جلَّت عظمته : { وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هدى } [ طه : 79 ] . وفي الحديث : « ما من إمام يموت يوم يموت وهو غاش لرعيته ، إلا لم يرح رائحة الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة خمسمائة عام » .(1/2230)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزَابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعِبَادِ (31) وَيَا قَوْمِ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنَادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جَاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتَابٌ (34) الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)
هذا إخبار من الله عزّ وجلّ عن هذا الرجل الصالح ( مؤمن آل فرعون ) أنه حذر قومه بأس الله تعالى في الدنيا والآخرة ، فقال : { ياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ مِّثْلَ يَوْمِ الأحزاب } أي الذين كذبوا رسل الله في قديم الدهر كقوم نوح وعاد وثمود والذين من بعدهم من الأمم المكذبة ، كيف حل بهم بأس الله وما رده عنهم راد ولا صده عنهم صاد { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعِبَادِ } ، أي إنما أهلكهم الله تعالى بذنوبهم وتكذيبهم رسله ومخالفتهم أمره ، فأنفذ فيهم قدره ، ثم قال : { وياقوم إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التناد } يعني يوم القيامة ، وسمي بذلك لما جاء في حديث الصور إن الأرض إذا زلزلت وانشقت من قطر إلى قطر ، وماجت وارتجت ، فنظر الناس إلى ذلك ذهبوا هاربين ينادي بعضهم بعضاً ، وقال الضحاك : بل ذلك إذا جيء بجهنم ذهب الناس هراباً منهم ، فتتلقاهم الملائكة فتردهم إلى مقام المحشر وهو قوله تعالى : { والملك على أَرْجَآئِهَآ } [ الحاقة : 17 ] ، وقيل : لأن الميزان عنده ملك إذا وزن عمل العبد فرجح نادى بأعلى صوته ، ألا قد سعد فلان بن فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، وإن خف عمله نادى ألا قد شقي فلان بن فلان ، وقيل : سمي بذلك لمناداة أهل الجنة أهل النار { أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ } [ الأعراف : 44 ] ، ومناداة أهل النار أهل الجنة { أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله قالوا إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين } [ الأعراف : 50 ] ، ولمناداة أصحاب الأعراف أهل الجنة ، وأهل النار كما هو مذكور في سورة الأعراف ، واختار البغاوي وغيره أنه سمي بذلك لمجموع ذلك ، وهو قول حسن جيد ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ } أي ذاهبين هاربين ، { مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } أي لا مانع يمنعكم من بأس الله وعذابه { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } أي من أضله الله فلا هادي له غيره ، وقوله تبارك وتعالى : { وَلَقَدْ جَآءَكُمْ يُوسُفُ مِن قَبْلُ بالبينات } يعني أهل مصر قد بعث الله فيهم رسولاً من قبل موسى عليه الصلاة والسلام وهو ( يوسف ) عليه الصلاة والسلام كان عزيز أهل مصر ، وكان رسولاً يدعو إلى الله تعالى أمته بالقسط ، فما أطاعوه تلك الطاعة إلا بمجرد الوزارة والجاه الدنيوي ، ولهذا قال تعالى : { فَمَا زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِّمَّا جَآءَكُمْ بِهِ حتى إِذَا هَلَكَ قُلْتُمْ لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } أي يئستم فقلتم طامعين { لَن يَبْعَثَ الله مِن بَعْدِهِ رَسُولاً } وذلك لكفرهم وتكذيبهم ، { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُّرْتَابٌ } أي كحالكم هذا يكون حال من يضله الله لإسرافه في أفعاله وارتياب قلبه ، ثم قال عزّ وجلّ : { الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } أي الذين يدفعون الحق بالباطل ويجادلون الحجج بغير دليل وحجة معهم من الله تعالى ، فإن الله عزّ وجلّ يمقت على ذلك أشد المقت ، ولهذا قال تعالى : { كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله وَعِندَ الذين آمَنُواْ } أي والمؤمنون أيضاً يبغضون من تكون هذه صفته ، فإن من كانت هذه صفته يطبع الله على قلبه ، فلا يعرف بعد ذلك معروفاً ولا ينكر منكراً ، ولهذا قال تبارك وتعالى { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ } أي على اتباع الحق { جَبَّارٍ } قال قتادة : آية الجبابرة القتل بغير حق ، والله تعالى أعلم .(1/2231)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا هَامَانُ ابْنِ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبَابَ (36) أَسْبَابَ السَّمَاوَاتِ فَأَطَّلِعَ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ كَاذِبًا وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبَابٍ (37)
يقول تعالى مخبراً عن فرعون وعتوه ، وتمرده وافترائه في تكذيبه موسى عليه الصلاة ولاسلام ، أنه أمر وزيره { ياهامان } أن يبني له { صَرْحاً } وهو القصر العالي المنيف الشاهق ، وكان اتخاذه من الآجر المضروب من الطين المشوي ، وكما قال تعالى : { فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّي صَرْحاً } [ القصص : 38 ] ، وقوله : { لعلي أَبْلُغُ الأسباب * أَسْبَابَ السماوات } قال سعيد بن جبير : أبواب السماوات ، وقيلأ : طرق السماوات { فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً } ، وهذا من كفره وتمرده أنه كذب موسى عليه الصلاة والسلام في أن الله عزّ وجلّ أرسله إليه ، قال تعالى { وَكَذَلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سواء عَمَلِهِ وَصُدَّ عَنِ السبيل } أي بصنعه هذا الذي أراد أن يوهم به الرعية ، أنه يعمل شيئاً يتوصل به إلى تكذيب موسى عليه الصلاة والسلام ، ولهذا قال تعالى : { وَمَا كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبَابٍ } قال ابن عباس ومجاهد : يعني إلا في خسار .(1/2232)
وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ (38) يَا قَوْمِ إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ وَإِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دَارُ الْقَرَارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ (40)
يقول المؤمن لقومه ممن تمرد وطغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الجبار الأعلى فقال لهم : { ياقوم اتبعون أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرشاد } لا كما كذب فرعون في قوله : { وَمَآ أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرشاد } [ غافر : 29 ] ، ثم زهدهم في الدنيا التي قد آثروها على الأخرى ، وصدتهم عن التصديق برسول الله موسى عليه الصلاة والسلام ، فقال : { ياقوم إِنَّمَا هذه الحياة الدنيا مَتَاعٌ } أي قليلة زائلة فانية عن قريب تذهب وتضمحل ، { وَإِنَّ الآخرة هِيَ دَارُ القرار } أي الدار التي لا زوال لها ولا انتقال منها ولا ظعن عنها إلى غيرها ، بل إما نعيم وإما جحيم ، ولهذا قال جلت عظمته { مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلاَ يجزى إِلاَّ مِثْلَهَا } أي واحدة مثلها ، { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة يُرْزَقُونَ فِيهَا بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي لا يتقدر بجزاء ، بل يثيبه الله عزّ وجلّ ثواباً كثيراً ، لا انقضاء له ولا نفاد .(1/2233)
وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَأَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لَا جَرَمَ أَنَّمَا تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيَا وَلَا فِي الْآخِرَةِ وَأَنَّ مَرَدَّنَا إِلَى اللَّهِ وَأَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحَابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ مَا أَقُولُ لَكُمْ وَأُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (44) فَوَقَاهُ اللَّهُ سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُوا وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذَابِ (45) النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوًّا وَعَشِيًّا وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذَابِ (46)
يقول لهم المؤمن : ما بالي أدعوكم إلى النجاة ، وهي عبادة الله وحده لا شريك له ، وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم الذي بعثه { وتدعونني إِلَى النار * تَدْعُونَنِي لأَكْفُرَ بالله وَأُشْرِكَ بِهِ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ } أي على جهل بلا دليل { وَأَنَاْ أَدْعُوكُمْ إِلَى العزيز الغفار } أي هو في عزته وكبريائه يغفر ذنب من تاب إليه { لاَ جَرَمَ أَنَّمَا تدعونني إِلَيْهِ } يقول : حقاً ، قال ابن جرير : معنى قوله : { لاَ جَرَمَ } : حقاً ، وقال الضحاك { لاَ جَرَمَ } : لا كذب ، المعنى إنّ الذي تدعونني إليه من الأصنام والأنداد { لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدنيا وَلاَ فِي الآخرة } قال مجاهد : الوثن ليس له شيء ، وقال قتادة : يعني الوثن لا ينفع ولا يضر . وقال السدي : لا يجيب داعيه لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وهذا كقوله تبارك وتعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } [ الأحقاف : 5 ] وقوله : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ وَلَوْ سَمِعُواْ مَا استجابوا لَكُمْ } [ فاطر : 14 ] ، وقوله : { وَأَنَّ مَرَدَّنَآ إِلَى الله } أي في الدار الآخرة فيجازي كلاً بعمله ، ولهذا قال { وَأَنَّ المسرفين هُمْ أَصْحَابُ النار } أي خالدين فيها بإسرافهم وهو شركهم بالله عزّ وجلّ { فَسَتَذْكُرُونَ مَآ أَقُولُ لَكُمْ } أي سوف تعلمون صدق ما أمرتكم به ونهيتكم عنه ، ونصحكتم ووضحت لكم ، وتتذكرونه وتندمون حيث لا ينفعكم الندم { وَأُفَوِّضُ أمري إِلَى الله } أي وأتوكل على الله وأستعينه ، وأقاطعكم وأباعدكم ، { إِنَّ الله بَصِيرٌ بالعباد } أي هو بصير بهم تعالى وتقدس ، فيهدي من يستحق الهداية ، ويضل من يستحق الإضلال وله الحجة البالغة ، والحكمة التامة ، والقدر النافذ .
وقوله تبارك وتعالى : { فَوقَاهُ الله سَيِّئَاتِ مَا مَكَرُواْ } أي في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فنجاه الله تعالى مع موسى عليه الصلاة والسلام ، وأما في الآخرة فبالجنة ، { وَحَاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سواء العذاب } وهو الغرق في اليم ثم النقلة منه إلى الجيحم ، فإن أرواحهم تعرض على النار صباحاً ومساء إلى قيام الساعة ، فإذا كان يوم القيامة اجتمعت أرواحهم وأجسادهم في النار ، ولهذا قال { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } أي أشده ألماً وأعظمه نكالاً ، وهذه الآية أصل كبير في استدلال أهل السنة علىعذاب البرزخ في القبور ، وهي قوله تعالى : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً } . وقد روي عن عائشة رضي الله عنها « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : » إنما يفتن يهود « ، قالت عائشة : فلبثنا ليالي ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ألا إنكم تفتنون في القبور « ، قالت عائشة رضي الله عنها : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ، يستعيذ من عذاب القبر »(1/2234)
وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها : « أن يهودية دخلت عليها فقالت : نعوذ بالله من عذاب القبر ، فسألت عائشة رضي الله عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن عذاب القبر ، فقال صلى الله عليه وسلم : » نعم عذاب القبر حق « قالت عائشة رضي الله عنها : فما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعدُ صلَّى إلا تعوذ من عذاب القبر » وأحاديث عذاب القبر كثيرة جداً .
وقال قتادة { غُدُوّاً وَعَشِيّاً } : صباحاً ومساء ما بقيت الدنيا ، يقال لهم : يا آل فرعون هذه منازلكم ، توبيخاً ونقمة وصغاراً لهم ، وقال ابن زيد : هم فيها يُغْدى بهم ويراح إلى أن تقوم الساعة ، وقال ابن أبي حاتم ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : إن أرواح الشهداء في أجواف طيور خضر تسرح بهم في الجنة حيث شاءوا ، وإن أرواح ولدان المؤمنين في أجواف عصافير تسرح في الجنة حيث شاءت ، فتأوي إلى قناديل معلقة في العرش ، وإن أرواح آل فرعون في أجواف طيور سود تغدو على جهنم وتروح عليها ، فذلك عرضها ، وفي حديث الإسراء ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيه : « ثم انطلق بي إلى خلق كثير من خلق الله ، رجال كل رجل منهم بطنه مثل البيت الضخم ، مصفدون على سابلة آل فرعون ، وآل فرعون يعرضون على النار غدواً وعيشاً { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } وآل فرعون كالإبل المسومة يخطبون الحجارة والشجر ولا يعقلون » وروى ابن أبي حاتم ، عن ابن مسعود رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما أحسن محسن من مسلم أو كافر إلا أثابه الله تعالى قال ، قلنا : يا رسول الله! ما إثابة الله الكافر؟ فقال : » إن كان قد وصل رحماً أو تصدق بصدقة أو عمل حسنة أثابه الله تبارك وتعالى المال والولد والصحة وأشباه ذلك « . قلنا : فما إثابته في الآخرة؟ قال صلى الله عليه وسلم : » عذاباً دون العذاب « ، وقرأ { أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } » وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة والعشي إن كان من أهل الجنة ، فمن أهل الجنة ، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار ، فيقال هذا مقعدك حتى يبعثك عزّ وجل إليه يوم القيامة » .(1/2235)
وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيبًا مِنَ النَّارِ (47) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ (48) وَقَالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْمًا مِنَ الْعَذَابِ (49) قَالُوا أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا بَلَى قَالُوا فَادْعُوا وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (50)
يخبر تعالى عن تحاجِّ أهل النار وتخاصمهم وفرعون وقومه من جملتهم { فَيَقُولُ الضعفاء } وهم الأتباع { لِلَّذِينَ استكبروا } وهم القادة والسادة والكبراء { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً } أي أطعناكم فيما دعوتمونا إليه في الدنيا من الكفر والضلال ، { فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النار } أي قسطاً تتحملونه من العذاب والنكال { قَالَ الذين استكبروا إِنَّا كُلٌّ فِيهَآ } أي فقسم بيننا العذاب بقدر ما يستحقه كل منا كما قال تعالى : { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ] ، { وَقَالَ الذين فِي النار لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادعوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِّنَ العذاب } لما علموا أن الله عزّ وجلّ لا يستجيب منهم ، ولا يستمع لدعائهم ، بل قد قال : { قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 8 ] سألوا الخزنة وهم كالسجَّانين لأهل النار أن يدعوا لهم الله تعالى في في أن يخفف عن الكافرين ولو يوماً واحداً من العذاب فقالت لهم الخزنة رادين عليهم : { أَوَلَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بالبينات } ؟ أي أو ما قامت عليكم الحجج في الدنيا على ألسنة الرسل؟ { قَالُواْ بلى قَالُواْ فادعوا } أي أنتم لأنفسكم فنحن لا ندعو لكم ولا نسمع منكم ، ثم نخبركم أنه لا يستجاب لكم ولا يخفف عنكم ، ولهذا قالوا { قالوا وَمَا دُعَاءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } أي لا يقبل ولا يستجاب .(1/2236)
إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ (51) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْهُدَى وَأَوْرَثْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ (53) هُدًى وَذِكْرَى لِأُولِي الْأَلْبَابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (55) إِنَّ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ مَا هُمْ بِبَالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)
قد عُلِمَ أن بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قتله قومه كيحيى وزكريا وشعيا ، ومنهم من خرج من بين أظهرهم إما مهاجراً إلى الله كإبراهيم ، وإما إلى السماء كعيسى ، فأين النصرة في الدنيا؟ أجاب ابن جرير على ذلك بجوابين : ( أحدهما ) أن يكون الخبر خرج عاماً ، والمراد به البعض ، وهذا سائغ في اللغة . ( الثاني ) أن يكون المراد بالنصر الانتصار لهم ممن آذاهم ، كما فعل بقتلة يحيى وزكريا ، سلط عليهم من أعدائهم من أهانهم وسفك دماءهم . وقد ذكر أن النمروذ أخذه الله تعالى أخذ عزيز مقتدر ، وأما الذين راموا صلب المسيح عليه السلام من اليهود ، فسلط الله تعالى عليهم الروم فأهانوهم وأذلوهم ، وهذه نصرة عظيمة ، وسنة الله تعالى في خلقه في قديم الدهر ، أنه ينصر عباده المؤمنين في الدنيا ويقر أعينهم ممن آذاهم ، ولهذا أهلك الله عزّ وجلّ قوم نوح وعاد وثمود وأصحاب الرس ، وقوم لوط وأهل مدين وأشباههم وأضرابهم ممن كذب الرسل وخالف الحق ، وأنجى الله تعالى من بينهم المؤمنين فلم يهلك منهم أحداً ، وعذب الكافرين فلم يفلت منهم أحداً ، قال السدي : « لم يبعث الله عزّ و جلّ رسولاً قط إلى قوم فيقتلونه أو قوماً من المؤمنين يدعون إلى الحق فيقتلون ، فيذهب ذلك القرن حتى يبعث الله تبارك وتعالى لهم من ينصرهم ، فيطلب بدمائهم ممن فعل ذلك بهم في الدنيا قال : فكانت الأنبياء والمؤمنون يقتلون في الدنيا وهم منصورون فيها » ، وهكذا نصر الله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم فجعل كلمته هي العليا ، ودينه هو الظاهر على سائر الأديان ، وأمره بالهجرة إلى المدينة النبوية ، وجعل له فيها أنصاراً وأعواناً ، ثم منحه أكتاف المشركين يوم بدر فنصره عليهم وخذلهم وقتل صناديدهم ، ثم بعد مدة قريبة فتح عليه مكة ، فقرت عينه ببلده المشرف المعظم ، وفتح له اليمن ، ودانت له جزيرة العرب بكاملها ، ودخل الناس في دين الله أفواجاً ، ثم قبضه الله تعالى إليه فأقام الله تبارك وتعالى أصحابه خلفاء بعده ، فبلغوا عنه دين الله عزّ وجلّ ، حتى انتشرت الدعوة المحمدية في مشارق الأرض ومغاربها؟ ثم لا يزال هذا الدين قائماً منصوراً ظاهراً إلى قيام الساعة ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } أي يوم القيامة تكون النصرة أعظم وأكبر وأجل ، قال مجاهد : الأشهاد الملائكة { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين } وهم المشركون { مَعْذِرَتُهُمْ } أي لا يقبل منهم عذر ولا فدية { وَلَهُمُ اللعنة } أي الإبعاد والطرد من الرحمة ، { وَلَهُمْ سواء الدار } وهي النار ، قال السدي : بئس المنزل والمقيل ، وقال ابن عباس : أي سوء العاقبة .
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الهدى } وهو ما بعثه الله عزّ وجلّ به من الهدى والنور ، { وَأَوْرَثْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب } أي جعلنا لهم العاقبة ، وأورثناهم ملك فرعون ، وفي الكتاب الذي أورثوه وهو التوراة { هُدًى وذكرى لأُوْلِي الألباب } وهي العقول الصحيحة السليمة ، وقوله عزّ وجلّ : { فاصبر } أي يا محمد { إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي وعدناك أنا سنعلي كلمتك ، ونجعل العاقبة لك ولمن اتبعك ، والله لا يخلف الميعاد ، وهذا الذي أخبرناك به حق لا مرية فيه ولا شك ، وقوله تبارك وتعالى : { واستغفر لِذَنبِكَ } هذا تهييج للأمة على الاستغفار ، { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بالعشي } أي في أواخر النهار وأوائل الليل { والإبكار } وهي أوائل النهار وأواخر الليل .(1/2237)
وقوله تعالى : { إِنَّ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِ الله بِغَيْرِ سُلْطَانٍ أَتَاهُمْ } أي يدفعون الحق بالباطل ، ويردون الحجج الصحيحة بالشبه الفاسدة بلا برهان ولا حجة من الله ، { إِن فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ مَّا هُم بِبَالِغِيهِ } أي ما في صدورهم إلا كبر على اتباع الحق ، واحتقار لمن جاءهم به ، وليس ما يرومونه - من إخماد الحق وإعلاء الباطل - بحاصل لهم ، بل الحق هو المرفوع ، وقولهم وقصدهم هو الموضوع { فاستعذ بالله } أي من حال مثل هؤلاء { إِنَّهُ هُوَ السميع البصير } ، أو من شر مثل هؤلاء المجادلين في آيات الله بغير سلطان ، هذا تفسير ابن جرير .(1/2238)
لَخَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (57) وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَلَا الْمُسِيءُ قَلِيلًا مَا تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (59)
يقول تعالى منبهاً على أنه يعيد الخلائق يوم القيامة ، وأن ذلك سهل عليه يسير لديه ، بأنه خلق السماوات والأرض ، وخلقهما أكبر من خلق الناس بدأة وإعادة ، فمن قدر على ذلك فهو قادر على ما دونه بطريق الأولى والأحرى ، كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف : 33 ] ، وقال هاهنا : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } فلهذا لا يتدبرون هذه الحجة ولا يتأملونها ، كما كان كثير من العرب يعترفون بأن الله تعالى خلق السماوات والأرض وينكرون المعاد استبعاداً وكفراً وعناداً ، وقد اعترفوا بما هو أولى مما أنكروا ، ثم قال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَلاَ المسياء قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } أي كما لا يستوي الأعمى الذي لا يبصر شيئاً ، والبصير الذي يرى ما انتهى إليه بصره ، بل بينهما فرق عظيم ، كذلك لا يستوي المؤمنون الأبرار ، والكفرة الفجار { قَلِيلاً مَّا تَتَذَكَّرُونَ } أي ما أقل ما يتذكر كثير من الناس ، ثم قال تعالى : { إِنَّ الساعة لآتِيَةٌ } أي لكائنة وواقعة ، { لاَّ رَيْبَ فِيهَا ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } أي لا يصدقون بها بل يكذبون بوجودها .(1/2239)
وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ (60)
هذا من فضله تبارك وتعالى وكرمه ، أنه ندب عباده إلى دعائه ، وتكفل لهم بالإجابة ، قال كعب الأحبار : أعطيت هذه الأمة ثلاثاً لم تعطهن أمة قبلها إلا نبي ، كان إذا أرسل الله نبياً قال له : أنت شاهد على أمتك ، وجعلكم شهداء على الناس ، وكان يقال له : ليس عليك في الدين من حرج ، وقال لهذه الأمة : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] وكان يقال له : ادعني أستجب لك ، وقال لهذه الأمة : { ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } ، وروى الإمام أحمد ، عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الدعاء هو العبادة » ثم قرأ : { ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من لم يَدْعُ الله عزّ وجلّ غضب عليه » وروى الحافظ الرامهرمزي ، عن محمد بن سعيد قال : لما مات محمد بن مسلمة الأنصاري ، وجدنا في ذؤابة سيفه كتاباً ، بسم الله الرحمن الرحيم ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن لربكم في بقية أيام دهركم نفحات فتعرضوا له ، لعل دعوة أن توافق رحمة فيسعد بها صاحبها سعادة لا يخسر بعدها أبداً » ، وقول عزّ وجلّ : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي } أي عن دعائي وتوحيدي ، { سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } أي صاغرين حقيرين ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « يحشر المتكبرون يوم القيامة مثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار ، حتى يدخلوا سجناً في جهنم يقال له ( بولس ) تعلوهم نار الأنيار ، يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار » وقال وهيب بن الورد ، حدثني رجل قال : كنت أسير ذات يوم في أرض الروم ، فسمعت هاتفاً من فوق رأس جبل وهو يقول : يا رب عجبت لمن عرفك كيف يرجو أحداً غيرك ، يا رب عجبت لمن عرفك يطلب حوائجه إلى أحد غيرك ، قال : ثم عاد الثانية فقال : يا رب عجبت لمن عرفك كيف يتعرض لشيء من سخطك يرضي غيرك ، قال ، فناديته : أجني أنت أم إنسي؟ قال : بل إنسي ، اشغل نفسك مما يعنيك عما لا يعنيك وفي الحديث : « من لم يسأل الله يغضب عليه » .(1/2240)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (61) ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كَانُوا بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63) اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (65)
يقول تعالى ممتناً على خلقه بما جعل لهم من الليل الذي يسكنون فيه ، ويستريحون فيه من حركات ترددهم في المعايش بالنهار وجعل النهار مبصراً ، أي مضيئاً ليتصرفوا فيه بالأسفار ، وقطع الأقطار ، والتمكن من الصناعات { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } أي لا يقومون بشكر نعم الله عليهم ، ثم قال عزّ وجلّ : { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ } أي الذي فعل هذه الأشياء هو الواحد الأحد ، خالق الأشياء الذي لا إله غيره ولا رب سواه ، { فأنى تُؤْفَكُونَ } أي فكيف تعبدون غيره من الأصنام الي لا تخلق شيئاً بل هي مخلوقة منحوتة! وقوله عزّ وجلّ : { كَذَلِكَ يُؤْفَكُ الذين كَانُواْ بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } أي كما ضل هؤلاء بعبادة عير الله ، كذلك أفك الذين من قبلهم فعبدوا غيره ، بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الجهل والهوى ، وجحدوا حجج الله وآياته ، وقوله تعالى : { الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً } أي جعلها لكم مستقراً ، تعيشون عليها وتتصرفون فيها ، وتمشون في مناكبها ، { والسمآء بِنَآءً } أي سقفاً للعالم محفوظاً ، { وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ } أي فخلقكم في أحسن الأشكال ، ومنحكم أكمل الصور في أحسن تقويم ، { وَرَزَقَكُمْ مِّنَ الطيبات } أي من المآكل والمشارب في الدنيا ، فذكر أنه خلق الدار والسكان والأرزاق ، فهو الخالق الرزّاق ، كما قال تعالى في سورة البقرة : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض فِرَاشاً والسماء بِنَآءً وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } [ الآية : 22 ] . وقال تعالى هاهنا بعد خلق هذه الأشياء : { ذَلِكُمُ الله رَبُّكُمْ فَتَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } أي فتعالى وتقدس وتنزه رب العالمين ، ثم قال تعالى : { هُوَ الحي لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أي هو الحي أولاً وأبداً ، وهو الأول والآخر والظاهر والباطن ، { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أي لا نظير له ولا عديل له { فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي موحدين له مقرين بأنه لا إله إلا هو الحمد الله رب العالمين ، عن ابن عباس قال : من قال : لا إله إلا الله فليقل على أثرها الحمد لله رب العالمين ، وذلك قوله تعالى : { فادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } .(1/2241)
قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جَاءَنِيَ الْبَيِّنَاتُ مِنْ رَبِّي وَأُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخًا وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَلِتَبْلُغُوا أَجَلًا مُسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ فَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : إن الله عزّ وجلّ ينهى أن يعبد أحد سواه من الأصنام والأنداد والأوثان ، وقد بيّن تبارك وتعالى أنه لا يستحق العبادة أحد سواه في قوله جلت عظمته : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُواْ شُيُوخاً } أي هو الذي يقبلكم في هذه الأطوار كلها وحده لا شريك له ، وعن أمره وتدبيره وتقديره يكون ذلك كله ، { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى مِن قَبْلُ } أي من قبل أن يوجد ويخرج إلى هذا العالم ، بل تسقطه أمه سقطاً ، ومنهم من يتوفى صغيراً وشاباً وكهلاً قبل الشيخوخة ، كقوله تعالى : { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [ الحج : 5 ] ، وقال عزّ وجلّ هاهنا : { ولتبلغوا أَجَلاً مُّسَمًّى وَلَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } . قال ابن جريج : تتذكرون البعث ، ثم قال تعالى : { هُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي هو المتفرد بذلك لا يقدر على ذلك أحد سواه ، { فَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فيَكُونُ } أي لا يخالف ولا يمانع بل ما شاء كان لا محالة .(1/2242)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتَابِ وَبِمَا أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73) مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُو مِنْ قَبْلُ شَيْئًا كَذَلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكَافِرِينَ (74) ذَلِكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)
يقول تعالى : ألا تعجب يا محمد من هؤلاء المكذبين بآيات الله ، ويجادلون في الحق بالباطل ، كيف تصرف عقولهم عن الهدى إلى الضلال؟ { الذين كَذَّبُواْ بالكتاب وَبِمَآ أَرْسَلْنَا بِهِ رُسُلَنَا } أي من الهدى والبيان { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } هذا تهديد شديد ، ووعيد أكيد ، من الرب جلّ جلاله لهؤلاء ، كما قال تعالى : { وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ المرسلات : 15 ] ، وقوله عزّ وجلّ : { إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل } أي متصلة بالأغلال بأيدي الزبانية يسحبونهم على وجوههم تارة إلى الحميم ، وتارة إلى الجحيم ، ولهذا قال تعالى : { يُسْحَبُونَ * فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ } ، كما قال تبارك وتعالى : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] ، وقال تعالى : { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضآلون المكذبون * لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ } [ الواقعة : 5152 ] ، وقال عزَّ وجلَّ : { خُذُوهُ فاعتلوه إلى سَوَآءِ الجحيم * ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم * ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 4749 ] أي يقال لهم ذلك على وجه التقريع والتوبيخ ، والتهكم والاستهزاء بهم ، وقوله تعالى : { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ * مِن دُونِ الله } ؟ أي قيل لهم : أين الأصنام التي كنتم تعبدونها من دون الله هل ينصرونكم اليوم؟ { قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } أي ذهبوا فلم ينفعونا ، { بَل لَّمْ نَكُنْ نَّدْعُواْ مِن قَبْلُ شَيْئاً } أي جحدوا عبادتهم ، كقوله جلَّت عظمته : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، ولهذا قال عزَّ وجلَّ : { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله الكافرين } ، وقوله : { ذَلِكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَمْرَحُونَ } أي تقول لهم الملائكة : هذا الذي أنتم فيه جزاء على فرحكم في الدنيا بغير الحق ، ومرحكم وأشركم وبطركم ، { ادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } ، أي فبئس المنزل والمقيل الذي فيه الهوان والعذاب الشديد ، لمن استكبر عن آيات الله ، واتباع دلائله وحججه ، والله أعلم .(1/2243)
فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (77) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنَا عَلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذَا جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)
يقول تعالى : آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه : { فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ } أي في الدنيا وكذلك وقع ، فإن الله تعالى أقر عينه يوم بدر ثم فتح الله عليه مكة وسائر جزيرة العرب في حياته صلى الله عليه وسلم ، وقوله عزَّ وجلَّ : { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } أي فنذيقهم العذاب الشديد في الآخرة ، ثم قال تعالى مسلياً له : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ مِنْهُم مَّن قَصَصْنَا عَلَيْكَ } أي منهم من أوحينا إليك خبرهم وقصصهم مع قومهم كيف كذبوهم ، ثم كان للرسل العاقبة والنصرة ، { وَمِنْهُمْ مَّن لَّمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ } وهم أكثر ممن ذكر بأضعاف أضعاف ، كما تقدم التنبيه على ذلك في سورة النساء ولله الحمد والمنة ، وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي ولم يكن لواحد من الرسل أن يأتي قومه بخارق للعادات إلا أن يأذن الله له في ذلك فيدل ذلك على صدقه فيما جاءهم به ، { فَإِذَا جَآءَ أَمْرُ الله } وهو عذابه ونكاله المحيط بالمكذبين ، { قُضِيَ بالحق } فينجي المؤمنين ويهلك الكافرين ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ المبطلون } .(1/2244)
اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعَامَ لِتَرْكَبُوا مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (79) وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُوا عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَأَيَّ آيَاتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)
يقول تعالى ممتناً على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي الإبل والبقر والغنم ، فمنها ركوبهم ومنها يأكلون ، فالإبل تركب وتؤكل وتحلب ، ويحمل عليها الأثقال في الأسفار والرحال ، البلاد النائية والأقطار الشاسعة ، والبقر تؤكل ويشرب لبنها وتحرث عليها الأرض ، والغنم تؤكل ويشرب لبنها ، والجميع تجز أصوافها وأشعارها وأوبارها فيتخذ منها الأثاث والثياب والأمتعة ولذا قال عزّ وجلّ : { لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } ، وقوله جلّ وعلا : { وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ } أي حججه وبراهينه في الآفاق وفي أنفسكم { فَأَيَّ آيَاتِ الله تُنكِرُونَ } ؟ أي لا تقدرون على إنكار شيء من آياته إلا أن تعاندوا وتكابروا .(1/2245)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً وَآثَارًا فِي الْأَرْضِ فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرِحُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا قَالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنَا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ وَخَسِرَ هُنَالِكَ الْكَافِرُونَ (85)
يخبر تعالى عن الأمم المكذبة بالرسل في قديم الدهر ، وماذا حل بهم من العذاب الشديد مع شدة قواهم ، وما أثروه في الأرض وجمعوه من الأموال ، فما أغنى عنهم ذلك شيئاً ولا رد عنهم ذرة من بأس الله ، وذلك لأنهم لما جاءتهم الرسل بالبينات ، والحجج القاطعات ، والبراهين الدامغات ، لم يلتفتوا إليهم ولا أقبلوا عليهم ، واستغنوا بما عندهم من العلم في زعمهم عما جاءتهم به الرسل ، قال مجاهد : قالوا : نحن أعلم منهم لن نبعث ولن نعذب ، وقال السدي : فرحوا بما عندهم من العلم بحالتهم ، فأتاهم من بأس الله تعالى ما لا قبل لهم به ، { وَحَاقَ بِهِم } أي أحاط بهم ، { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي يكذبون ويستبعدون وقوعه ، { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } أي عاينوا وقوع العذاب بهم ، { قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } أي وحدوا الله عزّ وجلّ وكفروا بالطاغوت ، ولكن حيث لا تقال العثرات ولا تنفع المعذرة ، وهذا كما قال فرعون حين أدركه الغرق { آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } [ يونس : 90 ] فلم يقبل الله منه لأنه قد استجاب لنبيّه موسى عليه السلام ، وهكذا قال تعالى هاهنا { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } هذا حكم الله في جميع من تاب عند معاينة العذاب أنه لا يقبل ، ولهذا جاء في الحديث : « إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » ، ولهذا قال تعالى : { وَخَسِرَ هُنَالِكَ الكافرون } .(1/2246)
حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (2) كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (4) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِنْ بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ (5)
يقول تعالى : { حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم } يعني القرآن منزل من الرحمن الرحيم ، كقوله : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس مِن رَّبِّكَ بالحق } [ النحل : 102 ] ، وقوله : { كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ } أي بينت معانيه وأحكمت أحكامه ، { قُرْآناً عَرَبِيّاً } أي في حال كونه قرآناً عربياً بيناً واضحاً ، فمعانيه مفصلة ، وألفاظه واضحة ، كقوله تعالى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } [ هود : 1 ] أي هو معجز من حيث لفظه ومعناه ، وقوله تعالى : { لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي إما يعرف هذا العلماء الراسخون { بَشِيراً وَنَذِيراً } أي تارة يبشر المؤمنين ، وتارة ينذر الكافرين ، { فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } أي أكثر قريش فهم لا يفهمون منه شيئاً مع بيانه ووضوحه ، { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ } أي في غلف مغطاة ، { مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ } أي صمم عما جئتنا به { وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } فلا يصل إلينا شيء مما تقول ، { فاعمل إِنَّنَا عَامِلُونَ } أي اعمل أنت على طريقتك ونحن على طريقتنا لا نتابعك ، روى « البغوي في تفسيره » عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : « اجتمعت قريش يوماً فقالوا : انظروا أعلمكم بالسحر والكهانة والشعر ، فليأت هذا الرجل الذي فرق جماعتنا وشئت أمرنا وعاب ديننا ، فليكلمه ولننظر ماذا يرد عليه ، فقالوا : ما نعلم أحداً غير ( عتبة بن ربيعة ) ، فقالوا : أنت يا أبا الوليد ، فأتاه عتبة فقال : يا محمد أنت خير أم عبد الله؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : أنت خير أم عبد المطلب؟ فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : إن كنت تزعم أن هؤلاء خير منك فقد عبدوا الآلهة التي عبت ، وإن كنت تزعم أنك خير منهم فتكلم حتى يسمع قولك ، إنا والله ما رأينا سخَلَةً قط أشأم على قومك منك ، فرّقت جماعتنا وشتّت أمرنا ، وعبت ديننا ، وفضحتنا في العرب ، حتى لقد طار فيهم أن في قريش ساحراً ، وأن في قريش كاهناً ، والله ما ننتظر إلا مثل صيحة الحبلى أن يقوم بعضنا إلى بعض بالسيوف ، حتى نتفانى ، أيها الرجل إن كان إنما بك الحاجة ، جمعنا لك حتى تكون أغنى قريش رجلاً واحداً ، وإن كان إنما بك الباءة فاختر أي نساء قريش شئت فلنزوجك عشراً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فرغت «؟ قال : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم } - حتى بلغ - { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } [ فصلت : 13 ] فأمسك عتبة على فيه ، وناشده بالرحم ، ورجع إلى أهله ، ولم يخرج إلى قريش ، واحتبس عنهم ، فقال أبو جهل : يا معشر قريش والله ما نرى عتبة إلا قد صبأ إلى محمد وأعجبه طعامه ، وما ذاك له إلا من حاجة أصابته ، فانطلقوا بنا إليه ، فقال أبو جهل : يا عتبة ما حبسك عنا إلا أنك صبأت إلى محمد وأعجبك طعامه ، فإن كانت بك حاجة جمعنا لك من أموالنا ما يغنيك عن طعام محمد ، فغضب عتبة وأقسم أن لا يكلم محمداً أبداً ، وقال : والله لقد علمتم أني من أكثر قريش مالاً ، ولكني أتيته وقصصت عليه القصة ، فأجابني بشيء والله ما هو بشعر ولا كهانة ولا سحر ، وقرأ السورة إلى قوله تعالى : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } [ فصلت : 13 ] فأمسكت بفيه ونشادته بالرحم أن يكف ، وقد علمتم أن محمداً إذا قال شيئاً لم يكذب ، فخشيت أن ينزل بكم العذاب » .(1/2247)
وروى محمد بن إسحاق في كتاب السيرة عن محمد بن كعب القرظي قال : « حدثت أن عتبة بن ربيعة ، وكان سيداً ، قال يوماً وهو جالس في نادي قريش ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في المسجد وحده : يا معشر قريش ألا أقوم إلى محمد فأكلمه وأعرض عليه أموراً ، لعله أن يقبل بعضها فنعطيه أيها شاء ويكف عنا؟ وذلك حين أسلم حمزة رضي الله عنه ، ورأوا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يزيدون ويكثرون ، فقالوا : بلى يا أبا الوليد ، فقم إليه فكلمه ، فقام إليه عتبة حتى جلس إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا ابن أخي إنك منا حيث علمت من السلطة في العشيرة والمكان في النسب ، وإنك قد أتيت قومك بأمر عظيم فرقت به جماعتهم ، وسفهت به أحلامهم ، وعبت به آلهتهم ودينهم ، وكفَّرت به من مضى من آبائهم ، فاسمع مني أعرض عليك أموراً تنظر فيها لعلك تقبل منها بضعها ، قال : فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » قل يا أبا الوليد أسمع « ، قال : يا ابن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تريد به شرفاً سودناك علينا حتى لا نقطع أمراً دونك ، وإن كنت تريد به ملكاً ملكناك علينا ، إن كان هذا الذي يأتيك رِئياً تراه لا تستطيع رده عن نفسك ، طلبنا لك الأطباء وبذلنا فيه أموالنا حتى نبرئك منه ، فإنه ربما غلب التابع على الرجل حتى يداوى منه أو كما قال له ، حتى إذا فرغ عتبة ورسول الله صلى الله عليه وسلم يستمع منه قال : » أفرغت يا أبا الوليد؟ « قال : نعم ، قال : » فاستمع مني « ، قال : أفعل ، قال : حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * بَشِيراً وَنَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } ، ثم مضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها وهو يقرؤها عليه ، فلما سمع عتبة أنصت لها وألقى يديه خلف ظهره معتمداً عليهما يستمع منه ، حتى انتهى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السجدة منها فسجد ، ثم قال : » قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت ، فأنت وذاك « ، فقالم عتبة إلى أصحابه ، فقال بعضهم لبعض ، نحلف بالله لقد جاءكم أبو الوليد بغير الوجه الذي ذهب به فلما جلس إليهم قالوا : ما وراءك يا أبا الوليد؟ قال : ورائي أني سمعت قولاً و الله ما سمعت مثله قط ، والله ما هو بالسحر ، ولا بالشعر ، ولا بالكهانة ، يا معشر قريش أطيعوني واجعلوها لي ، خلوا بين الرجل وبين ما هو فيه ، فاعتزلوه ، فوالله ليكونن لقوله الذي سمعت نبأ ، فإن تصبه العرب ، فقد كفيتموه بغيركم ، وإن يظهر على العرب فملكه ملككم ، وعزه عزكم وكنتم أسعد الناس به ، قالوا : سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه ، قال : هذا رأيي فيه ، فاصنعوا ما بدا لكم . وهذا السياق أشبه من الذي قبله والله أعلم » .(1/2248)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَاسْتَغْفِرُوهُ وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (7) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8)
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المكذبين المشركين { إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ } لا ما تعبدونه من الأصنام والأنداد والأرباب المتفرقين ، إنما الله إله واحد { فاستقيموا إِلَيْهِ } أي أخلصوا له العبادة على منوال ما أمركم به على ألسنة الرسل ، { واستغفروه } أي لسالف الذنوب ، { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ } أي دمار لهم وهلاك عليهم { الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة } قال ابن عباس : يعني الذين لا يشهدون أن لا إله إلا الله ، كقوله تبارك وتعالى : { فَقُلْ هَل لَّكَ إلى أَن تزكى } [ النازعات : 18 ] والمراد بالزكاة هنا طهارة النفس من الأخلاق الرذيلة ، ومن أهم ذلك طهارة النفس من الشرك ، وزكاة المال إنما سميت زكاة ، لأنها تطهره من الحرام ، وتكون سبباً لزيادته وبركته وكثرة نفعه ، واستعماله في الطاعات . وقال السدي : { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ * الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة } : أي لا يؤدون الزكاة ، وقال قتادة : يمنعون زكاة أموالهم ، وهذا هو الظاهر عند كثير من المفسرين ، واختاره ابن جرير ، ثم قال جلّ جلاله بعد ذلك : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } قال مجاهد وغيره : غير مقطوع ولا مجبوب ، كقوله تعالى : { مَّاكِثِينَ فِيهِ أَبَداً } [ الكهف : 3 ] ، وكقوله عزّ وجلّ : { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } [ هود : 108 ] وقال السدي : غير ممنون عليهم ، وقد رد عليهم بعض الأئمة ، فإن المنة لله تعالى على أهل الجنة ، قال الله تعالى : { بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ } [ الحجرات : 17 ] ، وقال أهل الجنة : { فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم } [ الطور : 27 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إلا يتغمدني الله برحمة منه وفضل » .(1/2249)
قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَنْدَادًا ذَلِكَ رَبُّ الْعَالَمِينَ (9) وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِنْ فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَا أَقْوَاتَهَا فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَاءً لِلسَّائِلِينَ (10) ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ (11) فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12)
هذا إنكار من الله تعالى على المشركين الذين عبدوا معه غيره ، وهو الخالق لكل شيء ، المقتدر على كل شيء { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً } أي نظراء وأمثالاً تعبدونها معه ، { ذَلِكَ رَبُّ العالمين } أي الخالق للأشياء هو رب العالمين كلهم ، وهذا المكان فيه تفصيل لقوله تعالى : { خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ } [ الأعراف : 54 ] ففصل هاهنا ما يختص بالأرض مما اختص بالسماء ، فذكر أنه خلق الأرض أولاً لأنها كالأساس ، والأصل أن يبدأ بالأساس ، ثم بعده بالسقف ، كما قال عزّ وجلّ : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماوات } [ البقرة : 29 ] الآية ، فأما قوله تعالى : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ] إلى قوله : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا } [ النازعات : 30-31 ] ، ففي هذه الآية أن دحو الأرض كان بعد خلق السماء ، فالدحو مفسر بقوله : { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا } [ النازعات : 31 ] وكان هذا بعد خلق السماء ، فأما خلق الأرض فقبل خلق السماء بالنص ، وبهذا أجاب ابن عباس فيما ذكره البخاري عن سعيد بن جبير قال : قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما : إني لأجد في القرآن أشياء تختلف عليّ ، قال : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الصافات : 27 ، الطور : 25 ] ، { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] ، { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] فقد كتموا في هذه الآية ، وقال تعالى : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ] - إلى قوله - { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 30 ] فذكر خلق السماء قبل خلق الأرض ثم قال : تعالى : { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ } إلى قوله { طَآئِعِينَ } فذكر في هذه خلق الأرض قبل خلق السماء ، قال : { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] ، { عَزِيزاً حَكِيماً } [ النساء : 56 ] ، { سَمِيعاً بَصِيراً } [ النساء : 58 ] فكأنه كان ثم مضى ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] في النفخة الأولى ، كما قال تعالى : { فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله } [ الزمر : 68 ] ، وفي النفخة الأخرى { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } [ الصافات : 27 ، الطور : 25 ] . وأما قوله : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 42 ] ، فإن الله تعالى يغفر لأهل الإخلاص ذنوبهم فيقول المشركون : تعالوا نقول : لم نكن مشركين ، فيختم على أفواههم ، فتنطق أيديهم ، فعند ذلك يعرف أن الله تعالى لا يكتم حديثاً ، وعنده { يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } [ النساء : 42 ، الحجر : 2 ] الآية ، وخلق الأرض في يومين ، ثم خلق السماء ثم استوى إلى السماء فسواهن في يومين آخرين ، ثم دحى الأرض ، ودحيها أن أخرج منها الماء والمرعى وخلق الجبال والرمال والجماد والآكام وما بينهما في يومين آخرين ، فذلك قوله تعالى : { دَحَاهَا } وقوله : { خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ } فخلق الأرض وما فيها من شيء في أربعة أيام وخلق السماوات في يومين ،(1/2250)
{ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 96 ] سمى نفسه بذلك ، وذلك قوله أي لم يزل كذلك ، فإن الله تعالى لم يرد شيئاً إلا أصاب به الذي أراد ، فلا يختلفن عليك القرآن ، فإن كلا من عند الله عزّ وجلّ .
وقوله تعالى : { خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ } يعني يوم الأحد ويوم الأثنين ، { وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا } أي جعلها مباركة قابلة للخير والبذر والغراس ، وقدر فيها أقواتها ، وهو ما يحتاج أهلها إليه من الأرزاق والأماكن التي تزرع وتغرس يعني يوم الثلاثةء والأربعاء ، فهما مع اليومين السابقين أربعة ولهذا قال : { في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } أي لمن أراد السؤال ، عن ذل ليعلمه . وقال عكرمة ومجاهد في قوله عزّ وجلّ { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } جعل في كل أرض ما لا يصلح في غيرها ، ومنه العصب باليمن ، والسابوري بسابور ، والطيالسة بالري . وقال ابن عباس وقتادة والسدي في قوله تعالى : { سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } أي لمن أراد السؤال عن ذلك ، وقال ابن زيد : { وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا } أي على وفق مراده ، من له حاجة إلى رزق أو حاجة ، فإن الله تعالى قدر له ما هو محتاج إليه ، وهذا القول يشبه قوله تعالى : { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } [ إبراهيم : 34 ] والله أعلم . وقوله تبارك وتعالى : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء وَهِيَ دُخَانٌ } وهو بخار الماء المتصاعد منه حين خلقت الأرض ، { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } أي استجيبا لأمري طائعتين أو مكرهتين ، قال ابن عباس في قوله تعالى : { فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائتيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } قال الله تبارك وتعالى للسماوات أطلعي شمسي وقمري ونجومي ، وقال للأرض : شققي أنهارك وأخرجي ثمارك ، { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } واختاره ابن جرير . وقيل : تنزيلاً لهن معالمة من يقعل بكلامهما ، وقال الحسن البصري : لو أبيا عليه أمره لعذبهما عذاباً يجدان ألمه { فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سماوات فِي يَوْمَيْنِ } أي ففرغ في تسويتهن سبع سماوات { فِي يَوْمَيْنِ } أي آخرين وهما يوم الخميس ويوم الجمعة ، { وأوحى فِي كُلِّ سَمَآءٍ أَمْرَهَا } أي ورتب مقرراً في كل سماء ما تحتاج إليه من الملائكة وما فيها من الأشياء التي لا يعلمها إلا هو ، { وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ } وهي الكواكب المنيرة المشرقة على أهل الأرض ، { وَحِفْظاً } أي حرساً من الشياطين أن تستمع إلى الملأ الأعلى ، - { ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم } أي العزيز الذي قد عز كل شيء فغلبه وقهره ، { العليم } بجميع حركات المخلوقات وسكناتهم . روي « أن اليهود أتت النبي صلى الله عليه وسلم ، فسألته عن خلق السماوات والأرض ، فقال صلى الله عليه وسلم : خلق الله تعالى الأرض يوم الأحد ويوم الاثنين ، وخلق الجبال يوم الثلاثاء وما فيهن من منافع ، وخلق يوم الأربعاء الشجر والماء المدائن والعمران والخراب ، فهذه أربعة { قُلْ أَإِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين * وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ مِن فَوْقِهَا وَبَارَكَ فِيهَا وَقَدَّرَ فِيهَآ أَقْوَاتَهَا في أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَوَآءً لِّلسَّآئِلِينَ } لمن سأله ، قال : وخلق يوم الخميس السماء ، وخلق يوم الجمعة النجوم والشمس والقمر والملائكة إلى ثلاث ساعات بقيت منه وفي الثانية ألقى الآفة على كل شيء مما ينتفع به الناس ، وفي الثالثة آدم وأسكنه الجنة وأمر إبليس بالسجود له وأخرجه منها في آخر ساعة » ، ثم قالت اليهود : ثم ماذا يا محمد؟ قال : « ثم استوى على العرش » ، قالوا قد أصبت لو أتممت ، قالوا : ثم استراح ، - فغضب النبي صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً «(1/2251)
فنزل : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ * فاصبر على مَا يَقُولُونَ } [ ق : 3839 ] .(1/2252)
فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ (13) إِذْ جَاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ قَالُوا لَوْ شَاءَ رَبُّنَا لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً فَإِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (14) فَأَمَّا عَادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَقَالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي أَيَّامٍ نَحِسَاتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَخْزَى وَهُمْ لَا يُنْصَرُونَ (16) وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ الْعَذَابِ الْهُونِ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَنَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (18)
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بما جئتهم به من الحق ، إن أعرضتم عما جئتكم به من عند الله تعالى ، فإني أنذركم حلول نقمة الله بكم ، كما حلَّت بالأُمم الماضين من المكذبين بالمرسلين { صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } أي ومن شاكلهما ممن فعل كفعلهما ، { إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } ، كقوله تعالى : { وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } [ الأحقاف : 21 ] أي ما أحل الله بأعدائه من النقم ، وما ألبس أولياءه من النعم ، ومع هذا ما آمنوا ولا صدقوا بل كذبوا وجحدوا وقالوا : { لَوْ شَآءَ رَبُّنَا لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً } أي لو أرسل الله رسلاً لكانوا ملائكة من عنده { فَإِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ } أي أيها البشر { كَافِرُونَ } أي لا نتبعكم وأنتم بشر مثلنا ، قال الله تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض } أي بغوا وعتوا وعصوا { وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } ؟ أي منوا بشدة تركيبهم وقواهم واعتقدوا أنهم يمتنعون بها من بأس الله ، { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً } أي أفما يتفكرون فيمن يبارزون بالعداوة ، فإنه العظيم الذي خلق الأشياء وركب فيها قواها الحاملة لها ، وأن بطشه شديد فلهذا قال : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } قال بعضهم : وهي شديدة الهبوب ، وقيل : الباردة ، وقيل : هي التي لها صوت . والحق أنها متصفة بجميع ذلك ، فإنها كانت ريحاً شديدة قوية ، وكانت باردة شديدة البرد جداً ، وكانت ذات صوت مزعج . وقوله تعالى : { في أَيَّامٍ نَّحِسَاتٍ } أي متتابعات كقوله : { فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } [ القمر : 19 ] أي ابتدِئوا بهذا العذاب في يوم نحس عليهم واستمر بهم هذا النحس { سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً } [ الحاقة : 7 ] حتى أبادهم عن آخرهم ، واتصل بهم خزي الدنيا بعذاب الآخرة ، ولهذا قال : { لِّنُذِيقَهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخرة أخزى } أشد خزياً لهم ، { وَهُمْ لاَ يُنصَرُونَ } أي في الأخرى كما لم ينصروا في الدنيا ، وقوله عزّ وجلّ : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } قال ابن عباس : بيّنّا لهم ، وقال الثوري : دعوناهم { فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } أي بصرناهم وبيّنّا لهم ووضَّحنا لهم الحق على لسان نبيّهم صالح عليه الصلاة والسلام ، وفخالفوه وكذبوه وعقروا ناقة الله تعالى التي جعلها آية وعلامة على صدق نبيهم ، { فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون } أي بعث الله عليهم صيحة ورجفة ، وذلاً وهواناً ، وعذاباً ونكالاً ، { بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي من التكذيب والجحود ، { وَنَجَّيْنَا الذين آمَنُواْ } أي من بين أظهرهم لم يمسهم سوء ، ولا نالهم من ذلك ضرر ، بل نجاهم الله تعالى مع نبيهم صالح عليه الصلاة والسلام بإيمانهم وتقواهم لله عزّ وجلّ .(1/2253)
وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَاءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذَا مَا جَاءُوهَا شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَقَالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنَا قَالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ وَإِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَمَا هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)
يقول تعالى : { وَيَوْمَ يُحْشَرُ أَعْدَآءُ الله إِلَى النار فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي اذكر لهؤلاء المشركين يوم يحشرون إلى النار { يُوزَعُونَ } أي تجمع الزبانية أولهم على آخرهم ، كما قال تعالى : { وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً } [ مريم : 86 ] أي عطاشاً ، وقوله عزّ وجلّ : { حتى إِذَا مَا جَآءُوهَا } أي وقفوا عليها { شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَأَبْصَارُهُمْ وَجُلُودُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي بأعمالهم مما قدموه وأخروه لا يكتم منه خوف ، { وَقَالُواْ لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدتُّمْ عَلَيْنَا } أي لاموا أعضاءهم وجلودهم حين شهدوا عليهم فعند ذلك أجابتهم الأعضاء { قالوا أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي فهو لا يخالف ولا يمانع وإليه ترجعون ، عن أنَس بن مالك رضي الله عنه قال : « » ضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وتبسم فقال صلى الله عليه وسلم : ألا تسألوني عن أي شيء ضحكت؟ « قالوا : يا رسول الله من أي شيء ضحكت؟ قال صلى الله عليه وسلم : » عجبت من مجادلة العبد ربه يوم القيامة ، يقول : أي ربي أليس وعدتني أن لا تظلمني ، قال : بلى ، فيقول : فإنني لا أقبل عليَّ شاهداً إلا من نفسي ، فيقول الله تبارك وتعالى : أو ليس كفى بي شهيداً والملائكة الكرام الكاتبين - قال - فيردد هذا الكلام مراراً - قال - فيختم على فيه ، وتتكلم أركانه بما كان يعمل ، فيقول : بعداً لكُنَّ وسحقاً ، عنكن كنت أجادل « ، وقال أبو موسى : » يدعى الكافر والمنافق للحساب ، فيعرض عليه ربه عزّ وجلّ عمله ، فيجحد ، ويقول : أي رب وعزتك لقد كتب عليَّ هذا الملك ما لم أعمل ، فيقول له الملك : أما عملت كذا في يوم كذا فيم كان كذا؟ فيقول : لا وعزتك ، أي رب ما عملته ، قال : فإذا فعل ذلك ختم على فيه ، قال الأشعري فإني لأحسب أول ما ينطق منه فخذه اليمنى « ، وروى الحافظ أبو يعلى ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » إذا كان يوم القيامة عرف الكافر بعمله فجحد وخاصم ، فيقول : هؤلاء جيرانك يشهدون عليك ، فيقول : كذبوا فيقول : أهلك وعشيرتك ، فيقول : كذبوا ، فيقول : احلفوا ، فيحلفون ، ثم يصمتهم الله تعالى ، وتشهد عليهم ألسنتهم ويدخلهم النار « .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما : إن يوم القيامة يأتي على الناس منه حين لا ينطقون ولا يعتذرون ولا يتكلمون ، وحتى يؤذن لهم ، فيختصمون ، فيجحد الجاحد بشركه بالله تعالى ، فيحلفون له كما يحلفون لكم فيبعث الله تعالى عليهم حين يجحدون شهداء من أنفسهم ، جلودهم وأبصارهم وأيديهم وأرجلهم ويختم على أفواههم ، ثم يفتح لهم الأفواه ، فتخاصم الجوارح ، فتقول : { أَنطَقَنَا الله الذي أَنطَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } فتقر الألسنة بعد الجحود .(1/2254)
وقوله تعالى : { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ } أي تقول لهم الأعضاء والجلود حين يلومونها على الشهادة عليهم : ما كنتم تكتمون منا الذي كنتم تفعلونه ، بل كنتم تجاهرون الله بالكفر والمعاصي ، ولا تبالون منه في زعمكم لأنكم كنتم لا تعتقدون أنه يعلم جميع أفعالكم ، ولهذا قال تعالى : { ولكن ظَنَنتُمْ أَنَّ الله لاَ يَعْلَمُ كَثِيراً مِّمَّا تَعْمَلُونَ * وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ } أي هذا الظن الفاسد وهو اعتقادكم أن الله تعالى لا يعلم كثيراً مما تعملون ، هو الذي أتلفكم وأرداكم عند ربكم { فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين } أي في مواقف القيامة خسرتم أنفسكم وأهليكم . روى الإمام أحمد ، عن عبد الله رضي الله عنه قال : كنت مستتراً بأستار الكعبة ، فجاء ثلاثة نفر قرشي وختناه يقفيان أو ثقفي وختناه قرشيان كثير شحم بطونهم ، قليل فقه قلوبهم ، فتكلموا بكلام لم أسمعه ، فقال أحدهم : أترون أن اله يسمع كلامنا هذا؟ فقال الآخر : إنا إذا رفعنا أصواتنا سمعه وإذا لم نرفعه لم يسمعه ، فقال الآخر : إن سمع منه شيئاً سمعه كله ، قال : فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَن يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلاَ أَبْصَارُكُمْ وَلاَ جُلُودُكُمْ } إلى قوله { مِّنَ الخاسرين } . وروى الإمام أحمد ، عن جابر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يموتن أحد منكم إلا وهو يحسن بالله الظن ، فإن قوماً قد أرادهم سوء ظنهم بالله ، فقال الله تعالى : { وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الذي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِّنَ الخاسرين } » وقوله تعالى : { فَإِن يَصْبِرُواْ فالنار مَثْوًى لَّهُمْ وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين } أي سواء عليهم صبروا أم لم يصبروا ، هم في النار لا محيد لهم عنها ، ولا خروج لهم منها ، وإن طلبوا أن يستعتبوا ويبدوا أعذاراً فما لهم أعذار ، ولا تقال لهم عثرات ، قال ابن جرير : ومعنى قوله تعالى : { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ } أي يسألوا الرجعة إلى الدنيا فلا جواب لهم ، قال : وهذا كقوله تعالى إخباراً عنهم : { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ * قَالَ اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } [ المؤمنون : 106-108 ] .(1/2255)
وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَاءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (25) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذَابًا شَدِيدًا وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذَلِكَ جَزَاءُ أَعْدَاءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ جَزَاءً بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (28) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنَا أَرِنَا اللَّذَيْنِ أَضَلَّانَا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)
يذكر تعالى أنه هو الذي أضل المشركين ، وأن ذلك بمشيئته وكونه وقدرته ، وهو الحكيم في أفعاله بما قيض لهم من القرناء من شياطين الإنس والجن ، { فَزَيَّنُواْ لَهُم مَّا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي حسنوا لهم أعمالهم فلم يروا أنفسهم إلا محسنين ، كما قال تعالى : { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } [ الزخرف : 37 ] ، وقوله : { وَحَقَّ عَلَيْهِمُ القول } أي كلمة العذاب كما حق على أمم قد خلت من قبلهم ، ممن فعل كفعلهم من الجن والإنس ، { إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } أي استووا هم وإياهم في الخسار والدمار ، وقوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن } أي تواصوا فيما بينهم أن لا يطيعوا القرآن ولا ينقادوا لأوامره ، { والغوا فِيهِ } أي إذا تلي لا تسمعوا له ، كما قال مجاهد : { والغوا فِيهِ } يعني بالمكاء والصفير والتخليط في المنطق على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ القرآن وكانت قريش تفعله ، وقال الضحاك عن ابن عباس : { والغوا فِيهِ } عيبوه ، وقال قتادة : اجحدوا به وأنكروه وعادوه ، { لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ } هذا حال هؤلاء الجهلة من الكفار ومن سلك مسلكهم عند سماع القرآن ، وقد أمر الله سبحانه وتعالى عباده المؤمنين بخلاف ذلك ، فقال تعالى : { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأعراف : 204 ] ، ثم قال عزّ وجلّ { فَلَنُذِيقَنَّ الذين كَفَرُواْ عَذَاباً شَدِيداً } أي في مقابلة ما اعتقدوه في القرآن وعند سماعه ، { وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي بشر أعمالهم وسيء أفعالهم ، { ذَلِكَ جَزَآءُ أَعْدَآءِ الله النار لَهُمْ فِيهَا دَارُ الخُلْدِ جَزَآءً بِمَا كَانُوا بِآياتِنَا يَجْحَدُونَ * وَقَال الَّذِينَ كَفَرُواْ رَبَّنَآ أَرِنَا الذين أَضَلاَّنَا مِنَ الجن والإنس نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين } . عن علي رضي الله عنه في قوله تعالى : { الذين أَضَلاَّنَا } قال : إبليس وابن آدم الذي قتل آخاه ، فإبليس الداعي إلى كل شرّ من شرك فيما دونه ، وابن آدم الأول كما ثبت في الحديث : « ما قتلت نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل » ، وقولهم : { نَجْعَلْهُمَا تَحْتَ أَقْدَامِنَا } أي أسفل منا من العذاب ليكونا أشد عذاباً منا ، ولهذا قالوا { لِيَكُونَا مِنَ الأسفلين } أي في الدرك الأسفل من النار ، كما تقدم في الأعراف في سؤال الأتباع من الله تعالى أن يعذب قادتهم أضعاف عذابهم ، { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ] أي أنه تعالى قد أعطى كلاً منهم ما يستحقه من العذاب و النكال بحسب عمله وإفساده ، كما قال تعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ] .(1/2256)
إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةُ أَلَّا تَخَافُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِيَاؤُكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ (31) نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32)
يقول تعالى : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } أي أخلصوا العمل لله ، وعملوا بطاعة الله تعالى على ما شرع الله لهم ، قال الحافظ أبو يعلى الموصلي ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } قد قالها ناس ثم كفر أكثرهم ، فمن قالها حتى يموت فقد استقام عليها » وعن سعيد بن عمران قال : « قرأت عند أبي بكر الصديق رضي الله عنه هذه الآية { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } قال : هم الذين لم يشركوا بالله شيئاً » وقال عكرمة : سئل ابن عباس رضي الله عنهما : أي آية في كتاب الله تبارك وتعالى أرخص قال ، قوله تعالى : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } على شهادة أن لا إلا الله . وقال الزهري : تلا عمر رضي الله عنه هذه الآية على المنبر ، ثم قال : استقاموا والله لله بطاعته ولم يروغوا روغان الثعالب . وقال ابن عباس رضي الله عنهما : { ثُمَّ استقاموا } على أداء فرائضه ، وكان الحسن يقول : اللهم أنت ربنا فارزقنا الاستقامة ، وقال أبو العالية : { ثُمَّ استقاموا } أخلصوا له الدين والعمل ، وعن سفيان بن عبد الله الثقفي قال ، « قلت : يا رسول الله حدثني بأمر اعتصم به ، قال صلى الله عليه وسلم : » قل ربي الله ثم استقم « ، قلت : يا رسول الله ما أكثر ما تخاف علي؟ فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بطرف لسان نفسه ، ثم قال : » هذا « ، وفي رواية : قلت : يا رسول الله قل لي في الإسلام قولاً لا أسأل عنه أحداً بعدك ، قال صلى الله عليه وسلم : » قل آمنت بالله ثم استقم « » .
وقوله تعالى : { تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة } قال مجاهد والسدي : يعني عند الموت قائلين : { أَلاَّ تَخَافُواْ } أي ما تقدمون عليه من أمر الآخرة { وَلاَ تَحْزَنُواْ } على ما خلفتموه من أمر الدنيا من ولد وأهل ومال أو دين ، فإنا نخلفكم فيه ، { وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } فيبشرونهم بذهاب الشر وحصول الخير ، وهذا كما جاء في حديث البراء رضي الله عنه قال : « إن الملائكة تقول لروح المؤمن : اخرجي أيتها الروح الطيبة في الجسد الطيب كنت تعمرينه ، اخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان » ، وقيل : إن الملائكة تتنزل عليهم يوم خروجهم من قبورهم ، وقال زيد بن أسلم : يبشرونه عند موته وفي قبره وحين يبعث ، وهذا القول يجمع الأقوال كلها وهو حسن جداً ، وقوله تبارك وتعالى : { نَحْنُ أَوْلِيَآؤُكُمْ فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة } أي تقول الملائكة للمؤمنين عند الاحتضار : نحن كنا أوليائكم ، أي قرنائكم في الحياة الدنيا ، نسددكم ونوفقكم ونحفظكم بأمر الله ، وكذلك نكون معكم في الآخرة نؤنس منكم الوحشة في القبور ، وعند النفخة في الصور ، ونؤمنكم يوم البعث والنشرو ، { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تشتهي أَنفُسُكُمْ } أي في الجنة من جميع ما تختارون مما تشتهيه النفوس وتقر به العيون { وَلَكُمْ فِيهَا مَا تَدَّعُونَ } أي مهما طلبتم وجدتم وحضر بين أيديكم كما اخترتم { نُزُلاً مِّنْ غَفُورٍ رَّحِيمٍ } أي ضيافة وعطاء { مِّنْ غَفُورٍ } لذنوبكم { رَّحِيمٍ } بكم حيث غفر وستر ، ورحم ولطف ، وفي الحديث :(1/2257)
« » من أحب لقاء الله أحب الله لقاءه ، ومن كره لقاء الله كره الله لقاءه « ، قلنا : يا رسول الله : كلنا نكره الموت ، قال صلى الله عليه سلم : » ليس ذلك كراهية الموت ولكن المؤمن إذا حضِرَ جاءه البشير من الله تعالى بما هو صائر إليه ، فليس شيء أحب إليه من أن يكون قد لقي الله تعالى ، فأحب الله لقاءه ، قال : وإن الفاجر ، أو الكافر ، إذا حضر جاءه بما هو صائر إليه من الشر أو ما يلقى من الشر ، فكره لقاء الله فكره الله لقاءه « » .(1/2258)
وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34) وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)
يقول عزّ وجلّ : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله } أي دعا عباد الله إليه { وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين } أي وهو في نفسه مهتد فنفعه لنفسه ولغيره ، وليس هو من الذين يأمرون بالمعروف ولا يأتونه ، بل يأتمر بالخير ويترك الشر ، وهذه عامة في كل من دعا إلى خير ، وهو في نفسه مهتد ، وقيل : المراد بها المؤذنون الصلحاء ، كما ثبت في « صحيح مسلم » : « » المؤذنون أطول الناس أعناقاً يوم القيامة « ، وقال عمر رضي الله عنه : لو كنت مؤذناً لكمل أمري ، وما بليت أن لا أنتصب لقيام الليل ولا لصيام النهار ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : اللهم اغفر للمؤذنين » ثلاثاً ، قال : فقلت : يا رسول الله تركتنا ونحن نجتلد على الأذان بالسيوف ، قال صلى الله عليه وسلم : « كلا يا عمر ، إنه سيأتي على الناس زمان يتركون الأذان على ضعفائهم ، وتلك لحوم حرمها الله عزّ وجلّ على النار لحوم المؤذنين » . وقالت عائشة رضي الله عنها في قوله تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَآ إِلَى الله وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ المسلمين } قالت : فهو المؤذن إذا قال : حي على الصلاة فقد دعا إلى الله ، وهكذا قال ابن عمر رضي الله عنهما وعكرمة : إنها نزلت في المؤذنين ، والصَّحيح أن الآية عامة في المؤذنين وفي غيرهم ، فأما حال نزول هذه الآية فإنه لم يكن الأذان مشروعاً بالكلية ، لأنها مكية ، والأذان إنما شرع بالمدينة بعد الهجرة ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة } أي فرق عظيم بين هذه وهذه ، { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ } أي من أساء إليك فادفعه عند بالإحسان إليه ، كما قال عمر رضي الله عنه : ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه .
وقوله عزَّ وجلَّ : { فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } وهو الصديق أي إذا أحسنت إلى من أساء إليك قادته الحسنة إليه إلى مصافاتك ومحبتك والحنو عليك حتى يصير { كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } أي قريب إليك من الشفقة عليك والإحسان إليك ، ثم قال عزَّ جلَّ : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } أي وما يقبل هذه الوصية ويعمل بها إلا من صبر على ذلك ، فإنه يشق على النفوس ، { وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي ذو نصيب وافر من السعادة في الدنيا والآخرة ، قال ابن عباس في تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين بالصبر عند الغضب ، والحلم عند الجهل ، والعفو عند الإساءة ، فإذا فعلوا ذلك عصمهم من الشيطان ، وخضع لهم عدوهم كأنه ولي حميم ، وقوله تعالى : { وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله } أي أن شيطان الإنس ربما ينخدع بالإحسان إليه ، فأما شيطان الجن فإنه لا حلية فيه إذا وسوس ، إلا الاستعاذة بخالقه الذي سلطه عليك ، فإذا استعذت بالله والْتَجَأْت إليه ، كفه عنك ، ورَدّ كيده ، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام إلى الصلاة يقول : « أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزة ونفخة ونفثه » .(1/2259)
وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لَا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلَا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُمْ لَا يَسْأَمُونَ (38) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
يقول تعالى منبهاً خلقه على قدرته العظيمة ، وأنه الذي لا نظير له وأنه على ما يشاء قادر : { وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر } أي أنه خلق الليل بظلامه ، والنهار بضيائه ، وهما متعاقبان لا يفتران ، والشمس ونورها وإشراقها والقمر وضياءه وتقدير منازله في فكله ، واختلاف سيره في سمائه ، ليعرف باختلاف سيره وسير الشمس مقادير الليل والنهار ، والشهور والأعوام ، ويتبين بذلك حلول أوقات العبادات والمعاملات ، ثم لما كان الشمس والقمر أحسن الأجرام المشاهدة في العالم العلوي والسفلي ، نبه تعالى على أنهما مخلوقان عبدان من عبيده ، تحت قهره وتسخيره فقال : { لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } أي ولا تشركوا به فما تنفعكم عبادتكم له مع عبادتكم لغيره ، فإنه لا يغفر أن يشرك به ، ولهذا قال تعالى : { فَإِنِ استكبروا } أي عن إفراد العبادة له وأبوا إلا أن يشركوا معه غيره ، { فالذين عِندَ رَبِّكَ } يعني الملائكة { يُسَبِّحُونَ لَهُ بالليل والنهار وَهُمْ لاَ يَسْأَمُونَ } كقوله عزّ وجلّ : { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هؤلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } [ الأنعام : 89 ] . وروى الحافظ أبو يعلى ، عن جابر رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تسبوا الليل ولا النهار ولا الشمس ولا القمر ولا الرياح فإنها ترسل رحمة لقوم وعذاباً لقوم » وقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ } أي على قدرته على إعادة الموتى { أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً } أي هامدة لا نبات فيها بل هي ميتة ، { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ } أي أخرجت من جميع ألوان الزروع والثمار ، { إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .(1/2260)
إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آيَاتِنَا لَا يَخْفَوْنَ عَلَيْنَا أَفَمَنْ يُلْقَى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِنًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ اعْمَلُوا مَا شِئْتُمْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) مَا يُقَالُ لَكَ إِلَّا مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ (43)
قوله تبارك وتعالى : { إِنَّ الذين يُلْحِدُونَ في آيَاتِنَا } قال ابن عباس : الإلحاد وضع الكلام على غير مواضعه ، وقال قتادة : هو الكفر والعناد ، وقوله عزّ وجلّ : { لاَ يَخْفَوْنَ عَلَيْنَآ } فيه تهديد شديد ووعيد أكيد أي أنه تعالى عالم بمن يلحد في آياته وأسمائه وصفاته ، وسيجزيه على ذلك بالعقوبة والنكال ، ولهذا قال تعالى : { أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة } ؟ أي أيستوي هذا وهذا؟ لا يستويان ، ثم قال عزّ وجلّ تهديداً للكفرة : { اعملوا مَا شِئْتُمْ } . قال مجاهد { اعملوا مَا شِئْتُمْ } وعيد أي من خير أو شر إنه عالم بكم وبصير بأعمالكم ، ولهذا قال : { إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ثم قال جل جلاله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بالذكر لَمَّا جَآءَهُمْ } قال الضحاك هو القرآن ، { وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ } أي منيع الجناب لا يرام أن يأتي أحد مثله ، { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ } أي ليس للبطلان إليه سبيل . لأنه منزل من رب العالمين ، ولهذا قال : { تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } أي حكيم في أقواله وأفعاله ، حميد بمعنى محمود أي في جميع ما يأمر به وينهى عنه ، ثم قال عزّ وجلّ : { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } ، قال قتادة والسدي : ما يقال لك من التكذيب إلا كما قد قيل للرسل من قبلك فكما كذبت كذبوا ، وكما صبروا على أذى قومهم لهم فاصبر أنت على أذى قومك لك ، وهذا اختيار ابن جرير . وقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } أي لمن تاب إليه ، { وَذُو عِقَابٍ أَلِيمٍ } أي لمن استمر على كفره و طغيانه ، وعناده وشقاقه ومخالفته . قال سعيد بن المسيب : لمّا نزلت هذه الآية : { إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحداً العيش ، ولولا وعيده وعقابه لاتكل كل أحد » .(1/2261)
وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (44) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45)
لما ذكر تعالى القرآن وفصاحته وبلاغته ومع هذا لم يؤمن به المشركون ، نبه على أن كفرهم به كفر عناد وتعنت ، كما قال عزّ وجلّ : { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ على بَعْضِ الأعجمين * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 198-199 ] الآيات ، وكذلك لو أنزل القرآن كله بلغة العجم لقالوا على جه التعنت والعناد { لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } أي لقالوا هلاَّ أنزل مفصلاً بلغة العرب ولأنكروا ذلك ، فقالوا : { ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } أي كيف ينزل كلام أعجمي على مخاطب عربي لا يفهمه؟ وقيل : المراد بقولهم : { لَوْلاَ فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ } أي هل أنزل بعضها بالأعجمي وبعضها بالعربي؟ هذا قول الحسن البصري وكان يقرؤها كذلك بلا استفهام في قوله أعجمي ، وهو في التعنت والعناد أبلغ ، ثم قال عزّ و جلّ : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } أي قل يا محمد : هذا القرآن لمن آمن به هدى لقلبه ، وشفاء ، وشفاء لما في الصدور من الشكوك والريب ، ثم قال تعالى : { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ } ألا يفهمون ما فيه ، { وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } أي لا يهتدون إلى ما فيه من البيان كما قال سبحانه وتعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] ، { أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } قال مجاهد : يعني بعيد من قلوبهم ، قال ابن جرير : معناه كأن من يخاطبهم يناديهم من مكان بعيد لا يفهمون ما يقول ، قلت : وهذا كقوله تعالى : { وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 171 ] ، وقال الضحاك : ينادون يوم القيامة بأشنع أسمائهم ، وقوله تبارك وتعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب فاختلف فِيهِ } أي كذب وأوذي ، { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } [ الشورى : 14 ] بتأخير الحساب إلى يوم المعاد { لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي لعجل لهم العذاب ، بل لهم موعد لن يجدوا من دونه موئلاً ، { وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } أي وما كان تكذيبهم له عن بصيرة منهم لما قالوا ، بل كانوا شاكين فيما قالوه غير محقيين لشيء كانوا فيه ، هكذا وجهه ابن جرير وهو محتمل والله أعلم .(1/2262)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا وَمَا رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (46) إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَمَا تَخْرُجُ مِنْ ثَمَرَاتٍ مِنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أُنْثَى وَلَا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَائِي قَالُوا آذَنَّاكَ مَا مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَظَنُّوا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)
يقول تعالى : { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ } أي إنما يعود نفع ذلك على نفسه ، { وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } أي إنما يرجع وبال ذلك عليه ، { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أي لا يعاقب أحداً إلا بذنبه ، ولا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه ، ثم قال جلّ وعلا : { إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ الساعة } أي لا يعلم ذلك أحد سواه ، كما قال سيد البشر لجبريل عليه السلام حين سأله عن الساعة ، فقال : « ما المسؤول عنها بأعلم من السائل » ، وكما قال عزّ وجلّ : { إلى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ } [ النازعات : 44 ] ، وقال جلّ جلاله : { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] ، وقوله تبارك وتعالى : { وَمَا تَخْرُجُ مِن ثَمَرَاتٍ مِّنْ أَكْمَامِهَا وَمَا تَحْمِلُ مِنْ أنثى وَلاَ تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ } أي الجميع بعلمه لا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، كقوله : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } [ الأنعام : 59 ] ، وقوله تعالى : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } [ فاطر : 11 ] وقوله جل وعلا : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكَآئِي } أي يوم القيامة ينادي الله المشركين على رؤوس الخلائق ، أين شركائي الذين عبدتموهم معي؟ { قالوا آذَنَّاكَ } أي أعلمناك ، { مَا مِنَّا مِن شَهِيدٍ } أي ليس أحد منا يشهد اليوم أن معك شريكاً ، { وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَدْعُونَ مِن قَبْلُ } أي ذهبوا فلم ينفعوهم ، { وَظَنُّواْ مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } أي وأيقن المشركون يوم القيامة { مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } أي لا محيد لهم من عذاب الله ، كقوله تعالى : { وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً } [ الكهف : 53 ] .(1/2263)
لَا يَسْأَمُ الْإِنْسَانُ مِنْ دُعَاءِ الْخَيْرِ وَإِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ (49) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هَذَا لِي وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُجِعْتُ إِلَى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنَى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِمَا عَمِلُوا وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (50) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعَاءٍ عَرِيضٍ (51)
يقول تعالى : لا يمل الإنسان من دعاء ربه بالخير وهو المال وصحة الجسم وغير ذلك ، { وَإِن مَّسَّهُ الشر } وهو البلاء أو الفقر { فَيَئُوسٌ قَنُوطٌ } أي يقع في ذهنه أنه لا يتهيأ له بعد هذا خير ، { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي } أي إذا أصابه خير ورزق بعدما كان في شدة ليقولن هذا لي إني كنت أستحقه عند ربي { وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً } أي يكفر بقيام الساعة ، أي لأجل أنه خوّل نعمة يبطر ويفخر ويكفر ، كما قال تعالى : { كَلاَّ إِنَّ الإنسان ليطغى * أَن رَّآهُ استغنى } [ العلق : 6-7 ] ، { وَلَئِن رُّجِعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى } أي ولئن كان ثم معاد فليحسنن إليَّ ربي كما أحسن إليّ في هذه الدار ، يتمنى على الله عزّ وجلّ مع إساءته العمل وعدم اليقين ، قال الله تبارك وتعالى : { فَلَنُنَبِّئَنَّ الذين كَفَرُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ } يتهدد تعالى من كان هذا عمله واعتقاده بالعقاب والنكال ، ثم قال تعالى : { وَإِذَآ أَنْعَمْنَا عَلَى الإنسان أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ } أي أعرض عن الطاعة واستكبر عن الانقياد لأوامر الله عزّ وجلّ ، كقوله جلّ جلاله : { فتولى بِرُكْنِهِ } [ الذاريات : 39 ] ، { وَإِذَا مَسَّهُ الشر } أي الشدة { فَذُو دُعَآءٍ عَرِيضٍ } أي يطيل المسألة في الشيء الواحد ، فالكلام العريض ما طال لفظه وقل معناه ، والوجيز عكسه وهو ما قل ودل ، وقد قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّ الإنسان الضر دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ } [ يونس : 12 ] الآية .(1/2264)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (52) سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (53) أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَاءِ رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ (54)
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين المكذبين بالقرآن { أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ } هذا القرآن { مِنْ عِندِ الله ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ } أي كيف ترون حالكم عند الذي أنزله على رسوله؟ ولهذا قال عزّ وجلّ : { مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } ؟ أي في كفر وعناد ومشاقة للحق ومسلك بعيد من الهدى ، ثم قال جلّ جلاله : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ } أي سنظهر لهم دلالالتنا وحججنا على كون القرآن حقاً منزلاً من عند الله ، على رسول الله صلى الله عليه وسلم بدلائل خارجية { ي الآفاق } من الفتوحات وظهور الإسلام على الأقاليم وسائر الأديان . قال مجاهد والحسن والسدي : { وفي أَنفُسِهِمْ } قالوا : وقعة بدر وفتح مكة ونحو ذلك ، من الوقائع التي نصر الله فيها محمداً صلى الله عليه وسلم وصحبه ، وخذل فيها الباطل وحزبه ، ويحتمل أن يكون المراد ما الإنسان مركب منه ، من المواد والأخلاط والهيئات العجيبة ، كما هو مبسوط في علم التشريح ، الدال على حكمة الصانع تبارك وتعالى .
وقوله تعالى : { حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } ؟ أي كفى بالله شهيداً على أفعال عباده وأقوالهم ، وهو يشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم صادق فيما أخبر به عنه ، كما قال : { لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء : 166 ] الآية . وقوله تعالى : { أَلاَ إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآءِ رَبِّهِمْ } أي في شك من قيام الساعة ، ولهذا لا يتفكرون فيه ولا يعملون له وهو كائن لا محالة وواقع لا ريب فيه ، ثم قال تعالى مقرراً على كل شيء قدير { أَلاَ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ } أي المخلوقات كلها تحت قهره وفي قبضته ، وهو المتصرف فيها كلها بحكمه فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .(1/2265)
حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة ، وقوله عزّ وجلّ : { كَذَلِكَ يوحي إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ الله العزيز الحكيم } أي كما أنزل إليك هذا القرآن كذلك أنزل على الأنبياء قبلك ، وقوله تعالى : { الله العزيز } أي في انتقامه ، { الحكيم } في أقواله وأفعاله ، عن عائشة رضي الله عنها قالت : « إن ( الحارث بن هشام ) سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أحياناً يأتيني مثل صلصلة الجرس ، وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت ما قال ، وأحياناً يأتيني المَلك رجلاً ، فيكلمني فأعي ما يقول « . قالت عائشة رضي الله عنها : فلقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه ، وإن جبينه صلى الله عليه وسلم ليتفصد عرقاً » وعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : « سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت : يا رسول الله هل تحس بالوحي؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » اسمع صلاصل ، ثم أسكت عند ذلك ، فما من مرة يوحى إليَّ إلا ظننت أن نفسي تقبض « » وقوله تبارك وتعالى : { لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } أي الجميع عبيد له وملك له تحت قهره وتصريفه { وَهُوَ العلي العظيم } كقوله تعالى : { الكبير المتعال } [ الرعد : 9 ] ، { وَهُوَ العلي الكبير } [ سبأ : 23 ] ، والآيات في هذا كثيرة . وقوله عزّ وجلّ : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ } قال ابن عباس والسدي : أي فَرَقاً من العظمة ، { والملائكة يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الأرض } كقوله عزّ وجلّ : { الذين يَحْمِلُونَ العرش وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } [ غافر : 7 ] ، وقوله جلّ جلاله : { أَلاَ إِنَّ الله هُوَ الغفور الرحيم } إعلام بذلك وتنويه به ، وقوله سبحانه وتعالى : { والذين اتخذوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } يعني المشركين { الله حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ } أي شهيد على أعمالهم يحصيها ويعدها عداً ، وسيجزيهم بها أوفر الجزاء ، { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أي إنما أنت نذير والله على كل شيء وكيل .(1/2266)
وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8)
يقول تعالى : وكما أوحينا إلى الأنبياء قبلك { أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً } أي واضحاً جلياً بيِّناً { لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى } وهي مكة ، { وَمَنْ حَوْلَهَا } أي من سائر البلاد شرقاً وغرباً ، وسميت مكة ( أم القرى ) لأنها أشرف من سائر البلاد لأدله كثيرة منها قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت » وقوله عزّ وجلّ : { وَتُنذِرَ يَوْمَ الجمع } وهو يوم القيامة يجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ، وقوله تعالى : { لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك في وقوعه وأنه كائن لا محالة { فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير } ، كقوله تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الجمع ذَلِكَ يَوْمُ التغابن } [ التغابن : 9 ] أي يغبن أهل الجنة أهل النار ، وكقوله عزّ وجل : { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] . روى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال : « خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي يده كتابان ، فقال : » أتدرون ما هذان الكتابان «؟ قلنا : لا ، إلا أن تخبرنا يا رسول الله ، قال صلى الله عليه وسلم للذي في يمينه : » هذا كتاب من رب العالمين بأسماء أهل الجنة وأسماء آبائهم وقبائلهم ، وثم أجمل على آخرهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً ، ثم قال صلى الله عليه وسلم للذي في يساره : « هذا كتاب أهل النار بأسمائهم وأسماء آبائهم وقبائلهم » ، ثم أجمع على آخرهم لا يزاد فيهم ولا ينقص منهم أبداً ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : فلأي شيء نعمل إن كان هذا أمر قد فرغ منه؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سدّدوا وقاربوا ، فإن صاحب الجنة يختم له بعمل أهل الجنة وإن عمل أي عمل ، وإن صاحب النار يختم له بعمل أهل النار وإن عمل أي عمل » ، ثم قال صلى الله عليه وسلم بيده فقبضها ، ثم قال : « فرغ ربكم عزّ وجلّ من العباد ، ثم قال باليمنى فنبذ بها فقال : فريق في الجنة ، ونبذ باليسرى وقال : فريق في السعير » « .
وقوله تبارك وتعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي إما على الهداية أو على الضلالة ، ولكنه تعالى فاوت بينهم ، فهدى من يشاء إلى الحق ، وأضل من يشاء عنه ، وله الحكمة والحجة البالغة ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { ولكن يُدْخِلُ مَن يَشَآءُ فِي رَحْمَتِهِ والظالمون مَا لَهُمْ مِّن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } وقال ابن جرير : إن موسى عليه الصلاة والسلام قال : يا رب خلقك الذين خلقتهم ، جعلت منهم فريقاً في الجنة وفريقاً في النار ، لو ما أدختلم كلهم الجنة؟ فقال : يا موسى أرفع درعك ، فرفع ، قال : قد رفعت ، قال : ارفع ، فرفع ، فلم يترك شيئاً ، قال : يا رب قد رفعت ، قال : ارفع ، قال : قد رفعت ، إلا ما لا خير فيه ، قال : كذلك أدخل خلقي كلهم الجنة إلا ما لا خير فيه .(1/2267)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12)
يقول تعالى منكراً على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ، ومخبراً أنه الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده ، فإنه هو القادر على إحياء الموتى ، وهو على كل شيء قدير ، ثم قال عزّ وجلّ : { وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله } أي مهما اختلفتم فيه من الأمور ، وهذا عام في جميع الأشياء { فَحُكْمُهُ إِلَى الله } أي هو الحاكم فيه بكتابه وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم ، كقوله جلّ وعلا : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } [ النساء : 59 ] ، { ذَلِكُمُ الله رَبِّي } أي الحاكم في كل شيء ، { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي أرجع في جميع الأمور . وقوله جل جلاله : { فَاطِرُ السماوات والأرض } أي خالقهما وما بينهما { جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } أي من جنسكم وشكلكم ، منَّة عليكم وتفضلاً ، جعل من جنسكم ذكراً وأُنثى ، { وَمِنَ الأنعام أَزْواجاً } أي وخلق لكم من الأنعام ثمانية أزواج ، وقوله تبارك وتعالى : { يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ } أي يخلقكم فيه على هذه الصفة ، لا يزال يذرؤكم فيه ذكوراً وإناثاً خلقاً من بعد خلق ، وجيلاً بعد جيل ، وقال البغوي { يَذْرَؤُكُمْ } أي في الرحم ، وقيل : في هذا الوجه من الخلقة ، قال مجاهد : نسلاً بعد نسل من الناس والأنعام . وقيل : « في » بمعنى الباء . أي يذرؤكم به . { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } أي ليس كخالق الأزواج كلها شيء ، لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له { وَهُوَ السميع البصير } ، وقوله تعالى : { لَهُ مَقَالِيدُ السماوات والأرض } تقدم تفسيره في سورة الزمر ، وحاصل ذلك أنه المتصرف الحاكم فيهما ، { يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } أي يوسع على من يشاء ويضيّق على من يشاء ، وله الحكمة والعدل التام . { إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } .(1/2268)
شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14)
يقول تعالى لهذه الأمة : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } ، فذكر أول الرسل بعد آدم هو ( نوح ) عليه السلام ، وآخرهم وهو ( محمد ) صلى الله عليه وسلم ، ثم ذكر من بين ذلك من أولي العزم ، وهو : إبراهيم وموسى وعيسى ابن مريم ، وهذه الآية انتظمت ذكر الخمسة ، كما اشتملت آية الآحزاب عليهم في قوله تبارك وتعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } [ الأحزاب : 7 ] الآية ، والدين الذي جاءت به الرسل كلهم ، هو عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال عزّ وجلّ : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] ، وفي الحديث : « نحن معشر الأنبياء أولاد علاّت ، ديننا واحد » أي القدر المشترك بينهم هو عبادة الله وحده لا شريك له ، وإن اختلفت شرائعهم ومناهجهم ، كقوله جلّ جلاله : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] ، ولهذا قال تعالى ههنا : { أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } أي أوصى الله تعالى جميع الأنبياء عليهم السلام بالائتلاف والجماعة ، ونهاهم عن الافتراق والاختلاف . وقوله عزّ وجلّ : { كَبُرَ عَلَى المشركين مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ } أي شق عليهم ، وأنكروا ما تدعوهم إليه يا محمد من التوحيد ، ثم قال جلّ جلاله : { الله يجتبي إِلَيْهِ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ } أي هو الذي يقدر الهداية لمن يستحقها ، ويكتب الضلالة على من آثرها على طريق الرشد ، ولهذا قال تعالى : { وَمَا تفرقوا إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم } أي إنما كان مخالفتهم للحق بعد بلوغه إليهم ، وقيام الحجة عليهم ، وما حملهم على ذلك إلا البغي والعناد ، ثم قال عزّ وجلّ : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي لولا الكلمة السالفة من الله تعالى بإنظار العباد إلى يوم المعاد ، لعجّل عليهم العقوبة في الدنيا سريعاً ، وقوله جلت عظمته : { وَإِنَّ الذين أُورِثُواْ الكتاب مِن بَعْدِهِمْ } يعني الجيل المتأخر بعد القرن الأول المذكب للحق { لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ } أي ليسوا على يقين من أمرهم وإيمانهم ، وإنما هم مقلدون لآبائهم وأسلافهم ، بلا دليل ولا برهان ، وهم في حيرة من أمرهم ، وشك مريب وشقاق بعيد .(1/2269)
فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَقُلْ آمَنْتُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)
اشتملت هذه الآية على عشر كلمات مستقلات ، كل منها منفصلة عن التي قبلها ، حكم برأسها ، قالوا : ولا نظير لها سوى آية الكرسي ، فإنها أيضاً عشرة فصول كهذه ، وقوله : { فَلِذَلِكَ فادع } أي فللذي أوحينا إليك من الدين الذي وصينا به جميع المرسلين قبلك ، أصحاب الشرائع المتبعة ، فادع الناس إليه ، وقوله عزّ وجلّ : { واستقم كَمَآ أُمِرْتَ } أي واستقم أنت ومن اتبعك على عبادة الله تعالى ، كما أمركم الله عزّ وجلّ . وقوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } يعني المشركين فيما اختلقوه فيه وكذبوه وافتروا من عبادة الأوثان . وقوله جلّ وعلا : { وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ } أي صدقت بجميع الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء لا نفرق بين أحد منهم . وقوله : { وَأُمِرْتُ لأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ } أي في الحكم كما أمرني الله . وقوله جلَّت عظمته { الله رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } أي هو المعبود لا إله غيره فنحن نقر بذلك اختياراً ، وأنتم وإن لم تفعلوه اختياراً فله يسجد من في العالمين طوعاً وإجباراً . وقوله تبارك وتعالى : { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أي نحن برآء منكم . قال سبحانه وتعالى : { وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس : 41 ] ، وقوله تعالى : { لاَ حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ } قال مجاهد : أي لا خصومة . قال السدي : وذلك قبل نزول آية السيف ، وهذا متجه ، لأن هذه الآية مكية وآية السيف بعد الهجرة ، وقوله عزّ وجلّ : { الله يَجْمَعُ بَيْنَنَا } أي يوم القيامة كقوله : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق وَهُوَ الفتاح العليم } [ سبأ : 26 ] . وقوله جلّ وعلا : { وَإِلَيْهِ المصير } أي المرجع والمآب يوم الحساب .(1/2270)
وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18)
يقول تعالى متوعداً الذين يصدون عن سبيل الله من آمن به { والذين يُحَآجُّونَ فِي الله مِن بَعْدِ مَا استجيب لَهُ } أي يجادلون المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله ، ليصدوهم عما سلكوه من طريق الهدى { حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ } أي باطله عند الله { وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ } أي منه { وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } أي يوم القيامة ، قال ابن عباس ومجاهد : جادلوا المؤمنين بعد ما استجابوا لله ولرسوله ، ليصدوهم عن الهدى ، وطمعوا أن تعود الجاهلية ، وقال قتادة : هم اليهود والنصارى قالوا لهم : ديننا خير من دينكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن خير منكم وأولى بالله منكم ، وقد كذبوا في ذلك . ثم قال تعالى : { الله الذي أَنزَلَ الكتاب بالحق } يعني الكتب المنزلة من عنده على أنبيائه { والميزان } وهو العدل والإنصاف ، وهذه كقوله تعالى : { وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط } [ الحديد : 25 ] ، وقوله : { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان * وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } [ الرحمن : 8-9 ] . وقوله تعالى : { وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ الساعة قَرِيبٌ } فيه ترهيب منها ، وتزهيد في الدنيا ، وقوله عزّ وجلّ : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } أي يقولون : متى هذا الوعد؟ وإنما يقولون ذلك تكذيباً واستبعاداً وكفراً وعناداً ، { والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا } أي خائفون وجلون من وقوعها { وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق } أي كائنة لا محالة ، فهم مستعدون لها عاملون من أجلها ، وقد روي « أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم بصوت جهوري ، وهو في بعض أسفاره ، فناداه ، فقال : يا محمد ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، نحواً من صوته : » هاؤم « ، فقال له : متى الساعة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ويحك إنها كائنة فما أعددت لها «؟ فقال : حب الله ورسوله ، فقال صلى الله عليه وسلم : » أنت مع من أحببت « » ، فقوله في الحديث : « المرء مع من أحب » ، هذا متواتر ، والغرض أنه لم يجبه عن وقت الساعة بل أمره بالاستعداد لها ، وقوله تعالى : { أَلاَ إِنَّ الذين يُمَارُونَ فَي الساعة } أي يجادلون في وجودها ، ويدفعون وقوعها { لَفِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } أي في جهل بيّن ، لأن الذي خلق السماوات والأرض ، قادر على إحياء الموتى بطريق الأولى والأحرى ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] .(1/2271)
اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22)
يقول تعالى مخبراً عن لطفه بخلقه في رزقه إياهم سواء منهم البر والفاجر ، كقوله عزّ وجلّ : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] الآية ، وقوله جلا وعلا : { يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ } أي يوسع على من يشاء { وَهُوَ القوي العزيز } أي لا يعجزه شيء ، ثم قال تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة } أي عمل الآخرة { نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } أي نقويه ونعينه على ما هو بصدده ، ونجزيه بالحسنة عشرة أمثالها ، إلى سبعمائة ضعف ، إلى ما يشاء الله ، { وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } أي ومن كان سعيه ليحصل له شيء من الدنيا ، وليس له إلى الآخرة هم بالكلية ، حرمه الله الآخرة وفاز بالصفقة الخاسرة في الدنيا والآخرة ، كقوله تبارك وتعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً } [ الإسراء : 18 ] ، وفي الحديث : « بشر هذه الأمة بالسناء والرفعة والنصر ، والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدنيا لم يكن له في الآخرة من نصيب » وقوله جل وعلا : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله } أي هم لا يتبعون ما شرع الله لك من الدين القويم ، بل يتبعون ما شرع لهم شياطينهم من الجن والإنس ، من تحريم ما حرموا عليهم من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وتحليل أكل الميتة والدم والقمار ، إلى نحو ذلك من الضلالات والجهالات الباطلة ، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال؛ « رأيت عمرو بن لحي يجر قصبه في النار » ، لأنه أول من سيّب السوائب ، وكان هذا الرجل أحد ملوك خزاعة ، وهو أول من فعل هذه الأشياء ، وهو الذي حمل قريشاً على عبادة الأصنام لعنه الله وقبحه ، ولهذا قال تعالى : { وَلَوْلاَ كَلِمَةُ الفصل لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } أي لعوجلوا بالعقوبة لولا ما تقدم من الإنظار إلى يوم المعاد ، { وَإِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي شديد موجع في جهنم وبئس المصير ، ثم قال تعالى : { تَرَى الظالمين مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُواْ } أي في عرصات القيامة { وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ } أي الذي يخافون منه واقع بهم لا محالة ، هذا حالهم يوم معادهم { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فِي رَوْضَاتِ الجنات لَهُمْ مَّا يَشَآءُونَ عِندَ رَبِّهِمْ } فأين هذا من هذا؟ أين من هو في الذل والهوان ، ممن هو في روضات الجنات ، فيما يشاء من مآكل ومشارب وملاذ ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر؟ ولهذا قال تعالى : { ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير } أي الفوز العظيم والنعمة التامة ، الشاملة العامة .(1/2272)
ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24)
يقول تعالى لما ذكر روضات الجنات ، لعباده الذين آمنوا وعملوا الصالحات { ذَلِكَ الذي يُبَشِّرُ الله عِبَادَهُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي هذا حاصل هلم كائن لا محالة ، ببشارة الله تعالى لهم به ، وقوله عزّ وجلّ : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى } أي قل يا محمد لهؤلاء المشركين من كفار قريش ، لا أسألكم على هذا البلاغ والنصح مالاً ، وإنما أطلب أن تذروني أبلغ رسالات ربي ، فلا تؤذوني بما بيني وبينكم من القرابة ، روى البخاري ، عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه سئل عن قوله تعالى : { إِلاَّ المودة فِي القربى } فقال سعيد بن جبير : قربى آل محمد ، فقال ابن عباس : « عَجِلْتَ إن النبي صلى الله عليه وسلم : لم يكن بطن من قريش إلا كان له فيهم قرابة ، فقال : إلا أن تصلوا ما بيني وبينكم من القرابة » وروى الحافظ الطبراني ، عن ابن عباس قال : قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا أسألكم عليه أجراً إلا أن تودوني في نفسي لقرابتي منكم ، وتحفظوا القرابة بيني وبينكم » وروى الإمام أحمد ، عن مجاهد ، عن ابن عباس : « لا أسألكم على ما آتيتكم من البينات والهدى أجراً إلا أن توادوا الله تعالى ، وأن تقربوا إليه بطاعته » ، وهذا كأنه تفسير بقول ثان ، كأنه يقول : إلا المودة في القربى ، أي إلا أن تعملوا بالطاعة التي تقربكم عند الله زلفى ، وقول ثالث وهو ما حكاه البخاري عن سعيد بن جبير أنه قال : معنى ذلك أن تودوني في قرابتي ، أي تحسنوا إليهم وتبروهم ، قال السدي : لما جيء بعلي بن الحسين رضي الله عنه أسيراً ، فأقيم على درج دمشق ، قام رجل من أهل الشام فقال : الحمد لله الذي قتلكم ، وأستأصلكم ، وقطع قرن الفتنة ، فقال له علي بن الحسين رضي الله عنه : أقرأت القرآن؟ قال : نعم ، قال : أقرأت آل حم؟ قال : قرأت القرآن ولم أقرأ آل حم ، قال : ما قرأت : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ المودة فِي القربى } ؟ قال : وإنكم لأنتم هم؟ قال : نعم « . والحق تفسير هذه الآية بما فسرها به حبر الأمة وترجمان القرآن ، عبد الله بن عباس رضي الله عنهما ، كما رواه عنه البخاري ، ولا ننكر الوصية بأهل البيت ، والأمر بالإحسان إليهم ، واحترامهم وإكرامهم ، فإنهم من ذرية طاهرة ، من أشرف بيت وجد على وجه الأرض فخراً وحسباً ونسباً .
وقد ثبت في الصحيح » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال في خطبته بغدير خم : « إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله وعترتي ، وإنهما لم يفترقا حتى يردا عليَّ الحوض »(1/2273)
، وفي الصحيح أن الصديق رضي الله عنه قال لعلي رضي الله عنه : والله لقرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم أحب إليَّ أن أصل من قرابتي ، وقال عمر بن الخطاب للعباس رضي الله عنهما : والله لإسلامك يوم أسلمت كان أحب إليَّ من إسلام الخطاب لو أسلم ، لأن إسلامك كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من إسلام الخطاب . وروى الإمام أحمد ، عن يزيد بن حيان قال : « انطلقت أنا والحصين بن ميسرة وعمر بن مسلم إلى زيد بن أرقم رضي الله عنه ، فلما جلسنا إليه قال حصين : لقد لقيت يا زيد خيراً كثيراً : رأيت رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم وسمعت حديثه وغزوت معه وصلَّيت معه . لقد رأيت يا زيد خيراً كثيراً ، حدثنا يا زيد ما سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا ابن أخي لقد كبر سني ، وقدم عهدي ، ونسيت بعض الذي كنت أعي من رسول الله صلى الله عليه سلم ، فما حدثتكم فاقبلوه ، وما لا فلا تكلفونيه ، ثم قال رضي الله عنه : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً خطيباً فينا بماء يدعى خماً بين مكة والمدينة ، فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، وذكَّر ووعظ ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : » أما بعد أيها الناس إنما أنا بشر يوشك أن يأتيني رسول ربي فأجيب ، وإني تارك فيكم الثقلين ، أولهما كتاب الله تعالى فيه الهدى والنور ، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به « فحث على كتاب الله ورغب فيه . وقال صلى الله عليه وسلم : » وأهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ، وأذكركم الله في أهل بيتي « ، فقال له حصين : ومن أهل بيته يا زيد؟ أليس نساؤه من أهل بيته؟ قال : إن نساءه لسن من أهل بيته ، ولكن أهل بيته من حرم عليه الصدقة بعده ، قال : ومن هم؟ قال : هم آل علي ، وآل عقيل ، وآل جعفر ، وآل العباس رضي الله عنهم ، قال : كل هؤلاء حرم الله عليه الصدقة؟ قال : نعم » وروى الترمذي ، عن زيد بن أبي أرقم رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني تارك فيكم ما إن تمسكتم فه لن تضلوا بعدي ، أحدهما أعظم من الآخر : كتاب الله حبل ممدود من السماء وإلى الأرض ، والآخر عترتي أهل بيتي ولن يفترقا حتى يردا على الحوض فانظروا كيف تخلفوني فيهما » وروى الترمذي أيضاً ، عن جابر بن عبد الله رضي لله عنهما قال : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجته يوم عرفة وهو على ناقته القصواء يخطب فسمعته يقول : » يا أيها الناس إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا كتاب الله وعتريتي أهل بيتي « .(1/2274)
وقوله عزّ وجلّ : { وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } أي ومن يعمل حسنة { نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً } أي أجراً وثواباً ، كقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 40 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ الله غَفُورٌ شَكُورٌ } أي يغفر الكثير من السيئات ، ويكثر القليل من الحسنات ، فيستر ويغفر ويضاعف فيشكر ، وقوله جلّ وعلا : { أَمْ يَقُولُونَ افترى عَلَى الله كَذِباً فَإِن يَشَإِ الله يَخْتِمْ على قَلْبِكَ } أي لو افتريت عليه كذباً كما يزعم هؤلاء الجاهلون { يَخْتِمْ على قَلْبِكَ } ويسلبك ما كان آتاك من القرآن ، كقوله جلّ جلاله : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 44-47 ] ، أي لانتقمنا منه أشد الانتقام ، وما قدر أحد من الناس أن يحجز عنه . وقوله جلَّت عظمته : { وَيَمْحُ الله الباطل } مرفوع على الابتداء وحذفت من كتابته الواو في رسم مصحف الإمام كما حذفت في قوله : { سَنَدْعُ الزبانية } [ العلق : 18 ] ، وقوله عزّ وجلّ { وَيُحِقُّ الحق بِكَلِمَاتِهِ } أي يحققه ويثبته ويبينه ويوضحه { بِكَلِمَاتِهِ } أي بحججه وبراهينه ، { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي بما تكنه الضمائر ، وتنطوي عليه السرائر .(1/2275)
وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28)
يقول تعالى ممتناً على عباده بقبول توبتهم إذا تابوا ورجعوا إليه ، أنه من كرمه وحلمه يعفوا ويصفح ، ويستر ويغفر ، كقوله عزّ وجلّ : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 110 ] ، وقد ثبت في « صحيح مسلم » ، عن أنَس بن مالك قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لله تعالى أشد فرحاً بتوبة عبده حين يتوب إليه من أحدكم كانت راحلته بأرض فلاة ، فانفلتت منه ونعليها طعامه وشرابه فأيس منها ، فأتى شجرة فاضطجع في ظلها وقد أيس من راحلته ، فبينما هو كذلك إذ هو بها قائمة معنده ، فأخذ بخطامها ، ثم قال من شدة الفرح : اللهم أنت عبدي وأبا ربك ، أخطأ من شدة الفرح « وقوله عزّ وجلّ : { وَيَعْفُواْ عَنِ السيئات } أي يقبل التوبة في المستقبل ويعفو عن السيئات في الماضي ، { وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } أي هو عالم بجميع ما فعلتم وصنعتم وقلتم ، ومع هذا يتوب على من تاب إليه ، وقوله تعالى : { وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } قال السدي : يعني يستجيب لهم ، أي الدعاء لأنفسهم ولأصحابهم وإخوانهم ، { وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } أي يستجيب دعاءهم ويزيدهم فوق ذلك ، حدثنا محمد بن المصفى ، حدثنا بقية ، حدثنا إسماعيل بن عبد الله الكِنْدي ، حدثنا الأعمش عن شقيق عن عبد الله رضي الله عنه قال : » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « في قوله تعالى : { وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } قيل : الشفاعة لمن وجبت له النار ممن صنع إليهم معروفاً في الدنيا » « وقال إبراهيم النخعي في قوله عزّ وجلّ : { وَيَسْتَجِيبُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } قال : يشفعون في إخوانهم ، { وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ } ، قال : يشفعون في إخوان إخوانهم ، وقوله عزّ وجلّ : { والكافرون لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } لما ذكر المؤمنين وما لهم من الثواب الجزيل ذكر الكافرين وما لهم عنده يوم القيامة من العذاب الشديد الموجع المؤلم يوم معادهم وحسابهم .
وقوله تعالى : { وَلَوْ بَسَطَ الله الرزق لِعِبَادِهِ لَبَغَوْاْ فِي الأرض } أي لو أعطاهم فوق حاجتهم من الرزق لحملهم ذلك على البغي والطغيان ، من بعضهم على بعض أشراً وبطراً ، وقال قتادة : وكان يقال خير العيش ما لا يلهيك ولا يطغيك ، وذكر قتادة حديث : » إنما أخاف عليكم ما يخرج الله تعالى من زهرة الحياة الدنيا « وقوله عزّ وجلّ : { ولكن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَآءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ } أي ولكن يرزقهم من الرقز ما يختاره مما فيه صلاحهم وهو أعلم بذلك ، فيغني من يستحق الغنى ، ويفقر من يستحق الفقر ، كما جاء في الحديث المروي : » إن من عبادي من لا يصلحه إلا الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه ، وإن من عبادي من لا يصلحه إلا الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه «(1/2276)
وقوله تعالى : { وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ } ، أي من بعد يأس الناس من نزول المطر ، ينزله عليهم في وقت حاجتهم وفقرهم إليه ، كقوله عزّ وجلّ : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } [ الروم : 49 ] وقوله جلّ جلاله : { وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ } أي يعم بها الوجود على أهل ذلك القطر وتلك الناحية ، قال قتادة : ذكر لنا أن رجلاً قال لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : يا أمير المؤمنين قحط المطر ، وقنط الناس ، فقال عمر رضي الله عنه : مطرتم ، ثم قرأ : { وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَهُوَ الولي الحميد } أي هو المتصرف لخلقه بما ينفعهم في دنياهم وأخراهم ، وهو المحمود العاقبة في جميع ما يقدره ويفعله .(1/2277)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِنْ دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31)
يقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ } الدالة على عظمته وقدرته العظيمة وسلطانه القاهر { خَلْقُ السماوات والأرض وَمَا بَثَّ فِيهِمَا } ، أي ذرأ فيهما ، أي في السماوات والأرض { مِن دَآبَّةٍ } ، وهذا يشمل الملائكة والإنس والجن وسائر الحيوانات ، على اختلاف أشكالهم وألوانهم ولغاتهم وطباعهم وأجناسهم وأنواعهم ، وقد فرقهم في أرجاء أقطار السماوات والأرض ، { وَهُوَ } مع هذا كله { على جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَآءُ قَدِيرٌ } أي يوم القيامة يجمع الأولين والآخرين وسائر الخلائق في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، فيحكم فيهم بحكمه العدل الحق ، وقوله عزّ وجلّ : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ } أي مهما أصابكم أيها الناس من المصائب ، فإنما هي عن سيئات تقدمت لكم { وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } أي من السيئات فلا يجازيكم عليها بل يعفو عنها ، { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [ فاطر : 45 ] . وفي الحديث الصحيح : « والذي نفسي بيده ما يصيب المؤمن من نصب ولا وصب ولا هم ولا حزن إلا كفر الله عنه بها من خطاياه حتى الشوكة يشاكها » وعن أبي جحيفة قال : دخلت على ( علي بن أبي طالب ) رضي الله عنه فقال : ألا أحدثكم بحديث ينبغي لكل مؤمن أن يعيه؟ قال : فسألناه ، فتلا هذه الآية : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } قال : ما عاقب الله تعالى في الدنيا ، فالله أحلم من أن يثني عليه العقوبة يوم القيامة ، وما عفا الله عنه في الدنيا ، فالله أكرم من أن يعود في عفوه يوم القيامة . وروى الإمام أحمد ، عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا كثرت ذنوب العبد ولم يكن له ما يكفرها ابتلاه الله تعالى بالحزن ليكفرها » وقال الحسن البصري في قوله تعالى : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } قال : لما نزلت قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي نفس محمد بيده ما من خدش عود ، ولا اختلاج عرق ، ولا عثرة قدم ، إلا بذنب ، وما يعفو الله عنه أكثر » وعن الضحاك قال : ما نعلم أحداً حفظ القرآن ثم نسبه إلا بذنب ، ثم قرأ : { وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } ، ثم قال الضحّاك : وأي مصيبة أعظم من نسيان القرآن؟(1/2278)
وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)
يقول تعالى : ومن آياته الدالة على قدرته الباهرة وسلطانه ، تسخيره البحر لتجري فيه الفلك بأمره { كالأعلام } أي كالجبال ، أي هذه في البحر كالجبال في البر ، { إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الريح } أي التي تسير في البحر بالسفن ، لو شاء لسكنها حتى لاتتحرك السفن بل تبقى راكدة لا تجيء ولا تذهب ، بل وافقه { على ظَهْرِهِ } أي على وجه الماء ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ } أي في الشدائد { شَكُورٍ } أي في الرخاء . وقوله عزّ وجلّ { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } أي ولو شاء لأهلك السفن وغرقها ، بذنوب أهلها الذين هم راكبون فيها ، { وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ } أي من ذنوبهم ، ولو آخذهم بجميع ذنوبهم لأهلك كل من ركب البحر ، وقال بعض علماء التفسير { أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا } أي لو شاء لأرسل الريح قوية عاتبية ، فأخذت السفن وأحالتها عن سيرها المستقيم ، فصرفتها ذات اليمين أو ذات الشمال ، آبقة لا تسير على طريق ولا إلى جهد مقصد ، وهذا القول يتضمن هلاكها وهو مناسب للأول ، وهو أنه تعالى لو شاء لسكن الريح فوقفت ، أو لقوّاه فشردت وأبقت وهلكت ، ولكن من لطفه ورحمته أنه يرسله بحسب الحاجة كما يرسل المطر بقدر الكفاية ، ولو أنزله كثيراً جداً لهدم البنيان ، أو قليلاً لمن أنبت الزرع والثمار ، حتى إنه يرسل إلى مثل ( بلاد مصر ) سيحاً من أرض أخرى غيرها ، لأنهم لا يحتاجون إلى مطر ، ولو أنزل عليهم لهدم بنيانهم وأسقط جدرانهم ، وقوله تعالى : { وَيَعْلَمَ الذين يُجَادِلُونَ في آيَاتِنَا مَا لَهُمْ مِّن مَّحِيصٍ } أي لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا ، فإنهم مقهورون بقدرتنا .(1/2279)
فَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39)
يقول تعالى محقراً لشأن الحياة الدنيا وزينتها ، وما فيها من الزهرة والنعيم الفاني بقوله تعالى : { فَمَآ أُوتِيتُمْ مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا } أي مهما حصلتم وجمعتم فلا تغتروا به ، فإنما هو متاع الحياة الدنيا ، وهي دار دنيئة فانية زائلة لا محالة ، { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى } أي وثواب الله تعالى خبر من الدنيا وهو باق سرمدي ، فلا تقدموا الفاني على الباقي ، ولهذا قال تعالى : { لِلَّذِينَ آمَنُواْ } أي للذين صبروا على ترك الملاذ في الدنيا { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي ليعينهم على الصبر في أداء الواجبات وترك المحرمات . ثم قال تعالى : { والذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش } وقد قدمنا الكلام على الإثم والفواحش في سورة الأعراف ، { وَإِذَا مَا غَضِبُواْ هُمْ يَغْفِرُونَ } أي سجيتهم تقتضي الصفح والعفو عن الناس ، وقد ثبت في الصحيح : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما انتقم لنفسه قط إلا أن تنتهك حرمات الله » وفي حديث آخر كان يقول لأحدنا عند المعتبة : « ما له تربت يمينه » ، وقوله عزّ وجلّ : { والذين استجابوا لِرَبِّهِمْ } أي اتبعوا رسله وأطاعوا أمره واجتنبوا زجره ، { وَأَقَامُواْ الصلاة } وهي أعظم العبادات الله عزّ وجلّ ، { وَأَمْرُهُمْ شورى بَيْنَهُمْ } أي لا يبرمون أمراً حتى يتشاوروا فيه ، ليتساعدوا بآرائهم في مثل الحروب وما جرى مجراها ، كما قال تبارك وتعالى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } [ آل عمران : 159 ] الآية ، ولهذا كان صلى الله عليه وسلم يشاروهم في الحروب ونحوها ليطيب بذلك ، قلوبهم ، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } وذلك بالإحسان إلى خلق الله الأقرب إليهم منهم فالأقرب ، وقوله عزّ وجلّ : { والذين إِذَآ أَصَابَهُمُ البغي هُمْ يَنتَصِرُونَ } أي فيهم قوة الأنتصار ممن ظلمهم واعتدى عليهم ، ليسوا بالعاجزين ولا الأذلين ، بل يقدرون على الانتقام ممن بغى عليهم ، وإن كانوا مع هذا إذا قدروا عفوا ، كما عفا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أولئك النفر الثمانين الذين قصدوه عام الحديبية ، وكذلك عفوه صلى الله عليه وسلم عن ( غورث بن الحارث ) الذي أراد الفتك به حين اخترط سيفه وهو نائم ، وكذلك عفا صلى الله عليه وسلم عن ( لبيد بن الأعصم ) الذي سحره عليه السلام ، ومع هذا لم يعرض له و لا عاتبه مع قدرته عليه؛ والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جداً والله سبحانه وتعالى أعلم .(1/2280)
وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولَئِكَ مَا عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَنْ صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)
قوله تبارك وتعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } كقوله تعالى : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] ، وكقوله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] الآية فشرع العدل وهو ( القصاص ) وندب إلى الفضل وهو { العفو } كقوله جلّ وعلا : { والجروح قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } [ المائدة : 45 ] ، ولهذا قال هاهنا : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } أي لا يضيع ذلك عند الله كما صح في ذلك الحديث : « وما زاد الله تعالى عبداً بعفو إلا عزاً » وقوله تعالى : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الظالمين } أي المعتدين وهو المبتدىء بالسيئة ، ثم قال جلّ علا : { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } أي ليس عليهم جناح في الانتصار ممن ظلمهم ، روى النسائي ، عن عروة قال : « قالت عائشة رضي الله عنها : ما علمت حتى دخلت عليَّ زينب بغير إذن وهي غضبى ، ثم قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : حسبك إذا قلبت لك ابنة أبي بكر درعها ، ثم أقبلت عليَّ ، فأعرضت عنها حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم : » دونك فانتصري « فأقبلت عليها حتى رأيت ريقها قد يبس في فمها ما ترد علي شيئاً فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يتهلل وجهه وروى البزار عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » « من دعا على من ظلمه فقد انتصر » وقوله عزّ وجلّ : { إِنَّمَا السبيل } أي إنما الحرج والعنت { عَلَى الذين يَظْلِمُونَ الناس وَيَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق } أي يبدأون الناس بالظلم ، كما جاء في الحديث الصحيح : « المسبتّان ما قالا ، فعلى البادىء ما لم يعتد المظلوم » { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي شديد موجع ، ثم إن الله تعالى لما ذم الظلم وأهله وشرع القصاص قال نادباً إلى العفو والصفح : { وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ } أي صبر على الأذى وستر السيئة { إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الأمور } أي لمن الأمور المشكورة والأفعال الحميدة ، التي عليها ثواب جزيل وثناء جميل ، وقال الفضيل بن عياض : « إذا أتاك رجل يشكو إليك رجلاً فقل : يا أخي اعف عنه ، فإن العفو أقرب للتقوى ، فإن قال : لا يحتمل قلبي العفو ، ولكن انتصر كما أمرني الله عزّ وجلّ ، فقل له : إن كنت تحسن أن تنتصر ، وإلا فارجع إلى باب العفو ، فإن باب واسع ، فإنه { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } ، وصاحب العفو ينام على فراشه بالليل ، وصاحب الانتصار يقلب الأمور » . وروى الإمام أحمد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « إن رجلاً شتم أبا بكر رضي الله عنه والنبي صلى الله عليه وسلم جالس؛ فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يعجب ويبتسم ، فلما أكثر رد عليه بعض قوله ، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم ، وقام فلحقه أبو بكر رضي الله عنه فقال : يا رسول الله إنه كان يشتمني وأنت جالس ، فلما رددت عليه بعض قوله غضبت ، وقمت ، قال : » إنه كان معك ملك يرد عنك فلما رددت عليه بعض قوله حضر الشيطان فلم أكن لأقعد مع الشيطان! ثم قال : يا أبا بكر ، ثلاث كلهن حق : ما من عبد ظلم بمظلمة فيغضي عنها لله إلا أعزه الله تعالى بها ونصره ، وما فتح رجل باب عطية يريد بها صلة إلا زاده الله بها كثرة ، وما فتح رجل باب مسألة يريد بها كثرة إلا زاده الله عزّ وجلّ بها قلة « »(1/2281)
، وهاذ الحديث في غاية الحسن في المعنى وهو مناسب للصديق رضي الله عنه .(1/2282)
وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِيَاءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46)
يقول تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة ، أنه من هداه فلا مضل له ، ومن يضلل الله فلا هادي له ، كما قال عزّ وجلّ : { وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } [ الكهف : 17 ] ، ثم قال عزّ وجلّ مخبراً عن الظالمين وهم المشركون بالله { لَمَّا رَأَوُاْ العذاب } أي يوم القيامة تنموا الرجعة إلى الدنيا ، { يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } ، كما قال جلّ وعلا : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ الأنعام : 27 ] ، وقوله عزّ وجلّ : { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا } أي على النار ، { خَاشِعِينَ مِنَ الذل } أي الذي قد اعتراهم بما أسلفوا من عصيان الله تعالى : { يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ } قال مجاهد : يعني ذليل ، أي ينظرون إليها مسارقة خوفاً منها ، والذي يحذرون منه واقع بهم لا محالة ، { وَقَالَ الذين آمنوا } أي يقولون يوم القيامة { إِنَّ الخاسرين } أي الخسار الأكبر ، { الذين خسروا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ القيامة } أي ذهب بهم إلى النار فعدموا لذتهم في دار الأبد ، وفرق بينهم وبين أحبابهم وأصحابهم فخسروهم ، { أَلاَ إِنَّ الظالمين فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ } أي دائم سرمدي أبدي ، لا خروج لهم منها ولا محيد لهم عنها . وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَآءَ يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ الله } أي ينقذونهم مما هم فيه من العذاب والنكال ، { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ } أي ليس له الخلاص .(1/2283)
اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسَانَ كَفُورٌ (48)
لما ذكر تعالى ما يكون في يوم القيامة من الأهوال والأمور العظام الهائلة حذر منه وأمر بالاستعداد له ، فقال : { استجيبوا لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله } أي إذا أمر بكونه ، فإنه كلمح البصر يكون ، وليس له دافع ولا مانع ، وقوله عزّ وجلّ : { مَا لَكُمْ مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُمْ مِّن نَّكِيرٍ } أي ليس لكم حصن تتحصنون فيه ، ولا مكان يستركم وتتنكرون فيه ، فتغيبون عن بصره تبارك وتعالى ، بل هو محيط بكم بعلمه وبصره وقدرته ، فلا ملجأ منه إلا إليه { يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر * كَلاَّ لاَ وَزَرَ * إلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المستقر } [ القيامة : 10-12 ] ، وقوله تعالى : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ } يعني المشركين { فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي لست عليهم بمصيطر ، وقال تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } [ الرعد : 40 ] ، وقال جلّ وعلا هاهنا : { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ } أي إنما كلفناك أن تبلغهم رسالة الله إليهم ، ثم قال تعالى : { وَإِنَّآ إِذَآ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا } أي إذا أصابه رخاء ونعمة فرح بذلك { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } يعني الناس { سَيِّئَةٌ } أي جدب ونقمة وبلاء وشدة ، { فَإِنَّ الإنسان كَفُورٌ } أي يجحد ما تقدم من النعم ، ولا يعرف إلا الساعة الراهنة ، فإن أصابته نعمة أشر وبطر ، وإن أصابته محنة يئس وقنط ، فالمؤمن كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ، وليس ذلك لأحد إلا المؤمن » .(1/2284)
لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَنْ يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)
يخبر تعالى أنه خالق السماوات والأرض ، ومالكهما والمتصرف فيهما ، وأنه يعطي من يشاء ويمنع من يشاء ، ولا مانع لما أعطى ولا معطي لما منع ، وأنه يخلق ما يشاء { يَهَبُ لِمَن يَشَآءُ إِنَاثاً } أي يرزقه البنات فقط { وَيَهَبُ لِمَن يَشَآءُ الذكور } أي يرزقه البنين فقط ، { أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً } أي ويعطي لمن يشاء الزوجين ( الذكر والأنثى ) أي من هذا وهذا ، { وَيَجْعَلُ مَن يَشَآءُ عَقِيماً } أي لا يولد له ، فجعل الناس أربعة أقسام : منهم من يعطيه البنات ، ومنهم من يعطيه البنين ، ومنهم من يعطيه من النوعين ذكوراً وإناثاً ، ومنهم من يمنعه هذا وهذا ، فيجعله عقيماً لا نسل له ولا ولد له ، { إِنَّهُ عَلِيمٌ } أي بمن يستحق كل قسم من هذه الأقسام ، { قَدِيرٌ } أي على من يشاء من تفاوت الثاني في ذلك ، فسبحان العليم القدير .(1/2285)
وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْيًا أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحًا مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُورًا نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)
هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الرب جل وعلا ، فتارة يقذف في روع النبي صلى الله عليه وسلم وحياً لا يتمارى فيه أنه من الله عزّ وجلّ ، كما جاء في « صحيح ابن حبان » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن روح القدس نفث في روعي أن نفساً لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها ، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب » ، وقوله تعالى : { أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } أي كما كلّم موسى عليه الصلاة والسلام ، فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها . وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما : « ما كلّم الله أحداً إلا من وراء حجاب وإنه كلَّم أباك كفاحاً » كذا جاء في الحديث ، وكان قد قتل يوم أُحُد ولكن هذا في عالم البرزخ ، والآية إنماهي الدار الدنيا . وقوله عزّ وجلّ : { أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَآءُ } كما ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، { إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ } فهو علي عليم ، خبير حكيم ، وقوله عزّ وجلّ : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } يعني القرآن ، { مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب وَلاَ الإيمان } أي على التفصيل الذي شرع لك في القرآن ، { ولكن جَعَلْنَاهُ } أي القرآن { نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشَآءُ مِنْ عِبَادِنَا } ، كقوله تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [ فصلت : 44 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَإِنَّكَ } أي يا محمد { لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو الخلق القويم ، ثم فسره بقوله تعالى : { صِرَاطِ الله } أي شرعه الذي أمره به الله ، { الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } أي ربهما وما لكهما والمتصرف فيهما والحاكم الذي لا معقب لحكمه ، { أَلاَ إِلَى الله تَصِيرُ الأمور } أي ترجع الأمور فيفصلها ويحكم فيها ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً .(1/2286)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحًا أَنْ كُنْتُمْ قَوْمًا مُسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشًا وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8)
يقول تعالى : { حم* والكتاب المبين } أي البيِّن الواضح الجلي ، المنزل بلغة العرب التي هي أفصح اللغات ، ولهذا قال تعالى { إِنَّا جَعَلْنَاهُ } أي أنزلناه { قُرْآناً عَرَبِيّاً } أي بلغة العرب ، فصيحاً واضحاً { لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي تفهمونه وتتدبرونه ، كما قال عزّ وجل { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 195 ] وقوله تعالى : { وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } بيّن شرفه في الملأ الأعلى ، ليشرّفه ويعظمه ويطيعه أهل الأرض ، فقال تعالى { وَإِنَّهُ } أي القرآن { في أُمِّ الكتاب } أي اللوح المحفوظ { لَدَيْنَا } أي عندنا { لَعَلِيٌّ } أي ذو مكانة عظيمة ، وشرف وفضل { حَكِيمٌ } أي محكم بريء من اللبس والزيغ ، وهذا كله تنبيه على شرفه وفضله ، كما قال تبارك وتعالى : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ * لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } [ الواقعة : 77-79 ] ، وقال تعالى : { فَي صُحُفٍ مُّكَرَّمَةٍ * مَّرْفُوعَةٍ مُّطَهَّرَةٍ * بِأَيْدِي سَفَرَةٍ * كِرَامٍ بَرَرَةٍ } [ عبس : 13-16 ] ، ولهذا استنبط العلماء من هاتين الآيتين ، أن المحدث لا يمس المصحف ، لأن الملائكة يعظمون المصاحف ، المشتملة على القرآن في الملأ الأعلى ، فأهل الأرض بذلك أولى وأحرى ، لأنه نزل عليهم ، وخطابه متوجه إليهم ، فهم أحق أن يقابلوه بالإكرام والتعظيم ، والانقياد له بالقبول والتسليم ، لقوله تعالى : { وَإِنَّهُ في أُمِّ الكتاب لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ } ، وقوله عزّ وجلّ : { أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذكر صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ } ؟ اختلف المفسرون في معناها فقيل معناها : أتحسبون أن نصفح عنكم فلا نعذبكم ، ولم تفعلوا ما أمرتم به ، قاله ابن عباس واختاره ابن جرير ، وقال قتادة : والله لو أن هذا القرآن رفع حين ردته أوائل هذه الأمة لهلكوا ، ولكن الله تعالى عاد بعائدته ورحمته فكرره عليهم ، ودعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء الله من ذلك ، وقول قتادة لطيف المعنى جداً ، وحاصله أنه يقول في معناه : أنه تعالى من لطفه ورحمته بخلقه لا يترك دعاءهم إلى الخير ، وإلى الذكر الحكيم وهو ( القرآن ) وإن كانوا مسرفين معرضين عنه ، بل أمر به ليهتدي به من قدّر هدايته ، وتقوم الحجة على من كتب شقاوته ، ثم قال جلّ وعلا مسلياً لنبيّه صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه : { وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الأولين } أي في شِيَع الأولين { وَمَا يَأْتِيهِم مِّنْ نَّبِيٍّ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي يكذبونه ويسخرون به ، { فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً } أي فأهلكنا المكذبين بالرسل ، وقد كانوا أشد بطشاً من هؤلاء المكذبين لك يا محمد ، كقوله عزّ وجلّ : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَأَشَدَّ قُوَّةً } [ غافر : 82 ] والآيات في ذلك كثيرة جداً . وقوله جلّ جلاله { ومضى مَثَلُ الأولين } قال مجاهد : سنتهم ، وقال قتادة : عقوبتهم ، وقال غيرهما : عبرتهم : أي جعلناهم عبرة لمن بعدهم من المكذبين أن يصيبهم ما أصابهم ، كقوله تعالى : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ } [ الزخرف : 56 ] ، وكقوله جلَّت عظمته : { سُنَّتَ الله التي قَدْ خَلَتْ فِي عِبَادِهِ } [ غافر : 85 ] ، وقوله : { وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } [ الأحزاب : 62 ، الفتح : 23 ] .(1/2287)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحَانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنْقَلِبُونَ (14)
يقول تعالى : ولئن سألت يا محمد ، هؤلاء المشركون بالله العابدين معه غيره { مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ العزيز العليم } أي ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله وحده ، وهم مع هذا يعبدون معه غيره ، من الأصنام والأنداد ، ثم قال تعالى : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً } أي فراشاً قراراً ثابتة ، تسيرون عليها وتقومون وتنامون ، مع أنها مخلوقة على تيار الماء ، لكنه أرساها بالجبال لئلا تميد ، { وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } أي طرقاً بين الجبال والأودية { لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي في سيركم من بلد إلى بلد ، وقطر إلى قطر ، { والذي نَزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً بِقَدَرٍ } أي بحسب الكفاية لزروعكم وثماركم ، وشربكم لأنفسكم ولأنعامكم ، { فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } أي أرضاً ميتة ، فلما جاءها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ، ثم نبَّه تعالى بإحياء الأرض على إحياء الأجساد يوم المعاد بعد موتها فقال : { كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } . ثم قال عزّ وجلّ : { والذي خَلَقَ الأزواج كُلَّهَا } أي مما تنبت الأرض من سائر الأصناف ، من نبات وزروع وثمار وغير ذلك ، ومن الحيوانات على اختلاف أجناسها ، وأصنافها ، { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك } أي السفن { والأنعام مَا تَرْكَبُونَ } أي ذللها لكم وسخَّرها ويسّرها ، لأكلكم لحومها وشربكم ألبانها وركوبكم ظهورها ، ولهذا قال جلّ وعلا { لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ } أي لتستووا متمكنين مرتفقين { على ظُهُورِهِ } أي على ظهور هذا الجنس ، { ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ } أي فيما سخر لكم { إِذَا استويتم عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ } أي مقاومين ، ولولا تسخير الله لنا هذا ما قدرنا عليه . قال ابن عباس : { مُقْرِنِينَ } أي مطيقين ، { وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } أي لصائرون إليه بعد مماتنا ، وإليه سيرنا الأكبر ، وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة ، كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي في قوله تعالى : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } [ البقرة : 197 ] وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى : { وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ } [ الأعراف : 26 ] .
( ذكر الأحاديث الواردة عند ركوب الدابة )
( حديث علي بن أبي طالب ) : عن علي بن ربيعة قال : « رأيت علياً رضي الله عنه أتى بدابة ، فلما وضع رجله في الركاب قال : باسم الله ، فلما استوى عليها قال : الحمد لله { سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } ، ثم حمد الله تعالى ثلاثاً وكبّر ثلاثاً ، ثم قال سبحانك لا إله إلا أنت قد ظلمت نفسي ، فاغفر لي ، ثم ضحك ، فقلت له : مما ضحكت يا أمير المؤمنين؟ فقال رضي الله عنه : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعل مثل ما فعلت ، ثم ضحك ، فقلت : مم ضحكت يا رسول الله؟ فقال صلى الله عليه وسلم : » يعجب الرب تبارك وتعالى من عبده إذا قال : رب اغفر لي ، ويقول : علم عبدي أنه لا يغفر الذنوب غيري « » .(1/2288)
( حديث عبد الله بن عمر ) : روى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : « إن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ركب راحلته كبر ثلاثاً ثم قال : { سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } ، ثم يقول : » اللهم إني أسألك في سفري هذا البر والتقوى ، ومن العمل ما ترضى ، اللهم هوّن علينا السفر ، واطوِ لنا البعد ، اللهم أنت الصاحب في السفر والخليفة في الأهل ، اللهم أصبحنا في سفرنا واخلفنا في أهلنا « . وكان صلى الله عليه وسلم إذا رجع إلى أهل قال : » آيبون تائبون إن شاء الله ، عابدون لربنا حامدون « .(1/2289)
وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلًا ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثًا أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ مَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20)
يقول تعالى مخبراً عن المشركين فيما افتروه وكذبوه في جعلهم بعض الأنعام لطواغيتهم ، وبعضها لله تعالى ، وكذلك جعلوا له من الأولاد أخسهما وأردأهما وهو البنات ، كما قال تعالى : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } [ النجم : 21-22 ] ، وقال جلّ وعلا هاهنا : { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } ، ثم قال جلّ وعلا : { أَمِ اتخذ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بالبنين } ؟ وهذا إنكار عليهم غاية الإنكار ، ثم ذكر تمام الإنكار فقال جلَّت عظمته : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } أي إذا بشر أحد هؤلاء بما جعلوه لله من البنات ، يأنف من ذلك غاية الأنفة ، وتعلوه كآبة من سوء ما يُنشِّرَ به ، ويتوارى من القوم من خجله ، من ذلك ، يقول تبارك وتعالى : فكيف تأنفون أنتم من ذلك ، وتنسبونه إلى الله عزّ وجلّ؟ ثم قال سبحانه وتعالى : { أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الحلية وَهُوَ فِي الخصام غَيْرُ مُبِينٍ } أي المرأة ناقصة يكمل نقصها بلبس الحلي ، منذ تكون طفلة ، وإذا خاصمت فهي عاجزة عَيِيّة ، أَوَ من يكون هكذا ينسب إلى جناب الله العظيم؟ فالأنثى ناقصة الظاهر والباطن في الصورة والمعنى ، فيكمل نقص مظاهرها وصورتها بلبس الحلي ، ليجبر ما فيها من نقص ، كما قال بعض شعراء العرب :
وما الحلي إلا زينة من نقيصه ... يتمُم من حسن إذا الحسن قَصَّرا
وأما إذا كان الجمال مُوَفَّراً ... كحسنك لم يحتج إلى أن يُزَوّرا
وأما نقص معناها فإنها ضعيفة عاجزة عن الانتصار ، كما قال بعض العرب وقد بشر ببنت : « ما هي بنعم الولد ، نصرها بكاء ، وبرها سرقة » . وقوله تبارك وتعالى : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } أي اعتقدوا فيهم ذلك فأنكر عليهم تعالى قولهم ذلك فقال : { أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ } ؟ أي شاهدوه وقد خلقهم الله إناثاً؟ { سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ } أي بذلك { وَيُسْأَلُونَ } عن ذلك يوم القيامة ، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، { وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ } أي لو أراد الله لحال بيننا وبين عبادة هذه الأصنام ، التي هي على صور الملائكة بنات الله ، فإنه علامٌ بذلك وهو يقرنا عليه ، فجمعوا بين أنواع كثيرة من الخطأ : ( أحدهما ) : جعلهم لله تعالى ولداً ، تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً ، ( الثاني ) : دعواهم أنه اصطفى البنات على البنين ، فجعلوا الملائكة الذين هم عباد الرحمن إناثاً ، ( الثالث ) : عبادتهم لهم مع ذلك كله بلا دليل ولا برهان بل بمجرد الآراء والأهواء ، والتقليد للأسلاف والكبراء ، والخبط في الجاهلية الجهلاء ، ( الرابع ) : احتجاجهم بتقديرهم على ذلك قدراً ، وقد جهلوا في هذا الاحتجاج جهلاً كبيراً ، فإنه منذ بعث الرسل وأنزل الكتب يأمر بعبادته وحده لا شريك له وينهى عن عبادة ما سواه ، قال تعالى : { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ؟ وقال جلّ وعلا في هذه الآية : { مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ } أي بصحة ما قالوه واحتجوا به { إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } أي يكذبون ويتقولون ، وقال مجاهد : يعني ما يعلمون قدرة الله تبارك وتعالى على ذلك .(1/2290)
أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَابًا مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آبَاءَكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)
يقول تعالى منكراً على المشركين في عبادتهم غير الله بلا برهان ولا دليل ولا حجة { أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ } أي من قبل شركهم ، { فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ } أي ليس الأمر كذلك ، كقوله عزّ وجلّ { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } [ الروم : 35 ] أي لم يكن ذلك ، ثم قال تعالى : { بَلْ قالوا إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ } أي ليس لهم مستند فيما هم فيه من الشرك سوى تقليد الآباء والأجداد بأنهم كانوا على { أُمَّةٍ } والمراد بها الدين هاهنا ، وفي قوله تبارك وتعالى : { وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } [ الأنبياء : 92 ، المؤمنون : 52 ] ، وقولهم { وَإِنَّا على آثَارِهِم } أي وراءهم { مُّهْتَدُونَ } دعوى منهم بلا دليل . ثم بين جلّ وعلا أن مقالة هؤلاء قد سبقهم إليها أشباههم ونظراؤهم من الأمم السالفة المكذبة للرسل تشابهت قلوبهم فقالوا مثل مقالتهم { كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 52 ] وهكذا قال هاهنا : { وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } . ثم قال عزّ وجلّ { قال } أي يا محمد لهؤلاء المشركين { أَوَلَوْ جِئْتُكُمْ بأهدى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَآءَكُمْ قالوا إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } أي ولو علموا ويتقنوا صحة ما جئتهم به لما انقادوا لذلك لسوء قصدهم ومكابرتهم للحق وأهله . قال الله تعالى { فانتقمنا مِنْهُمْ } أي من الأمم المكذبة بأنواع من العذاب كما فصله تبارك وتعالى في قصصهم { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } أي كيف بادوا وهلكوا ، وكيف نجَّى الله المؤمنين .(1/2291)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى جَاءَهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ (34) وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وخليله إمام الحنفاء ، ووالد الأنبياء ، الذي تنتسب إليه قريش في نسبها ومذهبها ، أنه تبرأ من أبيه وقومه في عبادتهم الأوثان فقال : { إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ * وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } أي هذه الكلمة وهي { لاَ إله إِلاَّ الله } [ الصافات : 35 ] أي جعلها دائمة في ذريته ، يقتدى به فيها من هداه الله تعالى ، من ذرية أبراهيم عليه الصلاة والسلام { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي إليها ، قال عكرمة ومجاهد { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } يعني لا إله إلا الله ، لا يزال في ذريته من يقولها ، وقال ابن زيد : كلمة الإسلام ، وهو يرجع إلى ما قاله الجماعة ، ثم قال جلّ وعلا : { بَلْ مَتَّعْتُ هؤلاء } يعني المشركين { وَآبَآءَهُمْ } فتطاول عليهم العمر في ضلالهم { حتى جَآءَهُمُ الحق وَرَسُولٌ مُّبِينٌ } أي بَيَّنُ الرسالة والنذارة . { وَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق قَالُواْ هذا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ } أي كابروه وعاندوه كفراً وحسداً وبغياً ، { وَقَالُواْ } أي كالمعترضين على الذي أنزله تعالى وتقدس ، { لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } أي هلاّ كان إنزال هذا القرآن على رجل عظيم كبير في أعينهم؟ { مِّنَ القريتين } يعنون مكّة والطائف ، وقد ذكر غيرو احد من السلف أنهم أرادوا بذلك ( الوليد بن المغيرة ) و ( عروة بن مسعود الثقفي ) ، وعن مجاهد : يعنون عتبة بن ربيعة ) بمكّة و ( ابن عبد ياليل ) بالطائف ، وقال السدي : عنوا بذلك ( الوليد بن المغيرة ) و ( كنانة بن عمرو الثقفي ) ، والظاهر أن مرادهم رجل كبير من أي البلدتين كان ، قال تعالى رداً عليهم في هذا الاعتراض : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } ؟ أي ليس الأمر مردوداً إليهم ، بل إلى الله عزّ وجلّ والله أعلم حيث يجعل رسالاته ، فإنه لا ينزلها إلا على أزكى الخلق قلباً ونفساً ، وأشرفهم بيتاً ، وأطهرهم أصلاً . ثم قال عزّ وجلّ مبيناً أنه قد فاوت بين خلقه ، فما أعطاهم من الأموال والأرزاق والعقول والفهوم ، وغير ذلك من القوى الظاهرة والباطنة فقال : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا } الآية .
وقوله جلَّت عظمته : { لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } أي ليسخّر بعضُهم بعضاً في الأعمال ، لاحتياج هذا إلى هذا ، ثم قال عزّ وجلّ : { وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } أي رحمة الله بخلقه ، خير لهم مما بأيديهم من الأموال ومتاع الحياة الدنيا ، ثم قال سبحانه وتعالى { وَلَوْلاَ أَن يَكُونَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } أي لولا أن يعتقد كثير من الناس الجهلة ، إن إعطاءنا المال دليل على محبتنا لمن أعطيناه ، فيجتمعوا على الكفر لأجل المال { لَّجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بالرحمن لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فِضَّةٍ وَمَعَارِجَ } أي سلالم ودرجاً من فضة { عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ } أي يصعدون { وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً } أي أغلاقاً على أبوابهم { وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ } أي جميع ذلك يكون فضة { وَزُخْرُفاً } أي وذهباً ، قاله ابن عباس والسدي ، { وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الحياة الدنيا } أي إنما ذلك من الدنيا الفانية ، الزائلة الحقيرة عند الله تعالى ، أي يجعل لهم بحسناتهم التي يعملونها في لدنيا مآكل ومشارب ، ليوافوا الآخرة وليس لهم عنمد الله تبارك وتعالى حسنة يجزيهم بها .(1/2292)
ثم قال سبحانه وتعالى : { والآخرة عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ } أي هي لهم خاصة لا يشاركهم فيها أحد غيرهم ، ولهذا « لما قال عمر بن الخطّاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه على رمال حصير ، قد آثر بجنبه ، فابتدرت عيناه بالبكاء ، وقال : يا رسول لله! هذا كسرى وقيصر فيما هم فيه ، وأنت صفوة الله من خلقه؟ وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس وقال : » أوفي شك أنت يا ابن الخطاب؟ « ثم قال صلى الله عليه وسلم : » أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا « » ، وفي رواية : « أما ترى أن تكون لهم الدنيا ولنا الآخرة » ، وفي « الصحيحين » « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » لا تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافها ، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة « وإنما خوَّلهم الله تعالى في الدنيا لحقارتها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لو كانت الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة ما سقى منها كافراً شربة ماء أبداً « » .(1/2293)
وَمَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَانًا فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءَنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)
يقول تعالى : { وَمَن يَعْشُ } أي يتعامى ويتغافل ويعرض { عَن ذِكْرِ الرحمن } ، والعشا في العين ضعف بصرها ، والمراد هاهنا عشا البصيرة ، { نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } كقوله تعالى : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] ولهذا قال تبارك وتعالى هاهنا : { وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السبيل وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ } . { حتى إِذَا جَآءَنَا } أي هذا الذي تغافل عن الهدى ، إذا وافى الله عزّ وجلّ يوم القيامة ، يتبرم بالشيطان الذي وُكِّلَ به { قَالَ ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين فَبِئْسَ القرين } والمراد بالمشرقين هاهنا هو ما بين المشرق والمغرب ، وإنما استعمل هاهنا تغليباً كما يقال : القمران والعُمَران والأبوان ، قال ابن جرير وغيره ، ثم قال تعالى : { وَلَن يَنفَعَكُمُ اليوم إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي العذاب مُشْتَرِكُونَ } أي لا يغني عنكم إجتماعتكم في النار واشتراككم في العذاب الأليم . وقوله جلت عظمته : { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصم أَوْ تَهْدِي العمي وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } ؟ أي ليس ذلك إليكم ، إنما عليك البلاغ ، وليس عليك هداهم ، ثم قال تعالى؟ : { فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ } أي لا بد من أن ننتقم منهم ونعاقبهم ولو ذهبت أنت ، { أَوْ نُرِيَنَّكَ الذي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُّقْتَدِرُونَ } أي نحن قادرون على هذا ولم يقبض الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أقرّ عينه من أعدائه ، وحكّمه في نواصيهم ، واختاره ابن جرير ، وقال قتادة : ذهب النبي صلى الله عليه وسلم : وبقيت النقمة ، ولن يُرِيَ اللهُ تبارك وتعالى نبيَّه صلى الله عليه وسلم في أُمته شيئاً يكرهه ، حتى مضى ولم يكن نبي قط إلا وقد رأى العقوبة في أُمته إلا نبيكم صلى الله عليه وسلم ، قال : وذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أري ما يصيب أُمته من بعده ، فما رئي ضاحكاً منبسطاً حتى قبضه الله عزّ وجلّ ، ثم قال عزّ وجلّ : { فاستمسك بالذي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي خذ بالقرآن المنزل على قبلك ، فإنه هو الحق وما يهدي إليه هو الحق ، المفضي إلى صراط الله المستقيم ، الموصل إلى جنات النعيم .
ثم قال جلّ جلاله : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } ، قيل معناه لشرف لك ولقومك ، وفي الحديث : « إن هذا الأمر في قريش لا ينازعهم فيه أحد إلا أكبَّه الله تعالى على وجهه ما أقاموا الدين » ، ومعناه أنه أشرف لهم من حيث أنه أنزل بلغتهم ، فهم أفهم الناس له ، فينبغي أن يكونوا أقوم الناس به ، وأعملهم بقمتضاه ، وهكذا كان خيارهم وصفوتهم من الخلّص ، من المهاجرين السابقين الأوّلين ومن شابههم وتابعهم ، وقيل معناه : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ } أي لَتذكيرٌ لك ولقومك ، وتخصيصهم بالذكر لا ينفي من سواهم ، كقوله تعالى : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الأنبياء : 10 ] ، وكقوله تعالى : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] ، { وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } ، أي عن هذا القرآن وكيف كنتم في العمل به والاستجابة له ، وقوله سبحانه وتعالى : { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ } ؟ أي جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه ، من عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل : 36 ] .(1/2294)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِآيَاتِنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَ السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله { موسى } عليه الصلاة والسلام ، أنه ابتعثه إلى فرعون ملئه ، من الأمراء والوزراء والقادة والأبتاع من القبط وبني إسرائيل ، يدعوهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وأنه بعث معه آيات عظاماً كيده وعصاه ، وما أرسل معه من الطوفان والجراد والقمَّل والضفادع والدم ، ومن نقص الزروع والأنفس والثمرات ، ومع هذا كله استكبروا عن اتباعها والانقياد لها ، وضحكوا ممن جاءهم بها ، { وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } ومع هذا ما رجعوا عن غيهم وضلالهم ، وجهلهم وخبالهم ، وكلما جاءتهم آية من هذه الآيات يضرعون إلى موسى عليه السلام ، ويتلطفون له في العبارة بقولهم : { ياأيه الساحر } أي العالم ، وكان علماء زمانهم هم السحرة ولم يكن السحر في زمانهم مذموماً عندهم ، ففي كل مرة يعدون موسى عليه السلام إن كشف عنهم هذا أن يؤمنوا به ويرسلوا معه بني إسرائيل ، وفي كل مرة ينكثون ما عاهدوا عليه ، وهذا كقوله تبارك وتعالى : { وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرجز قَالُواْ ياموسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بني إِسْرَآئِيلَ * فَلَماَّ كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرجز إلى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ } [ الأعراف : 134- 135 ] .(1/2295)
وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ (56)
يقول تعالى مخبراً عن فرعون وتمرده وعتوه ، إنه جمع قومه فنادى فيهم متبجحاً مفتخراً بملك مصر وتصرفه فيها : { أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وهذه الأنهار تَجْرِي مِن تحتي } ؟ قال قتادة : قد كانت لهم جنات وأنهار ماء { أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } ؟ أي أفلا ترون ما أنا فيه من العظمة والملك؟ يعني وموسى وأتباعه فقراء ضعفاء ، وقوله : { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ } قال السدي : يقول : بل أنا خير من هذا الذي هو مهين ، وهكذا قال بعض نحاة البصرة : إن ( أم ) هاهنا بمعنى ( بل ) يعني فرعون لعنه الله بذلك أنه خير من موسى عليه الصلاة والسلام ، وقد كذب في قوله هذا كذباً بيناً واضحاً ، ويعني بقوله : { مَهِينٌ } حقير ، وقال قتادة يعني ضعيف ، وقال ابن جرير : يعني لا ملك له ولا سلطان ولا مال ، { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } يعني لا يكاد يفصح عن كلامه فهو عييّ حصر ، قال السدي : أي لا يكاد يُفّهم ، وقال قتادة : عييّ اللسان ، وقال سفيان : يعني في لسانه شيء من الجمرة حين وضعها في فمه وهو صغير ، وهذا الذي قاله فرعون لعنه الله كذب واختلاق ، وإنما حمله على هذا الكفر والعناد ، فهو ينظر إلى موسى بعين كافرة شقية ، وقد كان موسى عليه السلام من الجلالة والعظمة والبهاء ، في صورة يبهر أبصار ذوي الألباب ، وقوله : { مَهِينٌ } كذب بل هو المهين الحقير ، وموسى هو الشريف الصادق البار الراشد ، وقوله : { وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } افتراء أيضاً ، فإنه وإن كان قد أصاب لسانه في حال صغره شيء من جهة تلك الجمرة ، فقد سأل الله عزّ وجلّ أن يحل عقدة من لسانه ليفقهوا قوله ، وقد استجاب الله تبارك وتعالى له ذلك في قوله : { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } [ طه : 36 ] وبتقدير أن يكون قد بقي شيء لم يسأل إزالته كما قاله الحسن البصري ، وإنما سأل زوالما يحصل معه الإبلاغ والإفهام ، وفرعون وإن كان يفهم وله عقل فهو يدري هذا ، وإنما أراد التروج على رعيته فإنهم كانوا جهلة أغبياء ، وهكذا قوله : { فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ } وهي ما يجعل في الأيدي ، من الحُليِّ { أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ } أي يكتنفونه خدمة له ، ويشهدون بتصديقه ، نظر إلى الشك الظاهر ، ولم يفهم السر المعنوي الذي هو أظهر مما نظر إليه لو كان يفهم ، ولهذا قال تعالى : { فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } أي استخف عقولهم فدعاهم إلى الضلالة فاستجابوا له { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } .
قال الله تعالى : { فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } ، قال ابن عباس : { أَجْمَعِينَ } أسخطونا ، وعنه : أغضبونا ، روى ابن أبي حاتم ، عن عقبة بن عامر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه سلم قال :(1/2296)
« إذا رأيت الله تبارك وتعالى يعطي العبد ما يشاء وهو مقيم على معاصيه ، فإنما ذلك استدراج منه له » ثم تلا صلى الله عليه وسلم : { فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } . وقال طارق بن شهاب : كنت عند عبد الله رضي الله عنه فذكر عنده موت الفجأة ، فقال : تخفيف على المؤمن وحسرة على الكافر ، ثم قرأ رضي الله عنه : { فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } ، وقال عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه : وجدت النقمة مع الغفلة يعني قوله تبارك وتعالى : { فَلَمَّآ آسَفُونَا انتقمنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } وقوله سبحانه وتعالى : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ } قال أبو مجلز : { سَلَفاً } لمثل من نعمل بعملهم ، { مَثَلاً } أي عبرة لمن بعدهم .(1/2297)
وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَا مِنْكُمْ مَلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاءَ عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65)
يقول تعالى مخبراً عن تعنت قريش في كفرهم وتعمدهم العناد والجدل : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } . قال ابن عباس أي ( يضحكون ) أعجبوا بذلك ، وقال قتادة : يجزعون ويضحكون ، وقال النخعي : يعرضون ، وكان السبب في ذلك ما ذكره محمد بن إسحاق في « السيرة » حيث قال : وجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني يوماً مع الوليد بن المغيرة في المسجد ، فجاء النضر بن الحارث حتى جلس معهم ، وفي المجلس غير واحد من رجال قريش ، فتكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعرض له النضر بن الحارث ، فكلمه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أفحمه ، ثم تلا عليه وعليهم : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] الآيات ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وأقبل عبد الله بن الزبعري حتى جلس فقال الوليد بن المغيرة له : والله ما قام النضر بن الحارث لابن عبد المطلب ، وما قعد ، وقد زعم محمد أنَّا وما نعبد من آلهتنا هذه حصب جهنم ، فقال عبد الله بن الزبعري : أما والله لو وجدته لخصمته ، سلوا محمداً أكل ما يعبد من دون الله في جهنم مع من عبده؟ فنحن نعبد الملائكة ، واليهود تعبد عزيراً ، والنصارى تعبد المسيح عيسى ابن مريم؛ فعجب الوليد ومن كان معه في المجلس من قول عبد الله الزبعري ، ورأوا أنه قد احتج وخاصم ، فذكر ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « كل من أحب أن يعبد من دون الله فهو مع من عبده ، فإنهم إنما يعبدون الشيطان ومن أمرهم بعبادته » فأنزل الله عزّ وجلّ : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } [ الأنبياء : 101 ] أي عيسى وعزير ومن عبد معهما من الأحبار والرهبان الذين مضوا على طاعة الله عزّ وجلّ ، فاتخذهم من بعدهم من أهل الضلالة أرباباً من دون الله ، ونزل فيما يذكر من أمر عيسى عليه الصلاة والسلام وأنه يعبد من دون الله { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } أي يصدون عن أمرك بذلك من قوله ، ثم ذكر عيسى عليه الصلاة والسلام فقال : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ * وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ * وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } أي ما وضع على يديه من الآيات من إحياء الموتى وإبراء الأسقام فكفى به دليلاً على علم الساعة يقول : { فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا واتبعون هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } . عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » يا معشر قريش إنه ليس أحد يعبد من دون الله فيه خير « فقالوا له : ألست تزعم أن عيسى كان نبياً وعبداً من عباد الله صالحاً فقد كان يعبد من دون الله؟ فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } »(1/2298)
، وقال مجاهد في قوله تعالى : { وَلَمَّا ضُرِبَ ابن مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ } ، قالت قريش : إنما يريد محمد أن نعبده كما عبد قوم عيسى ( عيسى ) عليه السلام ، وقوله : { وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ } ؟ مقال قتادة : يقولون آلهتنا خير منه ، وقال قتادة : قرأ ابن مسعود رضي الله عنه : { وقالوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هذا } ؟ يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم .
وقوله تبارك وتعالى : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً } أي مِراءً وهم يعلمون أنه ليس بوارد على الآية لأنها لما لا يعقل وهي قوله تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] ثم هي خطاب لقريش ، وهم إنما كانوا يعبدون الأصنام والأنداد ، ولم يكونوا يعبدون المسيح حتى يوردوه فتعين أن مقالتهم إنما كانت جدلاً منهم ليسوا يعتقدون صحتها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما ضل قوم بعد هدى كانوا إلا أورثوا الجدل » ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } . وروى ابن جرير ، عن أبي أمامة رضي الله عنه قال : « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج على الناس وهم يتنازعون في القرآن ، فغضب غضباً شديداً حتى كأنما صب وجهه الخل ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : » لا تضربوا كتاب الله بعضه ببعض ، فإنه ما ضل قوم قط إلا أوتوا الجدل « ، ثم تلا صلى الله عليه وسلم : { مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ } » ، وقوله تعالى : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } يعني عيسى عليه الصلاة والسلام ما هو إلا عبد من عباد الله عزَّ وجلَّ أنعم الله عليه بالنبوة والرسالة { وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ } أي دلالة وحجة وبرهاناً على قدرتنا على ما نشاء ، وقوله عزَّ وجلَّ : { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ } أي بدلكم { مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ } ، وقال السدي : يخلفونكم فيها ، وقال ابن عباس وقتادة : يخلف بعضهم بعضاً كما يخلف بعضكم بعضاً ، وهذا القول يستلزم الأول ، وقال مجاهد : يعمرون الأرض بدلكم .
وقوله سبحانه وتعالى : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } تقدم تفسير ابن إسحاق أن المراد من ذلك ما بعث به عيسى عليه الصلاة والسلام من إحياء الموتى وإبراء الأكمة والأبرص وغير ذلك من الأسقام وفيه نظر . الصحيح أنه عائد على عيسى عليه الصلاة والسلام ، فإن السياق في ذكره ، ثم المراد بذلك نزوله قبل يوم القيامة ، كما قال تبارك وتعالى :(1/2299)
{ وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } [ النساء : 159 ] أي قبل موت عيسى عليه الصلاة والسلام ، ثُم { وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } [ النساء : 159 ] ويؤيد هذا المعنى القراءة الأُخْرى { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } أي أمارة ودليل على وقوع الساعة ، قال مجاهد : { وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ } أي آية للساعة خروج عيسى ابن مريم عليه السلام قبل يوم القيامة ، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر بنزول عيسى عليه السلام قبل يوم القيامة إماماً عادلاً وحكماً مقسطاً ، وقوله تعالى : { فَلاَ تَمْتَرُنَّ بِهَا } أي لا تشكوا فيها إنها واقعة وكائنة لا محالة ، { واتبعون } أي فبما أخبركم به { هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ * وَلاَ يَصُدَّنَّكُمُ الشيطان } أي عن اتباع الحق ، { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * وَلَمَّا جَآءَ عيسى بالبينات قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بالحكمة } أي بالنبوة ، { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } قال ابن جرير : يعني من الأمور الدينية لا الدنيوية ، وهذا الذي قاله حسن جيد ، وقوله عزّ وجلّ { فاتقوا الله } أي فيما أمركم به { وَأَطِيعُونِ } فيما جئتكم بهن { إِنَّ الله هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي وأنا وأنتم عبيد له فقراء إليه مشتركون في عبادته وحده لا شريك له ، { هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي هذا الذي جئتكم به هو الصراط المستقيم وهو عبادة الرب جلّ وعلا وحده وقوله سبحانه وتعالى : { فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ } أي اختلف الفرق وصاروا شيعاً فيه ، منهم من يقر بأنه عبد الله ورسوله وهو الحق ، ومنهم من يدعي أنه ولد الله ، ومنهم من يقول إنه الله ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً ، ولهذا قال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ } .(1/2300)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73)
يقول تعالى : هل ينتظر هؤلاء المشركون المكذبون للرسل { إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي فإنها كائنة لا محالة وواقعة ، وهؤلاء غافلون عنها ، فإذا جاءت إنما تجيء وهم لا يشعرون بها ، فحينئذٍ يندمون كل الندم حيث لا ينفعهم ولا يدفع عنهم ، وقوله تعالى : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } أي كل صداقة وصحابة لغير الله ، فإنها تنقلب يوم القيامة عداوة إلا ما كان الله عزّ وجلّ ، فإنه دائم بدوامه ، وهذا كما قال إبراهيم عليه الصلاة والسلام لقومه : { إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدنيا ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [ العنكبوت : 45 ] قال ابن عباس ومجاهد : صارت كل خلة عداوة يوم القيامة إلا المتقين . وروى الحافظ ابن عساكر عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو أن رجلين تحابا في الله أحدهما بالمشرق والآخر بالمغرب لجمع الله تعالى بينهما يوم القيامة ، يقول هذا الذي أحبتته فيَّ » وقوله تبارك وتعالى : { ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } ثم بشرهم فقال : { الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ } أي آمنت قلوبهم وبواطنهم ، وانقادت لشرع الله جوارحهم وظواهرهم ، قال المعتمر بن سليمان عن أبيه : إذا كان يوم القيامة فإن الناس حيث يبعثون لا يبقى أحد منهم إلا فزع فينادي منادٍ { ياعباد لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمُ اليوم وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } فيرجوها الناس كلهم ، قال : فيتبعها : { الذين آمَنُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ مُسْلِمِينَ } قال : فييأس الناس منها غير المؤمنين { ادخلوا الجنة } أي يقال لهم : ادخلوا الجنة { أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ } أي نظراؤكم { تُحْبَرُونَ } أي تتنعمون وتسعدون ، وقد تقدم تفسيرها في سورة الروم . { يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ } أي زبادي آنية الطعام { وَأَكْوَابٍ } وهي آنية الشراب أي من ذهب لا خراطيم لها ولا عرى { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس } ، وقرأ بعضهم تشتهي الأنفس : { وَتَلَذُّ الأعين } أي طيب الطعم والريح وحسن المنظر ، روى عبد الرزاق عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن أدنى أهل الجنة منزلة وأسفلهم درجة لرجل لا يدخل الجنة بعده أحد ، يفسح له في بصره مسيرة مائة عام ، في قصور من ذهب وخيام من لؤلؤ ، ليس فيها موضع شبر إلا معمور ، يغدى عليه ويراج بسبعين ألف صفحة من ذهب ليس فها صفحة إلا فيها لون ليس في الأخر مثلهن شهوته في آخرها كشهوته في أولها ، لو نزل به جميع أهل الأرض لوسع عليهم مما أُعْطي ، لا ينقص ذلك مما أوتي شيئاً » .(1/2301)
وقوله تعالى : { وَأَنتُمْ فِيهَا } أي في الجنة { خَالِدُونَ } أي لا تخرجون منها ولا تبغون عنها حولاً ، ثم قيل لهم على وجه التفضل والامتنان { وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي أعمالكم الصالحة كانت سبباً لشمول رحمة الله إياكم ، فإنه لا يدخل أحداً عملُه الجنة ولكن برحمة الله وفضله ، وإنما الدرجات ينال تفاوتها بحسب الأعمال الصالحات . روى ابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل أهل النار يرى منزله من الجنة فيكون له حسرة فيقول : { لَوْ أَنَّ الله هَدَانِي لَكُنتُ مِنَ المتقين } [ الزمر : 57 ] ، وكل أهل الجنة يرى منزله في النار فيقول : { وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لولا أَنْ هَدَانَا الله } [ الأعراف : 43 ] فيكون له شكراً » ، قال : وما من أحد إلا وله منزل في الجنة ومنزل في النار ، الكافر يرث المؤمن منزله في النار ، والمؤمن يرث الكافر منزله في الجنة « وذلك قوله تعالى : { وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ، وقوله تعالى : { لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ } أي من جميع الأنواع { مِّنْهَا تَأْكُلُونَ } أي مهما اخترتم وأردتم ، ولما ذكر الطعام والشراب ذكر بعده الفاكهة لتتم النعمة والغبطة ، والله تعالى أعلم .(1/2302)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُمْ بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْرًا فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)
لما ذكر تعالى حال السعداء ثنَّى بذكر الأشقياء ، فقال : { إِنَّ المجرمين فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ * لاَ يُفَتَّرُ عَنْهُمْ } أي ساعة واحدة { وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } أي آيسون من كل خير ، { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين } أي بأعمالهم السيئة بعد قيام الحجة عليهم ، وإرسال الرسل إليهم فكذبوا وعصوا فجوزوا بذلك جزاء وفاقاً وما ربك بظلام للعبيد ، { وَنَادَوْاْ يامالك } وهو خازن النار ، { لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ } أي يقبض أرواحنا فيريحنا مما نحن فيه ، فإنهم كما قال تعالى : { لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا } [ فاطر : 36 ] ، وقال عزّ وجلّ : { ثُمَّ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يَحْيَا } [ الأعلى : 13 ] ، فلما سألوا أن يموتوا أجابهم مالك { قَالَ إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } قال ابن عباس : مكث ألف سنة ، ثم قال : { إِنَّكُمْ مَّاكِثُونَ } أي لا خروج لكم منها ولا محيد لكم عنها ، ثم ذكر سبب شقوتهم وهو مخالفتم للحق ومعاندتهم له فقال : { لَقَدْ جِئْنَاكُم بالحق } أي بيناه لكم ووضحناه وفسرناه { ولكن أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } أي ولكن كانت سجاياكم لا تقبله ولا تقبل عليه ، وإنما تنقاد للباطل وتعظمه ، وتصد عن الحق وتأباه ، فعودوا على أنفسكم بالملامة ، واندموا حيث لا تنفعكم الندامة ، ثم قال تبارك وتعالى : { أَمْ أبرموا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ } ، قال مجاهد : أرادوا كيد شر فكدناهم ، وذلك لأن المشركين كانوا يتحيلون في رد الحق بالباطل بحيل ومكر يسلكونه ، فكادهم الله تعالى ورد وبال ذلك عليهم ، ولهذا قال : { أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لاَ نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم } ، أي سرهم وعلانيتهم { بلى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ } أي نحن نعلم ما هم عليه ، والملائكة أيضاً يكتبون أعمالهم صغيرها وكبيرها .(1/2303)
قُلْ إِنْ كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاءِ إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ لَا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد { إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } أي لو فرض هذا لعبدته على ذلك ، لأني من عبيده مطيع لجميع ما يأمرني به ، وليس عندي استكباراً ولا إباء عن عبادته ، فلو فرض هذا لكان هذا ، ولكن هذا ممتنع في حقه تعالى : والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضاً ، كما قال عزّ وجلّ : { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار } [ الزمر : 4 ] ، وقال بعض المفسرين في قوله تعالى : { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } أي الآنفين ، وقال ابن عباس : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ } يقول : لم يكن للرحمن ولد فأنا أول الشاهدين ، قال قتادة : هي كلمة من كلام العرب أي إن ذلك لم يكن فلا ينبغي ، وقال أبو صخر { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } أي فانا أول من عبده بأن لا ولد له ، وأول من وحده ، وقال مجاهد : أي أول من عبده وحده وكذّبكم ، وقال البخاري { فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } ألآنفين وهما لغتان : رجل عابد وعبد ، والأول أقرب على أنه شرط وجزاء ولكن هو ممتنع ، وقال السدي : معناه ولو كان ولد كنت أول من عبده بأن له ولداً ، ولكن لا ولد له ، وهو اختيار ابن جرير ، ولهذا قال تعالى : { سُبْحَانَ رَبِّ السماوات والأرض رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } أي تعالى وتقدس وتنزه خالق الأشياء ، عن أن يكون له ولد ، فإنه فرد صمد ، لا نظير له ، ولا كفء له ، فلا ولد له ، وقوله تعالى : { فَذَرْهُمْ يَخُوضُواْ } أي في جهلهم وضلالهم { وَيَلْعَبُواْ } في دنياهم { حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي يُوعَدُونَ } وهو يوم القيامة ، أي فسوف يعلمون كيف يكون مصيرهم ومآلهم وحالهم في ذلك اليوم .
وقوله تبارك وتعالى : { وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله } أي هو إله من في السماء ، وإله من في الأرض يعبده أهلهما ، وكلهم خاضعون له أذلاء بين يديه ، { وَهُوَ الحكيم العليم } وهذه الآية كقوله سبحانه وتعالى : { وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } [ الأنعام : 3 ] أي هو المدعو لله في السماوات والأرض { وَتَبَارَكَ الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } أي هو خالفهما ومالكهما والمتصرف فيهما بلا مدافعة ولا ممانعة ، فسبحانه وتعالى عن الولد { وَتَبَارَكَ } أي استقر له السلامة من العيوب والنقائص ، لأن الرب العلي العظيم المالك للأشياء ، الذي بيده أزمة الأمور نقضاً وإبراماً ، { وَعِندَهُ عِلْمُ الساعة } أي لا يجليها لوقتها إلا هو ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي فيجازي كلاًّ بعمله ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، ثم قال تعالى : { وَلاَ يَمْلِكُ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } أي من الأصنام والأوثان { الشفاعة } أي لا يقدرون على الشفاعة لهم { إِلاَّ مَن شَهِدَ بالحق وَهُمْ يَعْلَمُونَ } هذا استثناء منقطع ، أي لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم ، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له ، ثم قال عزَّ وجلَّ : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ } أي ولئن سألت هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره { مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } أي هم يعترفون أنه الخالق للأشياء جميعها وحده لاشريك له في ذلك ، ومع هذا يعبدون معه غيره ممن لا يملك شيئاً ولا يقدر على شيء ، فهم في ذلك في غاية الجهل والسفاهة وسخافة العقل ، ولهذا قال تعالى : { فأنى يُؤْفَكُونَ } ؟ .(1/2304)
وقوله جلّ وعلا : { وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } أي وقال محمد صلى الله عليه وسلم { وَقِيلِهِ } أي شكا إلى ربه شكواه من قومه الذين كذبوه فقال : يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون ، كما أخبر تعالى في الأُخْرى : { وَقَالَ الرسول يارب إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُوراً } [ الفرقان : 30 ] ، وقال مجاهد في قوله : { وَقِيلِهِ يارب إِنَّ هؤلاء قَوْمٌ لاَّ يُؤْمِنُونَ } قال : يؤثر الله عزّ وجلّ قول محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال قتادة : هو قول نبيكم صلى الله عليه وسلم يشكو قومه إلى ربه عزّ وجلّ ، وقوله تعالى : { فاصفح عَنْهُمْ } ، أي عن المشركين ، { وَقُلْ سَلاَمٌ } أي لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيء ، ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلاً وقولاً ، { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } هذا تهديد من الله تعالى لهم ، ولهذا أحل بهم بأسه الذي لا يرد ، وأعلى دينه وكلمته ، وشرع بعد ذلك الجهاد والجلاد ، حتى دخل الناس في دين الله أفواجاً ، وانتشر الإسلام في المشارق والمغارب ، والله أعلم .(1/2305)
حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8)
يقول تعالى مخبراً عن القرآن العظيم ، أنه أنزله في ليلة مباركة وهي ليلة القدر ، كما قال عزَّ وجلَّ : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] وكان ذلك في شهر رمضان ، كما قال تبارك وتعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } [ البقرة : 185 ] ، وقوله عزّ وجلّ : { إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } أي معلمين الناس ما ينفعهم ويضرهم شرعاً لتقوم حجة الله على عباده ، وقوله : { فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ } أي في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة ، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها ، وقوله جلّ علا : { حَكِيمٍ } أي محكم لا يبدل ولا يغير ، ولهذا قال جلّ جلاله : { أَمْراً مِّنْ عِنْدِنَآ } أي جميع ما يكون ويقدره الله تعالى وما يوحيه فبأمره وإذنه وعلمه { إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } أي إلى الناس رسولاً يتلو عليهم آيات الله مبينات ، فإن الحاجة كانت ماسة إليه ، ولهذا قال تعالى : { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السميع العليم * رَبِّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ } أي الذي أنزل القرآن هو رب السماوات والأرض وخالقهما ومالكهما وما فيهما ، { إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ } أي إن كنتم متحققين ، ثم قال تعالى : { لاَ إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين } وهذه الآية كقوله تعالى : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض لا إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ الأعراف : 158 ] الآية .(1/2306)
بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلًا إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)
يقول تعالى : بل هؤلاء المشركون في شك يلعبون أي قد جاءهم الحق اليقين ، وهم يشكون فيه ويمترون ولا يصدقون به ، ثم قال عزَّ وجلَّ متوعداً لهم ومهدداً : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } قال مسروق : دخلنا المسجد ، يعني مسجد الكوفة ، فإذا رجل يقص على أصحابه { يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } تدرون ما ذلك الدخان؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام ، قال : فأتينا ابن مسعود رضي الله عنه فذكرنا ذلك له ، وكان مضطجعاً ففزع فقعد ، وقال : إن الله عزّ وجلّ قال لنبيكم صلى الله عليه وسلم : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين } [ ص : 86 ] ، إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : ألله أعلم ، سأحدثكم عن ذلك : إن قريشاً لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، دعا عليهم بسنين كسني يوسف ، فأصابهم من الجهد والجوع ، حتى أكلوا العظام الميتة ، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان ، وفي رواية : فجعل الرجل ينظر إلى السماء ، فيرى ما بينه وبينها كهيئة الدخان من الجهد ، قال الله تعالى : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى الناس هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، فأُتِي رسول الله صلى الله عليه وسلم فقيل : يا رسول الله ، استسق الله لمضر ، فإنها قد هلكت ، فاستسقى صلى الله عليه وسلم لهم ، فسقوا ، فنزلت : { إِنَّا كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } ، قال ابن مسعود رضي الله عنه : أفيكشف عنهم العذاب يوم القيامة؟ فلما أصابهم الرفاهية عادوا إلى حالهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى إِنَّا مُنتَقِمُونَ } قال : يعني يوم بدر . قال ابن مسعود رضي الله عنه ، فقد مضى خمسى : الدخان والروم والقمر والبطشة واللزام . وقال آخرون : لم يمض الدخان بعد ، بل هو من أمارات الساعة ، كما تقدم من حديث حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من عرفة ، ونحن نتذاكر الساعة ، فقال صلى الله عليه وسلم : « لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان والدابة ، وخروج يأجوج ومأجود ، وخروج عيسى ابن مريم ، والدجال ، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس - إو تحشر الناس - تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا » وفي « الصحيحين » « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لابن صياد : » إني خبأت لك خبأ « قال : هو الدُّخ ، فقال صلى الله عليه وسلم له : » إخسأ فلن تعدو قدرك « قال : وخبأ له رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } »(1/2307)
وعن أبي مالك الأشعري رضي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن ربكم أنذركم ثلاثاً : الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة ، ويأخذ الكافر ، فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه ، والثانية الدابة ، والثالثة الدجال » .
وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يهيج الدخان بالناس ، فأما المؤمن فيأخذه كالزكمة ، وأما الكفار فينفخه حتى يخرج من لك مسمع منه » ، وقال ابن أبي حاتم ، عن علي رضي الله عنه قال : لم تمض آية الدخان بعد ، يأخذ المؤمن كهيئة الزكام وتنفخ الكافر حتى ينفذ ، وروى ابن جرير ، عن عبد الله بن أبي مليكة قال : غدوت على ابن عباس رضي الله عنهما ذات يوم فقال : ما نمت الليلة حتى أصبحت ، قلت : لِمَ؟ قال ، قالوا : طلع الكوكب ذو الذنب ، فخشيت أن يكون الدخان قد طرق فما نمت حتى أصبحت ، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس رضي الله عنهما حبر الأمة وترجمان القرآن ، وهكذا قول من وافقه من الصحابة والتابعين رضي الله عنهم أجمعين من الأحاديث المرفوعة من الصحاح والحسان وغيرهما التي أوردها ، ما فيه مقنع ودلالة ظاهرة على أن الدخان من الآيات المنتظرة مع أنه ظاهر القرآن ، قال الله تبارك وتعالى : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } أي بين واضح يراه كل أحد ، وعلى ما فسر به ابن مسعود رضي الله عنه إنما هو خيال رأوه في أعينهم من شدة الجوع والجهد ، وهكذا قوله تعالى : { يَغْشَى الناس } أي يتغشاهم ويعمهم ، ولو كان أمراً خيالياً يخص أهل مكة المشركين لما قيل فيه { يَغْشَى الناس } ، وقوله تعالى : { هذا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي يقا للهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً كقوله عزّ وجلّ : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ الطور : 13-14 ] ، أو يقول بعضهم لبعض ذلك . وقوله سبحانه وتعالى : { رَّبَّنَا اكشف عَنَّا العذاب إِنَّا مْؤْمِنُونَ } أي يقول الكافرون إذا عاينوا عذاب الله وعقابه سائلين رفعه وكشفه عنهم كقوله جلت عظمته : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ الأنعام : 27 ] ، وكذا قوله جل وعلا : { وَأَنذِرِ الناس يَوْمَ يَأْتِيهِمُ العذاب فَيَقُولُ الذين ظلموا رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل } [ إبراهيم : 44 ] ، وهكذا قال جلّ وعلا هاهنا : { أنى لَهُمُ الذكرى وَقَدْ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ * ثُمَّ تَوَلَّوْاْ عَنْهُ وَقَالُواْ مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ } . يقول : كيف لهم بالتذكر وقد أرسلنا إليهم رسولاً بيِّن الرسالة والنذارة ، ومع هذا تولوا عنه ما وافقوه ، بل كذبوه وقالوا معلم مجنون ، وهذا كقوله جلَّت عظمته :(1/2308)
{ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى } [ الفجر : 23 ] .
وقوله تعالى : { إِنَّا كَاشِفُو العذاب قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَآئِدُونَ } يحتمل معنيين : ( أحدهما ) : أنه يقول تعالى : ولو كشفنا عنكم العذاب ورجعناكم إلى الدار الدنيا ، لعدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والتكذيب . كقوله تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] . ( والثاني ) : أين يكون المراد : إنا مؤخرو العذاب عنكم قليلاً بعد انعقاد أسبابه ووصوله إليكم ، وأنتم مستمرون فيما أنتم فيه من الطغيان الضلال ، ولا يلزم من الكشف عنهم أن يكون باشرهم كقوله تعالى : { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } [ يونس : 98 ] أولم يكن العذاب باشرهم واتصل بهم بل كان قد انعقد سببه عليهم ، ولا يلزم أيضاً أن يكونوا قد أقلعوا عن كفرهم ثم عادوا إليه ، قال الله تعالى إخباراً عن شعيب عليه السلام أنه قال لقومه حين قالوا : { قَالَ الملأ الذين استكبروا مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ ياشعيب والذين آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَآ أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ * قَدِ افترينا عَلَى الله كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا الله مِنْهَا } [ الأعراف : 88-89 ] ، وشعيب عليه السلام لم يكن قط على ملتهم وطرقتهم وقال قتادة : إنكم عائدون إلى عذاب الله . وقوله عزّ وجلّ : { يَوْمَ نَبْطِشُ البطشة الكبرى إِنَّا مُنتَقِمُونَ } : فسر ذلك ابن مسعود رضي الله عنه بيوم بدر ، وروي أيضاً عن ابن عباس رضي الله عنهما وهو محتمل ، والظاهر أن ذلك يومالقيامة وإن كان يوم بدر يوم بطشة أيضاً ، روى عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ، قال ابن مسعود رضي الله عنه { البطشة الكبرى } يوم بدر ، وأنا أقول هي يوم القيامة . وهذا إسناد صحيح عن ابن عباس ، والله أعلم .(1/2309)
وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33)
يقول تعالى ولقد اختبرنا قبل هؤلاء المشركين قوم فرعون وهم قبط مصر ، { وَجَآءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ } يعني موسى الكليم عليه الصلاة والسلام { أَنْ أدوا إِلَيَّ عِبَادَ الله } ، كقوله عزّ وجل : { فَأَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ وَلاَ تُعَذِّبْهُمْ } [ طه : 47 ] الآية ، وقوله جلّ وعلا : { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي مأمون على ما أبلغكموه ، وقوله تعالى : { وَأَن لاَّ تَعْلُواْ عَلَى الله } أي لا تستكبروا عن ابتاع آياته والانقياد لحججه والإيمان ببرهنيه ، كقوله عزّ وجلّ : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] ، { إني آتِيكُمْ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي بحجة ظاهرة واضحة وهي ما أرسله الله تعالى به من الآيات البينات والأدلة القاطعات ، { وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ } قال ابن عباس : هو الرجم باللسان وهو الشتم ، وقال قتادة : الرجم بالحجارة أي أعوذ بالله الذي خلقني وخلقكم من أن تصلوا إلي بسوء من قولٍ أو فعل ، { وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِي فاعتزلون } أي فلا تتعرضوا لي ودعوا الأمر مسالمة إلى أن يقضي الله بيننا ، فلما طال مقامه صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، وأقام حجج الله تعالى عليهم ، كل ذلك وما زادهم إلاّ كفراً وعناداً ، دعا ربه عليهم عدوة نفذت فيهم ، كما قال تبارك وتعالى : { وَقَالَ موسى رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم * قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا فاستقيما } [ يونس : 88-89 ] ، وهكذا قال ههنا { فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هؤلاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ } فعند ذلك أمره الله تعالى أن يخرج ببني إسرائيل من بين أظهرهم ، من غير أمر فرعون ومشاورته واستئذانه ، ولهذا قال جلّ جلاله : { فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ } ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ أَوْحَيْنَآ إلى موسى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى } [ طه : 77 ] ، وقوله عزّ وجلّ : { واترك البحر رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ } ، وذلك أن موسى عليه الصلاة السلام لما جاوز هو وبنو إسرائيل البحر أراد موسى أن يضربه بعصاه حتى يعود كما كان ليصير حائلاً بينهم وبين فرعون ، فلا يصل إليهم ، فأمره الله تعالى أن يتركه على حاله ساكناً ، وبشره بأنهم جند مغرقون فيه ، وأنه لا يخاف دركاً ولا يخشى ، قال ابن عباس : { واترك البحر رَهْواً } كهيئته وامضه ، وقال مجاهد { رَهْواً } طريقاً يبساً كهيئته ، يقول لا تأمره يرجع اتركه حتى يرجع آخرهم ، ثم قال تعالى : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ } وهي البساتين { وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ } والمراد بها الأنهار والآبار { وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } وهي المساكن الحسنة ، { وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ } أي عيشة كانوا يتفكهون فيها ، فيأكلون ما شاءوا ويلبسون ما أحبوا ، مع الأموال والجاهات والحكم في البلاد ، فسلبوا ذلك جميعه في صبيحة واحدة ، وفارقوا الدنيا ، وصاروا إلى جهنم وبئس المصير واستولى على البلاد المصرية والمماليك القبطية بنو إسرائيل ، كما قال تبارك وتعالى :(1/2310)
{ كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 59 ] وقال في الآية الأخرى : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا } [ الأعراف : 137 ] وقال عزّ وجلّ هاهنا : { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } وهم بنو إسرائيل كما تقدم .
وقوله سبحانه وتعالى : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض } أي لم تكن لهم أعمال صالحة تصعد في أبواب السماء فتبكي على فقدهم ، ولا لهم في الأرض بقاع عبدوا الله تعالى فيها فقدتهم ، فلهذا استحقوا أن لا ينظروا ولا يؤخروا لكفرهم وإجرامهم وعتوهم وعنادهم ، روى الحافظ الموصلي ، عن أنَس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من عبد إلاّ وله في السماء بابان : باب يخرج منه رزقه ، وباب يدخل منه عمله وكلامه ، فإذا مات فقداه وبكيا عليه » ، وتلا هذه الآية : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض } وذكر أنهم لم يكونوا عملوا على الأرض عملاً صالحاً يبكي عليهم ، ولم يصعد لهم إلى السماء من كلامهم ، ولا من عملهم كلام طيب ولا عمل صالح فتفقدهم فتبكي عليهم ، وروى ابن أبي حاتم ، عن عباد بن عبد الله قال : سأل رجل علياً رضي الله عنه هل تبكي السماء والأرض على أحد؟ فقال له : لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد قبلك؛ إنه ليس من عبد إلاّ له مصلى في الأرض ومصعد عمله من السماء ، وإن آل فرعون لم يكن لهم عمل صالح في الأرض ، ولا عمل يصعد في السماء ، ثم قرأ علي رضي الله عنه : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } . وقال ابن جرير ، عن سعيد بن جبير قال : أتى ابنَ عباس رضي الله عنهما رجلٌ فقال : يا أبا العباس ، أرأيت قول الله تعالى : { فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السمآء والأرض وَمَا كَانُواْ مُنظَرِينَ } فهل تبكي السماء والأرض على أحد؟ قال رضي الله عنه : نعم إنه ليس أحد من الخلائق إلاّ وله باب في السماء منه ينزل رزقه ، وفيه يصعد عمله ، فإذا مات المؤمن فأغلق بابه من السماء الذي كان يصعد فيه عمله وينزل منه رزقه ففقده بكى عليه ، وإذا فقده مصلاة من الأرض التي كان يصلي فيها ويذكر الله عزَّ وجلَّ فيها بكت عليه ، وإن قوم فرعون لم تكن لهم في الأرض آثار صالحة ، ولمك يكن يصعد إلى الله عزَّ وجلَّ منهم خير ، فلم تبك عليهم السماء والأرض . وقال سفيان الثوري : تبكي الأرض على المؤمن أربعين صباحاً ، وقال مجاهد : ما مات مؤمن إلاّ بكت عليه السماء والأرض أربعين صباحاً ، فقلت له : أتبكي الأرض : فقال : أتعجب؟ وما للأرض لا تبكي على عبد كان يعمرها بالركوع والسجود؟ وما للسماء لا تبكي على عبد كان لتكبيره وتسبيحه فيها دوي كدوي النحل ، وقال قتادة : كانوا أهون على الله عزَّ وجلَّ من أن تبكي عليهم السماء والأرض .(1/2311)
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بني إِسْرَائِيلَ مِنَ العذاب المهين * مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين } يمتن عليهم تعالى بذلك حيث أنقذهم مما كنوا فيه من إهانة فرعون وإذلاله لهم ، وتسخيره إياهم في الأعمال المهينة الشاقة ، وقوله تعالى : { مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً } أي مستكبراً جباراً عنيداً كقوله عزّ وجلّ : { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض } [ القصص : 4 ] ، وقوله جلَّت عظمته : { فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً عَالِينَ } [ المؤمنون : 46 ] ، { مِّنَ المسرفين } أي مسرف في أمره سخيف الرأي على نفسه ، وقوله جلّ جلاله : { وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين } قال مجاهد : على من هم بين ظهريه ، وقال قتادة : اختبروا على أهل زمانهم ذلك ، وكان يقال : إن لكل زمان عالماً ، وهذا كقوله عزّ وجلّ لمريم عليها السلام { واصطفاك على نِسَآءِ العالمين } [ آل عمران : 42 ] أي في زمانها ، فإن خديجة رضي الله عنها أفضل منها ، أو مساوية لها في الفضل ، وكذا آسية امرأة فرعون ، وفضل عائشة رضي الله عنها على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام ، وقوله جلّ جلاله : { وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الآيات } الحجج والبراهين وخوارق العادات { مَا فِيهِ بَلاَءٌ مُّبِينٌ } أي اختيار ظاهر جلي لمن اهتدى به .(1/2312)
إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37)
يقول تعالى منكراً على المشركين في إنكارهم البعث والمعاد ، وأنه ما ثَمَّ إلاّ هذه الحياة الدنيا ، ولا حياة بعد الممات ولا بعث ولا نشور ، ويحتجون بآبائهم الماضين الذين ذهبوا فلم يرجعوا ، فإن كان البعث حقاً { فَأْتُواْ بِآبَآئِنَا إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } وهذه حجة باطلة وشبهة فاسدة ، فإن المعاد إنما هو يوم القيامة ، لا في الدار الدنيا ، بل بعد انقضائها وذهابها وفراغها يعيد الله العالمين خلقاً جديداً ، ويجعل الظالمين لنار جهنم وقوداً ، ثم قال تعالى متهدداً لهم ومتوعداً ومنذراً لهم بأسه الذي لا يرد ، كما حل بأشباههم ونظرائهم من المشركين المنكرين للبعث ، كقوم تُبَّع وهم ( سبأ ) حيث أهلكهم الله عزَّ وجلَّ وخرب بلادهم ، وشردهم في البلاد وفرقهم شذر مذر ، كما تقدم ذلك في سورة سبأ .(1/2313)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)
يقول تعالى مخبراً عن عدله وتنزيهه نفسه عن اللعب والعبث والباطل { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا لاَعِبِينَ } كقوله عزّ وعلا : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار } [ ص : 27 ] ، وقال تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] ثم قال تعالى : { إِنَّ يَوْمَ الفصل مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } وهو يوم القيامة يفصل الله تعالى فيه بين الخلائق ، فيعذب الكافرين ويثيب المؤمنين ، وقوله عزّ وجلّ { مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ } أي يجمعهم كلهم أولهم وآخرهم { يَوْمَ لاَ يُغْنِي مَوْلًى عَن مَّوْلًى شَيْئاً } أي لا ينفع قريب قريباً كقوله سبحانه وتعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، وكقوله جلَّت عظمته : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ } [ المعارج : 10-11 ] أي لا يسأل أخ أخاً له عن حاله وهو يراه عياناً ، وقوله جلّ وعلا : { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } ، أي لا ينصر القريب قريبه ولا يأتيه نصر من خارج ، ثم قال : { إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله } أي لا ينفع يومئذٍ إلاّ رحمة الله عزّ وجلّ بخلقه { إِنَّهُ هُوَ العزيز الرحيم } أي عزيز ذو رحمة واسعة .(1/2314)
إِنَّ شَجَرَتَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)
يقول تعالى مخبراً عما يعذب به الكافرين الجاحدين للقائه { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم * طَعَامُ الأثيم } و { الأثيم } أي في قوله وفعله ، وهو الكافر ، وذكر غير واحد أنه ( أبو جهل ) ، ولا شك في دخوله في هذه الآية ، ولكن ليست خاصة به ، قال همام بن الحارث : إن أبا الدرداء كان يقرىء رجلاً : { إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم * طَعَامُ الأثيم } فقال : كعام اليتيم ، فقال أبو الدرداء رضي الله عنه : قل : إن شجرة الزقوم طعام الفاجر ، أي ليس له طعام من غيرها ، قال مجاهد : ولو وقعت قطرة منها في الأرض لأفسدت على أهل الأرض معايشهم ، وقوله { كالمهل } كعكر الزيت { يَغْلِي فِي البطون * كَغَلْيِ الحميم } أي من حرارتها ورداءتها ، وقوله تعالى : { خُذُوهُ } أي الكافر ، وقد ورد أنه تعالى إذا قال للزبانية { خُذُوهُ } ابتدروه سبعون ألفاً منهم ، وقوله { فاعتلوه } أي سوقوه سحباً ودفعاً في ظهره ، قال مجاهد { خُذُوهُ فاعتلوه } أي خذوه فادفعوه ، { إلى سَوَآءِ الجحيم } أي وسطها { ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم } كقوله عزّ وجل : { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود } [ الحج : 19-20 ] . وقد تقدم أن الملك يضربه بمقمعة من حديد فتفتح دماغه ، ثم يصب الحميم على رأسه فينزل في بدنه ، فيسلت ما في بطنه من أمعائه حتى تمرق من كعبيه ، أعاذنا الله تعالى من ذلك ، وقوله تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } أي قولوا له ذلك على وجه التهكم والتوبيخ ، وقول الضحاك عن ابن عباس : أي لست بعزيز ولا كريم ، وقد قال الأموي في « مغازيه » ، حدثنا أسباط بن محمد ، حدثنا أبو بكر الهذلي عن عكرمة قال : « لقي رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا جهل ، لعنه الله فقال : إن الله تعالى أمرني أن أقول لك : » أولى لك فأولى ، ثم أولى لك فأولى « ، قال ، فنزع ثوبه من يده وقال : ما تستطيع لي أنت ولا صاحبك من شيء ولقد علمت أني أمنع أهل البطحاء ، وأنا العزيز الكريم . قال : فقتله الله تعالى يوم بدر وأذله ، وعيَّره بكلمته ، وأنزل : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } » وقوله عزّ وجلّ : { إِنَّ هذا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } كقوله تعالى : { هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } [ الطور : 14-15 ] .(1/2315)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)
لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر السعداء ، ولهذا سمي القرآن مثاني ، فقال : { إِنَّ المتقين } أي لله في الدنيا { فِي مَقَامٍ أَمِينٍ } أي في الآخرة ، وهو الجنة وقد أمنوا فيها من الموت والخروج ، ومن كل هم وحزن وجزع وتعب ونصب ، من الشيطان وكيده وسائر الآفات والمصائب { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } وهذا في مقابلة ما أولئك فيه من شجرة الزقوم وشرب الحميم ، وقوله تعالى : { يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ } وهو رفيع الحرير ، كالقمصان ونحوها ، { وَإِسْتَبْرَقٍ } وهو ما فيه بريق ولمعان ، وذلك كالريش ما يلبس على أعالي القماش { مُّتَقَابِلِينَ } أي على السرر لا يجلس أحد منهم وظهره إلى غيره ، وقوله تعالى : { كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } أي هذا العطاء ما قد منحناهم من الزوجات الحسان الحور العين اللاتي { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } الرحمن : 56 ] { كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان } [ الرحمن : 58 ] روى ابن أبي حاتم ، عن أنس رضي الله عنه رفعه قال : لو أن حوراء بزقت في بحر لجي لعذب ذلك الماء لعذوبة ريقها ، وقوله عزّ وجلّ : { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } أي مهما طلبوا من أنواع الثمار أحضر لهم ، وهم آمنون من انقطاعه وامتناعه بل يحضر إليهم كلما أرادوا ، وقوله : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } ، وهذا استثناء يؤكد النفي ، ومعناه أنهم لا يذوقون فيها الموت أبداً ، كما ثبت في « الصحيحين » « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيوقف بين الجنة والنار ، ثم يذبح ، ثم يقال : يا أهل الجنة خلود فلا موت . ويا أهل النار خلود فلا موت « وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما قالا : » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يقال لأهل الجنة إن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً ، وإن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبداً ، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً » .
وقوله تعالى : { وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الجحيم } أي مع هذا النعيم العظيم المقيم ، قد وقاهم ونجاهم وزحزحهم عن العذاب الأليم ، في دركات الجحيم ، ولهذا قال عزّ وجل : { فَضْلاً مِّن رَّبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } أي إنما كان هذا بفضله عليهم ، وإحسانه إليهم ، كما ثبت في الصحيح « عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : » اعملوا وسددوا وقاربوا واعلموا أن أحداً لن يدخله عمله الجنة « ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم : » ولا أنا إلاّ أن يتغمدني الله برحمة منه وفضل « » وقوله تبارك وتعالى : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي إنما يسرنا هذا الرآن الذي أنزلناه سهلاً واضحاً بيناً جلياً بلسانك الذي هو أفصح اللغات وأجلاها وأحلاها وأعلاها ، { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي يتفهمون ويعملون ، ثم لما كان مع هذا الوضوح والبيان ، من الناس من كفر وخالف وعاند ، قال الله تعالى لرسوله صلى اله عليه وسلم مسلياً له وواعداً له بالنصر ، ومتوعداً لمن كذبه بالعطف والهلاك { فارتقب } أي انتظر { إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ } أي فيسعلمون لمن تكون النصرة والظفر ، وعلو الكلمة في الدنيا والآخرة ، فإنها لك يا محمد ولإخوانك من النبيين والمرسلين ، ومن اتبعكم من المؤمنين ، كما قال تعالى :(1/2316)
{ كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي } [ المجادلة : 21 ] الآية ، وقال تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد * يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار } [ غافر : 51-52 ] .(1/2317)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4) وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)
يرشد تعالى خلقه إلى التفكير في آلائه ونعمه ، وقدرته العظيمة التي خلق بها السماوات والأرض ، وما فيهما من المخلوقات المختلفة الأجناس والأنواع ، من الملائكة والجن والإنس والدواب ، والطيور والوحوش والسباع والحشرات ، وما في البحر من الأصناف المتنوعة ، واختلاف الليل والنهار في تعاقبهما دائبين لا يفتران ، هذا بظلامه ، وهذا بضيائه ، وما أنزل الله تبارك وتعالى من السحاب ، من المطر في وقت الحاجة إليه ، وسماه رزقاً لأن به يحصل الرزق { فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } أي بعد ما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء ، وقوله عزّ وجلّ : { وَتَصْرِيفِ الرياح } أي جنوباً وشمالاً برية وبحرية ، ليلية ونهارية ، ومنها ما هو للمطر ، ومنها ماهو للقاح ، ومنها ما هو غذاء للأرواح ، ومنه ما هو عقيم لا ينتج ، وقال سبحانه أولاً { لآيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ } ثم { يُوقِنُونَ } ثم { يَعْقِلُونَ } وهو ترق من حال شريف إلى ما هو أشرف منه وأعلى ، وهذه الآيات شبيهة بآية البقرة وهي قوله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرياح والسحاب المسخر بَيْنَ السمآء والأرض لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 164 ] .(1/2318)
تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آيَاتِ اللَّهِ تُتْلَى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (8) وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئًا اتَّخَذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرَائِهِمْ جَهَنَّمُ وَلَا يُغْنِي عَنْهُمْ مَا كَسَبُوا شَيْئًا وَلَا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (10) هَذَا هُدًى وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)
يقول تعالى : { تَلْكَ آيَاتُ الله } يعني القرآن بما فيه من الحجج والبينات { نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق } أي متضمنة الحق من الحق ، فإذا كانوا لا يؤمنون بها ولا ينقادون لها { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ الله وَآيَاتِهِ يُؤْمِنُونَ } ؟ ثم قال تعالى { وَيْلٌ لِّكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } أفاك في قوله أي كذاب { أَثِيمٍ } في فعله وقلبه كافر بآيات الله ، ولهذا قال : { يَسْمَعُ آيَاتِ الله تتلى عَلَيْهِ } أي تقرأ عليه { ثُمَّ يُصِرُّ } أي على كفره وجحوده ، استكباراً وعناداً { كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا } كأنه ما سمعها { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } فأخبره أن له عند الله تعالى يوم القيامة عذاباً أليماً موجعاً ، { وَإِذَا عَلِمَ مِنْ آيَاتِنَا شَيْئاً اتخذها هُزُواً } أي إذا حفظ شيئاً من القرآن كفر به ، واتخذه سخرياً وهزواً { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي في مقابلة ما استهان بالقرآن واستهزأ به ، ولهذا « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخافة أن يناله العدو » ، ثم فسر العذاب الحاصل له يوم معاده فقال { مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ } أي كل من اتصف بذلك سيصيرون إلى جهنم يوم القيامة { وَلاَ يُغْنِي عَنْهُم مَّا كَسَبُواْ شَيْئاً } أي لا تنفعهم أموالهم ولا أولادهم ، { وَلاَ مَا اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ } أي ولا تغني عنهم الآلهة التي عبدوها من دون الله شيئاً { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، ثم قال تبارك وتعالى : { هذا هُدًى } يعني القرآن { والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذَابٌ مِّن رِّجْزٍ أَلِيمٌ } وهو المؤلم الموجع ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(1/2319)
اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَسَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِنْهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13) قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لَا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْمًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَاءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)
يذكر تعالى نعمه على عبيده فيما سخر لهم من البحر { لِتَجْرِيَ الفلك } وهي السفن فيه بأمره تعالى فإنه هو الذي أمر البحر بحملها { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي في المتاجر والمكاسب ، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي على حصول المنافع المجلوبة إليكم ، من الأقاليم النائية والآفاق القاصية ، ثم قال عزّ وجلّ { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } أي من الكواكب والجبال والبحار والأنهار ، الجميع من فضله وإحسانه وامتنانه ، ولهذا قال { جَمِيعاً مِّنْهُ } أي من عنده وحده لا شريك له ، كما قال تبارك وتعالى : { وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ الله } [ النحل : 53 ] { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ، وقوله تعالى : { قُل لِّلَّذِينَ آمَنُواْ يَغْفِرُواْ لِلَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ أَيَّامَ الله } أي ليصفحوا عنهم ، ويتحملوا الآذى منهم ، وكان هذا في ابتداء الإسلام ، أمروا أن يصبروا على أذى المشركين وأهل الكتاب ، ليكون ذلك كالتأليف لهم ، ثم لما أصروا على العناد ، شرع الله للمؤمنين الجلاد والجهاد ، وقوله تعالى : { لِيَجْزِيَ قَوْماً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي إذا صفحوا عنهم في الدنيا ، وفإن الله عزّ وجلّ مجازيهم بأعمالهم السيئة في الآخرة ، ولهذا قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي تعودون إليه يوم القيامة ، فتعرضون بأعمالكم عليه فيجزيكم بأعمالكم خيرها وشرها ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(1/2320)
وَلَقَدْ آتَيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (16) وَآتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْنَاكَ عَلَى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْهَا وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَإِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هَذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)
يذكر تعالى ما أنعم به على بني إسرائيل ، من إنزال الكتب عليهم . وإرسال الرسل إليهم ، وجعله الملك فيهم ، ولهذا قال تبارك وتعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب والحكم والنبوة وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات } أي من المآكل والمشارب ، { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين } أي في زمانهم { وَآتَيْنَاهُم بَيِّنَاتٍ مِّنَ الأمر } أي حججاً وبراهين وأدلة قاطعات ، ثم اختلفوا بعد ذلك من بعد قيام الحجة ، وإنما كان ذلك بغياً منهم { إِنَّ رَبَّكَ } يا محمد { يَقْضِي بِيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي سيفصل بينهم بحكمه العدل ، وهذا فيه تحذير لهذه الأمة ، أن تسلك مسلكهم ، وأن تقصد منهجهم ، ولهذا قال جلّ وعلا : { ثُمَّ جَعَلْنَاكَ على شَرِيعَةٍ مِّنَ الأمر فاتبعها } أي اتبع ما أوحي إليك من ربك وأعرض عن المشركين ، وقال جل جلاله هاهنا : { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَن يُغْنُواْ عَنكَ مِنَ الله شَيْئاً وَإِنَّ الظالمين بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } أي وماذا تغني عنهم ولايتهم لبعضهم بعضاً؟ فإنهم لا يزيدونهم إلا خساراً ودماراً وهلاكاً ، { والله وَلِيُّ المتقين } وهو تعالى يخرجهم من الظلمات إلى النور ، ثم قال عزّ وجلّ : { هذا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ } يعني القرآن { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } .(1/2321)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَوَاءً مَحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (21) وَخَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَلِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (22) أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَى عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (23)
يقول تعالى : لا يستوي المؤمنون والكافرون كما قال في آية أُخرى : { لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون } [ الحشر : 20 ] وقال تبارك وتعالى : { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات } أي عملوها وكسبوها { أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } ؟ أي نساويهم بها في الدنيا والآخرة { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي ساء ما ظنوا بنا وبعدلنا أن نساوي بين الأبرار والفجار ، فكما لا يجتنى من الشوك العنب ، كذلك لا ينال الفجار منازل الأبرار ، ذكر محمد بن إسحاق أنهم وجدوا حجراً بمكة من أس الكعبة ، مكتوب عليه « تعملون السيئات وترجون الحسنات ، أجل كما يجنى من الشوك العنب » . وعن مسروق أن تميماً الداري قام ليلة حتى أصبح يردد هذه الآية : { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ } ولهذا قال تعالى : { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } ، وقال عزّ وجلّ : { وَخَلَقَ الله السماوات والأرض بالحق } أي بالعدل ، { ولتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ، ثم قال جلّ وعلا : { أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } أي إنما يأتمر بهواه ، فمهما رآه حسناً فعله ، ومهما رآه قبيحاً تركه ، لا يهوى شيئاً إلاّ عبده ، وقوله : { وَأَضَلَّهُ الله على عِلْمٍ } يحتمل قولين : ( أحدهما ) : وأضله الله لعمله أنه يستحق ذلك ، ( والآخر ) : وأضله الله بعد بلوغ العلم إليه وقيام الحجة عليه ، والثاني يستلزم الأول ولا ينعكس { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً } أي فلا يسمع ما ينفعه ولا يعي شيئاً يهتدي به ، ولا يرى حجة يستضيء بها ، ولهذا قال تعالى : { فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ الله أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } ؟ كقوله تعالى : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] .(1/2322)
وَقَالُوا مَا هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا يُهْلِكُنَا إِلَّا الدَّهْرُ وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (24) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ مَا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتُوا بِآبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (26)
يخبر تعالى عن قول الدهرية من الكفار ومن وافقهم من مشركي العرب في إنكار المعاد { وَقَالُواْ مَا هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا نَمُوتُ وَنَحْيَا } أي ما ثَمَّ إلاّ هذه الدار ، يموت قوم ويعيش آخرون ، وما ثم معاد ولا قيامة ، وهذا يقوله مشركو العرب المنكرون المعاد ، وتقوله الفلاسفة الدهرية المنكرون للصانع ، المعتقدون أن في كل ستة وثلاثن ألف سنة يعود كل شيء إلى ما كان عليه ، وزعموا أن هذا قد تكرر مرات لا تتناهى ، فكابروا العقول وكذبوا المنقول ، ولهذا قال : { وَمَا يُهْلِكُنَآ إِلاَّ الدهر } قال الله تعالى : { وَمَا لَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } أي يتوهمون ويتخيلون ، فأما الحديث الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يقول تعالى يؤذيني ابن آدم ، يسب الدهر فإن الله تعالى هو الدهر » فقد قال الشافعي وأبو عبيدة في تفسير الحديث : كانت العرب في جاهليتها إذا أصابهم شدة أو بلاء أو نكبة ، قالوا : « يا خيبة الدهر » فيسندون تلك الأفعال إلى الدهر ، ويسبونه ، وإنما فاعلها هو الله تعالى ، فكأنهم إنما سبوا الله عزّ وجلّ ، لأنه فاعل ذلك في الحقيقة ، فلهذا نهى عن سب الدهر بهذا الاعتبار ، لأن الله تعالى هو الدهر الذي يعنونه ويسندون إليه تلك الأفعال ، هذا أحسن ما قيل في تفسيره وهو المراد ، والله أعلم . وقوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } أي إذا بيّن لهم الحق ، وأن الله تعالى قادر على إعادة الأبدان بعد فنائها وتفرقها { مَّا كَانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتوا بِآبَآئِنَآ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، أي أحيوهم إن كان ما تقولونه حقاً ، قال الله تعالى : { قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } أي كما تشاهدون ذلك يخرجكم من العدم إلى الوجود ، { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } [ البقرة : 28 ] اي الذي قدر على البداءة قادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى ، { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] { ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك فيه { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أي فلهذا ينكرون المعاد ويستبعدون قيام الأجساد ، قال الله تعالى : { إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً * وَنَرَاهُ قَرِيباً } [ المعارج : 6-7 ] أي يرون وقوعه بعيداً ، والمؤمنون يرون ذلك سهلاً قريباً .(1/2323)
وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَتَرَى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعَى إِلَى كِتَابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هَذَا كِتَابُنَا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29)
يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض ، والحاكم فيهما في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة } أي يوم القيامة { يَخْسَرُ المبطلون } وهم الكافرون بالله والجاحدون بما أنزله على رسله ، من الآيات البينات والدلائل الواضحات ، ثم قال تعالى : { وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } أي على ركبها من الدشة والعظمة ، ويقال : إن هذا إذا جيء بجهنم ، فإنها تزفر زفرة لا يبقى أحد إلاّ جثا لركبتيه ، حتى إبراهيم الخليل عليه الصلاة والسلام ، ويقول نفسي نفسي نفسي ، لا أسألك اليوم إلاّ نفي ، وحتى إن عيسى عليه الصلاة والسلام ليقول : لا أسألك اليوم إلاّ نفسي ، لا أسألك مريم التي ولدتني ، قال مجاهد { كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } أي على الركب ، وقال عكرمة { جَاثِيَةً } متميزة على ناحيتها ، وليس على الركب ، والأول أولى لما روي عن عبد الله بن باباه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كأني أراكم جاثين بالكوم دون جهنم » ، وقال محمد بن كعب عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعاً في حديث الصور : فيتميز الناس ، وتجثو الأمم ، وهي التي يقول الله تعالى : { وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا } وهذا فيه جمع بين القولين ، ولا منافاة والله أعلم ، وقوله عزّ وجلّ : { كُلُّ أمَّةٍ تدعى إلى كِتَابِهَا } يعني كتاب أعمالها كقوله جلّ جلاله : { وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء } [ الزمر : 69 ] ، ولهذا قال سبحانه وتعالى : { اليوم تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي تجازون بأعمالكم خيرها وشرها ، كقوله عزّ وجلّ : { يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] ، ولهذا قال جلَّت عظمته : { هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق } أي يستحضر جميع أعمالكم من غيره زيادة ولا نقص ، كقوله جلّ جلاله : { وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] ، وقوله عزّ جلّ : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي إنا كنا نأمر الحفظة أن تكتب أعمالكم عليكم ، قال ابن عباس وغيره : تكتب الملائكة أعمال العباد ، ثم تصعد بها إلى السماء ، فيقابل الملائكة الذين في ديوان الأعمال على ما بأيدي الكتبة ، مما قد أبرز لهم من اللوح المحفوظ في كل ليلة قدر مما كتبه الله في القدم على العباد قبل أن يخلقهم ، فلا يزد حرفاً ولا ينقص حرفاً ، ثم قرأ : { إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } .(1/2324)
فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَكُنْتُمْ قَوْمًا مُجْرِمِينَ (31) وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَالسَّاعَةُ لَا رَيْبَ فِيهَا قُلْتُمْ مَا نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (33) وَقِيلَ الْيَوْمَ نَنْسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (34) ذَلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَغَرَّتْكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ لَا يُخْرَجُونَ مِنْهَا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَرَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (36) وَلَهُ الْكِبْرِيَاءُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)
يخبر تعالى عن حكمه في خلقه يوم القيامة فقال تعالى : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي آمنت قلوبهم وعملت جوارحهم الأعمال الصالحة ، وهي الخالصة الموافقة للشرع { فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ } وهي الجنة ، كما ثبت في الصحيح « أن الله تعالى قال للجنة أنت رحمتي أرحم بك من أشاء » { ذَلِكَ هُوَ الفوز المبين } أي البين الواضح ، ثم قال تعالى : { وَأَمَّا الذين كفروا أَفَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فاستكبرتم } ؟ أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً ، وأما قرئت عليكم آيات الله تعالى ، فاستكبرتم عن اتباعها وأعرضتهم عن سماعها ، وكنتم قوماً مجرمين في أفعالكم ، مع ما اشتملت عليه قلوبكم من التكذيب؟ { وَإِذَا قِيلَ إِنَّ وعْدَ الله حَقٌّ والساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا } أي إذا قال لكم المؤمنون ذلك { قُلْتُم مَّا نَدْرِي مَا الساعة } أي لا نعرفها { إِن نَّظُنُّ إِلاَّ ظَنّاً } أي إن نتوهم وقوعها إلاّ توهماً أي مرجوحاً ، ولهذا قال : { وَمَا نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ } أي بمتحققين ، قال الله تعالى : { وَبَدَا لَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ } أي وظهر لهم عقوبة أعمالهم السيئة { وَحَاقَ بِهِم } أي أحاط بهم { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي من العذاب والنكال ، { وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ } أي نعاملكم معاملة الناسي لكم في نار جهنم ، { كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } أي فلم تعملوا له لأنكم لم تصدقوا به { وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } ، وقد ثبت في الصحيح « أن الله تعالى يقول لبعض العبيد يوم القيامة : » ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع «؟ فيقول : بلى يا رب ، فيقول : أفظننت أنك ملاقيّ؟ فيقول : لا ، فيقول الله تعالى : » فاليوم أنساك كما نسيتني « » ، قال الله تعالى : { ذَلِكُم بِأَنَّكُمُ اتخذتم آيَاتِ الله هُزُواً } أي إنما جازيناكم هذا الجزاء ، لأنكم اتخذتم حجج الله عليكم سخرياً تسخرون وتستهزئون بها ، { وَغَرَّتْكُمُ الحياة الدنيا } أي خدعتكم فاطمأننتم إليها فأصبحتم من الخاسرين ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { فاليوم لاَ يُخْرَجُونَ مِنْهَا } أي من النار ، { وَلاَ هُمْ يُسْتَعَتَبُونَ } أي لا يطلب منهم العتبى ، بل يعذبون حساب ولا عتاب ، كما تدخل طائفة من المؤمنين الجنة بغير عذاب ولا حساب . ثم لما ذكر تعالى حكمه في المؤمنين والكافرين قال { فَلِلَّهِ الحمد رَبِّ السماوات وَرَبِّ الأرض } أي المالك لهما وما فيما ، ولهذا قال : { رَبِّ العالمين } ، ثم قال جلّ وعلا : { وَلَهُ الكبريآء فِي السماوات والأرض } ، قال مجاهد : يعني السلطان ، أي هو العظيم الممجد الذي كل شيء خاضع لديه فقير إليه ، وقد ورد في الحديث الصحيح : « يقول الله تعالى : العظمة إزاري ، الكبرياء ردائي فمن نازعني واحداً منهما أسكنته ناري » ، وقوله تعالى : { وَهُوَ العزيز } أي الذي لا يغالب ولا يمانع ، { الحكيم } في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره ، تعالى وتقدس لا إله إلاّ هو .(1/2325)
حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) مَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَالَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي مَاذَا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّمَاوَاتِ ائْتُونِي بِكِتَابٍ مِنْ قَبْلِ هَذَا أَوْ أَثَارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (4) وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ (5) وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ (6)
يخبر تعالى أنه أنزل الكتاب على عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين ، ووصف نفسه بالعزة التي لا ترام والحكمة في الأقوال والأفعال . ثم قال تعالى : { مَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق } أي لا على وجه العبث والباطل ، { وَأَجَلٍ مُّسَمًّى } أي وإلى مدة معينة مضروبة لا تزيد ولا تنقص ، وقوله تعالى : { والذين كَفَرُواْ عَمَّآ أُنذِرُواْ مُعْرِضُونَ } أي لا هون عما يراد بهم ، وقد أنزل الله تعالى إليهم كتاباً ، وأرسل إليهم رسولاً ، وهم معرضون عن ذلك كله ، أي وسيعلمون غب ذلك ، ثم قال تعالى { قُلْ } أي لهؤلاء المشريكن العابدين مع الله غير { أَرَأَيْتُمْ مَّا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله أَرُونِي مَاذَا خَلَقُواْ مِنَ الأرض } أي أرشدوني إلى المكان الذي استقلوا بخلقه من الأرض { أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السماوات } ؟ أي ولا شرك لهم في السماوات ولا في الأرض وما يملكون من قطمير ، إن الملك والتصرف كله إلاّ لله عز وجل ، فكيف تعبدون معه غيره وتشركون به؟ من أرشدكم إلى هذا؟ من دعاكم إليه؟ أهو أمركم به؟ أم هو شيء اقترحتموه من عند أنفسكم؟ ولهذا قال { ائتوني بِكِتَابٍ مِّن قَبْلِ هاذآ } أي هاتوا كتاباً من كتب الله المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، يأمركم بعبادة هذه الأصنام { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } أي دليل بيّن على هذا المسلك الذي سلكتموه { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي لا دليل لكم لا نقلياً ولا عقلياً على ذلك ، قال مجاهد { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } أو أحد يأثر علماً ، وقال ابن عباس : أو بينة من الأمر ، وقال أبو بكر بن عياش : أو بقية من علم ، وقال ابن عباس ومجاهد { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } يعني الخط ، وقال قتادة { أَوْ أَثَارَةٍ مِّنْ عِلْمٍ } خاصة من علم ، وكل هذه الأقوال متقاربة ، وهي راجعة إلى ما قلناه ، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله ، وقوله تبارك وتعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } ؟ أي لا أضل ممن يدعو من دون الله أصناماً ، ويطلب منها ما لا تستطعيه إلى يوم القيامة ، وهي غافلة عما يقول لا تسمع ولا تبصر ، لأنها جماد وحجارة صم ، قوله تبارك وتعالى : { وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } كقوله عزّ وجلّ : { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] أي سيخونونهم أحوج ما يكونون إليهم ، وقال تعالى : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [ العنكبوت : 25 ] .(1/2326)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلَا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئًا هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كَفَى بِهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8) قُلْ مَا كُنْتُ بِدْعًا مِنَ الرُّسُلِ وَمَا أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلَا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ وَمَا أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)
يقول عزّ وجلّ مخبراً عن المشركين في كفرهم وعنادهم ، إنهم إذا تتلى عليهم آيات الله { بَيِّنَاتٍ } أي في حال بيانها ووضوحها وجلائها ، يقولون : { هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي سحر واضح وقد كذبوا وافتروا وضلوا وكفروا ، { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم ، قال الله عزّ وجلّ : { قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ الله شَيْئاً } أي لو كذبت عليه وزعمت أنه أرسلني ، وليس كذلك لعاقبني أشد العقوبة ، ولم يقدر أحد من أهل الأرض لا أنتم ولا غيركم أن يجيرني منه ، كقوله تبارك وتعالى : { قُلْ إِنِّي لَن يُجِيرَنِي مِنَ الله أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } [ الجن : 22 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين } [ الحاقة : 44-45 ] ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ إِنِ افتريته فَلاَ تَمْلِكُونَ لِي مِنَ الله شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } هذا تهديد لهم ووعيد أكيد ، وترهيب شديد ، وقوله جل وعلا : { وَهُوَ الغفور الرحيم } ترغيب لهم إلى التوبة والإنابة ، أي ومع هذا كله إن رجعتم وتبتم تاب الله عليكم ، وعفا عنكم وغفر ورحم ، وهذه الآية كقوله عزّ وجلّ : { قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفرقان : 6 ] ، وقوله تبارك وتعالى : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل } أي لست بأول رسول طرق العالم ، بل قد جاءت الرسل من قبلي ، فما أنا بالأمر الذي لا نظير له حتى تستنكروني وتستبعدون بعثتي إليكم ، فإنه قد أرسل الله جل وعلا قبلي جميع الأنبياء إلى الأمم ، قال ابن عباس ومجاهد { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل } ما أنا بأول رسول بُعث إلى النس .
وقوله تعالى : { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } قال ابن عباس : نزل بعدها { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } [ الفتح : 2 ] وقال الضحاك : { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } أي ما أدري بماذا أومر وبماذا أنهى بعد هذا؟ وقال الحسن البصري في قوله تعالى : { وَمَآ أَدْرِي مَا يُفْعَلُ بِي وَلاَ بِكُمْ } أما في الآخرة فمعاذ الله وقد علم أنه في الجنة ، ولكن قال : لا أدري ما يفعل بي ولا بكم في الدنيا ، أخرج كما أخرجت الأنبياء؟ أم أُقْتل كما قتلت الأنبياء من قبلي؟ ولا أدري أيخسف بكم أو ترمون بالحجارة؟ ولا شك أن هذا هو اللائق به صلى الله عليه وسلم ، فإنه بانسبة إلى الآخرة جازم أنه يصير إلى الجنة هو ومن ابتعه؛ وأما في الدنيا فلم يدر ما كان يؤول إليه أمره وأمر مشركي قريش ، إلى ماذا أيؤمنون أم يكفرون فيعذبون ، فيستأصلون بكفرهم؟ فأما الحديث الذي رواه ابن شهاب عن خارجة بن زيد بن ثابت عن أم العلاء -(1/2327)
« وكانت بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم - قالت : طار لهم في السكنى حين اقترعت الأنصار على سكنى المهاجرين ( عثمان بن مظعون ) رضي الله عنه ، فاشتكى عثمان فمرَّضناه حتى إذا توفى أدرجناه في أثوابه ، فدخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : رحمة الله عليك يا أبا السائب شهادتي عليك لقد أكرمك الله عزَّ وجلَّ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » وما يدريك أن الله تعالى أكرمه؟ « فقلت : لا أدري بأبي أنت وأمي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أمّا هو فقد جاءه اليقين من ربه وإني لأرجو له الخير ، والله ما أدري وأنا رسول الله ما يفعل بي « ، قالت : فقلت : والله لا أزكي أحداً بعده أبداً ، وأحزنني ذلك فنمت فرأيت لعثمان رضي الله عنه عيناً تجري ، فجئت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بذلك ، فقال رسول والله صلى الله عليه سلم : » ذاك عمله « » وفي لفظ : « ما أدري وأنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ما يفعل به » - وهذا أشبه أن يكون هو المحفوظ ، بدليل قولها؛ فأحزنني ذلك - ففي هذا وأمثاله دلالة على أنه لا يقطع لمعيّن بالجنة ، إلاّ الذي نص الشارع على تعيينهم كالعشرة المبشرين بالجنة ، والقراء السبعين الذين قتلوا ببئر معونة وما أشبههم وقوله : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ } أي إنما أتبع ما ينزله الله عليّ من الوحي ، { وَمَآ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي بيّن النذارة أمري ظاهر ، لكل ذي لب وعقل ، والله أعلم .(1/2328)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كَانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَكَفَرْتُمْ بِهِ وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْرًا مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً وَهَذَا كِتَابٌ مُصَدِّقٌ لِسَانًا عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَبُشْرَى لِلْمُحْسِنِينَ (12) إِنَّ الَّذِينَ قَالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقَامُوا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (14)
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين الكافرين بالقرآن { أَرَأَيْتُمْ إِن كَانَ } هذا القرآن { مِنْ عِندِ الله وَكَفَرْتُمْ بِهِ } ؟ أي ما ظنكم أن الله صانع بكم ، إن كان هذا الكتاب الذي جئتكم به قد أنزله عليّ لأبلغكموه ، وقد كفرتم به وكذبتموه؟ { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ } أي وقد شهدت بصدقه وصحته الكتب المتقدمة المنزلة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبلي ، بشرت به وأخبرت بمثل ما أخبر هذا القرآن به . وقوله عزّ وجل : { فَآمَنَ } أي هذا الذي شهد بصدقه من بني إسرائيل لمعرفته بحقيقته ، { واستكبرتم } أنتم عن اتباعه ، وقال مسروق : فآمن هذا الشاهد بنبيه وكتابه وكفرتم أنتم بنبيكم وكتابكم ، { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } وهذا يعم ( عبد الله بن سلام ) وغيره ، كقوله تبارك وتعالى : { وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } [ القصص : 53 ] وقال : { إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً } [ الإسراء : 107 ] الآية ، وروى مالك ، عن عامر بن سعد عن أبيه قال : « ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأحد يمشي على وجه الأرض إنه من أهل الجنة إلاّ لعبد الله بن سلام رضي الله عنه ، قال : وفيه نزلت { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّن بني إِسْرَائِيلَ على مِثْلِهِ } » ، وكذا قال ابن عباس ومجاهد والضحاك وقتادة : إنه عبد الله بن سلام ، وقوله تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } أي قالوا عن المؤمنين بالقرآن لو كان القرآن خيراً ما سبقنا إليه يعنون ( بلالاً ) و ( عمّاراً ) و ( صهيباً ) و ( خباباً ) رضي الله عنهم وأشباههم من المستضعفين والعبيد والإماء ، غلطوا في ذلك غلطاً فاحشاً وأخطأوا خطأ بيّناً كما قال تبارك وتعالى : { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } [ الأنعام : 53 ] أي يتعجبون كيف اهتدى هؤلاء دوننا ولهذا قالوا : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } ، وأما أهل السنَّة والجماعة فيقولون في كل فعل وقول لم يثبت عن الصحابة رضي الله عنهم : هو بدعة ، لأنه لو كان خيراً لسبقونا إليه لإنهم لم يتركوا خصلة من خصال الخير إلاّ وقد بادروا إليها ، وقوله تعالى : { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ } أي بالقرآن { فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } أي كذب قديم مأثور عن الناس الأقدمين ، فينتقصون القرآن وأهله ، وهذا هو الكبر الذي قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بطر الحق وغمط الناس » . ثم قال تعالى : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى } وهو التوراة { إِمَاماً وَرَحْمَةً وهذا كِتَابٌ } يعني القرآن { مُّصَدِّقٌ } أي لما قبله من الكتب { لِّسَاناً عَرَبِيّاً } أي فصيحاً بيناً واضحاً { لِّيُنذِرَ الذين ظَلَمُواْ وبشرى لِلْمُحْسِنِينَ } أي مشتمل على النذارة للكافرين ، والبشارة للمؤمنين ، وقوله تعالى : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا } تقدم تفسيرها في سورة حم السجدة . وقوله تعالى : { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي فيما يستقبلون { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما خلفوا { أولئك أَصْحَابُ الجنة خَالِدِينَ فِيهَا جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي الأعمال سبب لنيل الرحمة لهم وسبوغها عليهم ، والله أعلم .(1/2329)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَانًا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهًا وَوَضَعَتْهُ كُرْهًا وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْرًا حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَنَتَجَاوَزُ عَنْ سَيِّئَاتِهِمْ فِي أَصْحَابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كَانُوا يُوعَدُونَ (16)
لما ذكر تعالى في الآية الأولى التوحيد له وأخلاص العبادة والاستقامة إليه ، عطف بالوصية بالوالدين ، كما هو مقرون في غير ما آية من القرآن كقوله عزّ وجلّ : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] ، وقوله جلّ جلاله : { أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير } [ لقمان : 14 ] إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة ، وقال عزّ وجلّ هاهنا : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } أي أمرناه بالإحسان إليهما والحنو عليهما ، روى أبو داود الطيالسي ، عن سعد رضي الله عنه قال : قالت أم سعد لسعد : أليس قد أمر الله بطاعة الوالدين؟ فلا آكل طعاماً ولا أشرب شراباً حتى تكفر بالله تعالى ، فامتنعتْ من الطعام والشراب ، حتى جعلوا يفتحون فاها بالعصا ، ونزلت هذه الآية : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً } الآية ، { حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً } أي قاست بسببه في حال حمله مشقة وتعباً ، من وَحَم وغشيان وثقل وكرب إلى غير ذلك ، مما تنال الحوامل من التعب والمشقة ، { وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً } أي بمشقة أيضاً من الطلق وشدته ، { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } وقد استدل بهذه الأية مع التي في لقمان { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } [ الآية : 14 ] ، على أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، وهو استنباط قوي صحيح ، روى محمد بن إسحاق ، عن معمر بن عبد الله الجهني قال : تزوج رجل منا امرأة من جهينة ، فولدت له لتمام ستة أشهر ، فانطلق زوجها إلى عثمان رضي الله عنه ، فذكر ذلك له ، فبعث إليها فلما قامت لتلبس ثيابها بكت أختها ، فقالت : ما يبكيك ، فوالله ما التبس بي أحد من خلق الله تعالى غيره قط ، فيقضي الله سبحانه وتعالى فيَّ ما شاء ، فلما أتى بها عثمان رضي الله عنه أمر برجمها ، فبلغ ذلك علياً رضي الله عنه ، فأتاه فقال له : ما تصنع؟ قال : ولدت تماماً لستة أشهر وهل يكون ذلك؟ فقال له علي رضي الله عنه : أما تقرأ القرآن؟ قال : بلى ، قال : أما سمعت الله عزَّ وجلَّ يقول : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } وقال : { حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ } [ البقرة : 233 ] فلم نجده بقي إلاّ ستة أشهر ، قال ، فقال عثمان رضي الله عنه : والله ما فطنت بهذا ، عليَّ بالمرأة ، فوجودها قد فرغ منها ، قال ، فقال معمر : فوالله ما الغراب بالغراب ، ولا البيضة بالبيضة أشبه منه بأبيه ، فلما رآه أبوه قال : ابني والله لا أشك فيه ، قال ، وابتلاه الله تعالى بهذه القرحة بوجهه الآكلة ، فما زالت تأكله حتى مات ، وقال ابن عباس : إذا وضعت المرأة لتسعة أشهر كفاه من الرضاع أحد عشرون شهراً ، وإذا وضعته لسبعة أشهر كفاه من الرضاع ثلاث وعشرون شهراً ، وإذا وضعته لستة أشره فحولين كاملين ، لأن الله تعالى يقول : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } { حتى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ } أي قوي وشب وارتجل ، { وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً } أي تناهى عقله ، كمل فهمه وحلمه ، ويقال إنه لا يتغير غالباً عما يكون عليه ابن الأربعين ، وروى الحافظ الموصلي ، عن عثمان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(1/2330)
« العبد المسلم إذا بلغ أربعين سنة خفف الله تعالى حسابه ، وإذا بلغ ستين سنة رزقه الله تعالى الإنابة إليه ، وإذا بلغ سبعين سنة أحبه أهل السماء ، وإذا بلغ الثمانين سنة ثبَّت الله تعالى حسناته ومحا سيئاته ، وإذا بلغ تسعين سنة غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر وشفعه الله تعالى في أهل بيته ، وكتب في السماء أسير الله في أرضه » .
{ قَالَ رَبِّ أوزعني } أي ألهمني { أَنْ أَشكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } أي في المستقبل ، { وَأَصْلِحْ لِي فِي ذريتي } أي نسلي وعقبي ، { إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ المسلمين } وهذا فيه إرشاد لمن بلغ الأربعين أن يجدّد التوبة والإنابة إلى الله عزَّ وجلَّ ويعزم عليها ، وقد روى أبو داود في « سننه » عن ابن مسعود رضي الله عنه « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعلمهم أن يقولوا في التشهد : » الهم ألف بين قلوبنا وأصلح ذات بيننا ، واهدنا سبل السلام ، ونجنا من الظلمات إلى النور ، وجنبنا الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، وبارك لنا في أسماعنا وأبصارنا وقلوبنا وأزواجنا وذرياتنا ، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم ، واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها عليك قابليها ، وأتممها علينا « قال الله عزَّ وجلَّ : { أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة } أي هؤلاء المتصفون بما ذكرنا ، التائبون إلى الله المنيبون إليه ، المستدركون ما فات بالتوبة والاستغفار ، هم الذين نتقبل منهم اليسير من العمل { أَصْحَابِ الجنة } أي هم في جملة أصحاب الجنة ، وهذا حكمهم عند الله كما وعد الله عزَّ وجلَّ من تاب إليه وأناب ، ولهذا قال تعالى : { وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ } ، روى ابن أبي حاتم ، عن محمد بن حاطب قال : لقد شهدت أمير المؤمنين علياً رضي الله عنه ، وعنده ( عمار ) و ( صعصعة ) و ( الأشتر ) و ( محمد بنأبي بكر ) رضي الله عنهم ، فذكروا عثمان رضي الله عنه فنالوا منه ، فكان علي على السرير ومعه عود في يده ، فقال قائل منهم : إن عندكم من يفصل بينكم ، فسألوه ، فقال علي رضي الله عنه : كان عثمان رضي الله عنه من الذين قال الله تعالى : { أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ في أَصْحَابِ الجنة وَعْدَ الصدق الذي كَانُواْ يُوعَدُونَ } قال : والله عثمان وأصحاب عثمان رضي الله عنهم ، قالها ثلاثاً . قال يوسف : فقلت لمحمد بن حاطب : آلله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه؟ قال : آلله لسمعت هذا من علي رضي الله عنه .(1/2331)
وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنَّهُمْ كَانُوا خَاسِرِينَ (18) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (19) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُمْ بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَبِمَا كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)
لما ذكر تعالى حال الداعين للوالدين البارين بهما ، وما لهم عنده من الفوز والنجاة ، عطف بحال الأشقياء العاقين للوالدين فقال : { والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ } وهذا عام في كل من قال هذا ، ومن زعم أنها نزلت في ( عبد الرحمن بن أبي بكر ) رضي الله عنهما فقوله ضعيف ، لأن عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه وكان من خيار أهل زمانه ، وإنما هذا عام في كل من عق والديه وكذب بالحق فقال لوالديه : أف لكما : روى ابن أبي حاتم ، عن عبد الله بن المديني قال : إني لفي المسجد حين خطب مروان فقال : إن الله تعالى قد أرى أمير المؤمنين في يزيد رأياً حسناً ، وإن يستخلفه ، فقد استخلف أبو بكر عمر رضي الله عنهما ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما : أهرقلية؟ إن أبا بكر رضي الله عنه والله ما جعلها في أحد من ولده ، ولا أحد من أهل بيته ، ولا جعلها معاوية في ولده إلاّ رحمة وكرامة لولده ، فقال مروان : ألست الذي قال لوالديه : أُفٍ لكما؟ فقال عبد الرحمن رضي الله عنه : ألست ابن اللعين الذي لعن رسول الله صلى الله عليه سلم أباك ، قال : وسمعتهما عائشة رضي الله عنها فقالت : يا مروان! أنت القائل لعبد الرحمن رضي الله عنه كذا وكذا؟ كذبت ، ما فيه نزلت ، ولكن نزل في فلان بن فلان ، ثم انتحب مروان ، ثم نزل عن المنبر ، حتى أتى باب حجرتها فجعل يكلمها حتى انصرف . وروى النسائي ، عن محمد بن زياد قال : قال لما بايع معاوية رضي الله عنه لابنه قال مروان : سنة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما ، فقال عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنهما : سنة هرقل وقيصر ، فقال مروان : هذا الذي أنزل الله تعالى فيه : { والذي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَآ } ، فبلغ ذلك عاشئة رضي الله عنها فقالت : كذب مروان ، والله ما هو به ، ولو شئت أن أسمي الذي أنزلت فيه لسميته ، ولكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لعن أبا مروان ومروان في صلبه ، فمروان فَضَفٌ من لعنة الله . وقوله : { أتعدانني أَنْ أُخْرَجَ } ؟ أي أبعث ، { وَقَدْ خَلَتِ القرون مِن قَبْلِي } أي قد مضت الناس فلم يرجع منهم مخبر ، { وَهُمَا يَسْتَغثِيَانِ الله } أي يسألان الله فيه أن يهديه ويقولان لوالدها : { وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } .
قال الله تعالى : { أولئك الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول في أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمْ مِّنَ الجن والإنس إِنَّهُمْ كَانُواْ خَاسِرِينَ } أي دخلوا في زمرة أشباههم وأضرابهم من الكافرين الخاسرين أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، وقوله : { أولئك } بعد قوله { والذي قَالَ } دليل على ما ذكرناه من أنه جنس يعم كل من كان كذلك ، وقال الحسن وقتادة : هو الكافر الفاجر العاق لوالديه المكذب بالبعث ، وقوله تبارك وتعالى : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } أي لكل عذاب بحسب عمله ، { وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي لا يظلمهم مثقال ذرة فما دونها ، قال عبد الرحمن بن زيد : درجات النار تذهب سَفَالاً ، ودرجات الجنة تذهب علواً ، وقوله عزّ وجلّ : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ عَلَى النار أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا واستمتعتم بِهَا } ، أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً ، وقد تورع أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه عن كثير من طيبات المآكل والمشارب وتنزه عنها وقال : إني أخاف أن أكون من الذين قال الله لهم : { أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدنيا واستمتعتم بِهَا } ، وقوله عزّ وجلّ : { فاليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَبِمَا كُنتُمْ تَفْسُقُونَ } جوزوا من جنس عملهم ، فكما متعوا أنفسهم واستكبروا عن اتباع الحق ، وتعاطوا الفسق والمعاصي ، وجازاهم الله تبارك وتعالى بعذاب الهون ، وهو الإهانة والخزي والآلام الموجعة ، والحسرات المتتابعة ، والمنازل في الدركات المفظِعة ، أجارنا الله سبحانه وتعالى من ذلك كله .(1/2332)
وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ وَقَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قَالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَأُبَلِّغُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا فَأَصْبَحُوا لَا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)
يقول تعالى مسلياً لنبيّه صلى الله عليه وسلم ، في تكذيب من كذبه من قومه { واذكر أَخَا عَادٍ } وهو ( هود ) عليه الصلاة والسلام . بعثه الله عزَّ وجلَّ إلى عاد الأولى ، وكانوا يسكنون الأحقاف ، جميع حِقْف ، وهو الجبل من الرمل وقال عكرمة : الأحقاف : الجبل والغار ، وقال قتادة ذكر لنا أن عاداً كانوا حياً باليمن أهل رمل مشرفين على البحر بأرض يقال لها الشِّحْر ، وقوله تعالى : { وَقَدْ خَلَتِ النذر مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ } ، يعني وقد أرسل الله تعالى إلى من حول بلادهم في القرى مرسلين ومنذرين ، كقوله عزّ وجلّ : { فَإِنْ أَعْرَضُواْ فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ * إِذْ جَآءَتْهُمُ الرسل مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله } [ فصلت : 13-14 ] { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي قال لهم هود ذلك فأجابه قومه قائلين { أَجِئْتَنَا لِتَأْفِكَنَا عَنْ آلِهَتِنَا } ؟ أي لتصدنا عن آلهتنا ، { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } استعجلوا عذاب الله وعقوبته ، واستبعاداً منهم وقوعه ، كقوله جلَّت عظمته : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } [ الشورى : 18 ] ، { قَالَ إِنَّمَا العلم عِندَ الله } أي الله أعلم بكم إن كنتم مستحقين لتعجيل العذاب فسيفعل ذلك بكم ، وأما أنا فمن شأني أن أبلغكم ما أرسلت به { ولكني أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ } أي لا تعقلون ولا تفهمون ، قال الله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ } أي لما رأوا العذاب مستقبلهم ، اعتقدوا أنه عراض ممطر ففرحوا واستبشروا به ، وقد كانوا ممحلين محتاجين إلى المطر ، قال الله تعالى : { بَلْ هُوَ مَا استعجلتم بِهِ رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي هو العذاب الذي قلتم فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين ، { تُدَمِّرُ } أي تخرب { كُلَّ شَيْءٍ } من بلادهم مما من شأنه الخراب ، { بِأَمْرِ رَبِّهَا } أي بإذن الله لها في ذلك كقوله سبحانه وتعالى : { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } [ الذاريات : 42 ] أي كالشيء البالي ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } أي قد بادوا كلهم عن آخرهم ولم تبق لهم باقية ، { كَذَلِكَ نَجْزِي القوم المجرمين } أي هذا حكمنا فيمن كذَّب رسنا وخالف أمرنا .
يروى أن عاداً قحطوا فبعثوا وفداً له ( قيل ) فمر بمعاوية بن بكر ، فأقام عنده شهراً يسقيه الخمر ، وتغنيه جاريتان ، يقال لهما الجرادتان ، فلما مضى الشهر خرج إلى جبال مهرة ، فقال : اللهم إنك تعلم أني لم أجىء إلى مريض فأدوايه ، ولا إلى أسير فأفاديه ، الله اسق عاداً ما كنت تسقيه ، فمرت به سحابات سود ، فنودي منها اختر ، فأومأ إلى سحابة سوداء ، فنودي منها خذها رماداً رمدداً ، لا تبقي من عاداً أحداً ، فما أرسل عليهم من الريح إلاّ قدر ما يجري في الخاتم حتى هلكوا ، قال أبو وائل : وكانت المرأة والرجل إذا بعثوا وافداً لهم ، قالوا : لا تكن كوافد عاد ، وروى الإمام أحمد ، عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت :(1/2333)
« ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى منه لهواته ، إنما كان يتبسم ، وقالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا رأى غيماً أو ريحاً عرف ذلك في وجهه . قالت : يا رسول الله إن الناس إذا رأوا الغيم فرحوا رجاء أن يكون فيه المطر ، وأراد إذا رأيته عرفت وفي وجهك الكراهية؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا عائشة ما يؤمنني أن يكون في عذاب ، قد عُذِب قوم بالريح ، وقد رأى قوم العذاب وقالوا هذا عارض ممطرنا « » . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح قال : » اللهم إني ما أسألك خيرها وخير ما فيها ، وخير ما أرسلت به ، وأعوذ بك من شرها ، وشر ما فيها ، وشر ما أرسلت به « ، قالت : وإذا تخبَّلت السماء تغير لونه ، وخرج ودخل ، وأقبل وأدبر ، وإذا أمطرت سري عنه ، فعرفت ذلك عائشة رضي الله عنها ، فسألته ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لعله يا عائشة كما قال قوم عاد : { فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضاً مُّسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُواْ هذا عَارِضٌ مُّمْطِرُنَا } « ، وقد ذكرنا قصة هلاك قوم عاد في سورة الأعراف وهود بما أغنى عن إعادة هاهنا ، ولله الحمد والمنة .(1/2334)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (26) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَى وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (28)
يقول تعالى : ولقد مكنا الأمم السالفة في الدنيا من الأموال والأولاد ، وأعطيناهم منها ما لم نعطكم مثله ولا قريباً منه ، { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ الله وَحَاقَ بِهم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } ، أي وأحاط بهم العذاب والنكال الذي كانوا يكذبون به ويستبعدون وقوعه ، أي فاحذروا أيها المخاطبون أن تكونوا مثلهم فيصيبكم مثل ما أصابهم من العذاب في الدنيا والآخرة . وقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى } يعني أهل مكة ، وقد أهلك الله الأمم المكذبة بالرسل مما حولها كعاد وكانوا بالأحقاف بحضرموت عند اليمن ، وثمود وكانت منازلهم بينهم وبين الشام ، وكذلك سبأ وهم أهل اليمن ، ومدين وكانت في طريقهم وممرهم إلى غزة ، وكذلك بحيرة قوم لوط كانوا يمرون بها أيضاً وقوله عزّ وجلّ : { وَصَرَّفْنَا الآيات } أي بيناها وأوضحناها { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ } أي فهل نصروهم عند احتياجهم إليهم ، { بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ } أي بل ذهبوا عنهم أحوج ما كانوا إليهم ، { وَذَلِكَ إِفْكُهُمْ } أي كذبهم ، { وَمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي وافتراؤهم في اتخاذهم إياهم آلهة ، وقد خابوا وخسروا في عبادتهم لها واعتمادهم عليها ، والله أعلم .(1/2335)
وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قَالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلَى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ وَآمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُجِرْكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (31) وَمَنْ لَا يُجِبْ دَاعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَلَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءُ أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (32)
رُوي عن الزبير { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن } قال : بنخلة ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء الآخرة ، { كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } [ الجن : 19 ] صلى الله عليه وسلم وكانوا سبعة من جن نصيبين « . وروى الحافظ البيهقي في كتابه » دلائل النبوة « عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : » ما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم على الجن ولا رآهم ، انطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ . وقد حيل بين الشياطين وبين خبر السماء ، وأرسلت اليهم الشهب ، فرجعت الشياطين إلى قومهمه ، فقالوا : ما لكم؟ فقالوا : حيل بيننا وبين خبر السماء وأرسلت علينا الشهب ، قالوا : ما حال بينكم وبين خبر السماء إلاّ شيء حدث ، فاضربوا مشارق الأرض ومغاربها وانظروا ما هذا الذي حال بينهم وبين خبر السماء ، فانصرف أولئك النفر الذين توجهوا نحو تهامة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو بنخلة عامداً إلى سوق عكاظ وهو يصلي بأصحابه صلاة الفجر ، فلما سمعوا القرآن استمعوا له فقالوا : هذا والله الذي حال بينكم وبين خبر السماء فهناك حين رجعوا إلى قومهم { فقالوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآناً عَجَباً * يهدي إِلَى الرشد فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشرِكَ بِرَبِّنَآ أَحَداً } « [ الجن : 1-2 ] ، أنزل الله على نبيّه صلى الله عليه وسلم { قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ استمع نَفَرٌ مِّنَ الجن } [ الجن : 1 ] وإنما أوحي إليه قول الجن ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : هبطوا على النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ القرآن ببطن نخلة فلما سمعوه ، قالوا : أنصتوا ، قال : صه ، وكانوا تسعة ، أحدهم زوبعة ، فأنزل الله عزَّ وجلَّك { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } - إلى - { ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } فهذا مع رواية ابن عباس يقتضي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يشعر بحضورهم في هذه المرة ، وإنما استعموا قراءته ثم رجعوا إلى قومهم ، ثم بعد ذلك وفدوا إليه أرسالاً ، قوماً بعد قوم ، وفوجاً بعد فوج ، قال الحافظ البيهقي : وهذا الذي حكاه ابن عباس رضي الله عنهما إنما هو أول ما سمعت الجن قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلمت حاله ، وفي ذلك الوقت لم يقرأ عليهم ولم يرهم ، ثم بعد ذلك أتاه داعي الجن فقرأ عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ .
روى الإمام مسلم ، عن عامر قال : سألت علقمة : هل كان ابن مسعود رضي الله عنه شهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال : فقال علقمة : أنا سألت ابن مسعود رضي الله عنه فقلت :(1/2336)
« هل شهد أحد منكم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة الجن؟ قال : لا ، ولكنا كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة ففقدناه فالتمسناه في الأودية والشعاب ، فقيل : استطير؟ اغتيل؟ قال ، فبتنا بشر ليلة بات بها قومٌ ، فلما أصبحنا إذا هو جاء من قبل حرَاء ، قال ، فقلنا : يا رسول الله فقدناك فطلبناك فلم نجدك فبتنا بشر ليلة بات بها قوم ، فقال : » أتاني داعي الجن فذهبت معهم فقرأت عليهم القرآن « ، قال : فانطلق بنا فأرانا آثارهم وآثار نيرانهم ، وسألوه الزاد ، فقال : » كل عظم ذكر اسم الله عليه يقع في أيديكم أوفر ما يكون لحماً ، وكل بعرة أو روثة علف لدوابكم « ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فلا تستنجوا بهما فإنهما طعام إخوانكم « » وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ، « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » بت الليلة أقرأ على الجن واقفاً بالحجون « ( طريق أُخرى ) : قال ابن جرير ، عن ابن شهاب ، عن أبي عثمان بن شبة الخزاعي وكان من أهل الشام قال : » إن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه وهو بمكة : « من أحب منكم أن يحضر أمر الجن الليلة فليفعل » ، فلم يحضر منهم أحد غيري ، قال ، فانطلقنا حتى إذا كنا بأعلى مكة خط برجله خطاً ، ثم أمرني أن أجلس فيه ، ثم انطلق حتى قام ، فافتتح القرآن ، فغشيته أسودة كثيرة جالت بين وبينه ، حتى ما أسمع صوته ، ثم طفقوا يتقطعون مثل قطع السحاب ذاهبين ، حتى بقي منهم رهط ففرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الفجر ، فانطلق فتبرز ، ثم أتاني فقال : « ما فعل الرهط؟ » قلت : هم أولئك يا رسول الله ، فأعطاهم عظماً وروثاً زاداً ، ثم نهى أن يستطيب أحد بروث أو عظم « . وعن قتادة في قوله تعالى : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن } قال : » ذكر لنا أنهم صرفوا إليه من ( نينوى ) وأن نبي الله صلى الله عليه وسلم قال : « إني أمرت أن أقرأ على الجن ، فأيكم يتبعني؟ » فأطرقوا ، ثم استتبعهم ، فأطرقوا ، ثم استتبعهم الثالثة ، فقال رجل : يا رسول الله إن ذاك لذو ندبة ، فأتبعه ابن مسعود رضي الله عنه أخو هذل ، قال : فدخل صلى الله عليه وسلم شعباً يقال له ( شعب الحجون ) وخط عليه ، وخط على ابن مسعود رضي الله عنه خطاً ليثبته بذلك ، قال : فجعلت أُهال وأرى أمثال النسور تمشي في دفوفها ، وسمعت لغطاً شديداً حتى خفت على نبي الله صلى الله عليه وسلم ، ثم تلا القرآن ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا رسول الله صلى الله ما اللغط الذين سمعت؟ قال صلى الله عليه وسلم : « اختصموا في قتيل بينهم بالحق » « .(1/2337)
فهذه الطريق تدل على أنه صلى الله عليه وسلم ذهب إلى الجن قصداً ، فتلا عليهم القرآن ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ ، أما الجن الذين لقوه بنخلة فجن نينوى ، وأما الجن الذين لقوه بمكة فجن نصيبين ، وقد قال الحافظ أبو بكر البيهقي : « كان أبو هريرة رضي الله عنه يتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم بإداوة لوضوئه وحاجته ، فأدركه يوماً فقال : » من هذا؟ « ، قال : أنا أبو هريرة ، قال صلى الله عليه وسلم : » ائتني بأحجار أستنج بها ولا تأتني بعظم ولا روثة « ، فأتيته بأحجار في ثوبي ، فوضعتها إلى جنبه ، حتى ذا فرغ وقام اتبعته ، فقلت : يا رسول الله ما بال العظم والروثة؟ قال صلى الله عليه وسلم : » أتاني وفد جن نصيبين فسألوني الزاد ، فدعوت الله تعالى لهم أن لا يمروا بروثة ولا عظم ، ألاّ وجدوه طعاماً « . وقال سفيان الثوري ، عن ابن مسعود رضي الله عنه : كانوا تسعة أحدهم زوبعة ، أتوه من أصل نخلة ، وفي رواية أنهم كانوا على ستين راحلة ، وقيل كانوا ثلثمائة ، فلعل هذا الاختلاف دليل على تكرر وفادتهم عليه صلى الله عليه وسلم . ومما يدل على ذلك ما قاله البخاري في » صحيحه « ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : ما سمعت عمر رضي الله عنه يقول لشيء قط إني لأظنه هكذا ، إلاّ كان كما يظن ، بينماعمر بن الخطاب رضي الله عنه جالس إذ مر به رجل جميل ، فقال لقد أخطأ ظني ، أوأن هذا على دينه في الجاهلية ، أو لقد كان كاهنهم ، عليَّ بالرجل ، فدعي له ، فقال له ذلك ، فقال : ما رأيت كاليوم أستقبل به رجل مسلم ، قال : فإني أعزم عليك إلاّ ما أخبرتني ، قال : كنت كاهنهم في الجاهلية ، قال فما أعجب ما جاءتك به جنيتك؟ قال بينما أنا يوماً في السوق جائتني أعرف فيها الفزع ، فقالت :
ألم تر الجن وإبلاسها ... ويأسها من بعد إنكاسها
ولحوقها بالقلاص وأحلاسها ... قال عمر رضي الله عنه : صدق ، » بينما أنا نائم عند آلهتهم إذ جاء رجل بعجل ، فذبحه ، فصرخ به صارخ لم أسمع صارخاً قط أشد صوتاً منه ، يقول : يا جليح ، أمر نجيح رجل فصيح يقول : لا إله إلاّ الله ، قتال : فوثب القوم فقلت : لا أبرح حتى أعلم ما وراء هذا ، ثم نادى : يا جليح أمر نجيح رجل فصيح يقول : لا إله إلاّ الله ، فقمت فما نشبنا أن قيل : هذا نبي « .(1/2338)
وقوله تبارك وتعالى { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن } أي طائفة من الجن ، { يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ } أي استمعوا وهذا أدب منهم ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، قال : « قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمن حتى ختمها ، ثم قال : » ما لي أراكم سكوتاً؟ للجِنُّ كانوا أحسن منكم رداً ، ما قرأت عليهم هذه الآية من مرة { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 13 ] إلاّ قالوا : ولا بشيء من آلائك أو نعمتك ربنا نكذب فلك الحمد « » . وقوله عزّ وجلّ : { فَلَمَّا قُضِيَ } أي فرغ كقوله تعالى : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة } [ الجمعة : 10 ] ، { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ } [ البقرة : 200 ] ، { وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ } أي رجعوا إلى قومهم فأنذروهم ما سمعوه من رسول الله صلى الله عليه وسلم كقوله جلّ وعلا : { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } [ التوبة : 122 ] ، وقد استدل بهذه الآية على أنه في الجن نُذُرٌ وليس فيهم رسل ، فأما قوله تبارك وتعالى في الأنعام : { يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ } [ الآية : 130 ] ؟ فالمراد من مجموع الجنسين فيصدق على أحدهما وهو الإنس ، كقوله : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] أي أحدهما ، ثم إنه تعالى فسر إنذار الجن لقومهم ، فقال مخبراً عنهم : { قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى } ولم ذكروا عيسى ، لأن عيسى عليه السلام أنزل عليه الإنجيل ، فيه مواعظ وقليل من التحليل والتحريم ، وهو في الحقيقة كالمتمم لشريعة التوراة ، فالعمدة هو التوارة ، فلهذا قالوا { أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى } { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من الكتب المنزلة على الأنبياء قبله ، { يهدي إِلَى الحق } أي في الاعتقاد والإخبار ، { وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } في الأعمال فإن القرآن مشتمل على : خبر وطلب ، فخبره صدق ، وطلبه عدل كما قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] ، وهكذا قالت الجن { يهدي إِلَى الحق } في الاعتقادات ، { وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي في العمليات { ياقومنآ أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله } فيه دلالة على أنه تعالى أرسل محمداً صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين ، الجن والإنس ، وحيث دعاهم إلله تعالى وقرأ عليهم السورة التي فيها خطاب الفريقين وتكليفهم ووعدهم ووعيدهم وهي « سورة الرحمن » ، ولهذا قال : { أَجِيبُواْ دَاعِيَ الله وَآمِنُواْ بِهِ } .
وقوله تعالى : { يَغْفِرْ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } قبل إن { مِّن } ههنا زائدة ، وفيه نظر ، وقيل إنها للتبعيض ، { وَيُجِرْكُمْ مِّنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } أي ويقيكم من عذابه الأليم ، ومؤمنو الجن يدخلون الجنة كمؤمني الإنس ، ويدل عليه قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] فقد امتن تعالى على الثقلين بأن جعل جزاء محسنهم الجنة ، ولم يرد نص صريح ولا ظاهر عن الشارع ، أن مؤمني الجن لا يدخلون الجنة وإن إجيروا من النار ، ولو صح لقلنا به .(1/2339)
وقد حكي فيهم أقوال غريبة ، فمن الناس من زعم أنهم في الجنة يراهم بنو آدم ولا يروا بني آدم ، بعكس ما كانوا عليه في الدار الدنيا ، ومن الناس من قال : لا يأكلون في الجنة ولا يشربون ، وإنما يلهمون التسبيح والتحميد والتقديس عوضاً عن الطعام والشراب ، كالملائكة لأنهم من جنسهم ، وكل هذه الأقوال فيها نظر ، ولا دليل عليها ، ثم قال مخبراً عنهم : { وَمَن لاَّ يُجِبْ دَاعِيَ الله فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الأرض } أي بل قدرة الله شاملة له ومحيطة له { وَلَيْسَ لَهُ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءُ } أي لا يجيرهم منه أحد { أولئك فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } وهذا مقام تهديد وترهيب ، فدعوا قومهم بالترغيب الترهيب ، ولهذا نجع في كثير منهم ، وجاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وفوداً وفوداً كما تقدم بيانه ، والله أعلم .(1/2340)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (33) وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلَا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ بَلَاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الْفَاسِقُونَ (35)
يقول تعالى : أو لم ير هؤلاء المنكرون للبعث ، المستبعدون لقيام الأجساد يوم المعاد { أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ } أي ولم يكرثه خلقهن بل قال لها : كوني فكانت ، بلا ممانعة ولا مخالفة ، بل طائعة مجيبة خائفة وجلة ، أفليس ذلك بقادر على أن يحيي الموتى؟ كما قال عزّ وجلّ في الآية الأُخرى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } [ غافر : 57 ] ، ولهذا قال تعالى : { بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ثم قال جلّ جلاله متهدداً ومتوعداً لمن كفره به : { وَيَوْمَ يُعْرَضُ الذين كَفَرُواْ على النار أَلَيْسَ هذا بالحق } ؟ أي يقال لهم : أما هذا حق؟ أفسحر هذا أم أنتم لا تبصرون؟ { قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا } أي لا يسعهم إلاّ الاعتراف ، { قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } ، ثم قال تبارك وتعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بالصبر على تكذيب من كذبه من قومه { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } أي على تكذيب قومهم لهم ، { وَلاَ تَسْتَعْجِل لَّهُمْ } أي لا تستعجل لهم حلول العقوبة بهم كقوله تعالى { وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } [ المزمل : 11 ] ، وكقوله تعالى : { فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 17 ] { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } كقوله عزَّ وجلَّ : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] ، وكقوله عزّ وجلّ : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النهار يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } [ يونس : 45 ] الآية ، وقوله جل وعلا : { بَلاَغٌ } تقديره هذا القرآن بلاغ ، وقوله تعالى : { فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الفاسقون } ؟ أي لا يهلك إلا هالك ، وهذا من عدله عزَّ وجلَّ ، أنه لا يعذب إلاّ من يستحق العذاب والله أعلم .(1/2341)
الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (1) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَآمَنُوا بِمَا نُزِّلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَهُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ (2) ذَلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْبَاطِلَ وَأَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ (3)
يقول تعالى : { الذين كَفَرُواْ } أي بآيات الله { وَصَدُّواْ } غيرهم { عَن سَبِيلِ الله أَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي أبطلها وأذهبها ، ولم يجعل لها ثواباً ولا جزاء ، كقوله تعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] ، ثم قال جلّ علا { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي آمنت قلوبهم وسرائرهم ، وانقادت لشرع الله جوارحهم وبواطنهم ، { وَآمَنُواْ بِمَا نُزِّلَ على مُحَمَّدٍ } عطف خاص على عام ، وهو دليل على أنه شرط في صحة الإيمان بعد بعثته صلى الله عليه وسلم ، وقوله تبارك وتعالى : { وَهُوَ الحق مِن رَّبِّهِمْ } جملة معترضة حسنة ، ولهذا قال جلّ جلاله : { كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَأَصْلَحَ بَالَهُمْ } قال ابن عباس : أي أمره ، وقال مجاهد : شأنهم ، وقال قتادة : حالهم ، والكل متقارب ، وفي حديث تشميت العاطس « يهديكم الله ويصلح بالكم » ، ثم قال عزّ وجلّ : { ذَلِكَ بِأَنَّ الذين كَفَرُواْ اتبعوا الباطل } أي إنما أبطلنا أعمال الكفّار ، وتجاوزنا عن سيئات الأبرار ، وأصلحنا شؤونهم؛ لأن الذين كفرو اتبعوا الباطل ، أي اختاروا الباطل على الحق ، { وَأَنَّ الذين آمَنُواْ اتبعوا الحق مِن رَّبِّهِمْ كَذَلِكَ يَضْرِبُ الله لِلنَّاسِ أَمْثَالَهُمْ } أي يبين لهم مآل أعمالهم ، وما يصيرون إليه في معادهم ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(1/2342)
فَإِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقَابِ حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِنْ لِيَبْلُوَ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ (5) وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ (6) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ (7) وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ (8) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (9)
يقول تعالى مرشداً للمؤمنين إلى ما يعتمدونه في حروبهم مع المشركين : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب } أي إذا واجهتموهم فاحصدوهم حصداً بالسيوف ، { حتى إِذَآ أَثْخَنتُمُوهُمْ } أي أهلكتموهم قتلاً ، { فَشُدُّواْ الوثاق } الأسارى الذين تأسرونهم ، ثم أنتم بعد انقضاء الحرب وانفصال المعركة مخيرون في أمرهم ، إن شئتم مننتم عليهم فأطلقتم أساراهم مجاناً ، وإن شئتم فاديتموهم بمال تأخذونه منهم ، والظاهر أن هذه الآية نزل بعد وقعة بدر ، فإن الله سبحانه وتعالى عاتب المؤمنين على الاستكثار من الأسارى يومئذٍ ليأخذوا منهم الفداء فقال : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } [ الأنفال : 67 ] ، ثم قد ادعى بعض العلماء أن الآية منسوخة بقوله تعالى : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] الآية ، روي عن ابن عباس والضحاك والسدي . وقال الأكثرون : ليست بمنسوخة ، والإمام مخير بين المن على الأسير ومفادته ، وله أن يقتله إن شاء لحديث قتل النبي صلى الله عليه وسلم ( النضر بن الحارث ) و ( عقبة بن أبي معيط ) من أسارى بدر ، وقال الشافعي رحمه الله : الإمام مخيَّر بين قتله أو المن عليه أو مفاداته أو استرقاقه ، وقوله عزَّ جلَّ : { حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } قال مجاهد : حتى ينزل عيسى ابن مريم عليه الصلاة والسلام ، وكأنه أخذه من قوله صلى الله عليه وسلم : « لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق حتى يقاتل آخرهم الدجال » وهذا يقوي القول بعد النسخ ، كأنه شرع هذا الحكم في الحرب إلى أن لا يبقى حرب ، وقال قتادة { حتى تَضَعَ الحرب أَوْزَارَهَا } حتى لا يبقى شرك ، وهذا كقوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدين للَّهِ } [ البقرة : 193 ] ثم قال بعضهم : حتى تضع الحرب أوزارها أي أوزار المحاربين وهم المشركون بأن يتوبوا إلى الله عزَّ وجلَّ ، وقيل : أوزار أهلها بأن يبذلوا الوسع في طاعة الله تعالى ، قوله عزّ وجل : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ } أي هذا ولو شاء الله لانتقم من الكافرين بعقوبة ونكال من عنده { ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } أي ولكن شرع لكم الجهاد وقتال الأعداء ، ليختبركم ويبلوا أخباركم ، كما ذكر حكمته في شرعية الجهاد في قوله تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } [ آل عمران : 142 ] .
وقال تعالى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [ التوبة : 14 ] ، ثم لما كان من شأن القتال أن يقتل كثير من المؤمنين قال : { والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي لن يذهبها بكل يكثرها وينميها ويضاعفها ، ومنهم من يجري عليه عمله طوله برزقه ، كما ورد بذلك الحديث عن المقدام بن معد يكرب الكِنْدي رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/2343)
« إن للشهيد عند الله ست خصال : أن يغفر له في أول دفقة من دمه ، ويرى مقعده من الجنة ، ويحلى حلة الإيمان . ويزوج من الحور العين ، ويجار من عذاب القبر ، ويأمن من الفزع الأكبر ، ويوضع على رأسه تاج الوقار مرصع بالدر والياقوت ، الياقوتة من خير من الدنيا وما فيها ، ويزوج اثنتين وسبعين من الحور العين ، ويشفع في سبعين إنساناً من أقاربه » وفي « صحيح مسلم » عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يغفر للشهيد كل شيء إلاّ الدين » ، وفي الصحيح : « يشفع الشهيد في سبعين من أهل بيته » ، والأحاديث في فضل الشهيد كثيرة جداً .
وقوله تبارك وتعالى : { سَيَهْدِيهِمْ } أي إلى الجنة { وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ } أي أمرهم وحالهم ، { وَيُدْخِلُهُمُ الجنة عَرَّفَهَا لَهُمْ } أي عرفهم بها وهداهم إليها ، قال مجاهد : يهتدي أهلها إلى بيوتهم ومساكنهم ، وحيث قسم الله لهم منها ، لا يخطئون كأنهم ساكنوها منذ خلقوا ، وقال محمد بن كعب : يعرفون بيوتهم ذا دخلوا الجنة كما تعرفون بيوتكم إذا انصرفتم من الجمعة ، وقال مقاتل : بلغنا أن الملك الذي كان وكل بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه في الجنة ، ويتبعه ابن آدم حتى يأتي أقصى منزل هو له فيعرفه كل شيء أعطاه الله تعالى في الجنة ، فإذا انتهى إلى أقصى منزلة في الجنة دخل إلى منزله وأزواجه وانصرف الملك عنه ، وقد ورد الحديث الصحيح بذلك عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا بقنطرة بين الجنة والنار يتقاضون مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة ، والذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزله في الجنة أهدى من بمنزله الذي كان في الدنيا » ، ثم قال تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ، كقوله عزَّ وجلَّ : { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } [ الحج : 40 ] فإن الجزاء من جنس العمل ، ولهذا قال تعالى : { وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } ، كما جاء في الحديث : « من بلّغ ذا سلطان حاجة من لا يستطيع إبلاغها ، ثبَّت الله تعالى قدميه على الصراط يوم القيامة » ، ثم قال تبارك وتعالى : { والذين كَفَرُواْ فَتَعْساً لَّهُمْ } عكس تثبيت الأقدام للمؤمنين . وقد ثبت في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « تعس عبد الدينار ، تعس عبد الدرهم : تعس عبد القطيفة ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش » أي فلا شفاه الله عزَّ وجلَّ ، وقوله سبحانه وتعالى : { وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ } أي أحبطها وأبطلها ، ولهذا قال : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُواْ مَآ أَنزَلَ الله } أي لا يريدونه ولا يحبونه { فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } .(1/2344)
أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا (10) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ (11) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ (12) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلَا نَاصِرَ لَهُمْ (13)
يقول تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ } يعني المشركين بالله المكذبين لرسوله { فِي الأرض فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ } أي عاقبهم بتكذيبهم وكفرهم أي ونجَّى المؤمنين من بين أظهرهم ، ولهذا قال تعالى : { وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } ثم قال : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله مَوْلَى الذين آمَنُواْ وَأَنَّ الكافرين لاَ مولى لَهُمْ } ، ولهذا « لما قال أبو سفيان رئيس المشركين يوم أُحُد : اعلُ هُبَل ، اعلُ هُبَل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ألا تجيبوه؟ « فقالوا : يا رسول الله وما نقول؟ قال صلى الله عليه وسلم قولوا : » الله أعلى وأجل « ، ثم قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال صلى الله عليه وسلم : » ألا تجيبوه؟ « ، قالوا : وما نقول يا رسول الله؟ قال : قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم » ، ثم قال سبحانه وتعالى : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أي يوم القيامة { والذين كَفَرُواْ يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الأنعام } أي في دنياهم يتمتعون بها ويأكلون منها كأكل الأنعام ، خضماً وقضماً ليس لهم همة إلاّ في ذلك ، ولهذا ثبت في الصحيح : « المؤمن يأكل في مِعَى واحد ، والكافر يأكل في سبعة أمعاء » ، ثم قال تعالى : { والنار مَثْوًى لَّهُمْ } أي يوم جزائهم ، وقوله عزّ وجلّ : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ } يعني مكة { أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } ، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لأهل مكة ، في تكذيبهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سيد الرسل وخاتم الأنبياء ، فإذا كان الله عزَّ وجلَّ قد أهلك الذين كذبوا الرسل قبله ، فما ظن هؤلاء أن يفعل الله بهم في الدنيا والأُخرى؟ وقوله تعالى : { مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ } أي الذين أخرجوك من بين أظهرهم ، روى ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم لما خرج من مكة إلى الغار وأتاه ، فالتفت إلى مكة ، وقال : « أنت أحب بلاد الله إلى الله ، وأنت أحب بلاد الله إليّ ، ولولا أن المشركين أخرجوني لم أخرج منك » فأعدى الأعداء من عدا على الله تعالى في حرمه ، أو قتل غير قاتله ، أو قتل بذُحول الجاهلية ، فأنزل الله تعالى على نبيَّه صلى الله عليه وسلم : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } .(1/2345)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيهَا أَنْهَارٌ مِنْ مَاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَلَهُمْ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ (15)
يقول تعالى : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ } أي على بصيرة ويقين في أمر الله ودينه ، بما أنزل الله في كتابه من الهدى والعلم ، وبما جبله الله عليه من الفطرة المستقيمة ، { كَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ واتبعوا أَهْوَاءَهُمْ } ؟ أي ليس هذا كهذا ، كقوله تعالى : { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى } [ الرعد : 19 ] ثم قال تعالى : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } قال عكرمة { مَّثَلُ الجنة } أي نعتها ، { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ } يعني غير متغير ، والعرب تقول : أَسِنَ الماءُ إذا تغير ريحه ، وفي حديث مرفوع { غَيْرِ آسِنٍ } يعني الصافي الذي لا كدر فيه ، وقال عبد الله رضي الله عنه : أنهار الجنة تفجر من جبل مسك { وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ } بل في غاية البياض والحلاوة والدسومة ، وفي حديث مرفوع : « لم يخرج من ضروع الماشية » ، { وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ } أي ليست كريهة الطعم والرائحة كخمر الدنيا ، بل حسنة المنظر والطعم والرائحة ، { لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } [ الصافات : 47 ] { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ } [ الواقعة : 19 ] ، وفي حديث مرفوع : « لم يعصرها الرجال بأقدامهم » { وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى } أي وهو في غاية الصفاء وحسن اللون والطعم والريح ، وفي حديث مرفوع : « لم يخرج من بطون النحل » . روى الإمام أحمد عن حكيم بن معاوية عن أبيه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « في الجنة بحر اللبن وبحر الماء ، وبحر العسل وبحر الخمر ، ثم تشقق الأنهار منها بعد » وفي الصحيح : « إذا سألتم الله تعالى فاسألوه الفردوس فإنه أوسط الجنة وأعلى الجنة ، ومنه تفجَّر أنهار الجنة وفوقه عرش الرحمن » ، وقال الحافظ الطبراني عن عاصم « أن لقيط بن عامر خرج وافداً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت : يا رسول الله فعلى ما نطلع من الجنة؟ قال صلى الله عليه وسلم : » على أنهار من عسل مصفى ، وأنهار من خمر ما بها صداع ولا ندامة ، وأنهار من لبن لم يتغير طعمه ، وماء غير آسن ، وفاكهة لعمر إلهك ما تعلمون ، وخير من مثله ، وأزواج مطهرة « ، قلت يا رسول الله أو لنا فيها أزواج مصلحات؟ فقال : » الصالحات للصالحين تلذونهن مثل لذاتكم في الدنيا ويلذونكم غير أن لا توالد « وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لعلكم تظنون أن أنهار الجنة تجري في أخدود في الأرض ، والله إنها لتجري سائحة على وجه الأرض حافاتها قباب اللؤلؤ ، وطينها المسك الأذفر .
وقوله تعالى : { وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات } كقوله عزَّ وجلَّ : { يَدْعُونَ فِيهَا بِكلِّ فَاكِهَةٍ آمِنِينَ } [ الدخان : 55 ] ، وقوله : سبحانه وتعالى : { وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } أي مع ذلك كله ، وقوله سبحانه وتعالى : { كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النار } أي أهؤلاء الذين ذكرنا منزلتهم من الجنة ، كمن هو خالد في النار؟ ليس هؤلاء كهؤلاء ، وليس من هو في الدرجات كمن هو في الدركات ، { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً } أي حاراً شديد الحر لا يستطاع ، { فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } أي قطع ما في بطونهم من الأمعاء والأحشاء ، عياذاً بالله تعالى من ذلك .(1/2346)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ (16) وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَاءَ أَشْرَاطُهَا فَأَنَّى لَهُمْ إِذَا جَاءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ (19)
يقول تعالى : مخبراً عن المنافقين في بلادتهم وقلة فهمهم ، حيث كانوا يجلسون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويستمعون كلامه فلا يفهمون منه شيئاً ، فإذا خرجوا من عنده { قَالُواْ لِلَّذِينَ أُوتُواْ العلم } من الصحابة رضي الله عنهم { مَاذَا قَالَ آنِفاً } ؟ أي الساعة لا يعقلون ما قال ، ولا يكترثون له ، قال الله تعالى : { أولئك الذين طَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } أي فلا فهم صحيح ولا قصد صحيح ، ثم قال عزَّ وجلَّ : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى } أي والذين قصدوا الهداية ، وفقهم الله تعالى لها ، فهداهم إليها وثبتهم عليها وزادهم منها ، { وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } أي ألهمهم رشدهم . وقوله تعالى : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً } ؟ أي وهم غافلون عنها { فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا } أي أمارات اقترابها ، كقوله تعالى : { أَزِفَتِ الآزفة } [ النجم : 58 ] . وكقوله جلت عظمته : { اقتربت الساعة وانشق القمر } [ القمر : 1 ] ، وقوله سبحانه وتعالى : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] . فبعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم من أشراط الساعة لأنه خاتم الرسل ، الذي أكمل الله تعالى به الدين ، وأقام به الحجة على العالمين ، وقد أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمارات الساعة وأشراطها وهو عليه السلام الحاشر الذي يحشر الناس على قدميه ، والعاقب الذي ليس بعده نبي ، روى البخاري عن سهل بن سعد رضي الله عنه قال : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بأصبعيه هكذا بالوسطى والتي تليها - » بعثت أنا والساعة كهاتين « » ثم قال تعالى : { فأنى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } ؟ أي فكيف للكافرين بالتذكر إذا جاءتهم القيامة ، حيث لا ينفعهم ذلك؟ كقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإنسان وأنى لَهُ الذكرى } [ الفجر : 23 ] ، وقوله عزَّ وجلَّ : { فاعلم أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ الله } هذا إخبار بأنه لا إله إلا الله ، ولهذا عطف عليه قوله عزَّ وجلَّ : { واستغفر لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ والمؤمنات } وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « اللهم اغفر لي خطيئتي وجهلي وإسرافي في أمري ، وما أنت أعلم به مني ، اللهم اغفر لي هزلي وجدي وخطئي وعمدي وكل ذلك عندي » ، وفي الصحيح أنه كان يقول في آخر الصلاة : « اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت وما أسررت وما أعلنت وما أسرفت وما أنت أعلم به مني ، أنت إلهي لا إله إلاّ أنت » ، وفي الصحيح أنه قال : « يا أيها الناس توبوا إلى ربكم فإني أستغفر الله وأتوب إليه في اليوم أكثر من سبعين مرة » ، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « وعليكم بلا إله إلاّ الله والاستغفار ، فأكثروا منهما ، فإن إبليس قال : إنما أهلكت الناس بالذنوب ، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار ، فلما رأيت ذلك أهكلتهم بالأهواء ، فهم يحسبون أنهم مهتدون »(1/2347)
، وفي الأثر المروي : « قال إبليس : وعزتك وجلالك لا أزال أغويهم ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الله عزَّ وجلَّ : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني » ، والأحاديث في فضل الاستغفار كثيرة جداً ، وقوله تبارك وتعالى : { والله يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ } أي يعلم تصرفاتكم في نهاركم ، ومستقركم في ليلكم ، كقوله تعالى : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم باليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } [ الأنعام : 60 ] ، وقوله سبحانه وتعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ هود : 6 ] وهذا القول هو اختيار ابن جرير ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما { مُتَقَلَّبَكُمْ } في الدنيا و { وَمَثْوَاكُمْ } في الآخرة ، وقال السدي : متقلبكم في الدنيا ومثواكم في قبوركم ، والأول أولى وأظهر ، والله أعلم .(1/2348)
وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْلَا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا الْقِتَالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلَى لَهُمْ (20) طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذَا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ (22) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23)
يقول تعالى مخبراً عن المؤمنين ، أنهم تمنوا شرعية الجهاد ، لما فرضه الله عزَّ جلَّ وأمر به ، نكل عنه كثير من الناس كقوله تبارك وتعالى : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } [ النساء : 77 ] وقال عزَّ وجلَّ هاهنا : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ } أي مشتملة على القتال { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت } أي من فزعهم ورعبهم وجبنهم من لقاء الأعداء ، ثم قال مشجعاً لهم : { فأولى لَهُمْ * طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } أي وكان الأولى بهم أن يسمعوا ويطيعوا ، أي في الحالة الراهنة { فَإِذَا عَزَمَ الأمر } أي جد الحال ، وحضر القتال { فَلَوْ صَدَقُواْ الله } أي أخلصوا له النية { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } ، وقوله سبحانه وتعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ } أي عن الجهاد ونكلتم عنه { أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ } ؟ أي تعودوا إلى ما كنتم فيه من الجاهلية الجهلاء ، تسفكون الدماء وتقطعون الأرحام ، ولهذا قال تعالى : { أولئك الذين لَعَنَهُمُ الله فَأَصَمَّهُمْ وأعمى أَبْصَارَهُمْ } وهذا نهي عن الإفساد في الأرض عموماً ، وعن قطع الأرحام خصوصاً ، بل قد أمر الله تعالى بالإصلاح في الأرض وصلة الأرحام ، وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، روى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « خلق الله تعلى الخلق ، فلما فرغ منه قامت الرحم ، فأخذت بحقوي الرحمن عزَّ وجلَّ ، فقال : مه ، فقالت : هذا مقام العائذ بك من القطيعة ، فقال تعالى : ألا ترضين أن أصل من وصلك ، وأقطع من قطعك؟ قالت : بلى ، قال : فذاك لك » قال أبو هريرة رضي الله عنه : اقرأوا إن شئتم { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ } . وروى الإمام أحمد عن أبي بكرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من ذنب أحرى أن يعجل الله تعالى عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم » وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : « جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي ذوي أرحام : أصل ويقطعون ، وأعفو ويظلمون ، وأحسن ويسيئون ، أفكافئهم؟ قال صلى الله عليه وسلم : » لا ، إذن تتركون جميعاً ، ولكنْ جُدْ بالفضل وصلهم ، فإنه لن يزال معك ظهير من الله عزَّ وجلَّ ما كنت على ذلك « » وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/2349)
« إن الرحم معلقة بالعرش ، وليس الواصل بالمكافىء ، ولكن الواصل الذي إذا قطعت رحمه وصلها » ، وفي الحديث القدسي : « قال الله عزَّ وجلَّ أنا الرحمن خلقت الرحم وشققت لها اسماً من اسمي ، فمن يصلها أصله ، ومن يقطعها أقطعه فأبتُّه » ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الأرواح جنود مجندة فما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف » وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا ظهر القول وخزن العمل وائتلفت الألسنة وتباغضت القلوب ، وقطع كل ذي رحم رحمه ، فعند ذلك لعنهم الله وأصمهم وأعمى أبصارهم » ، والأحاديث في هذا كثيرة ، والله أعلم .(1/2350)
أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ (23) أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا (24) إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَى لَهُمْ (25) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا مَا نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ (27) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا مَا أَسْخَطَ اللَّهَ وَكَرِهُوا رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ (28)
يقول تعالى آمراً بتدبر القرآن وتفهمه ، وناهياً عن الإعراض عنه فقال : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن أَمْ على قُلُوبٍ أَقْفَالُهَآ } أي بل على قلوب أقفالها ، فهي مطبقة لا يخلص إليها شيء من معانيه ، ثم قال تعالى : { إِنَّ الذين ارتدوا على أَدْبَارِهِمْ } أي فارقوا الإيمان ورجعوا إلى الكفر { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الهدى الشيطان سَوَّلَ لَهُمْ } أي زين لهم ذلك وحسَّنه { وأملى لَهُمْ } أي غرهم وخدعهم ، { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لِلَّذِينَ كَرِهُواْ مَا نَزَّلَ الله سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الأمر } أي مالأوهم وناصحوهم على الباطل ، وهذا شأن المنافقين يظهرون خلاف ما يبطنون ، ولهذا قال الله عزّ وجلّ : { والله يَعْلَمُ إِسْرَارَهُمْ } أي ما يسرون وما يخفون ، الله مطلع عليه ، عالم به ، كقوله تبارك وتعالى : { والله يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } [ النساء : 81 ] ، ثم قال تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا تَوَفَّتْهُمُ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } أي كيف حالهم إذا جاءتهم الملائكة لقبض أرواحهم ، وتعاصت الأرواح في أجسادهم ، واستخراجها الملائكة بالعنف والقهر والضرب . كما قال سبحانه وتعالى : { وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [ الأنفال : 50 ] الآية ، وقال تعالى : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ } [ الأنعام : 93 ] أي بالضرب { أخرجوا أَنْفُسَكُمُ اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ } [ الأنعام : 93 ] ، ولهذا قال هاهنا : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اتبعوا مَآ أَسْخَطَ الله وَكَرِهُواْ رِضْوَانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ } .(1/2351)
أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ (29) وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ (30) وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)
يقول تعالى : { أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ } ؟ أي أيعتقد المنافقون أن الله لا يشكف أمرهم لعباده المؤمنين؟ بل سيوضح أمرهم ويجليه حتتى يفهمه ذوو البصائر ، وقد أنزل الله تعالى في ذلك سورة براءة فبين فيها فضائحهم ، ولهذا كانت تسمى الفاضحة ، والأضغان جمع ضغن وهو ما في النفوس من الحسد والحقد للإسلام وأهله والقائمين بنصره ، وقوله تعالى : { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } ، ويقول عزَّ وجلَّ : ولو نشاء يا محمد لأريناك أشخاصهم فعرفتهم عياناً ، ولكن لم يفعل تعالى ذلك في جميع المنافقين ، ستراً منه على خلقه ، وحملاً للأمور على ظاهر السلامة ، ورداً للسرائر إلى عالمها { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول } أي فيما يبدو من كلامهم الدال على مقاصدهم ، يفهم المتكلم من أي الحزبين هو بمعاني كلامه وفحواه ، وهو المراد من لحن القول ، كما قال أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه : ما أسر أحد سريرة إلاّ أبداها الله على صفحات وجهه ، وفلتات لسانه ، وفي الحديث : « ما أسر أحد سريرة إلاّ كساه الله تعالى جلبابها ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر » ، وقد ورد في الحديث تعيين جماعة من المنافقين ، قال عقبة بن عمرو رضي الله عنه : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة فحمد الله تعالى وأثنى عليه ، ثم قال : « إن منكم منافقين فمن سميت فليقم ثم قال قم يا فلان ، قم يا فلان ، قم يا فلان ، حتى سمى ستة وثلاثين رجلاً؟ . ثم قال : إن فيكم أو منكم منافقين فاتقوا الله » ، قال فمرّ عمر رضي الله عنه برجل ممن سمى مقنع قد كان يعرفه ، فقال : ما لك؟ فحدثه بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : بعداً لك سائر اليوم . وقوله عزَّ وجلَّ : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ } أي لنختبرنكم بالأوامر والنواهي { حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } ، وليس في تقدم علم الله تعالى بما هو كائن شك ولا ريب ، فالمراد حتى نعلم وقوعه ، ولهذا يقول ابن عباس في مثل هذا : إلاّ لنعلم ، أي لنرى .(1/2352)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَشَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَسَيُحْبِطُ أَعْمَالَهُمْ (32) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَلَا تُبْطِلُوا أَعْمَالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ مَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34) فَلَا تَهِنُوا وَتَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَاللَّهُ مَعَكُمْ وَلَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ (35)
يخبر تعالى عمن كفر وصد عن سبيل الله ، وخالف الرسول وشاقه ، وارتد عن الإيمان من بعد ما تبين له الهدى ، أنه لن يضر الله شيئاً ، وإنما يضر نفسه ويخسرها يوم معادها ، وسيحبط الله عمله ، فلا يثيبه على سالف ما تقدم من عمله مثقال بعوضة من خير ، بل يحبطه ويمحقه بالكلية ، كما أن الحسنات يذهبن السيئات ، وقد قال أبو العالية : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرون أنه لا يضر مع لا إله إلاّ الله ذنب كما لا ينفع مع الشرك عمل فنزلت : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ } فخافوا أن يبطل الذنب العمل ، وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم نرى أنه ليس شيء من الحسنات ألاّ مقبول ، حتى نزلت : { أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرسول وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ } فقلنا : ما هذا الذي يبطل أعمالنا؟ فقلنا : الكبائر الموجبات والفواحش ، حتى نزل قوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ، 116 ] ، فلما نزلت كففنا عن القول في ذلك ، فكنا نخاف على من أصاب الكبائر والفواحش ، ونرجو لمن لم يصبها ، ثم أمر تبارك وتعالى : عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ، التي هي سعادتهم في الدنيا والآخرة ، ونهاهم عن الارتداد الذي هو مبطل للأعمال ، ولهذا قال تعالى : { وَلاَ تبطلوا أَعْمَالَكُمْ } أي بالردة ، ولهذا قال بعدها : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله ثُمَّ مَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } ، كقوله سبحانه وتعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ، 116 ] الآية ، ثم قال جلَّ وعلا لعباده المؤمنين : { فَلاَ تَهِنُواْ } أي لا تضعفوا عن الأعداء ، { وتدعوا إِلَى السلم } أي المهادنة والمسالمة ووضع القتال بينكم وبين الكفار في حال قوتكم ، ولهذا قال : { وَأَنتُمُ الأعلون } أي في حال علوكم على عدوكم ، فأما إذا كان الكفار فيهم قوة وكثرة بالنسبة إلى جميع المسلمين ، ورأى الإمام في المهادنة والمعاهدة مصلحة ، فله أن يفعل ذلك ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم حين صده كفار قريش عن مكة وعدوه إلى الصلح وضع الحرب بينهم وبينه عشر سنين ، فأجابهم صلى الله عليه وسلم إلى ذلك ، وقوله جلت عظمته : { والله مَعَكُمْ } فيه بشارة عظيمة بالنصر والظفر على الأعداء ، { وَلَن يَتِرَكُمْ أَعْمَالَكُمْ } أي لن يحبطها ويبطلها ويسلبكم إياها ، بل يوفيكم ثوابها ولا ينقصكم منها شيئاً ، والله أعلم .(1/2353)
إِنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلَا يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ (36) إِنْ يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ (37) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَمَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ (38)
يقول تعالى تحقيراً لأمر الدنيا وتهويناً لشأنها { إِنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ } أي حاصلها ذلك إلاّ ما كان منها لله عزَّ وجلَّ ، ولهذا قال تعالى : { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَلاَ يَسْأَلْكُمْ أَمْوَالَكُمْ } أي هو غني عنكم لا يطلب منكم شيئاً ، وإنما فرض عليكم الصدقات من الأموال ، مواساة لإخوانكم الفقراء ، ليعود نفع ذلك عليكم ، ويرجع ثوابه إليكم ، ثم قال جلَّ جلاله : { إِن يَسْأَلْكُمُوهَا فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُواْ } أي يحرجكم تبخلوا { وَيُخْرِجْ أَضْغَانَكُمْ } قال قتادة : قد علم الله تعالى أن في إخراج الأموال إخراج الأضغان ، وصدق قتادة ، فإن المال محبوب ولا يصرف إلاّ فيما هو أحب إلى الشخص منه ، وقوله تعالى : { هَا أَنتُمْ هؤلاء تُدْعَوْنَ لِتُنفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله فَمِنكُم مَّن يَبْخَلُ } أي لا يجيب إلى ذلك ، { وَمَن يَبْخَلْ فَإِنَّمَا يَبْخَلُ عَن نَّفْسِهِ } أي إنما نقص نفسه من الأجر ، وإنما يعود وبال ذلك عليه ، { والله الغني } أي عن ما سواه ، وكل شيء فقير إليه دائماً ، { وَأَنتُمُ الفقرآء } أي بالذات إليه ، فوصفه بالغنى وصف لازم له ، ووصف الخلق بالفقر وصف لازم لهم لا ينفكون عنه ، وقوله تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ } أي عن طاعته واتباع شرعه ، { يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } أي ولكن يكونون سامعين مطيعين له ولأوامره ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } قالوا : يا رسول الله من هؤلاء الذين إن تولينا استبدل بنا ثم لا يكونوا أمثالنا؟ قال : ضرب بيده على كتف سلمان الفارسي رضي الله عنه ، ثم قال : هذا وقومه ، ولو كان الدين عند الثريا لتناوله رجال من الفرس » .(1/2354)
إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (2) وَيَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا (3)
نزلت هذه السورة السورة الكريمة لما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية ، في ذي القعدة من سنة ست من الهجرة ، حين صده المشركون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وحالوا بينه وبين العمرة ، ثم مالوا إلى المصالحة والمهادنة ، وأن يرجع عامه هذا ثم يأتي من قابل ، فأجابهم إلى ذلك على كره من جماعة من الصحابة ، منهم عمر بن الخطاب ورضي الله عنه ، فلما نحر هدية حيث أحصر ورجع ، أنزل الله عزَّ وجلَّ هذه السورة ، وجعل ذلك الصلح فتحاً باعتبار ما في من المصالحة ، وما آل الأمر إليه ، كما روى ابن مسعود رضي الله عنه وغيره ، أنه قال : إنكم تعدون الفتح ( فتح مكة ) ونحن نعد الفتح صلح الحديبية ، وروى البخاري عن البراء رضي الله عنه قال : « تعدون أنتم الفتح فتح مكة ، وقد كان فتح مكة فتحاً ، ونحن نعد الفتح بيعة الرضوان يوم الحديبية ، كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة مائة والحديبية بئر فنزحناها ، فلم نترك فيها قطرة ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاها فجلس على شفيرها ، ثم دعا بإناء من ماء ، فتوضأ ثم تمضمض ودعا ثم صبه فيها ، فتركناها غير بعيد ، ثم إنها أصدرتنا ما شئنا نحن وركائبنا » ، وروى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : « كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر قال : فسألته عن شيء ثلاث مرات فلم يرد عليَّ ، فقلت في نفسي ثكلتك أمك يا ابن الخطاب ، ألححت ، كررت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات فلم يرد عليك! قال : فركبت راحلتي فحركت بعيري ، فتقدمت مخافة أن يكون نزل فيَّ شيء ، قال : فإذا أنا بمناد : يا عمر ، قال : فرجعت وأنا أظن أنه نزل فيَّ شيء ، قال ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » نزل ليّ البارحة سورة هي أحب إليَّ من الدنيا وما فيها : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } « » وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، قال : « نزل على النبي صلى الله عليه وسلم : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } مرجعه من الحديبية ، قال النبي صلى الله عليه وسلم » لقد نزلت عليَّ الليلة آية أحب إليّ مما على الأرض ، ثم قرأها عليهم النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : هنيئاً مريئاً يا نبي الله ، بيّن الله عزَّ وجلَّ ما يفعل بك ، فماذا يفعل بنا؟ فنزلت عليه صلى الله عليه وسلم : { لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } حتى بلغ { فَوْزاً عَظِيماً } «(1/2355)
[ الفتح : 5 ] . وروى الإمام أحمد عن المغيرة بن شعبة قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلي حتى تورمت قدماه ، فقيل له : أليس قد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم : » أفلا أكون عبداً شكوراً؟ « » ، وروى الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تتفطر رجلاه ، فقالت له عائشة رضي الله عنها : يا رسول الله أتصنع هذا وقد غفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال صلى الله عليه وسلم : » يا عائشة أفلا أكون عبداً شكوراً « » .
فقوله تعالى : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً } أي بيناً ظاهراً ، والمراد ( صلح الحديبية ) فإنه حصل بسببه خير جزيل ، وآمن الناس واجتمع بعضهم ببعض ، وتكلم المؤمن مع الكافر ، وانتشر العلم النافع والإيمان ، وقوله تعالى : { لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ } هذا من خصائصه صلى الله عليه سلم التي لا يشاركه فيها غيره ، وليس في حديث صحيح في ثواب الأعمال لغيره غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وهذا فيه تشريف عظيم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو صلى الله عليه وسلم في جميع أموره على الطاعة والبر والاستقامة التي لم ينلها بشر سواه ، لا من الأولين ولا من الآخرين ، وهو صلى الله عليه وسلم أكمل البشر على الإطلاق ، وسيدهم في الدنيا والآخرة ، ولما كان أطوع خلق الله تعالى وأشدهم تعظيماً لأوامره ونواهيه قال حين بركت به الناقة ، حبسها حابس الفيل ، ثم قال صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده لا يسألوني اليوم شيئاً يعظمون به حرمات الله إلاّ أجبتهم إليها » فلما أطاع الله في ذلك وأجاب إلى الصلح قال الله تعالى له : { إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً * لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } أي في الدنيا والآخرة ، { وَيَهْدِيَكَ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أي بما يشرعه لك من الشرع العظيم والدين القويم ، { وَيَنصُرَكَ الله نَصْراً عَزِيزاً } أي بسبب خضوعك لأمر الله عزَّ وجلَّ يرفعك الله وينصرك على أعدائك ، كما جاء في الحديث الصحيح : « وما زاد الله عبداً بعفو إلاّ عزاً وما تواضع أحد لله عزَّ وجلَّ إلاّ رفعه الله تعالى » ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال : ما عاقبت أحداً عصى الله تعالى فيك بمثل أن تطيع الله تبارك وتعالى فيه .(1/2356)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْ وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (4) لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَكَانَ ذَلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزًا عَظِيمًا (5) وَيُعَذِّبَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْمُشْرِكِينَ وَالْمُشْرِكَاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (6) وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (7)
يقول تعالى : { هُوَ الذي أَنزَلَ السكينة } أي جعل الطمأنينة ، قال ابن عباس ، وعنه : الرحمة ، وقال قتادة : الوقار في قلوب المؤمنين ، الذين استجابوا لله ولرسوله وانقادوا لحكم الله ورسوله ، فلما اطمأنت قلوبهم بذلك واستقرت ، زادهم إيماناً مع إيمانهم؛ ثم ذكر تعالى أنه لو شاء لانتصر من الكافرين ، فقال سبحانه : { وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض } أي ولو أرسل عليهم ملكاً واحداً لأباد خضراءهم ، ولكنه تعالى شرع لعباده المؤمنين الجهاد ، لما له في ذلك من الحكمة البالغة ، والحجة القاطعة ، ولهذا قال جلت عظمته : { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } ، ثم قال عزَّ وجلَّ : { لِّيُدْخِلَ المؤمنين والمؤمنات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا } أي ماكثين فيها أبداً ، { وَيُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ } أي خطاياهم وذنوبهم ، فلا يعاقبهم عليها ، بل يعفو ويصفح ويغفر ويستر : { وَكَانَ ذَلِكَ عِندَ الله فَوْزاً عَظِيماً } ، كقوله جلَّ وعلا : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } [ آل عمران : 185 ] ، وقوله تعالى : { وَيُعَذِّبَ المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات الظآنين بالله ظَنَّ السوء } أي يتهمون الله تعالى في حكمه ، ويظنون بالرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن يقتلوا ويذهبوا بالكلية ، ولهذا قال تعالى : { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء وَغَضِبَ الله عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ } أي أبعدهم من رحمته ، { وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } ، ثم قال عزَّ وجلَّ مؤكداً لقدرته على الانتقام من الأعداء؛ أعداء الإسلام من الكفرة والمنافقين { وَلِلَّهِ جُنُودُ السماوات والأرض وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً } .(1/2357)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ وَتُوَقِّرُوهُ وَتُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (10)
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً } أي على الخلق ، { وَمُبَشِّراً } أي للمؤمنين ، { وَنَذِيراً } أي الكافرين ، { لِّتُؤْمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ وَتُعَزِّرُوهُ } قال ابن عباس وغير واحد : تعظموه ، { وَتُوَقِّرُوهُ } من التوقير ، وهو الاحترام والإجلال والإعظام ، { وَتُسَبِّحُوهُ } أي تسبحون الله ، { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي أول النهار وآخره ، ثم قال عزَّ وجلَّ لرسوله تشريفاً له وتعظيماً وتكريماً : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله } ، كقوله جلَّ وعلا : { مَّنْ يُطِعِ الرسول فَقَدْ أَطَاعَ الله } [ النساء : 80 ] ، { يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } أي هو حاضر معهم ، يسمع أقوالهم ويرى مكانهم ، ويعلم ضمائرهم وظواهرهم ، فهو تعالى المبايع بواسطة رسوله ، كقوله تعالى : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } [ التوبة : 111 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من سل سيفه في سبيل الله فقد بايع الله » ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحجر : « والله ليبعثنه الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة له عينان ينظر بهما ولسان ينطق به ويشهد على من استلمه بالحق ، فمن استلمه فقد بايع الله تعالى » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ } ، ولهذا قال تعالى ههنا : { فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ } أي إنما يعود وبال ذلك على الناكث ، والله غني عنه { وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } أي ثواباً جزيلاً ، وهذه البيعة هي ( بيعة الرضوان ) وكانت تحت شجرة سمرة بالحديبية ، وكان الصحابة رضي الله عنهم الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذٍ ألفاً وأربعمائة ، روى البخاري ومسلم عن جابر رضي الله عنه قال : كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة ، ووضع يده في ذلك الماء ، فجعل الماء ينبع من بين أصابعه ، حتى روو كلهم ، وفي رواية في « الصحيحين » عن جابر رضي الله عنه : أنهم كانوا خمس عشرة مائة .
« ذكر سبب هذه البيعة العظيمة »
قال محمد بن إسحاق في « السيرة » : ثم دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ليبعثه إلى مكة ، ليبلغ عنه أشراف قريش ما جاء له ، فقال : يا رسول الله إني أخاف قريشاً على نفسي ، وليس بمكة من بني عدي بن كعب من يمنعني ، وقد عرفت قريش عداوتي إياها وغلظي عليها ، ولكن أدلك على رجل أعز بها مني ، عثمان بن عفان رضي الله عنه نبعثه إلى أبي سفيان وأشراف قريش ، يخبرهم أنه لم يأت لحرب ، وأنه إنما جاء زائراً لهذا البيت ومعظماً لحرمته ، فخرج عثمان رضي الله عنه إلى مكة ، فلقيه أبان بن سعيد حين دخل مكة أو قبل أن يدخلها ، فحمله بين يديه ، ثم أجاره ، حتى بلَّغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق عثمان رضي الله عنه حتى أتى أبا سفيان وعظماء قريش ، وفبلغهم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرسله به ، فقالوا لعثمان رضي الله عنه حين فرغ من رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم : إن شئت أن تطوف بالبيت فطف ، فقال : ما كنت لأفعل حتى يطوف به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، واحتبسته قريش عندها ، فبلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمين أن عثمان رضي الله عنه قد قتل .(1/2358)
قال ابن إسحاق : فحدثني عبد الله بن أبي بكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حين بلغه أن عثمان قد قتل : « لا نبرح حتى نناجز القوم » ، ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس إلى البيعة فكانت ( بيعة الرضوان ) تحت الشجرة ، فكان الناس يقولون : بايعهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الموت . وكان جابر بن عبدالله رضي الله عنهما يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يبايعهم على الموت ولكن بايعنا على أن لا نفر ، فبايع الناس ، ولم يتخلف أحد من المسلمين حضرها إلا الجد بن قيس فكان جابر رضي الله عنه يقول : والله لكأني أنظر إليه لاصقاً بإبط ناقته قد صبأ إليها ، يستتر بها من الناس ، ثم أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الذي كان من أمر عثمان رضي الله عنه باطل ، قال أنس بن مالك رضي الله عنه : لما أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيعة الرضوان كان عثمان بن عفان رضي الله عنه رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ، فبايع الناس ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » اللهم إن عثمان في حاجة الله تعالى وحاجة رسوله « فضرب بإحدى يديه على الأخرى ، فكانت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه خيراً من أيديهم لأنفسهم » قال البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن الناس كانوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قد تفرقوا في ظلال الشجر ، فإذا الناس محدقون بالنبي صلى الله عليه وسلم ، فقال : يعني عمر رضي الله عنه ، يا عبد الله انظر ما شأن الناس قد أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجدهم يبايعون ، فبايغ ، ثم رجع إلى عمر رضي الله عنه فخرج فبايغ ، وروى البخاري عن يزيد بن أبي عبيد عن سلمة بن الأكوع رضي الله عنه قال : بايعت رسول الله صل الله عليه وسلم ، قال يزيد : قلت يا أبا مسلمة على أي شيء كنتم تبايعون يومئذٍ؟ قال : على الموت .(1/2359)
وثبت في « الصحيحين » عن سعيد بن المسيب قال : « كان أبي ممن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة قال : فانطلقنا من قابل حاجبين ، فخفي علينا مكانها » ، وروى الحميدي عن جابر رضي الله عنه قال : كنا يوم الحديبية ألفاً وأربعمائة ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنت خير أهل الأرض اليوم » قال جابر رضي الله عنه : لو كنت أبصر لأريتكم موضع الشجرة . وروى الإمام أحمد عن جابر رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة » ولهذا قال تعالى في الثناء عليهم : { إِنَّ الذين يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ الله يَدُ الله فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ على نَفْسِهِ وَمَنْ أوفى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ الله فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } .(1/2360)
سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَا أَمْوَالُنَا وَأَهْلُونَا فَاسْتَغْفِرْ لَنَا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًا بَلْ كَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَالْمُؤْمِنُونَ إِلَى أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَكُنْتُمْ قَوْمًا بُورًا (12) وَمَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَعِيرًا (13) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (14)
يقول تعالى مخبراً رسول الله صلى الله عليه سلم بما يعتذر به المخلفون من الأعراب ، الذين اختاروا المقام في أهليهم ، وتركوا المسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وسألوا أن يستغفروا لهم الرسول صلى الله عليه وسلم لا على سبيل الاعتقاد ، بل على وجه التقية والمصانعة ، ولهذا قال تعالى : { يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُمْ مِّنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرّاً أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعاً } أي لا يقدر أحد أن يرد ما أراده الله فيكم ، وهو العليم بسرائركم وضمائركم ، وإن صانعتمونا ونافقتمونا ، ولهذا قال تعالى : { بَلْ كَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } ، ثم قال تعالى : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً } أي اعتقدتم أنهم يقتلون وتستأصل شأفتهم ، وتستباد خضراؤهم ، ولا يرجع منهم مخبر ، { وَظَنَنتُمْ ظَنَّ السوء وَكُنتُمْ قَوْماً بُوراً } أي هلكى ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وقال قتادة : فاسدين ، ثم قال تعالى : { وَمَن لَّمْ يُؤْمِن بالله وَرَسُولِهِ } أي من لم يخلص العمل في الظاهر والباطن لله ، فإن الله تعالى سيعذبه في السعير ، ثم بيّن تعالى أنه الحاكم المالك المتصرف في أهل السماوات والأرض : { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } أي لمن تاب إليه وأناب وخضع لديه .(1/2361)
سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلَى مَغَانِمَ لِتَأْخُذُوهَا ذَرُونَا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلَامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونَا كَذَلِكُمْ قَالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا بَلْ كَانُوا لَا يَفْقَهُونَ إِلَّا قَلِيلًا (15)
يقول تعالى مخبراً عن الأعراف ، الذين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في عمرة الحديبية ، إذ ذهب النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم إلى خيبر يفتحونها ، أنهم يسألون أن يخرجوا معهم إلى المغنم ، وقد تخلفوا عن وقت محاربة الأعداء ومجادلتهم ، فأمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه سلم أن لا يأذن لهم في ذلك ، معاقبة لهم من جنس ذنبهم ، فإن الله تعالى قد وعد أهل الحديبية بمغانم خيبر وحدهم ، لا يشاركهم فيها غيرهم من الأعراب المتخلفين ، ولهذا قال تعالى : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله } قال مجاهد وقتادة : وهو الوعد الذي وعد به أهل الحديبية ، واختاره ابن جرير ، وقال ابن زيد : هو قوله تعالى : { فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ فاقعدوا مَعَ الخالفين } [ التوبة : 83 ] وهذا الذي قاله ابن زيد فيه نظر ، لأن هذه الآية التي في براءة نزلت في غزوة تبوك ، وهي متأخرة عن عمرة الحديبية ، وقال ابن جريج : { يُرِيدُونَ أَن يُبَدِّلُواْ كَلاَمَ الله } يعني بتثبيطهم المسلمين عن الجهاد ، { قُل لَّن تَتَّبِعُونَا كذلكم قَالَ الله مِن قَبْلُ } أي وعد الله أهل الحديبية قبل سؤالكم الخروج معهم ، { فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنَا } أي أن نشرككم في المغانم ، { بَلْ كَانُواْ لاَ يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي ليس الأمر كما زعموا ، ولكن لا فهم لهم .(1/2362)
قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرَابِ سَتُدْعَوْنَ إِلَى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْرًا حَسَنًا وَإِنْ تَتَوَلَّوْا كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَمَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذَابًا أَلِيمًا (17)
اختلف المفسرون في هؤلاء القوم الذين هم أولو بأس شديد على أقوال ، ( أحدها ) : أنهم هوازن ، قاله سعيد بن جبير وعكرمة ، ( الثاني ) : ثقيف ، قاله الضحاك ، ( الثالث ) : بنو حنيفة ، قاله جويبر ، وروي مثله عن سعيد وعكرمة ، ( الرابع ) : هم أهل فارس ، قاله ابن عباس ومجاهد : وقال كعب الأحبار : هم الروم ، وعن عطاء والحسن : هم فارس والروم ، وعن مجاهد : هم أهل الأوثان ، وقال ابن أبي حاتم عن الزهري في قوله تعالى : { سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } قال : لم يأت أولئك بعد ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تقوم الساعة حتى تقاتلوا قوماً صغار الأعين ذلف الأنوف كأن وجوههم المجان المطرقة » قال سفيان : هم الترك . وقوله تعالى : { تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } يعني شرع لكم جهادهم وقتالهم ، فلا يزال ذلك مستمراً عليهم ولكم النصرة عليهم ، { أَوْ يُسْلِمُونَ } فيدخلون في دينكم بلا قتال بل باختيار ، ثم قال عزَّ وجلَّ : { يُؤْتِكُمُ الله أَجْراً حَسَناً وَإِن تَتَوَلَّوْاْ كَمَا تَوَلَّيْتُمْ مِّن قَبْلُ } أي تستجيبوا وتنفروا في الجهاد وتؤدوا الذي عليكم فيه { فَإِن تُطِيعُواْ } يعني زمن الحديبية حيث دعيتم فتخلفتم ، { يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } . ثم ذكر تعالى الأعذار في ترك الجهاد فمنها لازم كالعمى والعرج المستمر ، وعارض كالمرض الذي يطرأ أياماً ثم يزول ، فهو في حال مرضه ملحق بذوي الأعذار اللازمة حتى يبرأ ، ثم قال تبارك وتعالى مرغباً في الجهاد وطاعة الله ورسوله : { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَمَن يَتَوَلَّ } أي ينكل عن الجهاد ويقبل على المعاش { يُعَذِّبْهُ عَذَاباً أَلِيماً } في الدنيا بالمذلة ، وفي الآخرة بالنار ، والله تعالى أعلم .(1/2363)
لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا (18) وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (19)
يخبر تعالى عن رضاه عن المؤمنين ، الذين بايعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، وقد تقدم أنهم كانوا ألفاً وأربعمائة ، وأن الشجرة كانت سمرة بأرض الحديبية ، وروى البخاري عن عبد الرحمن رضي الله عنه قال : انطلقت حاجاً فمررت بقوم يصلون ، فقلت : ما هذا المسجد؟ قالوا : هذه الشجرة حيث بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الرضوان ، فأتيت سعيد بن المسيب فأخبرته ، فقال سعيد : حدثني أبي أنه كان فيمن بايع رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت الشجرة ، قال : فلما خرجنا من العام المقبل نسناها ، فلم نقدر عليها ، فقال سعيد : إن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم لم يعلموها وعلمتموها أنتم ، فأنتم أعلم .
وقوله تعالى : { فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ } أي من الصدق والوفاء ، والسمع والطاعة { فَأنزَلَ السكينة } وهي الطمأنينة { عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً } وهو ما أجرى الله عزَّ وجلَّ على أيديهم من الصلح بينهم وبين أعدائهم ، وما حصل بذلك من الخير بفتح خيبر وفتح مكة ، ثم فتح سائر البلاد والأقاليم ، وما حصل لهم من العز والنصر والرفعة في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال تعالى : { وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَان الله عَزِيزاً حَكِيماً } ، روى ابن أبي حاتم عن إياس بن سلمة عن أبيه قال : « بينما نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : أيها الناس : البيعة البيعة ، نزل روح القدس ، قال : فسرنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو تحت شجرة سمرة فبايعناه ، فذلك قول الله تعالى : { لَّقَدْ رَضِيَ الله عَنِ المؤمنين إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشجرة } قال : فبايع رسول الله صلى الله عليه وسلم لعثمان رضي الله عنه بإحدى يديه على الأخرى ، فقال الناس : هنيئاً لابن عفان يطوف بالبيت ونحن هاهنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لو مكث كذا وكذا ما طاف حتى أطوف « .(1/2364)
وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا فَعَجَّلَ لَكُمْ هَذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (20) وَأُخْرَى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا (21) وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا (23) وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (24)
قال مجاهد في قوله تعالى : { وَعَدَكُمُ الله مَغَانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَهَا } هي جميع المغانم إلى اليوم { فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه } يعني فتح خيبر ، وروى العوفي عن ابن عباس { فَعَجَّلَ لَكُمْ هذه } يعني صلح الحديبية { وَكَفَّ أَيْدِيَ الناس عَنْكُمْ } أي لم ينلكم سوء مما كان أعداؤكم أضمروه لكم من المحاربة والقتال ، وكذلك كف أيدي الناس عنكم الذين خلفتموهم وراء ظهوركم عن عيالكم وحريمكم { وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } أي يعتبرون بذلك ، فإن الله تعالى حافظهم وناصرهم على سائر الأعداء مع قلة عددهم ، وليعلموا بصنيع الله هذا بهم أنه العالم بعواقب الأمور ، وأن الخيرة فيما يختاره لعباده المؤمنين وإن كرهوه في الظاهر ، كما قال عزَّ وجلَّ : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً } [ البقرة : 216 ] ، { وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أي بسبب انقيادكم لأمره واتباعكم طاعته وموافقتكم رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقوله تبارك وتعالى : { وأخرى لَمْ تَقْدِرُواْ عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ الله بِهَا وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيراً } أي وغنيمة أخرى وفتحاً آخر معيناً لم تكونوا تقدرون عليها ، قد يسرها الله عليكم وأحاط بها لكم ، فإنه تعالى يرزق عباده المتقين من حيث لا يحتسبون ، وقد اختلف المفسرون في هذه الغنيمة ما المراد بها؟ فقال ابن عباس : هي خيبر ، وقال الضحاك وقتادة : هي مكة ، واختاره ابن جرير ، وقال الحسن البصري : هي فارس والروم ، وقال مجاهد هي كل فتح وغنيمة إلى يوم القيامة ، وقوله تعالى : { وَلَوْ قاتلكم الذين كفَرُواْ لَوَلَّوُاْ الأدبار ثُمَّ لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } يقول عزَّ وجلَّ مبشراً لعباده المؤمنين ، بأنه لو ناجزهم المشركون لنصر الله رسوله وعباده المؤمنين عليهم ، ولانهزم جيش الكفر فاراً مدبراً { لاَ يَجِدُونَ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } لأنهم محاربون لله ولرسوله ولحزبه المؤمنين ، ثم قال تبارك وتعالى : { سُنَّةَ الله التي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ الله تَبْدِيلاً } أي هذه سنة الله وعادته في خلقه ، ما تقابل الكفر والإيمان في موطن فيصل ، إلا نصر الله الإيمان على الكفر ، فرفع الحق ووضع الباطل ، كما فعل تعالى يوم بدر بأوليائه المؤمنين ، نصرهم على أعدائه من المشركين ، مع قلة عدد المسلمين وكثرة المشركين ، وقوله سبحانه وتعالى : { وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَكَانَ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً } هذا امتنان من الله تعالى على عباده المؤمنين ، حين كف أيدي المشركين عنهم ، فلم يصل إليهم منهم سوء ، وكف أيدي المؤمنين عن المشركين فلم يقاتلوهم عند المسجد الحرام ، بل صان كلاً من الفريقين وأوجد بينهم صلحاً ، فيه خيرة للمؤمنين وعاقبة لهم في الدنيا والآخرة ، روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لما كان يوم الحديبية هبط على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ثمانون رجلاً من أهل مكة بالسلاح ، من قبل جبل التنعيم ، يريدون غرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخذوا ، قال عفان : فعفا عنهم ، ونزلت هذه الآية : { وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } .(1/2365)
وقال أحمد أيضاً عن عبد الله بن مغفل المزني رضي الله عنه قال : « كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصل الشجرة التي قال الله تعالى في القرآن ، وكان يقع من أغصان تلك الشجرة على ظهر رسول الله صلى الله عليه سلم وعلي بن أبي طالب رضي الله عنه وسهيل بن عمرو بين يديه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه : » اكتب بسم الله الرحمن الرحيم « فأخذ سهيل بيده ، وقال : ما نعرف الرحمن الرحيم ، اكتب في قضيتنا ما نعرف ، فقال : » اكتب باسمك اللهم وكتب هذا ما صالح عليه محمد رسول الله أهل مكة « فأمسك سهيل بن عمرو بيده ، وقال : لقد ظلمناك إن كنت رسوله! اكتب في قضيتنا ما نعرف ، فقال : » اكتب هذا ما صالح عليه محمد بن عبد الله « فبينا نحن كذلك ، إذ خرج علينا ثلاثون شاباً عليهم السلاح فثاروا في وجوهنا فدعا عليهم رسول الله صلى عليه وسلم ، فأخذ الله بأسماعهم فقمنا إليهم فأخذناهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هل جئتم في عهد أحد؟ أو هل جعل لكم أحد أماناً؟ « فقالوا : لا ، فخلى سبيلهم فأنزل الله تعالى : { وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } » الآية .
وروى ابن إسحاق عن عكرمة مولى ابن عباس رضي الله عنه قال : إن قريشاَ بعثوا أربعين رجلاً منهم أو خمسين ، وأمروهم أن يطيفوا بعسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصيبوا من أصاحبه أحداً ، فأخذوا أخذاً ، فأُتي بهم رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ، فعفا عنهم ، وخلى سبيلهم ، وقد كانوا رموا إلى عسكر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحجارة والنبل ، قال ابن إسحاق : وفي ذلك أنزل الله تعالى : { وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم } الآية .(1/2366)
هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُؤْمِنَاتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (26)
يقول تعالى مخبراً من مشركي العرب ، من قريش ومن مالأهم على نصرتهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هُمُ الذين كَفَرُواْ } أي هم الكفار دون غيرهم { وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام } أي وأنتم أحق به وأنتم أهله في نف الأمر { والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } أي وصدوا الهدي أن يصل إلى محله ، وهذا من بغيهم وعنادهم ، وكان الهدي سبعين بدنة ، وقوله عزَّ وجلَّ : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ } أي بين أظهرهم ممن يكتم إيمانه ويخفيه منهم ، خيفة على أنفسهم من قومهم ، لكنا سلطناكم عليهم فقتلتموهم وأبدتم خضراءهم ، ولكن بين أفنائهم من المؤمنين والمؤمنات أقوام لا تعرفونهم حالة القتل ، ولهذا قال تعالى : { لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِّنْهُمْ مَّعَرَّةٌ } أي إثم وغرامة { بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ الله فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ } أي يؤخر عقوبتهم ليخلص من بين أظهرهم المؤمنين ، وليرجع كثير منهم إلى الإسلام ، ثم قال تبارك وتعالى : { لَوْ تَزَيَّلُواْ } أي لو تميز الكفار من المؤمنين الذين بين أظهرهم { لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } أي لسلطناكم عليهم فلقتلتموهم قتلاً ذريعاً . عن جنيد بن سبيع قال : « قاتلت رسول الله صلى الله عليه وسلم أول النهار كافراً ، وقاتلت معه آخر النهار مسلماً ، وفينا نزلت : { وَلَوْلاَ رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَآءٌ مُّؤْمِنَاتٌ } ، قال : كنا تسعة نفر سبعة رجال وامرأتين » . وقال أبن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { لَوْ تَزَيَّلُواْ لَعَذَّبْنَا الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } يقول : لو تزيل الكفار من المؤمنين لعذبهم الله عذاباً أليماً بقتلهم إياهم ، وقوله عزَّ وجلَّ : { إِذْ جَعَلَ الذين كَفَرُواْ فِي قُلُوبِهِمُ الحمية حَمِيَّةَ الجاهلية } وذلك حين أبوا أن يكتبوا : بسم الله الرحمن الرحيم ، وأبوا أن يكتبوا : هذا ما قاضى عليه محمد رسول الله { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } وهي قول : لا إله إلا الله ، كما قال ابن جرير « عن رسول الله صلىلله عليه وسلم يقول : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } قال : » لا إله إلا الله « » ، وقال ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب إن أبا هريرة رضي الله عنه أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله فمن قال : لا إله إلا الله فقد عصم مني ماله ونفسه إلا بحقه وحسابه على الله عزَّ وجلَّ » ، وأنزل الله عزَّ وجلَّ في كتابه قوماً فقال : { إِنَّهُمْ كانوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ } [ الصافات : 35 ] ، وقال الله جلَّ ثناؤه : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } وهي لا إله إلا الله محمد رسول الله ، فاستكبروا عنها واستكبر عنها المشركون يوم الحديبية ، فكاتبهم رسول الله صلى الله عليه سلم على قضية المدة ، وقال مجاهد : كلمة التقوى الإخلاص ، وقال عطاء : هي لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، وقال علي رضي الله عنه : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } قال : لا إله إلا الله والله أكبر ، وقال ابن عباس { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } يقول شهادة أن لا إله إلا الله وهي رأس كل تقوى ، وقال سعيد بن جبير : { وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التقوى } لا إله إلا الله ، والجهاد في سبيله ، { وكانوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا } كان المسلمون أحق بها وكانوا أهلها { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أي هو عليم بمن يستحق الخيرممن يستحق الشر .(1/2367)
( ذكر الأحاديث الواردة في قصة الحديبية وقصة الصلح )
روى الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم رضي الله عنهما قالا : « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد زيادة البيت ، لا يريد قتالاً ، وساق معه الهدي سبعين بدنة ، وكان الناس سبعمائة رجل ، فكانت كل بدنة عن عشرة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا كان بعسفان ، لقيه بشر بن سفيان الكعبي ، فقال : يا رسول الله هذه قريش قد سمعت بمسيرك فخرجت معها العوذ المطافيل ، قد لبست جلود النمور ، يعاهدون الله تعالى أن لا تدخلها عليهم عنوة أبداً ، وهذا خالد بن الوليد في خيلهم قد قدموه إلى كراع الغميم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا ويح قريش قد أكلتهم الحرب ، ماذا عليهم لو خلوا بيني وبين سائر الناس؟ فإن أصابوني كان الذي أرادوا ، وإن أظهرني الله تعالى دخلوا في الإسلام وهم وافرون ، وإن لم يفعلوا قاتلوا وبهم قوة ، فماذا تظن قريش؟ فوالله لا أزال أجاهدهم على الذي بعثني الله تعالى به حتى يظهرني الله عزَّ وجلَّ أو تنفرد هذه السالفة » ثم أمر الناس فسلكوا ذات اليمين بين ظهري الحمض على طريق تخرجه على ثنية المرار والحديبية من أسفل مكة ، قال : فسلك الجيش تلك الطريق ، فلما رأت خيل قريش فترة الجيش قد خالفوا عن طريقهم ركضوا راجعين إلى قريش ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إذا سلك ثنية المرار بركت ناقته ، فقال الناس : خلأت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما خلأت » وما ذلك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل عن مكة ، والله لا تدعوني قريش اليوم إلى خطة يسألوني فيها صلة الرحم إلا أعطيتهم إياها « ثم قال صلى الله عليه وسلم للناس : » انزلوا « قالوا : يا رسول الله ما بالوادي من ماء ينزل عليه الناس ، فأخرج رسول الله صلىلله عليه وسلم سهماً من كنانته ، فأعطاه رجلاً من أصحابه فنزل في قليب من تلك القلب ، فغرزه فيه ، فجاش بالماء حتى ضرب الناس عنه بعطن فلما اطمأن رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ ( بديل بن ورقاء ) في رجال من خزاعة ، فقال لهم كقوله لبشر بن سفيان ، فرجعوا إلى قريش ، فقالوا : يا معشر قريش إنكم تعجلون على محمد صلى الله عليه وسلم ، إن محمداً لم يأت لقتال إنما جاء زائراً لهذا البيت معظماً لحقه فاتهموهم » .(1/2368)
وروى البخاري رحمه الله في « صحيحه » ، عن المسور بن مخرمة ومروان بن الحكم يصدق كل واحد منهما حديث صاحبه قالا : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه ، فلما أتى ذا الحليفة ، قلد الهدى وأشعره ، وأحرم منها بعمرة ، وبعث عيناً من خزاعة وسار حتى إذا كان بغدير الأشطاط أتاه عينه فقال : « إن قريشاً قد جمعوا لك جموعاً وقد جمعوا لك الأحابيش ، وهم مقاتلون وصادوك ومانعوك فقال صلى الله عليه وسلم : » أشيروا أيها الناس عليّ ، أترون أن نميل على عيالهم وذراري هؤلاء الذين يريدون أن يصدونا عن البيت ، أم ترون أن نؤم البيت فمن صدنا عنه قاتلناه «؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه : يا رسول الله خرجت عامداً لهذا البيت لا تريد قتال أحد ولا حرباً ، فتوجه له ، فمن صدنا عنه قاتلناه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » فامضوا على اسم الله تعالى « ، حتى إذا كانوا ببعض الطريق ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : » إن خالد بن الوليد في خيل لقريش طليعة ، فخذوا ذات اليمين فوالله ما شعر به خالد حتى إذا هم بقترة الجيش ، فانطلق يركض نذيراً لقريش ، وسار النبي صلى الله عليه وسلم حتى إذا كان بالثنية التي يهبط عليهم منها بركت به راحلته ، فقالت الناس : حل حل ، فألحت ، فقالوا : خلأت القصواء ، خلأت القصواء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما خلأت القصواء ، وما ذاك لها بخلق ، ولكن حبسها حابس الفيل »؛ ثم قال صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلا أعطيتهم إياها » ثم زجرها ، فوثبت ، فعدل عنهم ، حتى نزل بأقصى الحديبية على ثمد قليل الماء يتبرضه الناس تبرضاً فلم يلبث الناس حتى نزحوه ، وشُكي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العطش ، فانتزع صلى الله عليه وسلم من كنانته سهماً ، ثم أمرهم أن يجعلوه فيه ، فوالله ما زال الجيش لهم بالري حتى صدروا عنه ، فبينما هم كذلك إذ جاء ( بديل من ورقاء ) الخزاعي في نفر من قومه من خزاعة وكانوا عبية نصح رسول الله صلى الله عليه وسلم من أهل تهامة فقال : إني تركت كعب بن لؤي وعامر بن لؤي نزلوا عدا مياه الحديبية معهم العوذ المطافيل ، وهم مقاتلوك وصادوك عن البيت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إنا لم نجيء لقتال أحد ، ولكن جئنا معتمرين ، وإنَّ قريشاً قد نهكتهم الحرب فأضرت بهم ، فإن شاءوا ماددتهم مدة ويخلوا بيني وبين الناس ، فإن أظهر فإن شاءوا أن يدخلوا فيها دخل فيه الناس فعلوا وإلا فقد حموا ، وإن هم أبوا فوالذي نفسي بيده لأقاتلنهم على أمري هذا حتى تنفرد سالفتي أو لينفذن الله أمره » قال بديل : سأبلغهم ما تقول ، فانطلق حتى أتى قريشاً فقال : إنا قد جئنا من عند هذا الرجل وسمعناه يقول قولاً ، فإن شئتم أن نعرضه عليكم فعلنا ، فقال سفهاؤهم : لا حاجة لنا أن تخبرنا عنه بشيء ، وقال ذوو الرأي منهم : هات ما سمعته يقول ، قال : سمعته يقول : كذا وكذا ، فحدثهم بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال عروة بن مسعود فقال أي قوم : ألستم بالوالد؟ قالوا : بلى ، قال : وألست بالولد؟ قالوا بلى ، قال فهل تتهموني؟ قالوا : لا ، قال : ألستم تعلمون أني استنفرت أهل عكاظ فلما بلحوا علي جئتكم بأهلي وولدي ومن أطاعني؟ قالوا : بلى ، قال : فإن هذا قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، ودعوني آته ، قالوا : ائته ، فأتاه فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم له نحواً من قوله لبديل بن ورقاء ، فقال عروة عند ذلك : أي محمد أرأيت إن استأصلت قومك هل سمعت بأحد من العرب اجتاح أصله قبلك؟ وإن تك الأُخْرى فإني والله لأرى وجوهاً ، وإني لأرى أشواباً من الناس خليقاً أن يفروا ويدعوك ، فقال له أبو بكر رضي الله عنه : امصص بظر اللات ، أنحن نفر وندعه؟ قال : من ذا؟ قالوا : أبا بكر ، قال : أما والذي نفسي بيده لولا يد لك عندي لم أجزك بها لأجبتك . قال : وجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فكلما كلمه أخذ بلحيته صلى الله عليه وسلم والمغيرة بن شعبة رضي الله عنه قائم على رأس النبي صلى الله عليه وسلم ومعه السيف وعليه المغفر ، وكلما أهوى عروة بيده إلى لحية النبي صلى الله عليه وسلم ضرب يده بنعل السيف ، وقال : أخر يدك عن لحية رسول الله صلى الله عليه وسلم . فرفع عروة رأسه ، وقال : من هذا؟ قال : المغيرة بن شعبة ، قال : أي غدر ، ألست أسعى في غدرتك؟ - وكان المغيرة بن شعبة رضي الله عنه صحب قوماً في الجاهلية فقتلهم وأخذ أموالهم ، ثم جاء فأسلم - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أما الإسلام فأقبل ، وأما المال فلست منه في شيء » ، ثم إن عروة جعل يرمق أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بعينيه ، قال : فوالله ما تنخّم رسول الله صلى الله عليه وسلم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُحِدُّون النظر إليه تعظيماً له صلى الله عليه وسلم ؛ فرجع عروة إلى أصحابه . فقال : أي قوم والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على كسرى وقيصر والنجاشي ، والله ما رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحاب محمد محمداً ، والله إن تنخم نخامة إلا وقعت في كف رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يحدون النظر إليه تعظيماً له ، وإنه قد عرض عليكم خطة رشد فاقبلوها ، فقال رجل منهم من بني كنانة : دعوني آته ، فقالوا : ائته ، فلما أشرف على النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « هذا فلان وهو من قوم يعظمون البدن فابعثوها له » ، فبعثت له ، واستقبله الناس يلبون ، فلما رأى ذلك قال : سبحان الله ما ينبغي لهولاء أن يصدوا عن البيت ، فلما رجع إلى أصحابه ، قال : رأيت البدن قد قلدت وأشعرت ، فما أرى أن يصدوا عن البيت ، فقام رجل منهم يقال له مكرز بن حفص ، فقال : دعوني آته ، فقالوا : ائته ، فلما أشرف عليهم قال النبي صلى الله عليه وسلم : « هذا مكرز وهو رجل فاجر » فجعل يكلم النبي صلى الله عليه وسلم ، فبينما هو يكلم إذ جاء سهيل بن عمرو ، وقال معمر : أخبرني أيوب عن عكرمة أنه قال : لما جاء سهيل بن عمرو قال النبي صلى الله عليه وسلم : « قد سهل لكم من أمركم » . قال معمر ، قال الزهري في حديثه : فجاء سهيل بن عمرو فقال : هات اكتب بيننا وبينك كتاباً ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم بعلي رضي الله عنه ، وقال : « اكتب بسم الله الرحمن الرحيم » ، فقال سهيل بن عمرو : أما الرحمن فوالله ما أدري ما هو ، ولكن اكتب : باسمك اللهم كما كنت تكتب ، فقال المسلمون : والله لا نكتبها إلا باسم الله الرحمن الرحيم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « اكتب باسمك اللهم » ثم قال : هذا ما قضى عليه محمد رسول الله « ، فقال سهيل : والله لو كنا نعلم أنك رسول الله ما صددناك عن البيت ولا قاتلناك ، ولكن اكتب : محمد بن عبد الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والله إني لرسول الله وإن كذبتموني ، اكتب : محمد بن عبد الله » .(1/2369)
قال الزهري : « وذلك لقوله : » والله لا يسألوني خطة يعظمون فيها حرمات الله تعالى إلاّ أعطيتهم إياها « . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : » على أن تخلوا بيننا وبين البيت فنطوف به « ، فقال سهيل : والله لا تتحدث العرب أنا أخذنا ضعطه ، ولكن ذلك من العام المقبل ، فكتب ، فقال سهيل : وعلى أن لا يأتيك منا رجل وإن كان على دينك إلاّ رددته إلينا ، فقال المسلمون : سبحان الله كيف يرد إلى المشركين ، وقد جاء مسلماً؟ فبينما هم كذلك إذ جاء ( أبو جندل ) بن سهيل بن عمرو يوسف في قيوده ، قد خرج من أسفل مكة حتى رمى بنفسه بين أظهر المسلمين ، فقال سهيل : هذا يا محمد أول من أقاضيك عليه أن ترده إليَّ ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » إنا نقض الكتاب بعد « ، قال . فوالله إذاً لا أصالك على شيء أبداً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » فأجزه لي « ، قال : ما أنا بمجيز ذلك لك ، قال : » بلى فافعل « ، قال : ما أنا بفاعل ، قال مكرز : بلى قد أجزناه لك ، قال أبو جندل : أي معشر المسلمين أرد إلى المشركين وقد جئت مسلماً ، ألا ترون ما قد لقيت؟ وكان قد عذب عذاباً شديداً في الله عزَّ وجلَّ ، قال عمر رضي الله عنه : فأتيت نبي الله صلى لله عليه وسلم فقلت : ألست نبي الله حقاً؟ قال صلى الله عليه وسلم : » بلى « ، قلت : ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال صلى الله عليه وسلم : » بلى « ، قلت : فلم نعطى الدنية في ديننا إذاً؟ قال صلى الله عليه وسلم : إني رسول الله ولست أعصيه وهو ناصري ، قلت : أولست كنت تحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال صلى الله عليه سولم : » بلى أفأخبرتك أنا نأتيه العام « ، قلت : لا ، قال صلى الله عليه وسلم : » فإنك آتيه ومطوف به ، قال ، فأتيت أبا بكر ، فقلت : يا أبا بكر! أليس هذا نبي الله حقاً؟ قال : بلى ، قلت : ألسنا على الحق وعدوّنا على الباطل؟ قال : بلى ، قلت : فلم نعكى الدنية في ديننا إذاً؟ قال : أيها الرجل إنه رسول الله وليس يعصي ربه وهو ناصره ، فاستمسك بعرزه ، فوالله إنه على الحق ، قلت : أوليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال : بلى ، قال : أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت : لا ، قال : فإنك تأتيه وتطوف به « .
قال الزهري : » قال عمر رضي الله عنه : فعملت لذلك أعمالاً ، قال : فلما فرغ من قضية الكتاب قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : « قوموا فانحروا ثم احلقوا » ، قال : فوالله ما قام منهم رجل ، حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ثلاث مرات ، فلما لم يقم منهم أحد دخل صلى الله عليه وسلم على أُمّ سلمة رضي الله عنها ، فذكر لها ما لقي من الناس ، قالت أم سلمة رضي الله عنها : يا نبي الله أتحب ذلك؟ اخرج ثم لا تكلم أحداً منهم ملة ، حتى تنحر بدنك وتدعو حالقك فيحلقك ، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يكلم أحداً منهم حتى فعل ذلك ، نحر بدنه ودعا حالقه فحلقه . فلما رأوا ذلك قاموا فنحروا وجعل بعضهم يحلق بعضاً حتى كاد بعضهم يقتل بعضاً غماً ، ثم جاءه نسوة فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِذَا جَآءَكُمُ المؤمنات مُهَاجِرَاتٍ } حتى بلغ { بِعِصَمِ الكوافر } [ الممتحنة : 10 ] فطلق عمر رضي الله عنه يومئذٍ امرأتين كانتا له في الشرك ، فتزوج إحداهما معاوية بن أبي سفيان ، والأُخرى صفوان بن أُمية ، ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، فجاءه ( أبو بصير ) رجل من قريش وهو مسلم ، فأرسلوا في طلبه رجلين ، فقالوا : العهد الذي جعلت لنا ، فدفعه إلى الرجلين ، فخرجا به ، حتى إذا بلغا ذا الحليفة فنزلوا يأكلون من تمر له ، فقال أبو نصير لأحد الرجلين : والله إني لأرى سيفك هذا يا فلان جيداً ، فاستله الآخر ، فقال : أجل ، والله إنه لجيد ، لقد جربت منه ، ثم جربت فقال أبو نصير : أرني أنظر إليه ، فأمكنه منه ، فضربه حتى برد ، وفر الآخر ، حتى أتى المدينة فدخل المسجد يعدو ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رآه : « لقد رأى هذا ذعراً » ، فلما انتهى إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : قتل والله صاحبي ، وإني لمقتول ، فجاء أو بصير ، فقال : يا رسول الله قد والله أوفى الله ذمتك قد رددتني إليهم ، ثم نجاني الله تعالى منهم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ويل أمه مسعر حرب أو كان معه أحد » ، فلما سمع ذلك عرف أنه سيرده إليهم ، فخرج حتى أتى سيف البحر ، قال : وتفلت منه أبو جندل بن سهيل ، فلحق بأبي بصير ، فجعل لا يخرج من قريش رجل قد أسلم إلاّ لحق بأبي بصير ، حتى اجتمعت منهم عصابة ، فوالله ما يسمعون بعير خرجت لقريش إلى الشام ، إلاّ اعترضوا لها فقتلوهم ، وأخذوا أموالهم ، فأرسلت قريش إلى النبي صلى الله عليه وسلم تناشده الله والرحم ، لما أرسل إليهم فمن أتاه منهم فهو آمن ، فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم إليهم ، وأنزل الله عزَّ وجلَّ : { وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ } حتى بلغ { حَمِيَّةَ الجاهلية } وكانت حميتهم أنهم لم يقروا أنه رسول الله ولم يقروا ببسم الله الرحمن الرحيم ، وحالوا بينهم وبين البيت « .(1/2370)
وقال الإمام أحمد ، عن أنس رضي الله عنه قال : « إن قريشاً صالحوا النبي صلى الله عليه وسلم وفيهم ( سهيل بن عمرو ) فقال النبي صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه : » اكتب بسم الله الرحمن الرحيم « ، فقال سهيل : لا ندري ما بسم الله الرحمن الرحيم ، ولكن اكتب : باسمك اللهم ، فقال صلى الله عليه وسلم : » اكتب من محمد رسول الله « ، قال : لو نعلم أنك رسول الله لأتبعناك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » اكتب من محمد بن عبد الله « ، واشترطوا عليه صلى الله عليه وسلم ، أن من جاء منكم لا نرده عليكم ، من جاءكم منا رددتموه علينا ، فقال يا رسول الله أنكتب هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم : » نعم إنه من ذهب منا إليهم فأبعده الله « » وروى الإمام أحمد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « نحر رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية سبعين بدنة ، فيها جمل لأبي جهل ، فلما صدت عن البيت حنت كما تحن إلى أولادها » .(1/2371)
لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لَا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحًا قَرِيبًا (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (28)
« كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد رأى في المنام أنه دخل مكة وطاف بالبيت ، فأخبر أصحابه بذلك وهو بالمدينة ، فلما ساروا عام الحُديبية لم يشك جماعة منهم أن هذه الرؤيا تتفسر هذا العام ، فلما وقع ما وقع من قضية الصلح ورجعوا عامهم ذلك على أن يعودوا من قابل ، وقع في نفس بعض الصحابة رضي الله عنهم من ذلك شيء ، حتى سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه في ذلك فقال له فيما قال : أفلم تكن تخبرنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال : » بلى ، أفأخبرتك أنك تأتيه عامك هذا؟ « قال : لا ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : » فإنك آتيه ومطوف به « ، وبهذا أجاب الصديق رضي الله عنه أيضاً » ، ولهذا قال تبارك وتعالى : { لَّقَدْ صَدَقَ الله رَسُولَهُ الرءيا بالحق لَتَدْخُلُنَّ المسجد الحرام إِن شَآءَ الله } هذا لتحقيق الخبر وتوكيده ، وليس هذا من الاستثناء في شيء ، وقوله عزَّ وجلّ : { آمِنِينَ } أي في حال دخولكم ، وقوله : { مُحَلِّقِينَ رُءُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ } حال مقدرة ، لأنهم في حال دخولهم لهم يكونوا محلقين ومقصرين ، وإنما كان هذا في ثاني الحال ، كان منهم من حلق رأسه ومنهم من قصره .
وثبت في « الصحيح » « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » رحم الله المحلقين « ، قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ ، قال صلى الله عليه وسلم : » رحم الله المحلقين « ، قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم : » رحم المحلقين « ، قالوا : والمقصرين يا رسول الله؟ قال صلى الله علي وسلم : » والمقصرين « في الثالثة أو الرابعة » ، وقوله سبحانه وتعالى : { لاَ تَخَافُونَ } حال مؤكدة في المعنى ، فأثبت لهم الأمن حال الدخول ، ونفي عنهم الخوف حال استقرارهم في البلد ، لا يخافون من أحد ، وهذا كان في عمرة القضاء في ذي القعدة سنة سبع ، فإن النبي صلى الله عليه وسلم لما رجع من الحُدَيْبية في ذي القعدة رجع إلى المدينة فأقام بها ذا الحجة والمحرم ، وخرج من صفر إلى خيبر ، ففتحها الله عليه بعضها عنوة ، وبعضها صلحاً ، وقسمها بين ( أهل الحديبية ) وحدهم ولم يشهدها أحد غيرهم إلاّ الذين قدموا من الحبشة ( جعفر بن أبي طالب ) وأصحابه ( وأبو موسى الأشعري ) وأصحابه رضي الله عنهم ولم يغب منهم أحد ، ثم رجع إلى المدينة ، فلما كان في ذي القعدة من سنة سبع « خرج النبي صلى الله عليه وسلم إلى مكة معتمراً ، هو وأهل الحديبية ، فأحرم من ذي الحليفة ، وساق معه الهدي ، قيل : كان ستين بدنة ، فلبى وصار أصحابه يلبَّون ، فلما كان صلى الله عليه وسلم قريباً من مر الظهران بعث ( محمد بن سلمة ) بالخيل والسلاح أمامه ، فلما رأه المشركون رعبوا رعباً شديداً ، وظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزوهم وأنه قد نكث العهد الذي بينهم وبينه من وضع القتال عشر سنين ، فذهبوا ، فأخبروا أهل مكة ، فلما كان في أثناء الطريق بعثت قريش ( مكرز بن حفص ) فقال : يا محمد ماعرفناك تنقض العهد ، فقال صلى الله عليه وسلم : » وماذاك؟ « قال : دخلت علينا بالسلاح والقسي والرماح ، فقال صلى الله عليه وسلم : » لم يكن ذلك وقد بعثنا به إلى يأجج « ، فقال : بهذا عرفناك بالبر والوفاء ، وخرجت رؤوس الكفَّار من مكة لئلا ينظروا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإلى أصحابه رضي الله عنهم غيظاً وحنقاً ، وأما بقية أهل مكة من الرجال والنساء والولدان ، فجلسوا في الطرق وعلى البيوت ينظرون إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فدخلها عليه الصلاة والسلام ، وبين يديه أصحابه يلبون ، والهدي قد بعثه إلى ذي طوى وهو راكب ( ناقته القصواء ) التي كان راكبها يوم الحديبية ، وعبد الله بن رواحة الأنصاري آخد بزمام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم يقودها وهو يقول : »(1/2372)
خلوا بني الكفار عن سبيله ... إني شهيد أنه رسوله
خلوا فكل الخير في رسوله ... يا رب أني مؤمن بقيله
نحن قتلناكم على تأويله ... كما قتلناكم على تنزيله
ضباً يزيل الهام عن مقيله ... ويذهل الخليل عن خليله
روى الإمام أحمد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه مكة ، وقد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها سوءاً ، فقال المشركون : إنه يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب ولقوا منها شراً ، وجلس المشركون من الناحية التي تلي الحِجْر فأطلع الله تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا ، فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يرملوا الأشواط الثلاثة ليرى المشركون جلدهم ، قال : فرملوا ثلاثة أشواط ، وأمرهم أن يمشوا بين الركنين حيث لا يراهم المشركون ، ولم يمنع النبي صلى الله عليه وسلم أن يرملوا الأشواط كلها إلاّ إبقاء عليهم ، فقال المشركون : أهؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد وهنتهم؟ هؤلاء أجلد من كذا وكذا ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إنما سعى النبي صلى الله عليه وسلم بالبيت بالصفا والمروة ليرى المشركون قوته ، وروى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج معتمراً ، فحال كفار قريش بينه وبين البيت ، فنحر هدية وحلق رأسه بالحديبية ، وقاضاهم على أن يعتمر العام المقبل ، ولا يحمل سلاحاً عليهم إلاّ سيوفاً ولا يقيم بها إلاَّ ما أحبوا ، فاعتمر صلى الله عليه وسلم من العام المقبل ، فدخلها ، كما كان صالحهم ، فلما أن أقام بها ثلاثاً ، أمره أن يخرج فخرج صلى الله عليه وسلم ، وقوله تعالى : { فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُواْ فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً } أي فعلم الله عزَّ وجلَّ من الخيرة والمصلحة في صرفكم عن مكة ودخولكم إليها عامكم ذلك ما لم تعلموا أنتم { فَجَعَلَ مِن دُونِ ذَلِكَ } أي قبل دخولكم الذي وعدتم به في رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم فتحاً قريباً ، وهو الصلح الذي كان بينكم وبين أعدائكم من المشركين » .(1/2373)
ثم قال تبارك وتعالى مبشراً للمؤمنين بنصرة الرسول صلى الله عليه وسلم على عدوه وعلى سائر أهل الأرض : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق } أي بالعلم النافع والعمل الصالح ، فإن الشريعة تشتمل على شيئين : علم ، وعمل { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } أي على أهل جميع الأديان من سائر أهل الأرض ، من عرب وعجم ، ومليين ومشركين { وكفى بالله شَهِيداً } أي أنه رسوله وهو ناصره ، والله سبحانه وتعالى أعلم .(1/2374)
مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا (29)
يخبر تعالى عن محمد صلى الله عليه وسلم أنه رسوله حقاً بلا شك ولا ريب فقال : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله } وهو مشتمل على كل وصف جميل ، ثم ثنَّى بالثناء على أصحابه رضي الله عنهم فقال : { والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } ، كما قال عزّ وجلّ : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ] وهذه صفة المؤمنين ، أن يكون أحدهم شديداً على الكفار ، رحيماً بالأخيار ، عبوساً في وجه الكافر ، بشوشاً في وجه المؤمن ، كما تعالى تعالى : { وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } [ التوبة : 123 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر » وفي الصحيح : « المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً » ، وشبّك بين أصابعه .
وقوله سبحانه وتعالى : { تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً } وصفهم بكثرة الصلاة ، وهي خير الأعمال ، ووصفهم بالإخلاص فيها لله عزّ وجلّ ، والاحتساب عند الله تعالى جزيل الثواب ، وهو ( الجنة ) المشتملة على فضل الله عزَّ وجلَّ ، ورضاه تعالى عنهم وهو أكبر من الأول ، كما قال جل وعلا : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] وقوله جل جلاله : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِّنْ أَثَرِ السجود } قال ابن عباس : يعني السمت الحسن ، وقال مجاهد : يعني الخشوع والتواضع ، وقال السدي : الصلاة تحسّن وجوههم ، وقال بعض السلف : من كثرت صلاته بالليل حَسُن وجهه بالنهار . وقال بعضهم : إن للحسنة نوراً ، في القلب ، وضياء في الوجه ، وسعة في الرزق ، ومحبة في قلوب الناس . وقال عثمان رضي الله عنه : « ما أسرّ أحد سريرة إلاّ أبداها الله تعالى على صفحات وجهه وفلتات لسانه » والغرض أن الشيء الكامن في النفس يظهر على صفحات الوجه ، فالمؤمن إذا كانت سريرته صحيحة من الله تعالى ، أصلح الله عزَّ وجلَّ ظاهره للناس ، كما روي عن عمر رضي الله عنه أنه قال : « من أصلح سريرته أصلح الله تعالى علانيته » ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ما أسر أحد سريرة إلاّ ألبسه الله تعالى رداءها إن خيراً فيخر وإن شراً فشر » وفي الحديث : « إن الهدي الصالح ، السمت الصالح ، والاقتصاد جزء من خمسة وعشرين جزءاً من النبوة » ، فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم وحسنت أعمالهم ، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم ، وقال مالك رضي الله عنه : بلغني أن النصارى كانوا إذا رأوا الصحابة رضي الله عنهم الذين فتحوا الشام يقولون : والله لهؤلاء خير من الحواريين فيما بلغنا ، وصدقوا في ذلك ، فإن هذه الأمة معظمة في الكتب المتقدمة ، وأعظمها وأفضلها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد نوّه الله تبارك وتعالى بذكرهم ، في الكتب المنزلة والأخبار المتداولة ، ولهذا قال سبحانه وتعالى ههنا : { ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التوراة } ، ثم قال : { وَمَثَلُهُمْ فِي الإنجيل كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ } أي فراخه { فَآزَرَهُ } أي شدّه { فاستغلظ } أي شبّ وطال { فاستوى على سُوقِهِ يُعْجِبُ الزراع } أي فكذلك أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، آزروه وأيدوه ونصروه ، فهم معه كالشطء مع الزرع { لِيَغِيظَ بِهِمُ الكفار } ، ومن هذه الآية انتزع الإمام مالك رحمه الله بتكفير الروافض الذين يبغضون الصحابة رضي الله عنهم ، قال : لأنهم يغيظونهم ، ومن غاظ الصحابة فهو كافر لهذه الآية ، ووافقه طائفة من العلماء رضي الله عنهم على ذلك .(1/2375)
والأحاديث في فضل الصحابة رضي الله عنهم ، والنهي عن التعرض لهم بمساويهم كثيرة ، ويكفيهم ثناء الله عليهم ، ورضاه عنهم ، ثم قال تبارك وتعالى : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِنْهُم } من هذه لبيان الجنس { مَّغْفِرَةً } أي لذنوبهم { وَأَجْراً عَظِيماً } أي ثواباً جزيلاً ، ورزقاً كريماً ، ووعد الله حق وصدق ، لا يخلف ولا يبدل ، وكل من اقتفى أثر الصحابة رضي الله عنهم فهو في حكمهم ، ولهم الفضل والسبق والكمال ، الذي لا يحلقهم فيه أحد من هذه الأمة ، رضي الله عنهم وأرضاهم ، وجعل جنات الفردوس مأواهم . ورى مسلم في « صحيحه » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تسبوا أصحابي ، فوالذي نفسي بيده ، لو أن أحدكم أنفق مثل أحد ذهباً ، ما أدرك مدّ أحدهم ولا نصيفه » .(1/2376)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَلَا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (3)
هذه آيات آدّب الله تعالى بها عباده المؤمنين ، فيما يعاملون به الرسول صلى الله عليه وسلم من التوقير والاحترام ، والتبجيل والإعظام ، فقال تبارك وتعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ } أي لا تسرعوا في الأشياء بين يديه أي قبله ، بل كونوا تبعاً له في جميع الأمور ، قال ابن عباس : نهوا أن يتكلموا بين يدي كلامه ، وقال مجاهد : لا تفتاتوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء حتى يقضي الله تعالى على لسانه ، وقال الضحّاك : لا تقضوا أمراً دون الله ورسوله من شرائع دينكم ، وقال الحسن البصري : لا تدعوا قبل الإمام ، وقال قتادة : ذكر لنا أن ناساً كانوا يقولون : لو أنزل كذا وكذا ، لو صح كذا ، فكره الله تعالى ذلك ، { واتقوا الله } فيما أمركم به { إِنَّ الله سَمِيعٌ } أي لأقوالكم { عَلِيمٌ } بنياتكم ، وقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي } هذا أدب ثان أدّب الله تعالى به المؤمنين ، أن لا يرفعوا أصواتهم بين يدي النبي صلى الله عليه وسلم فوق صوته ، وقد روي أنها نزلت في الشيخين ( أبي بكر ) و ( عمر ) رضي الله عنهما ، روى البخاري عن ابن أبي مليكة قال : « كاد الخيّران أن يهلكا ( أبو بكر ) و ( عمر ) رضي الله عنهما ، رفعا أصواتهما عند النبي صلى الله عليه وسلم ، حين قدم عليه ركب بني تميم ، فأشار أحدهما بالأقرع بن حابس رضي الله عنه أخي بني مجاشع ، وِأشار الآخر برجل آخر ، قال نافع : لا أحفظ اسمه ، فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما : ما أردت إلاّ خلافي ، قال : ما أردت خلافك ، فارتفعت أصواتهما في ذلك ، فأنزل الله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } قال ابن الزبير : فما كان عمر رضي الله عنه يسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعده هذه الآية حتى يستفهمه » وفي رواية أخرى له قال : « قدم ركب من بني تميم على النبي صلى الله عليه وسلم فقال أبو بكر رضي الله عنه : أمرّ ( القعقاع بن معبد ) ، وقال عمر رضي الله عنه : بل أمرّ ( الأقرع بن حابس ) فقال أبو بكر رضي الله عنه : ما أردت إلاّ خلافي ، فقال عمر رضي الله عنه ما أردت خلافك ، فتماريا حتى ارتفعت أصواتهما : فنزلت في ذلك : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُقَدِّمُواْ بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ } حتى انقضت الآية { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ } [ الحجرات : 5 ] الآية » ، أخرجه البخاري .
وروى الحافظ البزار ، عن أبي بكر رضي الله عنه قال :(1/2377)
« لما نزلت هذه الآية : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي } قلت : يا رسول الله والله لا أكلمك إلاّ كأخي السرار » وروى البخاري ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه : « أن النبي صلى الله عليه وسلم افتقد ( ثابت بن قيس ) رضي الله عنه ، فقال رجل : يا رسول الله أنا أعلم لك علمه ، فأتاه فوجده في بيته منكساً رأسه ، فقال له : ما شأنك؟ فقال : شر ، كان يرفع صوته فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم فقد حبط عمله فهو من أهل النار ، فأتى الرجل النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره أنه قال : كذا وكذا ، قال موسى : فرجع إليه المرة الآخرة ببشارة عظيمة ، فقال : » اذهب إليه فقل له : إنك لست من أهل النار ، ولكنك من أهل الجنة « » .
وروى الإمام أحمد ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « لما نزلت هذه الآية : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي } إلى قوله { وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } ، وكان ثابت بن قيس بن الشماس رفيع الصوت ، فقال : أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أنا من أهل النار ، حبط عملي ، وجلس في أهله حزيناً ، ففقده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فانطلق بعض القوم إليه ، فقالوا : له : تَفقَّدك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، مالك؟ قال : أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي صلى الله عليه وسلم وأجهر له بالقول ، حبط عملي أنا من أهل النار ، فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم فأخبروه بما قال ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » لا ، بل هو من أهل الجنة « . قال آنَس رضي الله عنه : فكنا نراه يمشي بين أظهرنا ، ونحن نعلم أنه من أهل الجنة ، فلما كان يوم اليمامة كان فينا بعض الانكشاف ، فجاء ثابت بن قيس بن شماس ، وقد تحنط ولبس كفنه ، فقال : بئسما تعوّدون أقرانكم ، فقاتلهم حتى قتل رضي الله عنه . وفي رواية : فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : » أما ترضى أن تعيش حميداً ، وتقتل شهيداً ، وتدخل الجنة؟ « فقال : رضيت ببشرى الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم ، ولا أرفع صوتي أبداً على صوت رسول الله صلى الله عليه وسلم » ، قال : وأنزل الله تعالى : { إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى } الآية .
وقد ذكر هذه القصة غير واحد من التابعين ، كذلك فقد نهى الله عزَّ وجلَّ عن رفع الأصوات بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد روينا عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه سمع صوت رجلين في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم قد ارتفعت أصواتهما فجاء ، فقال : أتدريان أين أنتما؟ ثم قال : من أين أنتما؟ قال : من أهل الطائف ، فقال : لو كنتما من أهل المدينة لأوجعتكما ضرباً .(1/2378)
وقال العلماء : يكره رفع الصوت عند قبره صلى الله عليه وسلم كما كان يكره في حياته عليه الصلاة والسلام ، لأنه محترم حياً ، وفي قبره صلى الله عليه وسلم ، ثم نهى عن الجهر له بالقول كما يجهر الرجل لمخاطبه ممن عداه ، بل يخاطب بسكينة ووقار وتعظيم ، ولهذا قال تبارك وتعالى : { وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ } ، كما قال تعالى : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } [ النور : 63 ] ، وقوله عزّ وجل : { أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت عنده ، خشية أن يغضب من ذلك ، فيغضب الله تعالى لغضبه ، فيحبط عمل من أغضبه وهو لا يدري ، كما جاء في الصحيح : « إن الرجل ليتكلم الكلمة من رضوان الله تعالى لا يلقي لها بالاً يكتب له بها الجنة ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى لا يلقي لها بالاً يهوي بها في النار أبعد ما بين السماء والأرض » ، ثم ندب الله تعالى إلى خفض الصوت عنده وحث على ذلك ورشد إليه ورغب فيه ، فقال : { إِنَّ الذين يَغُضُّونَ أَصْوَاتَهُمْ عِندَ رَسُولِ الله أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى } أي أخلصها لها وجعلها أهلاً ومحلاً { لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } . وعن مجاهد قال : كُتِب إلى عمر ، يا أمير المؤمنين رجل لا يشتهي المعصية ولا يعمل بها أفضل ، أم رجل يشتهي المعصية ولا يعمل بها؟ فكتب عمر رضي الله عنه : إن الذين يشتهون المعصية ولا يعملون بها { أولئك الذين امتحن الله قُلُوبَهُمْ للتقوى لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } .(1/2379)
إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِنْ وَرَاءِ الْحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (4) وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
ثم إنه تبارك وتعالى ذم الذين ينادونه من وراء الحجرات ، وهي بيوت نسائه كما يصنع أجلاف الأعراب فقال : { أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } ، ثم أرشد تعالى إلى الأدب في ذلك ، فقال عزّ وجلّ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُواْ حتى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أي لكان لهم في ذلك الخيرة ، والمصلحة في الدنيا والآخرة ، ثم قال جل ثناؤه داعياً لهم إلى التوبة الإنابة { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقد ذكر « أنها نزلت في الأقرع بن حابس التميمي رضي الله عنه نادى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد يا محمد ، وفي رواية : يا رسول الله ، فلم يجبه ، فقال : يا رسول الله إن حمدي لزين ، وإن ذمي لشين ، فقال : » ذاك والله عزَّ وجلَّ « » وعن البراء في قوله تبارك وتعالى : { إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات } قال : « جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد ، إن حمدي زين وذمي شين ، فقال صلى الله عليه وسلم : » ذاك الله عزَّ وجلَّ « » وعن زيد بن أرقم رضي الله عنه قال : « اجتمع أناس من العرب فقالوا : انطلقوا بنا إلى هذا الرجل ، فإن يك نبياً فنحن أسعد الناس به ، وإن يك ملكاً نعش بجناحه ، قال : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بما قالوا : فجاءوا إلى حجرة النبي صلى الله عليه وسلم فجعلوا ينادونه وهو في حجرته : يا محمد . . يا محمد ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } قال : فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بأذني فمدها ، فجعل يقول : » لقد صدّق الله تعالى قولك يا زيد لقد صدّق الله قولك يا زيد « » .(1/2380)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ (6) وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)
يأمر تعالى بالتثبت في خبر الفاسق ليحتاط له ، وقد نهى الله عزَّ وجلَّ عن اتباع سبيل المفسدين ، ومن ها هنا امتنع طوائف من العلماء من قبول رواية مجهول الحال ، لا حتمال فسقه في نفس الأمر ، وقبلها آخرون ، وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في ( الوليد بن عقبة بن أبي معيط ) حيث بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم على صدقات بني المصطلق ، وقد روي ذلك من طرق :
قال الإمام أحمد ، عن الحارث بن أبي ضرار الخزاعي رضي الله عنه قال : « قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاني إلى الإسلام ، فدخلت فيه وأقررت به ، ودعاني إلى الزكاة فأقررت بها ، وقلت : يا رسول الله أرجع إليهم ، فأدعوهم إلى الإسلام ، وأداء الزكاة ، فمن استجاب لي جمعت زكاته ، وترسل إليّ يا رسول الله رسولاً إبَّان كذا وكذا ليأتيك بما جمع من الزكاة ، فلما جمع الحارث الزكاة من استجاب له ، وبلغ الإبان الذي أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يبعث إليه ، احتبس عليه الرسول ، ولم يأته ، وظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطة من الله تعالى ورسوله ، فدعا بسروات قومه ، فقال لهم : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان وقّت لي وقتاً يرسل إليَّ رسوله ، ليقبض ما كان عندي من الزكاة ، وليس من رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلف ، ولا أرى حبس رسوله إلاّ من سخطه ، فانطلقوا بنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الوليد بن عقبة ) إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة ، فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق أي خاف فرجع حتى أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن الحارث قد منعني الزكاة وأراد قتلي ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبعث البعث إلى الحارث رضي الله عنه ، وأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث وفصل عن المدينة لقيهم الحارث ، فقالوا : هذا الحارث ، فلما غشيهم قال لهم : إلى من بعثتم؟ قالوا : إليك ، قال : ولم؟ قالوا : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليك ( الوليد بن عقبة ) فزعم أنك منعته الزكاة وأردت قتله ، قال رضي الله عنه : لا والذي بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق ما رأيته بتة ، ولا أتاني ، فلما دخل الحارث على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » منعت الزكاة وأردت قتل رسولي « قال : لا والذي بعثك بالحق ما رأيته ولا أتاني ، وما أقبلت إلاّ حين احتبس علي رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم ، خشيت أن يكون كونت سخطة من الله تعلى ورسوله ، قال : فنزلت الحجرات : { ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ } إلى قوله : { حَكِيمٌ } » .(1/2381)
وروى ابن جرير ، « عن أُم سلمة رضي الله عنها قالت : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً في صدقات بني المصطلق بعد الوقيعة ، فسمع بذلك القوم ، فتلقوه يعظمون أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : فحدثه الشيطان أنهم يريدون قتله ، قالت : فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن بني المصطلق قد منعوني صدقاتهم ، فغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون ، قالت : فبلغ القوم رجوعه ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصفوا له حين صلى الظهر ، فقالوا : نعوذ بالله من سخط الله وسخط رسوله ، بعثت إليها رجلاً مصدقاً ، فسررنا بذلك ، وقرت به أعيننا ، ثم إنه رجع من بعض الطريق ، فخشينا أن يكون ذلك غضباً من الله تعالى ومن رسوله صلى الله عليه وسلم ، فلم يزالوا يكلمونه ، حتى جاء بلال رضي الله عنه ، فأذن بصلاة العصر ، قالت : ونزلت : { ياأيها الذين آمنوا إِن جَآءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فتبينوا أَن تُصِيبُواْ قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ على مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ } »
وقال مجاهد وقتادة : أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم ( الوليد بن عقبة ) إلى بني المصطلق ليصدقهم ، فتلقوه بالصدقة فرجع ، فقال : إن بني المصطلق قد جمعت لك لتقاتلك ، زاد قتادة : وإنهم قد ارتدوا عن الإسلام ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد رضي الله عنه إليهم ، وأمره أن يتثبت ولا يعجل ، فانطلق حتى أتاهم ليلاً : فبعث عيونه ، فلما جاءوا أخبروا خالداً رضي الله عنه أنهم مستمسكون بالإسلام ، وسمعوا أذانهم وصلاتهم ، فملا أصبحوا أتاهم خالد رضي الله عنه فرأى الذي يعجبه ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره الخبر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية . وكذا ذكر غير واحد من السلف : أنها نزلت في ( الوليد بن عقبة ) ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { واعلموا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ الله } أي اعلموا أن بين أظهركم رسول الله ، فعظّموه ووقّروه ، وتأدّبوا معه وانقادوا لأمره ، فإنه أعلم بمصالحكم وأشفق عليكم منكم ، ورأيه فيكم أتم من رأيكم لأنفسكم ، { لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِّنَ الأمر لَعَنِتُّمْ } أي لو أطاعكم في جميع ما تختارونه لأدى ذلك إلى عنتكم وحرجكم ، كما قال سبحانه : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ } [ المؤمنون : 71 ] ، وقوله عزّ وجلّ : { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } أي حببه إلى نفوسكم ، وحسّنه في قلوبكم ، عن أنَس رضي الله عنه قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » الإسلام علانية الإيمان في القلب « ، ثم يشير بيده إلى صدره ثلاث مرات ثم يقول : » التقوى هاهنا ، التقوى هاهنا «(1/2382)
، { وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الكفر والفسوق والعصيان } أي وبغض إليكم الكفر والفسوق وهي الذنوب الكبار ، والعصيان وهي جميع المعاصي وهذا تدريج لكمال النعمة ، وقوله تعالى : { أولئك هُمُ الراشدون } أي المتصفون بهذه الصفة هم الراشدون الذي قد آتاهم الله رشدهم ، عن أبي رفاعة الزرقي ، عن أبيه قال : « لما كان يوم أُحُد وانكفأ المشركون قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » استووا حتى أثني على ربي عزّ وجلّ « ، فصاروا خلفه صفوفاً ، فقال صلى الله عليه وسلم : » اللهم لك الحمد كله ، اللهم لا قابض لما بسطت ، ولا باسط لما قبضت ، ولا هادي لمن أضللت ، ولا مضل لمن هديت ، ولا معطي لما منعت ، ولا مانع لما أعطيت ، ولا مقرب لما باعدت ، ولا مباعد لما قربت ، والله ابسط علينا من بركاتك ورحمتك وفضلك ورزقك ، اللهم إني أسألك النعيم المقيم ، الذي لا يحول ولا يزول ، اللهم أسألك النعيم يوم العيلة ، والأمن يوم الخوف ، اللهم إني عائذ بك من شر ما أعطيتنا ، ومن شر ما منعتنا ، اللهم حبب إليها الإيمان وزينه في قلوبنا ، وكرِّه إلينا الكفر والفسوق والعصيان ، وجعلنا من الراشدين ، الله توفنا مسلمين ، وأحينا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مفتونين ، اللهم قاتل الكفرة الذي يكذِّبون رسلك ، ويصدّون عن سبيلك ، واجعل عليهم رجزك وعذابك ، اللهم قاتل الكفرة الذين أُوتوا الكتاب إله الحق « وفي الحديث المرفوع : » من سرته حسنته وساءته سيئته فهو مؤمن « ، ثم قال : { فَضْلاً مِّنَ الله وَنِعْمَةً } أي هذا العطاء الذي منحكموه ، هو فضل منه عليكم ، ونعمة من لدنه { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بمن يستحق الهداية ، ممن يستحق الغواية ، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره .(1/2383)
وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)
يقول تعالى آمراً بالإصلاح بين الفئتين الباغيتين بعضهم على بعض : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } فسماهم مؤمنين مع الاقتتال ، وبهذا استدل البخاري وغيره ، على أنه لا يخرج عن الإيمان بالمعصية وإن عظمت ، لا كما يقوله الخوارج والمعتزلة ، وهكذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب يوماً ومعه على المنبر الحسن بن علي رضي الله عنهما ، فجعل ينظر إليه مرة ، وإلى الناس أُخرى ويقول : « إن ابني هذا سيد ولعل الله تعالى أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » فكان كما قال صلى الله عليه وسلم ، أصلح الله تعالى به بين أهل الشام وأهل العراق ، بعد الحروب الطويلة والواقعات المهولة ، وقوله تعالى : { فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله } أي حتى ترجع إلى أمر الله ورسوله ، وتسمع الحق وتطيعه ، كما ثبت في الصحيح : « » انصر أخاط ظالماً أو مظلوماً « قيل : يا رسول الله أنصره مظلوماً فكيف أنصره ظالماً؟ قال صلى الله عليه وسلم : » تمنعه من الظلم فذاك نصرك أياه « » .
وروى الإمام أحمد ، عن أنَس رضي الله عنه قال : « قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : لو أتيت عبد الله بن أُبي ، فانطلق إليه النبي صلى الله عليه وسلم ، وركب حماراً ، وانطلق المسلمون يمشون وهي أرض سبخة فلما انطلق النبي صلى الله عليه وسلم إليه قال : إليك عني فوالله لقد آذاني ريح حمارك ، فقال رجل من الأنصار : والله لحمار رسول الله صلى الله عليه وسلم أطيب ريحاً منك ، قال : فغضب لعبد الله رجال من قومه ، فغضب لكل واحد منهما أصحابه ، قال : فكان بينهم ضرب بالجريد والأيدي والنعال ، فبلغنا أنه أنزلت فيه : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا } » وذكر سعيد بن جبير أن الأوس والخزرج كان بينهما قتال بالسعف والنعال ، فأنزل الله تعالى هذه الآية ، فأمر بالصلح بينهما ، وقال السدي : كان رجل من الأنصار يقال له عمران ، كانت له امرأة تدعى أم زيد ، وإن المرأة أرادت أن تزور أهلها فحبسها زوجها ، وجعلها في علية له ، لا يدخل عليها أحد من أهلها ، وإن المرأة بعثت إلى أهلها فجاء قومها وأنزلوها ، لينطلقوا بها ، وإن الرجل كان قد خرج ، فاستعان أهل الرجل ، فجاء بنو عمه ليحولوا بين المرأة وبين أهلها فتدافعوا واجتلدوا بالنعال ، فنزلت فيهم هذه الآية ، فبعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصلح بينهم وفاءوا إلى أمر الله تعالى . وقوله عزَّ وجلَّ : { فَآءَتْ فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا بالعدل وأقسطوا إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } أي اعدلوا بينهما بالقسط وهو العدل { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } روى ابن أبي حاتم ، عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال :(1/2384)
« إن رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال : إن المقسطين في الدنيا على منابر من لؤلؤ بين يدي الرحمن عزّ وجلّ بما أقسطوا في الدنيا » وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « المقسطون عند الله تعالى يوم القيامة على منابر من نور على يمين العرش ، الذين يعدلون في حكمهم وأهاليهم وما ولوا » وقوله تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون إِخْوَةٌ } أي الجميع أخوة في الدين كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « المسلم أخو المسلم لا يظلمهُ ولا يسلمه » ، وفي الصحيح : « والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه » ، وفي الصحيح أيضاً : « إذا دعا المسلم لأخيه بظهر الغيب قال الملك : آمين ولك بمثله » والأحاديث في هذا كثيرة : وقوله تعالى : { فَأَصْلِحُواْ بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ } يعين الفئتين المقتتلتين { واتقوا الله } أي في جميع أموركم { لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } . وهذا تحقيق منه تعالى للرحمة لمن اتقاه .(1/2385)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسَى أَنْ يَكُونُوا خَيْرًا مِنْهُمْ وَلَا نِسَاءٌ مِنْ نِسَاءٍ عَسَى أَنْ يَكُنَّ خَيْرًا مِنْهُنَّ وَلَا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلَا تَنَابَزُوا بِالْأَلْقَابِ بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمَانِ وَمَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11)
ينهى تعالى عن السخرية بالناس وهو احتقارهم والاستهزاء بهم ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الكبير بطر الحق ، وغمط الناس » ، والمراد من ذلك احتقارهم واستصغارهم وهذا حرام ، فإنه قد يكون المحتقر أعظم قدراً عند الله تعالى وأحب إليه من الساخر منه المحتقر له ، ولهذا قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عسى أَن يَكُونُواْ خَيْراً مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَآءٌ مِّن نِّسَآءٍ عسى أَن يَكُنَّ خَيْراً مِّنْهُنَّ } فنص على نهي الرجال وعطف بنهي النساء ، وقوله تبارك وتعالى : { وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ } أي لا تلمزوا الناس ، والهمّاز واللمَّاز من الرجال مذموم ملعون كما قال تعالى : { ويْلٌ لِّكُلِّ هُمَزَةٍ لُّمَزَةٍ } [ الهمزة : 1 ] ، والهمز بالفعل واللمز بالقول ، كما قال عزَّ وجلَّ : { هَمَّازٍ مَّشَّآءٍ بِنَمِيمٍ } [ القلم : 11 ] قال ابن عباس ومجاهد : { وَلاَ تلمزوا أَنفُسَكُمْ } أي لا يطعن بعضكم على بعض ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب } أي لا تداعوا بالألقاب وهي التي يسوء الشخص سماعها ، قال الشعبي : حدثني أبو جبيرة بن الضحاك قال : فينا نزلت في بني سلمة { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب } قال : « قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، وليس فينا رجل إلا وله اسمان أو ثلاثة ، فكان إذا دعا أحداً منهم باسم من تلك الأسماء ، قالوا : يا رسول الله إنه يغضب من هذا ، فنزلت : { وَلاَ تَنَابَزُواْ بالألقاب } » ، وقوله جلّ وعلا : { بالألقاب بِئْسَ الاسم الفسوق بَعْدَ الإيمان } أي بئس الصفة والاسم الفسوق ، وهو التنابز بالألقاب كما كان أهل الجاهلية يتنازعون بعد ما دخلتم في الإسلام وعلقتموه { وَمَن لَّمْ يَتُبْ } أي من هذا { فأولئك هُمُ الظالمون } .(1/2386)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضًا أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتًا فَكَرِهْتُمُوهُ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)
يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن كثير من الظن ، وهو التهمة والتخون للأهل والناس من غير محله ، لأن بعض ذلك يكون إثماً محضاً ، قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك المؤمن إلا خيراً وأنت تجد لها في الخير محملاً ، وعن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يطوف بالكعبة ويقول : « ما أطيبك وأطيب ريحك! ما أعظمك وأعظم حرمتك! والذي نفس محمد بيده لحرمة المؤمن أعظم عند الله حرمة منك ، ماله ودمه وأن لا يظن به إلا خيراً » وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث ، ولا تجسسوا ، ولا تحسسوا ولا تنافسوا ولا تحاسدوا ولا تباغضوا ولا تدابروا ، وكونوا عباد الله إخواناً » .
وعن أنَس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تقاطعوا ولا تدابروا ولا تباغضوا ولا تحاسدوا وكونوا عباد الله إخواناً ولا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاثة أيام » وروى الطبراني ، عن حارثة بن النعمان رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » ثلاث لازمات لأمتي : الطيرة والحسد وسوء الظن « ، فقال رجل : وما يذهبهن يا رسول الله ممن هن فيه؟ قال صلى الله عليه وسلم : » إذا حسدت فاستغفر الله ، وإذا ظننت فلا تحقق ، وإذا تطيرت فامض « » وروى أبو داود ، عن زيد رضي الله عنه قال : أتى ابن مسعود رضي الله عنه برجل فقيل له : هذا فلان تقطر لحيته خمراً ، فقال عبد الله رضي الله عنه : « إنا قد نهينا عن التجسس ، ولكن إن يظهر لنا شيء نأخذ به » .
وروى الإمام أحمد ، عن أبي الهيثم عن دجين كاتب عقبة قال : « قلت لعقبة إن لنا جيراناً يشربون الخمر ، وأنا داع لهم الشرط فيأخذونهم قال : لا تفعل ، ولكن عظهم وتهددهم ، قال : ففعل فلم ينتهوا ، قال : فجاءه دجين ، فقال : إني قد نهيتهم وإني داع لهم الشرط ، فتأخذهم ، فقال له عقبة : ويحك لا تفعل ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » من ستر عورة مؤمن فكأنما استحيا موءودة من قبرها « » { وَلاَ تَجَسَّسُواْ } أي على بعضكم بعضاً ، والتجسس غالباً يطلق في الشر ومنه الجاسوس ، وأما التحسس فيكون غالباً في الخير ، كما قال عزَّ وجلَّ إخباراً عن يعقوب : { يابني اذهبوا فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ الله } [ يوسف : 87 ] . وقال الأوزاعي : التجسس البحث عن الشيء ، والتحسس الاستماع إلى حديث القوم ، أو يتسمع على أبوابهم ، والتدابر : الصرم .(1/2387)
وقوله تعالى : { وَلاَ يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضاً } فيه نهي عن الغيبة ، وقد فسّرها الشاعر كما جاء في الحديث الذي رواه أبو داود ، عن أبي هريرة ، قال : « قيل : يا رسول الله ما الغيبة؟ قال صلى الله عليه وسلم : » ذكرك أخاك بما يكره « قيل : أفرأيت إن كان في أخي ما أقول؟ قال صلى الله عليه وسلم : » إن كان فيه ما تقول فقد أغتبته ، وإن لم يكن فيه ما تقول فقد بهتّه « » وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « قلت للنبي صلى الله عليه وسلم : حسبك من صفية كذا وكذا ، تعني قصيرة ، فقال صلى الله عليه وسلم : » لقد قلت كلمة لو مزجت بماء البحر لمزجته « . قالت : وحكيت له إنساناً ، فقال صلى الله عليه وسلم : » ما أحب أني حكيت إنساناً ، وإن لي كذا وكذا « » . والغيبة محرمة بالإجماع ، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته ، كما في الجرح والتعديل والنصيحة ، « كقوله صلى الله عليه وسلم ، لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر : » ائذنوا له بئس أخو العشيرة « » ، وكقوله صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس رضي الله عنها وقد خطبها معاوية وأبو جهم : « أما معاوية فصعلوك وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه » ، وكذا ما جرى مجرى ذلك ، ثم بقيتها على التحريم الشديد ، وقد ورد فيها الزجر الأكيد ولهذا شبهها تبارك وتعالى بأكل اللحم من الإنسان الميت كما قال عزّ وجلّ : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } أي كما تكرهون هذا طبعاً فاكرهوا ذلك شرعاً ، فإن عقوبته أشد من هذا ، وهذا من التنفير عنها والتحذير منها ، وثبت في الصحاح والحسان والمساندي من غير وجه أنه صلى الله عليه وسلم قال في خطبة حجة الوداع : « إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا ، في شهركم هذا ، في بلدكم هذا » .
وروى أبو داود ، عن أبي هريرة قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل المسلم على المسلم حرام ، ماله ، وعرضه ، ودمة ، حسب امرىء من الشر أن يحقر أخاه المسلم » وعن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : « خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أسمع العواتق في بيوتها ، أو قال : في خدورها ، فقال : » يا معشر من آمن بلسانه لا تغتابوا المسلمين ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع عورة أخيه يتبع الله عورته ، ومن يتبع الله عورته يفضحه في جوف بيته « » .
طريق أُخرى : عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يا معشر من آمن بلسانه ولم يفض الإيمان إلى قلبه لا تغتابوا المسليمن ، ولا تتبعوا عوراتهم ، فإنه من يتبع عورات المسلمين يتبع الله عورته ومن يتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله »(1/2388)
، قال ، ونظر ابن عمر يوماً إلى الكعبة فقال : ما أعظمك وأعظم حرمتك ، وللمؤمن أعظم حرمة عند الله منك .
عن أنَس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما عرج بي مررت بقوم لهم أظفار من نحاس يخمشون وجوههم وصدورهم ، قلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء الذين يأكلون لحوم الناس ويقعون في أعراضهم » ، وروى ابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد الخدري قال : « قلنا : يا رسول الله حدّثنا ما رأيت ليلة أسري بك؟ قال : » ثم انطلق بي إلى خلق من خلق الله كثير ، رجال ونساء ، موكل بهم رجال يعمدون إلى عرض جنب أحدهم ، فيجذون منه الجذة مثل النعل ، ثم يضعونها في فيِّ أحدهم ، فيقال له : كل كما أكلت - وهو يجد من أكله الموت يا محمد لو يجد الموت وهو يكره عليه - فقلت : يا جبريل من هؤلاء؟ قال : هؤلاء الهمازون واللمازون أصحاب النميمة ، فيقال : { أَيُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَن يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ } وهو يكره على أكل لحمه « .
وروى الحافظ البيهقي ، » عن عبيد مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن امرأتين صامتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن رجلاً أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله! إن هاهنا امرأتين صامتا ، وإنهما كادتا تموتان من العطش . أراه قال بالهاجرة ، فأعرض عنه أو سكت عنه ، فقال : يا نبي الله إنهما والله قد ماتتا ، أو كادتا تموتان ، فقال : « ادعمها » فجاءتا ، قال : فجيء بقدح أو عس ، فقال لإحداهما : « قيئي » ، فقاءت من قيح ودم وصديد ، حتى قاءت نصف القدح ، ثم قال للأُخْرى : « قيئي » ، فقاءت قيحاً ودماً وصديداً ولحماً ودماً عبيطاً وغيره ، حتى ملأت القدح ، ثم قال : « إن هاتين صامتا عما أحل الله تعالى لهما ، وأفطرتا على ما حرم الله عليهما ، جلست إحداهما إلى الأُخرى فجعلتا تأكلان لحوم الناس » وروى الحافظ أبو يعلى ، عن ابن عمر « أن ماعزاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني قد زنيت ، فأعرض عنه ، حتى قالها أربعاً ، فلما كان في الخامسة قال : » زنيت «؟ قال : نعم ، قال : » وتدري ما الزنا «؟ قال : نعم ، أتيت منها حراماً ما يأتي الرجل من امرأته حلالاً ، قال : » ما تريد إلى هذا القول «؟ قال : أُريد أن تطهّرني ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أدخلت ذلك من في ذلك منها ، كما يغيب الميل في المكحلة والرشا في البئر «؟ قال : نعم يا رسول الله ، قال : فأمر برجمه فرجم ، فسمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلين يقول أحدهما لصاحبه : ألم تر إلى هذا الذي ستر الله عليه ، فلم تدعه نفسه حتى رجم رجْم الكلب؟ ثم سار النبي صلى الله عليه وسلم حتى مرَّ بجيفة حمار ، فقال : » أين فلان وفلان؟ إنزلا ، فكلا من جيفة هذا الحمار « ، قال : غفر الله لك يا رسول الله ، وهل يؤكل هذا؟ قال صلى الله عليه وسلم : » فما نلتما من أخيكما آنفاً أشد أكلاً منه ، والذي نفسي بيده إنه الآن لفي أنهار الجنة ينغمس فيها « .(1/2389)
وروى الإمام أحمد ، عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال : « كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم فارتفعت ريح جيفة منتنة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أتدرون ما هذه الريح؟ هذه ريح الذي يغتابون الناس؟ « » وقوله عزّ وجلّ : { واتقوا الله } أي فيما أمركم به ونهاكم عنه فراقبوه في ذلك واخشوا منه ، { إِنَّ الله تَوَّابٌ رَّحِيمٌ } أي تواب على من تاب إليه { رَّحِيمٌ } لمن رجع إليه واعتمد عليه ، قال الجمهور من العلماء : طريق المغتاب للناس في توبته أن يقلع عن ذلك ، ويعزم على أن لا يعود ، وهل يشترط الندم على ما فات؟ فيه نزاع ، وأن يتحلل من الذي اغتابه ، وقال آخرون : لا يشترط أن يحلله ، فإنه إذا أعلمه بذلك ربما تأذى أشد مما إذا لم يعلم بما كان منه ، فطريقه إذاً إن يثني عليه بما فيه في المجالس التي كان يذمه فيها ، وأن يرد عنه الغيبة بحسبه وطاقته ، لتكون تلك بتلك؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من حمى مؤمناً من منافق يغتابه بعث الله تعالى إليه ملكاً يحمي لحمه يوم القيامة من نار جهنم ، ومن رمى مؤمناً بشيء يريد سبه حبسه الله تعالى على جسر جهنم حتى يخرج مما قال » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من امرىء يخذل امرءاً مسلماً في موضع تنتهك فيه حرمته وينتقص فيه من عرضه ، إلا خذله الله تعالى في مواطن يحب فيها نصرته ، وما من امرىء ينصر امرأ مسلماً في موضع ينتقص فيه من عرضه وينتهك فيه من حرمته إلا نصره الله عزّ وجلّ في مواطن يحب فيها نصرته » .(1/2390)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)
يقول تعالى مخبراً للناس أنه خلقهم من نفس واحدة ، وجعل منها زوجها وهما ( آدم ) و ( حواء ) وجعلهم شعوباً وهي أعم من القبائل ، وبعدها مراتب أُخر ، كالفصائل والعشائر والأفخاذ وغير ذلك ، فجميع الناس في الشرف بالنسبة الطينية ، إلى آدم وحواء عليهما السلام سواء ، وإنما يتفاضلون بالأمور الدينية ، وهي طاعة الله تعالى ومتابعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال تعالى بعد النهي عن الغيبة ، واحتقار بعض الناس بعضاً ، منبهاً على تساويهم في البشرية : { ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا } أي ليحصل التعارف بينهم كل يرجع إلى قبيلته . وقال مجاهد : { لتعارفوا } كما يقال فلان ابن فلان من قبيلة كذا وكذا ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تعلموا من أنسابكم ما تصلون به أرحامكم ، فإن صلة الرحم محبة في الأهل مثراة في المال منسأة في الأثر » وقوله تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } ، أي إنما تتفاضلون عند الله تعالى بالتقوى لا بالأحساب .
وقد وردت الأحاديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فروى البخاري عن أبي هريرة قال : « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أكرم؟ قال : » أكرمهم عند الله أتقاهم « ، قالوا : ليس على هذا نسألك ، قال : فأكرم الناس يوسف نبي الله ، ابن نبي الله ، ابن نبي الله ابن خليل الله ، قالوا : وليس هذا نسألك ، قال : » فعن معادن العرب تسألوني «؟ قالوا : نعم ، قال : » فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا « » . حديث آخر : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » حديث آخر : وروى الإمام أحمد ، عن أبي ذر رضي الله عنه قال : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال له : « انظر فإنك لست بخير من أحمر ولا أسود إلا أن تفضله بتقوى الله » حديث آخر : وعن حبيب بن خراش العصري أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « المسلمون أخوة لا فضل لأحد على أحد إلا بالتقوى » حديث آخر : وعن حذيفة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كلكم بنو آدم وآدم خلق من تراب ولينتهين قوم يفخرون بآبائهم أو ليكونن أهون على الله تعالى من الجعلان » حديث آخر : قال ابن أبي حاتم ، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : « طاف رسول الله صلىلله عليه وسلم يوم فتح مكة على ناقته القصواء يستلم الأركان بمحجن في يده ، فما وجد لها مناخاً في المسجد حتى نزل صلى الله عليه وسلم على أيدي الرجال ، فخرج بها إلى بطن المسيل فأنيخت ، ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبهم على راحلته فحمد الله تعالى وأثنى عليه بما هو له أهل ، ثم قال : » يا أيها الناس إن الله تعالى قد أذهب عنكم عيبة الجاهلية وتعظمها بآبائها ، فالناس رجلان : رجل بر تقي كريم على الله تعالى ، ورجل فاجر شقي هيّنٌ على الله تعالى ، إن الله عزّ وجلّ يقول : { ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَآئِلَ لتعارفوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ } « . ثم قال : صلى الله عليه وسلم : » أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم « »(1/2391)
وقوله تعالى : { إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ } أي عليم بكم خبير بأموركم ، فيهدي من يشاء ويضل من يشاء ، ويرحم من يشاء ويعذب من يشاء ، وهو الحكيم العليم الخبير .(1/2392)
قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَتُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لَا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلَامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَدَاكُمْ لِلْإِيمَانِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (18)
يقول تعالى منكراً على الأعراب ، الذين ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ، ولم يتمكن الإيمان في قلوبهم بعد : { قَالَتِ الأعراب آمَنَّا قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ } ، وقد استفيد أن الإيمان أخص من الإسلام ، ويدل عليه حديث جبريل عليه الصلاة والسلام حين سأل عن الإسلام ، ثم عن الإيمان ، ثم عن الإحسان ، فترقى من الأعم ، إلى الأخص ، روى الإمام أحمد ، عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه قال : « أعطى رسول الله صلى الله عليه سلم رجالاً ولم يعط رجلاً منهم شيئاً ، فقال سعد رضي الله عنه : يا رسول الله أعطيت فلاناً وفلاناً ولم تعط فلاناً شيئاً وهو مؤمن ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » أو مسلم؟ « حتى أعادها سعد رضي الله عنه ثلاثاً والنبي يقول : » أو مسلم؟ « ، ثم قال النبي صلىلله عليه وسلم : » إني لأعطي رجالاً وأدع من هو أحبُّ إليَّ منهم ، فلم أعطه شيئاً مخافة أن يكبوا في النار على وجوههم « ، فقد فرّق النبي صلى الله عليه وسلم بين المؤمن والمسلم ، فدل على الإيمان أخص من الإسلام ، ودل على أن ذلك الرجل كان مسلماً ليس منافقاً ، لأنه تركه من العطاء ، ووكله إلى ما هو في الإسلام ، فهؤلاء الأعراب المذكورون في هذه الآية ليسوا بمنافقين ، وإنما هم مسلمون لم يستحكم الإيمان في قلوبهم ، فادعوا لأنفسهم مقاماً أعلى مما وصلوا إليه ، فأدبوا في ذلك ، وإنما قلنا هذا لأن البخاري رحمه الله ذهب إلى أن هؤلاء كانوا منافقين يظهرون الإيمان وليسوا كذلك ، وقد روي عن سعيد بن جبير ومجاهد { ولكن قولوا أَسْلَمْنَا } : أي استسلمنا خوف القتل والسبي ، قال مجاهد : نزلت في بني إسد بن خزيمة ، وقال قتادة : نزل في قوم امتنوا بإيمانهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والصحيح الأول أنهم قومم ادعوا لأنفسهم مقام الإيمان ولم يحصل لهم بعد فأدبوا وأعلموا أن ذلك لم يصلوا إليه بعد ، ولو كانوا منافقين لعنفوا وفضحوا ، وإنما قيل لهؤلاء تأديباً : { قُل لَّمْ تُؤْمِنُواْ ولكن قولوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الإيمان فِي قُلُوبِكُمْ } أي لم تصلوا إلى حقيقة الإيمان بعد ، ثم قال تعالى : { وَإِن تُطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ لاَ يَلِتْكُمْ مِّنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئاً } أي لا ينقصكم من أجوركم شيئاً كقوله عزّ وجلّ : { وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الطور : 21 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي لمن تاب إليه وأناب .
وقوله تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون } أي إنما المؤمنون الكمَّل { الذين آمَنُواْ بالله وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُواْ } أي لم يشكوا و لا تزلزلوا ، بل ثبتوا على حال واحدة ، وهي التصديق المحض ، { وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله } أي وبذلوا مهجهم ونفائص أموالهم في طاعة الله ورضوانه ، { أولئك هُمُ الصادقون } أي في قولهم إذا قالوا إنهم مؤمنون ، لا كبعض الأعراب الذين ليس لهم من الإيمان إلا الكلمة الظاهرة ، وقوله سبحانه وتعالى : { قُلْ أَتُعَلِّمُونَ الله بِدِينِكُمْ } أي أتخبرونه بما في ضمائركم؟ { والله يَعْلَمُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } أي لا يخفى عليه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، { والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، ثم قال تعالى : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } يعني الأعراب الذين يمنُّون بإسلامهم ومتابعتهم على الرسل صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى رداً عليهم : { قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ } فإن نفع ذلك إنما يعود عليكم ولله المنة عليكم فيه ، { بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي في دعواكم ذلك ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم للأنصار يوم حنين :(1/2393)
« يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضُلاّلاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وكنتم عالة فأغناكم الله بي؟ » كلما قال شيئاً قالوا : الله ورسوله أمنّ . وروى الحافظ البزار ، عن ابن إبي عباس رضي الله عنهما قال : « جاءت بنو أسد إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله أسلمنا ، وقاتلتك العرب ولم نقاتلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن فقههم قليل ، وإن الشيطان ينطلق على ألسنتهم « » ، ونزلت هذه الآية : { يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُواْ قُل لاَّ تَمُنُّواْ عَلَيَّ إِسْلاَمَكُمْ بَلِ الله يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلإِيمَانِ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } ، ثم كرر الإخبار بعلمه بجميع الكائنات ، وبصره بأعمال المخلوقات فقال : { إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض والله بَصِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } .(1/2394)
ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ (2) أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ (4) بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5)
{ ق } حرف من حروف الهجاء المذكورة في أوائل السور ، كقوله تعالى : { ص } و { ن } و { الم } ونحو ذلك قاله مجاهد وغيره ، وقد أسلفنا الكلام عليها في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ، وقوله تعالى : { والقرآن المجيد } ، أي الكريم العظيم الذي { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] ، واختلفوا في جواب القسم ما هو؟ فحكى ابن جرير عن بعض النحاة أنه قوله تعالى : { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } وفي هذا نظر ، بل الجواب هو مضمون الكلام بعد القسم وهو إثبات النبوة وإثبات المعاد وتقريره وتحقيقه ، وإن لم يكن القسم يتلقى لفظاً ، وهذا كثير في أقسام القرآن كما تقدم في قوله : { ص والقرآن ذِي الذكر * بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي عِزَّةٍ وَشِقَاقٍ } [ ص : 1-2 ] ، وهكذا قال هاهنا { ق والقرآن المجيد * بَلْ عجبوا أَن جَآءَهُمْ مُّنذِرٌ مِّنْهُمْ فَقَالَ الكافرون هذا شَيْءٌ عَجِيبٌ } أي تعجبوا من إرسال رسول إليهم من البشر ، كقوله جلّ جلاله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس } [ يونس : 2 ] أي وليس هذا بعجيب ، فإن الله يصطفي من الملائكة رسلاً ومن الناس ، ثم قال عزّ وجلّ مخبراً عنهم في تعجبهم أيضاً من المعاد واستبعادهم لوقوعه { أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } أي يقولون أئذا متنا وبلينا وتقطعت الأوصال منا وصرنا تراباً ، كيف يمكن الرجوع بعد ذلك إلى هذه البنية والتركيب؟ { ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ } أي بعيد الوقوع ، والمعنى أنهم يعتقدون استحالته وعدم إمكانه ، قال الله تعالى راداً عليهم { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ } أم ما تأكل من أجسادهم في البلى ، نعلم ذلك لا يخفى علينا أين تفرقت الأبدان ، وأين ذهبت وإلى أين صارت { وَعِندَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ } أي حافظ لذلك ، فالعلم شامل والكتاب أيضاً فيه كل الأشياء مضبوطة ، قال ابن عباس { قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنقُصُ الأرض مِنْهُمْ } أي ما تأكل من لحومهم وأبشارهم ، وعظامهم وأشعارهم؛ ثم بين تبارك وتعالى سبب كفرهم وعنادهم واستبعادهم ما ليس ببعيد ، فقال : { بَلْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَهُمْ في أَمْرٍ مَّرِيجٍ } أي وهذا حال كل من خرج عن الحق مهما قال بعد ذلك فهو باطل ، و « المريج » المختلف المضطرب المنكر ، كقوله تعالى : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ * يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [ الذاريات : 8-9 ] .(1/2395)
أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ (6) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ (9) وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ (11)
يقول تعالى منبهاً للعباد على قدرته العظيمة ، التي أظهر بها ما هو أعظم مما تعجبوا مستبعدين لوقوعه { أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا } ؟ أي بالمصابيح ، { وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } قال مجاهد : يعني من شقوق ، وقال غيره : فتوق ، وقال غيره : صدوع ، والمعنى متقارب ، كقوله تبارك وتعالى : { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ فارجع البصر هَلْ ترى مِن فُطُورٍ } [ الملك : 3 ] . وقوله تبارك وتعالى : { والأرض مَدَدْنَاهَا } أي وسعناها وفرشناها { وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ } وهي الجابل لئلا تميد بأهلها وتضطرب ، فإنها مقرة على تيار الماء المحيط بها من جميع جوانبها ، { وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي من جميع الزروع والثمار والنبات والأنواع ، { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الذاريات : 49 ] وقوله { بَهِيجٍ } أي حسن المنظر ، { تَبْصِرَةً وذكرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُّنِيبٍ } أي مشاهدة خلق السماوات والأرض وما جعل الله فيهما من الآيات العظيمة { تَبْصِرَةً } ودلالة وذكرى لكل { عَبْدٍ مُّنِيبٍ } أي خاضع خائف وجل ، رجَّاع إلى الله عزَّ وجلَّ ، وقوله تعالى : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً } أي نافعاً { فَأَنبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ } أي حدائق من بساتين ونحوها { وَحَبَّ الحصيد } وهو الزرع الذي يراد لحبه وادخاره . { والنخل بَاسِقَاتٍ } أي طوالاً شاهقات ، قال ابن باس ومجاهد وعكرمة : الباسقات الطوال ، { لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيدٌ } أي منضود ، { رِّزْقاً لِّلْعِبَادِ } أي للخلق ، { وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } وهي الأرض التي كانت هامدة ، فلما نزل عليها الماء اهتزت وربت وأنبتت من كل زوج بهيج ، من أزاهير وغاير ذلك مما يحار الطرف في حسنها ، وذلك بعدما كانت لا نباتع بها فأصبحت تهتز خضراء ، فهذا مثال للبعث بعد الموت والهلاك ، كذلك يحيي الله الموتى ، وهذا المشاهد من عظيم قدرته بالحس ، أعظم مما أنكره الجاحدون للبعث ، كقوله عزّ وجل : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 57 ] ، وقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف : 33 ] وقال سبحانه وتعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الأرض خَاشِعَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ فصلت : 39 ] .(1/2396)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ (12) وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ (13) وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14) أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15)
يقول تعالى متهدداً لكفار قريش ، بما أحله بأشباههم ونظرائهم من المكذبين قبلهم من النقمات والعذاب الأليم كقوم نوح ، وما عذبهم الله تعالى به من الغرق العام لجميع أهل الأرض ، { وَأَصْحَابُ الرس } وقد تقدمت قصتهم في سورة الفرقان ، { وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ } وهم أمته الذين بعث إليهم من أهل سدوم ، وكيف خسف الله تعالى بهم الأرض ، وأحال أرضهم بحيرة منتنة خبيثة ، بكفرهم وطغيانهم ومخالفتهم الحق { وَأَصْحَابُ الأيكة } وهم قوم شعيب عليه الصلاة والسلام { وَقَوْمُ تُّبَّعٍ } وهو اليماني ، وقد ذكرنا من شأنه في سورة الدخان ، { كُلٌّ كَذَّبَ الرسل } أي كل من هذه الأمم وهؤلاء القرون كذب رسولهم ، ومن كذب رسولاً فإنما كذب جميع الرسل كقوله جلّ وعلا : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين } [ الشعراء : 105 ] ، { فَحَقَّ وَعِيدِ } أي فحق عليهم ما أوعدهم الله تعالى على التكذيب من العذاب والنكال ، فليحذر المخاطبون أن يصيبهم ما أصابهم ، فإنهم قد كذبوا رسولهم كما كذب أولئك ، وقوله تعالى : { أَفَعَيِينَا بالخلق الأول } أي أفأعجزنا ابتداء الخلق حتى هم في شك من الإعادة؟ { بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِّنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ } ، والمعنى أن ابتداء الخلق لم يعجزنا ، والإعادة أسهل منه كما قال عزّ وجل : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] ، وقال : { قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 79 ] ، وقد تقدم في الصحيح : « يقول الله تعالى يؤذيني ابن آدم قول لن يعيدني كما بدأني وليس أول الخلق بأهون عليَّ من إعادته » .(1/2397)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ (17) مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18) وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)
يخبر تعالى عن قدرته على الإنسان بأن علمه محيط بجميع أموره ، حتى إنه تعالى يعلم ما توسوس به نفسه من الخير والشر ، وقد ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله تعالى تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل » وقوله عزّ وجلّ : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } يعني ملائكته تعالى أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه ، ومن تأوله على العلم فإنما فر لئلا يلزم حلول أو اتحاد ، وهما منفيان بالإجماع تعالى الله وتقدس ، ولكن اللفظ لا يقتضيه فإنه لم يقل : وأنا أقرب إليه من حبل الوريد ، وإنما قال : { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الوريد } كما قال في المحتضر { وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنكُمْ ولكن لاَّ تُبْصِرُونَ } [ الواقعة : 85 ] يعني ملائكته ، فالملائكة أقرب إلى الإنسان من حبل وريده إليه ، بإقدار الله جلا وعلا لهم على ذلك ، فللملك لمَّة من الإنسان كما أن للشيطان لمة ، ولهذا قال تعالى هاهنا { إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان } يعني الملكين اللذين يكتبان عمل الإنسان { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ } اي مترصد ، { مَّا يَلْفِظُ } أي ابن آدم { مِن قَوْلٍ } أي ما يتكلم بكلمة { إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } أي إلاّ ولها من يرقبها ، معد لذلك يكتبها ، لا يترك كلمة ولا حركة ، كما قال تعالى : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [ الإنفطار : 10-12 ] وقد اختلف العلماء هل يكتب الملك كل شيء من الكلام ، أو إنما يكتب ما فيه ثواب وعقاب على قولين : وظاهر الآية الأول لعموم قوله تبارك وتعالى : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } . وقد روى الإمام أحمد ، عن بلال بن الحارث المزني رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الرجل ليتكلم بالكلمة من رضوان الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله عزَّ وجلَّ له بها رضوانه إلى يوم يلقاه ، وإن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله تعالى ما يظن أن تبلغ ما بلغت يكتب الله تعالى عليه بها سخطه إلى يوم يلقاه » فكان علقمة يقول : كم من كلام قد منعنيه حديث بلال بن الحارث ، وقال الأحنف بن قيس : صاحب اليمني يكتب الخير وهو أمين على صاحب الشمال ، فإن أصاب العبد خطيئة قال له : أمسك ، فإن استغفر الله تعالى نهاه أن يكتبها وإن أبى كتبها ، وقال الحسن البصري ، وتلا هذه الآية { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ } : يا ابن آدم بسطت لك صحيفة ، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك ، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن يسارك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا مت طويت صحيفتك وجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة ، فعند ذلك يقال لك :(1/2398)
{ اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً } [ الإسراء : 14 ] ثم يقول : « عَدَل والله فيك من جعلك حسيب نفسك » .
وقال ابن عباس { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } قال : يكتب كل ما تكلم به من خير أو شر ، حتى أنه ليكتب قوله : أكلت ، شربت ، ذهبت ، جئت ، رأيت؟ حتى إذا كان يوم الخميس عرض قوله وعمله ، فأقَّر منه ما كان فيه من خير أو شر وألقي سائره ، وذلك قوله تعالى : { يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } [ الرعد : 39 ] وذكر عن الإمام أحمد أنه كان يئن في مرضه ، فبلغه عن طاووس أنه قال : يكتب الملك كل شيء حتى الأنين ، فلم يئن أحمد حتى مات رحمه الله ، وقوله تبارك وتعالى : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } يقول عزَّ وجلَّ : وجاءت أيها الإنسان سكرة الموت بالحق أي كشفت لك عن اليقين الذي كنت تمتري فيه { ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } أي هذا هو الذي كنت تفر منه قد جاءك ، فلا محيد ولا مناص ولا فكاك ولا خلاص . والصحيح أن المخاطب بذلك الإنسان من حيث هو ، وقيل : الكافر ، وقيل غير ذلك ، روي أه لما أن ثقل أبو بكر رضي الله عنه جاءت عائشة رضي الله عنها فتمثلت بهذا البيت :
لعمرك ما يغني الثراء عن الفتى ... إذا حشرجت يوماً وضاق بها الصدر
فكشف عن وجهه وقال رضي الله عنه : ليس كذلك ، ولكن قولي : { وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } وقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه لما تغشاه الموت جعل يمسح العرق عن وجهه ويقول : « سبحان الله إن للموت لسكرات » وفي قوله : { ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ } قولان :
( أحدهما ) : أن ( ما ) هاهنا موصولة أي الذي كنت منه تحيد بمعنى تبتعد وتفر ، وقد حلَّ بك ونزل بساحتك .
( والقول الثاني ) : أن ( ما ) نافية بمعنى : ذلك ما كنت تقدر على الفراق منه ولا الحيد عنه .
وقوله تبارك وتعالى : { وَنُفِخَ فِي الصور ذَلِكَ يَوْمُ الوعيد } قد تقدم الكلام على حديث النفخ في الصور وذلك يوم القيامة ، وفي الحديث ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحَنَى جبهته وانتظر أن يؤذن له « . قالوا : يا رسول الله كيف نقول؟ قال صلى الله عليه وسلم : » قولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل « ، فقال القوم : حسبنا الله ونعم الوكيل » { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } أي ملك يسوقه إلى المحشر ، وملك يشهد عليه بأعماله ، هذا هو الظاهر من الآية الكريمة وهو اختيار ابن جرير ، لما روي عن يحيى بن رافع قال : سمعت عثمان بن عفان رضي الله عنه يخطب فقرأ هذه الآية { وَجَآءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّعَهَا سَآئِقٌ وَشَهِيدٌ } فقال : سائق يسوقها إلى الله تعالى ، وشاهد يشهد عليها بما عملت ، وكذا قال مجاهد وقتادة ، وقال أبو هريرة : السائق الملك ، والشهيد العمل ، وكذا قال الضحّاك والسدي ، وقال ابن عباس : السائق من الملائكة ، والشهيد الإنسان نفسه يشهد على نفسه .(1/2399)
وبه قال الضحاك أيضاً . وقوله تعالى : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } قيل : إن المراد بذلك الكافر . وقيل : إن المراد بذلك كل أحد من بر وفاجر ، لأن الآخرة بالنسبة إلى الدنيا كاليقظة ، والدنيا كالمنام ، وهذا اختيار ابن جرير ، والظاهر من السياق أن الخطاب مع الإنسان من حيث هو ، والمراد بقوله تعالى : { لَّقَدْ كُنتَ فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا } يعني من هذا اليوم ، { فَكَشَفْنَا عَنكَ غِطَآءَكَ فَبَصَرُكَ اليوم حَدِيدٌ } أي قوي ، لأن كل أحد يوم القيامة يكون مستبصراً ، حتى الكفار في الدنيا يكونون يوم القيامة على الاستقامة ، لكن لا ينفعهم ذلك ، قال الله تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ مريم : 38 ] ، وقال عزّ وجلّ : { وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة : 12 ] .(1/2400)
وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ (26) قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (27) قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (29)
يقول تعالى مخبراً عن الملك الموكل بعمل آدم ، أنه يشهد عليه يوم القيامة بما فعل ويقول : { هذا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ } أي معتد محضر بلا زيادة ولا نقصان ، وقال مجاهد : هذا كلام الملك السائق يقول : هذا ابن آدم الذي وكلتني به قد أحضرته ، وقد اختار ابن جرير أنه يعم السائق والشهيد ، وله اتجاه وقوة ، فعند ذلك يحكم الله تعالى في الخليقة بالعدل فيقول : { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } ، وقد اختلف النحاة في قوله : { أَلْقِيَا } فقال بعضهم : هي لغة لبعض العرب يخاطبون المفرد بالتثنية ، والظاهر أنها مخاطبة مع السائق والشيهد ، فالسائق أحضره إلى عرصة الحساب ، فلما أدى الشهيد عليه ، أمرهما الله تعالى بإلقائه في نار جهنم وبئس المصير { أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ } أي كثير الكفر والتكذيب بالحق { عَنِيدٍ } معاند للحق معارض له بالباطل مع علمه بذلك ، { مَّنَّاعٍ } أي لا يؤدي ما عليه من الحقوق ، لا بر ولا صلة ولا صدقة ، { لِّلْخَيْرِ } أي فيما ينفقه ويصرفه ، يتجاوز فيه الحد . وقال قتادة : معتد في منطقة وسيره وأمره ، { مُعْتَدٍ } أي شاك في أمره ، مريب لمّن نظر في أمره ، { مُّرِيبٍ } أي شاك في أمره ، مريب لمن نظر في أمره ، { الذي جَعَلَ مَعَ الله إلها آخَرَ } أي أشرك الله فعبد معه غيره ، { فَأَلْقِيَاهُ فِي العذاب الشديد } ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يخرج عنق من النار يتكلم يقول : وكلت اليوم بثلاثة : بكل جبار عنيد ، ومن جعل مع الله إلهاً آخر ، ومن قتل نفساً بغير نفس ، فتنطوي عليهم فتقذفهم في غمرات جهنم » { قَالَ قرِينُهُ } قال ابن عباس ومجاهد : هو الشيطان الذي وكل به ، { رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ } أي يقول عن الإنسان الذي قد وافى القيامة كافراً يتبرأ منه شيطانه فيقول { رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ } أي أضللته ، { ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } أي بل كان هو في نفسه ضالاً ، معانداً للحق ، كما أخبر سبحانه في قوله : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي } [ إبراهيم : 22 ] الآية . وقوله تبارك وتعالى : { قَالَ لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } يقول الرب عزّ وجلّ للإنسي وقرينه من الجن ، وذلك أنهما يختصمان بين يدي الحق تعالى ، فيقول الإنسي : يا رب هذا أضلني عن الذكر بعد إذ جاءني ، ويقول الشيطان : { رَبَّنَا مَآ أَطْغَيْتُهُ ولكن كَانَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ } أي عن منهج الحق ، فيقول الرب عزّ وجلّ لهما { لاَ تَخْتَصِمُواْ لَدَيَّ } أي عندي ، { وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بالوعيد } أي قد أعذرت إليكم على ألسنة الرسل ، وأنزلت الكتب وقامت عليكم الحجج والبراهين ، { مَا يُبَدَّلُ القول لَدَيَّ } قال مجاهد : يعني قد قضيت ما أنا قاض ، { وَمَآ أَنَاْ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أي لست أعذب أحداً بذنب أحد ، ولكن لا أعذب أحداً إلاّ بذنبه ، بعد قيام الحجة عليه .(1/2401)
يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30) وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ (35)
يخبر تعالى أنه يقول لجهنم يوم القيامة هل امتلأت؟ وهي تقول : هل من مزيد؟ أي هل بقي شيء تزيدوني؟ هذا هو الظاهر من سياق الآية ، وعليه تدل الأحاديث ، روى البخاري عند تفسير هذه الآية ، عن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يلقى في النار وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع قدمه فيها فتقول : قط قط » . وروى الإمام أحمد . عن أنس رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تزال جهنم يلقى فيها وتقول هل من مزيد؟ حتى يضع رب العزة قدمه فيها فينزوي بعضها إلى بعض وتقول قط قط وعزتك وكرمك ، ولا يزال في الجنة فضل حتى ينشىء الله لها خلقاً آخر فيسكنهم الله تعالى في فضول الجنة » ( حديث آخر ) : وروى البخاري ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تحاجت الجنة والنار ، فقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين؛ وقالت الجنة : مالي لا يدخلني إلاّ ضعفاء الناس وسقطهم؟ قال الله عزَّ وجلَّ ، للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار : إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ، ولكل واحدة منكما ملؤها . فأما النار فلا تمتلىء حتى يضع رجله فيها فتقول : قط قط فهنالك تمتلىء وينزوي بعضها إلى بعض ، ولا يظلم الله عزَّ وجلَّ من خلقه أحداً ، وأما الجنة فإن الله عزَّ وجلَّ ينشىء لها خلقاً آخر » ( حديث خر ) : روى مسلم في « صحيحه » ، عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « احتجت الجنة والنار فقالت النار : فيّ الجبارون والمتكبرون ، وقالت الجنة : فيّ ضعفاء الناس ومساكينهم ، فقضى بينهما؛ فقال للجنة : إنما أنت رحمتي أرحم بك من أشاء من عبادي ، وقال للنار ، إنما أنت عذابي أعذب بك من أشاء من عبادي ولكل واحدة منكما ملؤها » وعن عكرمة { وَتَقُولُ هَلْ مِن مَّزِيدٍ } : وهل فيَّ مدخل واحد؟ قد امتلأت . وقال مجاهد : لا يزال يقذف فيها حتى تقول قد امتلأت ، فتقول : هل فيّ مزيد؟ وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم نحو هذا ، فعند هؤلاء أن قوله تعالى : { هَلِ امتلأت } إنما هو بعد ما يضع عليها قدمه فتنزوي وتقول حينئذٍ : هل بقي فيَّ مزيد يسع شيئاً؟ قال العوفي عن ابن عباس : وذلك حين لا يبقى فيها موضع يسع إبرة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَأُزْلِفَتِ الجنة لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ } قال قتادة والسدي : { وَأُزْلِفَتِ } أدنيت وقربت من المتقين ، { غَيْرَ بَعِيدٍ } وذلك يوم القيامة وليس ببعيد لأنه واقع لا محالة وكل ما هو آت قريب ، { هذا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ } أي رجاع تائب مقلع ، { حَفِيظٍ } أي يحفظ العهد فلا ينقضه ولا ينكثه ، وقال عبيد بن عمير : الأواب الحفيظ الذي لا يجلس مجلساً فيقوم حتى يستغفر الله عزَّ وجلَّ ، { مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب } أي من خاف الله في سره حيث لا يراه أحد إلاّ الله عزَّ وجلَّ كقوله صلى الله عليه وسلم :(1/2402)
« ورجل ذكر الله تعالى خالياً ففاضت عيناه » { وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } أي ولقي الله عزَّ وجلَّ ، يوم القيامة بقلب منيب سليم إليه خاضع لديه { ادخلوها } أي الجنة { بِسَلاَمٍ } قال قتادة : سَلِموا من عذاب الله عزّ وجلّ وسلّم عليهم ملائكة الله ، وقوله سبحانه وتعالى : { ذَلِكَ يَوْمُ الخلود } أي يخلدون في الجنة فلا يموتون أبداً ولا يظعنون أبداً ولا يبغون عنها حولاً ، وقوله جلت عظمته : { لَهُم مَّا يَشَآءُونَ فِيهَا } أي مهما اختاروا وجدوا من أي أصناف الملاذ طلبوا أحضر لهم ، عن كثير بن مرة قال : « من المزيد أن تمر السحابة بأهل الجنة فتقول : ماذا تريدون فأمطره لكم؟ فلا يدعون بشيء إلاّ أمطرتهم » . وفي الحديث عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : « إنك لتشتهي الطير في الجنة فيخر بين يديك مشوياً » وروى الإمام أحمد ، عن أبي سعدي الخدري رضي الله عنه قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا اشتهى المؤمن الولد في الجنة كان حمله ووضعه وسنه في ساعة واحدة » وقوله تعالى : { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } كقوله عزّ وجلّ : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى } [ يونس : 26 ] ، وقد تقدم في « صحيح مسلم » عن صهيب بن سنان الرومي أنها النظر إلى وجه الله الكريم ، وقد روى البزار ، عن أنس بن مالك في قوله عزّ وجلّ { وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ } قال : « يظهر لهم الرب عزّ وجلّ في كل جمعة » . وروى الإمام أحمد ، عن أبي سعيد رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الرجل في الجنة ليتكىء في الجنة سبعين سنة قبل أن يتحوّل ، ثم تأتيه امرأة تضرب على منكبيه فينظر وجهه في خدها أصفى من المرآة ، وإن أدنى لؤلؤة عليها تضيء ما بين المشرق والمغرب فتسلم عليه فيرد السلام ، فيسألها : من أنت؟ فتقول : أنا من المزيد ، وإنه ليكون عليها سبعون حلة أدناها مثل النعمان من طوبى ، فينفذها بصره حتى يرى مخ ساقها من وراء ذلك ، وإن عليها من التيجان ، إنَّ أدنى لؤلؤة منها لتضيء ما بين المشرق والمغرب » .(1/2403)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37) وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ (40)
يقول تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ } قبل هؤلاء المكذبين { مِّن قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُم بَطْشاً } أي كانوا أكثر منهم وأشد قوة . ولهذا قال تعالى : { فَنَقَّبُواْ فِي البلاد هَلْ مِن مَّحِيصٍ } . قال مجاهد : { فَنَقَّبُواْ فِي البلاد } ضربوا في الأرض . وقال قتادة فساروا في البلاد أي ساروا فيها يبتغون الأرزاق والمتاجر والمكاسب . ويقال لمن طوف في البلاد ، نقب ليها ، وقوله تعالى : { هَلْ مِن مَّحِيصٍ } أي هل من مفر لهم من قضاء الله وقدره؟ وهل نفعهم ما جمعوه لما كذبوا الرسل؟ فأنتم أيضاً لا مفر لكم ولا محيد ، وقوله عزّ وجلّ : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لذكرى } أي لعبرة { لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ } أي لب يعي به ، وقال مجاهد : عقل ، { أَوْ أَلْقَى السمع وَهُوَ شَهِيدٌ } أي استمع الكلام فوعاه ، وتعقله بعقله وتفهمه بلبه ، وقال الضحّاك : العرب تقول : ألقى فلان سمعه إذا استمع بأذنيه وهو شاهد بقلب غير غائب ، وقوله سبحانه وتعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } فيه تقرير للمعاد ، لأن من قدر على السماوات والأرض ولم يعي يخلقهن ، قادر على أن يحيي الموتى بطريق الأولى والأحرى . وقال قتادة : قالت اليهود - عليهم لعائن الله - خلق الله السماوات والأرض في ستة أيام ثم استراح في اليوم السابع وهو يوم السبت ، وهم يسمونه يوم الراحة فأنزل الله تعالى تكذيبهم فيما قالوه وتأولوه : { وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ } أي من إعياء ولا تعب ولا نصب ، كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف : 33 ] وكما قال عزَّ وجلَّ : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 57 ] وقال تعالى : { أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا } [ النازعات : 27 ] .
وقوله عزّ وجل : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ } يعني المكذبين اصبر عليهم واهجرهم هجراً جميلاً { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب } ، وكانت الصلاة المفروضة قبل الإسراء ثنتان قبل طلوع الشمس في وقت الفجر ، وقبل الغروب في وقت العصر ، وقيام الليل كان واجباً على النبي صلى الله عليه ونسلم وعلى أمته حولاً ، ثم نسخ في حق الأمة وجوبه . ثم بعد ذلك نسخ الله تعالى ذلك كله ليلة الإسراء بخمس صلوات . ولكن منهم صلاة ( الصبح والعصر ) فهما قبل طلوع الشمس وقبل الغروب ، وقد روى الإمام أحمد ، عن جرير بن عبد الله رضي الله عنهما : « كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فنظر إلى القمر ليلة البدر فقال : » أما إنكم ستعرضون على ربكم فترونه كما ترون هذا القمر لا تضامون فيه ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا «(1/2404)
، ثم قرأ : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب } . وقوله تعالى : { وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ } أي فصلِّ له كقوله : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ } [ الإسراء : 79 ] ، { وَأَدْبَارَ السجود } قال مجاهد ، عن ابن عباس رضي الله عنهما : هو التسبيح بعد الصلاة ، ويؤيد هذا ما ثبت في « الصحيحين » عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال : « جاء فقراء المهاجرين فقالوا : يا رسول الله ذهب أهل الدثور بالدرجات العلى والنعيم المقيم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » وما ذاك؟ « قالوا : يصلون ما نصلي ، ويصومون كما نصوم ، ويتصدقون ولا نتصدق ، ويعتقون ولا نعتق ، قال صلى الله عليه وسلم : » أفلا أعلمكم شيئاً إذا فعلتموه سبقتم من بعدكم ولا يكون أحد أفضل منكم إلاّ من فعل مثل ما فعلتم؟ تسبحون وتحمدون وتكبرون دبر كل صلاة ثلاثاً وثلاثين « قال ، فقالوا : يا رسول الله سمع إخواننا أهل الأموال فما فعلنا ففعلوا مثله ، فقال صلى الله عليه وسلم : » ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء « والقول الثاني أن المراد بقوله تعالى : { وَأَدْبَارَ السجود } هما الركعتان بعد المغرب ، وبه يقول مجاهد وعكرمة والشعبي . روى الإمام أحمد ، عن علي رضي الله عنه قال : » كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي على أثر كل صلاة مكتوبة ركعتين إلاّ الفجر والعصر ، وقال عبد الرحمن : دبر كل صلاة « وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : » بت ليلة عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى ركعتين خفيفتين اللتين قبل الفجر ، ثم خرج إلى الصلاة فقال : يا ابن عباس : « ركعتين قبل صلاة الفجر إدبار النجوم ، وركعتين بعد المغرب إدبار السجود » « .(1/2405)
وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ (45)
يقول تعالى : { واستمع } يا محمد { يَوْمَ يُنَادِ المناد مِن مَّكَانٍ قَرِيبٍ } قال كعب الأحبار : يأمر الله تعالى ملكاً أن ينادي على صخرة بيت المقدس : أيتها العظام البالية ، والأوصال المتقطعة ، إن الله تعالى يأمركنَّ أن تجتمعن لفصل القضاء { يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصيحة بالحق } يعني النفخة في الصور التي تأتي بالحق الذي كان أكثرهم فيه يمترون ، { ذَلِكَ يَوْمُ الخروج } أي من الأجداث { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا المصير } ، أي هو الذي يبدأ الخلق ثم يعيده ، وإليه مصير الخلائق كلهم ، فيجازي كلاً بعمله ، إن خيراً فخير . وإن شراً فشر . وقوله تعالى : { يَوْمَ تَشَقَّقُ الأرض عَنْهُمْ سِرَاعا } وذلك أن الله عزَّ وجلَّ ينزل مطراً من السماء ينبت به أجساد الخلائق كلها في قبورها كما ينبت الحب في الثرى بالماء ، فإذا تكاملت الأجساد أمر الله تعالى إسرافيل فينفخ في الصور ، فإذا نفخ فيه خرجت الأرواح تتوهج بين السماء والأرض ، فيقول الله عزَّ وجلَّ : وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره ، فترجع كل روح إلى جسدها ، فتدب فيه كما يدب السم في اللديغ ، وتنشق الأرض عنهم فيقومون إلى موقف الحساب ، سراعاً مبادرين إلى أمر الله عزَّ وجلَّ ، { مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ } [ القمر : 8 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 52 ] . وفي « صحيح مسلم » عن أنَس رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنا أول من تنشق عنه الأرض » وقوله عزّ وجلّ : { ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ } أي تلك إعادة سهلة علينا يسيرة لدينا ، كما قال جلّ جلاله : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } [ القمر : 50 ] ، وقال سبحانه وتعالى : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } [ لقمان : 28 ] ، وقوله جل وعلا : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } ، أي علمنا محيط بما يقول لك المشركون ، فلا يهولنك ذلك ، كقوله { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } [ الحجر : 97 ] وقوله تبارك وتعالى : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ } أي ولست بالذي تجبر هؤلاء على الهدى ، وليس ذلك مما كلفت به ، وقال مجاهد والضحاك : أي لا تتجبر عليهم ، والقول الأول أولى ، قال الفراء : سمعت العرب تقول : حبر فلان فلاناً على كذا بمعنى أجبره ، ثم قال عزّ وجل : { فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } أي بلّغ أنت رسالة ربك ، فإنما يتذكر من يخاف الله ووعيده كقوله تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } [ الرعد : 40 ] ، وقوله جلّ جلاله : { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } [ الغاشية : 21-22 ] . { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 272 ] ، { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ القصص : 56 ] ولهذا قال هاهنا : { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بالقرآن مَن يَخَافُ وَعِيدِ } كان قتادة يقول : اللهم اجعلنا ممن يخاف وعيدك ، ويرجو موعودك ، يا بار يا رحيم .(1/2406)
وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1) فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2) فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3) فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4) إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5) وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9) قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ (11) يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)
قوله تعالى : { والذاريات ذَرْواً } قال علي رضي الله عنه : الريح ، { فالحاملات وِقْراً } قال : السحاب { فالجاريات يُسْراً } قال : السفن { فالمقسمات أَمْراً } قال : الملائكة .
وقد روي عن سعيد بن المسيب قال : جاء صبيغ التميمي إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : يا أمير المؤمنين أخبرني عن الذاريات ذرواً ، فقال عمر رضي الله عنه : هي الرياح ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته ، قال : فأخبرني عن المقسمات أمراً ، قال رضي الله عنه : هي الملائكة ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه سولم يقوله ما قتله ، قال : فأخبرني عن الجاريات يسراً ، قال رضي الله عنه : هي السفن ، ولولا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوله ما قلته . وهكذا فسرها ابن عباس وابن عمر وغير واحد ، ولم يحك ابن جرير غير ذلك ، وقد قيل : إن المراد بالذاريات ( الريح ) وبالحاملات وقراً ( السحاب ) كما تقدم لأنها تحمل الماء ، فأما { فالجاريات يُسْراً } فالمشهور عن الجمهور أنها السفن . تجري ميسرة في الماء جرياً سهلاً ، وقال بعضهم : هي النجوم تجري يسراً في أفلاكها ، ليكون ذلك ترقياً من الأدنى إلى الأعلى ، فالرياح فوقها السحاب ، والنجوم فوق ذلك ، والمقسمات أمراً ، الملائكة فوق ذلك تنزل بأوامر الله الشرعية والكونية ، وهذا قسم من الله عزّ وجلّ على وقوع المعاد ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ } أي لخبر صدق ، { وَإِنَّ الدين } وهو الحساب { لَوَاقِعٌ } أي لكائن لا محالة ، ثم قال تعالى : { والسمآء ذَاتِ الحبك } قال ابن عباس : ذات الجمال والبهاء ، والحسن والاستواء ، وقال الضحاك : الرمل والزرع إذا ضربته الريح فينسخ بعضه بعضاً طرائق طرائق ، فذلك الحبك ، وعن أبي صالح { ذَاتِ الحبك } الشدة ، وقال اخصيف { ذَاتِ الحبك } ذات الصفاقة ، وقال الحسن البصري : { ذَاتِ الحبك } حبكت النجوم ، وقال عبد الله بن عمرو { والسمآء ذَاتِ الحبك } يعني السماء السابعة وكأنه والله أعلم أراد بذلك السماء التي فيها الكواكب الثابتة . وكل هذه الأقوال ترجع إلى شيء واحد وهو الحسن والبهاء ، كما قال ابن عباس رضي الله عنهما فإنها من حسنها مرتفعة شفافة صفيقة ، شديدة البناء ، متسعة الأرجاء ، أنيقة البهاء ، مكللة بالنجوم الثوابت والسيارات ، موشحة بالكواكب الزاهرات . وقوله تعالى : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } أي إنكم أيها المشركون المكذبون للرسل { لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } مضطرب لا يلتئم ولا يجتمع ، وقال قتادة : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ } ما بين مصدق بالقرآن ومكذب به { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } أي إنما يروج على من هو ضال من نفسه ، لأنه قول باطل ، ينقاد له ويضل بسببه من هو مأفوك ضال ، غِمْر لا فهم له . قال ابن عباس { يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } يضل عنه من ضل ، وقال مجاهد : يؤفن عنه من أفن ، وقال الحسن البصري : يصرف عن هذا القرآن من كذب به ، وقوله تعالى : { قُتِلَ الخراصون } قال مجاهد : الكذابون ، وهي مثل التي في عبس ،(1/2407)
{ قُتِلَ الإنسان مَآ أَكْفَرَهُ } [ عبس : 17 ] والخراصون الذين يقولون : لا نبعث ولا يوقنون ، وقال ابن عباس : { قُتِلَ الخراصون } أي لعن المرتابون ، وقال قتادة : الخراصون أهل الغرة والظنون ، وقوله تبارك وتعالى : { الذين هُمْ فِي غَمْرَةٍ سَاهُونَ } قال ابن عباس وغير واحد : في الكفر والشك غافلون لاهون { يَسْأَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدين } وإنما يقولون هذا تكذيباً وعناداً ، وشكاً واستبعاداً قال الله تعالى : { يَوْمَ هُمْ عَلَى النار يُفْتَنُونَ } قال ابن عباس : يعذبون ، قال مجاهد : كما يفتن الذهب على النار ، وقال جماعة آخرون : { يُفْتَنُونَ } يحرقون { ذُوقُواْ فِتْنَتَكُمْ } قال مجاهد : حريقكم ، وقال غيره : عذابكم { هذا الذي كُنتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً ، وتحقيراً وتصغيراً ، والله أعلم .(1/2408)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (15) آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ (17) وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَفِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ (19) وَفِي الْأَرْضِ آيَاتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (21) وَفِي السَّمَاءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ (22) فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)
يقول تعالى مخبراً عن المتقين لله عزّ وجلّ ، أنهم يوم معادهم يكونون في جنات وعيون ، بخلاف ما أولئك الأشقياء فيه من العذاب والنكال والحرق والأغلال ، وقوله تعالى : { آخِذِينَ مَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } ، قال ابن جرير : أي عاملين بما آتاهم الله من الفرائض ، { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ } أي قبل أن يفرض عليهم الفرائض كانوا محسنين في الأعمال أيضاً ، والذي فسر به ابن جرير فيه نظر ، لأن قوله تبارك وتعالى { آخِذِينَ } حال من قوله { فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } فالمتقون في حال كونهم في الجنان والعيون آخذين ما آتاهم ربهم ، أي من النعيم والسرور والغبطة . وقوله عزّ وجلّ : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ } أي في الدار الدنيا ، { مُحْسِنِينَ } كقوله تعالى : { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية } [ الحاقة : 24 ] ، ثم إنه تعالى بيّن إحسانهم في العمل فقال جلّ وعلا : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } . اختلف المفسرون في ذلك على قولين : أحدهما : أن ( ما ) نافية تقديره : كانوا قليلاً من الليل لا يهجعونه . قال ابن عباس : لم تكن تمضي عليهم ليلة إلا يأخذون منها ولو شيئاً ، وقال قتادة : قلّ ليلة تأتي عليهم إلا يصلون فيها لله عزّ وجلّ ، إما من أولها أو من وسطها ، وقال مجاهد : قلَّ ما يرقدون ليلة حتى الصباح لا يتهجدون ، والقول الثاني : أن ( ما ) مصدرية تقديره : كانوا قليلاً من الليل هجوعهم ونومهم ، واختاره ابن جرير ، وقال الحسن البصري : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } ، كابدوا قيام الليل فلا ينامون من الليل إلا أقله ، ونشطوا فمدوا إلى السحر حتى كان الاستغفار بسحر ، وقال الأحنف بن قيس : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } كانوا لا ينامون إلا قليلاً ، ثم يقول : لست من أهل هذه الآية ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : قال رجل من بني تميم لأبي : يا أبا أسامة صفةٌ لا أجدها فينا ذكر الله تعالى قوماً فقال : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ } ونحن والله قليلاً من الليل ما نقوم . فقال له أبي : « طوبى لمن رقد إذا نعس ، واتقى الله إذا استيقظ » . وقال عبد الله بن سلام : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس إليه فكنت فيمن انجفل ، فلما رأيت وجهه صلى الله عليه وسلم عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، فكان أول ما سمعته صلى الله عليه وسلم يقول : « يا أيها الناس أطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وأفشوا السلام ، وصلّوا بالليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام » وروى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(1/2409)
« إن في الجنة غرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها » فقال أبو موسى الأشعري رضي الله عنه : لمن هي يا رسول الله؟ قال صلى الله عليه وسلم : « لمن ألان الكلام ، وأطعم الطعام ، وبات لله قائماً والناس نيام » « .
وقوله عزّ وجلّ : { وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } قال مجاهد : يصلون ، وقال آخرون : قاموا الليل وأخروا الاستغفار إلى الأسحار ، كما قال تبارك وتعالى : { والمستغفرين بالأسحار } [ آل عمران : 17 ] ، وقد ثبت في الصحاح ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : » إن الله تعالى ينزل كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ، فيقول : هل من تائب فأتوب عليه؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من سائل فيعطى سؤله؟ حتى يطلع الفجر « وقوله تعالى : { وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّآئِلِ والمحروم } لما وصفهم بالصلاة ، ثنى بوصفهم بالزكاة والبر والصلة ، فقال { وفي أَمْوَالِهِمْ } أي جزء مقسوم قد أفرزوه للسائل والمحروم ، أما السائل فمعروف وهو الذي يبتدىء بالسؤال وله حق ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » للسائل حق وإن جاء على فرس « وأما المحروم فقال ابن عباس ومجاهد : هو المحارب الذي ليس له في الإسلام سهم ، يعني لا سهم له في بيت المال ولا كسب له ولا حرفة يتقوت منها ، وقالت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها : هو المحارب الذي لا يكاد يتيسر له مكسبه ، وقال الضحاك : هو الذي لا يكون له مال ذهب ، قضى الله تعالى له ذلك ، وقال ابن عباس وسعيد بن المسيب وعطاء : المحروم المحارف ، وقال قتادة والزهري : المحروم الذي لا يسأل الناس شيئاً ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ليس المسكين بالطواف الذي ترده اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه « وقال سعيد بن جبير : هو الذي يجيء وقد قسم المغنم فيرضخ له ، وقال الشعبي : أعياني أن أعلم ما المحروم ، واختار ابن جرير أن المحروم الذي لا مال له بأي سبب كان وقد ذهب ماله ، سواء كان لا يقدر على الكسب ، أو قد هلك ماله بآفة أو نحوها .
وقوله عزّ وجلّ : { وَفِي الأرض آيَاتٌ لِّلْمُوقِنِينَ } أي فيها من الآيات الدالة على عظمة خالقها وقدرته الباهرة ، مما فيها من صنوف النبات والحيوانات والمهاد ، والجبال والقفار والأنهار والبحار ، واختلاف ألسنة وألوانهم ، وما بينهم من التفاوت في العقول والفهوم والسعادة والشقاوة ، وما في تركيبهم من الحكم ، في وضع كل عضو من أعضائهم في المحل الذي هو محتاج إليه فيه ، ولهذا قال عزّ وجلّ : { وفي أَنفُسِكُمْ أَفَلاَ تُبْصِرُونَ } ؟ قال قتادة : من تفكر في خلق نفسه عرف أنه إنما خلق ولينت مفاصله للعبادة ، ثم قال تعالى : { وَفِي السمآء رِزْقُكُمْ } يعني المطر { وَمَا تُوعَدُونَ } يعني الجنة ، قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد ، وقوله تعالى : { فَوَرَبِّ السمآء والأرض إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَآ أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ } ، يقسم تعالى بنفسه الكريمة : أن ما وعدهم به من أمر القيامة ، والبعث والجزاء كائن لا محالة ، وهو حق لا مرية فيه ، فلا تشكوا فيه كما لا تشكوا في نطقكم حين تنطقون ، وكان معاذ رضي الله عنه إذا حدث بالشيء يقول لصاحبه إن هذا لحقٌ كما أنك هاهنا .(1/2410)
وعن الحسن البصري قال : بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قاتل الله أقواماً أقسم لهم ربهم ثم لم يصدقوا » .(1/2411)
هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَرَاغَ إِلَى أَهْلِهِ فَجَاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلَا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (28) فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قَالُوا كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30)
هذه القصة قد تقدمت في سورة هود والحجر ، فقوله : { هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ المكرمين } أي الذين أرصد لهم الكرامة ، وقد ذهب الإمام أحمد إلى وجوب الضيافة للنزيل ، وقد وردت السنة بذلك كما هو ظاهر التنزيل ، وقوله تعالى : { فَقَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ } الرفع أقوى وأثبت من النصب ، فردّه أفضل من التسليم ، ولهذا قال تعالى : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } [ النساء : 86 ] فالخليل اختار الأفضل ، وقوله تعالى : { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } وذلك أن الملائكة ، وهم جبريل وميكائيل وإسرافيل ، قدموا عليه في صورة شبان حسان عليهم مهابة عظيمة ، ولهذا قال { قَوْمٌ مُّنكَرُونَ } . وقوله عزّ وجلّ : { فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ } أي انسل خفية في سرعة ، { فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } أي منن خيار ماله ، وفي الآية الأُخْرى : { فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } [ هود : 69 ] أي مشوي على الرَّضْف { فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ } أي أدناه منهم ، { قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ } ؟ تلطف في العبارة وعرض حسن ، وهذه الآية انتظمت آداب الضيافة فإنه جاء بطعام من حيث لا يشعرون بسرعة ، وأتى بأفضل ما وجد من ماله وهو عجلٌ فتيٌّ سمين مشوي ، فقربه إليهم لم يضعه وقال اقتربوا ، بل وضعه بين أيديهم ، ولم يأمرهم أمراً يشق على سامعه بصيغة الجزم ، بل قال : { أَلاَ تَأْكُلُونَ } ؟ على سبيل العرض والتلطف ، كما يقول القائل اليوم : إن رأيت أن تتفضل وتحسن وتتصدق فافعل . وقوله تعالى : { فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } كقوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } [ هود : 70 ] { قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَبَشَّرُوهُ بِغُلاَمٍ عَلَيمٍ } البشارة له بشارة لها ، لأن الولد منهما فكل منهما بشر به ، وقوله تعالى : { فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ } أي في صرخة عظيمة ورنة ، وهي قولها { يَاوَيْلَتَا } [ المائدة : 31 ] { فَصَكَّتْ وَجْهَهَا } أي ضربت بيدها على جبينها ، قال ابن عباس : لطمت أي تعجباً ، كما تتعجب النساء من الأمر الغريب { وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } أي كيف ألد وأنا عجوز وقد كنت في حال الصبا عقيماً لا أحبل؟ { قَالُواْ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الحكيم العليم } أي عليم بما تستحقون من الكرامة ، حكيم في أقواله وأفعاله .(1/2412)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ طِينٍ (33) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَتَرَكْنَا فِيهَا آيَةً لِلَّذِينَ يَخَافُونَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (37)
قال الله تعالى مخبراً عن إبراهيم عليه الصلاة والسلام : { قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا المرسلون } ؟ ما شأنكم ، وفيم جئتم؟ { قالوا إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } يعنون قوم لوط ، { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ * مُّسَوَّمَةً } أي معلمة ، { عِندَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ } أي مكتتبة عنده بأسمائهم ، كل حجر عليه اسم صاحبه ، { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين } وهو لوط وأهل بيته إلا امرأته { فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين } ، وقوله تعالى : { وَتَرَكْنَا فِيهَآ آيَةً لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم } أي جعلناها عبرة بما أنزلنا بهم من العذاب والنكال ، وجعلنا محلتهم بحيرة منتنة خبيثة ، ففي ذلك عبرة للمؤمنين { لِّلَّذِينَ يَخَافُونَ العذاب الأليم } .(1/2413)
وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إِلَى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ (40) وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42) وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (46)
يقول تعالى : { وَفِي موسى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي بدليل باهر وحجة قاطعة ، { فتولى بِرُكْنِهِ } أي فأعرض فرعون عما جاءه موسى من الحق المبين استكباراً وعناداً ، قال مجاهد : تعزز بأصحابه ، وقال قتادة : غلب عدو الله على قومه ، وقال ابن زيد : { فتولى بِرُكْنِهِ } أي بمجموعه التي معه ، ثم قرأ : { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ } [ هود : 80 ] والمعنى الأولى قوي ، { وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } أي لا يخلو أمرك فيما جئتني به ، من أن تكون ساحراً أو مجنوناً ، قال الله تعالى : { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ } أي ألقيناهم { فِي اليم } وهو البحر ، { وَهُوَ مُلِيمٌ } أي وهو ملوم جاحد ، فاجر معاند . ثم قال عزّ وجلّ : { وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الريح العقيم } أي المفسدة التي لا تنتج شيئاً لهذا قال تعالى : { مَا تَذَرُ مِن شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ } أي مما تفسده الريح { إِلاَّ جَعَلَتْهُ كالرميم } أي كالشيء الهالك البالي ، وقد ثبت في الصحيح : « نصرت بالصَّبا وأهلكت عاد بالدَّبور » { وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ } قال ابن جرير : يعني إلى وقت فناء آجالكم ، والظاهر أن هذه كقوله تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى فَأَخَذَتْهُمْ صَاعِقَةُ العذاب الهون بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ فصلت : 17 ] ، وهكذا قال ههنا : { وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُواْ حتى حِينٍ * فَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة وَهُمْ يَنظُرُونَ } وذلك أنهم انتظروا العذاب ثلاثة أيام فجاءهم في صبيحة اليوم الرابع بكرة النهار ، { فَمَا استطاعوا مِن قِيَامٍ } أي من هرب ولا نهوض ، { وَمَا كَانُواْ مُنتَصِرِينَ } أي لا يقدرون على أن ينتصروا مما هم فيه ، وقوله عزّ وجلّ : { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ } أي وأهلكنا قوم نوح من قبل هؤلاء { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } ، وكل هذه القصص قد تقدمت مبسوطة في أماكن كثيرة من سور متعددة . والله تعالى أعلم .(1/2414)
وَالْأَرْضَ فَرَشْنَاهَا فَنِعْمَ الْمَاهِدُونَ (48) وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَلَا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)
يقول تعالى منبهاً على خلق العالم العلوي والسفلي : { والسمآء بَنَيْنَاهَا } أي جعلناها سقفاً محفوظاً رفيعاً ، { بِأَييْدٍ } أي بقوة قاله ابن عباس ومجاهد ، { وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } أي قد وسعنا أرجاءها ، ورفعناها بغير عمد حتى استقلت كما هي ، { والأرض فَرَشْنَاهَا } أي جعلناها فراشاً للمخلوقات ، { فَنِعْمَ الماهدون } أي وجعلناها مهداً لأهلها ، { وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ } أي جميع المخلوقات أزواج : سماء وأرض ، وليل ونهار ، وشمس وقمر ، وبر وبحر ، وضياء وظلام ، وإيمان وكفر ، وموت وحياة ، وشقاء وسعادة ، وجنة ونار ، حتى الحيوانات والنباتات ولهذا قال تعالى : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي لتعلموا أن الخالق واحد لا شريك له ، { ففروا إِلَى الله } أي الجأوا إليه واعتمدوا عليه في أموركم عليه ، { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * وَلاَ تَجْعَلُواْ مَعَ الله إلها آخَرَ } أي لا تشركوا به شيئاً { إِنِّي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } .(1/2415)
كَذَلِكَ مَا أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قَالُوا سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَتَوَاصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَمَا أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ (56) مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوبًا مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلَا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)
يقول تعالى مسلياً لنبيّه صلى الله عليه وسلم : وكما قال لك هؤلاء المشركون ، قال المكذبون الأولون لرسلهم { كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } قال الله عزّ وجل : { أَتَوَاصَوْاْ بِهِ } ؟ أي أوصى بعضهم بعضاً بهذه المقالة؟ { بَلْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } ، أي لكن هم قوم طغاة تشابهت قلوبهم ، فقال متأخرهم كما ق متقدمهم ، قال الله تعالى : { فَتَوَلَّ عَنْهُمْ } أي فأعرض عنهم يا محمد ، { فَمَآ أَنتَ بِمَلُومٍ } يعني لا نلومك على ذلك ، { وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذكرى تَنفَعُ المؤمنين } أي إنما تنتفع بها القلوب المؤمنة ، ثم قال جلّ جلاله : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } أي إنما خلقتهم لآمرهم بعبادتي ، لا لاحتياجي إليهم ، وقال ابن عباس : { إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } أي إلا ليقروا بعبادتي طوعاً أو كرهاً ، وهذا اختيار ابن جرير ، وقال ابن جريج : إلا ليعرفون ، وقال الربيع بن أنَس إلا للعبادة ، وقوله تعالى : { مَآ أُرِيدُ مِنْهُم مِّن رِّزْقٍ وَمَآ أُرِيدُ أَن يُطْعِمُونِ * إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين } ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : أقرأني رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إني أنا الرزاق ذو القوة المتين } ، ومعنى الآية أنه تبارك وتعالى خلق العباد ليعبدوه واحده لا شريك له ، فمن أطاعه جازاه أتم الجزاء ، ومن عصاه عذبه أشد العذاب ، وأخبر أنه غير محتاج إليهم ، بل هم الفقراء إليه في جميع أحوالهم ، فهو خالقهم ورازقهم ، وفي الحديث القدسي : « يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك ، وإلا تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك » .
وقد ورد في بعض الكتب الإلهية : يقول الله تعالى : « ابن آدم خلقتك لعبادتي فلا تلعب ، وتكفلت برزقك فلا تتعب ، فاطلبني تجدني ، فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإن فتك فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء » وقوله تعالى : { فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذَنُوباً } أي نصيباً من العذاب ، { مِّثْلَ ذَنُوبِ أَصْحَابِهِمْ فَلاَ يَسْتَعْجِلُونِ } ذلك فإنه واقع لا محالة ، { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن يَوْمِهِمُ الذي يُوعَدُونَ } يعني يوم القيامة .(1/2416)
وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَالْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4) وَالسَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَالْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ (7) مَا لَهُ مِنْ دَافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9) وَتَسِيرُ الْجِبَالُ سَيْرًا (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلَى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هَذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (14) أَفَسِحْرٌ هَذَا أَمْ أَنْتُمْ لَا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْهَا فَاصْبِرُوا أَوْ لَا تَصْبِرُوا سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)
يقسم تعالى بمخلوقاته الدالة على قدرته العظيمة ، أن عذابه واقع بأعدائه وأنه لا دافع له عنهم ، والطور هو الجبل الذي يكون فيها أشجار مثل الذي كلم الله عليه موسى ، وما لم يكن فيه شجر لا يسمى طوراً ، إنما يقال له جبل ، { وَكِتَابٍ مَّسْطُورٍ } قيل : هو اللوح المحفوظ ، وقيل : الكتب المنزلة المكتوبة ، التي تقرأ على الناس جهاراً ، ولهذا قال : { فِي رَقٍّ مَّنْشُورٍ * والبيت المعمور } ، ثبت في « الصحيحين » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حديث الإسراء : « ثم رفع بي إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألفاً لا يعودون إليه آخر ما عليهم » يعني يتعبدون فيه ويطوفون به كما يطوف أهل الأرض بكعبتهم ، وهو كعبة أهل السماء السابعة ، وفي كل سماء بيت يتعبد فيه أهلها ويصلون إليه ، والذي في السماء الدنيا يقال له بيت العزة ، والله أعلم . وقال ابن عباس : البيت المعمور هو بيت حذاء العرش تعمره الملائكة ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة ثم لا يعودون إليه ، وكذا قال عكرمة ومجاهد وغير واحد من السلف ، وقال قتادة والسدي : « ذكرنا لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوماً لأصحابه : » هل تدرون ما البيت المعمور؟ « قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : » فإنه مسجد في السماء بحيال الكعبة لو خر لخر عليها ، يصلي فيه كل يوم سبعون ألف ملك إذا خرجوا منه لم يعودوا آخر ما عليهم « » وقوله تعالى : { والسقف المرفوع } عن علي قال : يعني السماء ، ثم تلا : { وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 32 ] ، وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي واختاره ابن جرير ، وقال الربيع بن أَنَس : هو العرش يعني أنه سقف لجميع المخلوقات ، وقوله تعالى : { والبحر المسجور } قال الربيع بن أَنَس : هو الماء الذي تحت العرش الذي ينزل الله منه المطر الذي تحيا به الأجساد في قبورها يوم معادها ، وقال الجمهور : هو هذا البحر ، واختلف في معنى قوله : { المسجور } فقال بعضهم : المراد أنه يوقد يوم القيامة ناراً كقوله ، { وَإِذَا البحار سُجِّرَتْ } [ التكوير : 6 ] أي أضرمت فتصير ناراً تتأجج محيطة بأهل الموقف ، وروي عن علي وابن عباس : وقال العلاء بن بدر : إنما سمي البحر المسجور لأنه لا يشرب منه ماء ولا يسقى به زرع ، وكذلك البحار يوم القيامة ، وعن سعيد بن جبير : { والبحر المسجور } يعني المرسل ، وقال قتادة : المسجور المملوء ، واختاره ابن جرير ، وقيل : المراد بالمسجور الممنوع المكفوف عن الأرض لئلا يغمرها فيغرق أهلها ، قاله ابن عباس وبه يقول السدي وغيره ، وعليه يدل الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(1/2417)
« ليس من ليلة إلا والبحر يشرف فيها ثلاث مرات يستأذن الله أن ينفضح عليهم فيكفه الله عزّ وجلّ » .
وقوله تعالى : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ } هذا هو القسم عليه أي لواقع بالمكافرين ، { مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } أي ليس له دافع يدفعه عنهم ، إذا أراد الله بهم ذلك ، قال الحافظ ابن أبي الدنيا : خرج عمر يعس المدينة ذات ليلة ، فمرّ بدار رجل من المسلمين فوافقه قائماً يصلي ، فوقف يستمع قراءته فقرأ : { والطور } - حتى بلغ - { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ * مَّا لَهُ مِن دَافِعٍ } قال : قسم ورب الكعبة حق ، فنزل عن حماره ، واستند إلى حائط ، فمكث ملياً ، ثم رجع إلى منزله ، فمكث شهراً يعوده الناس لا يدرون ما مرضه رضي الله عنه . وقوله تعالى : { يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً } قال ابن عباس : تتحرك تحريكاً ، وقال مجاهد : تدور دوراً ، وقال الضحّاك : استدارتها وتحركها لأمر الله وموج بعضها في بعض ، وهذا اختيار ابن جرير أنه التحرك في استدارة ، قال وأنشد أبو عبيدة بيت الأعشى فقال :
كأنَّ مِشيَتها من بيت جارتها ... مَوْرُ السحابة لا رَيْثُ ولا عجل
{ وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً } أي تذهب فتصير هباء منبثاً وتنسف نسفاً ، { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } أي ويل لهم ذلك اليوم من عذاب الله ونكاله ، { الذين هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ } أي هم في الدنيا يخوضون في الباطل ويتخذون دينهم هزواً ولعباً { يَوْمَ يُدَعُّونَ } أي يدفعون ويساقون { إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا } ، قال مجاهد والسدي : يدفعون فيها دفعاً { هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } أي تقول لهم الزبانية ذلك تقريعاً وتوبيخاً ، { أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ * اصلوها } أي ادخلوها دخول من تغمره من جميع جهاته ، { فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ } ، أي سواء صبرتهم على عذابها ونكالها أم لم تصبروا ، لا محيد لكم عنها ولا خلاص لكم منها ، { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي لا يظلم الله أحداً بل يجازي كلاً بعمله .(1/2418)
إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ (17) فَاكِهِينَ بِمَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَاشْرَبُوا هَنِيئًا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلَى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20)
أخبر الله تعالى عن حال السعداء فقال : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَعِيمٍ } وذلك بضد ما أولئك فيه من العذاب والنكال ، { فَاكِهِينَ بِمَآ آتَاهُمْ رَبُّهُمْ } أي يتفكهون بما آتاهم الله من النعيم ، من أصناف الملاذ من مآكل ومشارب ، وملابس ومساكن ومراكب وغير ذلك ، { وَوَقَاهُمْ رَبُّهُمْ عَذَابَ الجحيم } أي وقد نجاهم من عذاب النار ، وتلك نعمة مستقلة بذاتها ، مع ما أضيف إليها من دخول الجنة ، التي فيها من السرور ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر ، وقوله تعالى : { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ، كقوله تعالى : { كُلُواْ واشربوا هَنِيئَاً بِمَآ أَسْلَفْتُمْ فِي الأيام الخالية } [ الحاقة : 24 ] أي هذا بذاك تفضلاً منه وإحساناً ، وقوله تعالى : { مُتَّكِئِينَ على سُرُرٍ مَّصْفُوفَةٍ } قال ابن عباس : السرور في الحجال ، وفي الحديث : « إن الرجل ليتكىء المتكأ مقدار أربعين سنة ما يتحول عنه ولا يمله يأتيه ما اشتهت نفسه ولذت عينه » وعن ثابت قال : « بلغنا أن الرجل ليتكىء في الجنة سبعين سنة عنده من أزواجه وخدمه ، وما أعطاه الله من الكرامة والنعيم ، فإذا حانت منه نظرة ، فإذا أزواج له لم يكن رآهن قبل ذلك فيقلن : قد آن لك أن تجعل لنا منك نصيباً » ومعنى { مَّصْفُوفَةٍ } أي وجوه بعضهم إلى بعض كقوله : { على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } [ الحجر : 47 ، الصافات : 44 ] ، { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } أي وجعلنا لهم قرينات صالحات ، وزوجات حساناً من الحور العين ، وقال مجاهد { وَزَوَّجْنَاهُم بِحُورٍ عِينٍ } أنكحناهم بحور عين ، وقد تقدم وصفهن في غير موضع بما أغنى عن إعادته هاهنا .(1/2419)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَا أَلَتْنَاهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ (21) وَأَمْدَدْنَاهُمْ بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْسًا لَا لَغْوٌ فِيهَا وَلَا تَأْثِيمٌ (23) وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ (25) قَالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ (26) فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)
يخبر تعالى عن فضله وكرمه وامتنانه ، ولطفه بخلقه وإحسانه ، أن المؤمنين إذا اتبعتهم ذرياتهم في الإيمان ، يلحقهم بآبائهم في المنزلة ، وإن لم يبلغوا عملهم لتقر أعين الآباء بالأبناء ، فيجمع بينهم على أحسن الوجوه بأن يرفع الناقص العمل بكامل العمل ، ولا ينقص ذلك من عمله ومنزلته للتساوي بينه وبين ذاك ، ولهذا قال : { أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } ، قال ابن عباس : إن الله ليرفع ذرية المؤمن في درجته وإن كانوا دونه في العمل لتقرَّ بهم عينه ، ثم قرأ { والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } . وروى ابن أبي حاتم ، عن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس في قوله الله تعالى : { والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } ، قال : هم ذرية المؤمن يموتون على الإيمان ، فإن كانت منازل آبائهم أرفع من منازلهم ألحقوا بآبائهم ولم ينقصوا من أعمالهم التي عملوها شيئاً ، وروى الحافظ الطبراني عن ابن عباس أظنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا دخل الرجل الجنة سأل عن أبويه وزوجته وولده فيقال : إنهم لم يبلغوا درجتك ، فيقول : يا رب قد عملت لي ولهم ، فيؤمر بإلحاقهم به » ، وقرأ ابن عباس { والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ } ألآية ، هذا فضله تعالى على الأبناء ببركة عمل الآباء ، وأما فضله على الآباء ببركة دعاء الأبناء ، فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله ليرفع الدرجة للعبد الصالح في الجنة فيقول : يا رب أنى لي هذه؟ فيقول؛ باستغفار ولدك لك » . وعن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقة جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولد صالح يدعو له » .
وقوله تعالى : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } لما أخبر عن مقام الفضل وهو رفع درجة الذرية إلى منزلة الآباء من غير عمل يقتضي ذلك ، أخبر عن مقام العدل ، وهو أنه لا يؤاخذ أحداً بذنب أحد ، فقال تعالى : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } أي مرتهن بعمله لا يحمل عليه ذنب غيره من الناس ، سواء كان أباً أو ابناً ، كما قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ * إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين * فِي جَنَّاتٍ يَتَسَآءَلُونَ * عَنِ المجرمين } [ المدثر : 38-41 ] ، وقوله : { وَأَمْدَدْنَاهُم بِفَاكِهَةٍ وَلَحْمٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } أي وألحقانهم بفواكه ولحوم من أنواع شتى مما يستطاب ويشتهى ، وقوله : { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً } أي تعاطون فيها كأساً أي من الخمر ، قاله الضحّاك : { لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } أي لا يتكلمون فيها بكلام لاغ ، أي هذيان ، ولا إثم ، أي فحش كما يتكلم به الشربة من أهل الدنيا .(1/2420)
قال ابن عباس : اللغو الباطل ، والتأثيم الكذب ، وقال مجاهد : لا يستبون ولا يؤثمون؛ وقال قتادة : كان ذلك في الدنيا مع الشيطان ، فنزه الله خمر الآخرة عن قاذورات خمر الدنيا وأذاها ، فنفى عنها صداع الرأس ووجع البطن وإزالة العقل بالكلية ، وأخبر أنها لا تحملهم على الكلام السيء الفارغ عن الفائدة المتضمن هذياناً وفحشاً ، وأخبر بحسن منظرها وطيب طعمها ومخبرها فقال : { بَيْضَآءَ لَذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ * لاَ فِيهَا غَوْلٌ وَلاَ هُمْ عَنْهَا يُنزَفُونَ } [ الصافات : 46-47 ] وقال : { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ } [ الواقعة : 19 ] . وقال هاهنا : { يَتَنَازَعُونَ فِيهَا كَأْساً لاَّ لَغْوٌ فِيهَا وَلاَ تَأْثِيمٌ } . وقوله تعالى : { وَيَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمَانٌ لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَّكْنُونٌ } إخبار عن خدمهم وحشمهم في الجنة ، كأنهم اللؤلؤ الرطب المكنون ، في حسنهم وبهائهم ونظافتهم وحسن ملابسهم ، كما قال تعالى : { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ * بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } [ الواقعة : 17-18 ] . وقوله تعالى : { وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ يَتَسَآءَلُونَ } أي أقلبوا يتحادثون ويتساءلون عن أعمالهم وأحوالهم في الدنيا ، كما يتحادث أهل الشراب على شرابهم ، { قالوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ في أَهْلِنَا مُشْفِقِينَ } أي كنا في الدار الدنيا ونحن بين أهلينا خائفين من ربنا ، مشفقين من عذابه وعقابه { فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم } أي فتصدق علينا وأجازنا مما نخاف ، { إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ } أي نتضرع غليه فاستجاب لنا وأعطانا سؤالنا { إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم } ، عن أنَس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا دخل أهل الجنة الجنة اشتاقوا إلى الإخوان فيجيء سرير هذا حتى يحاذي سرير هذا ، فيتحدثان ، فيتكىء هذا ويتكىء هذا فيتحدثان بما كان في الدنيا ، فيقول أحدهما لصاحبه : يا فلان تدري أي يوم غفر الله لنا؟ يوم كنا في موضع كذا وكذا فدعونا الله عزّ و جلّ فغفر لنا » وعن مسروق عن عائشة أنها قرأت هذه الآية : { فَمَنَّ الله عَلَيْنَا وَوَقَانَا عَذَابَ السموم * إِنَّا كُنَّا مِن قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ البر الرحيم } فقالت : اللهم منّ علينا ، وقنا عذاب السموم ، إنك أنت البر الرحيم : قيل للأعمش : في الصلاة؟ قال : نعم .(1/2421)
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَتِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34)
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يبلغ رسالته إلى عباده ، وأن يذكرهم بما أنزل الله عليه ، ثم نفى عنه ما يرميه به أهل البهتان والفجور فقال : { فَذَكِّرْ فَمَآ أَنتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلاَ مَجْنُونٍ } ، أي لست بحمد الله بكاهن كما تقوله الجهلة من كفار قريش ، والكاهن الذي يأتيه الرِئي من الجان بالكلمة يتلقاها من خبر السماء ، { وَلاَ مَجْنُونٍ } وهو الذي يتخبطه الشيطان من المس . ثم قال تعالى منكراً عليهم في قولهم في الرسول صلى الله عليه وسلم : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } ؟ أي قوارع الدهر ، والنمنون الموت ، يقولون : ننتظره ونصبر عليه يأتيه الموت فنستريح منه . قال الله تعالى : { قُلْ تَرَبَّصُواْ فَإِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المتربصين } أي انتظروا ، فإني منتظر معكم وستعلمون لمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة ، قال ابن عباس رضي الله عنهما : إن قريشاً لما اجتمعوا في دار الندوة في أمر النبي صلى لله عليه وسلم قال قائل منهم : احتبسوه في وثاق وتربصوا به ريب المنون ، حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء ( زهير ) و ( النابغة ) إنما هو كأحدهم ، فأنزل الله تعالى ذلك من قولهم : { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } ؟ ثم قال تعالى : { أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلاَمُهُمْ بهاذآ } أي عقولهم تأمرهم بهذا الذي يقولونه فيك من الأقاويل الباطلة ، التي يعلمون في أنفسهم أنها كذب وزور { أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ } أي ولكن هم قوم طاغون ضلال معاندون ، فهذا هو الذي يحملهم على ما قالوه فيك ، وقوله تعالى : { أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ } أي اختلقه وافتراه من عند نفسه يعنون القرآن ، قال تعالى : { بَل لاَّ يُؤْمِنُونَ } أي كفرهم هو الذي يحملهم على هذه المقالة : { فَلْيَأْتُواْ بِحَدِيثٍ مِّثْلِهِ إِن كَانُواْ صَادِقِينَ } أي إن كانوا صاقدين في قولهم ، تقوله وافتراه : فليأتوا بمثل ما جاء به محد صلى الله عليه وسلم من هذا القرآن ، فإنهم لو اجتمعوا هم وجميع أهل الأرض ، من الجن والإنس ما جاءوا بمثله ولا بسورة من مثله .(1/2422)
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَلْ لَا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (38) أَمْ لَهُ الْبَنَاتُ وَلَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْرًا فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْدًا فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)
هذا المقام في إثبات الربوبية ، وتوحيد الألوهية ، فقال تعالى : { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون } ؟ أي أوجدوا من غير موجد؟ أم هم أوجدوا أنفسهم؟ أي لا هذا ولا هذا ، بل الله هو الذي خلقهم وأنشأهم ، بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً ، روى البخاري ، عن جبير بن مطعم قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فلما بلغ هذه الآية : { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون * أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ * أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المصيطرون } ؟ كاد قلبي أن يطير . ثم قال تعالى : { أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ } ؟ أي أهم خلقوا السماوات والأرض؟ وهذا إنكار عليهم في شركهم بالله وهم يعلمون أنه الخالق وحده لا شريك له ، { أَمْ عِندَهُمْ خَزَآئِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ المصيطرون } ؟ أي أهم يتصرفون في الملك وبيدهم مفاتيح الخزائن { أَمْ هُمُ المصيطرون } أي المحاسبون للخلائق ، بل الله عزّ ودلّ هو المالك المتصرف الفعال لما يريد . وقوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ } ؟ أي مرقاة إلى الملأ الأعلى ، { فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي فليأت الذي يستمع لهم بحجة ظاهرة . على صحة ما هم فيه من الفعال والمقال ، ثم قال منكراً عليهم فيما نسبوه إليه من البنات ، واختيارهم لأنفسهم الكذور على الإناث ، وقد جعلوا الملائكة بنات الله وعبدوهم مع الله فقال : { أَمْ لَهُ البنات وَلَكُمُ البنون } ؟! وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، { أَمْ تَسْأَلُهُمْ أَجْراً } ؟ أي أجرة على إبلاغك إياهم رسالة الله ، أي لست تسألهم على ذلك شيئاً ، { فَهُم مِّن مَّغْرَمٍ مُّثْقَلُونَ } أي فهم من أدنى شيء يتبرمون منه ، ويثقلهم ويشق عليهم . { أَمْ عِندَهُمُ الغيب فَهُمْ يَكْتُبُونَ } أي ليس الأمر كذلك فإنه لا يعلم أحد من أهل السماوات والأرض الغيب إلا الله ، { أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فالذين كَفَرُواْ هُمُ المكيدون } ، يقول تعالى : أم يريد هؤلاء بقولهم هذا في الرسول ، وفي الدين غرور الناس وكيد الرسول وأصحابه ، فكيدهم إما يرجع وباله على أنفسهم ، فالذين كفروا هم المكيدون ، { أَمْ لَهُمْ إله غَيْرُ الله سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } ، وهذا إنكار شديد على المشركين في عبادتهم الأصنام والأنداد مع الله . ثم نزه نفسه الكريمة عما يقولون ويفترون ، ويشركون ، فقال : { سُبْحَانَ الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } .(1/2423)
وَإِنْ يَرَوْا كِسْفًا مِنَ السَّمَاءِ سَاقِطًا يَقُولُوا سَحَابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لَا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذَابًا دُونَ ذَلِكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (47) وَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48) وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَإِدْبَارَ النُّجُومِ (49)
يقول تعالى مخبراً عن المشركين بالعناد والمكابرة للمحسوس { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً } أي عليهم يعذبون به لما صدقوا ولما أيقنوا ، بل يقولون هذا { سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } أي متراكم ، وهذا كقوله : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } [ الحجر : 14-15 ] ، وقال الله تعالى { فَذَرْهُمْ } أي دعهم يا محمد { حتى يُلاَقُواْ يَوْمَهُمُ الذي فِيهِ يُصْعَقُونَ } وذلك يوم القيامة ، { يَوْمَ لاَ يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } أي لا ينفعهم كيدهم ولا مكرهم الذي استعملوه في الدنيا ، لا يجزي عنهم يوم القيامة شيئاً ، { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } . ثم قال تعالى : { وَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ عَذَاباً دُونَ ذَلِكَ } أي قبل ذلك في الدار الدنيا كقوله تعالى : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ السجدة : 21 ] ، ولهذا قال تعالى : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي نعذبهم في الدنيا ونبتليهم فيها بالمصائب ، لعلهم يرجعون وينيبون ، فلا يفهمون ما يراد بهم ، بل إذا جلي عنهم مما كانوا عليه فيه ، عادوا إلى أسوأ ما كانوا كما جاء في بعض الأحاديث : « إن المنافق إذا مرض وعوفي ، مثله في ذلك كمثل البعير لا يدري فيما عقلوه ولا فيما أرسلوه » وقوله تعالى : { واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } أي اصبر على اذاهم ولا تبالهم فإنك بمرأة منا وتحت كلاءتنا ، والله يعصمك من الناس ، وقوله تعالى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } أي إلى الصلاة : سبحانك اللهم وبحمدك وتبارك اسمك وتعالى جدك ولا إله غيرك . وروى مسلم في « صحيحه » عن عمر أنه كان يقول : هذا ابتداء الصلاة ، وقال أبو الجوزاء : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } أي من نومك من فراشك ، واختاره ابن جرير ، ويتأيد هذا القول بما رواه الإمام أحمد ، عن عبادة بن الصامت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من تعارّ من الليل فقال : لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير ، سبحانه الله والحمد لله ولا إله إلا الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلا بالله ، ثم قال : رب اغفر لي - أو قال ثم دعا - أستجب له ، فإن عزم فتوضأ ثم صلى قبلت صلاته » وقال مجاهد : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } قال من كل مجلس ، وقال الثوري { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ } قال إذا أراد الرجل أن يقوم من مجلسه قال سبحانك اللهم وبحمدك ، وهذا القول كفارة المجالس ، وعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من جلس في مجلس فكثر فيه لغطه فقال قبل أن يقوم من مجلسه : سبحانك اللهم وبحمدك أشهد أن لا إله أنت أستغفرك وأتوب إليك ، إلا غفر الله له ما كان في مجلسه ذلك »(1/2424)
وقوله تعالى : { وَمِنَ الليل فَسَبِّحْهُ } أي أذكره وأعبده بالتلاوة والصلاة في الليل ، كما قال تعالى : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [ الإسراء : 79 ] ، وقوله تعالى : { وَإِدْبَارَ النجوم } قد تقدم عن ابن عباس : أنهما الركعتان اللتان قبل صلاة الفجر ، فإنهما مشروعتان عند إدبار النجوم أي عند جنوحها للغيبوبة ، لحديث : « لا تدعوهما وإن طردتكم الخيل ، يعني ركعتي الفجر » وقد ثبت في « الصحيحين » عن عائشة رضي الله عنها قالت : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم على شيء من النوافل أشد تعاهداً منه على ركعتي الفجر ، وفي لفظ لمسلم : « ركعتا الفجر خير من الدنيا وما فيها » .(1/2425)
وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى (1) مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى (2) وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى (3) إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى (4)
قال الشعبي : الخالق يقسم بما شاء من خلقه ، والمخلوق لا ينبغي له أن يقسم إلا بالخالق ، واختلف المفسرون في معنى قوله : { والنجم إِذَا هوى } فقال مجاهد : يعني بالنجم الثريا إذا سقطت مع الفجر ، واختاره ابن جرير ، وزعم السدي : أنها الزهرة ، وقال الضحاك : { والنجم إِذَا هوى } إذا رمي به الشياطين . وهذه الآية كقوله تعالى : { فَلاَ أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النجوم * وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ * إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } [ الواقعة : 75-77 ] . وقوله تعالى : { مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غوى } هذا هو المقسم عليه ، وهو الشهادة للرسول صلى الله عليه وسلم بأنه راشد ، تابع للحق ليس بضال ، والغاوي : مر العالم بالحق العادل عنه قصداً إلى غيره ، فنزه الله رسوله عن مشابهة أهل الضلال ، كالنصارى وطرائق اليهود ، وهي علم الشيء وكتمانه ، والعمل بخلافه ، بل هو صلاة الله وسلامه عليه ، وما بعثه الله به من الشرع العظيم ، في غاية الاستقامة والاعتدال والسداد ، ولهذا قال تعالى : { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى } أي ما يقول قولاً عن هوى وغرض { إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } أي إنما يقول ما أمر به ، يبلغه إلى الناس كاملاً موفوراً ، من غير زيادة ولا نقصان ، كما روى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن عمرو قال : كنت أكتب كل شيء أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم أريد حفظه فنهتني قريش ، فقالوا : « إنك تكتب كل شيء تسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم ورسول الله صلى الله عليه وسلم بشر يتكلم في الغضب ، فأمسكت عن الكتاب ، فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » اكتب فوالذي نفسي بيده ما خرج مني إلا الحق « وقال صلى الله عليه وسلم : » ما أخبرتكم أنه من عند الله فهو الذي لا شك فيه « » وعن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « » لا أقول إلا حقاً « قال بعض أصحابه : فإنك تداعبنا يا رسول الله؟ قال : » إني لا أقول إلا حقاً « » .(1/2426)
عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَى (6) وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَى (7) ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى (8) فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى (9) فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى (10) مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى (11) أَفَتُمَارُونَهُ عَلَى مَا يَرَى (12) وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18)
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أنه علَّمه { شَدِيدُ القوى } وهو جبريل عليه الصلاة والسلام ، كما قال تعالى : { إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * ذِي قُوَّةٍ عِندَ ذِي العرش مَكِينٍ } [ التكوير : 19-20 ] . وقال هاهنا : { ذُو مِرَّةٍ ; } أي ذو قوة ، قاله مجاهد ، وقال ابن عباس : ذو منظر حسن ، وقال قتادة : ذو خَلْق طويل حسن ، ولا منافاة بين القولين فإنه عليه السلام ذو منظر حسن وقوة شديدة ، وقد ورد في الحديث الصحيح : « لا تحل الصدقة لغني ، ولا لذي مِرّة سوي » ، وقوله تعالى : { فاستوى } يعني جبريل عليه السلام { وَهُوَ بالأفق الأعلى } يعني جبريل استوى في الأفق الأعلى ، قال عكرمة { الأفق الأعلى } الذي يأتي منه الصبح ، وقال مجاهد : هو مطلع الشمس ، قال ابن مسعود : « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ير جبريل في صورته إلا مرتين : أما واحدة فإنه سأله أن يراه في صورته فسد الأُفق ، وأما الثانية فإنه كان معه حيث صعد ، فذلك قوله : { وَهُوَ بالأفق الأعلى } » وهذه الرؤية لجبريل لم تكن ليلة الإسراء بل قبلها ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض ، فهبط عليه جبريل عليه السلام وتدلى إليه ، فاقترب منه وهو على الصورة التي خلقه الله عليها له ستمائة جناح ، ثم رآه بعد ذلك نزلة أُخْرى عند سدرة المنتهى يعني ليلة الإسراء ، وكانت هذه الرؤية الأولى في أوائل البعثة بعد ما جاءه جبريل عليه السلام أول مرة ، فأوحى الله إليه صدر سورة اقرأ ، روى الإمام أحمد ، عن عبد الله أنه قال : « رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته ، وله ستمائة جناح ، كل جناح منها قد سد الأُفق يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم » .
وقوله تعالى : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى } أي فاقترب جبريل إلى محمد لما هبط عليه إلى الأرض ، حتى كان بينه وبين محمد صلى الله عليه وسلم { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ } أي يقدرهما إذا مدّا ، قال مجاهد وقتادة . وقوله { أَوْ أدنى } هذه الصبغة تستعمل في اللغة لإثبات المخبر عنه ، ونفي ما زاد عليه كقوله تعالى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] أي ما هي بألين من الحجارة بل هي مثلها أو تزيد عليها في الشدة والقسوة ، وكذا قوله : { يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [ النساء : 77 ] ، وقوله : { وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] أي ليسوا أقل منها بل هم مائة ألف حقيقة أو يزيدون عليها ، فهذا تحيق للمخبر به لا شك ، وهكذا هذه الآية { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى } وهذا الذي قلناه من أن هذا المقترب الداني إنما هو جبريل عليه السلام ، هو قول عاشئة وابن مسعود وأبي ذر كما سنورد أحاديثهم قريباً إن شاء الله تعالى .(1/2427)
وروى مسلم في « صحيحه » عن ابن عباس أنه قال : « رأى محد ربه بفؤاده مرتين » فجعل هذه إحداهما ، وجاء في حديث الإسراء : « ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى » ولهذا قد تكلم كثير من الناس في متن هذه الرواية ، فإن صح فهو محمول على وقت آخر وقصة أُخْرَى ، لا أنها تفسير لهذه الآية ، فإن هذه كانت ورسول الله صلى الله عليه وسلم في الأرض لا ليلة الإسراء ، ولهذا قال بعده : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى * عِندَ سِدْرَةِ المنتهى } فهذه هي ليلة الإسراء والأولى كانت في الأرض ، وقال ابن جرير ، قال عبد الله بن مسعود في هذه الآية : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى } قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رأيت جبريل له ستمائة جناح » وروى البخاري ، عن الشيباني قال : سألت زراً عن قوله : { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى * فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى } قال : حدثنا عبد الله أن محمداً صلى الله عليه وسلم رأى جبريل له ستمائة جناح . فعلى ما ذكرناه يكون قوله : { فأوحى إلى عَبْدِهِ مَآ أوحى } معناه فأوحى جبريل إلى عبد الله محمد ما أوحى ، أو فأوحى الله إلى عبده محمد ما أوحى بواسطة جبريل؛ وكلا المعنيين صحيح ، وقوله تعلى : { مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى * أَفَتُمَارُونَهُ على مَا يرى } قال مسلم ، عن أبي العالية ، عن ابن عباس { مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى } ، { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى } قال : رآه بفؤاده مرتين ، وقد خالفه ابن مسعود وغيره ، ومن روى عنه بالبصر فقد أغرب ، وقول البغوي في « تفسيره » : وذهب جماعة إلى أنه رآه بعينه وهو قول أنَس والحسن وعكرمة فيه نظر ، والله أعلم .
وروى الترمذي ، عن عكرمة ، عن ابن عباس قال : رأى محمد ربه ، قلت : أليس الله يقول : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } [ الأنعام : 103 ] قال : ويحك ذاك إذا تجلى بنوره الذي هو نوره ، وقد رأى ربه مرتين . وقال أيضاً : لقي ابن عباس كعباً بعرفة فسأله عن شيء فكبّر حتى جاوبته الجبال ، فقال ابن عباس : إنا بنو هاشم ، فقال كعب : إن الله قسم رؤيته وكلامه بين محمد وموسى ، فكلم موسى مرتين ، ورآه محمد مرتين ، وقال مسروق : دخلت على عائشة فقلت : هل رأى محمد ربه؟ فقالت : لقد تكلمت بشيء وقف له شعري ، فقلت : رويداً ، ثم قرأت : { لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } ، فقالت : أين يذهب بك؟ إنما هو جبريل ، من أخبرك أن محمداً رأى ربه ، أو كتم شيئاً مما أمر به ، أو يعلم الخمس التي قال الله تعالى :(1/2428)
« { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث } [ لقمان : 34 ] فقد أعظم على الله الفرية ، ولكنه رأى جبريل؛ لم يره في صورته إلا مرتين؛ مرة عند سدرة المنتهى ، ومرة في أجياد ، وله ستمائة جناح قد سد الأفق » وروى النسائي ، عن ابن عباس قال : أتعجبون أن تكون الخلة لإبراهيم ، و الكلام لموسى ، والرؤية لمحمد عليهم السلام؟ وفي « صحيح مسلم » ، عن أبي ذر قال : « سألت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم هل رأيت ربك؟ فقال : » نورٌ أنّى أراه « » ؟ وفي رواية : « رأيت نوراً » ، وروى ابن أبي حاتم ، عن عباد بن منصور قال : سألت عكرمة عن قوله : { مَا كَذَبَ الفؤاد مَا رأى } فقال عكرمة : تريد أن أخبرك أنه قد رآه؟ قلت : نعم ، قال : قد رآه ، ثم قد رآه ، قال : فسألت عنه الحسن ، فقال : قد رأى جلاله وعظمته ورداءه « . فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » رأيت ربي عزّ وجلّ « ، فإنه حديث إسناده على شرط الصحيح ، لكنه مختصرب من حديث المنام ، كما رواه أحمد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » أتاني ربي الليلة في أحسن صورة أحسبه يعني في النوم فقال : يا محمد أتدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال ، قلت : لا ، فوضع ييده بين كتفيَّ حتى وجدت بردها بين ثدييَّ أو قال نحري فعلمت ما في السماوات وما في الأرض ، ثم قال : يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟ قال ، قلت : نعم ، يختصمون في الكفارات والدرجات ، قال : وما الكفارات؟ قال ، قلت : المكمث في المساجد بعد الصلوات ، والمشي على الأقدام إلى الجماعات ، وإبلاغ الوضوء في المكاره ، من فعل ذلك عاش بخير ومات بخير وكان من خطيئته كيوم ولدته أمه . وقال : قل يا محمد إذا صليت : اللهم إني أسألك فعل الخيرات وترك المنكرات وحب المساكين ، وإذا أردت بعبادك : فتنة أن تقبضني إليك غير مفتون ، وقال : والدرجات ، بذل الطعام وإفشاء السلام ، والصلاة بالليل والناس نيام « .
وقوله تعالى كم { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى * عِندَ سِدْرَةِ المنتهى * عِندَهَا جَنَّةُ المأوى } هذه هي المرة الثانية التي رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها جبريل على صورته التي خلقه الله عليها وكانت ليلة الإسراء ، روى الإِمام أحمد ، عن عامر قال : » أتى مسروق عائشة فقال : يا أُم المؤمنين هل رأى محمد صلى الله عليه وسلم ربه عزّ وجلّ؟ قالت : سبحان الله لقد وقفَّ شعري لما قلت! أين أنت من ثلاث ، من حدثكهن فقد كذب؟ من حدثك أن محمداً رأى ربه فقد كذب ، ثم قرأت : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } [ الأنعام : 103 ] ، { وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ الله إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِن وَرَآءِ حِجَابٍ } [ الشورى : 51 ] ، ومن أخبرك أنه يعلم ما في غد ، ومن أخبرك أن محمداً قد كتم فقد كذب ، ثم قرأت { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام } [ لقمان : 34 ] الآية ، ومن أخبرك أن محمداً قد كتم فقد كذب ، ثم قرأت { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } [ المائدة : 67 ] ؛ ولكنه رأى جبريل في صورته مرتين «(1/2429)
، وروى الإمام أحمد أيضاً عن مسروق قال : « كنت عند عائشة فقلت أليس الله يقول { وَلَقَدْ رَآهُ بالأفق المبين } [ التكوير : 23 ] ، { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى } فقالت : أنا أول هذه الأمة سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها فقال : » إنما ذاك جبريل « لم يره في صورته التي خلق عليها إلا مرتين ، رآه منهبطاً من السماء إلى الأرض ساداً عظم خلقه ما بين السماء والأرض » .
وقال مجاهد في قوله : { وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أخرى } قال : رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل في صورته مرتين ، وقوله تعالى : { إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى } قد تقدم في أحاديث الإسراء أنه غشيتها الملائكة مثل الغربان ، وغشيها نور الرب ، وغشيها ألوان ما أدري ما هي . روى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن مسعود قال : « لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى ، وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط به من فوقها فيقبض منها ، { إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى } قال : فراش من ذهب ، قال : وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لا يشرك بالله شيئاً من أمته المقحمات » وعن مجاهد قال : « كان أغصان السدرة لؤلؤاً وياقوتاً وزبرجداً ، فرآها محمد صلى الله عليه وسلم ورأى ربه بقلبه ، وقاتل ابن زيد : قيل يا رسول الله أي شيء رأتي يغشى تلك السدرة؟ قال : » رأيت يغشاها فراش من ذهب ، ورأيت على كل ورقة من ورقها ملكاً قائماً يسبح الله عزّ وجلّ « » وقوله تعالى : { مَا زَاغَ البصر } قال ابن عباس : ما ذهب يميناً ولا شمالاً ، { وَمَا طغى } ما جاوز ما أمر به ، ولا سأل فوق ما أعطي ، وما أحسن ما قال الناظم :
رأى جنة المأوى وما فوقها ولو ... رأى غير ما قد رآه لتاها
وقوله تعالى : { لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } كقوله : { لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ } [ الإسراء : 1 ] أي الدالة على قدرتنا وعظمتنا .(1/2430)
أَفَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَالْعُزَّى (19) وَمَنَاةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرَى (20) أَلَكُمُ الذَّكَرُ وَلَهُ الْأُنْثَى (21) تِلْكَ إِذًا قِسْمَةٌ ضِيزَى (22) إِنْ هِيَ إِلَّا أَسْمَاءٌ سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى (23) أَمْ لِلْإِنْسَانِ مَا تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَالْأُولَى (25) وَكَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَرْضَى (26)
يقول تعالى مقرعاً للمشركين في عبادتهم الأصنام والأوثان ، واتخاذهم لها البيوت مضاهاة للكعبة التي بناها خليل الرحمن ، { أَفَرَأَيْتُمُ اللات } ؟ وكانت اللات صخرة بيضاء منقوشة ، عليها بيت بالطائف ، له أستار وسدنة ، يفتخرون بها على من عداهم من أحياء العرب بعد قريش ، قال ابن جرير : وكانوا قد اشتقوا اسمها من اسم الله فقالوا : اللات يعنون مؤنثة منه ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله : { اللات والعزى } قال : كان اللات رجلاً يلت السويق سويق الحاج . قال ابن جرير : وكذا العزى من العزيز وكانت الشجرة عليها بناء وأستار بنخلة وهي بين مكة والطائف كانت قريش يعظمونها كما قال أبو سفيان يوم أحد : « لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » قولوا الله مولانا ولا مولى لكم « » ، وروى البخاري ، عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من حلف فقال في حلفه واللات والعزى فليقل لا إله إلا الله ، ومن قال لصاحبه : تعالى أُقامرك فليتصدق » ، فهذا محمول على من سبق لسانه في ذلك كما كانت ألسنتهم قد اعتادته من زمن الجاهلية ، كما قال النسائي ، وأما مناة فكانت بالمشلل بين مكة والمدينة ، وكانت خزاعة والأوس والخزرج في جاهليتها يعظمونها ويهلون منها للحج إلى الكعبة ، وإنما أفرد هذه بالذكر لأنها أشهر من غيرها ، قال ابن إسحاق : كانت العرب اتخذت مع الكعبة طواغيت ، وهي بيوت تعظمها ، كتعظيم الكعبة ، لها سدنة وحجاب تطوف بها كطوافها بها وتنحر عندها ، فكانت لقريش ولبني كنانة ( العزى ) بنخلة ، وكان سدنتها وحجابها ( بني شيبان ) من سليم حلفاء بن هاشم ، قلت : بعث إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد فهدمها وجعل يقول :
يا عز كفرانك لا سبحانك ... إني رأيت الله قد أهانك
ولهذا قال تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى * وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى } ؟ ثم قال تعالى : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى } ؟ أي أتجعلون له ولداً وتجعلون ولده أنثى ، وتختارون لأنفسكم الذكر ، فلو اقتسمتم أنتم ومخلوق مثلكم هذه القسمة لكانت { قِسْمَةٌ ضيزى } أي جوراً باطلة ، فكيف تقاسمون ربكم هذه القسمة ، التي لو كانت بين المخلوقين كانت جوراً وسفهاً .
ثم قال تعالى منكراً عليهم فيما ابتدعوه وأحدثوه من عبادة الأصنام وتسميتها آلهة { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم } أي من تلقاء أنفسكم { مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } أي من حجة { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَمَا تَهْوَى الأنفس } أي ليس له مستند إلا حسن ظنهم بآبائهم ، الذين سلكوا هذا المسلك الباطل قبلهم ، وإلا حظ نفوسهم وتعظيم آبائهم الأقدمين ، { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّن رَّبِّهِمُ الهدى } أي ولقد أرسل الله إليهم الرسل ، بالحق المنير والحجة القاطعة ، ومع هذا ما اتبعوا ما جاءهم به ولا انقادوا له ، ثم قال تعالى : { أَمْ لِلإِنسَانِ مَا تمنى } أي ليس كل من تمنى خيراً حصل له ،(1/2431)
{ لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب } [ النساء : 123 ] ولا كل من ود شيئاً يحصل له ، كما روى : « إذا تمنى أحدكم فلينظر ما يتمنى فإنه لا يدري ما يكتب له من أمنيته » وقوله : { فَلِلَّهِ الآخرة والأولى } أي إنما الأمر كله لله ، مالك الدنيا والآخرة والمتصرف فيهما ، وقوله تعالى : { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى } ، كقوله : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] فإذا كان هذا في حق الملائكة المقربين ، فكيف ترجون - أيها الجاهلون - شفاعة هذه الأصنام والأنداد عند الله؟ وهو تعالى لم يشرع عبادتها ولا أذن فيها؟(1/2432)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلَائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثَى (27) وَمَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا (28) فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (29) ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدَى (30)
يقول تعالى منكراً على المشركين ، في تسميتهم الملائكة تسمية الأنثى ، وجعلهم لها أنها بنات الله ، تعالى الله عن ذلك ، كما قال الله تعالى : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً أَشَهِدُواْ خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ } [ الزخرف : 19 ] ولهذا قال تعالى : { وَمَا لَهُم بِهِ مِنْ عِلْمٍ } أي ليس لهم علم صحيح يصدق ما قالوه ، بل هو كذب وزور وافتراء وكفر شنيع ، { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنَّ الظن لاَ يُغْنِي مِنَ الحق شَيْئاً } أي لا يجدي شيئاً ولا يقوم أبداً مقام الحق ، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث » وقوله تعالى : { فَأَعْرِضْ عَن مَّن تولى عَن ذِكْرِنَا } أي أعرض عن الذي أعرض عن الحق واهجره ، وقوله : { وَلَمْ يُرِدْ إِلاَّ الحياة الدنيا } أي وإنما أكثر همه ومبلغ علمه الدنيا ، فذاك هو غاية ما لا خير فيه ، ولهذا قال تعالى : { ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِّنَ العلم } أي طلب الدنيا والسعي لها هو غاية ما وصلوا إليه ، وقد روي عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له » ، وفي الدعاء المأثور : « اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ، ولا مبلغ علمنا » ، وقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهتدى } أي هو الخالق لجميع المخلوقات ، والعالم بمصالح عباده ، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وذلك كله عن قدرته وعلمه وحكمته .(1/2433)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ إِلَّا اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَإِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ فَلَا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقَى (32)
يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض ، وأنه الغني عما سواه ، الحاكم في خلقه بالعدل ، وخلق الخلق بالحق { لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى } أي يجازي كلاً بعمله ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، ثم فسر المحسنين بأنهم الذين يجتنبون كبائر الإثم والفواحش ، أي لا يتعاطون المحرمات الكبائر ، وإن وقع بعض الصغائر فإنه يغفر لهم ويستر عليهم كما قال في الآية الأُخْرى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } [ النساء : 31 ] ، وقال هاهنا : { الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم } ، وهذا استثناء منقطع لأن اللمم من صغائر الذنوب ومحقرات الأعمال ، عن ابن عباس قال : ما رأيت شيئاً أشبه باللمم مما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : قال : « إن الله تعالى كتب على أبن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العين النظر ، وزنا اللسان النطق ، والنَّفْس تمنّى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه » وقال عبد الرحمن بن نافع : سألت أبا هريرة عن قوله الله : { إِلاَّ اللمم } ، قال : القُبْلة ، والغمزة ، والنظرة ، والمباشرة ، فإذا مس الختان الختان ، فقد وجب الغسل وهو الزنا ، وقال ابن عباس : { إِلاَّ اللمم } إلا ما سلف ، وكذا قال زيد بن أسلم ، وروى ابن جرير ، عن مجاهد أنه قال في هذه الآية : { إِلاَّ اللمم } قال : الذي يلم بالذنب ثم يدعه ، قال الشاعر :
إن تغفر اللهم تغفرجماً ... وأيّ عبد لك ما ألما؟
وعن الحسن في قوله الله تعالى : { الذين يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإثم والفواحش إِلاَّ اللمم } قال : اللمم من الزنان ، أو السرقة ، أو شرب الخمر ثم لا يعود ، وروى ابن جرير ، عن عطاء ، عن ابن عباس : { إِلاَّ اللمم } يلم بها في الحين . قلت : الزنا؟ قال : الزنا ثم يتوب . وعنه قال : اللمم الذي يلم المرأة ، وقال السدي ، قال أبو صالح : سئلت عن اللمم ، فقلت : هو الرجل يصيب الذنب ثم يتوب ، وأخبرت بذلك ابن عباس فقال : لقد أعانك عليها ملك كريم .
وقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ وَاسِعُ المغفرة } أي رحمته وسعت كل شيء ، ومغفرته تسع الذنوب كلها لمن تاب منها ، كقوله تعالى : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } [ الزمر : 53 ] ، وقوله تعالى : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض } أي هو مصير بكم ، عليم بأحوالكم وأفعالكم حين أنشأ أباكم آدم من الأرض ، واستخرج ذريته من صلبه أمثال الذر ، ثم قسمهم فريقين : فريقاً للجنة ، وفريقاً للسعير ، وكذا قوله : { وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ } قد كتب الملك الذي يوكل به رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد .(1/2434)
وقوله تعالى : { فَلاَ تزكوا أَنفُسَكُمْ } أي تمدحوها وتشكروها وتمنوا بأعمالكم { هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتقى } ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } [ النساء : 49 ] الآية . روى مسلم في « صحيحه » ، عن محمد بن عمرو بن عطاء قال : « سميت ابنتي برة ، فقالت لي زينب بنت أبي سلمة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن هذا الاسم ، وسميت برة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا تزكوا أنفسكم إن الله أعلم بأهل البر منكم « ، فقالوا : بما نسميها؟ قال : » سموها زينب « » وقد ثبت أيضاً ، عن أبي بكرة قال : مدح رجل رجلاً عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ويلك قطعت عنق صاحبك مراراً إذا كان أحدكم مادحاً صاحبه لا حالة فليقل أحسب فلاناً والله حسيبه ، ولا أزكي على الله أحداً ، أحسبه كذا وكذا إن كان يعلم ذلك » وروى الإمام أحمد ، عن همام بن الحارث قال : « جاء رجل إلى عثمان فأثنى عليه في وجهه ، قال : فجعل المقداد بن الأسود يحثو في وجهه التراب ، ويقول : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا لقينا المداحين أن نحثو في وجوههم التراب » .(1/2435)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَأَعْطَى قَلِيلًا وَأَكْدَى (34) أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41)
يقول تعالى ذاماً لمن تولى عن طاعة الله { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولكن كَذَّبَ وتولى } [ القيامة : 31-32 ] ، { وأعطى قَلِيلاً وأكدى } قال ابن عباس : أطاع قليلاً ثم قطعه ، قال عكرمة : كمثل القوم إذا كانوا يحفرون بئراً فيجدون في أثناء الحفر صخرة تمنعهم من تمام العمل ، فيقولون : أكدينا ويتركون العمل ، وقوله تعالى : { أَعِندَهُ عِلْمُ الغيب فَهُوَ يرى } أي أعند هذا الذي أمسك يده خشية الإنفاق ، وقطع معروفه ، أعنده علم الغيب أنه سينفد ما في يده حتى أمسك عن معروفه فهو يرى ذلك عياناً؟ أي ليس الأمر كذلك ، وإنما أمسك عن الصدقة والبر والصلة بخلاً وشحاً وهلعاً ، ولهذا جاء ي الحديث : « أنفق بلالاً ، ولا تخش من ذي العرش إقلالاً » ، وقد قال الله تعالى : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرازقين } [ سبأ : 39 ] ، وقوله تعالى : { أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ موسى * وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } ؟ أي بلّغ جميع ما أمر به ، قال ابن عباس : { وفى } لله بالبلاغ ، وقال سعيد بن جبير : { وفى } ما أمر به ، وقال قتادة : { وفى } طاعة الله وأدى رسالته إلى خلقه ، وهذا القول هو اختيار ابن جرير وهو يشمل الذي قبله ، ويشهد له قوله تعالى : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [ البقرة : 124 ] فقام بجميع الأوامر ، وترك جميع النواهي ، وبلغ الرسالة على التمام والكمال ، فاستحق بهذا أن يكون للناس إماماً يقتدى به . قال الله تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } [ النحل : 123 ] . روى ابن حاتم ، عن أبي أمامة قال : « تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } قال : » أتدري ما وفّى «؟ قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : » وفّى عمل يومه بأربع ركعات من أول النهار « » وعن سهل بن معاذ بن أنَس ، عن أبيه ، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال : « ألا أخبركم لم سمى الله تعالى إبراهيم خليله الذي وفَى؟ إنه كان يقول كلما أصبح وأمسى : { فَسُبْحَانَ الله حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ } » [ الروم : 17 ] حتى ختم الآية .
ثم شرع تعالى يبيّن ما كان أوحاه في صحف إبراهيم وموسى فقال : { أَلاَّ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } أي كل نفس ظلمت نفسها بكفر أو شيء من الذنوب ، فإنما عليها وزرها لا يحمله عنها أحد ، كما قال : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } [ فاطر : 18 ] ، { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى } أي كما لا يحمل عليه وزر غيره ، كذلك لا يحصل من الأجر إلا ما كسب هو لنفسه ، ومن هذه الآية الكريمة استنبط الشافعي رحمه الله ، أن القراءة لا يصل إهداء ثوابها إلى الموتى ، لأنه ليس من عملهم ولا كسبهم ، ولهذا لم يندب إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أمته ولا حثهم عليه ، ولم ينقل ذلك عن أحد من الصحابة رضي الله عنهم ، ولو كان خيراً لسبقونا إليه ، فأما الدعاء والصدقة فذاك مجمع على وصولهما ومنصوص من الشارع عليهما ، وأما الحديث الذي رواه مسلم في « صحيحه » عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/2436)
« إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث : من ولد صالح يدعو له ، أو صدقة جارية من بعده ، أو علم ينتفع به » فهذه الثلاثة في الحقيقة هي من سعيه وكده وعمله ، كما جاء في الحديث : « إن أطيب ما أكل الرجل من كسبه وإن ولده كسبه » ، والصدقة الجارية كالوقف ونحوه هي من آثار عمله ووقفه ، وقد قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الموتى وَنَكْتُبُ مَاَ قَدَّمُواْ وَآثَارَهُمْ } [ يس : 12 ] الآية ، والعلم الذي نشره في الناس فاقتدى به الناس بعده هو ايضاً من سعيه وعمله ، وثبت في الصحيح : « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً » ، وقوله تعالى : { وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى } أي يوم القيامة ، كقوله تعالى : { وَقُلِ اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون } [ التوبة : 105 ] ، فيجزيكم عليه أتم الجزاء إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، وهكذا قال هاهنا { ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزآء الأوفى } أي الأوفر .(1/2437)
وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنْتَهَى (42) وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى (43) وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا (44) وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى (46) وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى (47) وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى (48) وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى (49) وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى (50) وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى (51) وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى (52) وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى (53) فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى (55)
يقول تعالى : { وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى } أي المعاد يوم القيامة ، عن عمرو بن ميمون الأودي ، قال : قام فينا معاذ بن جبل فقال : يا بني أود! إن رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم ، تعلمون أن المعاد إلى الله ، إلى الجنة أو إلى النار ، وذكر البغوي عن أُبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَأَنَّ إلى رَبِّكَ المنتهى } قال : « لا فكرة في الرب » ، وفي الصحيح : « يأتي الشيطان أحدكم فيقول : من خلق كذا من خلق كذا؟ حتى يقول : من خلق ربك؟ فإذا بلغ أحدكم ذلك فليستعذ بالله ولينته » وفي الحديث الذي في « السنن » : « تفكروا في مخلوقات الله ولا تفكروا في ذات الله ، فإن الله تعالى خلق ملكاً ما بين شحمة أذنه إلى عاتقه مسيرة ثلاثمائة سنة » ، أو ما قال ، وقوله تعالى : { وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وأبكى } أي خلق الضحك والبكاء وهما مختلفان { وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا } ، كقوله : { الذي خَلَقَ الموت والحياة } [ الملك : 2 ] ، { وَأَنَّهُ خَلَقَ الزوجين الذكر والأنثى * مِن نُّطْفَةٍ إِذَا تمنى } ، كقوله : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى * أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِّن مَّنِيٍّ يمنى } [ القيامة : 36-37 ] ؟ وقوله تعالى : { وَأَنَّ عَلَيْهِ النشأة الأخرى } ، أي كما خلق البداءة هو قادر على الإعادة ، وهي النشأة الآخرة يوم القيامة { وَأَنَّهُ هُوَ أغنى وأقنى } ، أي ملك عباده المال وجعله لهم ( قنية ) مقيماً عندهم لا يحتاجون إلى بيعه ، فهذا تمام النعمة عليهم ، وعن مجاهد { أغنى } مؤل { وأقنى } أخدم ، وقال ابن عباس { أغنى } : أعطى ، { وأقنى } : رضّى ، وقوله : { وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشعرى } قال ابن عباس : هو هذا النجم الوقاد الذي يقال له مرزم الجوزاء ، كانت طائفة من العرب يعبدونه ، { وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَاداً الأولى } وهم قوم ( هود ) ويُقال لهم ( عاد بن إرم ) ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد * التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد } [ الفجر : 6-8 ] ؟ فكانوا من أشد الناس وأقواهم ، وأعتاهم على الله تعالى وعلى رسوله فأهلكهم الله { بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة : 6 ] ، وقوله تعالى : { وَثَمُودَ فَمَآ أبقى } أي دمرهم فلم يبق منهم أحداً ، { وَقَوْمَ نُوحٍ مِّن قَبْلُ } أي من قبل هؤلاء { إِنَّهُمْ كَانُواْ هُمْ أَظْلَمَ وأطغى } أي أشد تمرداً من الذين بعدهم ، { والمؤتفكة أهوى } يعني مدائن لوط قلبها عليهم فجعل عاليها سافلها ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود ، ولهذا قال : { فَغَشَّاهَا مَا غشى } يعني من الحجارة التي أرسلها عليهم { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تتمارى } ؟ أي ففي أن نعم الله عليك أيها الإنسان تمتري قال قتادة ، وقال ابن جريج : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكَ تتمارى } ؟ يا محمد ، والأول أولى وهو اختيار ابن جرير .(1/2438)
هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ (58) أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59) وَتَضْحَكُونَ وَلَا تَبْكُونَ (60) وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَاعْبُدُوا (62)
{ هذا نَذِيرٌ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، { مِّنَ النذر الأولى } أي من جنسهم أرسل كما أرسلوا ، كما قال تعالى : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل } [ الأحقاف : 9 ] ، { أَزِفَتِ الآزفة } أي اقتربت القريبة وهي القيامة ، { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله كَاشِفَةٌ } أي لا يدفعها إذاً من دون الله أحد ، ولا يطلع على علمها سواه ، و ( النذير ) الحذر لما يعاين من الشر ، الذي يخشى وقوعه فيمن أنذرهم ، وفي الحديث : « أنا النذير العريان » أي الذي أعجله شدة ما عاين من الشر عن أن يلبس عليه شيئاً ، بل بادر إلى إنذار قومه قبل ذلك ، فجاءهم عرياناً مسرعاً وهو مناسب لقوله : { أَزِفَتِ الآزفة } أي اقتربت القريبة يعني يوم القيامة ، قال صلى الله عليه وسلم : « مثلي ومثل الساعة كهاتين » ، وفرّق بين أصبعيه الوسطى والتي تلي الإبهام . ثم قال تعالى منكراً على المشركين في استماعهم القرآن وإعراضهم عنه وتلهيهم { أَفَمِنْ هذا الحديث تَعْجَبُونَ } ؟ من أن يكون صحيحاً ، { وَتَضْحَكُونَ } منه استهزاء وسخرية ، { وَلاَ تَبْكُونَ } أي كما يفعل الموقون به كما أخبر عنهم ، { َيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } [ الإسراء : 109 ] ، وقوله تعالى : { وَأَنتُمْ سَامِدُونَ } قال ابن عباس : { سَامِدُونَ } معرضون ، وكذا قال مجاهد وعكرمة ، وقال الحسن : غافلون ، وهو رواية عن علي بن أبي طالب ، وفي رواية عن ابن عباس : تستكبرون ، وبه يقول السدي . ثم قال تعالى آمراً لعباده بالسجود له والعبادة : { فاسجدوا لِلَّهِ واعبدوا } ، أي فاخضعوا له وأخلصوا ووحّدوه . روى البخاري عن ابن عباس قال : « سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالنجم وسجد معه المسلمون والمشركون والجن والإنس » .(1/2439)
اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَكَذَّبُوا وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ وَكُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنَ الْأَنْبَاءِ مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4) حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ (5)
يخبر تعالى عن اقتراب الساعة وفراغ الدنيا وانقضائها ، كما قال تعالى : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] ، وقال : { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] ، وقد وردت الأحاديث بذلك ، روى الحافظ أبو بكر البزار ، عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب أصحابه ذات يوم وقد كادت الشمس أن تغرب فلم يبق منها إلا سف يسير فقال : « والذي نفسي بيده ما بقي من الدنيا فيما مضى منها إلا كما بقي من يومكم هذا فيما مضى منه وما نرى من الشمس إلا يسيراً » ، وقال الإمام أحمد ، عن سهل بن سعد قال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » بعثت أنا والساعة هكذا « وأشار بأصبعيه السبابة والوسطى » ، وفي لفظ : « بعثت أنا والساعة كهذه من هذه إن كادت لتسبقني » وجمع الأعمش بين السبابة والوسطى ، وقال الإمام أحمد ، عن خالد بن عمير ، قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : فحمد الله تعالى وأثنى عليه ثم قال : « أما بعد ، فإن الدنيا قد آذنت بصُرْم وولت حَذَّاءَ ، ولم يبق منه إلا صُبابة الإناء يتصابها صاحبها ، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها ، فانتقلوا منها بخير ما يحضرنكم ، فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفير جهنم فيهوي فيها سبعين عاماً ما يدرك لها قعراً ، والله لتملؤنه أفعجبتم؟ والله لقد ذكرنا لنا أن ما بين مصراعي الجنة مسيرة أربعين عاماً ، وليأتين عليه يوم وهو كظيظ من الرخام » وذكر تمام الحديث . وعن عبد الرحمن السلمي قال : نزلنا المدائن فكنا منها على فرسخ فجاءت الجمعة أبي وحضرت معه ، فخطبنا حذيفة فقال : ألا إن الله يقول : { اقتربت الساعة وانشق القمر } ، ألا وإن الساعة قد اقتربت ، ألا وإن القمر قد انشق ، ألا وإن الدنيا قد آذنت بفراق ، ألا وإن اليوم المضمار وغداً السباق ، فقلت لأبي أيستبق الناس غداً؟ فقال : يا بني إنك لجاهل إنما هو السباق بالأعمال ، وقوله تعالى : { وانشق القمر } قد كان هذا في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما ورد ذلك في الأحاديث المتواترة بالأسانيد الصحيحة ، وقد ثبت في الصحيح عن ابن مسعود أنه قال : « خمس قد مضين : الروم والدخان واللزام والبطشة والقمر » ، وهذا أمر متفق عليه بين العلماء أن انشقاق القمر قد وقع في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنه كان إحدى المعجزات الباهرات .
( ذكر الأحاديث الواردة في ذلك )
( رواية أنَس بن مالك ) : روى الإمام أحمد عن أنَس بن مالك قال : « سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم آية فانشق القمر بمكة مرتين ، فقال : { اقتربت الساعة وانشق القمر } »(1/2440)
، وعن أنَس بن مالك « أن أهل مكة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يريهم آية ، فأراهم القمر شقين حتى رأوا حِراء بينهما » وروى الإمام أحمد ، عن جبير بن مطعم قال : « انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين فرقة على هذا الجبل ، وفرقة على هذا الجبل ، فقالوا : سحرنا محمد ، فقالوا : إن كان سحرنا فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم » وروى البخاري ، عن ابن عباس قال : انشق القمر في زمان النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله تعالى : { اقتربت الساعة وانشق القمر } ، { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً يُعْرِضُواْ وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } قال : قد مضى ذلك ، كان قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه ، وقال الحافظ البيهقي ، « عن عبد الله بن عمر في قوله تعالى : { اقتربت الساعة وانشق القمر } قال : وقد كان ذلك على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم انشق فلقتين ، فلقة من دون الجبل ، وفلقة من خلف الجبل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » اللهم اشهد « » وقال الإمام أحمد ، عن ابن مسعود قال : « انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم شقتين حتى نظروا إليه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم » اشهدوا « » ، وعن عبد الله بن مسعود قال : « انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت قريش : هذا سحر ابن أبي كبشة ، قال : فقالوا : انظروا ما يأتيكم به السفَّار ، فإن محمداً لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم ، قال : فجاء السفّار ، فقالوا : ذلك » وفي لفظ « انظروا السفّار ، فإن كانوا رأوا ما رأيتم فقد صدق ، وإن كانوا لم يروا مثل ما رأيتم فهو سحركم به ، قال : فسئل السفار ، قال : وقدموا من كله وجهة ، فقالوا : رأينا ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { اقتربت الساعة وانشق القمر } » وروى الإمام أحمد ، عن عبد الله قال : « انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى رأيت الجبل من بين فرجتي القمر » وقال ليث عن مجاهد : « انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصار فرقتين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأبي بكر : » اشهد يا أبا بكر « ، فقال المشركون : سحر القمر حتى انشق » ، وقوله تعالى : { وَإِن يَرَوْاْ آيَةً } أي دليلاً وحدة وبرهاناً { يُعْرِضُواْ } أي لا ينقادوا له بل يعرضوا عنه ، ويتركونه وراء ظهوركم { وَيَقُولُواْ سِحْرٌ مُّسْتَمِرٌّ } أي ويقولون هذا الذي شاهدناه من الحجج سحرٌ سحرنا به ، ومعنى { مُّسْتَمِرٌّ } أي ذاهب باطل مضمحل لا دوام له ، { وَكَذَّبُواْ واتبعوا أَهْوَآءَهُمْ } أي كذبوا بالحق إذ جاءهم ، واتبعوا ما أمرتهم به أراؤهم وأهواؤهم ، من جهلهم وسخافة عقلهم ، وقوله : { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } قال قتادة : معناه أن الخير واقع بأهل الخير ، والشر واقع بأهل الشر ، وقال جريج : مستقر بأهله ، وقال مجاهد : { وَكُلُّ أَمْرٍ مُّسْتَقِرٌّ } أي يوم القيامة ، وقال السدي : مستقر أي واقع .(1/2441)
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ جَآءَهُم مِّنَ الأنبآء } أي من الأخبار عن قصص الأمم المكذبين بالرسل ، وما حل بهم من العقاب والنكال والعذاب مما يتلى عليهم في هذا القرآن { مَا فِيهِ مُزْدَجَرٌ } أي مافيه واعظ لهم عن الشرك والتمادي على التكذيب ، وقوله تعالى : { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ } أي في هدايته تعالى لمن هداه وإضلاله لمن أضله { فَمَا تُغْنِ النذر } يعني أي شيء تغني النذر عمن كتب الله عليه الشقاوة وختم على قلبه؟ فمن الذي يهديه من بعد الله؟ وهذه الآية كقوله تعالى : { وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ] .(1/2442)
فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلَى شَيْءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعًا أَبْصَارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكَافِرُونَ هَذَا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)
يقول تعالى : فتول يا محمد عن هؤلاء الذين إذا رأوا آية يعرضوا ويقولوا هذا سحر مستمر ، أعرض عنهم وانتظرهم { يَوْمَ يَدْعُ الداع إلى شَيْءٍ نُّكُرٍ } أي إلى شيء منكر فظيع ، وهو موقف الحساب ، وما فيه من البلاء والأهوال ، { خُشَّعاً أَبْصَارُهُمْ } أي ذليلة أبصارهم ، { يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث } وهي القبور { كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُّنتَشِرٌ } أي كأنهم في انتشارهم وسرعة سيرهم إلى موقف الحساب إجابة للداعي ، جراد منتشر في الآفاق ، ولهذا قال : { مُّهْطِعِينَ } أي مسرعين { إِلَى الداع } ، لا يخافون ولا يتأخرون { يَقُولُ الكافرون هذا يَوْمٌ عَسِرٌ } أي يوم شديد الهول عبوس قمطرير ، كقوله تعالى : { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ } [ المدثر : 9-10 ] .(1/2443)
كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنَا وَقَالُوا مَجْنُونٌ وَازْدُجِرَ (9) فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَحَمَلْنَاهُ عَلَى ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ (13) تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِمَنْ كَانَ كُفِرَ (14) وَلَقَدْ تَرَكْنَاهَا آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (16) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17)
يقول تعالى : { كَذَّبَتْ } قبل قومك يا محمد { قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُواْ عَبْدَنَا } أي صرحوا له بالتكذيب واتهموه بالجنون ، { وَقَالُواْ مَجْنُونٌ وازدجر } قال مجاهد : أي استطير جنوناً ، وقيل : { وازدجر } أي انتهروه وزجروه وتواعدوه ، { قَالُواْ لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين } [ الشعراء : 116 ] قاله ابن زيد وهذا متوجه حسن ، { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر } أي إني ضعيف عن هؤلاء وعن مقاومتهم فانتصر أنت لدينك ، قال الله تعالى : { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } وهو الكثير ، { وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً } أي نبعت جميع أرجاء الأرض حتى التنانير التي هي محال النيران نبعت عيوناً ، { فَالْتَقَى المآء } أي من السماء والأرض { على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } أي أمر مقدر . قال ابن عباس : { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ } كثير لم تمطر السماء قبل ذلك اليوم ولا بعده إلا من السحاب ، فتحت أبواب السماء بالمء من غير سحاب ذلك اليوم ، فالتقى الماءان على أمر قد قدر ، { وَحَمَلْنَاهُ على ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ } قال ابن عباس : هي المسامير ، وقال مجاهد : الدسر أضلاع السفينة ، وقال عكرمة والحسن : هو صدرها الذي يضرب به الموج . وقال الضحّاك : الدسر طرفاها وأصلها ، وقال العوفي ، عن ابن عباس : هو كلكلها أي صدرها ، وقوله : { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا } أي بأمرنا بمرأى منا وتحت حفظنا وكلاءتنا { جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } أي جزاء لهم على كفرهم بالله ، وانتصاراً لنوح عليه السلام ، وقوله تعالى : { وَلَقَدْ تَّرَكْنَاهَا آيَةً } قال قتادة : أبقى الله سفينة نوح حتى أدركها أو هذه الأمة ، والظاهر أن المراد من ذلك جنس السفن كقوله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون } [ يس : 41 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية } [ الحاقة : 11 ] ، ولهذا قال هاهنا : { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي فهل من يتذكر ويتعظ؟ وقوله تعالى : { فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي كيف كان عذابي لمن كفر بي وكذب رسلي ولم يتعظ بما جاءت به نذري ، وكيف انتصرت لهم وأخذت لهم بالثأر ، { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ } أي سهلنا لفظه ويسرنا معناه لمن أراده ليتذكر الناس ، كما قال : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ ليدبروا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُواْ الألباب } [ ص : 29 ] ، وقال تعالى : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } [ مريم : 97 ] ، قال مجاهد : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ } يعني هوّنّا قرءاته ، وقال السدي : يسرنا تلاوته على الألسن ، وقال ابن عباس : لولا أن الله يسره على لسان الآدميين ما استطاع أحد من الخلق أن تكلم بكلام الله عزّ وجلّ ، وقوله : { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } أي فهل من متذكر بهذا القرآن الذي قد يسر الله حفظه ومعناه؟ وقال القرظي : فهل من منزجر عن المعاصي؟ وروى ابن أبي حاتم ، عن مطر الوراق في قوله تعالى : { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } هل من طالب علم فيعان عليه .(1/2444)
كَذَّبَتْ عَادٌ فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا صَرْصَرًا فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (21) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22)
يقول تعالى مخبراً عن عاد قوم ( هود ) أنهم كذبوا رسلهم ، كما صنع قوم ( نوح ) وأنه تعالى أرسل { عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً } ، وهي الباردة الشديدة البرد ، { فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُّسْتَمِرٍّ } عليهم نحسه ودماره ، لأنه يوم اتصل فيه عذابهم الدنيوي بالأخروي ، وقوله تعالى : { تَنزِعُ الناس كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ } وذلك أن الريح كانت تأتي أحدهم فتعرفه حتى تغيبه عن الأبصار ، ثم تنكسه على أم رأسه فيسقط إلى الأرض ، فتثلغ رأسه فيبقى جثةً بلا رأس ، ولهذا قال : { كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ مُّنقَعِرٍ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } .(1/2445)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقَالُوا أَبَشَرًا مِنَّا وَاحِدًا نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذًا لَفِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (24) أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَدًا مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26) إِنَّا مُرْسِلُو النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَاصْطَبِرْ (27) وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ الْمَاءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنَادَوْا صَاحِبَهُمْ فَتَعَاطَى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32)
وهذا إخبار عن ثمود أنهم كذبوا رسولهم صالحاً { فقالوا أَبَشَراً مِّنَّا وَاحِداً نَّتَّبِعُهُ إِنَّآ إِذاً لَّفِي ضَلاَلٍ وَسُعُرٍ } يقولون : لقد خبنا وخسرنا إن سلمنا كلنا قيادنا لواحد منا ، ثم تعجبوا من إلقاء الوحي عليه خاصة من دونهم ، ثم رموه بالكذب فقالوا { بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } أي متجاوز في حد الكذب ، قال الله تعالى : { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر } وهذا تهديد لهم شديد ووعيد أكيد ، ثم قال تعالى : { إِنَّا مُرْسِلُواْ الناقة فِتْنَةً لَّهُمْ } أي اختباراً لهم ، أخرج الله تعالى لهم ناقة عظيمة عشراء ، من صخرة صماء ، طبق ما سألوا ، لتكون حجة الله عليهم في تصديق ( صالح ) عليه السلام فيما جاءهم به ، ثم قال تعالى آمراً لعبده ورسوله صالح { فارتقبهم واصطبر } ، أي انتظر ما يؤول إليه أمرهم واصبر عليهم ، فإن العاقبة لك والنصر في الدنيا والآخرة { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ المآء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ } أي يوم لهم ويوم للناقة ، كقوله : { قَالَ هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [ الشعراء : 155 ] ، وقوله تعالى : { كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } قال مجاهد : إذا غابت حضروا الماء ، وإذا جاءت حضروا اللبن ، ثم قال تعالى : { فَنَادَوْاْ صَاحِبَهُمْ فتعاطى فَعَقَرَ } قال المفسرون : هو عاقر الناقة واسمه ( قدار بن سالف ) وكان أشقى قومه ، كقوله : { إِذِ انبعث أَشْقَاهَا } [ الشمس : 12 ] ، { فتعاطى } أي حسر { فَعَقَرَ * فَكَيْفَ كَانَ عَذَابِي وَنُذُرِ } أي فعاقبتهم فكيف كان عقابي لهم على كفرهم بي وتكذيبهم رسولي ، { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَكَانُواْ كَهَشِيمِ المحتظر } أي فبادوا عن آخرهم لم تبق منهم باقية ، وخمدوا وهمدوا كما يهمد يبيس الزرع والنبات ، قاله غير واحد من المفسرين و { المحتظر } قال السدي : هو المرعى بالصحراء حين ييبس ويحترق وتسفيه الريح ، وقال ابن زيد : كانت العرب يجعلون حظاراً على الإبل والمواشي من يبس الشوك ، فهو المراد من قوله : { كَهَشِيمِ المحتظر } .(1/2446)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِبًا إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْنَاهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنَا كَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ (35) وَلَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا فَتَمَارَوْا بِالنُّذُرِ (36) وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (37) وَلَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذَابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذَابِي وَنُذُرِ (39) وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)
يقول تعالى مخبراً عن قوم { لُوطٍ } كيف كذبوا رسولهم وخالفوه وارتكبوا المكروه ومن إتيان الذكور وهي ( الفاحشة ) التي لم يسبقهم بها أحد من العالمين ، ولهذا أهلكهم الله هلاكاً لم يهلكه أمة من الأمم ، فإنه تعالى أمر جبريل عليه السلام فحمل مدائنهم حتى وصل بها إلى عنان السماء ، ثم قلبها عليهم وأرسلها وأتبعت بحجارة من سجيل منضود ، ولهذا قال هاهنا : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً } وهي الجارة { إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ } أي خرجوا من آخر الليل فنجوا مما أصاب قومهم ، ولم يؤمن بلوط من قوله أحد ، حتة ولا امرأته أصابها ما أصاب قومها ، وخرج نبي الله لوط من بين أظهرهم سالماً لم يسمه سوء ، ولهذا قال : { كَذَلِكَ نَجْزِي مَن شَكَرَ * وَلَقَدْ أَنذَرَهُمْ بَطْشَتَنَا } أي ولقد كان قبل حلول العذاب بهم ، قد أنذرهم بأس الله وعذابه ، فما التفتوا إلى ذلك ولا أصغوا إليه ، بل شكوا فيه وتماروا به { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ } وذلك ليلة ورد عليه الملائكة في صور شباب مرد حسان ، محنة من الله بهم ، فأضافهم لوط عليه السلام ، وبعثت امرأته العجوز السوء إلى قومها ، فأعلمتهم بأضياف لوط فأقبلوا يهرعون إليه من مكان ، فأغلق لوط دونهم الباب ، فجعلوا يحاولون كسر الباب ، ولوط عليه السلام يدافعهم ويمانعهم دون أضيافه ، فلما اشتد الحال وأبوا إلاّ الدخول خرج عليهم ( جبريل ) عليه السلام فضرب أعينهم بطرف جناحه ، فانطمست أعينهم ، يقال إنها غارت من وجوههم ، وقيل : إنه لم يبق لهم عيون بالكلية ، فرجعوا على أدبارهم يتحسسون بالحيطان ، ويتوعدون لوطاً عليه لاسلام إلى الصباح ، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ } أي لا محيد لهم عنه ولا انفكاك لهم منه { فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ * وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُدَّكِرٍ } .(1/2447)
وَلَقَدْ جَاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا كُلِّهَا فَأَخَذْنَاهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42) أَكُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولَئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَرَاءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ (46)
يقول تعالى مخبراً عن فرعون وقومه ، إنهم جاءهم رسول ( موسى ) وأخوه ( هارون ) وأيدهما بمعجزات عظيمة وآيات متعددة ، فكذبوا بها كلها فأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر ، أي فأبادهم الله ولم يبق منهم عين ولا أثر ، ثم قال تعالى : { أَكُفَّارُكُمْ } أيها المشركون { خَيْرٌ مِّنْ أُوْلَئِكُمْ } يعني من الذين تقدم ذكرهم ، ممن أهكلوا بسبب تكذيبهم الرسل ، أأنتم خير من أولئكم؟ { أَمْ لَكُم بَرَآءَةٌ فِي الزبر } أي أم معكم من الله براءة ، أن لاينالكم عذاب ولا نكال ، ثم قال تعالى مخبراً عنهم : { أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ } أي يعتقدون أن جمعهم يغني عنهم من أرادهم بسوء ، قال الله تعالى : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } أي سيتفرق شملهم ويغلبون ، روى البخاري ، عن ابن عباس « أن النبي صلى الله عليه وسلم قال وهو في قبة له يوم بدر : » أنشدك عهدك ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم في الأرض أبداً « فأخذ أبو بكر رضي الله عنه بيده ، وقال : حسبك يا رسول الله ألححت على ربك ، فخرج وهو يثب في الدرع ، وهو يقول : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر * بَلِ الساعة مَوْعِدُهُمْ والساعة أدهى وَأَمَرُّ } » وروى ابن أبي حاتم ، عن عكرمة قال : « لما نزلت { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } قال عمر : أي جمع يهزم؟ أي جمع يغلب؟ قال عمر : فلما كان يوم بدر رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يثب في الدرع وهو يقول : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } فعرفت تأويلها يومئذٍ » .(1/2448)
إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلَالٍ وَسُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ (49) وَمَا أَمْرُنَا إِلَّا وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51) وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)
يخبرنا تعالى عن المجرمين أنهم في ضلال عن الحق { وَسُعُرٍ } مما هم فيه من الشكوك والاضطراب في الآراء ، وهذا يشمل كل من اتصف بذكر من كافر ومبتدع من سائر الفرق ، ثم قال تعالى : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ } أي كما كانوا في سعر وشك وتردد أورثهم ذلك النار ، ويقال لهم تقريعاً وتوبيخاً { ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ } ، وقوله تعالى : { إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } ، كقوله { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } [ الفرقان : 2 ] ، وكقوله تعالى { والذي قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 3 ] أي قدر قدراً وهدى الخلائق إليه ، ولهذا يستدل بهذه الآية الكريمة أئمة السنة ، على إثبات قدر الله السابق لخلقه ، وهو علمه الأشياء قبل كونها ، وكتابته لها قبل برئها ، وردوا بهذا الآية وبما شاكلها على الفرقة القدرية الذين نبغوا في أواخر عصر الصحابة ، روى أحمد ، عن أبي هريرة قال : « جاء مشركو قريش إلى النبي صلى عليه وسلم يخاصمونه في القدر ، فنزلت : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } » وعن نعطاء بن أبي رباح قال : أتيت ابن عباس وهو ينزع من زمزم وقد ابتلت أسافل ثيابه فقلت له : قد تُكلَّمَ في القدر ، فقال : أو قد فعلوها؟ قلت : نعم . قال : فوالله ما نزلت هذه الآية إلاّ فيهم : { ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } أولئك شرار هذه الأمة ، فلا تعودوا مرضاهم ولا تصلوا على موتاهم ، إن رأيت أحداً منهم فقأت عينيه بأصبعي هاتين ، وعن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لكل أمة مجوس ، ومجوس أمتي الذي لا يقولون لا قدر ، إن مرضوا فلا تعودوهم ، وإن ماتوا فلا تشهدوهم » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل شيء بقدر حتى العجز والكيس » .
وفي الحديث الصحيح : « استعن بالله ولا تعجز ، فإن أصابك أمر فقل : قدر الله وما شاء فعل ، ولا تقل لو أني فعلت لكان كذا ، فإن لو تفتح عمل الشيطان » وروى الإمام أحمد ، عن الوليد بن عبادة قال : « دخلت على عبادة وهو مريض أتخايل فيه الموت ، فقلت : يا أبتاه أوصني واجتهد لي ، فقال : أجلسوني ، فلما أجلسوه . قال : يا بني إنك لن تطعم الإيمان ولن تبلغا حق حقيقة العلم بالله ، حتى تؤمن بالقدر خيره وشره ، قلت : يا أبتاه وكيف لي أن أعلم ما خير القدر وشره؟ قال : تعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك ، وما أصابك لم يكن لخطئك ، يا بني إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » إن أول ما خلق الله القلم ثم قال له : اكتب ، فجرى في تلك الساعة بما هو كائن إلى يوم القيامة « ، يا بني إن مت ولست على ذلك دخلت النار »(1/2449)
وقد ثبت في « صحيح مسلم » ، عن عبد الله بن عمرو قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله كتب مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة » ، زاد ابن وهب : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } [ هود : 7 ] . وقوله تعالى : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } وهذا إخبار عن نفوذ مشيئته في خلقه ، كما أخبر بنفوذ قدره فيهم ، فقال : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ } أي إنما نأمر بالشيء مرة واحدة ، لا نحتاج إلى تأكيد بثانية ، فيكون ذلك موجوداً كلمح البصر لا يتأخر طرفة عين ، وما أحسن ما قال بعض الشعراء :
إذا ما أراد الله أمراً فإنما ... يقول له كن قوله فيكون
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَآ أَشْيَاعَكُمْ } يعني أمثالكم وسلفكم من الأمم السابقة المكذبين بالرسل ، { فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } ؟ أي فهل من متعظ بما أخرى الله أولئك ، وقدَّر لهم من العذاب ، كما قال تعالى : { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ كَمَا فُعِلَ بِأَشْيَاعِهِم مِّن قَبْلُ } [ سبأ : 54 ] ، وقوله تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر } أي مكتوب عليهم في الكتب التي بأيدي الملائكة عليهم السلام ، { وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ } أي من أعمالهم { مُّسْتَطَرٌ } أي مجموع عليهم ومسطّر في صحائفهم ، لا يغادر صغيرة ولا كبيرة إلاّ أحصاها ، وقد روى الإمام أحمد ، عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يا عائشة إياك ومحقرات الذنوب ، فإن لها من الله طالباً » وقوله تعالى : { إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ } أي بعكس ما الأشقياء فيه من الضلال والسعر ، والسحب في النار على وجوههم ، مع التوبيخ والتقريع والتهديد ، وقوله تعالى : { فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ } أي في دار كرامة الله ورضوانه ، وفضله وامتنانه ، وجوده وإحسانه { عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ } أي عند الملك العظيم ، الخالق للأشياء كلها ومقدرها ، وهو مقتدر على ما يشاء مما يطلبون ويريدون ، وقد روى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن عمرو يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : « المقسطون عند الله على منابر من نور عن يمين الرحمن ، وكلتا يديه يمين ، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا » .(1/2450)
الرَّحْمَنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسَانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيَانَ (4) الشَّمْسُ وَالْقَمَرُ بِحُسْبَانٍ (5) وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ يَسْجُدَانِ (6) وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7) أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ (8) وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ (9) وَالْأَرْضَ وَضَعَهَا لِلْأَنَامِ (10) فِيهَا فَاكِهَةٌ وَالنَّخْلُ ذَاتُ الْأَكْمَامِ (11) وَالْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَالرَّيْحَانُ (12) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (13)
يخبر تعالى عن فضله ورحمته بخلقه ، أنه أنزل على عباده القرآن ، ويسر حفظه وفهمه على من رحمه ، فقال تعالى : { الرحمن * عَلَّمَ القرآن * خَلَقَ الإنسان * عَلَّمَهُ البيان } قال الحسن : يعني النطق ، وقال الضحّاك : يعني الخير والشر ، وقول الحسن هاهنا أحسن وأقوى ، لأن السياق في تعليمه تعالى القرآن وهو أداء تلاوته ، وإنما يكون ذلك بتيسير النطق على الخلق ، وتسهيل خروج الحروف من مواضعها ، على اختلاف مخارجها وأنواعها ، وقوله تعالى : { الشمس والقمر بِحُسْبَانٍ } أي يجريان متعاقبين بحساب مقنّن ، لا يختلف ولا يضطرب . { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] ، وقال تعالى : { فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم } [ الأنعام : 96 ] . وقوله تعالى : { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } اختلف المفسرون في معنى قوله { والنجم } ، فروي عن ابن عباس { والنجم } ما انبسط على وجه الأرض ، يعني من النبات ، وقال مجاهد : النجم الذي في السماء ، وكذا قال الحسن وقتادة ، وهذا القول هو الأظهر والله أعلم ، لقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض والشمس والقمر والنجوم والجبال والشجر والدوآب وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } [ الحج : 18 ] الآية ، وقوله تعالى : { والسمآء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الميزان } يعني العدل ، كما قال تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الكتاب والميزان لِيَقُومَ الناس بالقسط } [ الحديد : 25 ] وهكذا قال هاهنا : { أَلاَّ تَطْغَوْاْ فِي الميزان } أي خلق السماوات والأرض بالحق والعدل ، لتكون الأشياء كلها بالحق والعدل ، ولهذا قال تعالى : { وَأَقِيمُواْ الوزن بالقسط وَلاَ تُخْسِرُواْ الميزان } أي لا تبخسوا الوزن بل زنوا بالحق والقسط ، كما قال تعالى : { وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم } [ الإسراء : 35 ، 18 ] .
وقوله تعالى : { والأرض وَضَعَهَا لِلأَنَامِ } أي السماء أرساها بالجبال الشامخات ، لتستقر بما على وجهها من الأنام ، وهم الخلائق المختلفة أنواعهم وأشكالهم وألوانهم في سائر أقطارها وأرجائها ، قال ابن عباس ومجاهد وقتادة : الأنام : الخلق ، { فِيهَا فَاكِهَةٌ } اي مختلفة الألوان والطعوم والروائح ، { والنخل ذَاتُ الأكمام } أفرده بالذكر لشرفه ونفعه رطباً ويابساً ، والأكمام : قال ابن عباس : هي أوعية الطلع ، وهو الذي يطلع فيه القنو ، ثم ينشق عن العنقود فيكون بسراً ثم رطباً ، ثم ينضج ويتناهى ينعه واستواؤه ، وقيل الأكمام رفاتها ، وهو الليف الذي على عنق النخلة ، وهو قول الحسن وقتادة ، { والحب ذُو العصف والريحان } قال ابن عباس : { ذُو العصف } يعني التبن ، وعنه : العصف ورق الزرع الأخضر الذي قطع رؤوسه ، فهو يسمى العصف إذا يبس ، وكذا قال قتادة والضحاك : عصفة : تبنه ، وقال ابن عباس ومجاهد : والريحان يعني الورق ، وقال الحسن : هو ريحانكم هذا ، ومعنى هذا والله أعلم أن الحب كالقمح والشعير ونحوهما ، له ف يحال نباته عصف وهو ما على السنبلة ، وريحان وهو الورق الملتف على ساقها ، وقيل : العصف الورق أول ما ينبت الزرع بقلا ، والريحان الورق يعني إذا أدجن وانعقد فيه الحب ، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل في قصيدته المشهورة :(1/2451)
وقولا له : من ينبت الحب في الثرى ... فيصبح منه البقل يهتز رابيا
ويخرج منه حبه في رؤوسه ... ففي ذاك آيات لمن كان واعياً
وقوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } أي فبأي الآلاء يا معشر الثقلين من الإنس والجن تكذبان؟ أي النعم ظاهرة عليكم وأنتم مغمورون بها ، لا تستطيعون إنكارها ولا جحودها ، فنحن نقول كما قالت الجن : « اللهم ولا بشيء من الآئك ربنا نكذب فلك الحمد » وكان ابن عباس يقول : لا بأيها يا رب ، أي لا نكذب بشيء منها .(1/2452)
خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَخَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مَارِجٍ مِنْ نَارٍ (15) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَرَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (18) مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيَانِ (19) بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لَا يَبْغِيَانِ (20) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَالْمَرْجَانُ (22) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (23) وَلَهُ الْجَوَارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (24) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (25)
يذكر تعالى خلقه الإنسان من صلصال كالفخار ، وخلقه الجان من مارج من نار ، وهو طرف لهبها ، قاله ابن عباس ، وعنه : { مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } من لهب النار من أحسنها ، وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { مِن مَّارِجٍ مِّن نَّارٍ } من خالص النار ، وكذا قال عكرمة ومجاهد والضحّاك وغيرهم ، وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خُلِقت الملائكةُ من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم » وقوله تعالى : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟ تقدم تفسيره ، { رَبُّ المشرقين وَرَبُّ المغربين } يعني مشرقي الصيف والشتاء ، ومغربي الصيف والشتاء ، وقال : { فَلاَ أُقْسِمُ بِرَبِّ المشارق والمغارب } [ المعارج : 40 ] وذلك باختلاف مطالع الشمس وتنقلها في كل يوم وبروزها منه إلى الناس ، وقال : { رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً } [ المزمل : 9 ] ، والمراد منه جنس المشارق والمغارب ، ولما كان في اختلاف هذه المشارق والمغارب مصالح للخلق من الجن والإنس قال : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟ وقوله تعالى : { مَرَجَ البحرين } قال ابن عباس : أي أرسلها ، وقوله { يَلْتَقِيَانِ } قال ابن زيد : أي منعهما أن يلتقيا بماجعل بينهما من البرزخ الحاجز الفاصل بينهما ، والمراد بقوله { البحرين } : الملح والحلو ، فالحلو هذه الأنهار السارحة بين الناس؛ وقد اختار ابن جرير : أن المراد بالبحرين بحر السماء ، وبحر الأرض ، لأن اللؤلؤ يتولد من ماء السماء وأصداف بحر الأرض ، وهذا لا يساعده اللفظ ، فإنه تعالى قد قال : { بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } أي وجعل بينهما برزخاً وهو الحاجز من الأرض لئلا يبغي هذا على هذا وهذا على هذا ، فيفسد كل واحد منهما الآخر ، وما بين السماء والأرض لا يسمى برزخاً وحجراً محجوراً .
وقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } أي من مجموعهما ، فإذا وجد ذلك من أحدهما كفى ، كما قال تعالى { يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ } [ الأنعام : 130 ] والرسل إنما كانوا في الإنس خاصة دون الجن ، وقد صح هذا الإطلاق ، واللؤلؤ معروف ، وأما المرجان فقيل : هو صغار اللؤلؤ ، وقيل : كباره وجيده ، حكاه ابن جرير عن بعض السلف . وقيل : هو نوع من الجواهر أحمر اللون ، قال ابن مسعود : المرجان الخرز الأحمر ، وأما قوله : { وَمِن كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا } [ فاطر : 12 ] ، فاللحم من كل من الأجاج والعذب ، والحيلة إنما هي من المالح دون العذب ، قال ابن عباس : ما سقطت قط قطرة من السماء في البحر فوقعت في صدفة إالاّ صار منها لؤلؤة ، ولما كان اتخاذ هذه الحيلة نعمة على أهل الأرض امتن بها عليهم فقال : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟ وقوله تعالى : { وَلَهُ الجوار المنشئات } يعني السفن التي تجري { فِي البحر } قال مجاهد : ما رفع قلعه من السفن فهي منشآت وما لم يرفع قلعه فليس بمنشآت .(1/2453)
وقال قتادة : المنشآت يعني المخلوقات ، وقال غيره : المنشئات بكسر الشين يعني البادئات ، { كالأعلام } أي كالجبال في كبرها وما فيها من المتاجر والمكاسب المنقولة من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم ، مما فيه صلاح الناس في جلب ما يحتاجون إليه من سائر أنواع البضائع ، ولهذا قال : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟ عن عمرة بن سويد قال : « كنت مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه على شاطىء الفرات إذا أقبلت سفينة مرفوع شراعها فبسط عليٌّ يديه ، ثم قال : يقول الله عزَّ وجلَّ : { وَلَهُ الجوار المنشئات فِي البحر كالأعلام } والذي أنشأها تجري في بحوره ما قتلت عثمان ولا مالأت على قتله » .(1/2454)
كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ (26) وَيَبْقَى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (27) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (28) يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (30)
يخبر تعالى أن جميع أهل الأرض سيذهبون ويموتون أجمعون ، وكذلك أهل السماوات الاّ من شاء الله ، ولا يبقى أحد سوى وجهه الكريم ، فإن الرب تعالى وتقدس هو الحي الذي لا يموت أبداً ، قال قتادة : أنبأ بما خلق ، ثم أنبأ أن ذلك كله فغنٍ ، وفي الدعاء المأثور : « يا حي يا قيوم ، يا بديع السماوات والأرض ، ويا ذا الجلال والإكرام ، لا إله إلا أنت ، برحمتك نستغيث ، أصلح لنا شأننا كله ، ولا تكلنا إلى أنفسنا طرفة عين ، ولا إلى أحد من خلقك » وقال الشعبي : إذا قرأت : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } فلا تسكت حتى تقرأ : { ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام } . وهذا الآية كقوله تعالى : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] ، وقد نعت تعالى وجهه الكريم في هذه الآية الكريمة بأنه ذو الجلال والإكرام ، أي هو أهل أن يُجل فلا يُعصى ، وأن يُطاع فلا يُخالف ، كقوله تعالى : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الأنعام : 52 ، الكهف : 28 ] ، وكقوله : { إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله } [ الإنسان : 9 ] ، قال ابن عباس : { ذُو الجلال والإكرام } ذو العظمة والكبرياء ، ولما أخبر تعالى عن تساوي أهل الأرض كلهم في الوفاة ، وأنهم سيصيرون إلى الدار الآخرة ، فيحكم فيهم ذو الجلال والإكرام بحكمه العدل ، قال : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } . وقوله تعالى : { يَسْأَلُهُ مَن فِي السماوات والأرض كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } وهو إخبار عن غناه عما سواه ، وافتقار الخلائق إليه وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم ، وأنه كل يوم هو في شأن ، قال الأعمش : من شأنه أن يجيب داعياً أو يعطي سائلاً ، أو يفك عانياً أو يشفي سقيماً ، وقال مجاهد : كل يوم هو يجيب داعياً ويكشف كرباً ، ويجيب مضطراً ، ويغفر ذنباً ، وقال قتادة : لا يستغني عنه أهل السماوات والأرض يحيي حياً ويميت ميتاً ، ويربي صغيراً ويفك أسيراً ، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ومنتهى شكواهم ، وروى ابن جرير عن منيب الأزدي قال : « تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ } فقلنا : يا رسول الله وما ذاك الشأن؟ قال : » أن يغفر ذنباً ، ويفرج كرباً ويرفع قوماً ويضع آخرين « » وقال ابن عباس : إن الله خلق لوحاً محفوظاً من درة بيضاء دفتاه ياقوتة حمراء قلمه نور ، وكتابه نور ، وعرضه ما بين السماء والأرض ، ينظر فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظرة ، يخلق في كل نظرة ، ويحيي ويميت ، ويعز ويذل ، ويفعل ما يشاء .(1/2455)
سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلَانِ (31) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (32) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطَارِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ فَانْفُذُوا لَا تَنْفُذُونَ إِلَّا بِسُلْطَانٍ (33) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِنْ نَارٍ وَنُحَاسٌ فَلَا تَنْتَصِرَانِ (35) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (36)
قال ابن عباس في قوله تعالى : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثقلان } قال : وعيد من الله تعالى للعباد ، وليس بالله شغل وهو فارغ ، وقال قتادة : قد دنا من الله فراغ لخلقه ، وقال ابن جريج : { سَنَفْرُغُ لَكُمْ } أي سنقضي لكم ، وقال البخاري : سنحاسبكم لا يشغله شيء عن شيء ، وهو معروف في كلام العرب ، يقال : لأفرغنّ لك ، وما به شغل يقول : لآخذنك على غرتك ، وقوله تعالى : { أَيُّهَ الثقلان } الثقلان : الإنس والجن كما جاء في الصحيح : « يسمعه كل شيء إلاّ الثقلين » ، وفي رواية : « إلاّ الإنس والجن » وفي حديث الصور : « الثقلان الإنس والجن » { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ، ثم قال تعالى : { يامعشر الجن والإنس إِنِ استطعتم أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَارِ السماوات والأرض فانفذوا لاَ تَنفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } أي لا تستطيعون هرباً من أمر الله وقدره ، بل هو محيط بكم لا تقدرون على التخلص من حكه ، أينما ذهبتم أحيط بكم ، وهذا في مقام الحشر ، الملائكة محدقة بالخلائق سبع صفوف من كل جانب ، فلا يقدر أحد على الذهاب { إِلاَّ بِسُلْطَانٍ } أي إلاّ بأمر الله ، { يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر } [ القيامة : 10 ] ، ولهذا قال تعالى : { يُرْسَلُ عَلَيْكُمَا شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ وَنُحَاسٌ فَلاَ تَنتَصِرَانِ } قال ابن عباس : الشواظ هو لهب النار ، وعنه : الشواظ الدخان ، وقال مجاهد : هو اللهب الأخضر المنقطع ، وقال الضحاك : { وَنُحَاسٌ } سيل من نار ، وقوله تعالى : { شُوَاظٌ مِّن نَّارٍ } قال ابن عباس : دخان النار ، وقال ابن جرير : والعرب تسمي الدخان نحاساً . روى الطبراني عن الضحّاك أن نافع بن الأزرق سأل ابن عباس عن الشواظ فقال : هو اللهب الذي لا دخان معه ، فسأله شاهداً على ذلك من اللغة ، فأنشده بيت أمية بن أبي الصلت في حسان :
ألا من مبلغ حسانَ عني ... مُغَلْغلة تدب إلى عكاظ
أليس أبوك فينا كان قيناً ... لدى القينات فَسْلا في الحِفاظ
يمانياً يظل يشد كيراً ... وينفخ دائباً لهب الشواظ
قال : صدقت ، فما النحاس؟ قال : هو الدخان الذي لا لهب له ، قال : فهل تعرفه العرب؟ قال : نعم أما سمعت نابغة بني ذيبان يقول :
يضيء كضوء سراج السلي ... ط لم يجعل الله فيه نحاساً
وقال مجاهد : النحاس الصفر يذاب فيصب على رؤوسهم ، والمعنى : لو ذهبتم هاربين يوم القيامة لردتكم الملائكة والزبانية بارسال اللهب من النار والنحاس المذاب عليكم لترجعوا ، ولهذا قال : { فَلاَ تَنتَصِرَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟ .(1/2456)
فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُسْأَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَلَا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيمَاهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّوَاصِي وَالْأَقْدَامِ (41) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (42) هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (45)
يقول تعالى : { فَإِذَا انشقت السمآء } يوم القيامة كما دلت عليه الآيات الواردة في معناها ، كقوله تعالى : { وانشقت السمآء فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ } [ الحاقة : 16 ] ، وقوله : { وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السمآء بالغمام وَنُزِّلَ الملائكة تَنزِيلاً } [ الفرقان : 25 ] ، وقوله : { إِذَا السمآء انشقت * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ } [ الإنشقاق : 1-2 ] ، وقوله تعالى : { فَكَانَتْ وَرْدَةً كالدهان } أي تذوب كما يذوب الدُّرْدِي والفضة في السبك ، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها ، فتارة حمراء وصفراء وزرقاء وخضراء ، وذلك من شدة الأمر وهول يوم القيامة العظيم . عن انَس بن مالك قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يبعث الناس يوم القيامة والسماء تطش عليهم » قال الجوهري : الطش المطر الضعيف ، وقال ابن عباس : { وَرْدَةً كالدهان } كالأديم الأحمر . وعنه كالفرس الورد ، وقال أبو صالح : كالبرذون الورد ، ثم كانت بعد كالدهان ، وقال الحسن البصري : تكون ألواناً ، وقال السدي : تكون كلون البغلة الوردة ، وتكون كالمهل كدردي الزيت ، وقال مجاهد : { كالدهان } كألوان الدها ، وقال عطاء الخراساني : كلون دهون الورد في الصفرة ، وقال قتادة : هي اليوم خضراء ويومئذٍِ لونها إلى الحمرة يوم ذي ألوان ، وقال أبو الجوزاء ، في صفاء الدهن ، وقال بان جريج : تصير السماء كالدهان الذائب ، وذلك حين يصيبها حر جهنم ، وقوله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } ، وهذه كقوله تعالى : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 35-36 ] فهذا في حال ، و « ثَمَّ » في حال ، يسأل الخلائق عن جميع أعمالهم ، قال الله تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92-93 ] ، ولهذا قال قتادة { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } ، قال : قد كانت مسألة ثم ختم على أفواه القوم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، قال ابن عباس : لا يسألهم هل عملتم كذا وكذا لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يقول : لو عملتم كذا وكذا ، فهذا قول ثان ، وقال مجاهد في هذه الاية : لا تسأل الملائكة عن المجرمين بل يعرفون بسيماهم ، وهذا قول ثالث ، وكأن هذا بعد ما يؤمر بهم إلى النار فذلك الوقت لا يسألون عن ذنبوهم ، بل يقادون إليها ويلقون إليها ويلقون فيها كما قال تعالى : { يُعْرَفُ المجرمون بِسِيمَاهُمْ } أي بعلامات تظهر عليهم ، وقال الحسن وقتادة : يعرفون باسوداد الوجوه ، وزرقة العيون ، ( قلت ) : وهذا كما يعرف المؤمنون بالغرة والتحجيل من آثار الوضوء .
وقوله تعالى : { فَيُؤْخَذُ بالنواصي والأقدام } أي يجمع الزبانية ناصيته مع قدميه ويلقونه في النار كذلك ، وقال ابن عباس : يؤخذ بناصيته وقدميه فيكسر كما يكسر الحطب في التنور ، وقال الضحّاك : يجمع بين ناصيته وقديمه في سلسلة من وراء ظهره ، وقال السدي : يجمع بين ناصية الكافر وقدميه فتربط ناصيته بقدمه ويفتل ظهره وقوله تعالى : { هذه جَهَنَّمُ التي يُكَذِّبُ بِهَا المجرمون } أي هذه النار التي كنتم تكذبون بوجودها ، هل هي حاضرة تشاهدونها عياناً ، يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً ، وقوله تعالى : { يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } أي تارة يعذبون في الجحيم ، وتارة يسقون من الحميم ، وهو الشراب الذي هو كالنحاس المذاب يقطع الأمعاء والأحشاء ، وهذه كقوله تعالى :(1/2457)
{ إِذِ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ والسلاسل يُسْحَبُونَ * فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ } [ غافر : 71-72 ] . وقوله تعالى : { آنٍ } أي حار قد بلغ الغاية في الحرارة قال ابن عباس : قد انتهى غليه واشتد حرّه ، وقال محمد بن كعب القرظي : يؤخذ العبد فيحرك بناصيته في ذلك الحميم ، حتى يذوب اللحم ويبقى العظم والعينان في الرأس ، وهي كالتي يقول الله تعالى : { فِي الحميم ثُمَّ فِي النار يُسْجَرُونَ } [ غافر : 72 ] فقوله { حَمِيمٍ آنٍ } أي حميم حار جداً ، ولما كان معاقبة العصاة المجرمين ، وتنعيم المتقين من فضله ورحمته ، وكان إنذاره لهم عن عذابه وبأسه ، مما يزجرهم عما هم فيه من الشرك والمعاصي ، قال ممتناً بذلك على بريته : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟ .(1/2458)
وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (49) فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ (50) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (51) فِيهِمَا مِنْ كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ (52) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (53)
قال عطاء الخُراساني : نزلت هذه الآية { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } في أبي بكر الصديق ، وقال عطية بن قيس : نزلت في الذي قال : أحرقوني بالنار لعلي أضل الله ، قال تاب يوماً وليلة ، بعد أن تكلم بهذا فقبل الله منه وأدخله الجنة ، والصحيح أن هذه الآية عامة كما قاله ابن عباس وغيره ، يقول الله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ } بين يدي الله عزّ وجلّ يوم القيامة { وَنَهَى النفس عَنِ الهوى } [ النازعات : 40 ] ولم يطع ولا آثر الحياة الدنيا ، وعلم أن الآخرة خير وأبقى ، فأدى فرائض الله واجتنب محارمه ، فله يوم القيامة عند ربه جنتان ، كما روى البخاري رحمه الله : عن عبد الله بن قيس ، « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » جنتان من قضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظر إلى ربهم عزّ وجلّ إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن « ، وقال حماد : ولا أعمله إلا قد رفعه في قوله تعالى : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } ، ويقوله : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 92 ] ، جنتان من ذهب للمقربين ، وجنتان من ورق لأصحاب اليمين . وقال عطاء بن يسار ، أخبرني أبو الدرداء » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ يوماً هذه الآية { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } فقلت : وإن زنى وإن سرق؟ فقال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } فقلت : وإزن زنى وإن سرق يا رسول الله؟ فقال : « وإن . . . رغم أنف أبي الدرداء » « ، وهذه الآية عامة في الإنس والجن ، فهي من أدل دليل على أن الجن يدخلون الجنة إذا آمنوا واتقوا ، ولهذا امتن الله تعالى على الثقلين بهذا الجزاء فقال : { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ثم نعت هاتين الجنتين فقال : { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } أي أغصال نضرة حسنة ، تحمل من كل ثمرة نضيجة ، { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟ هكذا قال عطاء وجماعة : أن الأفنان أغصان الشجر يمس بعضها بعضاً ، وقال عكرمة { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } يقول : ظل الأغصان على الحيطان ، ألم تسمع قول الشاعر :
ما هاج شوقك من هديل حمامة ... تدعو على فنن الغصون حماما
وعن ابن عباس { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } : ذواتا ألوان ، ومعنى هذا القول أن فيهما فنوناً من الملاذ واختاره ابن جرير ، وقال عطاء : كل غصن يجمع فنوناً من الفاكهة ، وقال الربيع بن أنس : { ذَوَاتَآ أَفْنَانٍ } واسعتا الفناء ، وكل هذه الأقوال صحيحة ولا منافاة بينها والله أعلم ، عن أسماء بنت أبي بكر قالت : » سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر سدرة المنتهى فقال : « يسير في ظل الفنن منها الراكب مائة سنة - أو قال يستظل في ظل الفنن منها مائة راكب - فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال » «(1/2459)
{ فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } أي تسرحان لسقي تلك الأشجار والأغصان ، فتثمر من جميع الألوان . قال الحسن البصري : إحداهما يقا للها تسنيم ، والأخرى السلسبيل ، وقال عطية : إحداهما من ماء غير آسن ، والأخرى من خمر لذة للشاربين ، ولهذا قال بعد هذا : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } أي من جميع أنواع الثمار ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } قال ابن عباس : ما في الدنيا ثمرة حلوة ولا مرة إلا وهي في الجنة ، وليس في الدنيا مما في الآخرة إلا الأسماء ، يعني أن بين ذلك بوناً عظيماً وفرقاً بيناً في التفاضل .(1/2460)
مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَائِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَجَنَى الْجَنَّتَيْنِ دَانٍ (54) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (55) فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْيَاقُوتُ وَالْمَرْجَانُ (58) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (59) هَلْ جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ (60) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (61)
يقول تعالى : { مُتَّكِئِينَ } ، يعني أهل الجنة ، والمراد بالاتكاء هاهنا الاضطجاع ، ويقال : الجلوس على صفة التربيع { عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } وهو ما غلظ من الديباج ، وقيل : هو الديباج المزيّن بالذهب ، فنبه على شرف الظهارة بشرف البطانة ، فهذا من التنبيه بالأدنى على الأعلى ، قال ابن مسعود : هذه البطائن فكيف لو رأيتم الظواهر؟ قال مالك بن دينار : بطائنها من إستبرق ، وظواهرها من نور ، وقال الثوري : بطائنها من إستبرق وظواهرها ، من نور جامد ، وقال القاسم بن محمد : بطائنها من إستبرق وظواهرها من الرحمة { وَجَنَى الجنتين دَانٍ } أي ثمرهما قريب إليهم متى شاءوا تناولوه ، على أي صفة كانوا كما قال تعالى : { قُطُوفُهَا دَانِيَةٌ } [ الحاقة : 23 ] ، وقال : { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } [ الإنسان : 14 ] اي لا تمتنع ممن تناولها بل تنحط إليه من أغصانها { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ولما ذكر الفرش وعظمتها قال بعد ذلك { فِيهِنَّ } أي في الفرش { قَاصِرَاتُ الطرف } أي غضيضات غير أزواجهن ، فلا يرين شيئاً في الجنة أحسن من أزواجهن ، أحب إليّ منك ، فالحمد لله الذي جعلك لي وجعلني لك ، { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } أي بل هن أبكار عرب أتراب ، لم يطأهن أحد قبل أزواجهن من الإنس والجن ، وهذه أيضاً من الأدلة على دخول مؤمني الجن الجنة ، سئل ضمرة بن حبيب هل يدخل الجن الجنة؟ قال : نعم ، وينكحون ، للجن جنيات وللإنس إنسيات ، وذلك قوله : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ، ثم قال ينعتهن للخطاب { كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان } قال مجاهد والحسن : في صفاء الياقوت وبياض المرجان ، فجعلوا المرجان هاهنا اللؤلؤ ، عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « » إن المرأة من نساء الجنة ليرى بياض ساقها من وراء سبعين حلة من حرير حتى يرى مخها « وذلك قوله تعالى : { كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان } فأما الياقوت فإنه حجر لو أدخلت فيه سلكاً ثم استصفيته لرأيته من ورائه » . وروى الإمام أحمد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى اليه عليه وسلم قال : « للرجل من أهل الجنة زوجتان من الحور العين ، على كل واحدة سبعون حلة يرى مخ ساقها من وراء الثياب » وعن محمد بن سيرين قال : إما تفاخروا وإما تذاكروا ، الرجال أكثر في الجنة أم النساء ، فقال أبو هريرة : أولم يقل أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : « إن أول زمرة تدخل الجنة على صورة القمر ليلة البدر ، والتي تليها على ضوء كوكب دري في السماء ، لكل امرىء منهم زوجتان اثنتان يرى مخ ساقهما من وراء اللحم وما في الجنة أعزب؟ » وروى الإمام احمد ، عن أنَس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(1/2461)
« لغدوة في سبيل الله أو روحة خير من الدنيا وما فيها ، ولقاب قوس أحدكم أو موضع قده يعني سوطه من الجنة خير من الدنيا وما فيها ، ولو اطلعت امرأة من نساء أهل الجنة إلى الأرض لملأت ما بينهما ريحاً ولطاب ما بينهما ، ولنصيفها على رأسها خير من الدنيا وما فيها » .
وقوله تعالى : { هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان } أي ليس لمن أحسن العمل في الدنيا إلا الإحسان إليه في الآخرة كما قال تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] . روى البغوي ، عن أنَس بن مالك قال ، « قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان } وقال : » هل تدرون ما قال ربكم؟ « قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : » يقول هل جزاء من أنعمت عليه بالتوحيد إلا الجنة « » ولما كان في الذي ذكر نعم عظيمة لا يقاومها عمل ، بل مجرد تفضل وامتنان قال بعد ذلك كله : { فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ؟ .(1/2462)
وَمِنْ دُونِهِمَا جَنَّتَانِ (62) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (63) مُدْهَامَّتَانِ (64) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (65) فِيهِمَا عَيْنَانِ نَضَّاخَتَانِ (66) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (67) فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (69) فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ (70) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (71) حُورٌ مَقْصُورَاتٌ فِي الْخِيَامِ (72) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَلَا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ (76) فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (77) تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلَالِ وَالْإِكْرَامِ (78)
هاتان الجنتان دون اللتين قبلهما ، في المرتبة والفضيلة والمنزلة بنص القرآن قال الله تعالى : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } وقد تقدم في الحديث : « جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما » فالأوليان للمقربين ، والأخريان لأصحاب اليمين . وقال ابو موسى : جنتان من ذهب للمقربين ، وجنتان من فضة لأصحاب اليمين .
وقال ابن عباس : { وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ } من دونهما في الدرجة وقال ابن زيد : من دونهما في الفضل؛ { مُدْهَآمَّتَانِ } أي سوداوان من شدة الري من الماء ، قال أبن عباس { مُدْهَآمَّتَانِ } قد اسودتا من الخضرة من شدة الري من الماء ، وعنه { مُدْهَآمَّتَانِ } قال : خضروان . وقال محمد بن كعب : ممتلئتان من الخضرة ، وقال قتادة : خضروان من الري ناعمتان ، ولا شك في نضارة الأغصان على الأشجار المشتبكة بعضها في بعض ، وقال هناك : { فِيهِمَا عَيْنَانِ تَجْرِيَانِ } [ الرحمن : 50 ] وقال هاهنا : { نَضَّاخَتَانِ } قال ابن عباس : أي فياضتان والجري أقوى من النضخ ، وقال الضحّاك { نَضَّاخَتَانِ } أي ممتلئتان ولا تنقطعان ، وقال هناك : { فِيهِمَا مِن كُلِّ فَاكِهَةٍ زَوْجَانِ } [ الرحمن : 52 ] وقال ههنا { فِيهِمَا فَاكِهَةٌ وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } ، ولا شك أن الأولى أعم وأكثر في الأفراد والتنويع على { فَاكِهَةٌ } وهي نكرة في سياق الإثبات لا تعم ، ولهذا ليس قوله : { وَنَخْلٌ وَرُمَّانٌ } ، من باب عطف الخاص على العام ، كما قرره البخاري وغيره ، وإنما أفرد النخل والرمان بالذكر لشرفهما على غيرهما ، عن عمر بن الخطاب قال : « جاء أناس من اليهود إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد أفي الجنة فاكهة؟ قال : » نعم فيها فاكهة ونخل ورمان « ، قالوا : أفيأكلون كما يأكلون في الدنيا؟ قال : » نعم ، وأضعاف « ، قالوا : فيقضون الحوائج؟ قال : » لا ولكنهم يعرقون ويرشحون فيذهب ما في بطونهم من أذى « » وروى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : « نخل الجنة سعفها كسوة لأهل الجنة ، منها مقطعاتهم ومنها حللهم ، وورقها ذهب أحمر ، وجذوعها زمرد أخضر ، وتمرها أحلى من العسل وألين من الزبد وليس له عجم » وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « نظرت إلى الجنة فإذا الرمانة من رمانها كالبعير المقتب » ، ثم قال : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } قيل : المراد خيرات كثيرة حسنة في الجنة قاله قتادة ، وقيل : { خَيْرَاتٌ } جمع خيرة وهي المرأة الصالحة الحسنة الخلق الحسنة الوجه قاله الجمهور ، وفي الحديث الآخر الذي سنورده في سورة الواقعة إن شاء الله أن الحور العين يغنين : « نحن الخيِّرات الحسان . خلقنا لأزواج كرام » ولهذا قرأ بعضهم : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ } بالتشديد { حِسَانٌ * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } ، ثم قال : { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام } ، وهناك قال :(1/2463)
{ فِيهِنَّ قَاصِرَاتُ الطرف } [ الرحمن : 56 ] ولا شك أن التي قد صرت طرفها بنفسها أفضل ممن قُصِرت وإن كان الجميع مخدرات ، قال ابن أبي حاتم ، عن عبد الله بن مسعود قال : إن لكل مسلم خيرة ولكل خيرة خيمة ، ولكل خيمة أربعة أبواب ، تدخل عليه كل يوم تحفة وكرامة وهدية ، لم تكن قبل ذلك لا مرحات ولا طمحات ، ولا بخرات ، ولا زفرات ، حور عين كأنها بيض مكنون .
وقوله تعالى : { فِي الخيام } قال البخاري ، عن عبد الله بن قيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن في الجنة خيمة من لؤلؤة مجوفة عرضها ستون ميلاً في كل زاوية منها أهل ما يرون الآخرين يطوف عليهم المؤمنون » ، ورواه مسلم بلفظ : « إن للمؤمن في الجنة لخيمة من لؤلؤة واحدة مجوفة طولها ستون ميلاً للمؤمن فيها أهل يطوف عليهم المؤمن فلا يرى بعضهم بعضاً » وقال ابن أبي حاتم ، عن أبي الدرداء قال : لؤلؤة واحدة فيها سبعون باباً من در . وعن ابن عباس في قوله تعالى : { حُورٌ مَّقْصُورَاتٌ فِي الخيام } قال : خيام اللؤلؤ ، وفي الجنة خيمة واحدة من لؤلؤة واحدة أربع فراسخ في أربع فراسخ عليها أربعة آلاف مصراع من ذهب ، وقال عبد الله بن وهب ، عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أدنى أهل الجنة منزلة الذي له ثمانون ألف خادم واثنتان وسبعون زوجة وتنصب له قبة من لؤلؤ وزبرجد وياقوت كما بين الجابية وصنعاء » وقوله تعالى : { لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنسٌ قَبْلَهُمْ وَلاَ جَآنٌّ } قد تقدم مثله سواء إلا أنه زاد في صوف الأوائل بقوله : { كَأَنَّهُنَّ الياقوت والمرجان * فَبِأَيِّ آلاء رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ } [ الرحمن : 58-59 ] ، وقوله تعالى : { مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } قال ابن عباس : الرفرف المحابس ، وكذا قال مجاهد وعكرمة هي المجالس ، وقال عاصم الجحدري : { مُتَّكِئِينَ على رَفْرَفٍ خُضْرٍ } يعني الوسائد وهو قول الحسن البصري ، وقال سعيد بن جبير : الرفرف رياض الجنة ، وقوله تعالى : { وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ } قال ابن عباس والسدي : العبقري الزرابي ، وقال سعيد بن جبير : هي عتاق الزرابي يعني جيادها ، وقال مجاهد : العبقري الديباج .
وسئل الحسن البصري عن قوله تعالى : { حِسَانٍ } فقال : هي بسط أهل الجنة لا أباً لكم فاطلبوها ، وقال أبو العالية : العبقري الطنافس المحملة إلى الرقة ما هي ، وقال القيسي : كل ثوب موشّى عند العرب عبقري ، وعلى كل تقدير فصفة مرافق أهل الجنتين الأوليين أرفع وأعلى من هذه الصفة ، فإنه قد قال هناك : { مُتَّكِئِينَ عَلَى فُرُشٍ بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] ، فنعت بطائن فرشهم وسكت عن ظهائرها اكتفاء بما مدح به البطائن وتمام الخاتمة أنه قال بعد الصفات المتقدمة : { هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان } [ الرحمن : 60 ] فوصف أهلها بالإحسان وهو أعلى المراتب والنهايات كما في حديث جبريل لما سأل عن الإسلام ، ثم الإيمان ، ثم الإحسان ، فهذه وجوه عديدة في تفضيل الجنتين الأوليين على هاتين الأخيرتين ، ونسأل الله الكريم الوهاب أن يجعلنا من أهل الأوليين .(1/2464)
ثم قال : { تَبَارَكَ اسم رَبِّكَ ذِي الجلال والإكرام } أي هو أهل أن يجل فلا يعصى ، وأن يكرم فيعبد ، ويشكر فلا يكفر ، وأن يذكر فلا ينسى ، وقال ابن عباس { ذِي الجلال والإكرام } : ذي العظمة والكبرياء . « أجلّوا الله يغفر لكم » وفي الحديث الآخر : « أَلِظُّوا بيا ذا الجلال والإكرام » وفي رواية : « أَلِظُّوا بذي الجلال والإكرام » وقال الجوهري : ألظ فلان بفلان إذا لزمه ، وقول ابن مسعود : ألظوا بياذا الجلال والإكرام : أي الزموا ، يقال : الإلظاظ هو الإلحاح ، وفي « صحيح مسلم » ، عن عائشة قالت : « كان رسول الله صل الله عليه وسلم إذا سلم لا يقعد يعني بعد الصلاة إلا بقدر ما يقول : » اللهم أنت السلام ومنك السلام تباركت يا ذا الجلال والإكرام « » .(1/2465)
إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3) إِذَا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4) وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا (5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا (6) وَكُنْتُمْ أَزْوَاجًا ثَلَاثَةً (7) فَأَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَأَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ مَا أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (9) وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11) فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12)
الواقعة من أسماء يوم القيامة ، سميت بذلك لتحقق كونها ووجودها كما قال تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة } [ الحاقة : 15 ] وقوله تعالى : { لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ } أي ليس لوقوعها إذا أراد الله كونها صارف يصرفها ولا دافع يدفعها ، كما قال : { استجيبوا لِرَبِّكُمْ مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ } [ الشورى : 47 ] ، وقال : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } [ المعارج : 12 ] ، ومعنى { كَاذِبَةٌ } أي لا بد أن تكون ، قال قتادة : ليس فيها ارتداد ولا رجعة ، قال ابن جرير : والكاذبة مصدر كالعاقبة والعافية ، وقوله تعالى : { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } أي تخفض أقواماً إلى أسفل سافلين إلى الجحيم ، وإن كانوا في الدنيا أعزاء ، وترفع آخرين إلى أعلى عليين إلى النعيم المقيم ، وإن كانوا في الدنيا وضعاء ، وعن ابن عباس : { خَافِضَةٌ رَّافِعَةٌ } تخفض أقواماً وترفع آخرين ، وقال عثمان بن سراقة : الساعة خفضت أعداء الله إلى النار ، ورفعت أولياء الله إلى الجنة ، وقال محمد بن كعب : تخفض رجالاً كانا في الدنيا مرتفعين ، وترفع رجالاً كانوا في الدنيا مخفوضين ، وقال السدي : خفضت المتكبرين ورفعت المتواضعين ، وقوله تعالى : { إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً } أي حركت تحريكاً فاهتزتع واضطربت بطولها وعرضها ، ولهذا قال ابن عباس ومجاهد { إِذَا رُجَّتِ الأرض رَجّاً } أي زلزلت زلزالاً ، وقال الربيع بن أنَس : ترج بما فيها كرج الغربال بما فيه ، كقوله تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا } [ الزلزلة : 1 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ } [ الحج : 1 ] ، وقوله تعالى : { وَبُسَّتِ الجبال بَسّاً } أي فتتت فتاً ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وقال ابن زيد : صارت الجبال كما قال الله تعالى : { كَثِيباً مَّهِيلاً } [ المزمل : 14 ] ، وقوله تعالى : { فَكَانَتْ هَبَآءً مُّنبَثّاً } عن علي رضي الله عنه : هباء منبثاً كرهج الغبار يسطع ثم يذهب فلا يبقى منه شيء ، وقال ابن عباس : الهباء الذي يطير من النار إذا اضطرمت يطير منه الشرر ، فإذا وقع لم يكن شيئاً ، وقال عكرمة : المنبث الذي قد ذرته الريح وبثته ، وقال قتادة : { مُّنبَثّاً } كيابس الشجر الذي تذروه الرياح ، وهذه الآية كأخواتها الدالة على زوال الجبال عن أماكنها يوم القيامة ، وذهابها ونسفها أي قلعها وصيرورتها كالعهن المنفوش .
وقوله تعالى : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } أي ينقسم الناس يوم القيامة إلى ثلاثة أصناف : قوم عن يمين العرش ، وهم الذي يؤتون كتبهم بأيمانهم ، وهم جمهور أهل الجنة ، وآخرون عن يسار العرش ، وهم الذين يؤتون كتبهم بشمالهم ويؤخذ بهم ذات الشمال وهم عامة أهل النار ، وطائفة سابقون بين يديه عزّ وجلّ وهم أحظى وأقرب من أصحاب اليمين ، فيهم الرسل والأنبياء والصديقون والشهداء ، وهم أقل عدداً من أصحاب اليمين ، لهذا قال تعالى : { فَأَصْحَابُ الميمنة مَآ أَصْحَابُ الميمنة * وَأَصْحَابُ المشأمة مَآ أَصْحَابُ المشأمة * والسابقون السابقون } ، وهكذا قسمهم إلى هذه الأنواع الثلاثة في آخر السورة وقت احتضارهم ، وهكذا ذكرهم في قوله تعالى :(1/2466)
{ ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله } [ فاطر : 32 ] الآية . وذلك على أحد القولين في الظالم لنفسه كما تقدم بيانه ، قال ابن عباس { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } قال : هي التي في سورة الملائكة { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا } [ فاطر : 32 ] الآية . وقال يزيد الرقاشي : سألت ابن عباس عن قوله : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } قال أصنافاً ثلاثة ، وقال مجاهد : { وَكُنتُمْ أَزْوَاجاً ثَلاَثَةً } يعني فرقاً ثلاثة ، وقال ميمون بن مهران : أفواجاً ثلاثة ، اثنان في الجنة وواحد في النار ، قال مجاهد : { والسابقون السابقون } هم الأنبياء عليهم السلام ، وقال السدي : هم أهل عليين ، وقال ابن سيرين { والسابقون السابقون } الذي صلوا إلى القبلتين ، وقال الحسن وقتادة : { والسابقون السابقون } أي من كل أمة ، وقال الأوزاعي عن عثمان بن أبي سودة ، أنه قرأ هذه الآية { والسابقون السابقون * أولئك المقربون } ثم قال : أولهم رواحاً إلى المسجد ، وأولهم خروجاً في سبيل الله ، وهذه الأقوال كلها صحيحة ، فإن المراد بالسابقين هم المبادرون إلى فعل الخيرات ، كما أمروا ، كما قال تعالى : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض } [ آل عمران : 133 ] ، وقال تعالى : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض } [ الحديد : 21 ] ، فمن سابق في هذه الدنيا وسبق إلى الخير كان في الآخرة من السابقين إلى الكرامة ، فإن الجزاء من جنس العمل وكما تدين تُدان ، ولهذا قال تعالى : { أولئك المقربون * فِي جَنَّاتِ النعيم } ، وقال ابن أبي حاتم ، قالت الملائكة : يا رب جعلت لبني آدم الدنيا فهم يأكلون ويشربون ويتزوجون ، فاجعل لنا الآخرة ، فقال لا أفعل ، فراجوا ثلاثاً ، فقال : لا أجعل من خلقت بيدي ، كمن قلت له كن فكان؛ ثم قرأ عبد الله : { والسابقون السابقون * أولئك المقربون * فِي جَنَّاتِ النعيم } .(1/2467)
ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَقَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلَى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ (16) يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ (19) وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21) وَحُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثَالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلَا تَأْثِيمًا (25) إِلَّا قِيلًا سَلَامًا سَلَامًا (26)
يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء السابقين المقربين أنهم { ثُلَّةٌ } أي جماعة ن الأولين ، وقليل من الآخرين : وقد اختلفوا في المراد بقوله الأولين والآخرين فقيل : المراد بالأولين الأمم الماضية ، وبالآخرين هذه الأمة ، وهو اختيار ابن جرير ، واستأنس بقوله صلى الله عليه وسلم : « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة » ، ولم يحك غيره ، ومما يستأنس به لهذا القول ما رواه ابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة قال : « لما نزلت { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } شقّ ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين } [ الواقعة : 39-40 ] فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، ثلث أهل الجنة ، بل نصف أهل الجنة أو شطر أهل الجنة وتقاسموهم النصف الثاني « » وهذا الذي اختاره ابن جرير فيه نظر بل هو قول ضعيف ، لأن هذه الأمة هي خير الأمم بنص القرآن ، فيبعد أن يكون المقربون في غيرها أكثر منها ، اللهم إلا أن يقابل مجموع الأمم بهذه الأمة ، والظاهر أن المقربين من هؤلاء أكثر من سائر الأمم والله أعلم ، فالقول الثاني في هذا المقام هو الراجح ، وهو أن يكون المراد بقوله تعالى : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين } أي من صدر هذه الأمة ، { وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } أي من هذه الأمة ، قال ابن أبي حاتم ، عن عبد الله بن بكر المزني : سمعت الحسن أتى على هذه الآية { والسابقون السابقون * أولئك المقربون } [ الواقعة : 10-11 ] فقال : أما السابقون فقد مضوا ، ولكن اللهم اجعلنا من أصحاب اليمين . ثم قرأ الحسن : { والسابقون السابقون * أولئك المقربون * فِي جَنَّاتِ النعيم * ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين } قال : ثلة ممن مضى من هذه الأمة . وعن محمد بن سيرين أنه قال في هذه الآية { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَقَلِيلٌ مِّنَ الآخرين } قال : كانوا يقولون أو يرجون أن يكونوا كلهم من هذه الأمة ، فهذا قول الحسن وابن سيرين أن الجميع من هذه الأم . ولا شك أن أول كل أمة خير من آخرها ، فيحتمل أن تعم الآية جميع الأمم كل أمة بحسبها ، ولهذا ثبت في الصحاح وغيرها من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « خير القرون قرني ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم » الحديث بتمامه . فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن عمار بن ياسر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مثل أمتي مثل المطر لا يدري أوله خير أم آخره » فهذا الحديث محمول على أن الدين كما هو محتاج إلى أول الأمة في إبلاغه كذلك هو محتاج إلى القائمين به أواخرها ، والفضل للمتقدم ، وكذلك الزرع هو محتاج إلى المطر الأول وإلى المطر الثاني ، ولكن العمدة الكبى على الأول ، واحتياج الزرع إليه آكد ، فإنه لولاه ما نبت في الأرض ولا تعلق أساسه فيها ، ولهذا قال عليه السلام :(1/2468)
« لا تزال طائفة من أُمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهمولا من خالفهم إلى قيام الساعة » .
وفي لفظ : « حتى يأتي أمر الله تعالى وهم كذلك » ، والغرض أن هذه الأمة أشرف من سائر الأمم ، والمقربون فيها أكثر من غيرها وأعلى منزلة لشرف دينها وعظم نبيها ، ولهذا ثبت بالتواتر « عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه أخبر أن في هذه الأمة سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب » ، وفي لفظ : « مع كل ألف سبعون ألفاً - وفي آخر - مع كل واحد سبعون ألفاً » ؛ وقد روى الحافظ الطبراني ، عن أبي ملاك قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما والذي نفسي بيده ليبعثن منكم يوم القيامة مثل الليل الأسود زمرة جميعها يحيطون الأرض تقول الملائكة لَمَا جاء مع محمد صلى الله عليه سلم أكثر مما جاء مع الأنبياء عليهم السلام » وقوله تعالى : { على سُرُرٍ مَّوْضُونَةٍ } قال ابن عباس : أي مرمولة بالذهب يعني منسوجة به . وقال السدي : مرمولة بالذهب واللؤلؤ ، وقال عكرمة : مشبكة بالدر والياقوت ، وقال ابن جرير : ومنه يسمى وضين الناقة الذي تحت بطنها وهو فعيل بمعنى مفعول لأنه مضفور وكذلك السرور في الجنة مضفورة بالذهب والآلىء .
وقوله تعالى : { مُّتَّكِئِينَ عَلَيْهَا مُتَقَابِلِينَ } أي وجوه بعضهم إلى بعض ليس أحد وراء أحد ، { بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ وَكَأْسٍ مِّن مَّعِينٍ } أي مخلدون على صفة واحدة لا يشيبون ولا يتغيرون ، { يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ } أما الأكواب فهي الكيزان التي لا خراطيم لها ولا آذان ، والأباريق التي جمعت الوصفين ، والكؤوس الهنابات والجميع من خمر عين جارية معين ، ليس من أوعية تنقطع وتفرغ بل من عيون سارحة ، وقوله تعالى : { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلاَ يُنزِفُونَ } أي لا تصدع رؤوسهم ولا تنزف عقولهم ، بل هي ثابتة مع الشدة المطربة واللذة الحاصلة ، وروى ابن عباس أنه قال : « في الخمر أربع خصال : » السكْر ، والصداع ، والقيء ، والبول « » فذكر الله تعالى خمر الجنة ونزهها عن هذه الخصال ، وقال مجاهد وعكرمة { لاَّ يُصَدَّعُونَ عَنْهَا } يقول : ليس لها فيهم صداع رأس ، وقالوا في قوله : { وَلاَ يُنزِفُونَ } أي لا تذهب بعقولهم ، وقوله تعالى : { وَفَاكِهَةٍ مِّمَّا يَتَخَيَّرُونَ * وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } أي ويطوفون عليهم بما يتخيرون من الثمار ، وهذه الآية دليل على جواز أكل الفاكهة على صفة التخير لها ، روى الطبراني عن ثوبان قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/2469)
« إن الرجل إذا نزع ثمرة الجنة عادت مكانها أُخرى » ، وقوله تعالى : { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } عن آَنَس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » إن طير الجنة كأمثال البخت يرعى في شجر الجنة « ، فقال أبو بكر : يا رسول الله إن هذه لطير ناعمة ، فقال : » آكلها أنعم منها - قالها ثلاثاً - وإني لأرجو أن تكون ممن يأكل منها « وقال قتادة في قوله تعالى : { وَلَحْمِ طَيْرٍ مِّمَّا يَشْتَهُونَ } » وذكر لنا أن أبا بكر قال : يا رسول الله! إني لأرى طيرها ناعماً كأهلها ناعمون ، قال : « ومن يأكلها والله يا أبا بكر أنعم منها وإنها لأمثال البخت وإني لأحتسب على الله أن تأكل منها يا أبا بكر » « وروى أبو بكر بن أبي الدنيا ، عن أنَس بن مالك » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الكوثر فقال : « نهر أعطانيه ربي عزَّ وجلَّ في الجنة أشد بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل ، فيه طيور أعناقها يعني كأعناق الجزر » فقال عمر : إنها لناعمة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « آكلها أنعم منها » « وعن عبد الله بن مسعود قال ، » قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشوياً » وقوله تعالى : { وَحُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون } بالرفع وتقديره : ولهم فيها حور عين ، وقوله تعالى : { كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون } أي كأنهن اللؤلؤ الرطب في بياضه وصفائه كما تقدم ، { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } [ الصافات : 49 ] ، ولهذا قال : { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي هذا الذي أتحفناهم به مجازاة لهم على ما أحسنوا في من العمل .(1/2470)
وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَطَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَمَاءٍ مَسْكُوبٍ (31) وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لَا مَقْطُوعَةٍ وَلَا مَمْنُوعَةٍ (33) وَفُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْنَاهُنَّ إِنْشَاءً (35) فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَارًا (36) عُرُبًا أَتْرَابًا (37) لِأَصْحَابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)
لما ذكر تعالى مآل السابقين وهم المقربون ، عطف عليهم بذكر أصحاب اليمين وهم الأبرار ، كما قال ميمون بن مهران : أصحاب اليمين منزلتهم دون المقربين ، فقال : { وَأَصْحَابُ اليمين مَآ أَصْحَابُ اليمين } أي ما حالهم وكيف مآلهم؟ ثم فسر ذلك فقال تعالى : { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } قال ابن عباس وعكرمة : هو الذي لا شوك فيه ، وعن ابن عباس : هو الموقر بالثمر ، وقال قتادة : كنا نحدث أنه الموقر الذي لا شوك ليه ، والظاهر أن المراد هذا وهذا ، فإن سد الدنيا كثير الشوك قليل الثمر ، وفي الآخرة على العكس من هذا لا شوك فيه ، وفيه الثمر الكثير الذي قد أثقل أصله ، كما روى الحافظ أبو بكر النجار ، عن سليم بن عامر قال : « كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : إن الله لينفعنا بالأعراب ومسائلهم ، قال : أقبل أعرابي يوماً فقال : يا رسول الله ذكر الله في الجنة شجرة تؤذي صاحبها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » وما هي؟ « قال : السدر ، فإن له شوكاً مؤذياً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أليس الله تعالى يقول : { فِي سِدْرٍ مَّخْضُودٍ } خضد الله شوكه ، فجعل مكان كل شوكة ثمرة ، فإنها لتنبت ثمراً تفتق الثمرة منها عن اثنين وسبعين لوناً من طعام ما فيها لون يشبه الآخر « ، وقوله : { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } الطلح : شجر عظام يكون بأرض الحجاز ، من شجر العضاه واحدته طلحة ، وهو شجر كثير الشوك ، وأنشد ابن جرير لبعض الحداة :
بشَّرها دليلها وقالا ... غداً ترين الطلح والجبالا
قال مجاهد : { مَّنضُودٍ } : أي متراكم الثمر ، يذكر بذلك قريشاً لأنهم كانوا يعجبون من وج ظلاله من طلح وسدر ، قال ابن عباس : يشبه طلح الدنيا ، ولكن له ثمر أحلى من العسل ، قال الجوهري : والطلح لغة في الطلع ، ( قلت ) : وقد روى أن علياً يقول هذا الحرف في { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } قال : طلع منضود ، وهو كثرة ثمره والله أعلم . وعن أبي سعيد { وَطَلْحٍ مَّنضُودٍ } قال : الموز ، وأهل اليمن يسمون الموز : الطلح ، ولم يحك ابن جرير غير هذا القول ، وقوله تعالى : { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } روى البخاري ، عن أبي هريرة يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال : » إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها ، اقرأوا إن شئتم { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } « وقال الإمام أحمد ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن في الجنة شجرة سير الراكب في ظلها مائة عام ، إقرأوا إن شتم { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } « وقد أخرج البخاري ومسلم من حديث أبي سعيد وسهل بن سعد » عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال : إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها «(1/2471)
، فهذا حديث ثابت عن رسول الله صلى الله تعالى عليه وآله وسلم بل متواتر مقطوع بصحته عند أئمة الحديث النقاد لتعدد طرقه وقوة أسانيده وثقة رجاله . وقال الترمذي ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما في الجنة من شجرة إلا ساقها من ذهب » وقال الضحّاك والسدي في قوله تعالى : { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } لا ينقطع ليس فها شمس ولا حر مثل قبل طلوع الفجر ، وقال ابن مسعود : الجنة سَجْسَجْ كما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس ، وقد تقدمت الآيات كقوله تعالى : { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً } [ النساء : 57 ] وقوله : { أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا } [ الرعد : 35 ] ، وقوله : { فِي ظِلاَلٍ وَعُيُونٍ } [ المرسلات : 41 ] إلى غير ذلك من الآيات . وقوله : { وَمَآءٍ مَّسْكُوبٍ } قال الثوري : يجري في غير أخدود ، وقد تقدم الكلام عند تفسير قوله تعالى : { فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ } [ محمد : 15 ] الآية ، بما أغنى عن إعادته هاهنا .
وقوله تعالى : { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } أي وعندهم من الفواكه الكثيرة المتنوعة في الألوان ، مما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر ، كما قال تعالى : { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } [ البقرة : 25 ] أي يشبه الشكل الشكل ، ولكن الطعم غير الطعم ، وفي « الصحيحين » في ذكر سدرة المنتهى : فإذا ورقها كآذان الفيلة ونبقها مثلا قلال هجر ، وروى الحافظ أبو يعلى ، عن جابر قال : « بينا نحن في صلاة الظهر إذ تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا معه ، ثم تناول شيئاً ليأخذه ثم تأخر ، فلما قضى الصلاة ، قال له أبي بن كعب : يا رسول الله صنعت اليوم في الصلاة شيئاً ما كنت تصنعه ، قال : » إنه عرضت عليَّ الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة ، فتناولت منها قطفاً من عنب لآتيكم به فحيل بيني وبينه ، ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقص منه « » وقوله تعالى : { لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } أي لا تنقطع شتاء ولا صيفاً ، بل أكلها دائم مستمر أبداً ، مهما طلبوا وجدوا لا متنع عليهم بقدرة الله شيء ، وقال قتادة : لا يمنعهم من تناولها عود ولا شوك ولا بعد ، وقد تقدم في الحديث : « إذا تناول الرجل الثمرة عادت مكانها أُخْرى » .
وقوله تعالى : { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } أي عالية وطيئة ناعمة ، روى النسائي ، عن أبي سعيد « عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } قال : ارتفاعها كما بين السماء والأرض ومسيرة ما بينهما خمسمائة عام » وعن الحسن : { وَفُرُشٍ مَّرْفُوعَةٍ } قال : ارتفاع فراش الرجل من أهل الجنة مسيرة ثمانين سنة ، وقوله تعالى : { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً * عُرُباً أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ اليمين } جرى الضمير على غير مذكور ، لكن لما دل السياق وهو ذكر الفرش على النساء اللاتي يضاجعن فيها اكتفى بذلك عن ذكرهنَّ وعاد الضمير عليهن ، قال الأخفش في قوله تعالى : { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ } أضمرهن ولم يذكرن قبل ذلك ، وقال أبو عبيدة ذكرن في قوله تعالى :(1/2472)
{ حُورٌ عِينٌ * كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون } [ الواقعة : 22-23 ] ، فقوله تعالى : { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ } أي أعدناهن في النشأة الأخرى بعد ما كن عجائز رمصاً ، صرن ، { أَبْكَاراً * عُرُباً } أي بعد الثيوبة عدن أبكاراً عرباً ، متحببات إلى أزواجهن بالحلاوة والظرافة والملاحة ، وقال بعضهم { عُرُباً } أي غنجات ، عن أنَس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنا أنشأناهن إنشاء قال : نساء كنَّ في الدنيا عمشاً رمصاً » وعن سلمة بن يزيد قال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في قوله تعالى : { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً } يعني الثيب والأبكار اللاتي كن في الدنيا ، وقال عبد بن حميد قال : أتت عجوز ، فقالت : يا رسول الله ادع الله تعالى أن يدخلني الجنة فقال : » يا أم فلان إن الجنة لا تدخلها عجوز « قال : فولت تبكي ، قال : أخبروها إنها لا تدخلها ، وهي عجوز ، إن الله تعالى يقول : { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } » .
وعن أم سلمة قالت : « قلت : يا رسول الله أخبرني عن قول الله تعالى : { حُورٌ عِينٌ } [ الواقعة : 22 ] قال : » حور « بيض » عين « ضخام العيون ، شفر الحوراء بمنزلة جناح النسر ، قلت : أخبرني عن قوله تعالى : { كَأَمْثَالِ اللؤلؤ المكنون } [ الواقعة : 23 ] قال : » صفاؤهن صفاء الدر الذي في الأصداف الذي لم تمسه الأيدي « قلت : أخبرني عن قوله : { فِيهِنَّ خَيْرَاتٌ حِسَانٌ } [ الرحمن : 70 ] قال : » خيرات الأخلاق حسان الوجوه « ، قلت أخبرني عن قوله : { كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَّكْنُونٌ } [ الصافات : 49 ] قال : » رقتهن كرقة الجلد الذي رأيت في داخله البيضة مما يلي القشر وهو الغرقيء « قلت : يا رسول الله أخبرني عن قوله : { عُرُباً أَتْرَاباً } قال : » هن اللواتي قبضن في الدار الدنيا عجائز رمصاً شمطاً خلقهن الله بعد الكبر ، فجعلهن عذارى عرباً متعشقات محببات أتراباً على ميلاد واحد « ، قلت : يا رسول الله نساء الدنيا أفضل أم الحور العين؟ قال : » بل نساء الدنيا أفضل من الحور العين كفضل الظهارة على البطانة « ، قلت : يا رسول الله وبم ذاك؟ قال : » بصلاتهن وصيامهن وعبادتهن الله عزّ وجلّ ، ألبس الله وجوههن النور ، وأجسادهن الحرير ، بيض الألوان خضر الثياب ، صفر الحلي ، مجامرهن الدر ، وأمشاطهن الذهب ، يقلن : نحن الخالدات فلا نموت أبداً ، ونحن الناعمات فلا نبأس أبداً ، ونحن المقيمات فلا نظعن أبداً ، ألا ونحن الراضيات فلا نسخط أبداً ، طوبى لمن كنا له وكان لنا « ، قلت : يا رسول الله المرأة منا تتزوج الزوجين والثلاثة والأربعة ، ثم تموت فتدخل الجنة ويدخلون معها من يكون زوجها؟ قال : » يا أم سلمة إنها تخير فتختار أحسنهم خلقاً ، فتقول : يا رب إن هذا كان أحسن خلقاً معي فزوجنيه ، يا أم سلمة ذهب حسن الخلق بخير الدنيا والآخرة « »(1/2473)
وفي الحديث : « إن أهل الجنة إذا جامعوا نساءهم عدن أبكاراً » وعن أبي هريرة قال ، « قيل : يا رسول الله هل نصل إلى نسائنا في الجنة؟ قال : » إن الرجل ليصل في اليوم إلى مائة عذراء « » .
وقوله تعالى : { عُرُباً } ، قال ابن عباس : يعني متحببات إلى أزواجهن ، ألم تر إلى الناقة الضبعة هي كذلك ، وقال الضحّاك عنه : العرب العواشق لأزواجهن ، وأزواجهن لهن عاشقون ، وقال عكرمة : سئل ابن عباس عن قوله { عُرُباً } قال : هي المَلِقة لزوجها ، وقال عكرمة : هي الغنجة ، وعنه هي الشكلة ، وقال عبد الله بن بريدة في قوله : { عُرُباً } قال : الشكلة بلغة أهل مكة ، والغنجة بلغة أهل المدينة ، وقال تميم بن حذلم : هي حسن التبعل ، وقوله : { أَتْرَاباً } قال ابن عباس : يعني في سن واحدة ثلاث وثلاثين سنة ، وقال مجاهد : الأتراب : المستويات ، وفي رواية عنه : الأمثال ، وقال عطية : الأقران ، وقال السدي : { أَتْرَاباً } أي في الأخلاق المتواخيات بينهم ، ليس بينهن تباغض ولا تحاسد ، يعني لا كما كن ضرائر متعاديات ، وقال أبن أبي حاتم ، عن الحسن ومحمد { عُرُباً أَتْرَاباً } قالا : المستوايات الأسنان يأتلفن جميعاً ويلعبن جميعاً ، وقد روى الترمذي ، عن علي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن في الجنة لمجتمعاً للحور العين يرفعن أصواتاً لم تسمع الخلائق بمثلها - قال - يقلن : » نحن الخالدات فلا نبيد ، ونحن الناعمات فلا نبأس ، ونحن الراضيات فلا نسخط ، طوبى لمن كان لنا وكنا له « » وعن أنَس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الحور العين ليغنين في الجنة يقلن : نحن خيرات حسان خبئنا لأزواج كرام » قوله تعالى : { لأَصْحَابِ اليمين } أي خلقنا لأصحاب اليمين أو زوجن لأصحاب اليمين والأظهر أنه متعلق بقوله : { إِنَّآ أَنشَأْنَاهُنَّ إِنشَآءً * فَجَعَلْنَاهُنَّ أَبْكَاراً } فتقديره أنشأناهن لأصحاب اليمين ، وهذا توجيه ابن جرير ، قلت : ويحتمل أن يكون قوله : { لأَصْحَابِ اليمين } متعلقاً بما قبله ، وهو قوله : { أَتْرَاباً * لأَصْحَابِ اليمين } أي في أسنانهم ، كما جاء في الحديث عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أول زمرة يدخلون الجنة على صورة القمر ليلة البدر والذين يلونهم على ضوء أشد كوكب دري في السماء إضاءة ، لا يبولون ولا يتغوطون ، ولا يتفلون ، ولا يتمخطون ، أمشاطهم الذهب وريحهم المسك ، ومجامرهم الألوة ، وأرواحهم الحور العين ، أخلاقهم على خلق رجل واحد ، على صورة أبيهم آدم ستون ذارعاً في السماء »(1/2474)
وعن أبي هريرية قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يدخل أهل الجنة الجنة جرداً مرداً بيضاً جعاداً مكحلين أبناء ثلاث وثلاثين وهم على خلق آدم ستون ذراعاً في عرض سعبة أذرع » وروى ابن وهب ، عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من مات من أهل الجنة من صغير أو كبير يردون بني ثلاث وثلاثين في الجنة لا يزيدون عليها أبداً وكذلك أهل النار » وروى ابن أبي الدنيا ، عن أنَس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يدخل أهل الجنة الجنة على طول آدم ستين ذراعاً بذراع الملك! على حسن يوسف وعلى ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين سنة وعلى لسان محد جرد مرد مكحلون » ، وقال أبو بكر ابن أبي داود ، عن أنَس بن مالك قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يبعث أهل الجنة على صورة آدم في ميلاد عيسى ثلاث وثلاثين جرداً مرداً مكحلين . ثم يذهب بهم إلى شجرة في الجنة فيكسون منها لا تبلى يثابهم ولا يفنى شبابهم » وقوله تعالى : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين } أي جماعة من الأولين وجماعة من الآخرين .
وعن سعيد بن جبير ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « هما جميعاً من أُمتي » .(1/2475)
وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ (41) فِي سَمُومٍ وَحَمِيمٍ (42) وَظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لَا بَارِدٍ وَلَا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ (45) وَكَانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَكَانُوا يَقُولُونَ أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَوَآبَاؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَالْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلَى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50) ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمَالِئُونَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشَارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55) هَذَا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)
لما ذكر تعالى حال أصحاب اليمين ، عطف عليهم بذكر أصحاب الشمال فقال : { وَأَصْحَابُ الشمال مَآ أَصْحَابُ الشمال } أي أيُّ شيء هم فيه أصحاب الشمال؟ ثم فسر ذلك فقال : { فِي سَمُومٍ } وهو الهواء الحار ، { وَحَمِيمٍ } وهو الماء الحار ، { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } قال ابن عباس : ظل الدخان ، وهذه كقوله تعالى : { انطلقوا إلى ظِلٍّ ذِي ثَلاَثِ شُعَبٍ * لاَّ ظَلِيلٍ وَلاَ يُغْنِي مِنَ اللهب } [ المرسلات : 30-31 ] ولهذا قال هاهنا : { وَظِلٍّ مِّن يَحْمُومٍ } وهو الدخان الأسود { لاَّ بَارِدٍ وَلاَ كَرِيمٍ } أي ليس طيب الهبوب ، ولا حسن المنظر { وَلاَ كَرِيمٍ } أي ولا كريم المنظر ، وقال الضّحاك : كل شراب ليس بعذب فليس كريم ، هذا اللحم ليس بسمين ولا كريم ، ثم ذكر تعالى استحقاقهم لذلك فقال تعالى : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُتْرَفِينَ } أي كانوا في الدار الدنيا منعمين ، مقبلين على لذات أنفسهم ، { وَكَانُواْ يُصِرُّونَ } أي يقيمون ولا ينوون توبة عَلَى { الحنث العظيم } ، وهو الكفر بالله ، قال ابن عباس : الحنث العظيم : الشرك ، وقال الشعبي : هو اليمين الغموس { وَكَانُواْ يِقُولُونَ أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ * أَوَ آبَآؤُنَا الأولون } يعني أنهم يقولون ذلك مكذبين به مستبعدين لوقوعه ، قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين * لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } أي أخبرهم يا محمد أن الأولين والآخرين من بني آدم سيجمعون إلى عرصات القيامة لا يغادر منهم أحد ، كما قال تعالى : { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [ هود : 103 ] ، ولهذا قال هاهنا : { لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } أي هو موقت بوقت محدود ولا يتأخر ، ولا يزيد ولا ينقص ، { ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضآلون المكذبون * لأَكِلُونَ مِن شَجَرٍ مِّن زَقُّومٍ * فَمَالِئُونَ مِنْهَا البطون } ، وذلك أنهم يقبضون ويسجرون حتى يأكلوا من شجر الزقوم حتى يملأوا منهم بطونهم ، { فَشَارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الحميم * فَشَارِبُونَ شُرْبَ الهيم } وهي الإبل العطاش واحدها أهيم والأنثى هيماء ، ويقال : هائم وهائمة ، قال ابن عباس ومجاهد : الهيم الإبل العطاش الظماء ، وق السدي : الهيم داء يأخذ الإبل فلا تروى أبداً حتى تموت ، فكذلك أهل جهنم لا يروون من الحميم أبداً ، ثم قال تعالى : { هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدين } أي هذا الذي وصفنا هو ضيافتهم عند ربهم يوم حسابهم ، كما قال تعالى في حق المؤمنين : { كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الفردوس نُزُلاً } [ الكهف : 107 ] أي ضيافة وكرامة .(1/2476)
نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ (57) أَفَرَأَيْتُمْ مَا تُمْنُونَ (58) أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلَى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ وَنُنْشِئَكُمْ فِي مَا لَا تَعْلَمُونَ (61) وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولَى فَلَوْلَا تَذَكَّرُونَ (62)
يقول تعالى مقرراً للمعاد ، وراداً على المكذبين به من أهل الزيغ والإلحاد ، { نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ } أي نحن ابتدأنا خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً ، أفليس الذي قدر على البداءة ، بقادر على الإعادة بطريق الأولى والأحرى؟ ولهذا قال : { فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ } ؟ أي فهلا تصدقون بالبعث! ثم قال تعالى مستدلاً عليهم بقوله : { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا تُمْنُونَ * أَأَنتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَم نَحْنُ الخالقون } ؟ أي أنتم تقرونه في الأرحام وتخلقونه فيها أم الله الخالق لذلك؟ ثم قال تعالى : { نَحْنُ قَدَّرْنَا بَيْنَكُمُ الموت } أي صرفناه بينكم ، وقال الضحّاك : ساوى فيه بين أهل السماء والأرض ، { وَمَا نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ } أي وما نحن بعاجزين { على أَن نُّبَدِّلَ أَمْثَالَكُمْ } أي نغيّر خلقكم يوم القيامة ، { وَنُنشِئَكُمْ فِي مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي من الصفات والأحوال ، ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ النشأة الأولى فَلَوْلاَ تَذَكَّرُونَ } أي قد علمتم أن الله أنشأكم بعد أن لم تكونوا شيئاً مذكوراً ، فخلقكم وجعل لكم السمع والأبصار والأفئدة ، فهلا تتذكرون وتعرفون أن الذي قدر على هذه النشأة وهي البداءة قادر على النشأة الأخرى وهي الإعادة بطريق الأولى والأحرى ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] ، وقال تعالى : { أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } [ مريم : 67 ] ، وقال تعالى : { قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 79 ] ، وقال تعالى : { فَجَعَلَ مِنْهُ الزوجين الذكر والأنثى * أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى } [ القيامة : 39-40 ] .(1/2477)
أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَحْرُثُونَ (63) أَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشَاءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67) أَفَرَأَيْتُمُ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَأَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجًا فَلَوْلَا تَشْكُرُونَ (70) أَفَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ (72) نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً وَمَتَاعًا لِلْمُقْوِينَ (73) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74)
يقول تعالى : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } ؟ وهو شق الأرض وإثارتها والبذر فيها ، { أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ } ؟ أي تنبتونه في الأرض { أَمْ نَحْنُ الزارعون } ؟ أي بل نحن الذي نقره قراره وننبته في الأرض ، روى عن حجر المدري أنه كان إذا قرأ { أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزارعون } وأمثالها ، يقول : بل أنت يا رب ، وقوله تعالى : { لَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَاهُ حُطَاماً } أي نحن أنبتناه بلطفنا ورحمتنا ، وأبقيناه لكم رحمة بكم ، ولو نشاء لجلعناه حطاماً ، أي لأيبسناه قبل استوائه واستحصاده ، { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } . ثم فصر ذلك بقوله : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ * بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي لو جعلناه حطاماً لظلتم تفكهون في المقالة تنوعون كلامكم ، فتقولون تارة : { إِنَّا لَمُغْرَمُونَ } أي لملقون ، وقال مجاهد وعكرمة : إنا لمولع بنا ، وقال قتادة : معذبون ، وتارة تقولون : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي لا يثبت لنا مال ولا ينتج لنا ربح ، وقال مجاهد : { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } أي مجدودون يعني لا حظ لنا ، وقال ابن عباس ومجاهد : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } تعجبون ، وقال مجاهد أيضاً : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } تفجعون وتحزنون على ما فاتكم من زرعكم ، وهذا يرجع إلى الأول ، وهو التعجب من السبب الذي من أجله أصيبوا في مالهم ، وهذا اختيار ابن جرير ، وقال عكرمة : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } تلاومون ، وقال الحسن وقتادة : { فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ } تندمون ومعناه إمنا على ما أنفقتم أو على ما أسلفتم من الذنوب ، قال الكسائي : تفكه من الأضداد ، تقول العرب : تفكهت بمعنى تنعمت ، وتفكهت بمعنى حزنت .
ثم قال تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن } ، يعني السحاب ، { أَمْ نَحْنُ المنزلون } ، يقول : بل نحن المنزلون ، { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } أي زعافاً مراً لا يصلح لشرب ولا زرع ، { فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } أي فهلا تشكرون نعمة الله عليكم في إنزاله المطر عليكم عذباً زلالاً ، { لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } [ النحل : 10 ] روى ابن أبي حاتم ، عن جابر ، عن أبي جعفر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا شرب الماء قال : « الحمد الله الذي سقانا عذباً فراتاً برحمته ، ولم يجعله ملحاً أجاجاً بذنوبنا » ثم قال : { أَفَرَأَيْتُمُ النار التي تُورُونَ } أي تقدحون من الزناد وتستخرجونها من أصلها { أَأَنتُمْ أَنشَأْتُمْ شَجَرَتَهَآ أَمْ نَحْنُ المنشئون } أي بل نحن الذين جعلناها مودعة في موضعها ، وللعرب شجرتان : إحداهما ( المرخ ) ، والأُخرى ( العفار ) إذا أخذ منهما غصنان أخضران فحك أحدهما بالآخر تناثر من بينهما شرر النار ، وقوله تعالى : { نَحْنُ جَعَلْنَاهَا تَذْكِرَةً } قال مجاهد وقتادة : أي تذكر النار الكبرى ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن ناركم هذه جزء من سبعين جز من نار جهنم وضربت بالبحر ، مرتين ، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد »(1/2478)
، وقال الإمام مالك ، عن أبي هريرة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » نار بني آدم التي يوقدون جزء من سبعين جزء من نار جهنم « ، فقالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية ، فقال : » إنها قد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً « » ، وفي لفظ : « والذي نفسي بيده لقد فضلت عليها بتسعة وستين جزءاً كلهن مثل حرها » .
وقوله تعالى : { وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } قال ابن عباس ومجاهد : يعني بالمقوين المسافرين ، واختاره ابن جرير ، وقال ابن أسلم : المقوي ههنا الجائع ، وقال ليث ، عن مجاهد { وَمَتَاعاً لِّلْمُقْوِينَ } : للحاضر والمسافر ، لكل طعام لا يصلحه إلا النار ، وعنه : { لِّلْمُقْوِينَ } يعني المستمتعين من الناس أجمعين ، وهذا التفسير أعم من غيره ، فإن الحاضر والبادي من غني وفقير ، الجميع محتاجون إليها للطبخ والاصطلاء والإضاءة ، وغير ذلك من المنافع ، ثم من لطف الله تعالى أن أودعها في الأحجار وخالص الحديد ، بحيث يتمكن المسافر من حمل ذلك في متاعه وبين ثيابه ، فإذا احتاج إلى ذلك في منزله أخرج زنده وأورى وأوقد ناره فاطبخ بها واصطلى بها واشتوى واستأنس بها ، وانتفع بها سائر الانتفاعات ، فلهذا أفرد المسافرون ، وإن كان ذلك عاماً في حق الناس كلهم ، وفي الحديث : « المسلمون شركاء في ثلاثة : النار والكلأ والماء » وفي رواية : « ثلاثة لا يمنعن : الماء والكلأ والنار » وقوله تعالى : { فَسَبِّحْ باسم رَبِّكَ العظيم } أي الذي بقدرته خلق هذه الأشياء المختلفة المتضادة ، الماء الزلال العذب البارد ، ولو شاء لجعله ملحاً أجاجاً كالبحار المغرقة ، وخلق النار المحرقة ، وجعل ذلك مصلحة للعباد ، وجعل هذه منفعة لهم في معاش دنياهم ، وزجراً لهم في المعاد .(1/2479)
فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ (75) وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ (78) لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (80) أَفَبِهَذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَتَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82)
قال الضحّاك : إن الله تعالى لا يقسم بشيء من خلقه ، ولكنه استفتاح يستفتح به كلامه ، وهذا القول ضعيف ، والذي عليه الجمهور أنه قسم من الله تعالى يقسم بما شاء من خلقه وهو دليل على عظمته ، ثم قال بعض المفسرين : ( لا ) هاهنا زائدة ، وتقديره : أقسم بمواقع النجوم ، ويكون جوابه : { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } ، وقال آخرون : ليست ( لا ) زائدة بل يؤتى بها في أول القسم إذا كان مقسماً به على منفي ، تقدير الكلام : لا أقسم بمواقع الجوم ، ليس الأمر كما زعمتم في القرآن أنه سحر أو كهانة بل هو قرآن كريم ، وقال بعضهم : معنى قوله : { فَلاَ أُقْسِمُ } فليس الأمر كما تقولون ، ثم استأنف القسم بعد ذلك فقيل : اقسم ، واختلفوا في معنى قوله : { بِمَوَاقِعِ النجوم } فقال ابن عباس : يعني نجوم القرآن ، فإنه نزل جملة ليلة القدر من السماء العليا إلى السماء الدنيا ، ثم نزل متفرقاً في السنين بعد ، ثم قرأ ابن عباس هذه الآية ، وقال مجاهد : { بِمَوَاقِعِ النجوم } في السماء ويقال مطالعها ومشارقها وهو اختيار ابن جرير ، وعن قتادة : مواقعها : منازلها ، وعن الحسن : أن المراد بذلك انتثارها يوم القيامة ، وقوله : { وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ } أي وإن هذا القسم الذي أقسمت به لقسم عظيم ، لو تعلمون عظمته لعظمتم المقسم به ، { إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ } أي إن هذا القرآن الذي نزل على محمد لكتاب عظيم { فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ } أي معظم في كتاب معظم محفوظ موقر ، عن ابن عباس قال : الكتاب الذي في السماء ، { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } يعني الملائكة ، وقال ابن جرير ، عن قتادة { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } قال : لا يمسه عند الله إلا المطهرون ، فأما في الدنيا فإنه يمسه المجوسي النجس ، والمنافق الجرس ، وقال أبو العالية : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } ليس أنتم أصحاب الذنوب ، وقال ابن زيد : زعمت كفّار قريش أن هذا القرآن تنزلت به الشياطين ، فأخبر الله تعالى أنه لا يمسه إلا المطهرون ، كما قال تعالى : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ } [ الشعراء : 210-212 ] ، وهذا القول قول جيد ، وهو لا يخرج عن الأقوال التي قبله ، وقال الفراء : لا يجد طعمه ونفعه إلا من آمن به ، وقال آخرون : { لاَّ يَمَسُّهُ إِلاَّ المطهرون } أي في الجنابة والحدث ، قالوا : ولفظ الآية خبر ، ومعناها الطلب ، قالوا : والمارد بالقرآن هاهنا المصحف ، كما روى مسلم عن ابن عمر : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يسافر بالقرآن إلى أرض العدو مخالفة أن يناله العدو » ، واحتجوا بما رواه الإمام مالك أن في الكتاب الذي كتبه رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو بن حازم أن « لا يمس القرآن إلا طاهر » وروى أبو داود في « المراسيل » من حديث الزهري قال : قرأت في صحيفة عبد الله بن أبي بكر بن محمد بن عمرو بن حزم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(1/2480)