وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا (50)
يقول تعالى منبهاً بني آدم على عداوة إبليس لهم ولأبيهم من قبلهم ، ومقرعاً لمن اتبعه منهم وخالف خالقه ومولاه ، فقال تعالى : { وَإِذْ قُلْنَا للملائكة } أي لجميع الملائكة كما تقدم تقريره في أول سورة البقرة { اسجدوا لأَدَمََ } أي سجود تشريف وتكريم وتعظيم ، كما قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 28-29 ] ، وقوله { فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن } أي خانه أصله ، فإنه خلق من مارج من نار ، وأصل خلق الملائكة من نور ، كما ثبت في « صحيح مسلم » : « خلقت الملائك من نور وخلق إبليس من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم » ونبَّه تعالى هاهنا على أنه من الجن ، أي على أنه خلق من نار كما قال : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ ص : 76 ] ، قال الحسن البصري : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط ، وإن لأصل الجن ، كما أنّ آدم عليه السلام أصل البشر . وقوله : { فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ } أي فخرج عن طاعة الله فإن الفسق هو الخروج ، يقال فسقت الرطبة إذا خرجت من أكمامها ، وفسقت الفأرة من جحرها ، إذا خرجت منه للعيث والفساد ، ثم قال تعالى مقرعاً وموبخاً لمن اتبعه ، وأطاعه { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } أي بدلاً عني ، ولهذا قال : { بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } ، وهذا المقام كقوله بعد ذكر القيامة وأهوالها ، ومصير كل من الفريقين السعداء والأشقياء في سورة يس : { وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون . . . } [ يس : 59 ] إلى قوله { أَفَلَمْ تَكُونُواْ تَعْقِلُونَ } [ يس : 62 ] .(1/1517)
مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا (51)
يقول تعالى هؤلاء الذين اتخذتموهم أولياء من دوني ، عبيد أمثالكم لا يملكون شيئاً ، ولا أشهدتهم خلق السماوات والأرض ، ولا كانوا إذ ذاك موجودين ، يقول تعالى : أنا المستقل بخلق الأشياء كلها ، ومدبرها ومقدرها وحدي ، وليس معي في ذلك شريك ولا وزير ، ولا مشير ولا نظير ، كما قال : { قُلِ ادعوا الذين زَعَمْتُمْ مِّن دُونِ الله لاَ يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِّن ظَهِيرٍ } [ سبأ : 22 ] ، ولهذا قال : { وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ المضلين عَضُداً } قال مالك : أعواناً .(1/1518)
وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُوا شُرَكَائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمْ مَوْبِقًا (52) وَرَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُوا عَنْهَا مَصْرِفًا (53)
يقول تعالى مخبراً عما يخاطب به المشركين يوم القيامة ، على رؤوس الأشهاد تقريعاً لهم وتوبيخاً { نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ } أي في دار الدنيا ، ادعوهم اليوم ينقذونكم مما أنتم فيه ، كما قال تعالى : { وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 94 ] ، وقوله : { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } ، كما قال : { وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } [ القصص : 64 ] الآية ، وقال : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ } [ الأحقاف : 5 ] ، وقال تعالى : { واتخذوا مِن دُونِ الله آلِهَةً لِّيَكُونُواْ لَهُمْ عِزّاً * كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 81-82 ] ، وقوله : { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } قال ابن عباس : مهلكاً ، وقال قتادة : موبقاً وادياً في جهنم . وقال ابن جرير ، عن أنَس بن مالك في قوله تعالى { وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً } قال : واد في جهنم من قيح ودم ، وقال الحسن البصري : موبقاً : عداوة ، والظاهر من السياق هاهنا أنه المهلك ، ويجوز أن يكون وادياً في جهنم أو غيره ، والمعنى أن الله تعالى بين أنه لا سبيل لهؤلاء المشركين ولا وصول لهم إلى آلهتهم التي كانوا يزعمون في الدنيا ، وأنه يفرق بينهم وبينها في الآخرة ، فلا خلاص لأحد من الفريقين إلى الآخر ، بل بينهما مهلك وهول عظيم وأمر كبير ، قال تعالى : { وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون } [ يس : 59 ] وقال تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } [ يونس : 28 ] ، وقوله { وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً } أي أنهم لما عاينوا جهنم حين جيء بها تقاد بسبعين ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك ، فإذا رأى المجرمون النار تحققوا لا محالة أنهم مواقعوها ليكون ذلك من باب تعجيل الهم والحزن لهم ، فإن توقع العذاب والخوف منه قبل وقوعه عذاب ناجز ، وقوله { وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً } أي ليس لهم طريق يعدل بهم عنها ، ولا بد لهم منها . وقال ابن جرير ، عن أبي سعيد ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الكافر ليرى جهنم فيظن أنها مواقعته من مسيرة أربعمائة سنة » .(1/1519)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا (54)
ويقول تعالى : ولقد بينا للناس من هذا القرآن ووضحنا لهم الأمور وفصلناها ، كيلا يضلوا عن الحق ، ويخرجوا عن طريق الهدى ، ومع هذا البيان وهذا الفرقان فإن الإنسان كثير المجادلة والمخاصمة والمعارضة للحق بالباطل ، إلاّ من هدى الله وبصره لطريق النجاة . قال الإمام أحمد ، « عن علي بن أبي طالب أخبره أنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم طرقه وفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة ، فقال : » ألا تصليان « ، فقلت : يا رسول الله إنما أنفسنا بيد الله ، فإذا شاء أن يبعثنا بعثنا ، فانصرف حين قلت ذلك ، ولم يرجع إلي شيئاً ثم سمعته وهو مولٍّ يضرب فخذه ويقول : { وَكَانَ الإنسان أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلاً } » .(1/1520)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى وَيَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ قُبُلًا (55) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَيُجَادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْبَاطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُوا هُزُوًا (56)
يخبر تعالى عن تمرد الكفرة في قديم الزمان وحديثه ، وتكذيبهم بالحق البين الظاهر مع ما يشاهدون من الآيات والدلالات الواضحات ، وأنه ما منعهم من اتباع ذلك إلاّ طلبهم أن يشاهدوا العذاب الذي وعدوا به عياناً كما قال أولئك لنبيهم : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ النساء : 187 ] ، وآخرون قالوا : { ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ العنكبوت : 29 ] ، وقالت قريش : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على ذلك ، ثم قال : { إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الأولين } من غشيانهم بالعذاب ، وأخذهم عن آخرهم { أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب قُبُلاً } أي يرونه عياناً مواجهة ومقابلة ، ثم قال تعالى : { وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } أي مبشرين من صدقهم وآمن بهم ، ومنذرين لمن كذبهم وخالفهم ، ثم أخبر عن الكفار بأنهم { وَجَادَلُوا بالباطل لِيُدْحِضُواْ بِهِ } [ غافر : 5 ] أي ليضعفوا به الحق ، الذي جاءتهم به الرسل ، وليس ذلك بحاصل لهم ، { واتخذوا آيَاتِي وَمَا أُنْذِرُواْ هُزُواً } أي اتخذوا الحجج والبراهين وخوارق العادات التي بعث بها الرسل ، وما أنذروهم وخوفوهم به من العذاب ، { هُزُواً } : أي سخروا منهم في ذلك وهو أشد التكذيب .(1/1521)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا (57) وَرَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤَاخِذُهُمْ بِمَا كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذَابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا (58) وَتِلْكَ الْقُرَى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِدًا (59)
يقول تعالى : وأي عباد الله أظلم ممن ذكّر بآيات الله فأعرض عنها ، أي تناساها وأعرض عنها ولم يصغ لها ، ولا ألقى إليها بالاً { وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } أي من الأعمال السيئة والأفعال القبيحة ، { إِنَّا جَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ } أي قلوب هؤلاء { أَكِنَّةً } أي أغطية وغشاوة ، { أَن يَفْقَهُوهُ } أي لئلا يفهموا هذا القرآن والبيان ، { وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً } : أي صمماً معنوياً عن الرشاد ، { وَإِن تَدْعُهُمْ إلى الهدى فَلَنْ يهتدوا إِذاً أَبَداً } ، وقوله : { وَرَبُّكَ الغفور ذُو الرحمة } : أي ربك يا محمد غفور ذو رحمة واسعة ، { لَوْ يُؤَاخِذُهُم بِمَا كَسَبُواْ لَعَجَّلَ لَهُمُ العذاب } ، كما قال : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [ فاطر : 45 ] ، وقال : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } [ الرعد : 6 ] والآيات في هذا كثيرة شتى ، ثم أخبر أنه يحلم ويستر ويغفر وربما هدى بعضهم من الغي إلى الرشاد ، ومن استمر منهم فله يوم يشيب فيه الوليد وتضع كل ذات حمل حملها ، ولهذا قال : { بَل لَّهُم مَّوْعِدٌ لَّن يَجِدُواْ مِن دُونِهِ مَوْئِلاً } : أي ليس لهم عنه محيص ولا محيد ، ولا معدل ، وقوله : { وَتِلْكَ القرى أَهْلَكْنَاهُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ } أي الأمم السالفة والقرون الخالية أهلكناهم بسبب كفرهم وعنادهم { وَجَعَلْنَا لِمَهْلِكِهِم مَّوْعِداً } : أي جعلناه إلى مدة معلومة ووقت معين لا يزيد ولا ينقص ، أي وكذلك أنتم أيها المشركون احذروا أن يصيبكم ما أصابهم فقد كذبتم أشرف رسول الله وأعظم نبي ، ولستم بأعز علينا منهم فخافوا عذابي ونذري .(1/1522)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا (60) فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا (61) فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا (62) قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا (63) قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا (64) فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا (65)
سبب قول موسى لفتاه وهو ( يوشع بن نون ) هذا الكلام ، أنه ذكر له أن عبداً من عباد الله بمجمع البحرين عنده من العلم ما لم يحط به موسى فأحب الرحيل إليه ، وقال لفتاه ذلك { لا أَبْرَحُ } : أي لا أزال سائراً { حتى أَبْلُغَ مَجْمَعَ البحرين } أي هذا المكان الذي فيه مجمع البحرين ، قال قتادة وغير واحد : هما ( بحر فارس ) مما يلي المشرق و ( بحر الروم ) مما يلي المغرب ، وقال محمد بن كعب : مجمع البحرين عند طنجة ، يعني في أقصى بلاد المغرب ، فالله أعلم . وقوله : { أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } أي ولو أني أسير حقباً من الزمان ، عن عبد الله بن عمرو أنه قال : الحقب ثمانون سنة ، وقال مجاهد : سبعون خريفاً ، وقال ابن عباس { أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً } قال : دهراً ، وقوله : { فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا } وذلك أنه كان قد أمر بحمل حوت مملوح معه وقيل له متى فقدت الحوت فهو ثمة ، فسارا حتى بلغا مجمع البحرين ، وكان من مكتل مع يوشع عليه السلام ، وطفر من المكتل إلى البحر ، فاستيقظ يوشع عليه السلام وسقط الحوت في البحر فجعل يسير في الماء والماء له مثل الطاق لا يلتئم بعده ، ولهذا قال تعالى : { فاتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر سَرَباً } أي مثل السرب في الأرض ، قال ابن عباس : صار أثره كأنه حجر ، وقال قتادة : سرب من البحر حتى أفضى إلى البحر ، ثم سلك فيه فيجعل لا يسلك فيه طريقاً إلاّ صار ماء جامداً ، وقوله : { فَلَمَّا جَاوَزَا } : أي المكان الذي نسيا الحوت فيه ، { قَالَ } موسى { لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا } أي الذي جاوزا في المكان { نَصَباً } أي تعباً ، { قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ } ، ولهذا قال : { واتخذ سَبِيلَهُ } أي طريقه { فِي البحر عَجَباً * قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ } أي هذا هو الذي نطلب { فارتدا } أي رجعا { على آثَارِهِمَا } أي طريقهما { قَصَصاً } أي يقصان آثار مشيهما ، ويقفون أثرهما { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } ، وهذا هو الخضر عليه السلام ، كما دلت عليه الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
روى البخاري ، عن أُبي بن كعب رضي الله عنه ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن موسى قام خطيباً في بني إسرائيل ، فسئل أي الناس أعلم؟ قال : أنا ، فعتب الله عليه إذ لم يرد العلم إليه ، فأوحى الله إليه إن لي عبداً بمجمع البحرين هو أعلم منك . قال موسى : يا رب كيف لي به؟ قال : تأخذ معك حوتاً فتجعله بمكتل فحيثما فقدت الحوت فهو ثم ، فأخذ فجعله بمكتل ثم انطلق وانطلق معه فتاه يوشع بن نون عليه السلام ، حتى إذا أتيا الصخرة وضعا رؤوسهما فناما ، واضطرب الحوت في المكتل فخرج منه فسقط في البحر ، فاتخذ سبيله في البحر سرباً ، وأمسك الله عن الحوت جرية الماء ، فصار عليه مثل الطاق .(1/1523)
فلما استيقظ نسي صاحبه أن يخبره بالحوت ، فانطلقا بقية يومهما وليلتهما ، حتى إذا كان من الغد قال موسى لفتاه : { آتِنَا غَدَآءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِن سَفَرِنَا هذا نَصَباً } ، ولم يجد موسى النصب حتى جاوز المكان الذي أمره الله به ، قال له فتاه : { أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَآ إِلَى الصخرة فَإِنِّي نَسِيتُ الحوت وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ واتخذ سَبِيلَهُ فِي البحر عَجَباً } ، قال فكان للحوت سرباً ، ولموسى وفتاه عجباً ، فقال : { ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } قال ، فرجعا يقصان أثرهما حتى انتهيا إلى الصخرة ، فإذا رجل مسجى بثوب ، فسلم عليه موسى ، فقال الخضر : وأني بأرضك السلام؟ فقال : أنا موسى ، فقال : موسى بني إسرائيل؟ قال : نعم ، قال أتيتك لتعلمني مما علمت رشداً { قَالَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } [ الكهف : 67 ] يا موسى إني على علم من علم الله علمنيه لا تعلمه أنت ، وأنت على علم من علم الله علمكه الله لا أعلمه . فقال موسى : { ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } [ الكهف : 69 ] ، قال له الخضر : { فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } [ الكهف : 70 ] ، فانطلقا يمشيان على ساحل البحر ، فمرت سفينة فكلموهم أن يحملوهم ، فعرفوا الخضر ، فحملوهم بغير نول ، فلما ركبا في السفينة لم يفجأ إلاّ والخضر قد قلع لوحاً من ألواح السفينة بالقدوم ، فقال له موسى : قد حملونا بغير نول فعمدت إلى سفينتهم فخرقتها لتغرق أهلها! لقد جئت شيئاً إمراً { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً * قَالَ لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } [ الكهف : 72-73 ] . قال ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله - فكانت الأولى من موسى نسياناً ، قال ، وجاء عصفور ، فوقع على حرف السفينة فنقر في البحر نقرة أو نقرتين ، فقال له الخضر : ما علمي وعلمك في علم الله إلاّ مثل ما نقص هذا العصفور من هذا البحر ، ثم خرجا من السفينة فبينما هم يمشيان على الساحل إذ أبصر الخضر غلاماً يلعب مع الغلمان فأخذ الخضر رأسه ، فاقتلعه بيده فقتله ، فقال له موسى : { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } [ 74-75 ] ، قال وهذه أشد من الأولى ، { قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ }(1/1524)
[ الكهف : 76-77 ] أي مائلاً فقال الخضر بيده { قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً * فانطلقا حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ استطعمآ أَهْلَهَا فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } [ 67-77 ] فقال موسى : قوم أتيناهم فلم يطعمونا ولم يضيفونا { لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً * قَالَ هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 77-78 ] ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « وددنا أن موسى كان صبر حتى يقص الله علينا من خبرهما » قال سعيد بن جبير : كان ابن عباس يقرأ : { وكان أمامهم ملك يأخذ كل سفينة صالحة غصباً } ، وكان يقرأ : { وأما الغلام فكان كافراً وكان أبواه مؤمنين } .
وروى الزهري : عن ابن عباس : أنه تمارى هو والحر بن قيس بن حصن الفزاري ، في صاحب موسى ، فقال ابن عباس : هو خضر ، فمر بها أبي بن كعب بدعاه ابن عباس ، فقال : إني تماريت أنا وصاحبي هذا في صاحب موسى ، الذي سأل السبيل إلى لقيه ، فهل سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكر شأنه؟ قال : إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « بينما موسى في ملأ من بني إسرائيل إذ جاءه رجل ، فقال : تعلم مكان رجل أعلم منك؟ قال : لا ، فأوحى الله إلى موسى : بلى عبدنا خضر ، فسأل موسى السبيل إلى لقيه ، فجعل الله له الحوت آية ، وقيل له : إذا فقدت الحوت فارجع ، فإنك ستلقاه ، فكان موسى يتبع أثر الحوت في البحر ، فقال فتى موسى لموسى أرأيت إذ أوينا إلى الصخرة فإني نسيت الحوت ، قال موسى { قَالَ ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فارتدا على آثَارِهِمَا قَصَصاً } فوجد عبدنا خضراً ، فكان من شأنهما ما قص الله في كتابه » .(1/1525)
قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا (66) قَالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (67) وَكَيْفَ تَصْبِرُ عَلَى مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْرًا (68) قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلَا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا (69) قَالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلَا تَسْأَلْنِي عَنْ شَيْءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْرًا (70)
يخبر تعالى عن قيل موسى عليه السلام ، لذلك الرجل العالم ، وهو الخضر الذي خصه الله بعلم لم يطلع عليه موسى ، كما أنه أعطى موسى من العلم ما لم يعط الخضر . { قَالَ لَهُ موسى هَلْ أَتَّبِعُكَ } سؤال تلطف لا على وجه الإلزام والإجبار ، وهكذا ينبغي أن يكون سؤال المتعلم من العالم ، وقوله { أَتَّبِعُكَ } أي أصحبك وأرافقك ، { على أَن تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً } أي مما علمك الله شيئاً أسترشد به في أمري من علم نافع وعمل صالح ، فعندها { قَالَ } الخضر لموسى { إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } أي إنك لا تقدر على مصاحبتي لما ترى مني من الأفعال التي تخالف شريعتك ، لأني على علم من علم الله ما علمكه الله ، وأنت على علم من علم الله ما علمنيه الله ، فكل منا مكلف بأمور من الله دون صاحبه ، وأنت لا تقدر على صحبتي { وَكَيْفَ تَصْبِرُ على مَا لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً } فأنا أعرف أنك استنكر عليَّ ما أنت معذور فيه ، ولكن ما اطلعت على حكمته ومصلحته الباطنة ، التي اطلعت أنا عليها دونك ، { قَالَ } أي موسى { ستجدني إِن شَآءَ الله صَابِراً } أي على ما أرى من أمورك ، { وَلاَ أَعْصِي لَكَ أمْراً } أي ولا أخالفك في شيء ، فعند ذلك شارطه الخضر عليه السلام { قَالَ فَإِنِ اتبعتني فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ } أي ابتداء { حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } أي حتى أبداك أنا به ، قبل أن تسألني عن ابن عباس قال : سأل موسى عليه السلام ربه عزّ وجلّ فقال : أي رب أي عبادك أحب إليك؟ قال : الذي يذكرني ولا ينساني ، قال فأي عبادك أقضى؟ قال : الذي يقضي بالحق ولا يتبع الهوى ، قال : أي رب أي عبادك أعلم؟ قال : الذي يبتغي علم الناس إلى علمه عسى أن يصيب كلمة تهديه إلى هدى أو ترده عن ردى ، قال ، أي رب : هل في أرضك أحد أعلم مني؟ قال : نعم ، قال : فمن هو؟ قال : الخضر ، قال : وأين أطلبه؟ قال : على الساحل عند الصخرة التي ينفلت عندها الحوت ، قال ، فخرج موسى يطلبه حتى كان ما ذكر الله وانتهى موسى إليه عند الصخرة ، فسلّم كل واحد منهما على صاحبه ، فقال له موسى : إني أحب أن أصحبك ، قال : إنك لن تطيق صحبتي . قال : بلى ، قال : فإن صحبتني { فَلاَ تَسْأَلْني عَن شَيءٍ حتى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً } قال فسار به في البحر ، حتى انتهى إلى مجمع البحرين ، وليس في الأرض مكان أكثر ماء منه ، قال ، وبعث الله الخطاف ، فجعل يستقي منه بمنقاره ، فقال لموسى : كم ترى هذا الخطاف رزأ من هذا الماء؟ قال : ما أقل ما رزأ ، قال : يا موسى فإن علمي وعلمك في علم الله كقدر ما استقى هذا الخطاف من هذا الماء ، وكان موسى قد حدث نفسه أنه ليس أحد أعلم منه أو تكلم به ، فمن ثم أمر أن يأتي الخضر ، وذكر تمام الحديث في خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وإصلاح الجدار ، وتفسيره له ذلك .(1/1526)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا قَالَ أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا (71) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (72) قَالَ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا (73)
يقول تعالى مخبراً عن موسى وصاحبه وهو الخضر ، أنهما انطلقا لما توافقا واصطحبا ، واشترط عليه أن لا يسأله عن شيء أنكره حتى يكون هو الذي يبتدئه من تلقاء نفسه بشرحه وبيانه ، فركبا في السفينة ، وقد تقدم في الحديث كيف ركبا في السفينة في البحر ولججت ، أي دخلت اللجة ، قام الخضر فخرقها ، واستخرج لوحاً من ألواحها ، ثم رقعها ، فلم يملك موسى عليه السلام نفسه أن قال منكراً عليه { أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا } وهذه اللام لام العاقبة لا لام التعليل . كما قال الشاعر :
لدوا للموت وابنوا للخراب ... { لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً } قال مجاهد : منكراً ، وقال قتادة : عجباً ، فعندها قال له الخضر مذكراً بما تقدم من الشرط { أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } ، يعني وهذا الصنيع فعلته قصداً ، وهو من الأمور التي اشترطت معك أن لا تنكر عليّ فيها ، لأنك لم تحط بها خبراً ، ولها دخل هو مصلحة ولم تعلمه أنت ، { قَالَ } أي موسى { لاَ تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلاَ تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً } : أي لا تضيّق علي ولا تشدد علي ، ولهذا تقدم في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كانت الأولى من موسى نسياناً » .(1/1527)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلَامًا فَقَتَلَهُ قَالَ أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا (74) قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا (75) قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا (76)
يقول تعالى { فانطلقا } أي بعد ذلك { حتى إِذَا لَقِيَا غُلاَماً فَقَتَلَهُ } ، وقد تقدم أنه كان يلعب مع الغلمان في قرية من القرى ، وأنه عمد إليه من بينهم ، وكان أحسنهم وأجملهم فقتله ، وروي أنه اجتز رأسه ، وقيل رضخه بحجر ، وفي رواية اقتلعه بيده ، والله أعلم . فلما شاهد موسى عليه السلام هذا أنكره أشد من الأول ، وبادر فقال { أَقَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً } : أي صغيرة ، لم تعمل الحنث ، ولا عملت إثماً بعد ، فقتلته { بِغَيْرِ نَفْسٍ } : أي بغير مستند لقتله { لَّقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُّكْراً } : أي ظاهر النكارة { قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكَ إِنَّكَ لَن تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً } فأكد أيضاً في التذكار بالشرط الأول ، فلهذا قال له موسى { إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا } : أي إن اعترضت عليك بشيء بعد هذه المرة { فَلاَ تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْراً } : أي قد أعذرت إليّ مرة بعد مرة ، قال ابن جرير ، عن ابين عباس ، عن أَبي بن كعب ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أحداً فدعا له بدأ بنفسه ، فقال ذات يوم : « رحمة الله علينا وعلى موسى لو لبث مع صاحبه لأبصر العجب ، لكنه قال : إن سألتك عن شيء بعدها فلا تصاحبني قد بلغت من لدي عذراً » .(1/1528)
فَانْطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقَامَهُ قَالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا (77) قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (78)
يقول تعالى مخبراً عنهما؛ إنهما { فانطلقا } بعد المرتين الأوليين { حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } ، روي عن ابن سيرين أنها الإريكة ، وفي الحديث : « حتى إذا أتيا أهل قرية لئاماً » أي بخلاء؛ { فَأَبَوْاْ أَن يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَاراً يُرِيدُ أَن يَنقَضّ } إسناد الإرادة هاهنا إلى الجدار على سبيل الاستعارة فإن الإرادة في المحدثات بمعنى الميل؛ والانقضاض هو السقوط . وقوله { فَأَقَامَه } أي فرده إلى حالة الاستقامة ، وقد تقدم في الحديث أنه رده بيديه ودعمه حتى رد ميله ، وهذا خارق ، فعند ذلك قال موسى له { لَوْ شِئْتَ لَتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً } أي لأجل أنهم لم يضيفونا كان ينبغي أن لا تعمل لهم مجاناً { هذا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ } أي لأنك شرطت عند قتل الغلام أنك إن سألتني عن شيء بعدها فلا تصاحبني ، فهو فراق بيني وبينك ، { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ } أي بتفسير { مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } .(1/1529)
أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْبًا (79)
هذا تفسير ما أشكل أمره على موسى عليه السلام وما كان أنكر ظاهره ، وقد أظهر الله الخضر عليه السلام على حكمة باطنة ، فقال : إن السفينة إنما خرقتها لأعيبها ، لأنهم كانوا يمرون بها على ملك من الظلمة { يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ } صالحة أي جيدة { غَصْباً } فأردت أن أعيبها لأرده عنها لعيبها ، فينتفع بها أصحابها المساكين الذين لم يكن لهم شيء ينتفعون به غيرها ، وقد قيل إنهم أيتام ، وروى ابن جريج ، أن اسم ذلك الملك ، ( هدد بن بدد ) ، وهو مذكور في التوراة في ذرية العيص بن إسحاق .(1/1530)
وَأَمَّا الْغُلَامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا (80) فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا (81)
عن أبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الغلام الذي قتله الخضر طبع يوم طبع كافراً » ، ولهذا قال : { فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَآ أَن يُرْهِقَهُمَا طُغْيَاناً وَكُفْراً } أي يحملهما حبة على متابعته على الكفر ، قال قتادة : قد فرح به أبواه حين ولد وحزنا عليه حين قتل ، ولو بقي لكان فيه هلاكهما ، فليرض امرؤ بقضاء الله فإن قضاء الله للمؤمن فيما يكره خير له من قضائه فيما يحب ، وصح في الحديث : « لا يقضي الله لمؤمن قضاء إلاّ كان خيراً له » ، وقال تعالى : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] ، وقوله : { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْماً } أي ولداً أزكى من هذا ، وهما أرحم به منه ، وقال قتادة : أبر بوالديه ، وقيل لما قتله الخضر كانت أمه حاملاً بغلام مسلم ، قاله ابن جريج .(1/1531)
وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلَامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا فَأَرَادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغَا أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنْزَهُمَا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا (82)
في هذه الآية دليل على إطلاق القرية على المدينة ، لأنه قال أولاً { حتى إِذَآ أَتَيَآ أَهْلَ قَرْيَةٍ } [ الكهف : 77 ] ، وقال هاهنا : { فَكَانَ لِغُلاَمَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي المدينة } ، كما قال تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ } [ محمد : 13 ] { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] يعني مكة والطائف ، ومعنى الآية أن هذا الجدار إنما أصلحته لأنه كان لغلامين يتيمين في المدينة ، وكان تحته كنز لهما . قال عكرمة : كان تحته مال مدفون لهما ، وهو ظاهر السياق من الآية ، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله ، وقال ابن عباس : كان تحته كنز علم ، وعن الحسن البصري أنه قال : لوح من ذهب مكتوب فيه : « بسم الله الرحمن الرحيم ، عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن ، وعجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح ، وعجبت لمن يعرف الدنيا وتقلبها بأهلها كيف يطمئن إليها ، لا إله إلاّ الله محمد رسول الله » ، وذكر أنهما حفظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر منهما صلاح ، وكان بينهما وبين الأب الذي حفظا به سبعة آباء . وكان نساجاً ، وهذا الذي ذكر - وإن صح - لا ينافي قول عكرمة إنه كان مالاً . لأنهم ذكروا أنه كان لوحاً من ذهب ، وفيه مال جزيل أكثر ، كان مودعاً فيه علم وهو حكم ومواعظ والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحاً } فيه دليل على أن الرجل الصالح يحفظ في ذريته ، وتشمل بركة عبادته لهم في الدنيا والآخرة بشفاعته فيهم ، ورفع درجتهم إلى أعلى درجة في الجنة ، لتقر عينه بهم ، كما جاء في القرآن ووردت به السنّة ، قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : حفظا بصلاح أبيهما ، ولم يذكر لهما صلاحاً ، وتقدم أنه كان الأب السابع فالله أعلم . وقوله : { فَأَرَادَ رَبُّكَ أَن يَبْلُغَآ أَشُدَّهُمَا وَيَسْتَخْرِجَا كَنزَهُمَا } هاهنا أسند الإرادة إلى الله تعالى ، لأن بلوغهما الحلم لا يقدر عليه إلاّ الله ، وقال في الغلام : { فَأَرَدْنَآ أَن يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْراً مِّنْهُ زَكَاةً } [ الكهف : 81 ] وقال في السفينة : { فَأَرَدتُّ أَنْ أَعِيبَهَا } [ الكهف : 79 ] فالله أعلم . وقوله تعالى : { رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي } أي هذا الذي فعلته في هذه الأحوال الثلاثة إنما هو من رحمة الله بمن ذكرنا من أصحاب السفينة ، ووالدي الغلام ، وولدي الرجل الصالح ، وما فعلته عن أمري ، لكني أمرت به ووقفت عليه ، وفيه دلالة لمن قال بنبوة الخضر عليه السلام مع ما تقدم من قوله : { فَوَجَدَا عَبْداً مِّنْ عِبَادِنَآ آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْماً } [ الكهف : 65 ] ، وذهب كثيرون إلى أنه لم يكن نبياً بل كان ولياً ، فالله أعلم . وحكي في كونه باقياً إلى الآن ثم إلى يوم القيامة قولان ، ومال النووي وابن الصلاح إلى بقائه ، ورجح آخرون من المحدثين وغيرهم خلاف ذلك ، واحتجوا بقوله تعالى :(1/1532)
{ وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد } [ الأنبياء : 34 ] ، وبقول النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر : « اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض » ، وبأنه لم ينقل أنه جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا حضر عنده ، ولا قاتل معه ، ولو كان حياً لكان من أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، لأنه عليه السلام كان مبعوثاً إلى جميع الثقلين الجن والإنس ، وقد قال : « لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلاّ اتباعي » ، وأخبر قبل موته بقليل أنه لا يبقى ممن هو على وجه الأرض إلى مائة سنة من ليلته تلك عين تطرف ، إلى غير ذلك من الدلائل .
وفي « صحيح البخاري » ، عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إنما سمي الخضر لأنه جلس على فروة فإذا هي تهتز من تحته خضراء » والمراد بالفروة هاهنا الحشيش اليابس ، وهو الهشيم من النبات ، وقيل المراد بذلك وجه الأرض . وقوله : { ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } أي هذا تفسير ما ضقت به ذرعاً ، ولم تصبر حتى أخبرك به ابتداء ، ولما أن فسره له وبينه ووضحه وأزال المشكل قال : { تَسْطِع } وقبل ذلك كان الإشكال قوياً ثقيلاً ، فقال : { سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِع عَّلَيْهِ صَبْراً } [ الكهف : 78 ] فقابل الأثقل بالأثقل ، والأخف بالأخف ، كما قال : { فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ } [ الكهف : 97 ] وهو الصعود إلى أعلاه { وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً } [ الكهف : 97 ] وهو أشق من ذلك ، فقابل كلا بما يناسبه لفظاً ومعنى والله أعلم . فإن قيل : فما بال فتى موسى ذكر في أول القصة ثم لم يذكر بعد ذلك؟ فالجواب أن المقصود بالسياق إنما هو قصة موسى مع الخضر ، وذكر ما كان بينهما ، وفتى موسى معه تبع ، وقد صرح في الأحاديث المتقدمة في « الصحاح » وغيرها ، أنه ( يوشع بن نون ) وهو الذي كان يلي بني إسرائيل بعد موسى عليه السلام .(1/1533)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَبًا (84)
يقول تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم { وَيَسْأَلُونَكَ } يا محمد { عَن ذِي القرنين } أي عن خبره ، وقد قدمنا انه بعث كفار مكة إلى أهل الكتاب ، يسألون منهم ما يمتحنون به النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : سلوه عن رجل طواف في الأرض ، وعن فتية ما يدري ما صنعوا ، وعن الروح ، فنزلت سورة الكهف وقد ذكر الأزرقي وغيره أنه طاف بالبيت مع إبراهيم الخليل عليه السلام أول ما بناه وآمن به ، وتبعه ، وكان وزيره الخضر عليه السلام ، وقد ذكرنا طرفاً صالحاً من أخباره في كتاب « البداية والنهاية » بما فيه كفاية والحمد لله . وقال بعض أهل الكتاب ، سمّي ذا القرنين لأنه ملك الروم وفارس ، وقال بعضهم : كان في رأسه شبه القرنين . وقال سفيان الثوري ، عن أبي الطفيل : سئل علي رضي الله عنه عن ذي القرنين فقال : كان عبداً ناصحاً لله فناصحه ، دعا قومه لله فضربوه على قرنه فمات ، فسمي ذا القرنين ، ويقال إنه سمي ذا القرنين لأنه بلغ المشارق والمغارب من حيث يطلع قرن الشمس ويغرب . وقوله : { إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأرض } أي أعطيناه ملكاً عظيماً ، ممكناً فيه من جميع ما يؤتى الملوك من التمكين والجنود وآلات الحرب والحضارات ، ولهذا ملك المشارق والمغارب من الأرض ، ودانت له البلاد وخضعت له ملوك العباد . وخدمته الأمم من العرب والعجم ، ولهذا ذكر بعضهم أنه إنما سمي ذا القرنين لأنه بلغ قرني الشمس مشرقها ومغربها ، وقوله : { وَآتَيْنَاهُ مِن كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً } ، قال ابن عباس : يعني علماً ، وقال قتادة : منازل الأرض وأعلامها ، وقال عبد الرحمن بن زيد ، تعليم الألسنة ، قال : كان لا يغزو قوماً إلاّ كلمهم بلسانهم ، وعن حبيب بن حماد قال : كنت عند علي رضي الله عنه ، وسأله رجل عن ذي القرنين ، كيف بلغ المشرق والمغرب؟ فقال : سبحان الله سخّر له السحاب وقدر له الأسباب وبسط له اليد .(1/1534)
فَأَتْبَعَ سَبَبًا (85) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْمًا قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْنًا (86) قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَابًا نُكْرًا (87) وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا (88)
قال ابن عباس { فَأَتْبَعَ سَبَباً } : يعني بالسبب المنزل . وقال مجاهد { فَأَتْبَعَ سَبَباً } : منزلاً وطريقاً ما بين المشرق والمغرب ، وقال قتادة : أي اتبع منازل الأرض ومعالمها . وقال سعيد بن جبير : علماً ، وقال مطر : معالم وآثار كانت قبل ذلك . وقوله : { حتى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشمس } : أي فسلك طريقاً حتى وصل إلى أقصى ما يسلك فيه من الأرض من ناحية المغرب وهو مغرب الأرض ، وأما الوصول إلى مغرب الشمس من السماء فمتعذر ، وما يذكره أصحاب القصص والأخبار من أنه سار في الأرض مدة والشمس تغرب من ورائه ، فشيء لا حقيقة له ، وأكثر ذلك من خرافات أهل الكتاب واختلاق زنادقتهم وكذبهم ، وقوله { وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } : أي رأى الشمس في منظره تغرب في البحر المحيط وهذا شأن كل من انتهى إلى ساحله ، يراها كأنها تغرب فيه ، والحمئة مشتقة على إحدى القراءتين من الحمأة وهو الطين ، كما قال تعالى : { إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 28 ] : أي من طين أملس ، وقد تقدم بيانه . وقال ابن جرير : كان ابن عباس يقول { فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ } ثم فسرها ذات حمأة ، قال نافع : وسئل عنها كعب الأحبار فقال : أنتم أعلم بالقرآن مني ولكني أجدها في الكتاب تغيب في طيهة سوداء . وبه قال مجاهد وغير واحد . وعن أُبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم أقرأه حمئة ، وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس وجدها تغرب في عين حامية يعني حارة . وكذا قال الحسن البصري ، وقال ابن جرير : والصواب أنهما قراءتان مشهورتان ، وأيهما قرأ القارئ فهو مصيب ، ولا منافاة بين معنييهما إذ قد تكون حارة لمجاورتها وهج الشمس عند غروبها وملاقاتها الشعاع بلا حائل ، وحمئة في ماء وطين أسود كما قال كعب الأحبار وغيره .
وقوله تعالى : { وَوَجَدَ عِندَهَا قَوْماً } : أي أُمّة من الأمم ، ذكرنا أنها كانت أمّة عظيمة من بني آدم ، وقوله : { قُلْنَا ياذا القرنين إِمَّآ أَن تُعَذِّبَ وَإِمَّآ أَن تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً } معنى هذا أن الله تعالى مكَّنه منهم ، وحكَّمه فيهم وأظفره بهم ، وخيّره إن شاء قتل وسبى ، وإن شاء منَّ أو فدى ، فعرف عدله وإيمانه ، فيما أبداه عدله وبيانه في قوله { أَمَّا مَن ظَلَمَ } أي استمر على كفره وشركه بربه { فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ } ، قال قتادة : بالقتل ، وقال السدي : كان يحمي لهم النحاس ويضعهم فيها حتى يذوبوا . وقال وهب بن منبه : كان يسلط الظلمة فتدخل يبوتهم ، وتغشاهم من جميع جهاتهم ، والله أعلم . وقوله { ثُمَّ يُرَدُّ إلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُّكْراً } أي شديداً وجيعاً أليماً ، وفي هذا إثبات المعاد والجزاء . وقوله : { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ } أي تابعنا على ما ندعوه إليه من عبادة الله وحده لا شريك له { فَلَهُ جَزَآءً الحسنى } أي في الدار الآخرة عند الله عزَّ وجلَّ ، { وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } قال مجاهد : معروفاً .(1/1535)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (89) حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْرًا (90) كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْرًا (91)
يقول تعالى : ثم سلك طريقاً فسار من مغرب الشمس إلى مطلعها ، وكان كلما مرّ بأُمّة قهرهم وغلبهم ودعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ ، فإن أطاعوه وإلاّ أذلهم وأرغم آنافهم واستباح أموالهم وأمتعتهم ، واستخدم من كل أمة ما تستعين به جيوشه على قتال الإقليم المتاخم لهم . وذكر في أخبار بني إسرائيل أنه عاش ألفاً وستمائة سنة يجوب الأرض ، طولها والعرض ، حتى بلغ المشارق والمغارب ، ولما انتهى إلى مطلع الشمس من الأرض كما قال الله تعالى { وَجَدَهَا تَطْلُعُ على قَوْمٍ } أي أمة { لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } أي ليس لهم بناء يكنهم ، ولا أشجار تظلهم وتسترهم من حر الشمس ، قال سعيد بن جبير : كانوا حمراً قصاراً مساكنهم الغيران ، أكثر معيشتهم من السمك . وقال الحسن في قول الله تعالى { لَّمْ نَجْعَل لَّهُمْ مِّن دُونِهَا سِتْراً } قال : إن أرضهم لا تحمل البناء ، فإذا طلعت الشمس تغوروا في المياه ، فإذا غربت خرجوا يتراعون كما ترعى البهائم ، وقال قتادة : ذكر لنا أنهم بأرض لا تنبت لهم شيئاً ، فهم إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب ، حتى إذا زالت الشمس خرجوا إلى حروثهم ومعايشهم . وقال ابن جرير : لم يبنوا فيها بناء قط ولم يبن عليهم فيها بناء قط ، كانوا إذا طلعت الشمس دخلوا أسراباً لهم حتى تزول الشمس ، أو دخلوا البحر ، وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل . وقوله { كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً } قال مجاهد والسدي : علماً ، أي نحن مطلعون على جميع أحواله ، وأحوال جيشه لا يخفى علينا منها شيء ، وإن تفرقت أممهم وتقطعت بهم الأرض ، فإنه تعالى { لاَ يخفى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } [ آل عمران : 5 ] .(1/1536)
ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَبًا (92) حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْمًا لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا (93) قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجًا عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قَالَ مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْمًا (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَارًا قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْرًا (96)
يقول تعالى مخبراً عن ذي القرنين { ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً } أي ثم سلك طريقاً من مشارق الأرض ، حتى إذا بلغ بين السدين وهما جبلان متناوحان بينهما ثغرة ، يخرج منها يأجوج ومأجوج على بلاد الترك ، فيعيثون فيها فساداً ويهلكون الحرث والنسل ، ويأجوج ومأجوج من سلالة آدم عليه السلام كما ثبت في « الصحيحين » : « أن الله تعالى يقول : يا آدم ، فيقول : لبيك وسعديك ، فيقول : ابعث بعث النار ، فيقول : وما بعث النار؟ فيقول : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة ، فحينئذٍ يشيب الصغير وتضع كل ذات حمل حملها ، فقال : إن فيكم أمتين ما كانتا في شيء إلاّ كثّرتاه . يأجوج ومأجوج » وفي « مسند الإمام أحمد » ، عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ولد نوح ثلاثة : سام أبو العرب ، وحام أبو السودان ، ويافث أبو الترك » ، وقال العلماء : هؤلاء من نسل يافث أبي الترك ، وقال : إنما سمي هؤلاء تركاً لأنهم تركوا من وراء السد من هذه الجهة ، وإلاّ فهم أقرباء أولئك ، ولكن كان في أولئك بغي وفساد وجراءة ، وقد ذكر ابن جرير هاهنا عن وهب بن منبه أثراً طويلاً عجيباً في سير ذي القرنين وبنائه السد وكيفيه ما جرى له ، وفيه طول وغرابة ونكارة في أشكالهم وصفاتهم وطولهم وقصر بعضهم وآذانهم ، وروى ابن أبي حاتم عن أبيه في ذلك أحاديث غريبة لا تصح أسانيدها ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَجَدَ مِن دُونِهِمَا قَوْماً لاَّ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً } أي لاستعجام كلامهم ، وبعدهم عن الناس ، { قَالُواْ ياذا القرنين إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرض فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً } قال ابن عباس : أجراً عظيماً ، يعني أنهم أرادوا أن يجمعوا له من بينهم مالاً يعطونه إياه حتى يجعل بينهم وبينهم سداً ، فقال ذو القرنين بعفة وديانة وصلاح وقصد للخير { مَا مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ } أي أنّ الذي أعطاني الله من الملك والتمكين خيرٌ لي من الذي تجمعونه ، كما قال سليمان عليه السلام : { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ } [ النمل : 36 ] الآية . وهكذا قال ذو القرنين ، الذي أنا فيه خير من الذي تبذلونه ، ولكن ساعدوني بقوة ، أي بعملكم وآلات البناء { أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الحديد } والزبر ، جمع ( زبرة ) وهي القطعة منه وهي كاللبنة يقال كل لبنة زنة قنطار بالدمشقي أو تزيد عليه { حتى إِذَا ساوى بَيْنَ الصدفين } أي وضع بعضه على بعض من الأساس ، حتى إذا حاذى به رؤوس الجبلين طولاً وعرضاً { قَالَ انفخوا } أي أجّج عليه النار ، حتى صار كله ناراً { قَالَ آتوني أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً } قال ابن عباس والسدي : هو النحاس .(1/1537)
زاد بعضهم المذاب ، ويستشهد بقوله تعالى : { وَأَسَلْنَا لَهُ عَيْنَ القطر } [ سبأ : 12 ] ، عن قتادة قال : ذكر لنا أن رجلاً قال : « يا رسول الله قد رأيت سد يأجوج ومأجوج قال : » أنعته لي « ، قال كالبرد المحبّر ، طريقة سوداء ، وطريقة حمراء ، قال : » قد رأيته « وقع بعث الخليفة الواثق في دولته بعض امرائه وجهز معه جيشاً سرية لينظروا إلى السد ويعاينوه وينعتونه له إذا رجعوا ، فتوصلوا من بلاد إلى بلاد ، ومن ملك إلى ملك ، حتى وصلوا إليه ، ورأوا بناءه من الحديد ومن النحاس ، وذكروا أنهم رأوا فيه باباً عظيماً ، وعليه أقفال عظيمة ، ورأوا بقية اللبن والعمل في برج هناك ، وأن عنده حرساً من الملوك التاخمة له ، وأنه عال منيف شاهق ، لا يستطاع ، ولا ما حوله من الجبال ، ثم رجعوا إلى بلادهم وكانت غيبتهم أكثر من سنتين ، وشاهدوا أهوالاً وعجائب ، ثم قال الله تعالى :(1/1538)
فَمَا اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْبًا (97) قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98) وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعًا (99)
يقول تعالى مخبراً عن يأجوج ومأجوج ، إنهم ما قدروا عل أن يصعدوا من فوق هذا السد ، ولا قدروا على نقبه من أسفله ، ولما كان الظهور عليه أسهل من نقبه قابل كلا بما يناسبه ، فقال : { فَمَا اسطاعوا أَن يَظْهَرُوهُ وَمَا استطاعوا لَهُ نَقْباً } ، وهذا دليل على أنهم لم يقدروا على نقبه ولا على شيء منه ، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يأجوج ومأجوج ليحفرون السد كل يوم ، حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس ، قال الذي عليهم ، ارجعوا فستحفرونه غداً ، فيعودون إليه كأشد ما كان ، حتى إذا بلغت مدتهم وأراد الله أن يبعثهم على الناس ، حفروا حتى إذا كادوا يرون شعاع الشمس قال الذي عليهم : ارجعوا فستحفرونه غداً إن شاء الله ، فيستثني فيعودون إليه ، وهو كهيئته حين تركوه فيحفرونه ، ويخرجون على الناس فينشفون المياه ويتحصن الناس منهم في حصونهم ، فيرمون بسهامهم إلى السماء ، فترجع وعليها كهيئة الدم فيقولون قهرنا أهل الأرض وعلونا أهل السماء ، فيبعث الله عليهم نغفاً في رقابهم فيقتلهم بها ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » والذي نفس محمد بيده إن دواب الأرض لتسمن وتَشْكر شكراً من لحومهم ودمائهم « ، ففي رفعه نكارة ، لأن ظاهر الآية يقتضي أنهم لم يتمكنوا من ارتقائه ولا من نقبه لإحكام بنائه وصلابته وشدته ويؤيد ما قلناه من أنهم لم يتمكنوا من نقبه ، ومن نكارة هذا المرفوع ، قول الإمام أحمد ، عن زينب بنت جحش زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : » استيقظ النبي صلى الله عليه وسلم من نومه وهو محمر وجهه وهو يقول : « لا إله إلاّ الله ويل للعرب من شر قد اقترب فتح اليوم من ردم يأجوج ومأجوج مثل هذا ، وحلق بأصبعيه السبابة والإبهام » ، قلت : يا رسول الله! أنهلك وفينا الصالحون؟ قال : « نعم إذا كثر الخبث » .
{ قَالَ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } أي لما بناه ذو القرنين { قَالَ هذا رَحْمَةٌ مِّن رَّبِّي } ، أي الناس حيث جعل بينهم وبين يأجوج ومأجوج حائلاً يمنعهم من العيث في الأرض والفساد { جَآءَ وَعْدُ رَبِّي } أي إذا اقترب الوعد الحق { جَعَلَهُ دَكَّآءَ } أي ساواه بالأرض ، تقول العرب : ناقة دكاء إذا كان ظهرها مستوياً لا سنام لها ، وقال تعالى : { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً } [ الأعراف : 142 ] أي مساوياً للأرض ، وقال عكرمة في قوله : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّآءَ } قال : طريقاً كما كان ، { وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً } أي كائناً لا محالة . وقوله : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ } أي الناس ، { يَوْمَئِذٍ } أي يوم يدك هذا السد ويخرج هؤلاء فيموجون في الناس ، ويفسدون على الناس أموالهم ، ويتلفون أشياءهم وهكذا قال السدي ، في قوله { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال : ذاك حين يخرجون على الناس ، وهذا كله قبل يوم القيامة ، وبعد الدجال ، كما سيأتي بيانه عند قوله :(1/1539)
{ حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ * واقترب الوعد الحق } [ الأنبياء : 96-97 ] الآية . وهكذا قال هاهنا ، { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } قال : هذا أول يوم القيامة ، { وَنُفِخَ فِي الصور } على أثر ذلك { فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } ، وقال آخرون : بل المراد بقوله : { وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ } ، قال : إذا ماج الجن والإنس يوم القيامة يختلط الإنس والجن ، وقوله : { وَنُفِخَ فِي الصور } ، والصور كما جاء في الحديث ، قرن ينفخ فيه ، والذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام ، وفي الحديث عن ابن عباس وأبي سعيد مرفوعاً : « كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته ، واستمع متى يؤمر » ، قالوا : كيف نقول؟ قال : « قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، على الله توكلنا » ، وقوله : { فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً } أي أحضرنا الجميع للحساب { قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين * لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [ الواقعة : 49-50 ] ، { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 47 ] .(1/1540)
وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضًا (100) الَّذِينَ كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَكَانُوا لَا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعًا (101) أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِنْ دُونِي أَوْلِيَاءَ إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا (102)
يقول تعالى مخبراً عما يفعله بالكفار يوم القيامة : أنه يعرض عليهم جهنم ، أي يبرزها لهم ويظهرها ليروا ما فيها من العذاب والنكال قبل دخولها ليكون ذلك أبلغ في تعجيل الهم والحزن لهم ، وفي « صحيح مسلم » عن ابن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يؤتى بجهنم تقاد يوم القيامة بسبعين ألف زمام ، مع كل زمام سبعون ألف ملك » ، ثم قال مخبراً عنهم { الذين كَانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطَآءٍ عَن ذِكْرِي } أي تغافلوا عن قبول الهدى واتباع الحق ، كما قال { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] ، وقال هاهنا { وَكَانُواْ لاَ يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً } أي لا يعقلون عن الله أمره ونهيه ، ثم قال : { أَفَحَسِبَ الذين كفروا أَن يَتَّخِذُواْ عِبَادِي مِن دوني أَوْلِيَآءَ } أي اعتقدوا أنهم يصح لهم ذلك وينتفعون به { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] ولهذا أخبر الله تعالى أنه قد أعد لهم جهنم يوم القيامة منزلاً .(1/1541)
قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا (103) الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا (104) أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا (105) ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا (106)
عن مصعب قال : سألت أبي ، يعني سعد بن أبي وقاص ، عن قول الله : { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم بالأخسرين أَعْمَالاً } أهم الحرورية؟ قال : لا ، هم اليهود والنصارى ، أما اليهود فكذبوا محمداً صلى الله عليه وسلم ، وأما النصارى فكفروا بالجنة وقالوا : لا طعام فيها ولا شراب ، والحرورية الذين ينقضون عهد الله من بعد ميثاقه ، فكان سعد رضي الله عنه يسميهم الفاسقين « . وقال علي بن أبي طالب والضحّاك وغير واحد : هم الحرورية ، ومعنى هذا عن علي رضي الله عنه ، أن هذه الآية الكريمة تشمل الحرورية كما تشمل اليهود والنصارى وغيرهم ، لا أنها نزلت في هؤلاء على الخصوص ، وإنما هي عامة في كل من عبد الله على غير طريقة مرضية يحسب أنه مصيب فيها ، وأن عمله مقبول ، وهو مخطئ وعمله مردود ، كما قال تعالى { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] ، وقال تعالى : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } [ النور : 39 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُم } أي نخبركم { بالأخسرين أَعْمَالاً } ، ثم فسرهم فقال : { الذين ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الحياة الدنيا } أي عملوا أعمالاً باطلة على غير شريعة مشروعة مرضية مقبولة ، { وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً } أي يعتقدون أنهم على شيء ، وأنهم مقبولون محبوبون ، وقوله { أولئك الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ } : أي جحدوا آيات الله في الدنيا ، وبراهينه التي أقام على وحدانيته ، وصدق رسله وكذبوا بالدار الآخرة ، { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } أي لا نثقل موازينهم لأنها خالية عن الخير ، روى البخاري ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : » إنه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند الله جناح بعوضة - وقال - اقرأوا إن شئتم : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } ، وقال ابن أبي حاتم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يؤتى بالرجل الأكوال الشروب العظيم فيوزن بحبة فلا يزنها » ، قال قرأ { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } ، عن عبد الله بن بريدة ، عن أبيه قال : « كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقبل رجل من قريش يخطر في حلة له ، فلما قام على النبي صلى الله عليه وسلم قال : » يا بريدة هذا ممن لا يقيم الله لهم يوم القيامة وزناً « ، وعن كعب قال : يؤتى يوم القيامة برجل عيظم طويل فلا يزن عند الله جناح بعوضة ، اقرأوا : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } . وقوله { ذَلِكَ جَزَآؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُواْ } أي إنما جازيناهم بهذا الجزاء بسبب كفرهم ، واتخاذهم آيات الله ورسله هزواً استهزأوا بهم وكذبوهم أشد التكذيب .(1/1542)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا (107) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلًا (108)
يخبر تعالى عن عباده السعداء ، وهم الذين آمنوا بالله ورسوله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به ، أن لهم جنات الفردوس ، قال مجاهد : هو البستان بالرومية ، وقال الضحّاك : هو البستان الذي فيه شجر الأعناب ، وقال قتادة : الفردوس ربوة الجنة وأوسطها وأفضلها ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم : « الفردوس ربوة الجنة أوسطها وأحسنها » وفي « الصحيحين » : « إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجّر أنهار الجنة » ، وقوله تعالى { نُزُلاً } أي ضيافة فإن النزل الضيافة ، وقوله { خَالِدِينَ فِيهَا } أي مقيمين ساكنين فيها ، لا يظعنون عنها أبداً ، { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } اي لا يختارون عنها غيرها ، ولا يحبون سواها ، كما قال الشاعر :
فحلّت سويدا القلب لا أنا باغياً ... سواها ، ولا عن حبها أتحول
وفي قوله تعالى : { لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } تنبيه على رغبتهم فيها وحبهم لها ، مع أنه قد يتوهم فيمن هو مقيم في المكان دائماً أنه قد يسأمه أو يمله ، فأخبر أنهم مع هذا الدوام والخلود السرمدي لا يختارون عن مقامهم ذلك متحولاً ولا انتقالاً ، ولا ظعناً ولا رحلة ولا بدلاً .(1/1543)
قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا (109)
يقول تعالى : قل يا محمد لو كان ماء البحر مداداً للقلم الذي يكتب به كلمات الله وحكمه وآياته الدالة عليه ، لنفد البحر قبل أن يفرغ كتابه ذلك { وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ } أي بمثل البح آخر ثم آخر ، وهلم جراً ، بحور تمده ويكتب بها لما تفدت كلمات الله ، كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ لقمان : 27 ] ، وقال الربيع بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها ، وقد أنزل الله ذلك : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي } يقول : لو كانت تلك البحور مداداً لكلمات الله ، والشجر كله أقلام ، لانكسرت الأقلام وفني ماء البحر ، وبقيت كلمات الله قائمة لا يفنيها شيء ، لأن أحداً لا يستطيع أن يقدر قدره ولا يثني عليه كما ينبغي ، حتى يكون هو الذي يثني على نفسه ، إن ربنا كما يقول وفوق ما نقول ، إن مثل نعيم الدنيا أولها وآخرها في نعيم الآخرة كحبة من خردل في خلال الأرض كلها .(1/1544)
قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا (110)
يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه { قُلْ } لهؤلاء المشركين المكذبين برسالتك إليهم { إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } ، فمن زعم أني كاذب فليأت بمثل ما جئت به ، فإني لا أعلم الغيب فيما أخبرتكم به من الماضي ، عما سألتم من قصة أصحاب الكهف ، وخبر ذي القرنين ، مما هو مطابق في نفس الأمر ، لولا ما أطلعني الله عليه ، وإنما أخبركم { أَنَّمَآ إلهكم } الذي أدعوكم إلى عبادته { إله وَاحِدٌ } لا شريك له ، { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ } أي ثوابه يوجزاءه الصالح { فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً } ما كان موافقاً لشرع الله ، { وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } وهو الذي يراد به وجه الله وحده لا شريك له ، وهذان ركنا العمل المتقبل ، لا بدَّ أن يكون خالصاً لله ، صواباً على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد روي عن طاووس قال : قال رجل : يا رسول الله! إني أقف المواقف أريد وجه الله ، وأحب أن يرى موطني ، فلم يرد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً ، حتى نزلت هذه الآية { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } ، وجاء رجل إلى عبادة بن الصامت ، فقال أنبئني عما أسألك عنه ، أرأيت رجلاً يصلي يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ، ويصوم يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ، ويتصدق يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ، ويحج يبتغي وجه الله ويحب أن يحمد ، فقال عبادة : ليس له شيء ، إن الله تعالى يقول : أنا خير شريك ، فمن كان معي شريك فهو له كله لا حاجة لي فيه .
وروى الإمام أحمد ، عن شداد بن أوس رضي الله عنه أنه بكى . فقيل له : ما يبكيك؟ قال شيء سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم فأبكاني . سمعت رسول الله يقول : « أتخوف على أمتي الشرك والشهوة الخفية » ، قلت : يا رسول الله! أتشرك أمتك من بعدك؟ قال : « نعم ، أما إنهم لا يعبدون شمساً ولا قمراً ولا حجراً ولا وثناً ، ولكن يراؤون بأعمالهم ، والشهوة الخفية أن يصبح أحدهم صائماً فتعرض له شهوة من شهواته فيترك صومه » ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم يرويه عن الله عزَّ وجلَّ أنه قال : « أنا خير الشركاء ، فمن عمل عملاً أشرك فيه غيري فأنا بريء منه وهو للذي أشرك » ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد ، عن أبي سعيد بن أبي فضالة الأنصاري ، وكان من الصحابة أنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا جمع الله الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه نادى مناد : من كان أشرك في عمل عمله لله أحداً فليطلب ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك »(1/1545)
( حديث آخر ) : عن أنَس رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تعرض أعمال بني آدم بين يدي الله عزَّ وجلَّ يوم القيام’ ، في صحف مختمة ، فيقول الله : ألقوا هذا واقبلوا هذا ، فتقول الملائكة : يا رب ، والله ما رأينا منه إلا خيراً ، إن عمله كان لغير وجهي ، ولا أقبل اليوم من العمل إلاّ ما أريد به وجهي » . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أحسن الصلاة حيث يراه الناس وأساءها حيث يخلو فتلك استهانة استهان بها ربه عزّ وجلّ » .(1/1546)
كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نَادَى رَبَّهُ نِدَاءً خَفِيًّا (3) قَالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْبًا وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4) وَإِنِّي خِفْتُ الْمَوَالِيَ مِنْ وَرَائِي وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَاجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة . وقوله : { ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّآ } أي هذا ذكر رحمة الله عبده زكريا ، وزكريا يمد ويقصر ، قراءتان مشهورتان ، وكان نبياً عظيماً من أنبياء بني إسرائيل ، وفي « صحيح البخاري » ، أنه كان نجاراً يأكل من عمل يده في النجارة ، وقوله { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } قال بعض المفسرين : إنما أخفى دعاءه لئلا ينسب في طلب الولد إلى الرعونة لكبره ، حكاه المارودي ، وقال الآخرون : إنما أخفاه لأنه أحب إلى الله ، كما قال قتادة في هذه الآية { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } : إن الله يعلم القلب التقي ، ويسمع الصوت الخفيّ ، وقال بعض السلف : قام من الليل عليه السلام وقد نام أصحابه ، فجعل يهتف بربه يقول خفية : يا رب يا يا رب ، فقال الله له : لبيك لبيك لبيك { قَالَ رَبِّ إِنَّي وَهَنَ العظم مِنِّي } أي ضعفت وخارت القوى { واشتعل الرأس شَيْباً } أي اضطرم المشيب في السواد . والمراد من هذا الإخبارُ عن الضعف والكبر ، ودلائله الظاهرة والباطنة ، وقوله : { وَلَمْ أَكُنْ بِدُعَآئِكَ رَبِّ شَقِيّاً } أي ولم أعهد منك إلاّ الإجابة في الدعاء ، ولم تردني قط فيه سألتك ، وقوله : { وَإِنِّي خِفْتُ الموالي مِن وَرَآئِي } ، قال مجاهد وقتادة والسدي : أراد بالموالي العصبة ، ووجه خوفه أنه خشي أن يتصرفوا من بعده في الناس تصرفاً سيئاً ، فسأل الله ولداً يكون نبياً من بعده ليسوسهم بنبوته ما يوحي إليه ، فاجيب في ذلك ، لا أنه خشي من وراثتهم له ماله ، فإن النبي أعظم منزلة وأجل قدراً من أن يشفق على ماله إلى ما هذا حده ، وأن يأنف من وراثة عصباته له ، ويسأل أن يكون له ولد ليحوز ميراثه دونهم هذا وجه . ( الثاني ) أنه لم يذكر أنه كان ذا مال بل كان نجاراً يأكل من كسب يديه ، ومثل هذا لا يجمع مالاً ولا سيما الأنبياء ، فإنهم كانوا أزهد شيء في الدنيا . ( الثالث ) أنه ثبت في « الصحيحين » من غير وجه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا نورث ، ما تركناه صدقة » وفي رواية عند الترمذي بإسناد صحيح : « نحن معشر الأنبياء لا نورث » وعلى هذا فتعين حمل قوله : { فَهَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً * يَرِثُنِي } على ميراث النبوة ، ولهذا قال : { وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } كقوله : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } [ النمل : 16 ] أي في النبوة . إذ لو كان في المال خصه من بين إخوته بذلك ، ولما كان في الإخبار بذلك كبير فائدة ، إذ من المعلوم المستقر في جميع الشرائع والملل أن الولد يرث أباه ، فلولا أنها وراثة خاصة لما أخبر به ، وكل هذا يقرره ويثبته ما صح في الحديث : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركنا فهو صدقة » ، قال مجاهد : كان وراثته علماً وقال الحسن : يرث نبوته وعلمه ، وقال السدي : يرث نبوتي ونبوة آل يعقوب ، وعن أبي صالح في قوله { يَرِثُنِي وَيَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ } قال : يرث مالي ويرث ممن آل يعقوب النبوة ، وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره . وقوله : { واجعله رَبِّ رَضِيّاً } أي مرضياً عندك وعند خلقك ، تحبه وتحببه إلى خلقك في دينه وخلقه .(1/1547)
يَا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ اسْمُهُ يَحْيَى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7)
هذا الكلام يتضمن محذوفاً ، وهو أنه أجيب إلى ما سأل في دعائه فقيل له : { يازكريآ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلاَمٍ اسمه يحيى } ، كما قال تعالى : { هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء * فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله وَسَيِّداً وَحَصُوراً وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } [ آل عمران : 38-39 ] ، وقوله : { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } . قال قتادة : أي لم يسم أحد قبله بهذا الاسم ، وقال مجاهد : { لَمْ نَجْعَل لَّهُ مِن قَبْلُ سَمِيّاً } أي شبيهاً ، أخذه من معنى قوله : { هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } [ مريم : 65 ] ؟ أي شبيهاً ، وقال ابن عباس : أي لم تلد العواقر قبله مثله ، وهذا دليل على أن زكريا عليه السلام كان لا يولد له ، وكذلك امرأته كانت عاقراً من أول عمرها ، بخلاف إبراهيم وسارة عليهما السلام ، فإنهما إنما تعجبا من البشارة بإسحاق لكبرهما ، ولهذا قال : { أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } [ الحجر : 54 ] مع أنه كان قد ولد له قبله إسماعيل بثلاث عشرة سنة .(1/1548)
قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَكَانَتِ امْرَأَتِي عَاقِرًا وَقَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قَالَ كَذَلِكَ قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئًا (9)
هذا تعجب من زكريا عليه السلام حين أجيب إلى ما سأل ، وبشر بالولد ففرح فرحاً شديداً وسأل عن كيفية ما يولد له ، والوجه الذي يأتيه منه الولد ، مع أن امرأته كانت عاقراً لم تلد من أول عمرها مع كبرها ، ومع أنه قد كبر وعتا ، أي عسا عظمه ، ونحل ، ولم يبق فيه لقاح ولا جماع ، والعرب تقول إذا يبس : عتا ، وقال مجاهد : { عِتِيّاً } يعني قحول العظم ، وقال ابن عباس وغيره ، عتياً يعني الكبر ، والظاهر أنه أخص من الكبر ، { قَالَ } أي الملك مجيباً لزكريا عما استعجب منه { كذلك قَالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي إيجاد الولد منك ومن زوجتك هذه لا من غيرها ، { هَيِّنٌ } أي يسير سهل على الله ، ثم ذكر له ما هو أعجب مما سأل عنه فقال : { وَقَدْ خَلَقْتُكَ مِن قَبْلُ وَلَمْ تَكُ شَيْئاً } ، كما قال تعالى : { هَلْ أتى عَلَى الإنسان حِينٌ مِّنَ الدهر لَمْ يَكُن شَيْئاً مَّذْكُوراً } [ الإنسان : 1 ] .(1/1549)
قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَ لَيَالٍ سَوِيًّا (10) فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (11)
يقول تعالى مخبراً عن زكريا عليه السلام أنه { قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً } أي علامة ودليلاً على وجود ما وعدتني ، لتستقر نفسي ويطمئن قلبي بما وعدتني ، كما قال إبراهيم عليه السلام { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } [ البقرة : 260 ] ، ، { قَالَ آيَتُكَ } أي علامتك { أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } أي أن يُحبس لسانك عن الكلام ثلاث ليال ، وأنت صحيح سوي ، من غير مرض ولا علة ، قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : اعتقل لسانه من غير مرض ولا علة . قال زيد بن أسلم : كان يقرأ ويسبّح ولا يستطيع أن يكلم قومه إلاّ إشارة ، وقال العوفي ، عن ابن عباس : { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } أي متتابعات . وقال مالك ، عن زيد بن أسلم : { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } من غير خرس ، وهذا دليل على أنه لم يكن يكلم الناس في هذه الليالي الثلاث وأيامها { إِلاَّ رَمْزاً } [ آل عمران : 41 ] أي إشارة ، ولهذا قال في هذه الآية الكريمة { فَخَرَجَ على قَوْمِهِ مِنَ المحراب } أي الذي بشر فيه بالولد { فأوحى إِلَيْهِمْ } أي أشار ، إشارة خفية سريعة { أَن سَبِّحُواْ بُكْرَةً وَعَشِيّاً } أي موافقة له فيما أمر به في هذه الأيام الثلاثة زيادة على أعماله ، شكراً لله على ما أولاه . قال مجاهد { فأوحى إِلَيْهِمْ } أي أشار . وقال مجاهد : أي كتب لهم في الأرض .(1/1550)
يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا وَزَكَاةً وَكَانَ تَقِيًّا (13) وَبَرًّا بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ جَبَّارًا عَصِيًّا (14) وَسَلَامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)
وهذا أيضاً محذوفاً ، تقديره أنه وجد هذا الغلام المبشر به وهو يحيى عليه السلام ، وأن الله علمه الكتاب وهو ( التوراة ) التي كانوا يتدارسونها بينهم ، وقد كان سنة إذ ذاك صغيراً ، فلهذا نوه بذكره وبما أنعم به عليه وعلى والديه ، فقال { يايحيى خُذِ الكتاب بِقُوَّةٍ } أي تعلم الكتاب بقوة أي بجد وحرص واجتهاد { وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } أي الفهم والعلم والجد والعزم ، والإقبال على الخير والإكبال عليه والاجتهاد فيه ، وهو صغير حدث . قال عبد الله بن المبارك ، قال الصبيان ليحيى بن زكريا : اذهب بنا نلعب ، فقال : ما للعب خلقنا . وقوله : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا } قال ابن عباس : يقول ورحمة من عندنا . وزاد قتادة : رحم الله بها زكريا ، وقال مجاهد : { وَحَنَاناً مِّن لَّدُنَّا } وتعطفاً من ربه عليه ، وقال عكرمة : محبة عليه ، وقال عطاء بن أبي رباح : تعظيماً من لدنا ، والظاهر من السياق أن قوله { وَحَنَاناً } معطوف على قوله { وَآتَيْنَاهُ الحكم صَبِيّاً } أي وآتيناه الحكم وحناناً ، وزكاة أي وجعلناه ذا حنان وزكاة ، فالحنان هو المحبة في شفقة وميل كما تقول العرب : حنت الناقة على ولدها ، وحن الرجل إلى وطنه ، ومنه التعطف والرحمة ، وفي « المسند » للإمام أحمد ، عن أنَس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يبقى رجل في النار ينادي ألف سنة يا حنان يا منان » وقد يثنى كما قال طرفة :
أبا منذر أفنيتَ فاستبق بعضَنا ... حنانيك بعضُ الشر أهون من بعض
وقوله تعالى : { وَزَكَاةً } معطوف على { وَحَنَاناً } فالزكاة الطهارة من الدنس والآثام والذنوب ، وقال قتادة : الزكاة : العمل الصالح ، وقال الضحّاك : العمل الصالح الزكي ، وقال ابن عباس { وَزَكَاةً } قال : بركة { وَكَانَ تَقِيّاً } طاهراً فلم يذنب ، وقوله { وَبَرّاً بِوَالِدَيْهِ وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } لما ذكر تعالى طاعته لربه ، وأنه خلقه ذا رحمة وزكاة ، وتقى ، عطف بذكر طاعته لوالديه وبره بهما ، ومجانبته عقوقهما قولاً وفعلاً ، أمراً ونهياً ، ولهذا قال : { وَلَمْ يَكُن جَبَّاراً عَصِيّاً } ، ثم قال بعد هذه الأوصاف الجميلة جزاء له على ذلك { وَسَلاَمٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَيَوْمَ يَمُوتُ وَيَوْمَ يُبْعَثُ حَياً } أي له الأمان في هذه الثلاثة الأحوال ، عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من أحد من ولد آدم إلاّ وقد أخطأ أو هم بخطيئة ، ليس يحيى بن زكريا ، وما ينبغي لأحد أن يقول أنا خير من يونس بن متى » ، وقال سعيد بن أبي عروبة ، عن قتادة ، أن الحسن قال : إن يحيى وعيسى عليهما السلام التقيا ، فقال له عيسى استغفر لي أنت خير مني ، فقال له الآخر : أنت خير مني ، فقال له عيسى : أنت خير مني سلمتُ على نفسي وسلّم الله عليك ، فعرف الله فضلهما .(1/1551)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِهَا مَكَانًا شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجَابًا فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَرًا سَوِيًّا (17) قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلَامًا زَكِيًّا (19) قَالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا (20) قَالَ كَذَلِكِ قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَرَحْمَةً مِنَّا وَكَانَ أَمْرًا مَقْضِيًّا (21)
لما ذكر تعالى قصة زكريا عليه السلام ، وأنه أوجد منه في حال كبره وعقم زوجته ولداً زكياً طاهراً ، مباركاً ، عطف بذكر قصة مريم في إيجاد ولدها عيسى عليه السلام منها من غير أب ، فإن بين القصتين مناسبة ومشابهة ، لتقارب ما بينهما في المعنى ، ليدل عباده على قدرته وعظمة سلطانه ، وأنه على ما يشاء قادر ، فقال : { واذكر فِي الكتاب مَرْيَمَ } وهي مريم بنت عمران ، من سلالة داود عليه السلام ، وكانت من بيت طاهر طيب في بني إسرائيل وقد ذكر الله تعالى قصة ولادة أمها لها في سورة آل عمران ، وأنها نذرتها محررة ، أي تخدم مسجد بيت المقدس ، وكانوا يتقربون بذلك { فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } [ آل عمران : 37 ] ونشأت في بني إسرائيل نشأة عظيمة ، فكانت إحدى العابدات الناسكات ، المشهورات بالعبادة العظيمة والتبتل والدؤوب ، وكانت في كفالة زوج أختها زكريا نبيّ بني إسرائيل إذ اك وعظيمهم الذي يرجعون إليه في دينهم ، ورأى لها زكريا من الكرامات الهائلة ما بهره { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ آل عمران : 37 ] ، فذكر أنه كان يجد عندها ثمر الشتاء في الصيف ، وثمر الصيف في الشتاء كما تقدم بيانه في سورة آل عمران ، فلما أراد الله تعالى - وله الحكمة والحجة البالغة - أن يوجد منها عبده ورسوله عيسى عليه السلام ، أحد الرسل أولي العزم الخمسة العظام { انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } أي اعتزلتهم ، وتنحت عنهم وذهبت إلى شرقي المسجد المقدس؛ عن ابن عباس ، قال : إن أهل الكتاب كتب عليهم الصلاة إلى البيت الحج إليه ، وما صرفهم عنه إلاّ قيل ربك { انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } قال : خرجت مريم مكاناً شرقياً فصلوا قبل مطلع الشمس . وعنه قال : إني لأعلم خلق الله لأيّ شيء اتخذت النصارى المشرق قبلة ، لقول الله تعالى : { انتبذت مِنْ أَهْلِهَا مَكَاناً شَرْقِياً } واتخذوا ميلاد عيسى قبلة ، وقال قتادة : { مَكَاناً شَرْقِياً } شاسعاً متنحياً ، وقوله { فاتخذت مِن دُونِهِم حِجَاباً } أي استترت منهم وتوارت ، فأرسل الله تعالى إليها جبريل عليه السلام { فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً } أي على صورة إنسان تام كامل .
قال مجاهد والضحّاك { فَأَرْسَلْنَآ إِلَيْهَآ رُوحَنَا } : يعني جبرائيل عليه السلام ، وهذا هو ظاهر القرآن ، قال تعالى : { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين * على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين } [ الشعراء : 193-194 ] ، { قَالَتْ إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي لما تبدى لها الملك في صورة بشر ، وهي في مكان منفرد وبينها وبين قومها حجاب خافته وظنت أنه يريدها على نفسها ، فقالت { إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً } أي إن كنت تخاف الله تذكيراً له بالله ، قال أبو وائل : قد علمت أن التقي ذو نهية ، حين قالت : { إني أَعُوذُ بالرحمن مِنكَ إِن كُنتَ تَقِيّاً * قَالَ إِنَّمَآ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } أي فقال لها الملك مجيباً لها ومزيلاً لما حصل عندها من الخوف على نفسها ، لست مما تظنين ، ولكني رسول ربك أي بعثني الله إليك { لأَهَبَ لَكِ غُلاَماً زَكِيّاً } ، { قَالَتْ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ } أي فتعجبت مريم من هذا ، وقالت كيف يكون لي غلام ، أي على أي صفة يوجد هذا الغلام مني ولست بذات زوج ، ولا يتصور مني الفجور .(1/1552)
ولهذا قالت : { وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيّاً } والبغي هي الزانية ، { قَالَ كذلك قَالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ } أي فقال لها الملك مجيباً لها عما سألت ، إن الله قد قال إنه سيوجد منك غلاماً ، وإن لم يكن لك بعل ولا يوجد منك فاحشة ، فإنه على ما يشاء قادر ، ولهذا قال : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } أي دلالة وعلامة للناس على قدرة بارئهم وخالقهم { وَرَحْمَةً مِّنَّا } أي ونجعل هذا الغلام رحمة من الله ، نبياً من الأنبياء يدعو إلى عبادة الله تعالى وتوحيده ، كما قال تعالى في الآية الأخرى { إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين } [ آل عمران : 45 ] أي يدعو إلى عبادة ربه في مهده وكهولته . قال ابن أبي حاتم ، عن مجاهد قال ، قالت مريم عليها السلام : كنت إذا خلوت حدثني عيسى وكلمني وهو في بطني وإذا كنت مع الناس ، سبّح في بطني وكبّر ، وقوله : { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } يحتمل أن هذا من تمام كلام جبريل لمريم ، يخبرها أن هذا أمر مقدر في علم الله تعالى وقدره ومشيئته ، ويحتمل أن يكون من خبر الله تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأنه كنى بهذا عن النفخ في فرجها ، كما قال تعالى : { وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ التحريم : 12 ] ، وقال : { والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِن رُّوحِنَا } [ الأنبياء : 91 ] ، قال محمد بن إسحاق { وَكَانَ أَمْراً مَّقْضِيّاً } : أي إن الله قد عزم على هذا فليس منه بد ، واختار هذا أيضاً ابن جرير في تفسيره ولم يحك غيره ، والله أعلم .(1/1553)
فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكَانًا قَصِيًّا (22) فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا (23)
يقول تعالى مخبراً عن مريم ، أنها لما قال لها جبريل ما قال ، استسلمت لقضاء الله تعالى ، فذكر غير واحد من علماء السلف ، أن الملك وهو جبرائيل عليه السلام عند ذلك نفخ في جيب درعها ، فنزلت النفخة حتى ولجت في الفرج فحملت بالولد ، بإذن الله تعالى ، فلما حملت به ضاقت ذرعاً ، ولم تدر ماذا تقول للناس ، فإنها تعلم أن الناس لا يصدقونها فيما تخبرهم به ، غير أنها أفشت سرها وذكرت أمرها لأختها امرأة زكريا ، وذلك أن زكريا عليه السلام كان قد سأل الله الولد فأجيب إلى ذلك ، فحملت امرأته ، فدخلت عليها مريم ، فقامت إليها فاعتنقتها وقالت : أشعرت يا مريم أني حبلى؟ فقالت لها مريم : وهل علمت أني حبلى ، وذكرت لها شأنها ، وما كان من خبرها ، وكانوا بيت إيمان وتصديق ، قال مالك رحمه الله : بلغني أن عيسى ابن مريم ويحيى بن زكريا عليهما السلام ابنا خالة ، وكان حملهما جميعاً معاً ، فبلغني أن أم يحيى قالت لمريم : إني أرى أن ما في بطني يسجد لما في بطنك ، قال مالك : أرى ذلك لتفضيل عيسى عليه السلام ، لأن الله جعله يحيى الموتى ويبرئ الأكمة والأبرص . ثم اختلف المفسرون في مدة حمل عيسى عليه السلام ، فالمشهور عن الجمهور أنها حملت به تسعة أشهر ، وقال عكرمة : ثمانية أشهر ، وقال ابن جريج ، عن ابن عباس ، وسئل عن حمل مريم ، قال : لم يكن إلاّ أن حملت فوضعت .
والمشهور الظاهر ، والله على كل شيء قدير - أنها حملت به كما تحمل النساء بأولادهن ، ولهذا لما ظهرت مخايل الحمل بها ، وكان معها في المسجد رجل صالح من قراباتها يخدم معها البيت المقدس ، يقال له يوسف النجار ، فلما رأى ثقل بطنها وكبره أنكر ذلك من أمرها ، ثم صرفه ما يعلم من براءتها ونزاهتها ودينها وعبادتها ، ثم تأمل ما هي فيه فجعل أمرها يجوس في فكره لا يستطيع صرفه عن نفسه ، فحمل نفسه على أن عرَّض لها في القول ، فقال : يا مريم إني سائلك عن أمر فلا تعجلي عليَّ ، قالت : وما هو؟ قال : هل يكون قط شجر من غير حبّ؟ وهل يكون زرع من غير بذر؟ وهل يكون ولد من غير أب؟ فقالت : نعم ، وفهمت ما أشار إليه ، أما قولك هل يكون من غير حب وزرع من غير بذر ، فإن الله قد خلق الشجر والزرع أول ما خلقهما من غير حب ولا بذر ، وهل يكون ولد من غير أب ، فإن الله تعالى قد خلق آدم من غير أب ولا أم ، فصدقها ، وسلم لها حالها ، ولما استشعرت مريم من قومها اتهامها بالريبة ، انتبذت منهم مكاناً قصياً ، أي قاصياً منهم بعيداً عنهم لئلا تراهم ولا يروها .(1/1554)
قال محمد بن إسحاق : فلما حملت به وملأت قلتها ورجعت ، استمسك عنها الدم وأصابها ما يصيب الحامل على الولد من الوصب والتوحم ، وتغير اللون ، حتى فطر لسانها ، فما دخل على أهل بيت ما دخل على آل زكريا وشاع الحديث في بني إسرائيل ، فقالوا : إنما صاحبها يوسف ، ولم يكن معها في الكنيسة غيره ، وتوارت من الناس ، واتخذت من دونهم حجابا ، فلا يراها أحد ولا تراه .
وقوله تعالى : { فَأَجَآءَهَا المخاض إلى جِذْعِ النخلة } أي فاضطرها وألجأها إلى جذع النخلة ، في المكان الذي تنحت إليه . وقد اختلفوا فيه ، فقال السدي : كان شرقي محرابها الذي تصلي فيه من بيت المقدس ، وقال وهب بن منبه : كان ذلك على ثمانية أميال من بيت المقدس ، في قرية يقال لها بيت لحم ، وهذا هو المشهور ، الذي تلقاه الناس بعضهم عن بعض ، ولا يشك فيه النصارى أنه ببيت لحم ، وقوله تعالى إخباراً عنها : { قَالَتْ ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } فيه دليل على جواز تمني الموت عند الفتنة ، فإنها عرفت أنها ستبتلى وتمتحن بهذا المولود الذي لا يحمل الناس أمرها فيه على السداد ولا يصدقونها في خبرها ، وبعد ما كانت عندهم عابدة ناسكة تصبح عندهم فيما يظنون عاهرة زانية ، فقالت { ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا } أي قبل هذا الحمل { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } أي لم أخلق ولم أك شيئاً قاله ابن عباس ، وقال قتادة { وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } : أي شيئاً لا يعرف ولا يذكر ، ولا يدري الناس من أنا . وقال ابن زيد : لم أكن شيئاً قط ، وقد قدمنا الأحاديث الدالة على النهي عن تمني الموت إلاّ عند الفتنة عند قوله : { تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين } [ يوسف : 101 ] .(1/1555)
فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)
اختلف المفسرون في المراد بذلك من هو؟ فقال ابن عباس : { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } جبريل ، ولم يتكلم عيسى حتى أتت به قومها ، أي ناداها من أسفل الوادي ، وقال مجاهد { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } قال : عيسى ابن مريم ، وقال الحسن : هو ابنها . قال : أو لم تسمع الله يقول { فَنَادَاهَا مِن تَحْتِهَآ } ، وقوله { أَلاَّ تَحْزَنِي } أي ناداها قائلاً لا تحزني { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } ، عن البراء ابن عازب ، وعن ابن عباس : السري النهر ، وقال الضحّاك : هو النهر الصغير بالسريانية ، وقال قتادة : هو الجدول بلغة أهل الحجاز ، وقال السدي : هو النهر ، واختار هذا القول ابن جرير ، وقال آخرون : المراد بالسري عيسى عليه السلام . والقول الأول أظهر ، ولهذا قال بعده : { وهزى إِلَيْكِ بِجِذْعِ النخلة } أي وخذي إليك بجذع النخلة ، قيل : كانت يابسة قاله ابن عباس ، وقيل : مثمرة ، والظاهر أنها كانت شجرة ، ولكن لم تكن في إبان ثمرها ، قاله وهب بن منبه : ولهذا امتن عليها بذلك بأن جعل عندها طعاماً وشراباً فقال : { تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيّاً * فَكُلِي واشربي وَقَرِّي عَيْناً } أي طيبي نفساً ، ولهذا قال عمرو بن ميمون : ما من شيء خير للنفساء من التمر والرطب ، ثم تلا هذه الآية الكريمة .
وقوله تعالى : { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ البشر أَحَداً } أي مهما رأيت من أحد ، { فقولي إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } ، المراد بهذا القول الإشارة إليه بذلك ، لا أن المراد به القول اللفظي ، لئلا ينافي { فَلَنْ أُكَلِّمَ اليوم إِنسِيّاً } ، قال أنَس بن مالك في قوله { إِنِّي نَذَرْتُ للرحمن صَوْماً } قال : صمتاً ، وكذا قال ابن عباس والضحّاك ، وفي رواية عن أنَس : صوماً وصمتاً ، والمراد أنهم كانوا إذا صاموا في شريعتهم يحرم عليهم الطعام والكلام . روى ابن إسحاق ، عن حارثة قال : كنت عند ابن مسعود فجاء رجلان فسلم أحدهما ولم يسلم الأخر فقال : ما شأنك؟ قال أصحابه : حلف أن لا يكلم الناس اليوم . فقال عبد الله بن مسعود : كلم الناس وسلم عليهم ، فإن تلك امرأة علمت أن أحداً لا يصدقها ، أنها حملت من غير زوج ، يعني بذلك مريم عليها السلام ، ليكون عذراً لها إذا سئلت . وقال عبد الرحامن بن زيد : لما قال عيسى لمريم { لاَّ تَحْزَنِي } قالت : وكيف لا أحزن وأنت معي لا ذات زوج ولا مملوكة ، أي شيء عذري عند الناس؟ { ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } [ مريم : 23 ] .(1/1556)
فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَهَا تَحْمِلُهُ قَالُوا يَا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئًا فَرِيًّا (27) يَا أُخْتَ هَارُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كَانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا (31) وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا (32) وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَيَوْمَ أَمُوتُ وَيَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33)
يقول تعالى مخبراً عن مريم حين أمرت أن تصوم يومها ذلك ، وأن لا تكلم أحداً من البشر ، فإنها ستكفى أمرها ويقام بحجتها ، فسلمت لأمر الله عزَّ وجلَّ واستسلمت لقضائه ، فأخذت ولدها فأتت به قومها تحمله . فلما رأوها كذلك أعظموا أمرها واستنكروه جداً ، وقالوا { يامريم لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيّاً } أي أمراً عظيماً ، { ياأخت هَارُونَ } أي يا شبيهة هارون في العبادة ، { مَا كَانَ أَبُوكِ امرأ سَوْءٍ وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً } أي أنت من بيت طيب طاهر معروف بالصلاح والعبادة والزهادة ، فكيف صدر هذا منك؟ قال السدي : قيل لها { ياأخت هَارُونَ } أي أخي موسى وكانت من نسله ، كما يقال للتميمي : يا أخا تميم ، وللمضري : يا أخا مضر ، وقيل : نسيت إلى رجل صالح كان فيهم اسمه هارون ، فكانت تقاس به في الزهادة والعبادة . وقد كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم وصالحيهم . كما قال الإمام أحمد ، عن المغيرة بن شعبة قال : « بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى نجران ، فقالوا : أرأيت ما تقرأون { ياأخت هَارُونَ } وموسى قبل عيسى بكذا وكذا؟ قال : فرجعت فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » ألا أخبرتهم أنهم كانوا يسمون بالأنبياء والصالحين قبلهم « » .
وقال ابن جرير ، عن قتادة قوله { ياأخت هَارُونَ } الآية قال : كانت من أهل بيت يعرفون بالصلاح ولا يعرفون بالفساد ، ومن الناس من يعرفون بالصلاح ويتوالدون به ، وآخرون يعرفون بالفساد ويتوالدون به ، وكان هارون مصلحاً محبباً في عشيرته ، وليس بهارون أخي موسى ، ولكنه هارون آخر ، قال وذكر لنا أنه شيع جنازه يوم مات أربعون ألفاً كلهم يسمون هارون من بني إسرائيل . وقوله : { فَأَشَارَتْ إِلَيْهِ قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } أي أنهم لما استرابوا في أمرها واستنكروا قضيتها ، وقالوا لها ما قالوا معرضين بقذفها ورميها بالفرية ، وقد كانت يومها هذا صائمة صامتة ، فأحالت الكلام عليه ، وأشارت لهم إلى خطابه وكلامه ، فقالوا متهكمين بها ظانين أنه تزدري بهم وتعلب بهم { كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } ؟ قال السدي : لما أشارت إليه غضبوا وقالوا لسخريتها بنا حتى تأمرنا أن نكلم هذا الصبي أشد علينا من زناها { قَالُواْ كَيْفَ نُكَلِّمُ مَن كَانَ فِي المهد صَبِيّاً } أي من هو موجود في مهده في حال صباه وصغره ، كيف يتكلم؟ { قَالَ إِنِّي عَبْدُ الله } أول شيء تكلم به أن نزه جناب ربه تعالى وبرأه عن الولد ، وأثبت لنفسه العبودية لربه ، وقوله : { آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } تبرئة لأمّه مما نسبت إليه من الفاحشة ، قال نوف البكالي : لما قالوا لأمه ما قالوا كان يرتضع ثديه ، فنزع الثدي من ثمه ، واتكأ على جنبه الأيسر وقال : { إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً . . . } إلى قوله { مَا دُمْتُ حَيّاً } .(1/1557)
ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34) مَا كَانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَإِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37)
يقول تعالى لرسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه : ذلك الذي قصصناه عليك من خبر عيسى عليه السلام { قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ } أي يختلف المبطلون والمحقون ممن آمن به وكفر به ، ولما ذكر تعالى أنه خلقه عبداً نبياً نزه نفسه المقدسة ، فقال : { مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ } أي عما يقول هؤلاء الجاهلون الظالمون المعتدون علواً كبيراً { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } ، أي إذا أراد شيئاً فإنما يأمر به . فيصير كما يشاء كما قال : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] ، وقوله : { وَإِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي ومما أمر به عيسى قومه وهو في مهده أن أخبرهم إذ ذاك أن الله ربه وربهم ، وأمرهم بعبادته فقال { فاعبدوه هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } أي هذا الذي جئتكم به عن الله صراط مستقيم أي قويم من اتبعه رشد وهدي ومن خالفه ضل وغوى ، وقوله : { فاختلف الأحزاب مِن بَيْنِهِمْ } أي اختلف قول أهل الكتاب في عيسى بعد بيان أمره ووضوح حاله ، وأنه عبده ورسوله ، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، فصممت طائفة منهم وهم جمهور اليهود عليهم لعائن الله ، على أنه ولد زنية ، وقالوا : كلامه هذا سحر ، وقالت طائفة أخرى : إنما تكلم الله ، وقال آخرون : بل هو وابن الله ، وقال آخرون : ثالث ثلاثة ، وقال آخرون : بل هو عبد الله ورسوله ، وهذا هو قول الحق الذي أرشد الله إليه المؤمنين ، وقد روي نحو هذا عن ابن جريج وقتادة وغير واحد من السلف والخلف .
وقد ذكر غير واحد من علماء التاريخ من أهل الكتاب وغيرهم أن ( قسطنطين ) جمعهم في محفل كبير من مجامعهم الثلاثة المشهورة عندهم ، فكان جماعة الأساقفة منهم ألفين مائة وسبعين أسقفاً ، فاختلفوا في عيسى ابن مريم عليه السلام اختلافاً متبايناً جداً ، فقالت كل شرذمة فيه قولاً ، ولم يجتمع على مقالة واحدة أكثر من ثلثمائة وثمانية منهم اتفقوا على قول وصمموا عليه فمال إليهم الملك ، وكان فيلسوفاً ، فقدمهم ونصرهم وطرد من عداهم ، فوضعوا له الأمانة الكبيرة بل هي الخيانة العظيمة ، ووضعوا له كتب القوانين وشرعوا له أشياء وابتدعوا بدعاً كثيرة ، وحرفوا دين المسيح وغيروه ، فابتنى لهم حينئذٍ الكنائس الكبار في مملكته كلها ، بلاد الشام والجزيرة والروم ، فكان مبلغ الكنائس في أيامه ما يقارب اثني عشر ألف كنيسة ، وقوله : { فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } تهديد ووعيد شديد لمن كذب على الله وافترى ، وزعم أن له ولداً ، ولكن أنظرهم تعالى إلى يوم القيامة ، وأجّلهم فإنه الذي لا يعجّل على من عصاه ، كما جاء في « الصحيحين » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :(1/1558)
« لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم » وقد قال تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير } [ الحج : 47 ] ، وقال تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الله غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظالمون إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } [ إبراهيم : 42 ] ، ولهذا قال هاهنا { فَوْيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن مَّشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي يوم القيامة . وقد جاء في الحديث الصحيح المتفق على صحته عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من شهد أن لا إله إلاَّ الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وأن الجنة حق ، والنار حق؛ أدخله الله الجنة على ما كان من العمل » .(1/1559)
أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لَكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (38) وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (39) إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ (40)
يقول تعالى مخبراً عن الكفار يوم القيامة : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ } أي ما أسمعهم وأبصرهم { يَوْمَ يَأْتُونَنَا } يعني يوم القيامة ، { لكن الظالمون اليوم } أي في الدنيا { فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي : لا يسمعون ولا يبصرون ولا يعقلون ، فحيث يطلب منهم الهدى لا يهتدون ، ويكونون مطيعين حيث لا ينفعهم ذلك ، ثم قال تعالى : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة } أي أنذر الخلائق يوم الحسرة { إِذْ قُضِيَ الأمر } : أي فصل بين اهل الجنة وأهل النار ، وصار كل إلى ما صار إليه مخلداً فيه ، { وَهُمْ } أي اليوم { فِي غَفْلَةٍ } عما أنذروا به يوم الحسرة والندامة { لاَ يُؤْمِنُونَ } أي : لا يصدقون به . عن أبي سعيد الخدري قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا دخل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، يجاء بالموت كأنه كبش أملح ، فيوقف بين الجنة والنار ، فيقال : يا أهل الجنة هل تعرفون هذا؟ قال ، فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ، قال : فيقال : يا أهل النار هل تعرفون هذا؟ قال ، فيشرئبون وينظرون ويقولون : نعم هذا الموت ، قال : فيؤمر فيه فيذبح ، قال ، ويقال : يا أهل الجنة خلود ولا موت ، ويا أهل النار خلود ولا موت » ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِيَ الأمر وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ وَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ، وأشار بيده ثم قال : « أهل الدنيا في غفلة الدنيا » .
وقال السُّدي ، عن ابن مسعود في قوله { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِيَ الأمر } قال : إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، أتي بالموت في صورة كبش أملح حتى يوقف بين الجنة والنار ، ثم ينادي مناد : يا أهل الجنة هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا ، فلا يبقى أحد في أهل عليين ، ولا في أسفل درجة في الجنة إلاّ نظر إليه ، ثم ينادي مناد : يا أهل النار هذا الموت الذي كان يميت الناس في الدنيا فلا يبقى أحد في ضحضاح من نار ولا في أسفل درج من جهنم إلاّ نظر إليه ، ثم يذبح بين الجنة والنار ، ثم ينادى : يا أهل الجنة هو الخلود أبد الآبدين ، ويا أهل النار هو الخلود أبد الأبدين ، فيفرح أهل الجنة فرحة لو كان أحد ميتاً من فرح ماتوا ، ويشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميتاً من شهقة ماتوا ، فذلك قوله تعالى : { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة إِذْ قُضِيَ الأمر } : يقول إذا ذبح الموت . وقال ابن عباس : { يَوْمَ الحسرة } من أسماء يوم القيامة ، عظَّمه الله وحذره عباده ، وقال عبد الرحمن بن زيد ، في قوله { وَأَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الحسرة } قال يوم القيامة ، وقرأ : { أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله } [ الزمر : 56 ] ، وقوله : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } يخبر تعالى أنه الخالق المالك المتصرف ، وأن الخلق كلهم يهلكون ويبقى هو تعالى وتقدس ، ولا أحد يدعي ملكاً ولا تصرفاً ، بل هو الوارث لجميع خلقه الباقي بعدهم ، الحاكم فيهم ، فلا تظلم نفس شيئاً ولا جناح بعوضة ولا مثقال ذرة .(1/1560)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (41) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا (42) يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا (43) يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا (44) يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا (45)
يقول تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : { واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ } أي اتل على قومك هؤلاء الذين يعبدون الأصنام ، خبر إبراهيم خليل الرحمن ، وقد كان صديقاً نبياً مع أبيه كيف نهاه عن عبادة الأصنام ، فقال : { ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } أي لا ينفعك ولا يدفع عنك ضرراً ، { ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ } يقول : وإن كنت من صلبك وتراني أصغر منك ، لأني ولدك ، فاعلم أني قد اطلعت من العلم من الله على ما لم تعلمه أنت ، ولا اطلعت عليه ولا جاءك { فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } أي طريقاً مستقيماً موصلاً إلى نيل المطلوب ، والنجاة من المرهوب ، { ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان } أي لا تطعه في عبادتك هذه الأصنام فإنه هو الداعي إلى ذلك والراضي به كما قال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ يس : 60 ] ، وقوله { إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً } أي مخالفاً مستكبراً عن طاعة ربه ، فطرده وأبعده ، فلا تتبعه { ياأبت إني أَخَافُ أَن يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِّنَ الرحمن } : أي على شركك وعصيانك لما آمرك به { فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيّاً } يعني فلا يكون لك مولى ولا ناصراً ولا مغيثاً إلاّ إبليس ، وليس إليه ولا إلى غيره من الأمر شيء ، بل اتباعك له موجب لإحاطة العذاب بك ، كما قال تعالى : { فَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ النحل : 63 ] .(1/1561)
قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا (47) وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَأَدْعُو رَبِّي عَسَى أَلَّا أَكُونَ بِدُعَاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48)
يقول تعالى مخبراً عن جواب أبي إبراهيم لولده إبراهيم فيما دعاه إليه إنه قال : { أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم } ؟ يعني إن كنت لا تريد عبادتها ولا ترضاها ، فانته عن سبها وشتمها وعيبها ، فإنك إن لم تنته عن ذلك اقتصصت منك وشتمتك ، وهو قوله : { لأَرْجُمَنَّكَ } ، قاله ابن عباس ، وقوله : { واهجرني مَلِيّاً } قال مجاهد : يعني دهراً ، وقال الحسن البصري : زماناً طويلاً ، وقال السدي { واهجرني مَلِيّاً } قال : أبداً . وقال ابن عباس { واهجرني مَلِيّاً } قال : سوياً سالماً ، قبل أن تصيبك مني عقوبة ، فعندها قال إبراهيم لأبيه { سَلاَمٌ عَلَيْكَ } ، كما قال تعالى في صفة المؤمنين : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } [ الفرقان : 63 ] ، وقال تعالى : { سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين } [ القصص : 55 ] ، ومعنى قول إبراهيم لأبيه { سَلاَمٌ عَلَيْكَ } يعني : أما أنا فلا ينالك مني مكروه ولا أذى وذلك لحرمة الأبوة { سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي } ، ولكن سأسأل الله فيك أن يهديك ويغفر ذنبك ، { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } قال ابن عباس وغيره : لطيفاً ، أي في أن هداني لعبادته . وقال قتادة ومجاهد { إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } قالا : عودة الإجابة ، وقال السدي : الحفي الذي يهتم به بأمره ، وقد استغفر إبراهيم صلى الله عليه وسلم لأبيه مدة طويلة ، وبعد أن هاجر إلى الشام وبنى المسجد الحرام ، وبعد أن ولد له إسماعيل وإسحاق عليهما السلام في قوله : { رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الحساب } [ إبراهيم : 41 ] ، وقد استغفر المسلمون لقراباتهم وأهليهم من المشركين في ابتداء الإسلام ، حتى أنزل الله تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ في إِبْرَاهِيمَ والذين مَعَهُ إِذْ قَالُواْ لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله . . . } [ الممتحنة : 4 ] إلى قوله : { إِلاَّ قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ لأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَآ أَمْلِكُ لَكَ مِنَ الله مِن شَيْءٍ } [ الممتحنة : 4 ] الآية ، يعني إلاّ في هذا القول فلا تتأسوا به ، ثم بيَّن تعالى أن إبراهيم أقلع عن ذلك ورجع عنه ، فقال تعالى : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 114 ] ، وقوله : { وَأَعْتَزِلُكُمْ وَمَا تَدْعُونَ مِن دُونِ الله وَأَدْعُو رَبِّي } أي أجتنبكم وأتبرأ منكم ومن آلهتكم التي تعبدونها من دون الله { وَأَدْعُو رَبِّي } أي وأعبد ربي وحده لا شريك له ، { عسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعَآءِ رَبِّي شَقِيّاً } وعسى هذه موجبة لا محالة ، فإنه عليه السلام سيد الأنبياء بعد محمد صلى الله عليه وسلم .(1/1562)
فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا (49) وَوَهَبْنَا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)
يقول تعالى : فلما اعتزل الخليل أباه وقومه في الله ، أبدله الله من خير منهم ، ووهب له إسحاق ويعقوب ، يعني ابنه وابن إسحاق ، كما قال في الآية الأخرى : { وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] ، وقال : { وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] ، ولا خلاف أن إسحاق والد يعقوب وهو نص القرآن في سورة البقرة : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ البقرة : 133 ] ولهذا إنما ذكر هاهنا إسحاق ويعقوبن ، أي جعلنا له نسلاً وعقباً أنبياء ، أقر الله بهم عينه في حياته ، ولهذا قال : { وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } فلو لم يكن يعقوب عليه السلام قد نبئ في حياة إبراهيم ، لما اقتصر عليه ولذكر ولده يوسف . فإنه نبي أيضاً . وقوله : { وَوَهَبْنَا لَهْم مِّن رَّحْمَتِنَا وَجَعَلْنَا لَهُمْ لِسَانَ صِدْقٍ عَلِيّاً } ، قال ابن عباس : يعني الثناء الحسن ، وقال ابن جرير : إنما قال { عَلِيّاً } لأن جميع الملل والأديان يثنون علهيم ويمدحونهم ، صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .(1/1563)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ مُوسَى إِنَّهُ كَانَ مُخْلَصًا وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (51) وَنَادَيْنَاهُ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيًّا (52) وَوَهَبْنَا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنَا أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيًّا (53)
لما ذكر تعالى إبراهيم الخليل وأثنى عليه ، عطف بذكر الكليم فقال : { واذكر فِي الكتاب موسى إِنَّهُ كَانَ مُخْلِصاً } بكسر اللام من الإخلاص في العبادة ، وقرأ الآخرون بفتحها ، بمعنى أنه كان مصطفى ، كما قال تعالى : { إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس } [ الأعراف : 144 ] ، { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } جمع الله له بين الوصفين ، فإنه كن المرسلين الكبار ، أولي العزم الخمسة ، وهم ( نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد ) صلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر الأنبياء أجمعين ، وقوله : { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور } أي الجانب { الأيمن } من موسى حين ذهب يبتغي من تلك النار جذوة ، فرآها تلوح فقصدها فوجدها في جانب الطور الأيمن منه ، غربية عند شاطئ الوادي ، فكلمه الله تعالى وناداه وقربه فناجاه . روى ابن جرير ، عن ابن عباس { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } قال : أدني حتى سمع صريف القلم . وقال السدي { وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } قال : أدخل في السماء فكلم ، وعن مجاهد نحوه ، وروى ابن أبي حاتم ، عن عمرو بن معد يكرب قال : لما قرب الله موسى نجياً بطور سيناء قال : يا موسى إذا خلقت لك قلباً شاكراً ، ولساناً ذاكراً ، وزوجة تعين على الخير ، فلم أخزن عنك من الخير شيئاً ، ومن أخزن عنه هذا فلم أفتح له من الخير شيئاً ، وقوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً } أي وأجبنا سؤاله وشفاعته في أخيه فجعلناه نبياً ، كما قال في الآية الأخرى : { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } [ القصص : 34 ] ، وقال : { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } [ طه : 36 ] ، ولهذا قال بعض السلف : ما شفع أحد شفاعة في الدنيا أعظم من شفاعة موسى في هارون أن يكون نبياً ، قال الله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ مِن رَّحْمَتِنَآ أَخَاهُ هَارُونَ نَبِيّاً } ، قال ابن عباس : كان هارون أكبر من موسى ، ولكن أراد وهب نبوته له .(1/1564)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِسْمَاعِيلَ إِنَّهُ كَانَ صَادِقَ الْوَعْدِ وَكَانَ رَسُولًا نَبِيًّا (54) وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)
هذا ثناء من الله تعالى على إسماعيل بن إبراهيم الخليل عليهما السلام ، وهو والد عرب الحجاز كلهم بأنه كان صادق الوعد . قال ابن جريج لم يعد ربه عدة إلاّ أنجزها ، يعني ما التزم عبادة قط بنذر إلاّ قام بها ، ووفاها حقها . وقال ابن جرير ، عن سهل بن عقيل ، إن ( إسماعيل ) النبي عليه السلام وعد رجلاً مكاناً أن يأتيه فيه ، فجاء ونسي الرجل فظل به إسماعيل ، وبات حتى جاء الرجل من الغد ، فقال : ما برحت من هاهنا؟ قال : لا ، قال : إني نسيت ، قال : لم أكن لأبرح حتى تأتيني ، فلذلك { كَانَ صَادِقَ الوعد } ، وقد روى أبو داود في « سننه » ، عن عبد الله بن أبي الحمساء قال : « بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث فبقيت له عليَّ بقية ، فوعدته أن آتية بها في مكانه ذلك ، قال : فنسيت يومي والغد ، فأتيته في اليوم الثالث وهو في مكانه ذلك فقال لي : » يا فتى لقد شققت عليّ أنا هاهنا منذ ثلاث أنتظرك « ، وقال بعضهم : إنما قيل له { صَادِقَ الوعد } لأنه قال لأبيه { ستجدني إِن شَآءَ الله مِنَ الصابرين } [ الصافات : 102 ] فصدق في ذلك ، فصدقُ الوعد من الصفات الحميدة ، كما أن خلفه من الصفات الذميمة ، قال الله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان « ، ولما كانت هذه صفات المنافقين ، كان التلبس بضدها من صفات المؤمنين ، ولهذا أثنى الله على عبده ورسوله إسماعيل بصدق الوعد ، وكذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم صادق الوعد أيضاً ، لا يعد أحداً شيئاً إلاّ وفي له به ، وقد أثنى على أبي العاص بن الربيع زوج ابنته زينب فقال : » حدثني فصدقني ووعدني فوفى لي « .
وقوله تعالى : { وَكَانَ رَسُولاً نَّبِيّاً } في هذا دلالة على شرف إسماعيل على أخيه إسحاق لأنه إنما وصف بالنبوة فقط ، وإسماعيل وصف بالنبوة والرسالة ، وقد ثبت في » صحيح مسلم « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل « وذكر تمام الحديث ، فدل على صحة ما قلناه ، وقوله : { وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بالصلاة والزكاة وَكَانَ عِندَ رَبِّهِ مَرْضِيّاً } ، وهذا أيضاً من الثناء الجميل والصفة الحميدة والخلة السديدة ، حيث كان صابراً على طاعة ربه عزّ وجلّ ، آمراً بها لأهله ، كما قال تعالى لرسوله : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا } [ طه : 132 ] الآية . وقد جاء في الحديث عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » رحم الله رجلاً قام من الليل فصلى وأيقظ امرأته ، فإن أبت نضح في وجهها الماء ، رحم الله امرأة قامت من الليل فصلت وأيقظت زوجها فإن أبى نضحت في وجهه الماء « وعن أبي سعيد وأبي هريرة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » إذا استيقظ الرجل من الليل وأيقظ امرأته فصليا ركعتين كتبا من الذاكرين الله كثيراً والذاكرات « .(1/1565)
وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا (56) وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا (57)
ذكر إدريس عليه السلام بالثناء عليه ، بأنه كان صديقاً نبياً ، وأن الله رفعه مكاناً علياً . وقد تقدم في « الصحيح » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرَّ به في ليلة الإسراء وهو في السماء الرابعة . وعن ابن عباس : أن إدريس كان خياطاً فكان لا يغرز إبرة إلاّ قال سبحان الله ، فكان يمسي حين يمسي وليس في الأرض أحد أفضل حملاً منه ، وقال مجاهد في قوله { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } قال : إدريس رفع ولم يمت كما رفع عيسى . وقال سفيان ، عن مجاهد { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } قال : السماء الرابعة ، وقال الحسن وغيره في قوله { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } قال : الجنة .(1/1566)
أُولَئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا وَاجْتَبَيْنَا إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا (58)
يقول تعالى : هؤلاء النبيون ، وليس المراد المذكورين في هذه السورة فقط ، بل جنس الأنبياء عليهم السلام ، استطرد من ذكر الأشخاص إلى الجنس ، { الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ } الآية . قال السدي وابن جرير رحمه الله : فالذي عنى به من ذرية آدم ( إدريس ) ، والذي عني به من ذرية من حملنا مع نوح ( إبراهيم ) ، والذي عني به من ذرية إبراهيم ( إسحاق ويعقوب وإسماعيل ) ، والذي عني به من ذرية إسرائيل ( موسى وهارون وزكريا ويحيى وعيسى ابن مريم ) ، قال ابن جرير : ولذلك فرق أنسابهم ، وإن كان يجمع جميعهم آدم ، لأن فيهم من ليس من ولد من كان مع نوح في السفينة وهو إدريس ، فإنه جد نوح ، ( قلت ) : هذا هو الأظهر ، أن إدريس في عمود نسب نوح عليهما السلام ، وقد قيل إنه من أنبياء بني إسرائيل ، أخذاً من حديث الإسراء ، حيث قال في سلامه على النبي صلى الله عليه وسلم : مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح ، ولم يقل والولد الصالح ، كما قال آدم وإبراهيم عليهما السلام ، وفي « صحيح البخاري » عن مجاهد : « أنه سأل ابن عباس أفي { ص } سجدة؟ فقال : نعم ، ثم تلا هذه الآية : { أولئك الذين هَدَى الله فَبِهُدَاهُمُ اقتده } [ الأنعام : 90 ] فنبيكم ممن أمر أن يقتدي بهم ، قال وهو منهم يعني داود . وقال الله تعالى في هذه الآية الكريمة : { إِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرحمن خَرُّواْ سُجَّداً وَبُكِيّاً } أي إذا سمعوا كلام الله المتضمن حججه ودلائله وبراهينه سجدوا لربهم خضوعاً واستكانة حمداً وكشراً على ما هم فيه من النعم العظيمة ، والبكي جمع باك فلهذا أجمع العلماء على شرعية السجود هاهنا اقتداء بهم واتباعاً لمنوالهم . قال سفيان الثوري قرأ عمر بن الخطاب رضي الله عنه سورة مريم فسجد » وقال هذا السجود ، فأين البكي؟ يريد البكاء « .(1/1567)
إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا (60)
لما ذكر تعالى حزب السعداء وهم الأنبياء عليهم السلام ، ومن اتبعهم من القائمين بحدود الله وأوامره المؤدين فرائض الله التاركين لزواجره ، ذكر أنه { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ } أي قرون أخر ، { أَضَاعُواْ الصلاة } ، وأقبلوا على شهوات الدنيا وملاذها ، ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها ، فهؤلاء سليقون غياً ، أي خساراً يوم القيامة ، وقد اختلفوا في المراد بإضاعة الصلاة هاهنا ، فقال قائلون : المراد بإضاعتها تركها بالكلية . قاله محمد بن كعب القرظي والسدي واختاره ابن جرير ، ولهذا ذهب من ذهب من السلف والخلف والأئمة كما هو مشهور عن الإمام أحمد ، إلى تكفير تارك الصلاة للحديث : « بين العبد وبين الشرك ترك الصلاة » ، والحديث الآخر : « العهد الذي بيننا وبينهم الصلاة فمن تركها فقد كفر » ، وليس هذا محل بسط هذه المسألة . وقال الأوزاعي : إنما أضاعوا المواقيت ولو كان تركاً كان كفراً . وقيل : لابن مسعود : إن الله يكثر ذكر الصلاة في القرآن { الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ } [ الماعون : 5 ] ، و { الذين هُمْ على صَلاَتِهِمْ دَآئِمُونَ } [ المعارج : 23 ] ، و { وَالَّذِينَ هُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } [ المعارج : 32 ] ، فقال ابن مسعود : على مواقيتها ، قالوا : ما كنا نرى ذلك إلاّ على الترك ، قال : ذلك الكفر ، وقال مسروق : لا يحافظ أحد على الصلوات الخمس فيكتب من الغافلين ، وفي إفراطهن الهلكة ، وإبراطهن إضاعتهن ، عن وقتهن ، وقال الأوزاعي : قرأ عمر بن عبد العزيز : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة } ، ثم قال : لم تكن إضاعتهم تركها ولكن أضاعوا الوقت ، وقال مجاهد : ذلك عند قيام الساعة ، وذهاب صالحي أمة محمد صلى الله عليه وسلم ينزو بعضهم على بعض في الأزقة . وقال ابن جرير ، عن مجاهد { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات } قال : هم في هذه الأمة ، يتراكبون تراكب الأنعام والحمر في الطرق ، لا يخافون الله في السماء ، ولا يستحيون من الناس في الأرض . وقال كعب الأحبار : والله إني لأجد صفة المنافقين في كتاب الله عزَّ وجلَّ : شرَّابين للقهوات ، ترَّاكين للصلوات ، لعَّابين بالكعبات ، رقَّادين عن العتمات ، مفرطين في الغدوات ، تراكين للجماعات ، قال : ثم تلا هذه الآية : { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُواْ الصلاة واتبعوا الشهوات فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً } ، وقال الحسن البصري : عطَّلوا المساجد ولزموا الضيعات . وقال أبو الأشهب : أوحى الله إلى داود عليه السلام : يا داود حذر وأنذر أصحابك أكل الشهوات ، فإن القلوب المعلقة بشهوات الدنيا عقولها عني محجوبة ، وإن أهون ما أصنع بالعبد من عبيدي إذا آثر شهوة من شهواته أن أحرمه طاعتي ، وقوله : { فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً } ، قال ابن عباس : أي خسراناً ، وقال قتادة شراً ، وقال عبد الله بن مسعود { فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً } قال : وادٍ في جهنم بعيد القعر خبيث الطعم .(1/1568)
وقال الأعمش ، عن زياد ، عن أبي عياض في قوله { فَسَوْفَ يَلْقَونَ غَيّاً } قال : واد في جهنم من قيح ودم . وقوله { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } أي إلاّ من رجع عن ترك الصلوات واتباع الشهوات ، فإن الله يقبل توبته ويحسن عاقبته ويجعله من ورثة جنة النعيم ، ولهذا قال : { فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ شَيْئاً } ذلك لأنَّ التوبة تجبُّ ما قبلها ، وفي الحديث الآخر التائب من الذنب كمن لا ذنب له « ولهذا لا ينقص هؤلاء التائبون من أعمالهم التي عملوها شيئاً ولا قوبلوا بما عملوه قبلها فينقص لهم مما عملوه بعدها لأن ذلك ذهب هدراً وترك نسياً ، وذهب مجاناً من كرم الكريم وحلم الحليم ، وهذا الاستثناء ههنا كقوله في سورة الفرقان : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق . . . } [ الفرقان : 68 ] إلى قوله { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفرقان : 70 ] .(1/1569)
جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا (62) تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَنْ كَانَ تَقِيًّا (63)
يقول تعالى : الجنات التي يدخلها التائبون هي { جَنَّاتِ عَدْنٍ } أي إقامة { التي وَعَدَ الرحمن عِبَادَهُ } بظهر الغيب ، أي هي من الغيب الذي يؤمنون به وما رأوه ، وذلك لشدة إيقانهم وقوة إيمانهم . وقوله : { إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيّاً } تأكيد لحصول ذلك وثبوته واستقراره ، فإن الله لا يخلف الميعاد ولا يبدله ، كقوله { كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً } [ المزمل : 18 ] أي كائناً لا محالة ، وقوله هاهنا { مَأْتِيّاً } أي العباد صائرون إليه وسيأتونه ، ومنهم من قال { مَأْتِيّاً } بمعنى آتياً ، لأن كل ما أتاك فقد أتيته ، كما تقول العرب : أتت عليَّ خمسون سنة وأتيت على خمسين سنة كلاهما بمعنى واحد ، وقوله : { لاَّ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً } ، أي هذه الجنات ليس فيها كلام ساقط تافه لا معنى له ، كما قد يوجد في الدنيا ، وقوله { إِلاَّ سَلاَماً } استثناء منقطع ، كقوله : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } [ الواقعة : 25-26 ] ، وقوله : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } أي في مثل وقت البكرات ووقت العسيات ، لا أن هناك ليلاً ونهاراً ، ولكنهم في أوقات تتعاقب يعرفون مضيها بأضواء وأنوار ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أول زمرة تلج الجنة صورهم على صورة القمر ليلة البدر ، لا يبصقون فيها ولا يتمخطون فيها ، ولا يتغوطون ، آنيتهم وأمشاطهم الذهب والفضة ، ومجامرهم الألوة ورشحهم المسك ، ولكل واحد منهم زوجتان يرى مخ ساقها من وراء اللحم من الحسن ، لا اختلاف بينهم ولا تباغض ، قلوبهم على قلب رجل واحد ، يسبّحون الله بكرة وعشياً » وعن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الشهداء على بارق نهر بباب الجنة ، في قبة خضراء يخرج عليهم رزقهم من الجنة بكرة وعشياً » وقال الضحّاك عن ابن عباس { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } قال : مقادير الليل والنهار . وقال ابن جرير ، عن الوليد بن أسلم قال : سألت زهير بن محمد عن قول الله تعالى : { وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيّاً } قال : ليس في الجنة ليل ، هم في نور أبداً ولهم مقدار الليل والنهار ، يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب ، ويعرفون مقدار النهار ، برفع الحجب وبفتح الأبواب . وقال قتادة : فيها ساعتان بكرة وعشي ، ليس ثم ليل ولا نهار ، وإنما هو ضوء ونور ، وقال مجاهد : ليس بكرة ولا عشي ، ولكن يؤتون به على ما كانوا يشتهون في الدنيا . وقوله : { تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } أي هذه الجنة التي وصفنا بهذه الصفات العظيمة هي التي نورثها عبادنا المتقين ، وهم المطيعون لله عزَّ وجلَّ في السراء والضراء ، والكاظمون الغيظ والعافون عن الناس ، وكما قال تعالى في سورة المؤمنين : { أولئك هُمُ الوارثون * الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الآيات : 10-11 ] .(1/1570)
وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذَلِكَ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)
عن ابن عباس قال ، قال رسول الله لجبرائيل : « » ما يمنعك أن تزورنا أكثر مما تزورنا؟ « قال ، فنزلت : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } » وقال العوفي عن ابن عباس : احتبس جبرائيل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد رسول الله صلى الله عليه وسلم من ذلك وحزن ، فأتاه جبرائيل وقال : يا محمد { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } الآية . وقوله : { لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا } ، قيل : المراد ما بين أيدينا أمر الدنيا ، وما خلفنا أمر الآخرة { وَمَا بَيْنَ ذلك } ما بين النفختين ، وهذا قول عكرمة ومجاهد والسدي ، وقيل { مَا بَيْنَ أَيْدِينَا } : ما يستقبل من أمر الآخرة ، { وَمَا خَلْفَنَا } أي ما مضى من الدنيا ، { وَمَا بَيْنَ ذلك } أي ما بين الدنيا والآخرة واختاره ابن جرير ، والله أعلم . وقوله : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } ، قال مجاهد والسدي : معناه ما نسيك ربك ، وقد تقدم عنه أن هذه الآية كقوله : { والضحى * والليل إِذَا سجى * مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قلى } [ الضحى : 1-3 ] ، وعن أبي الدرداء يرفعه قال : « ما أحل الله في كتابه فهو حلال وما حرمه فهو حرام وما سكت عنه فهو عافية فاقبلوا من الله عافيته ، فإن الله لم يكن لينسى شيئاً » ، ثم تلا هذه الآية : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } . وقوله : { رَّبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } أي خالق ذلك ومدبره ، والحاكم فيه والمتصرف الذي لا معقب لحكمه ، { فاعبده واصطبر لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً } قال ابن عباس : هل تعلم للرب مثلاً أو شبيهاً . وقال عكرمة ، عن ابن عباس : ليس أحد يسمى الرحامن غيره تبارك وتعالى وتقدس اسمه .(1/1571)
وَيَقُولُ الْإِنْسَانُ أَإِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا (67) فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَالشَّيَاطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمَنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلَى بِهَا صِلِيًّا (70)
يخبر تعالى عن الإنسان ، أنه يتعجب ويستبعد إعادته بعد موته ، كما قال تعالى : { وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } [ الرعد : 5 ] ، وقال : { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ * وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ } [ يس : 77-78 ] ، وقال هاهنا : { وَيَقُولُ الإنسان أَءِذَا مَا مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيّاً * أَوَلاَ يَذْكُرُ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئاً } ، يستدل تعالى بالبداءة على الإعادة ، يعني أنه تعالى قد خلق الإنسان ولم يك شيئاً ، أفلا يعيده؟ وقد صار شيئاً ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] ، وفي « الصحيح » : « يقول الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له أن يكذبني ، وآذاني ابن آدم ولم يكن له أن يؤذيني ، أما تكذيبه إياي فقوله لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهون عليّ من آخره ، وأما أذاه إياي فقوله : إن لي ولداً وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد » وقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ والشياطين } أقسم الرب تبارك وتعالى بنفسه الكريمة ، أنه لا بدّ أن يحشرهم جميعاً ، وشياطينهم الذين كانوا يعبدون من دون الله ، { ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيّاً } ، قال ابن عباس : يعني قعوداً كقوله : { وترى كُلَّ أُمَّةٍ جَاثِيَةً } [ الجاثية : 28 ] وقال السدي في قوله { جِثِيّاً } يعني قياماً ، وروي عن ابن مسعود مثله . وقوله : { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ } يعني من كل أمة قاله مجاهد ، { أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } قال الثوري عن ابن مسعود قال : يحبس الأول على الآخر ، حتى إذا تكاملت العدة أتاهم جميعاً ، ثم بدأ بالأكابر فالأكابر جرماً ، وهو قوله : { ثُمَّ لَنَنزِعَنَّ مِن كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرحمن عِتِيّاً } ، وقال قتادة : ثم لننزعن من أهل كل دين قادتهم ورؤساءهم في الشر ، وكذا قال ابن جريج وغير واحد من السلف ، وهذا كقوله تعالى : { حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار } [ الأعراف : 38 ] ، وقوله : { ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بالذين هُمْ أولى بِهَا صِلِيّاً } ، المراد أنه تعالى أعلم بمن يستحق من العباد أن يصلى بنار جهنم ويخلد فيها ، وبمن يستحق تضعيف العذاب كما قال في الآية المتقدمة : { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ] .(1/1572)
وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72)
روى الإمام أحمد ، عن أبي سمية قال : اختلفنا في الورود ، فقال بعضنا : لا يدخلها مؤمن ، وقال بعضهم يدخلونها جميعاً ، ثم ينجي الله الذين اتقوا ، فلقيت جابر بن عبد الله فقلت له : إنا اختلفنا في الورود ، فقال : يردونها جميعاً ، وأهوى بأصبعه إلى أذنيه ، وقال : صُمّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يبقى بر ولا فاجر إلاّ دخلها ، فتكون على المؤمن برداً وسلاماً كما كانت على إبراهيم ، حتى إن للنار ضجيجاً من بردهم ، ثم ينجي الله الذين اتقوا ويذر الظالمين فيها جثياً » وعن قيس بن أبي حازم قال : كان عبد الله بن رواحة واضعاً رأسه في حجر امرأته فبكى ، فبكت امرأته ، قال : ما يبكيك؟ قالت : رأيتك تبكي فبكيت ، قال إني ذكرت قول الله عزَّ وجلَّ { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } فلا أدري أنجو منها أم لا ، وكان مريضاً . وقال ابن جرير عن أبي إسحاق : كان أبو ميسرة إذا أوى إلى فراشه قال : ما ليت أمي لم تلدني ، ثم يبكي ، فقيل له : ما يبكيك يا أبا ميسرة؟ فقال : أخبرنا أنا واردوها ولم نخبر أنا صادرون عنها . وعن الحسن البصري قال ، قال رجل لأخيه : هل أتاك أنك وارد النار؟ قال : نعم ، قال : فهل أتاك أنك صادر عنها؟ قال : لا ، قال : ففيم الضحك ، قال : فما رئي ضاحكاً حتى لحق بالله . وقال عبد الرزاق خاصم ابن عباس نافع بن الأزرق . فقال ابن عباس : الورود الدخول ، فقال نافع : لا ، فقرأ ابن عباس { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] وردوا أم لا؟ وقال : { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود } [ هود : 98 ] أوردهم أم لا؟ أما أنا وأنت فسندخلها فانظر هل تخرج منها أم لا؟ وما أرى مخرجك منها بتكذيبك ، فضحك نافع . وقال : عن مجاهد قال : كنت عند ابن عباس فأتاه رجل يقال له أبو راشد ، وهو نافع بن الأزرق . فقال له : يا ابن عباس ، أرأيت قول الله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } ، قال : أما أنا وأنت يا أبا راشد فسنردها فانظر هل نصدر عنها أم لا؟
وعن عبد الله بن مسعود { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يرد الناس كلهم ثم يصدرون عنها بأعمالهم » وقد رواه أسباط عن السدي ، عن مرة عن عبد الله بن مسعود قال : يراد الناس جميعاً الصراط ، ورودهم قيامهم حول النار ، ثم يصدرون عن الصراط بأعمالهم ، فمنهم من يمر مثل البرق ، ومنهم من يمر مثل الريح ، ومنهم من يمر مثل الطير ، ومنهم من يمر كأجود الخيل ، ومنهم من يمر كأجود الإبل .(1/1573)
ومنهم من يمر كعدو الرجُل حتى إن آخرهم مراً رجل نوره على موضع إبهامي قدميه يمر فيتكفأ به الصراط ، والصرط دحض مزلة . عليه حسك كحسك القتاد ، حافتاه ملائكة معهم كلاليب من نار يختفطون بها الناس ، وقال ابن جرير ، عن عبد الله قوله { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } قال : الصراط على جهنم مثل حد السيف ، فتمر الطبقة الأولى كالبرق ، والثانية كالريح ، والثالثة كأجود الخيل ، والرابعة كأجود البهائم ، ثم يمرون والملائكة يقولون اللهم سلم سلم ، ولهذا شواهد في « الصحيحين » وغيرهما . عن أم مبشر امرأة زيد بن حارثة ، قالت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيت حفصة فقال : « لا يدخل النار أحد شهد بدراً والحديبية » ، قالت حفصة : أليس الله يقول : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا } الآية ، وفي « الصحيحين » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يموت لأحد من المسلمين ثلاثة من الولد تمسه النار إلا تحلة القسم » يعني الورود . وقال قتادة قوله : { وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا } هو الممر عليها . وقال عبد الرحمن بن زيد : ورود المسلمين المرور على الجسر بين ظهرانيها ، وورود المشركين أن يدخلوها ، والزالون والزالات يومئذٍ كثير ، وقد أحاط بالجسر يومئذٍ سماطان من الملائكة دعاؤهم يا الله سلم سلم « وقال السدي ، عن ابن مسعود في قوله { كَانَ على رَبِّكَ حَتْماً مَّقْضِيّاً } قال : قسماً واجباً ، وقال مجاهد : حتماً ، قال قضاء ، وقوله { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا } أي إذا مر الخلائق كلهم على النار ، وسقط فيها من سقط من الكفار ، والعصاة ، نجى الله تعالى المؤمنين المتقين منها بحسب أعمالهم ، فجوازهم على الصراط وسرعتهم بقدر أعمالهم التي كانت في الدنيا ، ثم يشفعون في أصحاب الكبائر من المؤمنين ، فيشفع الملائكة والنبيون والمؤمنون ، فيخرجون خلقاً كثيراً قد أكلتهم النار إلاّ دارات وجوههم ، وهي مواضع السجود ، ولا يبقى في النار إلاّ من وجب عليه الخلود ، كما وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ نُنَجِّي الذين اتقوا وَّنَذَرُ الظالمين فِيهَا جِثِيّاً } .(1/1574)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا (73) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثًا وَرِئْيًا (74)
يخبر تعالى عن الكفار حين تتلى عليهم آيات الله ظاهرة الدلالة بينة الحجة واضحة البرهان ، أنهم يصدون ويعرضون عن ذلك ، ويقولون عن الذين آمنوا مفتخرين عليهم ومحتجين على صحة ما هم عليه من الدين الباطل بأنهم { خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } أي أحسن منازل ، وأرفع دوراً ، وأحسن ندياً ، وهو مجتمع الرجال للحديث ، أي ناديهم أعمر وأكثر وارداً وطارقاً ، يعنون فكيف نكون ونحن بهذه المثابة على باطل؟ كما قال تعالى مخبراً عنهم { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمَنُواْ لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] ، وقال قوم نوح ، { أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون } [ الشعراء : 111 ] وقال تعالى : { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } [ الأنعام : 53 ] ؟ ولهذا قال تعالى ، راداً عليهم شبهتهم : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } : أي وكم من أمة وقرن من المكذبين ، قد أهلكناهم بكفرهم { هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } أي كانوا أحسن من هؤلاء أموالاً وأمتعة ومناظر وأشكالاً . قال ابن عباس { خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } المقام : المنزل ، والندي : المجلس ، والأثاث : المتاع ، والرئي : المنظر ، وهو كما قال الله تعالى { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } [ الدخان : 25-26 ] فالمقام المسكن والنعيم ، والندي : المجلس ، والمجمع ، الذي كانوا يجتمعون فيه وقال تعالى فيما قص على رسوله من أمر قوم لوط { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر } [ العنكبوت : 29 ] والعرب تسمي المجلس النادي ، وقال قتادة : لما رأوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم في عيشهم خشونة وفيهم قشافة ، فعرض أهل الشرك ما تسمعون { أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً } ، ومنهم من قال في الأثاث هو المال ، ومنهم من قال الثياب ، ومنهم من قال المتاع ، والرئي المنظر كما قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد . وقال الحسن البصري يعني الصوّر ، وكذا قال مالك { أَثَاثاً وَرِءْياً } أكثر أموالاً وأحسن صوراً ، والكل متقارب صحيح .(1/1575)
قُلْ مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا حَتَّى إِذَا رَأَوْا مَا يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذَابَ وَإِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضْعَفُ جُنْدًا (75)
يقول تعالى { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين بربهم ، المدعين أنهم على الحق وأنكم على الباطل { مَن كَانَ فِي الضلالة } أي منا ومنكم { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } أي فليمهله الرحمن فيما هو فيه ، حتى يلقى ربه وينقضي أجله ، { إِمَّا العذاب } يصيبه ، { وَإِمَّا الساعة } بغتة تأتيه ، { فَسَيَعْلَمُونَ } حينئذٍ { مَنْ هُوَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضْعَفُ جُنداً } في مقابلة ما احتجوا به من خيرية المقام وحسن الندي ، قال مجاهد في قوله : { فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرحمن مَدّاً } فليدعه الله في طغيانه ، هكذا قرر ذلك أبو جعفر بن جرير رحمه الله .(1/1576)
وَيَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدًى وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ مَرَدًّا (76)
لما ذكر تعالى إمداد من هو في الضلالة فيما هو فيه ، وزيادته على ما هو عليه ، أخبر بزيادة المهتدين هدى ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً } [ التوبة : 124 ] الآيتين . وقوله : { والباقيات الصالحات } قد تقدم تفسيرها في سورة الكهف { خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً } أي جزاء { وَخَيْرٌ مَّرَدّاً } أي عاقبة ومرداً على صاحبها . عن أبي سلمة بن عبد الرحمن ، قال : جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فأخذ عوداً يابساً فحط ورقه ، ثم قال : « إن قول لا إله إلاّ الله والله أكبر وسبحان الله والحمدلله تحط الخطايا كما تحط ورق هذه الشجرة الريح ، خذهن يا أبا الدرداء قبل أن يحال بينك وبينهن ، هن الباقيات الصالحات وهن من كنوز الجنة » قال أبو سلمة : فكان أبو الدرداء إذا ذكر هذا الحديث قال لأهللن الله ولأكبرن الله ولأسبحن الله ، حتى إذا رآني الجاهل حسب أني مجنون .(1/1577)
أَفَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لَأُوتَيَنَّ مَالًا وَوَلَدًا (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (78) كَلَّا سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذَابِ مَدًّا (79) وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ وَيَأْتِينَا فَرْدًا (80)
روى الإمام أحمد ، عن خباب بن الأرت قال : كنت رجلاً قيناً ، وكان لي على ( العاص بن وائل ) دين فأتيته أتقاضاه منه ، فقال : لا والله لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : لا والله لا أكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، حتى تموت ثم تبعث ، قال : فإني إذا مت ثم بعثت جئتني ولي ثمّ مال وولد فأعطيتك ، فأنزل الله { أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } إلى قوله { وَيَأْتِينَا فَرْداً } ، وفي لفظ البخاري : كنت قيناً بمكة فعملت للعاص بن وائل سيفاً ، فجئت أتقاضاه ، فذكر الحديث وقال { أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } قال : موثقاً .
وروى عبد الرزاق ، عن مسروق قال ، قال خباب بن الأرت : كنت قيناً بمكة فكنت أعمل للعاص بن وائل ، فاجتمعت لي عليه دراهم ، فجئت لأتقاضاها ، فقال لي : لا أقضيك حتى تكفر بمحمد ، فقلت : لا أكفر بمحمد حتى تموت ثم تبعث ، قال : فإذا بعثت كان لي مال وولد ، قال : فذكرت ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا } الآيات . وقال ابن عباس : إن رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا يطلبون ( العاص بن وائل ) بدين ، فأتوه يتقاقضونه ، فقال : ألستم تزعمون أن في الجنة ذهباً وفضة وحريراً ومن كل الثمرات؟ قالوا : بلى ، قال فإن موعدكم الآخرة فوالله لأوتين مالاً وولداً ، ولأوتين مثل كتابكم الذي جئتم به فضرب الله مثله في القرآن فقال : { أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا } إلى قوله { وَيَأْتِينَا فَرْداً } ، وقوله : { لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } ، قرأ بعضهم بفتح الواو من { وَلَداً } وقرأ آخرون بضمها وهو بمعناه ، وقيل : إن الولد بالضم جمع ، والولد بالفتح مفرد ، وهي لغة قيس ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { أَطَّلَعَ الغيب } إنكار على هذا القائل { لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } يعني يوم القيامة ، أي أعلم ماله في الآخرة ، حتى تألى وحلف على ذلك { أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } أم له عند الله عهد سيؤتيه ذلك؟ وقد تقدم عند البخاري أنه الموثق ، وقال ابن عباس : { أَمِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } قال : لا إله إلا الله فيرجوا بها ، وقال القرظي : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، ثم قرأ : { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } [ مريم : 87 ] ، وقوله { كَلاَّ } هي حرف ردع لما قبلها ، وتأكيد لما بعدها { سَنَكْتُبُ مَا يَقُولُ } أي من طلبه ذلك ، وحكمه لنفسه بما يتمناه وكفره بالله العظيم ، { وَنَمُدُّ لَهُ مِنَ العذاب مَدّاً } أي في الدار الآخرة على قوله ذلك وكفره بالله في الدنيا ، { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } أي من مال وولد ، نسلبه منه عكس ما قال إنه يؤتى في الدار الآخرة مالاً وولداً ، زيادة على الذي له في الدنيا ، بل في الآخرة يسلب من الذي كان له في الدنيا ، ولهذا قال تعالى : { وَيَأْتِينَا فَرْداً } أي من المال والولد ، قال مجاهد { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } : ماله وولده ، وقال قتادة { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } قال : ما عنده ، وهو قوله : { لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } { وَيَأْتِينَا فَرْداً } لا مال له ولا ولد ، وقال عبد الرحمن بن زيد { وَنَرِثُهُ مَا يَقُولُ } قال : ما جمع من الدنيا وما عمل فيها ، { وَيَأْتِينَا فَرْداً } قال : فرداً من ذلك لا يتبعه قليل ولا كثير .(1/1578)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81) كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82) أَلَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّيَاطِينَ عَلَى الْكَافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلَا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)
يخبر تعالى عن الكفار المشركين بربهم ، أنهم اتخذوا من دونه آلهة لتكون لهم تلك الآلهة { عِزّاً } يعتزون بها ويستنصرونها ، ثم أخبر أنه ليس الأمر كما زعموا ولا يكون ما طمعوا ، فقال { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ } : أي يوم القيامة { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } أي بخلاف ما ظنوا فيهم ، كما قال تعالى : { وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 6 ] ، وقال السدي { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ } : أي بعبادة الأوثان ، وقوله : { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } أي بخلاف ما رجوا منهم . وقال ابن عباس { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } قال : أعواناً ، قال مجاهد : عوناً عليهم تخاصمهم وتكذبهم ، وقال قتادة : قرناء في النار ، يلعن بعضهم بعضاً ويكفر بعضهم ببعض ، وقال الضحاك { وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } قال : أعداء . وقوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } قال ابن عباس : تغويهم إغواء ، وقال العوفي عنه : تحرضهم على محمد وأصحابه ، وقال مجاهد : تشليهم إشلاء ، وقال قتادة : تزعجهم إزعاجاً إلى معاصي الله ، وقال سفيان الثوري : تغريهم إغراء وتستعجلهم استعجالاً وقال السدي : تطغيهم طغياناً ، وقال عبد الرحمن بن زيد : هذا كقوله تعالى : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] ، وقوله : { فَلاَ تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } أي لا تعجل يا محمد على هؤلاء في وقوع العذاب بهم ، { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } أي إنما نؤخرهم لأجل معدود ومضبوط ، وهم صائرون لا محالة إلى عذاب الله ونكاله ، كما قال تعالى : { فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 17 ] ، { ليزدادوا إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] ، { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } [ إبراهيم : 30 ] وقال السدي { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } السنين والشهور والأيام والساعات ، وقال ابن عباس : { إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدّاً } قال : نعد أنفاسهم في الدنيا .(1/1579)
يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86) لَا يَمْلِكُونَ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمَنِ عَهْدًا (87)
يخبر تعالى عن أوليائه المتقين الذين خافوه في الدار الدنيا ، واتبعوا رسله ، وصدقوهم فيما أخبروهم وأطاعوهم فيما أمروهم به ، وانتهوا عما زجروهم أنه يحشرهم يوم القيامة ، وفداً إليه ، والوفد هم القادمون ركباناً ومنه الوفود ، وركوبهم على نجائب من نور من مراكب الدار الآخرة ، وهم قادمون على خير موفود إليه إلى دار كرامته ورضوانه ، وأما المجرمون المكذبون للرسل المخالفون لهم فإنهم يساقون عنفاً إلى النار { وِرْداً } عطاشاً ، وقال ابن أبي حاتم ، عن ابن مرزوق { يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً } قال : يستقبل المؤمن عند خروجه من قبره أحسن صورة رآها وأطيبها ريحاً ، فيقول : من أنت؟ فيقول : أما تعرفني؟ فيقول لا ، إلاّ أن الله قد طيب ريحك وحسن وجهك . فيقول : أنا عملك الصالح وهكذا كنت في الدنيا حسن العمل طيبه ، فطالما ركبتك في الدنيا ، فهلم اركبني فيركبه ، فذلك قوله : { يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً } . قال ابن عباس : ركباناً . وقال أبو هريرة { يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً } قال : على الإبل . وقال الثوري : على الإبل النوق ، وقال قتادة { يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً } قال : إلى الجنة ، عن ابن النعمان بن سعيد قال : كنا جلوساً عند علي رضي الله عنه ، فقرأ هذه الآية { يَوْمَ نَحْشُرُ المتقين إِلَى الرحمن وَفْداً } قال : لا والله ما على أرجلهم يحشرون ، ولا يحشر الوفد على أرجلهم ، ولكن بنوق يلم ير الخلائق مثلها ، عليها رحائل من ذهب ، فيركبون علها حتى يضربوا أبواب الجنة .
وقوله تعالى : { وَنَسُوقُ المجرمين إلى جَهَنَّمَ وِرْداً } أي عطاشاً ، { لاَّ يَمْلِكُونَ الشفاعة } أي ليس لهم من يشفع لهم كما يشفع المؤمنون بعضهم لبعض ، كما قال تعالى مخبراً عنهم : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100-101 ] ، وقوله : { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } هذا استثناء منقطع ، بمعنى : لكن من اتخذ عند الرحمن عهداً ، وهو شهادة أن لا إلاّ الله ، والقيام بحقها . قال ابن عباس : العهد ( شهادة أن لا إله إلا الله ) ، ويبرأ إلى الله من الحول والقوة ولا يرجو إلا الله عزَّ وجلَّ . وقال ابن أبي حاتم ، عن الأسود بن يزيد ، قال : قرأ عبد الله بن مسعود هذه الآية { إِلاَّ مَنِ اتخذ عِندَ الرحمن عَهْداً } ثم قال : اتخذوا عند الله عهداً ، فإن الله يقول يوم القيامة : من كان له عند الله عهد فليقم ، قالوا : يا أبا عبد الرحمن فعلمنا ، قال قولوا : اللهم فاطر السماوات والأرض عالم الغيب والشهادة ، فإني أعهد إيك في هذه الحياة الدنيا ، أنك إن تكلني إلى عملي يقربني من الشر ويباعدني من الخير ، وإني لا أثق إلاّ برحمتك فاجعل لي عندك عهداً تؤديه إليّ يوم القيامة ، إنك لا تخلف الميعاد . قال المسعودي : وكان يلحق بهن : خائفاً مستجيراً مستغفراً راهباً راغباً إليك .(1/1580)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئًا إِدًّا (89) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَتَخِرُّ الْجِبَالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمَنِ وَلَدًا (91) وَمَا يَنْبَغِي لِلرَّحْمَنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَدًا (92) إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا (93) لَقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا (95)
لما قرر تعالى في هذه السورة الشريفة عبودية عيسى عليه السلام ، وذكر خلقه من مريم بلا أب ، شرع في مقام الإنكار على من زعم أن له ولداً ، تعالى وتقدس وتنزه عن ذلك علواً كبيراً فقال : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ } أي في قولكم ، هذا { شَيْئاً إِدّاً } ، قال ابن عباس : أي عظيماً ، وقوله : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً } أي يكاد يكون ذلك عند سماعهن هذه المقالة من فجَرَة بني آدم إعظاماً للرب وإجلالاً ، لأنهن مخلوقات ومؤسسات على توحيده وأنه لا إله إلاّ هو ، قال ابن جرير ، عن ابن عباس في قوله { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً } قال : إن الشرك فزعت منه السماوات والأرض والجبال وجميع الخلائق إلاّ الثقلين ، وكادت تزول منه لعظمة الله ، وكما لا ينفع مع الشرك إحسان المشرك كذلك نرجو أن يغفر الله ذنوب الموحدين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقنوا موتاكم شهادة أن لا إله إلاّ الله ، فمن قالها عند موته وجبت له الجنة » ، فقالوا : يا رسول الله فمن قالها في صحته؟ قال : « تلك أوجب وأوجب » ، ثم قال : « والذي نفسي بيده لو جيء بالسماوات والأرضين وما فيهن وما بينهن وما تحتهن فوضعن في كفة الميزان ووضعت شهادة أن لا إله إلاّ الله في الكفة الأخرى لرجحت بهن » ، وقال الضحاك { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } أي يتشققن فرقاً من عظمة الله . وقال عبد الرحمن بن زيد { وَتَنشَقُّ الأرض } أي غضباً له عزّ وجلّ ، { وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً } قال ابن عباس : هدماً ، وقال سعيد بن جبير : هدأ ينكسر بعضها على بعض متتابعات ، عن هون بن عبد الله : قال إن الجبل لينادي الجبل باسمه : يا فلان هل مر بك اليوم ذكر الله عزَّ وجلَّ؟ فيقول : نعم ويستبشر ، قال عون : لهي للخير أسمع ، أفيسمعن الزور والباطل ، إذا قيل ولا يسمعن غيره؟ ثم قرأ { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } الآية وعن أبي موسى رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله أن يشرك به ويُجعل له ولد ، وهو يعافيهم ويدفع عنهم ويرزقهم » ، أخرجاه في « الصحيحين » . وفي لفظ : « إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم » وقوله : { وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } أي لا يصلح له ولا يليق به لجلاله وعظمته ، لأنه لا كفء له من خلقه ، لأن جميع الخلائق عبيد له ، ولهذا قال : { إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً } أي قد علم عددهم ، منذ خلقهم إلى يوم القيامة ، ذكرهم وأنثاهم وصغيرهم وكبيرهم ، { وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ القيامة فَرْداً } أي لا ناصر ولا مجير إلاّ الله وحده لا شريك له ، فيحكم في خلقه بما يشاء ، هو العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة ولا يظلم أحداً .(1/1581)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَنُ وُدًّا (96) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا (97) وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزًا (98)
يخبر تعالى : أنه يغرس لعباده المؤمنين الذين يعملون الصالحات ، في قلوب عباده الصالحين محبة ومودة ، وقد وردت بذلك الأحاديث الصحيحة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير وجه فروى الإمام أحمد عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله إذا أحب عبداً دعا جبريل ، فقال : يا جبريل إني أحب فلاناً فأحبه - قال - فيحبه جبريل ، قال : ثم ينادي في أهل السماء إن الله يحب فلاناً فأحبوه ، قال فيحبه أهل السماء ثم يوضع له القبول في الأرض ، وإن الله إذا أبغض عبداً دعا جبريل ، فقال : يا جبريل إني أبغض فلاناً فابغضه ، قال فيبغضه جبريل ، ثم ينادي في أهل السماء ، إن الله يبغض فلاناً فأبغضوه ، قال : فيبغضه أهل السماء ، ثم يوضع له البغضاء في الأرض » وعن ثوبان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن العبد ليلتمس مرضاة الله عزَّ وجلَّ ، فلا يزال كذلك ، فيقول الله عزَّ وجلَّ لجبريل إن فلاناً عبدي يلتمس أن يرضيني ألا وإن رحمتي عليه ، فيقول جبريل : رحمة الله على فلان ، ويقولها حملة العرش ويقولها من حولهم ، حتى يقولها أهل السماوات السبع ، ثم يهبط إلى الأرض » وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا أحب الله عبداً نادى جبريل : إني قد أحببت فلاناً فأحبه فينادي في السماء ثم ينزل له المحبة في أهل الأرض » ، فذلك قول الله عزَّ وجلَّ : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } . وقال ابن عباس : { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } قال : حباً ، وقال مجاهد عنه { سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } قال : محبة في الناس في الدنيا ، وقال سعيد بن جبير : يحبهم ويحببهم يعني إلى خلقه المؤمنين ، وقال العوفي ، عن ابن عباس : الود من المسلمين في الدنيا ، والزرق الحسن واللسان الصادق ، وقال قتادة { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرحمن وُدّاً } أي والله في قلوب أهل الإيمان ، وذكر لنا أن هرم بن حيان كان يقول : ما أقبل عبد بقلبه إلى الله إلاّ أقبل الله بقلوب المؤمنين إليه ، حتى يرزقه مودتهم ورحمتهم ، وقال قتادة : وكان عثمان بن عفان رضي الله عنه يقول : ما من عند يعمل خيراً أو شراً إلاّ كساه الله عزَّ وجلَّ رداء عمله .
وقوله تعالى : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ } يعني القرآن { بِلِسَانِكَ } : أي يا محمد وهو اللسان العربي المبين الفصيح الكامل ، { لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين } أي المستجيبين لله المصدقين لرسوله ، { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } أي عوجاً عن الحق مائلين إلى الباطل ، وقال مجاهد { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } لا يستقيمون ، وقال الثوري ، عن أبي صالح { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } : عوجاً عن الحق .(1/1582)
وقال الضحّاك : الألد الخصم ، وقال القرظي : الألد الكذّاب ، وقال الحسن البصري { قَوْماً لُّدّاً } صماً ، وقال غيره : صم آذان القلوب ، وقال ابن عباس { قَوْماً لُّدّاً } : فجازاً ، وكذا روي عن مجاهد ، وقال ابن زيد : الألد الظلوم ، وقرأ قوله تعالى : { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } [ البقرة : 204 ] ، وقوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ } : أي من أمة كفروا بآيات الله وكذبوا رسله { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } : أي هل ترى منهم أحداً أو تسمع لهم ركزاً . قال ابن عباس وأبو العالية وعكرمة : يعني صوتاً ، وقال الحسن وقتادة : هل ترى عيناً أو تسمع صوتاً ، والركز في أصل اللغة : هو الصوت الخفي ، قال الشاعر :
فتوجست ركز الأنيس فراعها ... عن ظهر غيب والأنيس سقامها(1/1583)
طه (1) مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى (2) إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى (3) تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَى (4) الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى (6) وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى (7) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى (8)
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته .
روي عن ابن عباس قال : { طه } يا رجل ، وهكذا روي عن مجاهد وعكرمة والضحّاك ، وأسند القاضي عياض في كتابه « الشفاء » عن الربيع بن أنَس ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام على رجل ورفع الأخرى ، فأنزل الله تعالى : { طه } يعني طأ الأرض يا محمد { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى } ثم قال : ولا يخفى ما في هذا من الإكرام وحسن المعاملة ، وقوله : { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى } قال الضحّاك : لما أنزل الله القرآن على رسوله صلى الله عليه وسلم قام به هو وأصحابه ، فقال المشركون من قريش : ما أنزل هذا القرآن على محمد إلاّ ليشقى ، فأنزل الله تعالى : { طه * مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى * إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى } فليس الأمر كما زعمه المبطلون ، بل من آتاه العلم فقد أراد به خيراً كثيراً ، كما ثبت في « الصحيحين » عن معاوية قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين » وما أحسن الحديث الذي رواه الحافظ الطبراني ، عن ثعلبة بن الحكم ، قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يقول الله تعالى للعلماء يوم القيامة إذا قعد على كرسيه لقضاء عباده ، إني لم أجعل علمي وحكمتي فيكم إلاّ وأنا أريد أن أغفر لكم على ما كان منكم ولا أبالي » وقال مجاهد في قوله { مَآ أَنَزَلْنَا عَلَيْكَ القرآن لتشقى } هي كقوله : { فاقرءوا مَا تَيَسَّرَ مِنْهُ } [ المزمل : 20 ] وكانوا يعلقون الحبال بصدورهم في الصلاة . وقال قتادة : لا والله ما جعله شقاء ولن جعله رحمة ونوراً ، ودليلاً إلى الجنة { إِلاَّ تَذْكِرَةً لِّمَن يخشى } أن الله أنزل كتابه وبعث رسوله رحمة رحم بها عباده ليتذكر ذاكر ، وينتفع رجل بما سمع من كتاب الله ، وهو ذكر أنزل الله في حلاله وحرامه ، وقوله : { تَنزِيلاً مِّمَّنْ خَلَقَ الأرض والسماوات العلى } أي هذا القرآن الذي جاءك يا محمد هو تنزيل من ربك ، الذي خلق الأرض بانخفاضها وكثافتها ، وخلق السماوات العلى في ارتفاعها ولطافتها ، وقد جاء في الحديث الذي صححه الترمذي وغيره ، أن سمك كل سماء مسيرة خمسمائة عام ، وبعد ما بينها ، والتي تليها مسيرة خمسمائة عام .
وقوله تعالى : { الرحمن عَلَى العرش استوى } المسلك الأسلم طريقة السلف ، وهو إمرار ما جاء في ذلك من الكتاب والسنّة من غير تكييف ولا تحريف ، ولا تشبيه ولا تعطيل ولا تمثيل ، وقوله : { لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثرى } أي الجميع ملكه وفي قبضته ، وتحت تصرفه ومشيئته وإرادته وحكمه ، وهو خالق ذلك ومالكه ، وإلهه لا إله سواه ، وقوله { وَمَا تَحْتَ الثرى } قال محمد بن كعب : أي ما تحت الأرض السابعة ، { وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } أي أنزل هذا القرآن الذي خلق الأرض والسماوات العلى الذي يعلم السر وأخفى ، كما قال تعالى :(1/1584)
{ قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفرقان : 6 ] ، قال ابن عباس { يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } قال : السر ما أسره ابن آدم في نفسه ، { وَأَخْفَى } ما أخفي على ابن آدم مما هو فاعله قبل أن يعلمه ، فالله يعلم ذلك كله ، فعلمه فيما مضى من ذلك ، وما بقي علم واحد ، وجميع الخلائق في ذلك عنده كنفس واحدة ، وهو قوله : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] . وقال الضحّاك { يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } قال : السر ما تحدث به نفسك ، وأخفى ما لم تحدث نفسك به بعد . وقال سعيد بن جبير : أنت تعلم ما تسر اليوم ، ولا تعلم ما تسر غداً ، والله يعلم ما تسر اليوم وما تسر غداً ، وقال مجاهد { وَأَخْفَى } يعني الوسوسة ، وقال أيضاً { وَأَخْفَى } أي ما هو عامله مما لم يحدث به نفسه ، وقوله : { الله لا إله إِلاَّ هُوَ لَهُ الأسمآء الحسنى } : أي الذي أنزل عليك القرآن هو الله الذي لا إله إلاّ هو ذو الأسماء الحسنى ، والصفات العلى ، وقد تقدم بيان الأحاديث الواردة في الأسماء الحسنى في أواخر سورة الأعراف ولله الحمد والمنة .(1/1585)
وَهَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ مُوسَى (9) إِذْ رَأَى نَارًا فَقَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدًى (10)
من هاهنا شرع تبارك وتعالى في ذكر قصة موسى ، وكيف كان ابتداء الوحي إليه ، وتكليمه إياه ، وذلك بعد ما قضى موسى الأجل الذي كان بينه وبين صهره في رعاية الغنم ، وسار بأهله : قيل قاصداً بلاد مصر بعد ا طالت الغيبة عنها أكثر من عشر سنين ومعه زوجته ، فأضل الطريق وكانت ليلة شاتية ، ونزل منزلاً بين شعاب وجبال في برد وشتاء ، وسحاب وظلام وضباب ، وجعل يقدح بزند معه ليوري ناراً كما جرت له العادة به ، فجعل لا يقدح شيئاً ولا يخرج منه شرر ولا شيء ، فبينما هو كذلك إذ آنس من جانب الطور ناراً ، أي ظهرت له نار من جانب الجبل الذي هناك عن يمينه ، فقال لأهله يبشرهم { إني آنَسْتُ نَاراً لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِقَبَسٍ } أي شهاب من نار ، وفي الآية الأخرى { أَوْ أَجِدُ عَلَى النار } وهي الجمر الذي معه لهب { لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } [ النمل : 7 ] دل على وجود البرد ، وقوله : { بِقَبَسٍ } دل على وجود الظلام ، وقوله : { أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى } أي من يهديني الطريق ، دل على أنه قد تاه عن الطريق كما قال ابن عباس في قوله { أَوْ أَجِدُ عَلَى النار هُدًى } قال : من يهديني إلى الطريق وكانوا شاتين وضلوا الطريق ، فلما رأى النار ، قال : إن لم أجد أحداً يهديني إلى الطريق أتيتكم بنار توقدون بها .(1/1586)
فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ يَا مُوسَى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوَادِ الْمُقَدَّسِ طُوًى (12) وَأَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِمَا يُوحَى (13) إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكَادُ أُخْفِيهَا لِتُجْزَى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تَسْعَى (15) فَلَا يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَتَرْدَى (16)
يقول تعالى { فَلَمَّآ أَتَاهَا } أي النار واقترب منها { نُودِيَ ياموسى } ، وفي الآية الأخرى : { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن فِي البقعة المباركة مِنَ الشجرة أَن ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين } [ القصص : 30 ] ، وقال : هاهنا : { إني أَنَاْ رَبُّكَ } أي الذي يكلمك ويخاطبك { فاخلع نَعْلَيْكَ } قيل : كانتا من جلد حمار غير ذكي ، وقيل : إنما أمره بخلع نعليه تعظيماً للبقعة ، قال سعيد بن جبير : كما يؤمر الرجل أن يخلع نعليه إذا أراد أن يدخل الكعبة ، وقيل ليطأ الأرض المقدسة بقدميه حافياً غير منتعل ، وقيل غير ذلك ، والله أعلم . وقوله { طُوًى } قال ابن عباس : هو اسم للوادي ، وكذا قال غير واحد ، وقيل : عبارة عن الأمر بالوطء بقدميه ، والأول أصح كقوله { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس طُوًى } [ النازعات : 16 ] ، وقوله : { وَأَنَا اخترتك } ، كقوله : { إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } [ الأعراف : 144 ] أي على جميع الناس من الموجودين في زمانه ، وقد قيل : إن الله تعالى قال : يا موسى أتدري لم اختصصتك بالتكليم من بين الناس؟ قال : لا ، قال : لأني لم يتواضع إليَّ أحد تواضعك ، وقوله : { فاستمع لِمَا يوحى } أي واستمع الآن ما أقول لك ، وأوحيه إليك { إنني أَنَا الله لا إله إلا أَنَاْ } ، هذا أول واجب على المكلفين أن يعلموا أنه لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له ، وقوله { فاعبدني } أي وحّدني وقم بعبادتي من غير شريك ، { وَأَقِمِ الصلاة لذكري } قيل معناه : صلّ لتذكرني ، وقيل معناه : وأقم الصلاة عند ذكرك لي ، ويشهد لهذا الثاني ما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو غفل عنها فليصلها إذا ذكرها فإن الله تعالى قد قال : وأقم الصلاة لذكري » وفي « الصحيحين » عن أنس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من نام عن صلاة أو نسيها فكفارتها أن يصليها إذا ذكرها ، لا كفارة لها إلاّ ذلك » .
وقوله تعالى : { إِنَّ الساعة آتِيَةٌ } : أي قائمة لا محالة وكائنة لا بد منها . وقوله { أَكَادُ أُخْفِيهَا } قال ابن عباس : أي لا أطلع عليها أحداً غيري ، وقال السدي : ليس أحد من أهل السماوات والأرض إلاّ قد أخفى الله تعالى عنه علم الساعة ، وهي في قراءة ابن مسعود : إني أكاد أخفيها من نفسي ، يقول : كتمتها من الخلائق ، حتى لو استطعت أن أكتمها من نفس لفعلت . قال قتادة : لقد أخفاها الله من الملائكة المقربين ومن الأنبياء والمرسلين ، قلت وهذا كقوله تعالى : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } [ النمل : 65 ] ، وقال : { ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } [ الأعراف : 187 ] أي ثقل علمها على أهل السماوات والأرض . وقوله سبحانه وتعالى : { لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } أي أقيمها لا محالة؛ لأجزي كل عامل بعمله { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7-8 ] ، { إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الطور : 16 ] ، وقوله : { فَلاَ يَصُدَّنَّكَ عَنْهَا مَن لاَّ يُؤْمِنُ بِهَا } الآية . المراد بهذا الخطاب آحاد المكلفين ، أي لا تتبعوا سبيل من كذب بالساعة ، وأقبل على ملاذه في دنياه وعصى مولاه ، واتبع هواه ، فمن وافقهم على ذلك فقد خاب وخسر { فتردى } : أي تهلك وتعطب ، قال الله تعالى : { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى } [ الليل : 11 ] .(1/1587)
وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى (17) قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى (18) قَالَ أَلْقِهَا يَا مُوسَى (19) فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعَى (20) قَالَ خُذْهَا وَلَا تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيرَتَهَا الْأُولَى (21)
هذا برهان من الله تعالى لموسى عليه السلام ، ومعجزة عظيمة وخرق للعادة باهر دال على أنه لا يقدر على مثل هذا إلاّ الله عزَّ وجلّ ، وأنه لا يأتي به إلاّ نبي مرسل ، وقوله { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } قال بعض المفسرين إنما قال له ذلك على سبيل الإيناس له؛ وقيل وإنما قال له ذلك على وجه التقرير ، أي أما هذه التي في يمينك عصاك التي تعرفها؟ فسترى ما نصنع بها الآن ، { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى } ؟ استفهام تقرير ، { قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا } أي اعتمد عليها ، في حال المشي ، { وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي } أي أهز بها الشجرة ليتساقط ورقها لترعاه غنمي ، قال الإمام مالك : الهش أن يضع الرجل المحجن في الغصن ثم يحركه حتى يسقط ورقه وثمره ولا يكسر العود ، فهذا الهش ولا يخبط ، وقوله : { وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } أي مصالح ومنافع وحاجات أخر غير ذلك .
وقوله تعالى : { أَلْقِهَا ياموسى } أي هذه العصا التي في يدك يا موسى ألقها ، { فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } أي صارت في الحال حية عظيمة : ثعباناً طويلاً يتحرك حركة سريعة ، فإذا هي تهتز كأنها جان ، وهو أسرع الحيات حركة ، ولكنه صغير ، فهه في غاية الكبر ، وفي غاية سرعة الحركة ، { تسعى } أي تمشي وتضطرب عن ابن عباس { فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } ، ولم تكن قبل ذلك حية . فمرت بشجرة فأكلتها ، ومرت بصخرة فابتلعتها ، فجعل موسى يسمع وقع الصخرة في جوفها ، فولى مدبراً ، ونودي أن يا موسى خذها ، ثم نودي الثانية أن خذها ولا تخف ، فقيل له في الثالثة إنك من الآمنين ، فأخذها . وقال وهب بن منبه : ألقاها على وجه الأرض ، ثم حانت منه نظرة فإذا بأعظم ثعبان نظر إليه الناظرون ، يدب يلتمس كأنه يبغي شيئاً يريد أخذه ، يمر بالصخرة فيلتقمها ، ويطعن بالناب من أنيابه في أصل الشجرة العظيمة فيجتثها ، عيناه تتقدان ناراً ، وقد عاد المحجن منها عرفاً ، فلما عاين ذلك موسى ولى مدبراً ولم يعقب ، فذهب حتى أمعن ، ورأى أنه قد أعجز الحية ، ثم ذكر ربه فوقف استحياء منه ، ثم نودي يا موسى أن ارجع حيث كنت ، فرجع موسى وهو شديد الخوف فقال { خُذْهَا } بيمينك { وَلاَ تَخَفْ سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى } وعلى موسى حينئذٍ مدرعة من صوف ، فدخلها بخلال من عيدان ، فلما أمره بأخذها لف طرف المدرعة على يده ، ثم وضعها على فم الحية حتى سمع حس الأضراس والأنياب ، ثم قبض فإذا هي عصاه التي عهدها وإذا يده في موضعها الذي كان يضعها ، إذا توكأ بين الشعبتين ولهذا قال تعالى { سَنُعِيدُهَا سِيَرتَهَا الأولى } أي إلى حالها التي تعرف قبل ذلك .(1/1588)
وَاضْمُمْ يَدَكَ إِلَى جَنَاحِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرَى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الْكُبْرَى (23) اذْهَبْ إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (24) قَالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَيَسِّرْ لِي أَمْرِي (26) وَاحْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسَانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَاجْعَلْ لِي وَزِيرًا مِنْ أَهْلِي (29) هَارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31) وَأَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيرًا (33) وَنَذْكُرَكَ كَثِيرًا (34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنَا بَصِيرًا (35)
وهذا برهان ثان لموسى عليه السلام ، وهو أن الله أمره أن يدخل يده في جيبه ، كما صرح به في الآية الأخرى . وهاهنا عبر عن ذلك بقوله : { واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } ، وقال في مكان آخر : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } [ القصص : 32 ] ، وقال مجاهد : { واضمم يَدَكَ إلى جَنَاحِكَ } : كفك تحت عضدك؛ وذلك أن موسى عليه السلام كان إذا أدخل يده في جيبه ثم أخرجها ، تخرج تتلألأ كأنها فلقة قمر . وقوله { تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء } أي من غير برص ولا أذى ، ومن غير شين ، وقال الحسن البصري : أخرجها والله كأنها مصباح ، فعلم موسى أنه قد لقي ربه عزّ وجلّ ، ولهذا قال تعالى : { لِنُرِيَكَ مِنْ آيَاتِنَا الكبرى } ، وقال وهب ، قال له ربه : أدنه ، فلم يزل يدنيه حتى أسند ظهره بجذع الشجرة فاستقر ، وذهبت عنه الرعدة ، وجمع يده في العصا وخضع برأسه وعنقه . وقوله { اذهب إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } : أي اذهب إلى فرعون ملك مصر ، الذي خرجت فاراً منه وهارباً ، فادعه إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ومره فليحسن إلى بني إسرائيل ولا يعذبهم ، فإنه قد طغى وبغى وآثر الحياة الدنيا ونسي الرب الأعلى . قال وهب بن منبه : قال الله لموسى : انطلق برسالتي فإنك بسمعي وعيني ، وقد ألبستك جنة من سلطاني لتستكمل بها القوة في أمري ، فأنت جند عظيم من جندي ، بعثتك إلى خلق ضعيف من خلقي ، بطر نعمتي وأمن مكري ، وغرته الدنيا عني ، حتى جحد حقي وأنكر ربوبيتي ، وزعم أنه لا يعرفني فإني أقسم بعزتي لولا القدر الذي وضعت بيني وبين خلقي ، لبطشت به بطشة جبار ، يغضب لغضبه السماوات والأرض والجبال والبحار ، فإن أمرت السماء حصبته ، وإن أمرت الأرض ابتلعته ، وإن أمرت الجبال دمرته ، وإن أمرت البحار غرقته ، ولكنه برهان عليّ وسقط من عيني ، ووسعه حلمي واستغنيت بما عندي وحقي ، إني أنا الغني لا غني غيري ، فبلغه رسالتي ، وادعه إلى عبادتي وتوحيدي وإخلاصي ، وذكره أيامي وحذره من نقمتي وبأسي ، وقل له فيما بين ذلك قولاً ليناً لعله يتذكر أو يخشى ، وأخبره أني إلى العفو والمغفرة أسرع مني إلى الغضب والعقوبة ، ولا يروعنك ما ألبسته من لباس الدنيا ، فإن ناصيته بيدي ، أفيظن الذي يحاربني أن يقوم لي ، أم يظن الذي يعاديني أن يعجزني ، أم يظن الذي يبارزني أن يسبقني أو يفوتني .
{ قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي } هذا سؤال من موسى عليه السلام لربه عزّ وجل ، أن يشرح له صدره فيما بعثه به ، فإنه قد أمره بأمر عظيم ، وخطب جسيم ، بعثه إلى أعظم ملك على وجه الأرض إذ ذاك ، وأجبرهم وأشدهم كفراً وأكثرهم جنوداً ، وأبلغهم تمرداً ، هذا وقد مكث موسى في داره وليداً عندهم في حجر فرعون على فراشه ، ثم قتل منهم نفساً فخافهم أن يقتلوه فهرب منهم ، هذه المدة بكمالها ، ثم بعد هذا بعثه ربه عزّ وجلّ إليهم نذيراً يدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ أن يعبدوه وحده لا شريك له ، ولهذا قال : { قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي } أي إن لم تكن أنت عوني ونصيري وعضدي وظهيري وإلاّ فلا طاقة لي بذلك { واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي } .(1/1589)
وما سأل أن يزول ذلك بالكلية ، بل بحيث يزول العي ويحصل لهم فهم ما يريد منه ، وهو قدر الحاجة ، ولو سأل الجميع لزال ولكن الأنبياء لا يسألون إلاّ بحسب الحاجة ، ولهذا بقيت . قال الله تعالى إخباراً عن فرعون أنه قال { أَمْ أَنَآ خَيْرٌ مِّنْ هذا الذي هُوَ مَهِينٌ وَلاَ يَكَادُ يُبِينُ } [ الزخرف : 52 ] أي يفصح بالكلام ، وقال الحسن البصري { واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي } قال : حلّ عقدة واحدة ، ولو سأل أكثر من ذلك أعطي ، وقال ابن عباس : شكا موسى إلى ربه ما يتخوف من آل فرعون في القتيل ، وعقدة لسانه فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون ، ويكون له ردءاً ويتكلم عنه بكثير مما يفصح له لسانه ، فآتاه سؤله ، فحل عقدة من لسانه .
وقوله تعالى : { واجعل لِّي وَزِيراً مِّنْ أَهْلِي * هَارُونَ أَخِي } ، وهذا أيضاً سؤال من موسى عليه السلام في أمر خارجي عنه ، وهو مساعدة أخيه هارون له ، قال ابن عباس : نبئ هارون ساعتئذ وحين نبئ موسى عليهما السلام . روي عن عائشة أنها خرجت فيما كانت تعتمر ، فنزلت بعض الأعراب فسمعت رجلاً يقول : أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه؟ قالوا : لا ندري ، قال أنا والله أدري! قالت ، فقلت في نفسي في حلفه لا يستثني ، إنه ليعلم أي أخ كان في الدنيا أنفع لأخيه ، قال : ( موسى ) حين سأل لأخيه النبوة ، فقلت : صدق والله . وقوله { اشدد بِهِ أَزْرِي } قال مجاهد : ظهري ، { وَأَشْرِكْهُ في أَمْرِي } أي في مشاورتي ، { كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً * وَنَذْكُرَكَ كَثِيراً } قال مجاهد : لا يكون العبد من الذاكرين الله كثيراً حتى يذكر الله قائماً وقاعداً ومضطجعاً ، وقوله : { إِنَّكَ كُنتَ بِنَا بَصِيراً } أي في اصطفائك لنا وإعطائك إيانا النبوة وبعثتك لنا إلى عدوك فرعون ، فلك الحمد على ذلك .(1/1590)
قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى (36) وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى (37) إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَعَدُوٌّ لَهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى (40)
هذه إجابة من الله لرسوله موسى عليه السلام ، فيما سأل من ربه عزّ وجلّ ، وتذكير له بنعمه السالفة عليه ، فيما كان من أمر أمه ، حين كانت ترضعه وتحذر عليه ، من فرعون وملئه أن يقتلوه ، حيث كانوا يقتلون الغلمان من بني إسرائيل حذراً من وجود موسى ، فحكم الله - وله السلطان العظيم والقدرة التامة - أن لا يربى إلاّ على فراش فرعون ، ويغذى بطعامه وشرابه ، مع محبته وزوجته له ، ولهذا قال تعالى : { يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } أي عدوك جعلته يحبك ، قال سلمه بن كهبل { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } قال : حببتك إلى عبادي ، { وَلِتُصْنَعَ على عيني } : تربى بعين الله ، وقال قتادة : تغذى على عيني ، وقال ابن أسلم : يعني أجعله في بيت الملك ينعم ويترف ، وغذاؤه عندهم غذاء الملك ، فتلك الصنعة . وقوله : { إِذْ تمشي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ على مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها } ، وذلك أنه لما استقر عند آل فرعون ، وعرضوا عليه المراضع فأباها ، قال الله تعالى : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ } [ القصص : 12 ] ، فجاءت أخته ، وقالت : { هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } [ القصص : 12 ] تعني هل أدلكم على من يرضعه لكم بالأجرة ، فذهبت به وهم معها إلى أمه ، فعرضت عليه ثديها فقبله ، ففرحوا بذلك فرحاً شديداً ، واستأجروها على إرضاعه ، فنالها بسببه سعادة ورفعة وراحة في الدنيا ، وفي الآخرة أعظم وأجزل ، ولهذا جاء في الحديث : « مثل الصانع الذي يحتسب في صنعته الخير ، كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها » ، وقال تعالى هاهنا : { فَرَجَعْنَاكَ إلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَلاَ تَحْزَنَ } أي عليك ، { وَقَتَلْتَ نَفْساً } يعني القبطي { فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الغم } وهو ما حصل له بسبب عزم آل فرعون على قتله ، ففر منهم هارباً حتى ورد ماء مدين ، وقوله : { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } .
( حديث الفتون ) : روى الإمام أبو عبد الرحمن أحمد بن شعي النسائي في سننه ، عن سعيد بن جبير ، قال : سألت عبد الله بن عباس عن قول الله عزَّ وجلَّ لموسى عليه السلام : { وَفَتَنَّاكَ فُتُوناً } ، فسألته عن الفتون ما هو؟ فقال : استأنف النهار يا أبا جبير ، فإن لها حديثاً طويلاً ، فلما أصبحت غدوت إلى ابن عباس لأنتجز منه ما وعدني من حديث الفتون ، فقال : تذاكر فرعون وجلساؤه ما كان الله وعد إبراهيم عليه السلام أن يجعل في ذريته أبناء وملوكاً ، فقال بعضهم : إن بني إسرائيل ينتظرون ذلك لا يشكون فيه ، وكانوا يظنون أنه يوسف بن يعقوب ، فلما هلك قالوا : ليس هكذا كان وعد إبراهيم عليه السلام ، فقال فرعون : كيف ترون؟ فائتمروا وأجمعوا أمرهم على أن يبعث رجالاً معهم الشفار يطوفون في بني إسرائيل ، فلا يجدون مولوداً ذكراً إلاّ ذبحوه ، ففعلوا ذلك ، فلما رأوا أن الكبار من بني إسرائيل يموتون بآجالهم ، والصغار يذبحون ، قالوا : ليوشكن أن تفنوا بني إسرائيل ، فتصيروا إلى أن تباشروا من الأعمال والخدمة التي يكفونكم ، فاقتلوا عاماً كل مولود ذكر واتركوا بناتهم ، ودعوا عاماً فلا تقتلوا منهم أحداً .(1/1591)
فيشب الصغار مكان من يموت من الكبار ، فإنهم لم يكثروا بمن تستحيون منهم ، فتخافوا مكاثرتهم إياكم ، ولم يفنوا بمن تقتلون ، وتحتاجون إليهم ، فأجمعوا أمرهم على ذلك ، فحملت أم موسى بهارون في العام الذي لا يذبح فيه الغلمان ، فولدته علانية آمنة ، فلما كان من قابل حملت بموسى عليه السلام فوقع في قلبها الهم والحزن ، وذلك من الفتون يا ابن جبير ، ما دخل عليه وهو في بطن أمه مما يراد به .
فأوحى الله إليها أن لا تخافي ولا تحزني إنا رادوه إليك وجاعلوه من المرسلين ، فأمرها إذا ولدت أن تجعله في تابوت ثم تلقيه في اليم ، فلما ولدت فعلت ذلك ، فلما توارى عنها ابنها أتاها الشيطان ، فقالت في نفسها : ما فعلت بابني لو ذبح عندي فواريته وكفنته كان أحب إليَّ من أن ألقيه إلى دواب البحر وحيتانه ، فانتهى الماء به حتى أوفى به عند مرفعة مستقى جواري امرأة فرعون ، فلما رأينه أخذنه فأردن أن يفتحن التابوت ، فقال بعضهن إن في هذا مالا ، وإنا إن فتحناه لم تصدقنا امرأة الملك بما وجدنا فيه ، فحملنه كهيئته لم يخرجن منه شيئاً ، حتى دفعنه إليها ، فملا فتحته رأت فيه غلاماً ، فألقى الله عليه منها محبة لم يلق منها على أحد قط ، وأصبح فؤاد أم موسى فارغاً من ذكر كل شيء إلاّ من ذكر موسى ، فلما سمع الذباحون بأمره أقبلوا بشفارهم إلى امرأة فرعون ليذبحوه ، وذلك من الفتون يا ابن جبير ، فقالت لهم : أقروه ، فإن هذا الواحد لا يزيد في بني إسرائيل ، حتى آتي فرعون فأستوهبه منه ، فإن وهبه لي كنتم قد أحسنتم وأجملتم ، وإن أمر بذبحه لم ألمكم ، فأتت فرعون فقالت : قرة عين لي ولك ، فقال فرعون : يكون لك فأما لي فلا حاجة لي فيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي يُحلف به لو أقر فرعون أن يكون قرة عين له كما أقرت امرأته لهداه الله كما هداها ، ولكن حرمه ذلك » فأرسلت إلى من حولها إلى كل امرأة لها ، لأن تختار له ظئراً ، فجعل كلما أخذته امرأة منهن لترضعه لم يقبل على ثديها حتى أشفقت امرأة فرعون أن يمتنع من اللبن فيموت ، فأحزنها ذلك فأمرت به فأخرج إلى السوق ومجمع الناس ، ترجو أن تجد له ظئراً تأخذه منها ، فلم يقبل ، وأصبحت أم موسى والهاً فقالت لأخته : قصي أثره واطلبيه ، هل تسمعين له ذكراً ، حي ابني أم قد أكلته الدواب؟ ونسيت ما كان الله وعدها فيه ، فبصرت به أخته عن جنب وهم لا يشعرون ، والجنب أن يسمو بصر الإنسان إلى شيء بعيد ، وهو إلى جنبه ، وهو لا يشعر به ، فقالت من الفرح حين أعياهم الظؤرات : أنا أدلكم على أهل بيت يكفلونه لكم وهم له ناصحون ، فأخذوها فقالوا : ما يدريك ما نصحهم له ، هل تعرفينه؟ حتى شكوا في ذلك ، وذلك من الفتون يا ابن جبير .(1/1592)
فقالت : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في صهر الملك ، ورجاء منفعة الملك ، فتركوها فانطلقت إلى أمها فأخبرتها الخبر ، فجاءت أمه ، فلما وضعته في حجرها نزا إلى ثديها ، فمصه حتى امتلأ جنباه رياً ، وانطلق البشير إلى امرأة فرعون يبشرونها أن قد وجدنا لابن ظئراً ، فأرسلت إليها فأتت بها وبه . فلما رأت ما يصنع بها ، قالت : امكثي ترضعي ابني هذا ، فإني لم أحب شيئاً حبه قط ، قالت أم موسى : لا أستطيع أن أدع بيني وولدي فيضيع ، فإن طابت نفسك أن تعطينيه فأذهببه إلى بيتي فيكون معي لا آلوه خيراً ، فإني غير تاركة بيتي وولدي ، وذكرت أم موسى ما كان الله وعدها فيه ، فتعاسرت على امرأة فرعون ، وأيقنت أن الله منجز وعده ، فرجعت به إلى بيتها من يومها ، وأنبته الله نباتاً حسناً ، وحفظه لما قد قضى فيه . فلم يزل بنو إسرائيل ، وهم في ناحية القرية ممتنعين من السخرة والظلم ما كان فيهم .
فلما ترعرع قالت امرأة فرعون لأم موسى : أزيريني ابني ، فوعدتها يوماً تزيرها إياه فيه ، وقالت امرأة فرعون لخزانها وظؤرها وقهارمتها : لا يبقين أحد منكم إلاّ استقبل ابني اليوم بهديه وكرامة ، لأرى ذلك ، وأنا باعثة أميناً يحصي ما يصنع كل إنسان منكم ، فلم تزل الهدايا والكرامة والنحل تستقبله من حين خرج من بيت أمه إلى أن دخل على امرأة فرعون ، فلما دخل عليها بجلته وأكرمته وفرحت به ، ونحلت أمه لحسن أثرها عليه ، ثم قالت : لآتين به فرعون فلينحلنه وليكرمنه ، فلما دخلت به عليه جعله في حجره ، فتناول موسى لحية فرعون فمدها إلى الأرض ، فقال الغواة من أعداء الله لفرعون : ألا ترى ما وعد الله إبراهيم نبيه أنه زعم أن يرثك ويعلوك ويصرعك ، فأرسل إلى الذباحين ليذبحوه ، وذلك من الفتون يا ابن جبير . بعد كل بلاء ابتلي به . وأريد به فتوناً ، فجاءت امرأة فرعون فقالت : ما بدا لك في هذا الغلام الذي وهبته لي؟ فقال : ألا ترينه يزعم أنه يصرعني ويعلوني ، فقالت : اجعل بيني وبينك أمراً يعرف الحق به ، ائت بجمرتين ، ولؤلؤتين ، فقدمهن إليه ، فإن بطش باللؤلؤتين واجتنب الجمرتين عرفت أنه يعقل ، وإن تناول الجمرتين ولم يرد اللؤلؤتين علمت أن أحداً لا يؤثر الجمرتين على اللؤلؤتين ، وهو يعقل ، فقرب إليه الجمرتين واللؤلؤتين فتناول الجمرتين ، فانتزعهما منه مخافة أن يحرقا يده ، فقالت المرأة : ألا ترى؟ فصرفه الله عنه بعد ما كان قد هم به ، وكان الله بالغاً فيه أمره .(1/1593)
فلما بلغ أشده ، وكان من الرجال ، لم يكن أحد من آل فرعون يخلص إلى أحد من بني إسرائيل معه بظلم ولا سخرة حتى امتنعوا كل الامتناع ، فبينما موسى عليه السلام يمشي في ناحية المدينة إذا هو برجلين يقتتلان ، أحدهما فرعوني والآخر إسرائيلي ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فغضب موسى غضباً شديداً لأنه تناوله ، وهو يعلم منزلته من بني إسرائيل وحفظه لهم ، لا يعلم الناس إلاّ إنما من الرضاع ، إلاّ أم موسى ، إلاّ أن يكون الله أطلع موسى من ذلك على ما لم يطلع عليه غيره ، فوكز موسى الفرعوني فقتله ، وليس يراهما أحد إلاّ الله عزَّ وجلَّ والإسرائيلي ، فقال موسى حين قتل الرجل : هذا من عمل الشيطان إنه عدوّ مضل مبين ، ثم قال : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } [ القصص : 16 ] ، فأصبح في المدينة خائفاً يترقب الأخبار ، فأتى فرعون ، فقيل له : إن بني إسرائيل قتلوا رجلاً من آل فرعون فخذ لنا بحقنا ولا ترخص لهم ، فقال : ابغوني قاتله ومن يشهد عليه ، فإن الملك وإن كان صفوة مع قومه لا يستقيم له أن يقيد بغير بينة ولا ثبت ، فاطلبوا لي علم ذلك آخذ لكم بحقكم . فبينما هم يطوفون لا يجدون ثبتاً إذا بموسى من الغد قد رأى ذلك الإسرائيلي يقاتل رجلاً من آل فرعون آخر ، فاستغاثه الإسرائيلي على الفرعوني فصادف موسى قد ندم على ما كان منه ، وكره الذي رأى ، فغضب الإسرائيلي وهو يريد أن يبطش بالفرعوني ، فقال للإسرائيلي لما فعل بالأمس واليوم إنك لغوي مبين ، فنظر الإسرائيلي إلى موسى بعد ما قال له ما قال ، فإذا هو غضبن كغضبه بالأمس الذي قتل فيه الفرعوني ، فخاف أن يكون بعد ما قال له إنك لغوي مبين ، أن يكون إياه أراد ولم يكن أراده إنما أراد الفرعوني ، فخاف الإسرائيلي وقال : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس ، وإنما قاله مخافة أن يكون إياه أراد موسى ليقتله فتتاركا ، وانطلق الفرعوني فأخبرهم بما سمع من الإسرائيلي من الخبر ، حين يقول : يا موسى أتريد أن تقتلني كما قتلت نفساً بالأمس . فأرسل فرعون الذباحين ليقتلوا موسى ، فأخذ رسل فرعون في الطريق الأعظم يمشون على هينتهم ، يطلبون موسى وهم لا يخافون أن يفوتهم ، فجاء رجل من شيعة موسى من أقصى المدينة ، فاختصر طريقاً حتى سبقهم إلى موسى فأخبره ، وذلك من الفتون يا ابن جبير .
فخرج موسى متوجهاً نحو مدين لم يلق بلاء قبل ذلك ، وليس له بالطريق علم إلاّ حسن ظنه بربه عزّ وجلّ ، فإنه قال :(1/1594)
{ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل * وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ } [ القصص : 22-23 ] يعني بذلك حابستين غنمهما ، فقال لهما : ما خطبكما معتزلتين لا تسقيان مع الناس؟ قالتا : ليس لنا قوة نزاحم القوم ، وإنما نسقي من فضول حياضهم ، فسقى لهما ، فجعل يغترف في الدلو ماء كثيراً حتى كان أول الرعاء ، فانصرفتا بغنمهما إلى أبيهما وانصرف موسى عليه السلام فاستظل بشجرة ، وقال : { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } [ القصص : 24 ] ، واستنكر أبوهما سرعة صدورهما ، بغنمهما حفلاً بطاناً ، فقال : إن لكما اليوم لشأناً ، فأخبرتاه بما صنع موسى ، فأمر إحداهما أن تدعوه ، فأتت موسى فدعته ، فلما كلمه ، قال : لا تخف نجوت من القوم الظالمين ، ليس لفرعون ولا لقومه علينا سلطان ، ولسنا في مملكته ، فقالت إحداهما : { ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين } [ القصص : 26 ] فاحتملته الغيرة على أن قال لها : ما يدريك ما قوته ، وما أمانته؟ فقالت : أما قوته فما رأيت منه في الدلو حين سقى لنا ، لم أر رجلاً قط أقوى في ذلك السقي منه ، وأما الأمانة فإنه نظر إليَّ حين أقبلت إليه وشخصت له ، فلما علم أني امرأة صوّب رأسه فلم يرفعه حتى بلغته رسالتك ، ثم قال لي : امشي خلفي وانعتي لي الطريق ، فلم يفعل هذا إلاّ وهو أمين فسري عن أبيها وصدقها وظن به الذي قالت ، فقال له : هل لك أن أنكحك إحدى ابنتي هاتين على أن تأجرني ثماني حجج . فإن أتممت عشراً فمن عندك ، وما أريد أن أشق عليك ستجدني إن شاء الله من الصالحين ، ففعل ، فكانت على نبي الله موسى ثمان سنين واجبة ، وكانت سنتان عدة فقضى الله عنه عدته فأتمها عشراً . قال سعيد بن جبير : فلقيني رجل من أهل النصرانية من علمائهم ، قال : هل تدري أي الأجلين قضى موسى؟ قلت : لا ، وأنا يومئذٍ لا أدري ، فلقيت ابن عباس فذكرت له ذلك ، فقال : أما علمت أن ثمانياً كانت على نبي الله واجبة لم يكن نبي الله لينقص منها شيئاً ، ويعلم أن الله كان قاضياً عن موسى عدته التي كان وعده ، فإنه قضى عشر سنين ، فلقيت النصراني فأخبرته ذلك ، فقال : الذي سألته فأخبرك أعلم منك بذلك ، قلت : أجل وأولى .
فلما سار موسى بأهله كان من أمر النار والعصا ويده ما قص الله عليك في القرآن ، فشكا إلى الله تعالى ما يحذر من آل فرعون في القتل ، وعقدة لسانه ، فإنه كان في لسانه عقدة تمنعه من كثير من الكلام ، وسأل ربه أن يعينه بأخيه هارون يكون له ردءاً يتكلم عنه بكثير مما لا يفصح به لسانه فآتاه الله سؤله وحل عقدة من لسانه ، وأوحى الله إلى هارون وأمره أن يلقاه ، فاندفع موسى بعصاه حتى لقي هارون عليه السلام ، فانطلقا جميعاً إلى فرعون فأقاما على بابه حيناً لا يؤذن لهما ، ثم أذن لهما بعد حجاب شديد ، فقالا :(1/1595)
{ أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } [ مريم : 19 ] ، قال : فمن ربكما؟ فأخبراه بالذي قص الله عليك في القرآن ، قال : ما تريدان؟ وذكره القتيل فاعتذر بما قد سمعت ، قال : أريد أن تؤمن بالله وترسل معنا بني إسرائيل ، فأبى عليه ، فقال : ائت بآية إن كنت من الصادقين ، فألقى عصاه فإذا هي حية تسعى عظيمة فاغرة فاها مسرعة إلى فرعون ، فلما رآها فرعون قاصدة إليه خافها فاقتحم عن سريره ، واستغاث بموسى أن يكفها عنه ، ففعل ، ثم أخرج يده من جيبه فرآها بيضاء من غير سوء ، يعني من غير برص ، ثم ردها فعادت إلى لونها الأول ، فاستشار الملأ حوله فيما رأى ، فقالوا له : هذان ساحران يريدان أن يخرجاكم من أرضكم بسحرهما ويذهبا بطريقتكم المثلى ، يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش ، وأبوا على موسى أن يعطوه شيئاً مما طلب ، وقالوا له : اجمع لهما السحرة ، فإنهم بأرضك كثير حتى تغلب بسحرك سحرهما ، فأرسل إلى المدائن فحشر له كل ساحر متعالم ، فلما أتوا فرعون قالوا : بم يعمل هذا الساحر؟ قالوا : يعمل بالحيات ، قالوا : فلا والله ما أحد في الأرض يعمل بالسحر بالحيات والحبال والعصي الذي نعمل فما أجرنا إن نحن غلبناه؟ قال لهم : أنتم أقاربي وخاصتي وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم ، فتواعدوا يوم الزينة وأن يحشر الناس ضحى .
قال سعيد بن جبير : فحدثني ابن عباس : أن يوم الزينة اليوم الذي أظهر الله فيه موسى على فرعون والسحرة هو يوم عاشوراء . لما اجتمعوا في صعيد واحد ، قال الناس بعضهم لبعض : انطلقوا فلنحضر هذا الأمر { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين } [ الشعراء : 40 ] يعنون موسى وهارون ، استهزاء بهما { قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى } [ طه : 65 ] ، { فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } [ الشعراء : 44 ] ، فرأى موسى من سحرهم ما أوجس في نفسه خيفة ، فأوحى الله إليه أن ألق عصاك ، فلما ألقاها صارت ثعباناً عظيماً فاغراً فاه فجعلت العصي تلتبس بالحيال حتى صارت جرزاً إلى الثعبان تدخل فيه ، حتى ما أبقت عصا ولا حبلاً إلاّ ابتلعته ، فلما عرف السحرة ذلك قالوا : لو كان هذا سحراً لم يبلغ من سحرنا كل هذا ، ولكن هذا أمر من الله عزَّ وجلَّ ، آمنا بالله وبما جاء به موسى من عند الله ونتوب إلى الله مما كنا عليه ، فكسر الله ظهر فرعون في ذلك الموطن وأشياعه ، وظهر الحق ، وبطل ما كانوا يعملون { فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وانقلبوا صَاغِرِينَ } [ الأعراف : 119 ] ، وامرأة فرعون بارزة متبذلة تدعو الله بالنصر لموسى على فرعون وأشياعه ، فمن رآها من آل فرعون ظن أنها ابتذلت للشفقة على فرعون وأشياعه وإنما كان حزنها وهمها لموسى .(1/1596)
فلما طال مكث موسى بمواعيد فرعون الكاذبة ، كلما جاء بآية وعده عندها أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا مضت أخلف موعده ، وقال : هل يستطيع ربك أن يصنع غير هذا؟ فأرسل الله على قومه : الطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، آيات مفصلات ، كل ذلك يشكو إلى موسى ويطلب إليه أن يكفها عنه ويواثقه على أن يرسل معه بني إسرائيل ، فإذا كف ذلك عنه أخلف موعده ونكث عهده ، حتى أمر الله موسى بالخروج بقومه فخرج بهم ليلاً ، فلما أصبح فرعون ورأى أنهم قد مضوا أرسل في المدائن حاشرين ، فتبعه بجنود عظيمة كثيرة ، وأوحى الله إلى البحر إذا ضربك عبدي موسى بعصاه فانفلق اثنتي عشرة فرقة حتى يجوز موسى ومن معه ، ثم التقي على من بقي بعد من فرعون وأشياعه ، فنسي موسى أن يضرب البحر بالعصا وانتهى إلى البحر وله قصيف ، مخافة أن يضربه موسى بعصاه وهو غافل فيصير عاصياً لله . فلما تراءى الجمعان وتقاربا ، قال أصحاب موسى : إنا لمدركون ، افعل ما أمرك به ربك فإنه لم يكذب ولم تكذب . قال : وعدني ربي إذا أتيت البحر انفلق اثنتي عشرة فرقة ، حتى أجاوزه ، ثم ذكر بعد ذلك العصا ، فضرب البحر بعصاه حين دنا أوائل جند فرعون من أواخر جند موسى ، فانفرق البحر كما أمره ربه وكما وعده موسى ، فلما أن جاز موسى وأصحابه كلهم البحر ودخل فرعون وأصحابه ، التقى عليهم البحر كما أمر؛ فلما جاوز موسى البحر قال أصحابه : إنا نخاف أن لا يكون فرعون غرق ولا نؤمن بهلاكه ، فدعا ربه فأخرجه له ببدنه حتى استيقنوا بهلاكه .
ثم مروا بعد ذلك على قوم يعكفون على أصنام لهم { قَالُواْ ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } [ الأعراف : 138-139 ] الآية : قد رأيتم من العبر ، وسمعتم ما يكفيكم ، ومضى فأنزلهم موسى منزلاً ، وقال : أطيعوا هارون فإني قد استخلفته عليكم فإني ذاهب إلى ربي ، وأجلهم ثلاثين يوماً أن يرجع إليهم فيها ، فلما أتى ربه وأراد أن يكلمه ثلاثين يوماً وقد صامهن ليلهن ونهارهن ، وكره أن يكلم ربه وريح فيه ، ريح فم الصائم ، فتناول موسى من نبات الأرض شيئاً فمضغه ، فقالله ربه حين أتاه : لم أفطرت؟ وهو أعلم بالذي كان! قال : يا رب إني كرهت أن أكلمك إلاّ وفمي طيب الريح ، قال : أو ما علمت يا موسى أن ريح فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ، ارجع فصم عشراً . ثم ائتني . ففعل موسى عليه السلام ما أمر به ، فلما رأى قومه أنه لم يرجع إليهم في الأجل ساءهم ذلك ، وكان هارون قد خطبهم ، وقال : إنكم قد خرجتم من مصر ولقوم فرعون عندكم عوار وودائع ولكم فيهم مثل ذلك ، فإني أرى أنكم تحتسبون مالكم عندهم ، ولا أحل لكم وديعة استودعتموها ولا عارية ولسنا برادين إليهم شيئاً من ذلك ولا ممسكيه لأنفسنا .(1/1597)
فحفر حفيراً وأمر كل قوم عندهم من ذلك من متاع أو حلية أن يقذفوه في ذلك الحفير ، ثم أوقد عليه النار فأحرقته ، فقال : لا يكون لنا ولا لهم . وكان السامري من قوم يعبدون البقر ، جيران لبني إسرائيل ، ولم يكن من بني إسرائيل ، فاحتمل مع موسى وبني إسرائيل حين احتملوا . فقضى له أن رأى أثراً فقبض منه قبضة فمر بهارون ، فقال له هارون عليه السلام : يا سامري إلاّ تلقي ما في يدك وهو قابض عليه لا يراه أحد طول ذلك ، فقال : هذه قبضة من أثر الرسول الذي جاوز بكم البحر ، لا ألقيها لشيء إلاّ أن تدعو الله إذا ألقيتها أن يجعلها ما أريد ، فألقاها ودعا له هارون ، فقال : أريد أن يكون عجلاً ، فاجتمع ما كان في الحفيرة من متاع أو حلية أو نحاس أو حديد ، فصار عجلاً أجوف ليس فيه روح وله خوار! قال ابن عباس : لا والله ما كان له صوت قط إنما كانت الريح تدخل في دبره وتخرج من فيه ، وكان ذلك الصوت من ذلك ، فتفرق بنو إسرائيل فرقاً؛ فقالت : فرقة : يا سامري ما هذا وأنت أعلم به؟ قال : هذا ربكم ، ولكن موسى أضل الطريق ، قالت فرقة : لا نكذب بهذا حتى يرجع إلينا موسى ، فإن كان ربنا لم نكن ضيعناه وعجزنا فيه حين رأينا ، وإن لم يكن ربنا ، فإنا نتبع قول موسى . وقالت فرقة : هذا من عمل الشيطان ، وليس بربنا ، ولا نؤمن ولا نصدق ، وأشرب فرقة في قلوبهم الصدق بما قال السامري في العجل ، وأعلنوا التكذيب به ، فقال لهم هارون : { ياقوم إِنَّمَا فُتِنتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرحمن فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي } [ طه : 90 ] ، قالوا : فما بال موسى وعدنا ثلاثين يوماً ، ثم أخلفنا ، هذه أربعون يوماً قد مضت ، وقال سفهاؤهم : أخطأ ربه فهو يطلبه يتبعه .
فلما كلم الله موسى وقال له ما قال ، أخبره بما لقي قومه من بعده ، { فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } [ طه : 86 ] ، فقال لهم : ما سمعتم في القرآن ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ، وألقى الألواح من الغضب ، ثم إنه عذر أخاه بعذره واستغفر له وانصرف إلى السامري ، فقال له : ما حملك على ما صنعت؟ قال : قبضت قبضة من أثر الرسول وفطنت لها وعميت عليكم { فَنَبَذْتُهَا وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي * قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ وانظر إلى إلهك الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً لَّنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً } [ طه : 96-97 ] . ولو كان إلهاً لم يخلص إلى ذلك منه ، فاستيقن بنو إسرائيل بالفتنة ، واغتبط الذين كان رأيهم فيه مثل رأي هارون ، فقالو لجماعتهم : يا موسى سل لنا ربك أن يفتح لنا باب توبة نصنعها ، فيكفر عنا ما عملنا ، فاختار موسى قومه سبعين رجلاً لذلك لا يألو الخير ، خيار بني إسرائيل ومن لم يشرك في العجل ، فانطلق بهم يسأل لهم التوبة ، فرجفت بهم الأرض فاستحيا نبي الله من قومه ومن وفده حين فعل بهم ما فعل ، فقال :(1/1598)
{ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ } [ الأعراف : 155 ] ؟ وفيهم من كان الله اطلع منه على ما أشرب قلبه من حب العجل وإيمانه به ، فلذلك رجفت بهم الأرض ، فقال : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزكاة والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ * الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } [ الأعراف : 156-157 ] ، فقال : يا رب سألتك التوبة لقومي فقلت إن رحمتي كتبتها لقوم غير قومي ، هلا أخرتني حتى تخرجني في أمة ذلك الرجل المرحومة؟ فقال له : إن توبتهم أن يقتل كل رجل منهم من لقي من والد وولد ، فيقتله بالسيف ولا يبالي في ذلك الموطن ، وتاب أولئك الذين كان خفي أمرهم على موسى وهارون ، واطلع الله من ذنوبهم فاعترفوا بها وفعلوا ما أمروا وغفر الله للقاتل والمقتول .
ثم سار بهم موسى عليه السلام متوجهاً نحو الأرض المقدسة ، وأخذ الألواح بعد ما سكت عنه الغضب ، فأمرهم بالذي به أن يبلغهم من الوظائف . فثقل ذلك عليهم وأبوا أن يقروا بها ، فنتق الله عليهم البجل كأنه ظلة ، ودنا منهم حتى خافوا أن يقع عليهم ، فأخذوا الكتاب بأيمانهم وهم مصغون ، ينظرون إلى الجبل والكتاب بأيديهم وهم من وراء الجبل مخافة أن يقع عليهم ، ثم مضوا حتى أتوا الأرض المقدسة ، فوجدوا مدينة فيها قوم جبارون ، خلقهم خلق منكر ، وذكروا من ثمارهم أمراً عجيباً من عظمها ، فقالوا : يا موسى! إن فيها قوماً جبارين لا طاقة لنا بهم ولا ندخلها ما داموا فيها ، فإن يخرجوا منها فإنا داخلون ، قال رجلان من الذين يخافون : قيل ليزيد هكذا قرأت؟ قال : نعم من الجبارين آمنا بموسى ، وخرجا إليه ، قالوا : نحن أعلم بقومنا إن كنتم إنما تخافون ما رأيتم من أجسامهم وعددهم فإنهم لا قلوب لهم ولا منعة عندهم ، فادخلوا عليهم الباب ، فإذا دخلتموه فإنكم غالبون . ويقول أناس : إنهم من قوم موسى ، فقال الذين يخافون بنو إسرائيل : { قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ، فأغضبوا موسى فدعا عليهم وسماهم فاسقين ، ولم يدع عليهم قبل ذلك لما رأى منهم من المعصية وإساءتهم ، حتى كان يومئذٍ ، فاستجاب الله له وسماهم كما سماهم موسى فاسقين ، وحرمها عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار ، وظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض يصبحون كل يوم فيسيرون ليس لهم قرار ، وظلل عليهم الغمام في التيه وأنزل عليهم المن والسلوى ، وجعل لهم ثياباً لا تبلى ولا تتسخ ، وجعل بين ظهرانيهم حجراً مربعاً وأمر موسى فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية ثلاثة أعين ، وأعلم كل سبط عينهم التي يشربون منها فلا يرتحلون من مكان إلاّ وجدوا ذلك الحجر بينهم بالمكان الذي كان فيه بالأمس .(1/1599)
وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي وَلَا تَنِيَا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى (43)
يقول تعالى مخاطباً لموسى عليه السلام : إنه لبث مقيماً في أهل مدين فاراً من فرعون وملئه ، يرعى على صهره حتى انتهت المدة وانقضى الأجل ، ثم جاء موافقاً لقدر الله وإرادته من غير ميعاد ، والأمر كله لله تبارك وتعالى ، وهو المسير عباده وخلقه فيما يشاء ، ولهذا قال : { ثُمَّ جِئْتَ على قَدَرٍ ياموسى } قال مجاهد : أي على موعد ، وقال قتادة : على قدر الرسالة والنبوة ، وقوله : { واصطنعتك لِنَفْسِي } أي اصطفيتك واجتبيتك رسولاً لنفسي ، أي كما أريد وأشاء ، روى البخاري عند تفسيرها عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « التقى آدم وموسى ، فقال موسى أنت الذي أشقيت الناس وأخرجتهم من الجنة ، فقال آدم : وأنت الذي اصطفاك الله برسالته واصطفاك لنفسه وأنزل عليك التوراة؟ قال : نعم ، قال : فوجدته مكتوباً عليّ قبل أن يخلقني؟ قال : نعم ، فحج آدم موسى » وقوله { اذهب أَنتَ وَأَخُوكَ بِآيَاتِي } أي بحججي وبراهيني ومعجزاتي { وَلاَ تَنِيَا فِي ذِكْرِي } قال ابن عباس : لا تبطئا ، وقال مجاهد عن ابن عباس : لا تضعفا ، والمراد أنهما لا يفتران في ذكر الله بل يذكران الله في حال مواجهة فرعون ليكون ذكر الله عوناً لهما عليه ، وقوة لهما وسلطاناً كاسراً له كما جاء في الحديث : « إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجز قرنه » ، وقوله { اذهبآ إلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طغى } أي تمرد وعتا ، وتجبر على الله وعصاه ، { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } هذه الآية فيها عبرة عظيمة ، وهي أن فرعون في غاية العتو والاستكبار ، وموسى صفوة الله من خلقه إذ ذاك ، ومع هذا أمر أن لا يخاطب فرعون إلاّ بالملاطفة واللين ، وعن الحسن البصري { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً } أعذر إليه ، قولا له : إن لك رباً ولك معاداً ، وإن بين يديك جنة وناراً ، والحاصل من أقوالهم أن دعوتهما له تكون بكلام رقيق لين سهل رفيق ، ليكون أوقع في النفوس وأبلغ وأنجع ، كما قال تعالى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ النحل : 125 ] ، وقوله { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } أي لعله يرجع عما هو فيه من الضلال والهلكة ، أو يخشى - أي يوجد طاعة من خشية ربه - كما قال تعالى : { لمن أراد أن يتذكر أو يخشى } فالتذكر الرجوع عن المحذور ، والخشية تحصيل الطاعة ، وقال الحسن البصري : { لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } يقول : لا تقل أنت يا موسى وأخوك هارون أهلكه قبل أن أعذر إليه .(1/1600)
قَالَا رَبَّنَا إِنَّنَا نَخَافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنَا أَوْ أَنْ يَطْغَى (45) قَالَ لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى (46) فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَالسَّلَامُ عَلَى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَا أَنَّ الْعَذَابَ عَلَى مَنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (48)
يقول تعالى إخباراً عن موسى وهارون عليهما السلام : أنهما قالا مستجيرين بالله تعالى شاكيين إليه { إِنَّنَا نَخَافُ أَن يَفْرُطَ عَلَيْنَآ أَوْ أَن يطغى } يعنيان أن يبدر إليهما بعقوبة ، أو يعتدي عليهما فيعاقبهما وهما لا يستحقان منه ذلك ، قال عبد الرحمن بن زيد { أَن يَفْرُطَ } يعجل ، وقال مجاهد يسلط علينا ، وقال ابن عباس { أَوْ أَن يطغى } يعتدي { قَالَ لاَ تَخَافَآ إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى } أي لا تخافا منه فإنني معكما أسمع كلامكما وكلامه ، وأرى مكانكما ومكانه ، لا يخفى عليّ من أمركم شيء ، واعلما أن ناصيته بيدي فلا يتكلم ولا يتنفس ولا يبطش إلاّ بإذني ، وأنا معكم بحفظي ونصري ، وتأييدي . { فَأْتِيَاهُ فقولا إِنَّا رَسُولاَ رَبِّكَ } قد تقدم في حديث الفتون عن ابن عباس ، أنه قال : مكثا على بابه حيناً لا يؤذن لهما ، حتى أذن لهما بعد حجاب شديد . وقوله { قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ } أي بدلالة ومعجزة من ربك ، { والسلام على مَنِ اتبع الهدى } أي والسلام عليك إن اتبعت الهدى ، ولهذا لما كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى هرقل عظيم الروم كتاباً كان أوله « بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فإني أدعوك بدعاية الإسلام أسلم تسلم يؤتك الله أجرك مرتين » ، ولهذا قال موسى وهارون عليهما السلام لفرعون { والسلام على مَنِ اتبع الهدى * إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنَآ أَنَّ العذاب على مَن كَذَّبَ وتولى } أي قد أخبرنا الله فيما أحاه إلينا من الوحي المعصوم ، أن العذاب متمحض لمن كذب بآيات الله وتولى عن طاعته ، كما قال تعالى : { فَأَمَّا مَن طغى * وَآثَرَ الحياة الدنيا * فَإِنَّ الجحيم هِيَ المأوى } [ النازعات : 37-39 ] ، وقال تعالى : { فَأَنذَرْتُكُمْ نَاراً تلظى * لاَ يَصْلاَهَآ إِلاَّ الأشقى * الذي كَذَّبَ وتولى } [ الليل : 14-16 ] وقال تعالى { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولكن كَذَّبَ وتولى } [ القيامة : 21-22 ] أي كذب بقلبه وتولى بفعله .(1/1601)
قَالَ فَمَنْ رَبُّكُمَا يَا مُوسَى (49) قَالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى (50) قَالَ فَمَا بَالُ الْقُرُونِ الْأُولَى (51) قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى (52)
يقول تعالى مخبراً عن فرعون ، أنه قال لموسى منكراً وجود الصانع الخالق { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } أي الذي بعثك وأرسلك من هو؟ فإني لا أعرفه وما علمت من إله غيري { قَالَ رَبُّنَا الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } قال ابن عباس : يقول خلق لكل شيء زوجه ، وعنه : جعل الإنسان إنساناً والحمار حماراً والشاة شاة . وقال مجاهد : أعطى كل شيء صورته ، وسوّى خلق كل دابة . وقال سعيد بن جبير في قوله { أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } قال : أعطى كل ذي خلق ما يصلحه من خلقه ، ولم يجعل للإنسان من خلق الدابة ، ولا للدابة من خلق الكلب ، ولا للكلب من خلق الشاة ، وأعطى كل شيء ما ينبغي له من النكاح ، وهيأ كل شيء على ذلك ، ليس شيء منها يشبه شيئاً من أفعاله في الخلق والرزق والنكاح ، { قَالَ فَمَا بَالُ القرون الأولى } ؟ أصح الأقوال في معنى ذلك؛ أن فرعون لما أخبره موسى بأن ربه الذي أرسله ، هو الذي خلق ورزق وقدر فهدى ، شرع يحتج بالقرون الأولى ، أي الذين لم يعبدوا الله ، أي فما بالهم إذ كان الأمر كذلك ، لم يعبدوا ربك بل عبدوا غيره ، فقال له موسى في جواب ذلك : هم وإن لم يعبدوه فإن علمهم عند الله مضبوط عليهم ، وسيجزيهم بعملهم في كتاب الله وهو اللوح المحفوظ وكتاب الأعمار ، { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } أي لا يشذ عنه شيء ، ولا يفوته صغير ولا كبير ولا ينسى شيئاً ، يصف علمه تعالى بأنه بكل شيء محيط ، وأنه لا ينسى شيئاً تبارك وتقدس ، فإن علم المخلوق يعتريه نقصانان « أحدهما عدم الإحاطة بالشيء ، والآخر نسيانه بعد علمه ، فنزه نفسه عن ذلك .(1/1602)
الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْدًا وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلًا وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْ نَبَاتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (54) مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أُخْرَى (55) وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وَأَبَى (56)
هذا من تمام كلام موسى فيما وصف به ربه عزّ وجلّ ، حين سأله فرعون عنه فقال : { الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] ، ثم اعترض الكلام بين ذلك ، ثم قال : { الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض مَهْداً } أي قراراً تستقرون عليها وتقومون وتنامون عليها ، وتسافرون على ظهرها ، { وَسَلَكَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً } أي جعل لكم طرقاً تمشون في مناكبها كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } [ الأنبياء : 31 ] ، { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّن نَّبَاتٍ شتى } أي من أنواع النباتات من زروع وثمار ، ومن حامض وحلو ومر ، وسائر الأنواع ، { كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ } أي شيء لطعامكم وفاكهتكم ، وشيء لأنعامكم لأقواتها خضراً ويبساً ، { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ } أي لدلالات وحججاً وبراهين ، { لأُوْلِي النهى } أي لذوي العقول السليمة المستقيمة ، { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى } أي من الأرض مبدؤكم ، فإن أباكم آدم مخلوق من تراب من أديم الأرض ، وفيها نعيدكم أي وإليها تصيرون إذا متم وبليتم ومنها نخرجكم تارة أخرى ، { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 53 ] . وهذه الآية كقوله تعالى : { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } [ الأعراف : 25 ] ، وفي الحديث الذي في السنن أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حسر جنازة؛ فلما دفن الميت أخذ قبضة من التراب فألقاها في القبر ، وقال : منها خلقناكم ، ثم أخذ أحرى وقال : وفيها نعيدكم ، ثم أخرى وقال : ومنها نخرجكم تارة أخرى ، وقوله : { وَلَقَدْ أَرَيْنَاهُ آيَاتِنَا كُلَّهَا فَكَذَّبَ وأبى } ، يعني فرعون أنه قامت عليه الحجج والآيات والدلالات ، وعاين ذلك وأبصره فكذب بها وأباها كفراً وعناداً وبغياً ، كما قال تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] الآية .(1/1603)
قَالَ أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ يَا مُوسَى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِدًا لَا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلَا أَنْتَ مَكَانًا سُوًى (58) قَالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَأَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59)
يقول تعالى مخبراً عن فرعون : أنه قال لموسى حين أراه الآية الكبرى وهي إلقاء عصاه فصارت ثعباناً عظيماً ، ونزع يده من تحت جناحه فخرجت بيضاء من غير سوء ، فقال : هذا سحر جئت به لتسحرنا وتستولي به على الناس فيتبعونك وتكاثرنا بهم ، ولا يتم هذا معك ، فإن عندنا سحراً مثل سحرك فلا يغرنك ما أنت فيه ، { فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً } أي يوماً تجتمع نحن وأنت فيه فتعارض ما جئت به بما عندنا من السحر ، في مكان معين ووقت معين ، فعند ذلك { قَالَ } لهم موسى { مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزينة } ، وهو يوم عيدهم وتفرغهم من أعمالهم ، واجتماع جميعهم ، ليشاهد الناس قدرة الله على ما يشاء ، ومعجزات الأنبياء ، وبطلان معارضة السحر لخوارق العادات النبوية ، ولهذا قال : { وَأَن يُحْشَرَ الناس } أي جميعهم { ضُحًى } أي ضحوة من النهار ليكون أظهر وأجلى وأبين وأوضح ، وهكذا شأن الأنبياء ، كل أمهرم بيّن واضح ليس فيه خفاء ولا ترويج ، ولهذا لم يقل : ليلاً ، ولكن نهاراً ، ضحى ، قال ابن عباس : وكان يوم الزينة ، يوم عاشوراء ، وقال السدي : كان يوم عيدهم . قلت : وفي مثله أهلك الله فرعون وجنوده . كما ثبت في « الصحيح » ، وقال وهب بن منبه ، قال فرعون : يا موسى اجعل بيننا وبينك أجلاً ننظر فيه ، قال موسى : لم أؤمر بهذا ، إنما أمرت بمناجزتك إن أنت لم تخرج دخلت إليك ، فأوحى الله إلى موسى : أن اجعل بينك وبينه أجلاً ، وقل له أن يجعل هو ، قال فرعون اجعله إلى أربعين يوماً ففعل ، وقال مجاهد وقتادة { مَكَاناً سُوًى } منصفاً ، وقال السدي عدلاً ، وقال عبد الرحمن بن زيد : مستوٍ من الناس ، وما فيه لا يكون صوت ولا شيء ، يتغيب بعض ذلك عن بعض ، مستوٍ حين يرى .(1/1604)
فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى (60) قَالَ لَهُمْ مُوسَى وَيْلَكُمْ لَا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذَابٍ وَقَدْ خَابَ مَنِ افْتَرَى (61) فَتَنَازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى (62) قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَقَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلَى (64)
يقول تعالى مخبراً عن فرعون : أنه لما تواعد هو وموسى عليه السلام إلى وقت ومكان معلومين ، تولى : أي شرع في جمع السحرة من مدائن مملكته ، كل من ينسب إلى السحر في ذلك الزمان ، وقد كان السحر فيهم كثيراً نافقاً جداً ، كما قال تعالى : { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ } [ يونس : 79 ] ، ثم أتى : أي اجتمع الناس ، لميقات يوم معلوم : وهو يوم الزينة ، وجلس فرعون على سرير مملكته ، واصطف له أكابر دولته ، ووقفت الرعايا يمنة ويسرة ، وأقبل موسى عليه الصلاة والسلام متوكئاً على عصاه ، ومعه أخوه هارون ، ووقفت السحرة بين يدي فرعون صفوفاً وهو يحرضهم ويحثهم ويرغبهم في إجادة عملهم في ذلك اليوم ، ويتمنون عليه وهو يعدهم ويمنيهم ، يقولون { أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين } [ الشعراء : 41-42 ] . قال لهم موسى ويلكم لا تفتروا على الله كذباً أي لا تخيلوا للناس بأعمالكم إيجاد أشياء لا حقائق لها ، وإنها مخلوقة وليست مخلوقة ، فتكونون قد كذبتم على الله { فَيُسْحِتَكُم بِعَذَابٍ } أي يهلككم بعقوبة هلاكاً له بقية له ، { وَقَدْ خَابَ مَنِ افترى * فتنازعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } قيل : معناه أنهم تشاجروا فيما بينهم ، فقائل يقول : ليس هذا بكلام ساحر ، إنما هذا كلام نبي ، وقائل يقول : بل هو ساحر ، وقيل غير ذلك ، والله أعلم . وقوله : { وَأَسَرُّواْ النجوى } : أي تناجوا فيما بينهم ، { قالوا إِنْ هذان لَسَاحِرَانِ } وهذه لغة لبعض العرب ، جاءت هذه القراءة على إعرابها ، ومنهم من قرأ { إن هذين لساحران } ، والغرض أن السحرة قالوا فيما بينهم : تعلمون أن هذا الرجل وأخاه - يعنون موسى وهارون - ساحران عالمان خبيران بصناعة السحر ، يريدان في هذا اليوم أن يغلباكم وقومكم ويستوليا على الناس ، وتتبعهما العامة ويقاتلا فرعون وجنوده فينصرا عليه ، ويخرجاكم من أرضكم ، وقوله : { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى } أي ويستبدأ بهذه الطريقة وهي السحر ، فإنهم كانوا معظمين بسببها ، لهم أموال وأرزاق عليها ، يقولون : إذا غلب هذان أهلكاكم وأخرجاكم من الأرض وتفردا بذلك وتمحضت لهما الرياسة بها دونكم ، وقد تقدم في حديث الفتون أن ابن عباس قال في قوله { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى } يعني ملكهم الذي هم فيه والعيش ، وعن علي في قوله { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى } قال : يصرفا وجوه الناس إليهما ، وقال مجاهد { وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ المثلى } قال : أولو الشرف والعقل والأسنان : { فَأَجْمِعُواْ كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائتوا صَفّاً } أي اجتمعوا كلكم صفاً واحداً ، وألقوا ما في أيديكم مرة واحدة ، لتبهروا الأبصار وتغلبوا هذا وأخاه ، { وَقَدْ أَفْلَحَ اليوم مَنِ استعلى } أي منا ومنه ، أما نحن فقد وعدنا هذا الملك ، العطاء الجزيل ، وأما هو فينال الرياسة العظيمة .(1/1605)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقَى (65) قَالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى (67) قُلْنَا لَا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلَى (68) وَأَلْقِ مَا فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ مَا صَنَعُوا إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى (69) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى (70)
يقول تعالى مخبراً عن السحرة حين توافقوا هم وموسى عليه السلام أنهم قالوا لموسى { إِمَّآ أَن تُلْقِيَ } : أي أنت أولاً ، { وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى * قَالَ بَلْ أَلْقُواْ } : أي أنتم أولاً لنرى ماذا تصنعون من السحر ، وليظهر للناس جلية أمرهم ، { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } ، وفي الآية الأخرى أنهم لما ألقوا { فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } [ الشعراء : 44 ] ، وقال تعالى : { سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 116 ] ، وقال هاهنا : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } .
وذلك أنهم أودعوها من الزئبق ما كانت تتحرك بسببه ، وتضطرب وتميد بحيث يخيل للناظر أنها تسعى باختيارها ، وإنما كانت حيلة ، وكانوا جماً غفيراً وجمعاً كثيراً ، فألقى كل منهم عصاً وحبلاً حتى صار الوادي ملآن حيات يركب بعضهاً بعضاً ، وقوله : { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى } أي خاف على الناس أن يفتنوا بسحرهم ، ويغتروا بهم قبل أن يلقي ما في يمينه ، فأوحى الله تعالى إليه في الساعة الراهنة ، أن ألق ما في يمينك يعني عصاك فإذا هي تلقف ما صنعوا ، وذلك أنها صارت تنيناً عظيماً هائلاً ذا قوائم وعنق ورأس وأضراس ، فجعلت تتبع تلك الحبال والعصي حتى لم تبق منها شيئاً إلاّ تلقفته وابتلعته ، والسحرة والناس ينظرون إلى ذلك عياناً جهرة نهاراً ضحوة ، فقامت المعجزة واتضح البرهان ووقع الحق وبطل السحر ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّمَا صَنَعُواْ كَيْدُ سَاحِرٍ وَلاَ يُفْلِحُ الساحر حَيْثُ أتى } ، فلما عاين السحرة ذلك وشاهدوه ، ولهم خبرة بفنون السحر ورطقه ووجوهه ، علموا علم اليقين أن هذا الذي فعله موسى ليس من قبيل السحر والحيل ، وأنه حق لا مرية فيه ، ولا يقدر على هذا إلاّ الذي يقول للشيء كن فيكون ، فعند ذلك وقعوا سجداً لله ، وقالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ، ولهذا قال ابن عباس : كانوا أول النهار سحرة وفي آخر النهار شهداء بررة ، قال محمد بن كعب : كانوا ثمانين ألفاً ، وقال السدي : بضعة وثلاثين ألفاً ، وقال محمد بن إسحاق : كانوا خمسة عشر ألفاً ، وقال كعب الأحبار : كانوا اثني عشر ألفاً . قال الأوزاعي : لما خر السحرة سجداً رفعت لهم الجنة حتى نظروا إليها . قال وذكر عن سعيد بن جبير قوله { فَأُلْقِيَ السحرة سُجَّداً } قال : رأوا منازلهم تبين لهم وهم في سجودهم .(1/1606)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى (71) قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (73)
يقول تعالى مخبراً عن كفر فرعون وعناده وبغيه ، ومكابرته الحق بالباطل حين رأى ما رأى من المعجزة الباهرة ، والآية العظيمة ، ورأى الذين قد استنصر بهم قد آمنوا بحضرة الناس كلهم ، وغلب كل الغلب ، شرع في المكابرة والبهت ، وعدل إلى استعمال جاهه وسلطانه في السحرة فتهددهم وتوعدهم ، وقال { آمَنتُمْ لَهُ } أي صدقتموه { قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ } أي وما أمرتكم بذلك ، واتفقتم عليّ في ذلك ، وقال قولاً يعلم هو والسحرة والخلق كلهم أنه بهت وكذب { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } أي انتم إنما أخذتم السحر عن موسى ، واتفقتم أنتم وإياه عليّ وعلى رعيتي لتظهروه ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة لِتُخْرِجُواْ مِنْهَآ أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 123 ] ، ثم أخذ يتهددهم فقال : { فَلأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِّنْ خِلاَفٍ وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } أي لأجعلنكم مثلة ، ولأقتلنكم ولأشهرنكم . { وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَآ أَشَدُّ عَذَاباً وأبقى } أي أنتم تقولون أني وقومي على ضلالة ، وأنتم مع موسى وقومه على الهدى فسوف تعلمون من يكون له العذاب ويبقى فيه ، فلما صال عليهم بذلك وتوعدهم ، هانت عليهم أنفسهم في الله عزَّ وجلَّ { قَالُواْ لَن نُّؤْثِرَكَ على مَا جَآءَنَا مِنَ البينات } أي لن نختارك على ما حصل لنا من الهدى واليقين { والذي فَطَرَنَا } يعنون لا نختارك على فاطرنا وخالقنا الذي أنشأنا من العدم ، المبتدئ خلقنا من الطين ، فهو المستحق للعبادة والخضوع لا أنت { فاقض مَآ أَنتَ قَاضٍ } أي فافعل ما شئت ، وما وصلت إليه يدك { إِنَّمَا تَقْضِي هذه الحياة الدنيآ } أي إنما لك تسلط في هذه الدار ، وهي دار الزوال ، ونحن قد رغبنا في دار القرار ، { آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا } أي ما كان منا من الآثام ، خصوصاً ما أكرهتنا عليه من السحر ، لتعارض به آية الله تعالى ومعجزة نبيّه . عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر } قال : أخذ فرعون أربعين غلاماً من بني إسرائيل ، فأمر أن يعلموا السحر بالفرماء ، وقال علموهم تعليماً لا يعلمه أحد في الأرض ، قال ابن عباس : فهم من الذين آمنوا بموسى ، وهم من الذين قالوا : { آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَآ أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السحر } . وقوله : { والله خَيْرٌ وأبقى } أي خير لنا منك { وأبقى } أي أدوم ثواباً مما كنت وعدتنا ومنيتنا ، وقال محمد بن كعب القرظي { والله خَيْرٌ } : أي لنا منك إن أطيع { وأبقى } : أي منك عذاباً إن عصي ، والظاهر أن فرعون لعنه الله صمم على ذلك وفعله بهم رحمة لهم من الله ، ولهذا قال ابن عباس وغيره من السلف : أصبحوا سحرة وأمسوا شهداء بررة .(1/1607)
إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (74) وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)
الظاهر من السياق أن هذا من تمام ما وعظ به السحرة لفرعون ، يحذرونه من نقمة الله وعذابه الدائم السرمدي ، ويرغبونه في ثوابه الأبدي المخلد ، فقالوا { إِنَّهُ مَن يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً } أي يلقى الله يوم القيامة وهو مجرم { لَهُ جَهَنَّمَ لاَ يَمُوتُ فِيهَا وَلاَ يحيى } ، كقوله : { لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا كَذَلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ } [ فاطر : 36 ] . عن أبي سعيد الخدري قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما أهل النار الذين هم أهلها فإنهم لا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن أناس تصيبهم النار بذنوبهم ، فتميتهم إماتة ، حتى إذا صاروا فحماً وأذن في الشفاعة جيء بهم ضبائر ضبائر ، فبثوا على أنهار الجنة ، فيقال : يا أهل الجنة اقبضوا عليهم فينبتون نبات الحبة تكون في حميل السيل » ، فقال رجل من القوم : كأن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان بالبادية . وقوله تعالى : { وَمَن يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصالحات } أي ومن لقي ربه يوم المعاد ، مؤمن القلب قد صدق ضميره بقوله وعمله ، { فأولئك لَهُمُ الدرجات العلى } أي الجنة ذات الدرجات العاليات ، والغرف الآمنات والمساكن الطيبات ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الجنة مائة درجة ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، والفردوس أعلاها درجة ، ومنها تخرج الأنهار الأربعة ، والعرش فوقها ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس » ، وفي « الصحيحين » : « إن أهل عليين ليرون من فوقهم كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء ، لتفاضل ما بينهم - قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء؟ قال : بلى والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدقوا المرسلين » ، وفي السنن وإن أبا بكر وعمر لمنعهم وأنعما ، وقوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ } أي إقامة وهي بدل من الدرجات العلى { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا } أي ماكثين بداً { وذلك جَزَآءُ مَن تزكى } أي طهر نفسه من الدنس والخبث والشرك ، وعبد الله وحده لا شريك له ، واتبع المرسلين فيما جاءوا به من خير وطلب .(1/1608)
وَلَقَدْ أَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقًا فِي الْبَحْرِ يَبَسًا لَا تَخَافُ دَرَكًا وَلَا تَخْشَى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ مَا غَشِيَهُمْ (78) وَأَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَمَا هَدَى (79)
يقول تعالى مخبراً : أنه أمر موسى عليه السلام حين أبى فرعون أن يرسل معه بني إسرائيل أن يسري بهم في الليل ، ويذهب بهم من قبضة فرعون ، وذلك أن موسى لما خرج ببني إسرائيل أصبحوا وليس منهم بمصر لا دع ولا مجيب ، فغضب فرعون غضباً شديداً ، وأرسل من يجمعون له الجند له بلدانه ، ثم لما جمع جنده واستوثق له جيشه ، ساق في طلبهم فاتبعوهم مشرقين ، أي عند طلوع الشمس ، { تَرَاءَى الجمعان } [ الشعراء : 61 ] : أي نظر كل من الفريقين إلى الآخر ، { قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 61-62 ] ووقف ببني إسرائيل أمامهم ، وفرعون وراءهم ، فعند ذلك أوحى الله إليه : { فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً } فضرب البحر بعصاه ، فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم ، أي الجبل العظيم ، فأرسل الله الريح على أرض البحر ، فلفحته حتى صار يابساً كوجه الأرض ، فلهذا قال { فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً } : أي من فرعون { وَلاَ تخشى } يعني من البحر أن يغرق قومك ، ثم قال تعالى { فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِّنَ اليم } : أي البحر { مَا غَشِيَهُمْ } وهذا يقال عند الأمر المعروف المشهور كما قال تعالى : { والمؤتفكة أهوى * فَغَشَّاهَا مَا غشى } [ النجم : 53-54 ] .(1/1609)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ قَدْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَوَاعَدْنَاكُمْ جَانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلَا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَى (81) وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى (82)
يذكر تعالى نعمه - على بني إسرائيل - العظام ، ومننه الجسام ، حيث أنجاهم من عدوهم فرعون ، وأقر أعينهم منه وهم ينظرون إليه ، وإلى جنده قد غرقوا في صبيحة واحدة ، لم ينج منهم أحد ، كما قال : { وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } [ البقرة : 50 ] . عن ابن عباس قال : « لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وجد اليهود تصوم عاشوراء ، فسألهم فقالوا : هذا اليوم الذي أظفر الله فيه موسى على فرعون ، فقال : » نحن أولى بموسى فصوموه « ، ثم إنه تعالى واعد موسى وبني إسرائيل بعد هلاك فرعون ، جانب الطور الأيمن ، وهو الذي كلمه الله تعالى عليه وسأل فيه الرؤية ، وأعطاه التوراة هنالك ، وفي غضون ذلك عبد بنو إسرائيل العجل ، كما يقصه الله تعالى قريباً ، وأما المن والسلوى فقد تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة وغيرها ، فالمن حلوى كانت تنزل عليهم من السماء ، والسلوى طائر يسقط عليهم ، فيأخذون من كل قدر الحاجة إلى الغد لطفاً من الله ورحمة بهم وإحساناً إليهم ، ولهذا قال تعالى : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَلاَ تَطْغَوْاْ فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي } أي كلوا من هذا الرزق الذي رزقتكم ولا تطغوا في رزقي ، فتأخذوه من غير حاجة ، وتخالفوا ما أمرتكم به ، { فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي } أي أغضب عليكم ، { وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هوى } أي فقد شقي ، وقوله { وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً } أي كل من تاب إليَّ تبت عليه من أي ذنب كان ، حتى إنه تاب تعالى على عبد العجل من بني إسرائيل ، وقوله تعالى { تَابَ } أي رجع عما كان فيه من كفر أو شرك أو معصية أو نفاق ، قوله { وَآمَنَ } أي بقلبه ، { وَعَمِلَ صَالِحَاً } أي بجوارحه ، وقوله : { ثُمَّ اهتدى } عن ابن عباس : أي ثم لم يشكك ، وقال سعيد بن جبير { ثُمَّ اهتدى } : أي استقام على السنة والجماعة ، وقال قتادة { ثُمَّ اهتدى } : أي لزم الإسلام حتى يموت ، و { ثُمَّ } هاهنا لترتيب الخبر على الخبر ، كقوله : { ثُمَّ كَانَ مِنَ الذين آمَنُواْ } [ البلد : 17 ] { وَعَمِلُواْ الصالحات } [ البقرة : 25 ] .(1/1610)
وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى (83) قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى (84) قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قَالُوا مَا أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا وَلَكِنَّا حُمِّلْنَا أَوْزَارًا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْنَاهَا فَكَذَلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87) فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ فَقَالُوا هَذَا إِلَهُكُمْ وَإِلَهُ مُوسَى فَنَسِيَ (88) أَفَلَا يَرَوْنَ أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا وَلَا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا (89)
لما سار موسى عليه السلام ببني إسرائيل بعد هلاك فرعون ، وواعد ربه ثلاثين ليلة ثم أتبعها عشر فتمت أربعين ليلة ، أي يصومها ليلاً ونهاراً ، وقد تقدم في حديث الفتون بيان ذلك ، فسارع موسى عليه السلام مبادراً إلى الطور ، واستخلف على بني إسرائيل أخاه هارون ، ولهذا قال تعالى : { وَمَآ أَعْجَلَكَ عَن قَومِكَ ياموسى * قَالَ هُمْ أولاء على أَثَرِي } أي قادمون ينزلون قريباً من الطور ، { وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لترضى } أي لتزداد عني رضا ، { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السامري } ، أخبر تعالى نبيّه موسى بما كان بعده من الحدث في بني سرائيل ، وعبادتهم العجل الذي عمله لهم ذلك السامري ، وقوله { فَرَجَعَ موسى إلى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً } أي رجع بعد ما أخبره تعالى بذلك في غاية الغضب والحنق عليهم ، والأسف : شدة الغضب ، وقال مجاهد { غَضْبَانَ أَسِفاً } ؛ أي جزعاً ، وقال قتادة والسدي : أسفاً حزيناً على ما صنع قومه من بعده ، { قَالَ ياقوم أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً } أي أما وعدكم على لساني كل خير في الدنيا والآخرة وحسن العاقبة كما شاهدتم من نصرته إياكم على عدوكم وإظهاركم عليه ، وغير ذلك من أيادي الله ، { أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ العهد } أي في انتظار ما وعدكم الله ونسيان ما سلف من نعمه { أَمْ أَرَدتُّمْ أَن يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّكُمْ } « أم » هاهنا بمعنى بل ، هي للإضراب عن الكلام الأول ، وعدول إلى الثاني؛ كأنه يقول : بل أردتم بصنيعكم هذا أن يحل عليكم غضب من ربكم فأخلفتم موعدي ، قالوا - أي بنو إسرائيل ، في جواب ما أنبهم موسى وقرعهم - { مَآ أَخْلَفْنَا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنَا } أي عن قدرتنا واختيارنا ، ثم شرعوا يعتذرون بالعذر البارد ، يخبرونه عن تورعهم عما كان بأيديهم من حلي القبط الذي كانوا قد استعاروه منهم حين خرجوا من مصر ، { فَقَذَفْنَاهَا } أي ألقيناها عنا ، ودعا السامري أن يكون عجلاً ، فكان عجلاً { لَّهُ خُوَارٌ } أي صوت ، استدراجاً وإمهالاً ومحنة واختباراً ولهذا قال : { فَكَذَلِكَ أَلْقَى السامري * فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } .
عن ابن عباس ، أن هارون مر بالسامري وهو ينحت العجل ، فقال له : ما تصنع؟ فقال : أصنع ما يضر ولا ينفع ، فقال هارون : اللهم أعطه ما سألك على ما في نفسه ، ومضى هارون وقال السامري : اللهم إني أسألك أن يخور ، فخار ، فكان إذا خار سجدوا له ، وإذا خار رفعوا رؤوسهم ، وقال السدي : كان يخور ويمشي ، فقالوا : أي الضُلاّل منهم الذين افتتنوا بالعجل وعبدوه { هاذآ إلهكم وإله موسى } أي نسيه هاهنا وذهب يتطلبه ، وعن ابن عباس { فَنَسِيَ } أي نسي أن يذكركم أن هذا إلهكم ، فعكفوا عليه وأحبوه حباً لم يحبوا شيئاً قط ، قال الله تعالى رداً عليهم وتقريعاً لهم وبياناً لفضيحتهم وسخافة عقولهم فيما ذهبوا إليه : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } أي العجل ، فلا يرون أنه لا يجيبهم إذا سألوه ، ولا إذا خاطبوه ، ولا يملك لهم ضراً ولا نفعاً ، أي في دنياهم ولا في أخراهم ، قال ابن عباس : لا والله ما كان خواره إلا أن يدخل الريح في دبره فيخرج من فمه فيسمع له صوت ، وحاصل ما اعتذر به هؤلاء الجهلة أنهم تورعوا عن زينة القبط فألقوها عنهم ، وعبدوا العجل فتورعوا عن الحقير وفعلوا الأمر الكبير ، كما جاء في الحديث الصحيح عن عبد الله بن عمر ، أنه سأله رجل من أهل العراق عن دم البعوض إذا أصاب الثوب ، يعني هل يصلي فيه أم لا؟ فقال ابن عمر رضي الله عنهما : انظروا إلى أهل العراق! قتلوا ابن بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني الحسين ، وهم يسألون عن دم البعوضة! .(1/1611)
وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي (90) قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى (91)
يخبر تعالى عما كان من نهي هارون عليه السلام لهم عن عبادتهم العجل ، وإخباره إياهم إنما هذا فتنة لكم ، وإن ربكم الرحمن الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً . ذو العرش المجيد الفعّال لما يريد ، { فاتبعوني وأطيعوا أَمْرِي } : أي فيما آمركم به واتركوا ما أنهاكم عنه ، { قَالُواْ لَن نَّبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حتى يَرْجِعَ إِلَيْنَا موسى } أي لا نترك عبادته حتى نسمع كلام موسى فيه وخالفوا هارون في ذلك ، وحاربوه وكادوا أن يقتلوه .(1/1612)
قَالَ يَا هَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي (93) قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)
يخبر تعالى عن موسى عليه السلام حين رجع إلى قومه ، فرأى ما قد حدث فيهم من الأمر العظيم ، فامتلأ عند ذلك غضباً ، وألقى ما كان في يده من الألواح الإلهية ، وأخذ برأس أخيه يجره إليه ، فقال : { مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضلوا * أَلاَّ تَتَّبِعَنِ } أي فتخبرني بهذا الأمر أول ما وقع { أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي } : أي فيما كنت قدمت إليك ، وهو قوله : { اخلفني فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ المفسدين } [ الأعراف : 142 ] ترفق له بذكر الأم مع أنه قيقه لأبويه ، لأن ذكر الأم هاهنا أرق وأبلغ في الحنو والعطف ، ولهذا قال : { يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي } الآية . هذا اعتذار من هارون عند موسى في سبب تأخره عنه ، حيث لم يلحقه فيخبره بما كان من هذا الخطب الجسيم ، قال { إِنِّي خَشِيتُ } أن أتبعك فأخبرك بهذا ، فتقول لي لم تركتهم وحدهم وفرقت بينهم ، { وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } : أي وما راعيت ما أمرتك به ، حيث استخلفتك فيهم ، قال ابن عباس : وكان هارون هائباً مطيعاً له .(1/1613)
قَالَ فَمَا خَطْبُكَ يَا سَامِرِيُّ (95) قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُهَا وَكَذَلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قَالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَيَاةِ أَنْ تَقُولَ لَا مِسَاسَ وَإِنَّ لَكَ مَوْعِدًا لَنْ تُخْلَفَهُ وَانْظُرْ إِلَى إِلَهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفًا لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفًا (97) إِنَّمَا إِلَهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا (98)
يقول موسى عليه السلام للسامري : ما حملك على ما صنعت؟ وما الذي عرض لك حتى فعلت ما فعلت؟ عن ابن عباس قال : كان السامري رجلاً من أهل باجر ، وكان من قوم يعبدون البقر وكان حب عبادة البقر في نفسه ، وكان قد أظهر الإسلام مع بني إسرائيل ، وكان اسمه ( موسى بن ظفر ) ، وفي رواية عن ابن عباس أنه كان من كرمان ، وقال قتادة : كان من قرية سامرا ، { قَالَ بَصُرْتُ بِمَا لَمْ يَبْصُرُواْ بِهِ } : أي رأيت جبريل حين جاء لهلاك فرعون { فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِّنْ أَثَرِ الرسول } اي من أثر فرسه ، هذا هو المشهور عند كثير من المفسرين ، أو أكثرهم ، وقال مجاهد : من تحت حافر فرس جبريل ، قال : والقبضة ملء الكف ، والقبضة بأطراف الأصابع ، قال مجاهد : نبذ السامري ، أي ألقى ما كان في يده على حلية بني إسرائيل ، فانسبك عجلاً جسداً له خوار ، حفيف الريح فيه فهو خواره . وقال ابن أبي حاتم ، عن عكرمة : إن السامري رأى الرسول فألقى في روعه أنك إن أخذت من أثر هذا الفرس قبضة فألقيتها في شيء فقلت له كن فكان ، فقبض قبضة من أثر الرسول فيبست أصابعه على القبضة ، فلما ذهب موسى للميقات ، وكان بنو إسرائيل قد استعاروا حلى آل فرعون ، فقال لهم السامري : إن ما أصابكم من أجل هذا الحلي ، فاجمعوه فجمعوه ، فأوقدوا عليه فذاب ، فرآه السامري ، فألقي في روعه : أن لو قذفت هذه القبضة في هذه ، فقلت كن فكان ، فقذف القبضة وقال : كن فكان عجلاً جسداً له خوار ، فقال { هاذآ إلهكم وإله موسى } [ طه : 88 ] ، ولهذا قال { فَنَبَذْتُهَا } أي ألقيتها مع من ألقى ، { وكذلك سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي } : أي حسنته وأعجبها إذ ذاك { قَالَ فاذهب فَإِنَّ لَكَ فِي الحياة أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } : أي كما أخذت ومسست ما لم يكن لك أخذه ومسه من أثر الرسول ، فعقوبتك في الدنيا أن تقول لا مساس ، أي لا تماس الناس ولا يسمونك ، { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً } أي يوم القيامة { لَّن تُخْلَفَهُ } أي لا محيد لك عنه . وقال قتادة { أَن تَقُولَ لاَ مِسَاسَ } قال : عقوبة لهم ، وبقاياهم اليوم يقولون لا مساس : وقوله { وَإِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَّن تُخْلَفَهُ } قال الحسن : لن تغيب عنه . وقوله { وانظر إلى إلهك } أي معبودك { الذي ظَلْتَ عَلَيْهِ عَاكِفاً } أي أقمت على عبادته يعني العجل ، { لَّنُحَرِّقَنَّهُ } قال السدي : سحلة بالمبارد وألقاه على النار ، وقال قتادة استحال العجل من الذهب لحماً ودماً ، فحرقه بالنار ، ثم ألقى رماده في البحر ، ولهذا قال : { ثُمَّ لَنَنسِفَنَّهُ فِي اليم نَسْفاً } . وقوله تعالى : { إِنَّمَآ إلهكم الله الذي لا إله إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } يقول لهم موسى عليه السلام . ليس هذا إلهكم إنما إلهكم الله الذي لا سيتحق ذلك على العباد إلاّ هو ، ولا تنبغي العبادة إلاّ له ، فإن كل شيء فقير إليه عبد له ، وقوله : { وَسِعَ كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } أي هو عالم بكل شيء ، أحاط بكل شيء علماً وأحصى كل شيء عدداً ، فلا يعزب عنه مثقال ذرة ، كما قال تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ هود : 6 ] والآيات في هذا كثيرة جداً .(1/1614)
كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101)
يقول تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : كما قصصنا خبر عليك خبر موسى ، وما جرى له مع فرعون وجنوده على الجلية والأمر الواقع ، كذلك نقص عليك الأخبار الماضية كما وقعت من غير زيادة ولا نقص ، هذا { وَقَدْ آتَيْنَاكَ مِن لَّدُنَّا ذِكْراً } أي من عندنا { ذِكْراً } وهو القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد ، الذي لم يعط نبي من الأنبياء كتاباً مثله ، ولا أكمل منه ولا أجمع لخبر ما سبق وخبر ما هو كائن منه ، وقوله تعالى : { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ } أي كذب به وأعرض عن اتباعه أمراً وطلباً ، وابتغى الهدى من غيره ، فإن الله يضله ويهديه إلى سواء الجحيم ، ولهذا قال : { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً } أي إثماً ، كما قال تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] ، وهذا عام في كل من بلغه القرآن من العرب والعجم أهل الكتاب وغيرهم ، كما قال : { لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، فكل من بلغه القرآن فهو نذير له ، وداع ، فن اتبعه هدي ، ومن خالفه وأعرض عنه ضل وشقي في الدنيا ، والنار موعده يوم القيامة ، ولهذا قال { مَّنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ القيامة وِزْراً * خَالِدِينَ فِيهِ } أي لا محيد لهم عنه ولا انفكاك ، { وَسَآءَ لَهُمْ يَوْمَ القيامة حِمْلاً } أي بئس الحمل حملهم .(1/1615)
يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104)
ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الصور فقال : « قرن ينفخ فيه » وجاء في الحديث : « كيف أنعم وصاحب القرن قد التقم القرن وحنى جبهته وانتظر أن يؤذن له » ، فقالوا : يا رسول الله كيف نقول؟ قال : « قولوا حسبنا الله ونعم الوكيل على الله توكلنا » ، وقوله { وَنَحْشُرُ المجرمين يَوْمِئِذٍ زُرْقاً } ، قيل معناه زرق العيون ، من شة ما هم فيه من الأهوال ، { يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ } قال ابن عباس : يتسارون بينهم ، أي يقول بعضهم لبعض { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً } أي في الدار الدنيا ، لقد كان لبثكم فيها قليلاً عشرة أيام أو نحوها . قال الله تعالى : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ } : أي في حال تناجيهم بينهم ، { إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً } : أي العاقل الكامل فيهم { إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } : أي لقصر مدة الدنيا في أنفسهم يوم المعاد ، لأن الدنيا كلها وإن تكررت أوقاتها وتعاقبت لياليها وأيامها وساعاتها كأنها يوم واحد ، وكان غرضهم درء قيام الحجة عليهم لقصر المدة ، ولهذا قال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير } [ فاطر : 37 ] الآية . وقال تعالى : { كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ العآدين } [ المؤمنون : 112-113 ] ولو كنتم تعلمون لآثرتم الباقي على الفاني ولكن تصرفتم فأسأتم التصرف .(1/1616)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108)
ول تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال } أي هل تبقى يوم القيامة أو تزول؟ { فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } أي يذهبها عن أماكنها ويمحقها ويسيرها تسييراً { فَيَذَرُهَا } أي الأرض { قَاعاً صَفْصَفاً } أي بساطاً واحداً ، والقاع هو المستوي من الأرض ، والصفصف تأكيد لمعنى ذلك ، وقيل الذي لا نبات فيه ، والأول أولى ، وإن كان الآخر مراداً أيضاً باللازم ، ولهذا قال : { لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً } لا ترى في الأرض يومئذٍ وادياً ولا رابية ولا مكاناً منخفضاً ولا مرتفعاً ، كذا قال ابن عباس وغير واحد من السلف { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ } : أي يوم يرون هذه الأحوال ، يستجيبون مسارعين إلى الداعي حيثما أمروا بادروا إليه ، ولو كان هذا في الدنيا لكان أنفع لهم ، ولكن حيث لا ينفعهم كما قال تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ مريم : 38 ] ، وقال { مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع } [ القمر : 8 ] وقال محمد القرظي : يحشر الله الناس يوم القيامة في ظلمة ، وتطوى السماء وتتناثر النجوم وتذهب الشمس والقمر ، وينادي مناد فيتبع الناس الصوت يؤمونه ، فذلك قوله : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ } . وقال قتادة : لا عوج له لا يميلون عنه ، وقال أبو صالح : لا عوج له لا عوج عنه ، { وَخَشَعَتِ الأصوات للرحمن } قال ابن عباس : سكنت ، وكذا قال السدي ، { فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } قال سعيد بن جبير عن ابن عباس : يعني وطء الأقدام . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً } الصوت الخفي ، وقال سعيد بن جبير : الحديث وسره ، ووطء الأقدام ، فقد جمع سعيد كلا القولين ، وهو محتمل ، أما وطء الأقدام فالمراد سعي الناس إلى المحشر وهو مشيهم في سكون وخضوع ، وأما الكلام الخفي فقد يكون في حال دون حال ، فقد قال تعالى { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] .(1/1617)
يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112)
يقول تعالى { يَوْمَئِذٍ } : أي يوم القيامة { لاَّ تَنفَعُ الشفاعة } أي عنده { إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَرَضِيَ لَهُ قَوْلاً } ، كقوله : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] . وقوله : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ } [ الأنبياء : 28 ] ، وقال : { لاَّ تَنفَعُ الشفاعة إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ } . وفي « الصحيحين » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « آتي تحت العرش وأخر لله ساجداً ، ويفتح عليّ بمحامد لا أحصيها الآن ، فيدعني ما شاء أن يدعني ثم يقول : يا محمد ارفع رأسك ، وقل يسمع واشفع تشفع ، قال : فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة ثم أعود » ، فذكر أربع مرات صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء . وقوله : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } أي يحيط علماً بالخلائق كلهم { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } كقوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } [ البقرة : 255 ] ، وقوله : { وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم } . قال ابن عباس وغير واحد : خضعت وذلت واستسلمت الخلائق لجبارها الحي الذي لا يموت ، القيوم الذي لا ينام ، وهو قيم على كل شيء ، يدبره ويحفظه ، فهو الكامل في نفسه ، الذي كل شيء فقير إليه لا قوام له إلاّ به وقوله { وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } : أي يوم القيامة فإن الله سيؤدي كل حق إلى صاحبه حتى يقتص للشاة الجماء من الشاة القرناء ، وفي الحديث : « يقول الله عزَّ وجلَّ : وعزتي وجلالي لا يجاوزني اليوم ظلم ظالم » وقوله : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } لما ذكر الظالمين ووعيدهم ثنى بالمتقين وحكمهم ، وهو أنهم لا يظلمون ولا يهضمون أي لا يزاد في سيئاتهم ولا ينقص من حسناتهم ، قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد ، فالظلم الزيادة بأن يحمل عليه ذنب غيره ، والهضم : النقص .(1/1618)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)
يقول تعالى : ولما كان يوم المعاد والجزاء واقعاً لا محالة أنزلنا القرآن بشيراً ونذيراً بلسان عربي مبين { صَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الوعيد لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي يتركون المآثم والمحارم والفواحش { أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً } وهو إيجاد الطاعة وفعل القربات ، { فتعالى الله الملك الحق } أي تنزه وتقدس الملك الحق ، الذي وعده الحق ووعيده حق ، وعدله تعالى أن لا يعذب أحداً قبل الإنذار وبعثه الرسل لئلا يبقى لأحد حجة ولا شبهة ، وقوله : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } ، كقوله تعالى : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } [ القيامة : 16-17 ] وثبت في « الصحيح » عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعالج من الوحي شدة ، فكان مما يحرك به لسانه ، فأنزل الله هذه الآية يعني أنه عليه السلام كان إذا جاءه جبريل بالوحي ، كلما قال جبريل آية قالها معه ، من شدة حرصه على حفظ القرآن فأرشده الله تعالى إلى ما هو الأسهل والأخف في حقه لئلا يشق عليه فقال : { لاَ تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ } [ القيامة : 16-17 ] أي أن نجمعه في صدرك ثم تقرأه على الناس من غير أن تنسى منه شيئاً ، { فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فاتبع قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ } [ القيامة : 18-19 ] ، وقال في هذه الآية : { وَلاَ تَعْجَلْ بالقرآن مِن قَبْلِ أَن يقضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ } أي بل انصت ، فإذا فرغ الملك من قراءته عليك فاقرأه بعده ، { وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً } أي زدني منك علماً ، ولم يزل صلى الله عليه وسلم في زيادة حتى توفاه الله عزَّ وجلَّ ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « اللهم انفعني بما علمتني وعلمني ما ينفعني وزدني علماً والحمد لله على كل حال » .(1/1619)
وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا (115) وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى (116) فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هَذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى (117) إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى (118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى (119) فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لَا يَبْلَى (120) فَأَكَلَا مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى (121) ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى (122)
عن ابن عباس قال : إنما سمي الإنسان لأنه عهد إليه فنسي ، وقال مجاهد والحسن : ترك ، وقوله : { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمََ } يذكر تعالى تشريف آدم وتكريمه وما فضله به على كثير ممن خلق تفضيلاً ، { فسجدوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى } أي امتنع واستكبر ، { فَقُلْنَا يآءَادَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ } يعني حواء عليهما السلام ، { فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى } أي إياك أن تسعى في إخراجك منها ، فتتعب وتعنى وتشقى في طلب رزقك ، فإنك ها هنا في عيش رغيد هنيء بلا كلفة ولا مشقة ، { إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تعرى } إنما قرن بين الجوع والعري لأن الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر ، { وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تضحى } وهذان أيضاً متقابلان ، فالظمأ حر الباطن وهو العطش ، والضحى حر الظاهر . وقوله : { فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشيطان قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } قد تقدم أنه دلاهما بغرور { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] ، وقد تقدم أن الله تعالى عهد إلى آدم وزوجه أن يأكلا من كل الثمار ولا يقربا هذه الشجرة المعينة في الجنة ، فلما يزل بهما إبليس حتى أكلا منها . وقوله : { فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا } ، روي أن الله خلق آدم رجلاً طوالاً كثير شعر الرأس كأنه نخلقة سحوق ، فلما ذاق الشجرة سقط عنه لباسه ، فأول ما بدا منه عورته ، فلما نظر إلى عورته جعل يشتد في الجنة ، فناداه الرحمن : قال : يا رب لا ولكن استحياء ، أرأيت إن تبت ورجعت أعائدي إلى الجنة؟ قال : نعم ، فذلك قوله : { فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كلمات فَتَابَ عَلَيْهِ } [ البقرة : 37 ] .
وقوله تعالى : { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } ، قال مجاهد : يرقعان كهيئة الثوب ، وروى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : ينزعان ورق التين فيجعلانه على سوآتهما ، وقوله : { وعصى ءَادَمُ رَبَّهُ فغوى * ثُمَّ اجتباه رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وهدى } ، روى البخاري ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « حاجَّ موسى آدم فقال له : أنت الذي أخرجت الناس من الجنة بذنبك وأشقيتهم؟ قال آدم : يا موسى أنت الذي اصطفاك الله برسالاته وبكلامه؟ أتلومني على أمر كتبه الله عليَّ قبل أن يخلقني ، أو قدره الله عليَّ قبل أن يخلقني؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فحج آدم موسى » ، وفي رواية لابن أبي حاتم : « احتج آدم وموسى عند ربهما ، فحج آدم موسى . قال موسى : أنت الذي خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأسجد لك ملائكته ، وأسكنك في جنته ، ثم أهبطت الناس إلى الأرض بخطيئتك! قال آدم : أنت موسى الذي اصطفاك الله برسالته وكلامه ، وأعطاك الألواح فيها تبيان كل شيء ، وقربك نجياً ، فكم وجدت الله كتب التوراة قبل أن أخلق؟ قال موسى : بأربعين عاماً ، قال آدم : فهل وجدت فيها وعصى آدم ربه فغوى؟ قال : نعم ، قال : أفتلومني على أن عملت عملاً كتب الله عليّ أن أعمله قبل أن يخلقني بأربعين سنة؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فحجَّ آدمُ موسى » .(1/1620)
قَالَ اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعًا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَى (123) وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى (124) قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَى وَقَدْ كُنْتُ بَصِيرًا (125) قَالَ كَذَلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وَكَذَلِكَ الْيَوْمَ تُنْسَى (126)
يقول تعالى لآدم وحواء وإبليس اهبطوا منها جميعاً : أي من الجنة كلكم { بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ } آدم وذريته ، وإبليس وذريته ، وقوله : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى } قال أبو العالية : الأنبياء والرسل والبيان ، { فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } قال ابن عباس : لا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي } أي خالف أمري وما أنزلته على رسولي ، أعرض عنه وتناساه وأخذ من غير هداه ، { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } أي ضنكاً في الدنيا فلا طمأنينة له وله انشراح لصدره ، بل صدره ضيق حرج لضلالة وإن تنعّم ظاهره ، ولبس ما شاء وأكل ما شاء وسكن حيث شاء فإن قلبه ما لم يخلص إلى اليقين والهدى فهو في قلق وحيرة وشك ، فلا يزال في ريبة يتردد ، فهذا من ضنك المعيشة . قال ابن عباس { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } قال : الشقاء . وعنه : إن قوماً ضلالاً أعرضوا عن الحق ، وكانوا في سعة من الدنيا متكبرين ، فكانت معيشتهم ضنكاً ، فإذا كان العبد يكذب بالله ويسيء الظن به والثقة به اشتدت عليه معيشته فذلك الضنك . وقال الضحّاك : هو العمل السيء والرزق الخبيث . وروى سفيان بن عيينة ، عن أبي سعيد في قوله { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } قال : يضيق عليه قبره حتى تختلف أضلاعه فيه .
عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « المؤمن في قبره في روضة خضراء ويفسح له في قبره سبعون ذراعاً ، وينور له قبره ، كالقمر ليلة البدر ، أتدرون فيم أنزلت هذه الآية { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } ؟ أتدرون ما المعيشة الضنك؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : « عذاب الكافر في قبره ، والذي نفسي بيده إنه ليسلط عليه تسعة وتسعون تنبناً ، أتدرون ما التنين؟ تسعة وتسعون حية ، لكل حية سبعة رؤوس ينفخون في جسمه ويلسعونه ويخدشونه إلى يوم يبعثون » وروى البزار ، عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عزَّ وجلَّ { فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً } قال : « المعيشة الضنك الذي قال الله إنه يسلط عليه تسعة وتسعون حية ينهشون لحمة حتى تقوم الساعة » وقوله : { وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } قال مجاهد والسدي : لا حجة له ، وقال عكرمة : عمي عليه كل شيء إلاّ جهنم ، ويحتمل أن يكون المراد أنه يبعث أو يحشر إلى النار أعمى البصر والبصيرة أيضاً كما قال تعالى : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } [ الإسراء : 97 ] الآية ، ولهذا يقول : { رَبِّ لِمَ حشرتني أعمى وَقَدْ كُنتُ بَصِيراً } ؟ أي في الدنيا { قَالَ كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى } أي لما أعرضت عن آيات الله وتناسيتها وأعرضت عنها ، كذلك اليوم نعاملك معاملة من ينساك ، { نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } [ الأعراف : 51 ] فإن الجزاء من جنس العمل ، فأما نسيان لفظ القرآن مع فهم معناه والقيام بمقتضاه ، فليس داخلاً في هذا الوعيد الخاص ، وإن كان متوعداً عليه من جهة أخرى ، عن سعد بن عبادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من رجل قرأ القرآن فنسيه إلاّ لقي الله يوم يلقاه وهو أجذم » .(1/1621)
وَكَذَلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَلَمْ يُؤْمِنْ بِآيَاتِ رَبِّهِ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَأَبْقَى (127)
يقول تعالى : وهكذا نجازي المسرفين ، المكذبين بآيات الله في الدنيا والآخرة { لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ } [ الرعد : 34 ] ، ولهذا قال : { وَلَعَذَابُ الآخرة أَشَدُّ وأبقى } أي أشد ألماً من عذاب الدنيا ، وأدوم عليهم فهم مخلدون فيه ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين : « إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة » .(1/1622)
أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِأُولِي النُّهَى (128) وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكَانَ لِزَامًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى (129) فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ غُرُوبِهَا وَمِنْ آنَاءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَأَطْرَافَ النَّهَارِ لَعَلَّكَ تَرْضَى (130)
يقول تعالى : { أَفَلَمْ يَهْدِ } لهؤلاء المكذبين بما جئتهم به يا محمد ، كم أهلكنا من الأمم المكذبين بالرسل قبلهم ، فبادوا فليس لهم باقية ولا عين ولا أثر ، كما يشاهدون ذلك من ديارهم الخالية ، التي خلفوهم فيها يمشون فيها ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى } أي العقول الصحيحة والألباب المستقيمة ، كما قال تعالى : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } [ الحج : 46 ] ، وقال : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } الآية؛ ثم قال تعالى : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَكَانَ لِزَاماً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى } أي لولا الكلمة السابقة من الله وهو أنه لا يعذب أحداً إلاّ بعد قيام الحجة عليه ، والأجل المسمى الذي ضربه الله تعالى لهؤلاء المكذبين إلى مدة معينة لجاءهم العذاب بغتة ، ولهذا قال لنبيّه مسلياً له : { فاصبر على مَا يَقُولُونَ } أي من تكذيبهم لك ، { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس } يعني صلاة الفجر { وَقَبْلَ غُرُوبِهَا } يعني صلاة العصر ، كما جاء في « الصحيحين » : « إنكم سترون ربكم كما ترون هذا القمر لا تضامون في رؤيته ، فإن استطعتم أن لا تغلبوا على صلاة قبل طلوع الشمس وقبل غروبها فافعلوا » ثم قرأ هذه الآية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لن يلج النار أحد صلى قبل طلوع الشمس وقبل غروبها » وفي الحديث الصحيح : « أن أدنى أهل الجنة منزلة من ينظر في ملكه مسيرة ألفي سنة ، ينظر إلى أقصاه كما ينظر إلى أدناه ، وإن أعلاهم منزلة لمن ينظر إلى الله تعالى في اليوم مرتين » وقوله : { وَمِنْ آنَآءِ الليل فَسَبِّحْ } : أي من ساعته فتهجد به ، وحمله بعضهم على المغرب والعشاء ، { وَأَطْرَافَ النهار } في مقابلة آناء الليل { لَعَلَّكَ ترضى } ، كما قال تعالى : { وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فترضى } [ الضحى : 5 ] وفي « الصحيح » : « يقول الله تعالى : يا أهل الجنة فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : ربنا وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول : إني أعطيكم أفضل من ذلك ، فيقولون : وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً » .(1/1623)
وَلَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَأَبْقَى (131) وَأْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلَاةِ وَاصْطَبِرْ عَلَيْهَا لَا نَسْأَلُكَ رِزْقًا نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَالْعَاقِبَةُ لِلتَّقْوَى (132)
يقول تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : لا تنظر إلى ما هؤلاء المترفون وأشباههم ونظراؤهم فيه من النعيم ، فإنما هو زهرة زائلة ونعمة حائلة لنختبرهم بذلك وقليل من عبادي الشكور ، وقال مجاهد { أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } : يعني الأغنياء ، فقد آتاك خيراً مما آتاهم . ولهذا قال : { وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى } . وفي « الصحيح » « أن عمر بن الخطاب لما دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك المَشْرُبة التي كان قد اعتزل فيها نساءه حين آلى منهن ، فرآه متوسداً مضطجعاً على رمال حصير ، وليس في البيت إلاّ صُبْرة من قَرَظ واهية معلقة ، فابتدرت عينا عمر بالبكاء ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما يبكيك يا عمر؟ « فقال : يا رسول الله إن كسرى وقيصر فيما هما فيه وأنت صفوة الله من خلقه! فقال : » أو في شك أنت يا ابن الخطاب؟ أولئك قوم عجلت لهم طيباتهم في حياتهم الدنيا « ، فكان صلى الله عليه وسلم أزهد الناس في الدنيا مع القدرة عليها إذا حصلت له ينفقها هكذا وهكذا في عباد الله ، ولم يدخر لنفسه شيئاً لغد .
عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إن أخوف ما أخاف عليكم ما يفتح الله لكم من زهرة الدنيا « ، قالوا : وما زهرة الدنيا يا رسول الله؟ قال : » بركات الأرض « وقال قتادة والسدي { زَهْرَةَ الحياة } : يعني زينة الحياة الدنيا : وقال قتادة { لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ } لنبتليهم ، وقوله : { وَأْمُرْ أَهْلَكَ بالصلاة واصطبر عَلَيْهَا } أي استنقذهم من عذاب الله بإقام الصلاة واصبر أنت على فعلها ، كما قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ قوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَاراً } [ التحريم : 6 ] . وقوله : { لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } يعني إذا أقمت الصلاة أتاك الرزق من حيث لا تحتسب ، كما قال تعالى : { وَمَن يَتَّقِ الله يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَحْتَسِبُ } [ الطلاق : 2-3 ] ، ولهذا قال : { لاَ نَسْأَلُكَ رِزْقاً نَّحْنُ نَرْزُقُكَ } ، وقال الثوري : لا نسألك رزقاً : أي لا نكلفك الطلب . وقال ابن أبي حاتم ، عن ثابت قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أصابه خصاصة نادى أهله يا أهلاه صلوا ، صلوا . قال ثابت : وكانت الأنبياء إذا نزل بهم أمر فزعوا إلى الصلاة . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يقول الله تعالى يا ابن آدم تفرغ لعبادتي أملأ صدرك غنى وأسد فقرك ، وإن لم تفعل ملأت صدرك شغلاً ولم أسد فقرك « وعن زيد بن ثابت قال ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سيقول : » من كانت الدنيا همه فرق الله عليه أمره ، وجعل فقره بين عينيه ، ولم يأته من الدنيا إلاّ ما كتب له ، ومن كانت الآخرة نيته جمع له أمره ، وجعل غناه في قلبه وأتته الدنيا وهي راغمة « ، وقوله { والعاقبة للتقوى } : أي وحسن العاقبة في الدنيا والآخرة وهي الجنة لمن التقى الله ، وفي » الصحيح « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » رأيت الليلة كأنا في دار ( عقبة بن رافع ) وأنا أتينا برطب من رطب ابن طاب ، فأوّلت ذلك أن العاقبة لنا في الدنيا والرفعة ، وأن ديننا قد طاب « .(1/1624)
وَقَالُوا لَوْلَا يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصُّحُفِ الْأُولَى (133) وَلَوْ أَنَّا أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقَالُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَّ وَنَخْزَى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصِّرَاطِ السَّوِيِّ وَمَنِ اهْتَدَى (135)
يقول تعالى مخبراً عن الكفار في قولهم { لَوْلاَ } أي هلا يأتينا محمد بآية من ربه؟ أي بعلامة دالة على صدقة في أنه رسول الله . قال الله تعالى : { أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى } يعني القرآن العظيم الذي أنزله عليه الله وهو أمي لا يحسن الكتابة ولم يدارس أهل الكتاب ، وهذه الآية كقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } [ العنكبوت : 51 ] . وفي « الصحيحين » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما من نبي إلاّ وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة » . وإنما ذكر هاهنا أعظم الآيات التي أعطيها عليه السلام وهو القرآن ، وإلاّ فله من المعجزات ما لا يحد ولا يحصر ، ثم قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } أي لو أنا أهلكنا هؤلاء المكذبين قبل أن نرسل إليهم هذا الرسول الكريم وننزل عليهم هذا الكتاب العظيم لكانوا قالوا { رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } قبل أن تهلكنا حتى نؤمن به ونتبعه ، كما قال : { فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى } ، يبيّن تعالى أن هؤلاء المكذبين متعنتون معاندون لا يؤمنون { وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 97 ] ، كما قال تعالى : { وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } [ الأنعام : 155 ] ، وقال : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا } [ الأنعام : 109 ] الآيتين؛ ثم قال تعالى : { قُلْ } : أي يا محمد لمن كذبك وخالفك واستمر على كفره وعناده { كُلٌّ مُّتَرَبِّصٌ } أي منا ومنكم ، { فَتَرَبَّصُواْ } : أي فانتظروا ، { فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحَابُ الصراط السوي } : أي الطريق المستقيم ، { وَمَنِ اهتدى } إلى الحق وسبيل الرشاد ، وهذا كقوله تعالى : { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً } [ الفرقان : 42 ] ، وقال : { سَيَعْلَمُونَ غَداً مَّنِ الكذاب الأشر } [ القمر : 26 ] .(1/1625)
اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ (2) لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3) قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) مَا آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6)
هذا تنبيه من الله عزَّ وجلَّ على اقتراب الساعة ودنوها . وأن الناس في غفلة عنها ، أي لا يعملون لها ولا يستعدون من أجلها ، روي عن النبي صلى الله عليه وسلم { فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } قال : « في الدنيا » . وقال تعالى : { أتى أَمْرُ الله فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } [ النحل : 1 ] . وقال أبو العتاهية :
الناس في غفلاتهم ... ورحا المنية تطحن
وروي عن عامر بن ربيعة أنه نزل به رجل من العرب ، فأكرم عامر مثواه وكلم فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءه الرجل فقال : إني استقطعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم واداياً في العرب ، وقد أردت أن أقطع لك منه قطعة تكون لك ولعقبك من بعدك ، فقال عامر : لا حاجة لي في قطعيتك نزلت اليوم سورة أذهلتنا عن الدنيا : { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } ؛ ثم أخبر تعالى أنهم لا يصغون إلى الوحي الذي أنزل الله على رسوله ، والخطابُ مع قريش ومن شابههم من الكفار فقال : { مَا يَأْتِيهِمْ مِّن ذِكْرٍ مِّن رَّبِّهِمْ مُّحْدَثٍ } أي جديد إنزاله { إِلاَّ استمعوه وَهُمْ يَلْعَبُونَ } ، كما قال ابن عباس : مالكم تسألون أهل الكتاب عما بأيديهم وقد حرَّفوه وبدلوه وزادوا فيه ونقصوا منه ، وكتابكم أحدث الكتب بالله تقرأونه محضاً لم يُشَب . وقوله { وَأَسَرُّواْ النجوى الذين ظَلَمُواْ } أي قائلين فيما بينهم خفية { هَلْ هاذآ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } يعنون رسول الله صلى الله عليه وسلم يستبعدون كونه نبياً لأنه بشر مثلهم فكيف اختص بالوحي دونهم ، ولهذا قال { أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } أي أفتتبعونه فتكونون كمن يأتي السحر وهو يعلم أنه سحر ، فقال تعالى مجيباً لهم عما افتروه واختلقوه من الكذب { قَالَ رَبِّي يَعْلَمُ القول فِي السمآء والأرض } : أي الذي يعلم ذلك لا يخفى عليه خافية وهو الذي أنزل هذا القرآن المشتمل على خبر الأولين والآخرين ، الذي لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله إلا الذي يعلم السر في السماوات والأرض .
وقوله تعالى : { وَهُوَ السميع العليم } أي السميع لأقوالكم العليم بأحوالكم ، وفي هذا تهديد لهم ووعيد ، وقوله : { بَلْ قالوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ بَلِ افتراه } ، هذا إخبار عن تعنت الكفار وإلحادهم واختلافهم فيما يصفون به القرآن وحيرتهم فيه وضلالهم عنه ، فتارة يجعلونه سحراً ، وتارة يجعلونه شعراً ، وتارة يجعلونه أضغاث أحلام ، وتارة يجعلونه مفترى ، كما قال : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 48 ] ، وقوله : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون } يعنون كناقة صالح وآيات موسى وعيسى ، وقد قال الله : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } [ الإسراء : 59 ] الآية : ولهذا قال تعالى : { مَآ آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَآ أَفَهُمْ يُؤْمِنُونَ } أي ما آتينا قرية من القرى التي بعث فيها الرسل آية على أيدي نبيها فآمنوا بها بل كانوا فأهلكناهم بذلك أفهؤلاء يؤمنون بالآيات لو رأوها دون أولئك؟ كلا ، بل { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 96-97 ] هذا كله ، وقد شاهدوا من الآيات الباهرات والحجج القاطعات والدلائل البينات على يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما هو أظهر وأجلى وأبهر وأقطع وأقهر مما شوهد مع غيره من الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين .(1/1626)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (7) وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَدًا لَا يَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَمَا كَانُوا خَالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْنَاهُمْ وَمَنْ نَشَاءُ وَأَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)
يقول تعالى راداً على من أنكر بعثة الرسل من البشر : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ } أي جميع الرسل الذين تقدموا كانوا رجالاً من البشر لم يكن فيهم أحد من الملائكة ، كما قال في الآية الأخرى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى } [ يوسف : 109 ] ، وقال تعالى : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل } [ الأحقاف : 9 ] . وقال تعالى حكاية عمن تقدم من الأمم لأنهم أنكروا ذلك فقالوا : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن : 6 ] ، ولهذا قال تعالى : { فاسئلوا أَهْلَ الذكر إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ، أي اسألوا أهل العلم من الأمم كاليهود والنصارى وسائر الطوائف هل كان الرسل الذين أتوهم بشراً أو ملائكة؟ وقوله : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام } أي بل قد كانوا أجساداً يأكلون الطعام ، كما قال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق } [ الفرقان : 20 ] : أي قد كانوا بشراً من البشر ، يأكلون ويشربون مثل الناس ، ويدخلون في الأسواق للتكسب والتجارة ، وليس ذلك بضار لهم ولا ناقص منهم شيئاً كما توهمه المشركون في قولهم : { وَقَالُواْ مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام وَيَمْشِي فِي الأسواق لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } [ الفرقان : 7 ] . وقوله : { وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ } أي في الدنيا ، بل كانوا يعيشون ثم يموتون { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد } [ الأنبياء : 34 ] وخاصتهم أنهم يوحى إليهم من الله عزَّ وجلَّ تنزل عليهم الملائكة عن الله بما يحكمه في خلقه مما يأمر به وينهى عنه ، وقوله : { ثُمَّ صَدَقْنَاهُمُ الوعد } أي الذي وعدهم ربهم ليهلكن الظالمين ، صدقهم الله وعده وفعل ذلك ، ولهذا قال { فَأَنجَيْنَاهُمْ وَمَن نَّشَآءُ } أي أتباعهم من المؤمنين ، { وَأَهْلَكْنَا المسرفين } : أي المكذبين بما جاءت به الرسل .(1/1627)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَابًا فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (10) وَكَمْ قَصَمْنَا مِنْ قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً وَأَنْشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْمًا آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنَا إِذَا هُمْ مِنْهَا يَرْكُضُونَ (12) لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ (13) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (14) فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ (15)
يقول تعالى منبهاً على شرف القرآن ومحرضاً لهم على معرفة قدره : { لَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ } قال ابن عباس : شرفكم ، وقال مجاهد : حديثكم ، وقال الحسن : دينكم { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } : أي هذه النعمة وتتلقونها بالقبول ، كما قال تعالى : { وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ } [ الزخرف : 44 ] ، وقوله : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً } هذه صيغة تكثير ، كما قال : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ } [ الإسراء : 17 ] ، وقال تعالى : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا . . . } [ الحج : 45 ] الآية ، وقوله : { وَأَنشَأْنَا بَعْدَهَا قَوْماً آخَرِينَ } أي أمة أخرى بعدهم ، { فَلَمَّآ أَحَسُّواْ بَأْسَنَآ } أي تيقنوا أن العذاب واقع بهم لا محالة كما وعدهم نبيهم { إِذَا هُمْ مِّنْهَا يَرْكُضُونَ } أي يفرون هاربين ، { لاَ تَرْكُضُواْ وارجعوا إلى مَآ أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ } هذا تهكم بهم نزراً ، أي قيل لهم نزراً لا تركضوا هاربين من نزول العذاب وارجعوا إلى ما كنتم فيه من النعمة والسرور والمعيشة والمساكن الطيبة ، قال قتادة : استهزاء بهم { لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ } : أي عما كنتم فيه من أداء شكر النعم . { قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } اعترفوا بذنوبهم حين لا ينفعهم ذلك ، { فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ } : أي ما زالت تلك المقالة وهي الاعتراف بالظلم هِجيَراهم حتى حصدناهم حصداً ، وخمدت حركاتهم وأصواتهم خموداً .(1/1628)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاءَ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنَا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْوًا لَاتَّخَذْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فَاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ وَلَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ (18) وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَنْ عِنْدَهُ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَلَا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ (20)
يخبر تعالى أنه خلق السماوات والأرض بالحق أي بالعدل والقسط ، ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، وأنه لم يخلق ذلك عبثاً ولا لعباً ، كما قال : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار } [ ص : 27 ] ، وقوله تعالى : { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِين } ، قال مجاهد : يعني من عندنا ، يقول : وما خلقنا جنة ولا ناراً ولا موتاً ولا بعثاً ولا حساباً . وقال الحسن وقتادة { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً } اللهو : المرأة بلسان أهل اليمن ، وقال إبراهيم النخعي { لاَّتَّخَذْنَاهُ } من الحور العين . وقال عكرمة والسدي : والمراد باللهو هاهنا الولد ، وهذا والذي قبله متلازمان ، وهو كقوله تعالى : { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار } [ الزمر : 4 ] فنزه نفسه عن اتخاذ الولد مطلقاً ولا سيما عما يقولون من الإفك والباطل من اتخاذ عيسى أو العزير أو الملائكة { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } [ الإسراء : 43 ] ، وقوله { إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } قال قتادة والسدي : أي ما كنا فاعلين ، وقال مجاهد : كل شيء في القرآن « إن » فهو إنكار . وقوله : { بَلْ نَقْذِفُ بالحق عَلَى الباطل } أي نبين الحق فيدحض الباطل ولهذا قال : { فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ } أي ذاهب مضمحل ، { وَلَكُمُ الويل } أي أيها القائلون لله ولد { مِمَّا تَصِفُونَ } أي تقولون وتفترون . ثم أخبر تعالى عن عبودية الملائكة له ودأبهم في طاعته ليلاً ونهاراً ، فقال : { وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض وَمَنْ عِنْدَهُ } يعني الملائكة { لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } : أي لا يستنكفون عنها كما قال : { لَّن يَسْتَنكِفَ المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون } [ النساء : 173 ] ، وقوله : { وَلاَ يَسْتَحْسِرُونَ } أي لا يتبعون ولا يملون ، { يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } فهم دائبون في العمل ليلاً ونهاراً مطيعون قصداً وعملاً ، قادرون عليه كما قال تعالى : { لاَّ يَعْصُونَ الله مَآ أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ التحريم : 6 ] . وقال محمد بن إسحاق عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال : جلست إلى كعب الأحبار وأنا غلام ، فقلت له : أرأيت قول الله تعالى للملائكة : { يُسَبِّحُونَ اليل والنهار لاَ يَفْتُرُونَ } أما يشغلهم عن التسبيح الكلام والرسالة والعمل؟ فقال : من هذا الغلام؟ فقالوا : من بني عبد المطلب ، قال : فقبّل رأسي ثم قال : يا بني إنه جعل لهم التسبيح كما جعل لكم النفس ، أليس تتكلم وأنت تتنفس وتمشي وأنت تتنفس؟(1/1629)
أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتَا فَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لَا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ (23)
ينكر تعالى على من اتخذ من دونه آلهة فقال { أَمِ اتخذوا آلِهَةً مِّنَ الأرض هُمْ يُنشِرُونَ } أي يحيون الموتى وينشرونهم من الأرض؟ أي لا يقدرون على شيء من ذلك فكيف جعلوها لله نداً وعبدوها معه؟ ثم أخبر تعالى أنه لو كان في الوجود آلهة غيره لفسدت السماوات والأرض ، فقال { لَوْ كَانَ فِيهِمَآ آلِهَةٌ إِلاَّ الله } أي في السماوات والأرض { لَفَسَدَتَا } ، كقوله تعالى : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ } [ المؤمنون : 91 ] ، وقال هاهنا : { فَسُبْحَانَ الله رَبِّ العرش عَمَّا يَصِفُونَ } أي عما يقولون إن له ولداً أو شريكاً . وقوله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } أي هو الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يعترض عليه أحد لعظمته وجلاله وكبريائه ، وعدله { وَهُمْ يُسْأَلُونَ } أي وهو سائل خلقه عما يعملون ، كقوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92-93 ] .(1/1630)
أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ هَذَا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24) وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ (25)
يقول تعالى : { أَمِ اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً قُلْ } أي دليلكم عل ما تقولون ، { هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } يعني القرآن ، { هذا ذِكْرُ مَن مَّعِيَ } يعني القرآن ، { وَذِكْرُ مَن قَبْلِي } يعني الكتب المتقدمة على خلاف ما تقولونه وتزعمون ، فكل كتاب أنزل على كل نبي أرسل ، ناطق بأنه { لاَ إله إِلاَّ الله } [ الصافات : 35 ] ولكن أنتم أيها المشركون لا تعلمون الحق فأنتم معرضون عنه؛ ولهذا قال : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } ، كما قال : { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ؟ فكل نبي بعثه الله يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والفطرة شاهدة بذلك أيضاً ، والمشركون لا برهان لهم ، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد .(1/1631)
وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ (26) لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)
يقول تعالى راداً على من زعم أن له ولداً من الملائكة ، كمن قال ذلك من العرب إن الملائكة بنات الله فقال : { سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } أي الملائكة عباد الله مكرمون عنده ، في منازل عالية ومقامات سامية . وهم له في غاية الطاعة قولاً وفعلاً ، { لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ } أي لا يتقدمون بين يديه بأمر ولا يخالفونه فيما أمرهم به بل يبادرون إلى فعله ، وهو تعالى علمه محيط بهم فلا يخفى عليه منهم خافية ، { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } ، وقوله { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } ، كقوله : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وقوله : { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] في آيات كثيرة في معنى ذلك { وَهُمْ مِّنْ خَشْيَتِهِ } أي من خوفه ورهبته { مُشْفِقُونَ * وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ } أي ادعى منهم أنه إله من دون الله أي مع الله ، { فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين } أي كل من قال ذلك وهذا شرط والشرط لا يلزم وقوعه كقوله : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } [ الزخرف : 81 ] .(1/1632)
أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ (30) وَجَعَلْنَا فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجًا سُبُلًا لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ (32) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)
يقول تعالى منبهاً على قدرته التامة وسلطانه العظيم ، في خلقه الأشياء وقهره لجميع المخلوقات فقال : { أَوَلَمْ يَرَ الذين كفروا } أي الجاحدون لإلهيته العابدون معه غيره ، ألم يعلموا أن الله هوالمستقل بالخلق المستبد بالتدبير ، فكيف يليق أن يعبد معه غيره أو يشرك به ما سواه؟ ألم يروا أن السماوات والأرض { كَانَتَا رَتْقاً } أي كان الجميع متصلاً بعضه ببعض متلاصق ، متراكم بعضه فوق بعض في ابتداء الأمر ، ففتق هذه من هذه فجعل السماوات والأرض سبعاً ، وفصل بين السماء والأرض بالهواء ، فأمطرت السماء وأنبتت الأرض ، ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلاَ يُؤْمِنُونَ } أي وهم يشاهدون المخلوقات تحدث شيئاً فشيئاً عياناً . وذلك كله دليل على وجود الصانع الفاعل المختار القادر على ما يشاء :
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
عن عكرمة قال ، سئل ابن عباس : الليل كان قبل أو النهار؟ فقال : أرأيتم السماوات والأرض حين كانتا رتقاً هل كان بينهما إلاّ ظلمة؟ ذلك لتعلموا أن الليل قبل النهار . وروى ابن أبي حاتم ، عن ابن عمر : أن رجلاً أتاه يسأله عن السماوات والأرض كانتا رتقاً ففتقناهما؟ قال : اذهب إلى ذلك الشيخ ، فاسأله ، ثم تعالى فأخبرني بما قال لك ، قال ، فذهب إلى ابن عباس فسأله ، فقال ابن عباس : نعم ، كانت السماوات رتقاً لا تمطر وكانت الأرض رتقاً لا تنبت ، فلما خلق للأرض أهلاً فتق هذه بالمطر وفتق هذه بالنبات ، فرجع الرجل إلى ابن عمر فأخبره ، فقال ابن عمر ، قد كنت أقول : ما يعجبني جراءة ابن عباس في تفسير القرآن فالآن علمت أنه قد أوتي في القرآن علماً ، وقال عطية العوفي : كانت هذه رتقاً تمطر فأمطرت وكانت هذه رتقاً لا تنبت فأنبتت ، وقال سعيد بن جبير : كانت السماء والأرض ملتزقتين فلما رفع السماء وأبرز منها الأرض كان ذلك فتقهما الذي ذكر الله في كتابه ، وقال الحسن وقتادة : كانتا جميعاً ففصل بينهما بهذا الهواء ، وقوله { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } أي أصل كل الأحياء . عن أبي هريرة قال ، قلت : يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرت عيني ، فأنبئني عن كل شيء ، قال : « كل شيء خلق من ماء » قال ، قلت : أنبئني عن أمرٍ إذا علمت به دخلت الجنة؟ قال : أفش السلام ، وأطعم الطعام ، وصل الأرحام ، وقم بالليل والناس نيام ، ثم ادخل الجنة بسلام « .
وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي الأرض رَوَاسِيَ } أي جبالاً أرسى الأرض بها وثقلها لئلا تميد بالناس أي تضطرب وتتحرك فلا يحصل لهم قرار عليها ، لأنها غامرة في الماء إلاّ مقدار الربع ، فإنه باد للهواء والشمس ليشاهد أهلها السماء ، وما فيها من الآيات الباهرات والحكم والدلالات ، ولهذا قال { أَن تَمِيدَ بِهِمْ } : وقوله { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } أي ثغراً في الجبال يسلكون فيها طرقاً ، من قطر إلى قطر وإقليم إلى إقليم ، كما هو المشاهد في الأرض يكون الجبل حائلاً بين هذه البلاد وهذه البلاد ، فيجعل الله فيه فجوة ثغرة ليسلك الناس فيها من هاهنا إلى هاهنا ، ولهذا قال : { لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } ، وقوله { وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً } أي على الأرض وهي كالقبة عليها ، كما قال :(1/1633)
{ والسمآء بَنَيْنَاهَا بِأَييْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ } [ الذاريات : 47 ] ، وقال : { أَفَلَمْ ينظروا إِلَى السمآء فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِن فُرُوجٍ } [ ق : 6 ] ، والبناء هو نصب القبة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بني الإسلام على خمس » أي خمسة دعائم وهذا لا يكون إلاّ في الخيام كما تعهده العرب ، { مَّحْفُوظاً } أي عالياً محروساً أن ينال ، وقال مجاهد : مرفوعاً ، وقوله : { وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } كقوله : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] أي لا يتفكرون فيما خلق الله فيها من الاتساع العظيم والارتفاع الباهر ، وما زينت به من الكواكب الثوابت والسيارات في ليلها ونهارها ، من هذه الشمس التي تقطع الفلك بكماله في يوم وليله ، فتسير غاية لا يعلم قدرها إلاّ الله ، الذي قدّرها وسخّرها وسيّرها ، ثم قال منبهاً على بعض آياته { وَهُوَ الذي خَلَقَ الليل والنهار } أي هذا في ظلامه وسكونه ، وهذا بضيائه وأنسه ، يطول هذا تارة ثم يقصر أخرى وعكسه الآخر ، { والشمس والقمر } هذه لها نو يخصها وحركة وسير خاص . وهذا بنور آخر وفلك آخر وسير آخر وتقدير آخر ، { كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } أي يدورون . قال ابن عباس : يدورون كما يدور المغزل في الفلكة ، قال مجاهد : فلا يدور المغزل إلاّ بالفلكة ولا الفلكة إلاّ بالمغزل ، كذلك النجوم والشمس والقمر لا يدورون إلاّ به ولا يدور إلاّ بهن ، كما قال تعالى : { فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم } [ الأنعام : 96 ] .(1/1634)
وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (35)
يقول تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ } أي يا محمد { الخلد } أي في الدنيا بل { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام } [ الرحمن : 26-27 ] ، وقوله : { أَفَإِنْ مِّتَّ } أي يا محمد { فَهُمُ الخالدون } ؟ أي يؤملون أن يعيشوا بعدك! لا يكون هذا بل كلُّ إلى الفناء ، ولهذا قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت } وقد روي عن الشافعي رحمه الله أنه أنشد واستشهد بهذين البيتين :
تمنى رجال أن أموت وإن أمُتْ ... فتلك سبيل لست فيها بأوحد
فقل للذي يبغي خلاف الذي مضى ... تهيأْ لأخرى مثلها فكأن قد
وقوله تعالى : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } أي نختبركم بالمصائب تارة ، وبالنعم أخرى . فننظر من يشكر ومن يكفر ، ومن يصبر ومن يقنط ، قال ابن عباس : ونبلوكم يقول : نبتليكم بالشر والخير فتنة ، بالشدة والرخاء . والصحة والسَّقم ، والغنى والفقر ، والحلال والحرام ، والطاعة والمعصية ، والهدى والضلال ، وقوله : { وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } أي فنجازيكم بأعمالكم .(1/1635)
وَإِذَا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمَنِ هُمْ كَافِرُونَ (36) خُلِقَ الْإِنْسَانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آيَاتِي فَلَا تَسْتَعْجِلُونِ (37)
يقول تعالى لنبيّه صلوات الله وسلامه عليه : { وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا } يعني كفار قريش كأبي جهل وأشباهه { إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً } أي يستهزئون بك وينتقصونك ، يقولون { أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ } ؟ يعنون أهذا الذي يسب آلهتكم ويسفه أحلامكم ، قال تعالى : { وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ } أي وهم كافرون بالله ومع هذا يستهزئون برسول الله كما قال في الآية الأخرى : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] ؟ وقوله : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } كقوله : { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } أي في الأمور . والحكمة في ذكر عجلة الإنسان هاهنا ، أنه لما ذكر المستهزئين بالرسول صلوات الله وسلامه عليه ، وقع في النفوس سرعة الانتقام منهم واستعجلت ذلك ، فقال الله تعالى { خُلِقَ الإنسان مِنْ عَجَلٍ } لأنه تعالى يملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، يؤجل ثم يعجل ، وينظر ثم لا يؤخر ، ولهذا قال : { سَأُوْرِيكُمْ آيَاتِي } أي نقمي وحكمي واقتداري على من عصاني { فَلاَ تَسْتَعْجِلُونِ } .(1/1636)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لَا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَلَا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلَا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)
يخبر تعالى عن المشركين أنهم يستعجلون أيضاً بوقوع العذاب بهم ، تكذيباً وجحوداً وكفراً وعناداً فقال : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؟ قال الله تعالى : { لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ } أي لو تيقنوا أنها واقعة بهم لا محالة لما استعجلوا . ولو يعلمون حين يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِّنَ النار وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [ الزمر : 16 ] ، وقال في هذه الآية ، { حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ } ، فالعذاب محيط بهم من جميع جهاتهم { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } أي لا ناصر لهم ، كما قال : { وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ } [ الرعد : 34 ] ، وقوله : { بَلْ تَأْتِيهِم بَغْتَةً } أي تأتيهم النار بغتة أي فجأة ، { فَتَبْهَتُهُمْ } أي تذعرهم فيستسلمون لها ، حائرين لا يدرون ما يصنعون { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ رَدَّهَا } أي ليس لهم حيلة في ذلك ، { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي ولا يؤخر عنهم ذلك ساعة واحدة .(1/1637)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ مِنَ الرَّحْمَنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنَا لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43)
يقول تعالى مسلياً لرسوله عما آذاه به المشركون من الاستهزاء والتكذيب { وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } يعني من العذاب الذي كانوا يستبعدون وقوعه ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } [ الأنعام : 34 ] ثم ذكر تعالى نعمته على عبيده في حفظه لهم بالليل والنهار ، وكلاءته وحراسته لهم بعينه التي لا تنام ، فقال : { قُلْ مَن يَكْلَؤُكُم بالليل والنهار مِنَ الرحمن } أي بدل الرحمن يعني غيره ، وقوله تعالى : { بَلْ هُمْ عَن ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُّعْرِضُونَ } أي لا يعترفون بنعمة الله عليهم وإحسانه إليهم ، بل يعرضون عن آياته وآلائه ، ثم قال : { أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِّن دُونِنَا } استفهام إنكار وتقريع وتوبيخ ، أي ألهم آلهة تمنعهم وتكلؤهم غيرنا؟ ليس الامر كما توهموا ، لا ، ولا كما زعموا ، ولهذا قال : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ } أي هذه الآلهة التي استندوا إليها غير الله لا يستطيعون نصر أنفسهم ، وقوله : { وَلاَ هُمْ مِّنَّا يُصْحَبُونَ } قال ابن عباس : أي يجارون . وقال قتادة : لا يصحبون من الله بخير ، وقال غيره { يُصْحَبُونَ } يُمنعون .(1/1638)
بَلْ مَتَّعْنَا هَؤُلَاءِ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى طَالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَفَلَا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا أَفَهُمُ الْغَالِبُونَ (44) قُلْ إِنَّمَا أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَلَا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعَاءَ إِذَا مَا يُنْذَرُونَ (45) وَلَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (46) وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47)
يقول تعالى مخبراً عن المشركين إنما غرهم وحملهم على ما هم فيه من الضلال : أنهم متعوا في الحياة الدنيا ونعّموا . وطال عليهم العمر فيما هم فيه ، فاعتقدوا أنهم على شيء؛ ثم قال واعظاً لهم : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ } اختلف المفسرون في معناه ، وقد أسلفناه في سورة الرعد ، وأحسن ما فسر بقوله تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأحقاف : 27 ] ، وقال الحسن البصري يعني بذلك ظهور الإسلام على الكفر . والمعنى : أفلا يعتبرون بنصر الله لأوليائه على أعدائه؟ وإهلاكه الأمم المكذبة والقرى الظالمة وإنجائه لعباده المؤمنين؟ ولهذا قال : { أَفَهُمُ الغالبون } يعني بل هم المغلوبون الأخسرون الأرذلون ، وقوله : { قُلْ إِنَّمَآ أُنذِرُكُم بالوحي } أي إنما أنا مبلغ عن الله ما أنذرتكم به من العذاب والنكال ، ليس ذلك إلاّ عما أوحاه الله إليَّ ولكن لا يجدي هذا عمن أعمى الله بصيرته وختم على سمعه وقلبه ، ولهذا قال : { وَلاَ يَسْمَعُ الصم الدعآء إِذَا مَا يُنذَرُونَ } ، وقوله : { وَلَئِن مَّسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِّنْ عَذَابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } ، أي ولئن مسَّ هؤلاء المكذبين أدنى شيء من عذاب الله ، ليعترفن بذنوبهم وأنهم كانوا ظالمين أنفسهم في الدنيا ، وقوله : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } أي ونضع الموازين العدل ليوم القيامة ، الأكثر على أنه إنما هو ميزان واحد وإنما جمع باعتبار تعدد الأعمال المرزونة فيه ، وقوله : { فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } ، كما قال تعالى : { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] ، وقال : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } [ النساء : 40 ] ، وقال لقمان : { يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 16 ] .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كلمتان خفيفتان على اللسان ثقيلتان في الميزان ، حبيبتان إلى الرحمن سبحان الله وبحمده سبحان الله العظيم » ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله عزَّ وجلَّ يستخلص رجلاً من أمتي على رؤوس الخلائق يوم القيامة فينشر عليه تسعة وتسعين سجلاً كل سجل مد البصر ، ثم يقول : أتنكر من هذا شيئاً؟ أظلمك كتبتي الحافظون؟ قال : لا يا رب ، قال : أفلك عذر أو حسنة؟ قال : فبهت الرجل ، فيقول : يا رب ، فيقول : بلى ، إن لك عندنا حسنة واحدة لا ظلم عليك اليوم ، فيخرج له بطاقة فيها أشهد أن لا إله إلاّ الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، فيقول : أحضروه ، فيقول : يا رب ما هذه البطاقة مع هذه السجلات؟ فيقول : إنك لا تظلم ، قال : فتوضع السجلات في كفة والبطاقة في كفة ، قال : فطاشت السجلات وثقلت البطاقة ، قال : ولا يثقل شيء مع بسم الله الرحمن الرحيم »(1/1639)
، وقال الإمام أحمد ، عن عائشة ، « أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم جلس بين يديه فقال : يا رسول الله إن لي مملوكين يكذبونني ويخونونني ويعصونني ، وأضربهم وأشتمهم فكيف أنا منهم؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يحسب ما خانوك وعصوك وكذبوك وعقابك إياهم ، فإن كان عقابك إياهم بقدر ذنوبهم كان كفافاً لا لك ولا عليك ، وإن كان عقابك إياهم دون ذنوبهم كان فضلاً لك ، وإن كان عقابك إياهم فوق ذنوبهم اقتص لهم منك الفضل الذي بقي قبلك « ، فجعل الرجل يبكي بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما له لا يقرأ كتاب الله { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } فقال الرجل : يا رسول الله ما أجد شيئاً خيراً من فراق هؤلاء - يعني عبيدة - إني أشهدك أنهم أحرار كلهم « .(1/1640)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى وَهَارُونَ الْفُرْقَانَ وَضِيَاءً وَذِكْرًا لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَهُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَهَذَا ذِكْرٌ مُبَارَكٌ أَنْزَلْنَاهُ أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)
قد تقدم التنبيه على أن الله تعالى كثيراً ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد صلوات الله وسلامه عليهما وبين كتابيهما ولهذا قال : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى وَهَارُونَ الفرقان } ، قال مجاهد : يعني الكتاب ، وقال قتادة : التوراة حلالها وحرامها وما فرق الله بين الحق والباطل ، وقال ابن زيد : يعني النصر ، وجامع القول في ذلك أن الكتب السماوية مشتملة على التفرقة بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، والحلال والحرام وعلى ما يحصل نوراً في القلوب ، وهداية وخوفاً ، وإنابة وخشية ، ولهذا قال : { الفرقان وَضِيَآءً وَذِكْراً لَّلْمُتَّقِينَ } أي تذكيراً لهم وعظة ، ثم وصفهم فقال : { الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بالغيب } ، كقوله : { مَّنْ خَشِيَ الرحمن بالغيب وَجَآءَ بِقَلْبٍ مُّنِيبٍ } [ ق : 33 ] ، وقوله : { إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ الملك : 12 ] ، { وَهُمْ مِّنَ الساعة مُشْفِقُونَ } أي خائفون وجلون ، ثم قال تعالى : { وهذا ذِكْرٌ مُّبَارَكٌ أَنزَلْنَاهُ } يعني القرآن العظيم الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد { أَفَأَنْتُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } أي أفتنكرونه وهو في غاية الجلاء والظهور؟(1/1641)
وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ (51) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ (52) قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ (53) قَالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (54) قَالُوا أَجِئْتَنَا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ (55) قَالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَأَنَا عَلَى ذَلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56)
يخبر تعالى عن خليله إبراهيم عليه السلام أنه آتاه رشده من قبل ، أي من صغره ألهمه الحق والحجة على قومه كما قال تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ } [ الأنعام : 83 ] ، والمقصود أن الله تعالى أخبر أنه قد آتى إبراهيم رشده من قبل أي من قبل ذلك ، وقوله : { وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } أي وكان أهلاً لذلك ، ثم قال : { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } هذا هو الرشد الذي أوتيه من صغره الإنكار على قومه في عبادة الأصنام من دون الله عزّ وجلّ ، فقال : { مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } : أي معتكفون على عبادتها ، قال ابن أبي حاتم : مرَّ علي رضي الله عنه على قوم يلعبون بالشطرنج ، فقال : ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ لأن يمس أحدكم جمراً حتى يطفأ خير له من أن يمسها ، { قَالُواْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا لَهَا عَابِدِينَ } لم يكن لهم حجة سوى صنيع آبائهم الضلال ، ولهذا قال : { لَقَدْ كُنتُمْ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمْ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي الكلام مع آبائكم الذين احتججتم بصنيعهم كالكلام معكم ، فأنتم وهم في ضلال على غير الطريق المستقيم ، فلما سفه أحلامهم وضلل آباءهم واحتقر آلهتهم { قالوا أَجِئْتَنَا بالحق أَمْ أَنتَ مِنَ اللاعبين } ؟ يقولون : هذا الكلام الصادر عنك تقوله لاعباً أو محقاً فيه فإنها لم نسمع به قبلك . { قَالَ بَل رَّبُّكُمْ رَبُّ السماوات والأرض الذي فطَرَهُنَّ } أي ربكم الذي لا إله غيره وهو الذي خلق السماوات والأرض وما حوت من المخلوقات ، الذي ابتدأ خلقهن وهو الخالق لجميع الأشياء { وَأَنَاْ على ذلكم مِّنَ الشاهدين } أي وأنا أشهد أنه لا إله غيره ولا رب سواه .(1/1642)
وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58) قَالُوا مَنْ فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ (60) قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قَالُوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ (62) قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِنْ كَانُوا يَنْطِقُونَ (63)
ثم أقسم الخليل قسماً أسمعه بعض قومه ليكيدن أصنامهم ، أي ليحرضن على أذاهم وتكسيرهم بعد أن يولوا مدبرين أي إلى عيدهم ، وكان لهم عيد يخرجون إليه ، قال السدي : لما اقترب وقت ذلك العيد قال أبوه : يا بني لو خرجت معنا إلى عيدنا لأعجبك ديننا ، فخرج معهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض وقال : إني سقيم ، فجعلوا يمرون عليه لأعجبك ديننا ، فخرج معهم فلما كان ببعض الطريق ألقى نفسه إلى الأرض وقال : إني سقيم ، فجعلوا يمرون عليه وهو صريع فيقولون : مه ، فيقول : إني سقيم ، فلما جاز عامتهم وبقي ضعفاؤهم ، قال : { تالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ } ، فسمعه أولئك . وقال إني إسحاق ، عن عبد الله قال : لما خرج قوم إبراهيم إلى عيدهم مروا عليه فقالوا : يا إبراهيم ألا تخرج معنا؟ قال : إني سقيم وقد كان بالأمس قال : { وتالله لأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُمْ بَعْدَ أَن تُوَلُّواْ مُدْبِرِينَ } فسمعه ناس منهم ، وقوله : { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً } أي حطاماً كسرها كلها { إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ } يعني إلا الصنم الكبير عندهم ، كما قال : { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين } [ الصافات : 93 ] ، وقوله : { لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } ذكروا أنه وضع القدوم في يد كبيرهم لعلهم يعتقدون أنه هو الذي غار لنفسه ، وأنف أن تعبد معه هذه الأصنام الصغار فكسرها . { قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين } ؟ أي حين رجعوا وشاهدوا ما فعله الخليل بأصنامهم ، من الإهانة والإذلال الدال على عدم إلهيتها ، وعلى سخافة عقول عابديها ، { قَالُواْ مَن فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنَآ إِنَّهُ لَمِنَ الظالمين } أي في صنيعه هذا ، { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } أي قال من سمعه يحلف إنه ليكيدنهم { سَمِعْنَا فَتًى } أي شاباً يذكرهم يقال له إبراهيم . عن ابن عباس قال : ما بعث الله نبياً إلا شاباً ولا أوتي العلم عالم إلا وهو شاب ، وتلا هذه الآية : { قَالُواْ سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ } . وقوله : { قَالُواْ فَأْتُواْ بِهِ على أَعْيُنِ الناس } أي على رؤوس الأشهاد في الملأ الأكبر بحضرة الناس وقلة عقلهم ، في عبادة هذه الأصنام التي لا تدفع عن نفسها ضراً ولا تملك لها نصراً ، فكيف يطلب منها شيء من ذلك؟ { قالوا أَأَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنَا ياإبراهيم * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } يعني الذي تركه لم يكسره ، { فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُواْ يِنْطِقُونَ } ، وإنما أراد بهذا أن يبادروا من تلقاء أنفسهم فيعترفوا أنهم لا ينطقون ، وأن هذا لا يصدر عن هذا الصنم لأنه جماد .
وفي « الصحيحين » ، عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن إبراهيم عليه السلام لم يكذب غير ثلاث : ثنتين في ذات الله ، قوله : { بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا } ، وقوله : { إِنِّي سَقِيمٌ } [ الصافات : 89 ] . قال : وبينا هو يسير في أرض جبار من الجبابرة ومعه ( سارة ) إذ نزل منزلاً . فأتى الجبار رجل فقال : إنه قد نزل ههنا رجل بأرضك معه امرأة أحسن الناس ، فأرسل إليه فجاءه ، فقال : ما هذه المرأة منك؟ قال : أختي ، قال : فاذهب فارسل بها إليّ ، فانطلق إلى سارة فقال : إن هذا الجبار قد سألني عنك فأخبرته أنك أختي ، فلا تكذبيني عنده ، فإنك أختي في كتاب الله ، وإنه ليس في الأرض مسلم غيري وغيرك ، فانطلق بها إبراهيم ثم قام يصلي ، فلما أن دخلت عليه فرآها أهوى إليها فتناولها فأُخِذَ أخذاً شديداً ، فقال : ادعي الله لي ولا أضرك ، فدعت له فأرسل ، فأهوى إليها فتناولها ، فأخذ بمثلها أو أشد ، ففعل ذلك ثانية ، فأخذ ، فذكر مثل المرتين الأوليين ، فقال : ادعي الله فلا أضرك ، فدعت له فأرسل ، ثم دعا أدنى حجابه فقال : إنك لم تأتني بإنسان ولكنك أتيتني بشيطان ، أخرجها وأعطها هاجر ، فأخرجت وأعطيت هاجر فأقبلت ، فلما أحس إبراهيم بمجيئها انفتل من صلاته وقال : مَهيم ، قالت : كفى الله كيد الكافر الفاجر فأخدمني هاجر »(1/1643)
، قال محمد بن سيرين : فكان أبو هريرة إذا حدث بهذا الحديث قال : تلك أمكم يا بني ماء السماء .(1/1644)
فَرَجَعُوا إِلَى أَنْفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُءُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاءِ يَنْطِقُونَ (65) قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (67)
يقول تعالى مخبراً عن قوم إبراهيم حين قال لهم ما قال : { فرجعوا إلى أَنفُسِهِمْ } أي بالملامة ، فقالوا { إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظالمون } ، أي في ترككم لها مهملة لا حافظ عندها ، { ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ } أي ثم أطرقوا في الأرض فقالوا { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ } ، قال قتادة : أدركت القوم حيرة سوء فقالوا { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ } ، وقال السدي { ثُمَّ نُكِسُواْ على رُءُوسِهِمْ } : أي في الفتنة ، وقول قتادة أظهر في المعنى لأنهم إنما فعلوا ذلك حيرة وعجزاً ، ولهذا قالوا له { لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هؤلاء يَنطِقُونَ } فكيف تقول لنا سلوهم إن كانوا ينطقون وأنت تعلم أنها لا تنطق ، فعندها قال لهم إبراهيم لما اعترفوا بذلك { أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُكُمْ شَيْئاً وَلاَ يَضُرُّكُمْ } ؟ أي إذا كانت لا تنطق وهي لا تنفع ولا تضر فلم تعبدونها من دون الله؟ { أُفٍّ لَّكُمْ وَلِمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؟! أي أفلا تتدبرون ما أنتم فيه من الضلال والكفر الغليظ ، الذي لا يروج إلا على جاهل ظالم فاجر؟ فأقام عليهم الحجة وألزمهم بها ، ولهذا قال تعالى : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ } [ الأنعام : 83 ] الآية .(1/1645)
قَالُوا حَرِّقُوهُ وَانْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (68) قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلَامًا عَلَى إِبْرَاهِيمَ (69) وَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)
لما دحضت حجتهم وبان عجزهم وظهر الحق واندفع الباطل ، عدلوا إلى استعمال جاه ملكهم فقالوا : { حَرِّقُوهُ وانصروا آلِهَتَكُمْ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } فجمعوا حطباً كثيراً جداً ، قال السدي : حتى إن كانت المرأة تمرض فتنذر إن عوفيت أن تحمل حطباً لحريق إبراهيم ، ثم جعلوه في جَوَبة من الأرض وأضرموها ناراً فكان لها شرر عظيم ولهب مرتفع لم توقد نار قط مثلها ، وجعلوا إبراهيم عليه السلام في كفة المنجنيق بإشارة رجل من أعراب فارس من الأكراد ، فلما ألقوه قال : حسبي الله ونعم الوكيل ، روى البخاري عن ابن عباس أنه قال : حسبي الله ونعم الوكيل قالها إبراهيم حين ألقي في النار ، وقالها محمد عليهما السلام حين قالوا : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } [ آل عمران : 173 ] ، وروى الحافظ أبو يعلى ، عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما ألقي إبراهيم عليه السلام في النار ، قال : اللهم إنك في السماء واحد وأنا في الأرض واحد أعبدك » ، ويروى لما جعلوا يوثقونه قال : لا إله إلا أنت سبحانك لك الحمد ولك الملك لا شريك لك؛ وكان عمره إذ ذاك ست عشرة سنة .
وذكر بعض السلف أنه عرض له جبريل وهو في الهواء ، فقال : ألك حاجة؟ فقال : أما إليك فلا ، وأما من الله فلي . ويروى عن ابن عباس قال : لما ألقي إبراهيم جعل خازن المطر يقول : متى أومر بالمطر فأرسله ، قال : فكان أمر الله أسرع من أمره ، قال الله : { يانار كُونِي بَرْداً وسلاما على إِبْرَاهِيمَ } قال : لم يبق نار في الأرض إلا طفئت ، وقال كعب الأحبار : لم تحرق النار من إبراهيم سوى وثاقه ، وقال ابن عباس : لولا أن الله عزّ وجلّ قال { وسلاما } لآذى إبراهيم بردها ، وقال أبو هريرة : إن أحسن شيء قال أبو إبراهيم لما رفع عنه الطبق وهو في النار وجده يرشح جبينه قال عند ذلك : نعم الرب ربك يا إبراهيم . وقال قتادة : لم يأت يومئذٍ دابة إلا أطفأت عنه النار إلا الوَزَغ . وقال الزهري : أمر النبي صلى الله عليه وسلم بقتله وسماه فويسقا ، وعن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن إبراهيم حين ألقي في النار لم يكن في الأرض دابة إلا تطفئ النار غير الوزغ فإنه كان ينفخ على إبراهيم » ، فأمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتله . وقوله : { وَأَرَادُواْ بِهِ كَيْداً فَجَعَلْنَاهُمُ الأخسرين } ، أي المغلوبين الأسفلين لأنهم أرادوا بنبي الله كيداً ، فكادهم الله ونجاه ن النار فغلبوا هنالك ، وقال عطية العوفي : لما ألقي إبراهيم في النار جاء ملكهم لينظر إليه فطارت شرارة فوقعت على إبهامه فأحرقته مثل الصوفة .(1/1646)
وَنَجَّيْنَاهُ وَلُوطًا إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا لِلْعَالَمِينَ (71) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً وَكُلًّا جَعَلْنَا صَالِحِينَ (72) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ (73) وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ تَعْمَلُ الْخَبَائِثَ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ (74) وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)
يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم ، أنه سلمه الله من نار قومه وأخرجه من بين أظهرهم ، مهاجراً إلى بلاد الشام إلى الأرض المقدسة منها ، عن أبي بن كعب قال : هي الشام ، وما من ماء عذب إلا يخرج من تحت الصخرة ، وقال قتادة : كان بأرض العراق ، فأنجاه الله إلى الشام ، وكان يقال للشام أعقار دار الهجرة ، وما نقص من الأرض يزيد في الشام ، وما نقص من الشام زيد في فلسطين ، وكان يقال هي أرض المحشر والمنشر وبها ينزل عيسى ابن مريم عليه السلام وبها يهلك المسيح الدجال ، وقوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } النافلة : ولد الولد يعني أن يعقوب ولد إسحاق ، كما قال : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] ، وقال عبد الرحمن بن أسلم : سأل واحداً فقال : { رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصالحين } [ الصافات : 100 ] فأعطاه الله إسحاق وزاده يعقوب نافلة ، { وَكُلاًّ جَعَلْنَا صَالِحِينَ } أي الجميع أهل خير وصلاح ، { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً } أي يقتدى بهم { يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا } أي يدعون إلى الله بإذنه ، ولهذا قال : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِمْ فِعْلَ الخيرات وَإِقَامَ الصلاة وَإِيتَآءَ الزكاة } من باب عطف الخاص على العام ، { وَكَانُواْ لَنَا عَابِدِينَ } : أي فاعلين لما يأمرون الناس به ، وكان قد آمن بإبراهيم عليه السلام واتبعه وهاجر معه ، كما قال تعالى : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي إِنَّهُ هُوَ العزيز الحكيم } [ العنكبوت : 26 ] فآتاه الله حكماً وعلماً وأوحى إليه وجعله نبياً وبعه إلى ( سدوم ) وأعمالها فخالفون وكذبوه ، فأهلكهم الله ودمر عليهم كما قص خبرهم في غير موضع من كتابه العزيز ، ولهذا قال : { وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ القرية التي كَانَت تَّعْمَلُ الخبائث إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَاسِقِينَ * وَأَدْخَلْنَاهُ فِي رَحْمَتِنَآ إِنَّهُ مِنَ الصالحين } .(1/1647)
وَنُوحًا إِذْ نَادَى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَنَصَرْنَاهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (77)
يخبر تعالى عن استجابته لعبده ورسوله نوح عليه السلام حين دعا على قومه لما كذبوه . { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر } [ القمر : 10 ] ، وقال نوح : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ، ولهذا قال هاهنا : { إِذْ نادى مِن قَبْلُ فاستجبنا لَهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ } أي الذين آمنوا به ، كما قال : { وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ آمَنَ وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] ، وقوله : { مِنَ الكرب العظيم } أي من الشدة والتكذيب والأذى فإنه لبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ فلم يؤمن به منهم إلا القليل ، وكانوا يتصدون لأذاه ويتواصون قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل على خلافه ، وقوله : { وَنَصَرْنَاهُ مِنَ القوم } أي ونجيناه وخلصناه منتصراً من القوم { الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ } ، أي أهلكهم الله بعامة ، ولم يبق على وجه الأرض نهم أحد كما دعا عليهم نبيهم .(1/1648)
وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ (79) وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شَاكِرُونَ (80) وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ (81) وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَيَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ (82)
قال ابن عباس : النفش الرعي ، وقال قتادة : النفش لا يكون إلا بالليل ، والهمل بالنهار ، وعن ابن مسعود في قوله : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم } قال : كرم قد أنبتت عناقيده فأفسدته ، قال : فقضى داود بالغنم لصاحب الكرم . فقال سليمان : غير هذا يا نبي الله ، قال : وما ذاك؟ قال : تدفع الكلم إلى صاحب الغنم ، فيقوم عليه حتى يعود كما كان ، وتدفع الغنم إلى صاحب الكرم فيصيب منها حتى إذا كان الكرم كما كان ، دفعت الكرم إلى صاحبه ، ودفعت الغنم إلى صحابها ، فذلك قوله : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ } وروى ابن أبي حاتم ، عن مسروق قال : الحرث الذي نفشت فيه الغنم إنما كان كرماً فلم تدع فيه ورقة ولا عنقوداً من عنب إلا أكلته ، فأتوا داود فأعطاهم رقابها ، فقال سليمان : لا ، بل تؤخذ الغنم فيعطاها أهل الكرم ، فيكون لهم لبنها ونفعها ، ويعطى أهل الغنم الكرم فيعمروه ويصلحوه حتى يعود كالذي كان ليلة نفشت فيه الغنم ، ثم يعطي أهل الغنم غنمهم وأهل الكرم وكرمهم .
وقوله تعالى : { فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلاًّ آتَيْنَا حُكْماً وَعِلْماً } قال ابن أبي حاتم : إن ( إياس بن معاوية ) لما استقضي أتاه الحسن فبكى ، فقال : ما يبكيك؟ قال : يا أبا سعيد بلغني أن القضاة : رجل اجتهد فأخطأ فهو في النار ، ورجل مال به الهوى فهو في النار ، ورجل اجتهد فأصاب فهو في الجنة ، فقال الحسن البصري : إن فيما قص الله من نبأ داود وسليمان عليهما السلام والأنبياء حكماً يرد قول هؤلاء الناس عن قولهم ، قال الله تعالى : { وَدَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الحرث إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ القوم وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ } فأثنى الله على سليمان ولم يذم داود ، ثم قال الحسن : إن الله اتخذ على الحكام ثلاثاً : لا يشتروا به ثمناً قليلاً ، ولا يتبعوا فيه الهوى ولا يخشوا فيه أحداً ثم تلا : { ياداوود إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق وَلاَ تَتَّبِعِ الهوى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله إِنَّ الذين يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ الله } { فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون } [ المائدة : 44 ] ، وقال : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } [ المائدة : 44 ] . وفي « صحيح البخاري » عن عمرو بن العاص أنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإذا اجتهد فأخطأ فله أجر » ، وفي « السنن » : القضاة ثلاثة قاض في الجنة وقاضيان في النار : رجل علم الحق وقضى به فهو في الجنة ، ورجل حكم بين الناس على جهل فهو في النار ، ورجل علم الحق وقضى بخلافه فهو في النار ، وقريب من هذه القصة المذكورة في القرآن ما رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/1649)
« بينما امرأتان معهما ابنان لهما إذ جاء الذئب ، فأخذ أحد الابنين ، فتحاكمتا إلى داود ، فقضى به للكبرى ، فخرجتا ، فدعاهما سليمان ، فقال : هاتوا السكين أشقه بينكما ، فقالت الصغرى : يرحمك الله هو ابنها لا تشقه ، فقضى به للصغرى » .
وقوله تعالى : { وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الجبال يُسَبِّحْنَ والطير } الآية ، وذلك لطيب صوته بتلاوة الزبور ، وكان ذا ترنم به تقف الطير في الهواء فتجاوبه ، وترد عليه الجبال تأويباً ، ولهذا لما مرّ النبي صلى الله عليه وسلم على أبي موسى الأشعري وهو يتلو القرآن من الليل ، وكان له صوت طيب جداً ، فوقف واستمع لقراءته ، وقال : « لقد أوتي هذا مزماراً من مزامير آل داود » ، قال : يا رسول الله لو علمت أنك تستمع لحَبَّرْتًه لك تحبيراً ، وقوله : { وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ } يعني صنعة الدروع ، قال قتادة : إنما كانت الدروع قبله صفائح وهو أول من سردها حلقاً ، كما قال تعالى : { وَأَلَنَّا لَهُ الحديد * أَنِ اعمل سَابِغَاتٍ وَقَدِّرْ فِي السرد } [ سبأ : 10-11 ] أي لا توسع الحلقة فتفلق المسمار ولا تغلظ المسمار فتقد الحلقة ، ولهذا قال : { لِتُحْصِنَكُمْ مِّن بَأْسِكُمْ } يعني في القتال ، { فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ } أي نعم الله عليكم لما ألهم به عبده داود فعلمه ذلك من أجلكم ، وقوله : { وَلِسُلَيْمَانَ الريح عَاصِفَةً } أي وسخرنا لسليمان الريح العاصفة { تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأرض التي بَارَكْنَا فِيهَا } يعني أرض الشام { وَكُنَّا بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ } ، وذلك أنه كان له بساط من خشب يوضع عليه كل ما يحتاج إليه من أمور المملكة والخيل والجمال والخيام والجند ، ثم يأمر الريح أن تحمله فتدخل تحته ثم تحمل وترفعه وتسير به ، وتظله الطير تقيه الحر إلى حيث يشاء من الأرض ، فينزلوتوضع آلاته وحشمه ، قال الله تعالى : { فَسَخَّرْنَا لَهُ الريح تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَآءً حَيْثُ أَصَابَ } [ ص : 36 ] ، عن سعيد بن جبير قال : كان يوضع لسليمان ألف كرسي فيجلس مما يليه مؤمنو الإنس ، ثم يجلس من ورائهم مؤمنو الجن ، ثم يأمر الطير فتظلهم ، ثم يأمر الريح فتحملهم صلى الله عليه وسلم . وقوله : { وَمِنَ الشياطين مَن يَغُوصُونَ لَهُ } أي في الماء يستخرجون اللآلئ ، والجواهر وغير ذلك ، { وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلك } أي غير ذلك كما قال تعالى : { والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد } [ ص : 37-38 ] ، وقوله : { وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ } أي يحرسه الله أن يناله أحد من الشياطين بسوء ، بل كل في قبضته وتحت فهره لا يتجاسر أحد منهم على الدنو إليه والقرب منه ، بل هو يحكم فيهم إن شاء أطلق وإن شاء حبس منهم من يشاء ، ولهذا قال : { وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد } [ ص : 38 ] .(1/1650)
وَأَيُّوبَ إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ فَكَشَفْنَا مَا بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَذِكْرَى لِلْعَابِدِينَ (84)
يذكر تعالى عن أيوب عليه السلام ما كان أصابه من البلاء من ماله وولده وجسده؛ وذلك أنه كان له من الدواب والأنعام والحرث شيء كثير وأولاد كثيرة ومنازل مرضية ، فابتلي في ذلك كله وذهب عن آخره . وقد روي أنه مكث في البلاء مدة طويلة ، ثماني عشرة سنة ، فرفضه القريب والبعيد ، إلا رجلين من إخوانه كانا من أخص إخوانه له ، كانا يغدوان إليه ويروحان ، فقال أحدهما لصاحبه : تعلم والله لقد أذنب أيوب ذنباً ما أذنبه أحد من العالمين ، فقال له صاحبه : وما ذاك؟ قال : منذ ثماني عشرة سنة لم يرحمه الله فيكشف ما به ، فلما راحا إليه لم يصبر الرجل ، حتى ذكر ذلك له ، فقال أيوب عليه السلام : ما أدري ما تقول غير أن الله عز وجل يعلم أني كنت أمر على الرجلين يتنازعان فيذكران الله ، فأرجع إلى بيتي فأكفّر عنهما كراهية أن يذكرا الله إلا في حق . قال ابن عباس : ورد عليه ماله عياناً ومثلهم معهم ، وقال وهب بن منبه : أوحى الله إلى أيوب : قد رددت عليك أهلك ومالك ومثلهم معهم ، فاغتسل بهذا الماء ، فإن فيه شفاءك ، وقرب عن صحابتك قرباناً واستغفر لهم فإنهم قد عصوني فيك ، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لما عافى الله أيوب أمطر عليه جراداً من ذهب ، فجعل يأخذ منه بيده ويجعله في ثوبه قال : فقيل له : يا أيوب أما تشبع؟ قال : يا رب ومن يشبع من رحمتك » وقوله : { وَآتَيْنَاهُ أَهْلَهُ وَمِثْلَهُمْ مَّعَهُمْ } قد تقدم عن ابن عباس أنه قال : ردوا علهي بأعينهم ، وقد زعم بعضهم أن اسم زوجته ( رحمة ) ويقال ( ليا ) نبت يعقوب عليه السلام ، وقال مجاهد : قيل له : يا أيوب إن أهلك في الجنة ، فإن شئت أتيناك بهم ، وإن شئت تركناهم لك في الجنة وعوضناك مثلهم ، قال : لا بل أتركهم في الجنة ، فتركوا له في الجنة ، وعوض مثلهم في الدنيا ، وقوله : { رَحْمَةً مِّنْ عِندِنَا } أي فعلنا به ذلك رحمة من الله به { وذكرى لِلْعَابِدِينَ } أي وجعلناه في ذلك قدوة لئلا يظن أهل البلاء أنما فعلنا بهم ذلك لهوانهم علينا ، وليتأسوا به في الصبر على مقدورات الله ، وابتلائه لعباده بما يشاء ، وله الحكمة البالغة في ذلك .(1/1651)
وَإِسْمَاعِيلَ وَإِدْرِيسَ وَذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَأَدْخَلْنَاهُمْ فِي رَحْمَتِنَا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)
وأما إسماعيل فالمراد به ابن إبراهيم الخليل عليهما السلام ، وقد تقدم ذكره في سورة مريم ، وكذا إدريس عليه السلام . وأما ذو الكفل فالظاهر من السياق أنه ما قرن مع الأنبياء إلا وهو نبي ، وقال آخرون : إنما كان رجلاً صالحاً وكان ملكاً عادلاً وحكماً مقسطاً؛ وتوقف ابن جرير في ذلك فالله أعلم . قال مجاهد في قوله : { وَذَا الكفل } قال : رجل صالح غير نبي تكفل لنبي قومه أن يكفيه أمر قومه ، ويقيمهم له ، ويقضي بينهم بالعدل ، ففعل ذلك ، فسمي ذا الكفل . وقال ابن أبي حاتم ، عن كنانة بن الأخنس قال : سمعت الأشعري وهو يقول على هذا المنبر : ما كان ذو الكفل بنبي ولكن كان - يعني في بني إسرائيل - رجل صالح يصلي كل يوم مائة صلاة ، فتكفل له ذو الكفل من بعده ، فكان يصلي كل يوم مائة صلاة فسمي ذا الكفل .(1/1652)
وَذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغَاضِبًا فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنَادَى فِي الظُّلُمَاتِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الْغَمِّ وَكَذَلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)
هذه القصة مذكورة هاهنا وفي الصافات وفي سورة ن ، وذلك أن ( يونس بن متى ) عليه السلام بعثه الله إلى أهل نينوى ، وهي قرية من أرض الموصل ، فدعاهم إلى الله تعالى ، فأبوا عليه ، وتمادوا على كفرهم ، فخرج من بين أظهرهم مغاضباً لهم ، ووعدهم بالعذاب بعد ثلاث ، فلما تحققوا منه ذلك وعلموا أن النبي لا يكذب ، خرجوا إلى الصحراء بأطفالهم وأنعامهم ومواشيهم ، ثم تضرعوا إلى الله عز وجل ، وجأروا إليه فرفع الله عنهم العذاب ، قال الله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } [ يونس : 98 ] .
وأما يونس عليه السلام فإنه ذهب فركب مع قوم في سفينة ، فلججت بهم ، وخافوا أن يغرقوا ، فاقترعوا على رجل يلقونه من بينهم يتخففون منه ، فوقعت القرعة على يونس ، فأبوا أن يلقوه ، ثم أعادوا فوقعت عليه أيضاً ، فأبوا ، ثم أعادوها فوقعت عليه أيضاً ، قال الله تعالى : { فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ المدحضين } [ الصافات : 141 ] ، فقام يونس عليه السلام وتجرد من ثيابه ، ثم ألقى نفسه في البحر ، وقد أرسل الله سبحانه حوتاً يشق البحار ، حتى جاء فالتقم ( يونس ) حين ألقى نفسه من السفينة ، فأوحى الله إلى ذلك الحوت أن لا تأكل له لحماً ولا تهشم له عظماً ، فإن يونس ليس لك رزقاً ، وإنما بطنك تكون له سجناً ، وقوله : { وَذَا النون } يعني الحوت صحت الإضافة إليه بهذه النسبة ، وقوله : { إِذ ذَّهَبَ مُغَاضِباً } قال الضحّاك : لقومه { فَظَنَّ أَن لَّن نَّقْدِرَ عَلَيْهِ } أي نضيّق عليه في بطن الحوت ، وقال عطية العوفي : أي نقضي عليه ، فإن العرب تقول : قدر وقدّر بمعىن واحد . ومنه قوله تعالى : { فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } [ القمر : 12 ] : أي قدّر ، وقوله : { فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ } قال ابن مسعود : ظلمة بطن الحوت ، وظلمة البحر ، وظلمة الليل ، وذلك أنه ذهب به الحوت في البحار يشقها حتى انتهى به إلى قرار البحر ، فسمع يونس تسبيح الحصى في قراره ، فعند ذلك قال : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } ، وقيل : مكث في بطن الحوت أربعين يوماً ، وقوله : { فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم } أخرجناه من بطن الحوت وتلك الظلمات { وكذلك نُنجِي المؤمنين } أي إذا كانوا في الشدائد ودعونا منيبين إلينا . قال صلى الله عليه وسلم : « دعوة ذي النون إذ هو في بطن الحوت » : { لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين } ، فإنه لم يدع بها مسلم ربه في شيء إلى استجاب له « وفي الحديث : » من دعا يونس استجيب له « ، قال أبو سعيد يريد به { وكذلك نُنجِي المؤمنين } . وعن سعيد بن أبي وقاص . وقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » اسم الله الذي دعي به أجاب ، وإذا سئل به أعطى ، دعوة يونس بن متى « قال : قلت يا رسول الله هي ليونس خاصة أم لجماعة المسلمين؟ قال : » هي ليونس بن متى خاصة ، ولجماعة المؤمنين عامة إذا دعوا بها ، ألم تسمع قول الله عز وجل : { فنادى فِي الظلمات أَن لاَّ إله إِلاَّ أَنتَ سُبْحَانَكَ إِنِّي كُنتُ مِنَ الظالمين * فاستجبنا لَهُ وَنَجَّيْنَاهُ مِنَ الغم وكذلك نُنجِي المؤمنين } ، فهو شرط من الله لمن دعاه به «(1/1653)
وَزَكَرِيَّا إِذْ نَادَى رَبَّهُ رَبِّ لَا تَذَرْنِي فَرْدًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْوَارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنَا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يَحْيَى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ (90)
يخبر تعالى عن عبده زكريا حين طلب أن يهبه الله ولداً يكون من بعده نبياً ، { إِذْ نادى رَبَّهُ } أي خفية عن قومه { رَبِّ لاَ تَذَرْنِي فَرْداً } أي ولا ولد لي ولا وارث يقوم بعدي في الناس { وَأَنتَ خَيْرُ الوارثين } دعاء وثناء مناسب للمسألة ، قال الله تعالى : { فاستجبنا لَهُ وَوَهَبْنَا لَهُ يحيى وَأَصْلَحْنَا لَهُ زَوْجَهُ } أي امرأته ، قال ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير : كانت عاقراً لا تلد فولدت . وقال عطاء : كان في لسانها طول ، فأصلحها الله ، وفي رواية : كان في خلقها شيء فأصلحها الله ، والأظهر من السياق؛ الأول ، وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات } : أي في عمل القربات وفعل الطاعات { وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً } قال الثوري : رغباً فيما عندنا ، ورهباً مما عندنا { وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ } ، قال ابن عباس : أي مصدقين بما أنزل الله ، وقال مجاهد : مؤمنين حقاً ، وقال أبو العالية : خائفين ، وقال الحسن وقتادة والضحّاك { خاشِعِينَ } : أي متذللين لله عزّ وجلّ ، وكل هذه الأقوال متقاربة . وروى ابن أبي حاتم ، عن عبد الله بن حكيم قال : خطبنا أبو بكر رضي الله عنه ثم قال : أما بعد فإني أوصيكم بتقوى الله ، وتثنوا عليه بما هو له أهل ، وتخلطوا الرغبة بالرهبة ، وتجمعوا الإلحاف بالمسألة فإن الله عزّ وجلّ أثنى على زكريا وأهل بيته فقال : { إِنَّهُمْ كَانُواْ يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَيَدْعُونَنَا رَغَباً وَرَهَباً وَكَانُواْ لَنَا خاشِعِينَ } .(1/1654)
وَالَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهَا مِنْ رُوحِنَا وَجَعَلْنَاهَا وَابْنَهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (91)
هكذا يذكر تعالى قصة مريم وابنها عيسى عليهما السلام ، مقرونة بقصة زكريا وابنه يحيى عليهما السلام ، فيذكر أولاً قصة زكريا ، ثم يتبعها بقصة مريم ، لأن تلك مربوطة بهذه ، فإنها إيجاد ولد من شيخ كبير قد طعن في السن ، ومن امرأة عجوز عاقر ، لم تكن تلد في حال شبابها ، ثم يذكر قصة مريم ، وهي أعجب ، فإنها إيجاد ولد من أنثى بلا ذكر ، قال تعالى : { والتي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَ } يعني مريم عليها السلام ، كما قال في سورة التحريم : { وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا } [ الآية : 12 ] ، وقوله : { جَعَلْنَاهَا وابنهآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } أي دلالة على أن الله على كل شيء قديرِ ، وأنه يخلق ما يشاء ، وإنما أمره إذا أراد شيئاً أن يقول له كن فيكون ، وهذا كقوله { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } [ مريم : 21 ] قال ابن عباس في قوله : { لِّلْعَالَمِينَ } قال : العالمين الجن والإنس .(1/1655)
إِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92) وَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ (94)
قال ابن عباس { إِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } يقول : دينكم دين واحد ، أي هذه شريعتكم التي بينت لكم ووضحت لكم . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد » ، يعني أن المقصود هو عبادة الله وحده لا شريك له بشرائع متنوعة لرسله ، كما قال تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } [ المائدة : 48 ] ، وقوله : { وتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ } أي اختلفت الأمم على رسلها فمن بين مصدق لهم ومكذب ، ولهذا قال : { كُلٌّ إِلَيْنَا رَاجِعُونَ } أي يوم القيامة فيجازى كل بحسب عمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، ولهذا قال : { فَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أي قلبه مصدق وعمل عملاً صالحاً { فَلاَ كُفْرَانَ لِسَعْيِهِ } ، كقوله : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] أي لا يكفر سعيه وهو عمله ، بل يشكر فلا يظلم مثقال ذرة ، ولهذا قال : { وَإِنَّا لَهُ كَاتِبُونَ } أي يكتب جميع عمله فلا يضيع عليه منه شيء .(1/1656)
وَحَرَامٌ عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ (97)
يقول تعالى : { وَحَرَامٌ على قَرْيَةٍ } قال ابن عباس : وجب ، يعني قد قدر أن أهل كل قرية أهلكوا أنهم لا يرجعون إلى الدنيا قبل يوم القيامة ، وفي رواية عن ابن عباس أنهم لا يرجعون أي لا يتوبون ، والقول الأول أظهر والله أعلم ، وقوله : { حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ } قد قدمنا أنهم من سلالة آدم عليه السلام ، بل هم من نسل نوح أيضاً من أولاد ( يافث ) أي أبي الترك ، والترك شرذمة منهم ، { حتى إِذَا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَمَأْجُوجُ وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } أي يسرعون في المشي إلى الفساد ، والحدب هو المرتفع من الأرض . وهذه صفتهم في حال خروجهم ، كأن السامع الشاهد لذلك { وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [ فاطر : 14 ] هذا إخبار الذي يعلم غيب السماوات والأرض لا إله إلا هو ، وقال ابن جرير : رأى ابن عباس صبياناً ينزو بعضهم على بعض يلعبون ، فقال ابن عباس : هكذا يخرج يأجوج ومأجوج ، وقد ورد ذكر خروجهم في أحاديث متعددة من السنّة النبوية ، فروى الإمام أحمد . عن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولك « تفتح يأجوج ومأجوج فيخرجون على الناس ، كما قال الله عزّ وجلّ : { وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } فيغشون الناس وينحاز المسلمون عنهم إلى مدائنهم وحصونهم ويضمون إليهم مواشيهم ، ويشربون مياه الأرض ، حتى إن بعضهم ليمر بالنهر فيشربون ما فيه حتى يتركوه يابساً ، حتى إن من بعدهم ليمر بذلك النهر فيقول : قد كان هاهنا ماء مرة ، حتى إذا لم يبق من الناس أحد إلا أحد في حصن أو مدينة ، قال قائلهم : هؤلاء أهل الأرض قد فرغنا منهم بقي أهل السماء ، قال : ثم يهز أحدهم حربته ثم يرمي بها إلى السماء فترجع إليه مخضبة دماً للبلاء والفتنة ، فبينما هم على ذلك بعث الله عزّ وجلّ دوداً في أعناقهم كنغف الجراد الذي يخرج في أعناقه . فيصبحون موتى لا يسمع لهم حس ، فيقول المسلمون : ألا رجل يشري لنا نفسه فينظر ما فعل هذا العدو ، قال : فينحدر رجل منهم محتسباً نفسه قد أوطنها على أنه مقتول فينزل ، فيجدهم موتى بعضهم على بعض ، فينادي : يا معشر المسلمين ألا أبشروا إن الله عزّ وجلّ قد كفاكم عدوكم ، فيخرجون من مدائنهم وحصونهم ويسرحون مواشيهم ، فما يكون لهم رعي إلا لحومهم فتشكر عنهم كأحسن ما شكرت عن شيء من النبات أصابته قط » .
وفي حديث الدجال : « فبينما هم كذلك إذ أوحى الله عزّ وجلّ إلى عيسى ابن مريم عليه السلام أني قد أخرجت عباداً من عبادي لا يدان لك بقتالهم ، فحرر عبادي إلى الطور فيبعث الله عزّ وجلّ يأجوج ومأجوج ، كما قال تعالى : { وَهُمْ مِّن كُلِّ حَدَبٍ يَنسِلُونَ } فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عزّ وجلّ ، فيرسل عليهم نغفاً في رقابهم فيصبحون فَرْسَى كموت نفس واحدة ، فيهبط عيسى وأصحابه ، فلا يجدون في الأرض بيتاً إلا قد ملأه زهمهم ونتنهم ، فيرغب عيسى وأصحابه إلى الله عزّ وجلّ ، فيرسل الله عليهم طيراً كأعناق البُخْت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله »(1/1657)
، قال ابن جابر : فحدثني عطاء بن يزيد السكسكي عن كعب أو غيره قال : فتطرحهم بالمهيل . قال ابن جابر ، فقلت : يا أبا يزيد وأين المهيل؟ قال : مطلع الشمس ، قال : « ويرسل الله مطراً لا يكن منه بيت مدر ولا وبر أربعين يوماً ، فيغسل الأرض حتى يتركها كالزَّلَقَة ، ويقال للأرض انبتي ثمرك ودري بركتك ، قال : فيومئذٍ يأكل النفر من الرمانة ، فيستظلون بقحفها ويبارك في الرسل ، حتى إن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس ، واللقحة من البقر تكفي الفخذ ، والشاة من الغنم تكفي أهل البيت ، قال : فبينما هم على ذلك إذ بعث الله عزّ وجلّ ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم فتقبض روح كل مسلم - أو كما قال مؤمن - ويبقى شرار الناس يتهارجون تهارج الحمر وعليهم تقوم الساعة » .
وقد ثبت في الحديث أن عيسى ابن مريم يحج البيت العتيق ، وعن أبي سعيد قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ليحجن هذا البيت وليعتمرن بعد خروج يأجوج ومأجوج » وقوله : { واقترب الوعد الحق } يعني يوم القيامة إذا حصلت هذه الأهوال والزلازل والبلابل أزفت الساعة واقتربت ، فإذا كانت ووقعت ، قال الكافرون : هذا يوم عسر ، ولهذا قال تعالى : { فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ أَبْصَارُ الذين كَفَرُواْ } أي من شدة ما يشاهدونه من الأمور العظام ، { ياويلنا } أي يقولون يا ويلنا { قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِّنْ هذا } أي في الدنيا { بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ } يعترفون بظلمهم لأنفسهم حيث لا ينفعهم ذلك .(1/1658)
إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَهَا وَارِدُونَ (98) لَوْ كَانَ هَؤُلَاءِ آلِهَةً مَا وَرَدُوهَا وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لَا يَسْمَعُونَ (100) إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ (101) لَا يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا وَهُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خَالِدُونَ (102) لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103)
يقول تعالى : مخاطباً لأهل مكة من مشركي قريش { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } قال ابن عباس : أي وقودها ، يعني كقوله : { وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ البقرة : 24 ] . وفي رواية قال : { حَصَبُ جَهَنَّمَ } يعني حطب جهنم . وقال الضحّاك { حَصَبُ جَهَنَّمَ } : أي ما يرمى به فيها ، والجميع قريب ، وقوله : { أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } : أي داخلون ، { لَوْ كَانَ هؤلاء آلِهَةً مَّا وَرَدُوهَا } يعني لو كانت هذه الأصنام والأنداد آلهة صحيحة لما وردوا النار وما دخلوها ، { وَكُلٌّ فِيهَا خَالِدُونَ } : أي العابدون ومعبوداتهم كلهم فيها خالدون ، { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ } كما قال تعالى : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى } ، والزفير : خروج أنفاسهم ، والشهيق ولوج أنفاسهم { وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ } ، قال ابن أبي حاتم ، عن ابن مسعود : إذا بقي من يخلد في النار جعلوا في توابيت من نار فيها مسامير من نار ، فلا يرى أحد منهم أنه يعذب في النار غيره ، ثم تلا عبد الله : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَهُمْ فِيهَا لاَ يَسْمَعُونَ } ، وقوله : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى } قال عكرمة : الرحمة ، وقال غيره : السعادة { أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } . لما ذكر تعالى أهل النار وعذابهم بسبب شركهم بالله ، عطف بذكر السعداء من المؤمنين بالله ورسوله ، وهم الذين سبقت لهم من الله السعادة وأسلفوا الأعمال الصالحة في الدنيا كما قال تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] ، وقال : { هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان } [ الرحمن : 60 ] ، فكما أحسنوا العمل في الدنيا أحسن الله مآبهم وثوابهم ونجاهم من العذاب وحصل لهم جزيل الثواب ، فقال : { أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ * لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } أي حريقها في الأجساد ، عن أبي عثمان { لاَ يَسْمَعُونَ حَسِيسَهَا } قال : حيات على الصراط تلسعهم ، فإذا لسعتهم قال حس حس ، وقوله : { وَهُمْ فِي مَا اشتهت أَنفُسُهُمْ خَالِدُونَ } فسلمهم من المحذور والمرهوب ، وحصل لهم المطلوب والمحبوب .
قال ابن عباس : { أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } فأولئك أولياء الله يمرون على الصراط مراً هو أسرع من البرق ، ويبقى الكفّار فيها جثياً ، فهذا مطابق لما ذكرناه . وقال آخرون : بل نزلت استثناء من المعبودين ، وخرج منهم عزير والمسيح كما قال ابن عباس { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } ، ثم استثنى ، فقال : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى } فيقال : هم الملائكة وعيسى نحو ذلك مما يعبد من دون الله عزّ وجلّ ، وقال الضحّاك عن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الذين سَبَقَتْ لَهُمْ مِّنَّا الحسنى } قال : نزلت في عيسى ابن مريم وعزير عليهما السلام . وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد { أولئك عَنْهَا مُبْعَدُونَ } قال : عيسى وعزير والملائكة ، وقال الضحّاك : عيسى ومريم والملائكة والشمس والقمر . والآية إنما نزلت خطاباً لأهل مكة في عبادتهم الأصنام التي هي جماد لا تعقل ليكون ذلك تقريعاً وتوبيخاً لعابديها ، ولهذا قال : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } فكيف يورد على هذا المسيح والعزير ونحوهما ممن له عمل صالح ولم يرض بعبادة من عبده؟ وعول ابن جرير في تفسيره في الجواب على أن ( ما ) لما لا يعقل عند العرب .(1/1659)
وقوله : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } قيل : المراد بذلك الموت ، قاله عطاء : وقيل : المراد بالفزع الأكبر النفخة في الصور ، قاله ابن عباس واختاره ابن جرير في تفسيره . وقيل : حين يؤمر بالعبد إلى النار ، قاله الحسن البصري؛ وقيل : حين تطبق النار على أهلها ، قاله سعيد بن جبير وابن جريج ، وقوله : { وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } يعني تقول لهم الملائكة تبشرهم يوم معادهم إذا خجروا من قبورهم { هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } أي فأملوا ما يسركم .(1/1660)
يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104)
يقول تعالى : هذا كائن يوم القيامة { يَوْمَ نَطْوِي السمآء كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ } ، كما قال تعالى : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ والأرض جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ القيامة والسماوات مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ الزمر : 67 ] عن ابن عمر ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله يقبض يوم القيامة الأرضين وتكون السماوات بيمينه » وعن ابن عباس قال : يطوي الله السماوات السبع بما فيها من الخليقة والأرضين السبع بما فيها من الخليقة يطوي ذلك كله بيمينه يكون ذلك كله في يده بمنزلة خردلة . وقوله : { كَطَيِّ السجل لِلْكُتُبِ } قيل : المراد بالسجل الكتاب ، وقيل : المراد بالسجل هاهنا ملك من الملائكة ، والصحيح عن ابن عباس أن السجل هي الصحيفة ، ونص على ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد ، واختاره ابن جرير لأنه المعروف في اللغة؛ فعلى هذا يكون معنى الكلام؛ يوم نطوي السماء كطي السجل للكتاب ، أي على الكتاب بمعنى المكتوب كقوله : { فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ } [ الصافات : 103 ] أي على الجبين ، وله نظائر في اللغة ، والله أعلم . وقوله : { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَآ إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } يعني هذا كائن لا محالة يوم يعيد الله الخلائق خلقاً جديداً كما بدأهم هو القادر على إعادتهم ، وذلك واجب الوقوع لأنه من جملة وعد الله الذي لا يخلف ولا يبدل وهو القادر على ذلك ، ولهذا قال : { إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ } . عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : « إنكم محشورين إلى الله عزّ وجلّ حفاة عراة غرلاً ، كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين » ، وذكر تمام الحديث ، قال ابن عباس في قوله { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } قال : يهلك كل شيء كما كان أول مرة .(1/1661)
وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)
يقول تعالى مخبراً عما حتمه وقضاه لعباده الصالحين من السعادة في الدنيا والآخرة ووراثة الأرض في الدنيا والآخرة كقوله تعالى : { إِنَّ الأرض للَّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ الأعراف : 128 ] وقال : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } [ غافر : 51 ] ، وقال : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ } [ النور : 55 ] ، وأخبر تعالى أن هذا مسطور في الكتب الشرعية والقدرية وهو كائن لا محالة ، ولهذا قال تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر } . قال مجاهد : الزبور الكتاب ، وقال ابن عباس والحسن : { الزبور } الذي أنزل على داود و { الذكر } التوراة ، وعن ابن عباس : الذكر والقرآن . وقال سعيد بن جبير : الذكر الذي في السماء ، وقال مجاهد : الزبور الكتب ، والذكر أم الكتاب عند الله ، واختار ذلك ابن جرير رحمه الله ، وكذا قال زيد بن أسلم هو الكتاب الأول ، وقال الثوري : هو اللوح المحفوظ . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الزبور الكتب التي أنزلت على الأنبياء ، والذكر أم الكتاب الذي يكتب فيه الأشياء قبل ذلك ، أخبر الله سبحانه وتعالى في التوراة والزبور وسابق علمه قبل أن تكون السماوات والأرض أن يورث أمة محمد صلى الله عليه وسلم الأرض ، ويدخلهم الجنة وهم الصالحون . وقال ابن عباس { أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } قال : أرض الجنة ، وقال أبو الدرداء : نحن الصالحون ، وقال السدي : هم المؤمنون . وقوله { إِنَّ فِي هذا لَبَلاَغاً لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } أي إن في هذا القرآن الذي أنزلناه على عبدنا محمد صلى الله عليه وسلم { لَبَلاَغاً } لمنفعة وكفاية { لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ } وهم الذين عبدوا الله فيما شرعه وأحبه ورضيه وآثروا طاعة الله على طاعة الشيطان وشهوات أنفسهم . وقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } يخبر تعالى أن الله جعل محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين أي أرسله رحمة لهم كلهم ، فمن قبل هذه الرحمة وشكر هذه النعمة سعد في الدنيا والآخرة ، من ردها وجحدها خسر الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار } [ إبراهيم : 28-29 ] .
وقال تعالى في صفة القرآن : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] . وقال مسلم في صحيحه ، عن أبي هريرة قال : قيل يا رسول الله ادع على المشركين ، قال : « إني لم أبعث لعاناً وإنما بعثت رحمة » ، وفي الحديث الآخر : « إنما أنا رحمة مهداة » ، وفي الحديث الذي رواه الطبراني : « إني رحمة بعثني الله ولا يتوفاني حتى يظهر الله دينه ، لي خمسة أسماء : أنا محمد ، وأحمد ، وأنا الماحي يمحو الله بي الكفر ، وأنا الحاشر يحشر الناس على قدمي ، وأنا العاقب » .(1/1662)
وفي الحديث رواه الإمام أحمد : « إيما رجل سببته في غضبي أو لعنته لعنة ، فإنما أنا رجل من ولد آدم ، أغضب كما تغضبون وإنما بعثني الله رحمة للعالمين ، فأجعلها صلاة عليه يوم القيامة » ، فإن قيل : فأي رحمة حصلت لمن كفر به؟ فالجواب ما رواه أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس في قوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } قال : ومن آمن بالله واليوم الآخر يكتب له الرحمة في الدنيا والآخرة ، ومن لم يؤمن بالله ورسوله عوفي مما أصاب الأمم من الخسف والقذف .(1/1663)
قُلْ إِنَّمَا يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلَى سَوَاءٍ وَإِنْ أَدْرِي أَقَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ مَا تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ (110) وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (111) قَالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَرَبُّنَا الرَّحْمَنُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (112)
يقول تعالى آمراً رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن يقول للمشركين { إِنَّمَآ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } ؟ أي متبعون على ذلك مستسلمون منقادون له ، { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي تركوا ما دعوتهم إليه { فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ } أي أعلمتكم أني حرب لكم كما أنتم حرب لي ، بريء منكم كما أنتم براء مني ، كقوله : { وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس : 41 ] ، وقال : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فانبذ إِلَيْهِمْ على سَوَآءٍ } [ الأنفال : 58 ] ، أي ليكن علمك وعلمهم بنبذ العهود على السواء وهكذا هاهنا { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ آذَنتُكُمْ على سَوَآءٍ } أي أعلمتكم ببراءتي منكم وبراءتكم مني لعلمي بذلك ، وقوله : { وَإِنْ أدري أَقَرِيبٌ أَم بَعِيدٌ مَّا تُوعَدُونَ } أي هو واقع لا محالة ولكن لا علم لي بقربه ولا ببعده ، { إِنَّهُ يَعْلَمُ الجهر مِنَ القول وَيَعْلَمُ مَا تَكْتُمُونَ } أي إن الله يعلم الغيب جميعه ، ويعلم ما يظهره العباد وما يسرون ، يعلم الظواهر والضمائر ، ويعلم السر وأخفى ، ويعلم ما العباد عاملون في إجهارهم وإسرارهم ، وسيجزيهم على ذلك القليل والجليل . وقوله : { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } أي وما أدري لعل هذا فتنة لكم ومتاع إلى حين ، قال ابن جرير : لعل تأخير ذلك عنكم فتنة لكم ومتاع إلى أجل مسمى . { وَإِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَّكُمْ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } أي افصل بيننا وبين قومنا المكذبين بالحق ، قال قتادة : كانت الأنبياء عليهم السلام يقولون : { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } [ الأعراف : 89 ] ، وأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقول ذلك . وعن مالك ، عن زيد بن أسلم : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا شهد غزاة قال : { قَالَ رَبِّ احكم بالحق } ، وقوله : { وَرَبُّنَا الرحمن المستعان على مَا تَصِفُونَ } أي على ما يقولون ويتفرون من الكذب ، ويتنوعون في مقامات التكذيب والإفك ، والله المستعان عليكم في ذلك .(1/1664)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)
يقول تعالى آمراً عباده بتقواه ، ومخبراً لهم بما يستقبلون من أهوال يوم القيامة وأحوالها ، وقد اختلف المفسرون في زلزلة الساعة ، هل هي بعد قيام الناس من قبورهم يوم نشورهم إلى عرصات القيامة ، أو ذلك عبارة عن زلزلة الأرض قبل قيام الناس من أجداثهم ، كما قال تعالى : { إِذَا زُلْزِلَتِ الأرض زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الأرض أَثْقَالَهَا } [ الزلزلة : 1-2 ] ، وقال تعالى : { وَحُمِلَتِ الأرض والجبال فَدُكَّتَا دَكَّةً وَاحِدَةً * فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الواقعة } [ الحاقة : 14-15 ] الآية ، فقال قائلون : هذه الزلزلة كائنة في آخر عمر الدنيا وأول أحوال الساعة ، عن علقمة في قوله : { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ } قال : قبل الساعة . وعن عامر الشعبي قال : هذا في الدنيا قبل يوم القيامة ، وقد أورد الإمام ابن جرير في حديث الصور عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله لما فرغ من خلق السماوات والأرض ، خلق الصور فأعطاه إسرافيل ، فهو واضعه على فيه شاخص ببصره إلى العرش ، ينتظر متى يؤمر » قال أبو هريرة : « يا رسول الله! وما الصور؟ قال : » قرن « ، قال : فكيف هو؟ قال : » قرن عظيم ينفخ فيه ثلاث نفخات : الأولى نفخة الفزع ، والثانية نفخة الصعق ، والثالثة نفخة القيام لرب العالمين ، يأمر الله ، ويأمر فيمدها ويطولها ، ولا يفتر ، وهي التي يقول الله تعالى : { وَمَا يَنظُرُ هؤلاءآء إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً مَّا لَهَا مِن فَوَاقٍ } [ ص : 15 ] ، فتسير الجبال فتكون تراباً ، وترج الأرض بأهلها رجاً وهي التي يقول الله تعالى : { يَوْمَ تَرْجُفُ الراجفة * تَتْبَعُهَا الرادفة * قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ وَاجِفَةٌ } [ النازعات : 6-8 ] ، فتكون الأرض كالسفينة الموبقة في البحر تضربها الأمواج تكفؤها بأهلها ، وكالقنديل المعلق بالعرش ترجحه الأرواح ، فيمتد الناس على ظهرها ، فتذهل المراضع وتضع الحوامل ويشيب الولدان ، وتطير الشياطين هاربة حتى تأتي الأقطار فتلقاها الملائكة فتضرب وجوهها فترجع ويولي الناس مدبرين ينادي بعضهم بعضاً ، وهي التي يقول الله تعالى : { يَوْمَ التناد * يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ مَا لَكُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } [ غافر : 32-33 ] . فبينما هم على ذلك إذ انصدعت الأرض من قطر إلى قطر ورأوا أمراً عظيماً ، فأخذهم لذلك من الكرب ما الله أعلم به ، ثم نظروا إلى السماء فإذا هي كالمهل ، ثم خسف شمسها وقمرها وانتثرت نجومها ثم كشطت عنهم - قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : والأموات لا يعلمون بشيء من ذلك « ، قال أبو هريرة : فمن استثنى الله حين يقول : { فَفَزِعَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ } [ النمل : 87 ] قال : » أولئك الشهداء ، وإنما يصل الفزع إلى الأحياء ، أولئك أحياء عند ربهم يرزقون ووقاهم الله شر ذلك اليوم وآمنهم ، وهو عذاب الله يبعثه على شرار خلقه وهو الذي يقول الله : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } «(1/1665)
وهذا الحديث دل على أن هذه الزلزلة كائنة قبل يوم الساعة . أضيفت إلى الساعة لقربها منها ، كما يقال أشراط الساعة ونحو ذلك والله أعلم .
( الحديث الأول ) : عن عمران بن حصين أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما نزلت { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمْ } إلى قوله { ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } قال : نزلت عليه هذه الآية وهو في سفر فقال : « » أتدرون أي يوم ذلك «؟ قالوا : الله ورسوله أعلم ، قال : » ذلك يوم يقول الله لآدم ابعث بعث النار ، قال : يا رب وما بعث النار؟ قال : تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار وواحد إلى الجنة « ، فأنشأ المسلمون يبكون ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » قاربوا وسددوا فإنها لم تكن نبوة قط إلا كان بين يديها جاهلية ، قال فيؤخذ العدد في الجاهلية فإن تمت وإلا كملت من المنافقين ، وما مثلكم ومثل الأمم إلا كمثل الرقمة في ذراع الدابة أو كالشامة في جنب البعير « ، ثم قال : » إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة « ، فكبروا ، ثم قال : » إني لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنة « ، فكبروا ، ثم قال : » إني لأرجو أن تكونوا نصف أهل الجنة « ، فكبروا ، ثم قال : ولا أدري أقال الثلثين أم لا؟ » .
( الحديث الثاني ) : قال البخاري عند تفسير هذه الآية ، عن أبي سعيد الخدري قال ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « يقول الله تعالى يوم القيامة : يا آدم ، فيقول : لبيك ربنا وسعديك ، فينادي بصوت إن الله يأمرك أن تخرج من ذريتك بعثاً إلى النار ، قال : يا رب وما بعث النار؟ قال : من كل ألف - أراه قال - تسعمائة وتسعة وتسعون ، فحينئذٍ تضع الحامل حملها ويشيب الوليد { وَتَرَى الناس سكارى وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } » فشق ذلك على الناس حتى تغيرت وجوههم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « من يأجوج ومأجوج تسعمائة وتسعة وتسعون ومنكم واحد ، أنتم في الناس كالشعرة السوداء في جنب الثور الأبيض ، أو كالشعرة البيضاء في جنب الثور الأسود ، إني لأرجو أن تكونوا ربع أهل الجنة ، فكبرنا ، ثم قال : ثلث أهل الجنة ، فكبرنا ، ثم قال : شطر أهل الجنة » فكبرنا .
( الحديث الثالث ) : عن عائشة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إنكم تحشرون إلى الله يوم القيامة حفاة عراة غرلاً » قالت عائشة : يا رسول الله الرجال والنساء ينظر بعضهم إلى بعض ، قال : « يا عائشة إن الأمر أشد من أن يهمهم ذاك » .(1/1666)
( الحديث الرابع ) : عن عائشة قالت ، قلت : يا رسول الله هل يذكر الحبيب حبيبه يوم القيامة؟ قال : « يا عائشة أما عند ثلاث فلا ، أما عند الميزان حتى يثقل أو يخف فلا ، وأما عند تطاير الكتب إما يعطى بيمينه وإما يعطى بشماله فلا ، وحين يخرج عنق من النار فيطوى عليهم ويتغيظ عليهم ويقول ذلك العنق : وكلت بثلاثة ، وكلت بثلاثة ، وكلت بثلاثة ، وكلت بمن ادعى مع الله إلهاً آخر ، ووكلت بمن لا يؤمن بيوم الحساب ، ووكلت بكل جبار عنيد - قال : فينطوي عليهم ويرميهم في غمرات جهنم ، ولجهنم جسر أرق من الشعر وأحد من السيف عليه كلاليب وحسك يأخذان من شاء الله ، والناس عليه كالبرق وكالطرف وكالريح وكأجاويد الخيل والركاب ، والملائكة يقولون : يا رب سلم سلم ، فناج مسلَّم ومخدوش مسلَم ، ومكور في النار على وجهه » والأحاديث في أهوال يوم القيامة والآثار كثيرة جداً لها موضع آخر ، ولهذا قال الله تعالى : { إِنَّ زَلْزَلَةَ الساعة شَيْءٌ عَظِيمٌ } أي أمر عظيم وخطب جليل ، والزلزال هو ما يحصل للنفوس من الرعب والفزع ، كما قال تعالى : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } [ الأحزاب : 11 ] ، ثم قال تعالى : { يَوْمَ تَرَوْنَهَا } هذا من باب ضمير الشأن ، ولهذا قال مفسراً له : { تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّآ أَرْضَعَتْ } أي فتشتغل لهول ما ترى عن أحب الناس إليها ، والتي هي أشفق عليه تدهش عنه في حال إرضاعها له ، ولهذا قال : { كُلُّ مُرْضِعَةٍ } ولم يقل مرضع ، وقال { عَمَّآ أَرْضَعَتْ } أي عن رضيعها وفطامه ، وقوله { وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا } أي قبل تمامه لشدة الهول { وَتَرَى الناس سكارى } أي من شدة الأمر الذي قد صاروا فيه قد دهشت عقولهم ، وغابت أذهانهم فمن رآهم حسب أنهم سكارى { وَمَا هُم بسكارى ولكن عَذَابَ الله شَدِيدٌ } .(1/1667)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (4)
يقول تعالى ذاماً لمن كذب بالبعث وأنكر قدرة الله على إحياء الموتى { وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي علم صحيح ، { وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ * كُتِبَ عَلَيْهِ } قال مجاهد يعني الشيطان ، يعني كتب عليه كتابة قدرية { أَنَّهُ مَن تَوَلاَّهُ } أي اتبعه وقلده { فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إلى عَذَابِ السعي } أي يضله في الدنيا ويقوده في الآخرة إلى عذاب السعير ، وهو الحار المؤلم المزعج ، قال السدي : نزلت هذه الآية في النضر بن الحارث ، وروى أبو كعب المكي قال : قال خبيث من خبثاء قريش : أخبرنا عن ربكم من ذهب هو ، أو من فضة هو ، أو من نحاس هو؟ فتقعقعت السماء قعقعة - والقعقعة في كلام العرب الرعد - فإذا قحف رأسه ساقط بين يديه وقال مجاهد : جاء يهودي فقال يا محمد : أخبرني عن ربك ، من أي شيء هو؟ من در أم ياقوت؟ قال : فجاءت صاعقة فأخذته .(1/1668)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتَى وَأَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (6) وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)
لما ذكر تعالى المخالف للبعث المنكر للمعاد ، ذكر تعالى الدليل على قدرته تعالى على المعاد ، بما يشاهد من بدئه للخلق فقال : { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ } أي في شك ، { مِّنَ البعث } وهو المعاد ، وقيام الأرواح والأجساد يوم القيامة ، { فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ } أي أصل برئه لكم من تراب وهو الذي خلق منه آدم عليه السلام { ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ } أي ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، { ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ } ، وذلك أنه إذا استقرت النطفة في رحم المرأة مكثت أربعين يوماً كذلك يضاف إليه ما يجتمع إليها ، ثم تنقلب علقة حمراء بإذن الله فتمكث كذلك أربعين يوماً ، ثم تستحيل فتصير مضغة قطعة من لحم لا شكل فهيا ولا تخطيط ، ثم يشرع في التشكيل والتخطيط فيصور منها رأس ويدان وصدر وبطن وفخذان وجلان وسائر الأعضاء ، فتارة تسقطها المرأة قبل التشكيل والتخطيط ، وتارة تلقيها وقد صارت ذات شكل وتخطيط ، ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } أي كما تشاهدونها ، { لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ وَنُقِرُّ فِي الأرحام مَا نَشَآءُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي وتارة تستقر في الرحم لا تلقيها المرأة ولا تسقطها ، كما قال مجاهد في قوله تعالى : { مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } قال : هو السقط مخلوق ، فإذا مضى عليها أربعون يوماً وهي مضغة أرسل الله تعالى ملكاً إليها فنفخ فيها الروح وسوَّاها كما يشاء الله عز وجل ، من حسن وقبح وذكر وأنثى ، وكتب رزقها وأجلها ، وشقي أو سعيد ، كما ثبت في « الصحيحين » عن ابن مسعود قال : حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو الصادق المصدوق : « إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين ليلة نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات فيكتب رزقه وعمله وأجله وشقي أو سعيد ، ثم ينفخ فيه الروح » .
وروى ابن أبي حاتم ، عن عبد الله بن مسعود قال : النطفة إذا استقرت في الرحم جاءها ملك بكفه ، فقال : يا رب مخلّقة أو غير مخلقة؟ فإن قيل : غير مخلقة لم تكن نسمة وقذفتها الأرحام دماً ، وإن قيل : مخلقة ، قال : أي رب ذكر أو أنثى ، شقي أو سعيد ، ما الأجل وما الأثر؟ وبأي أرض يموت؟ قال ، فيقال للنطفة من ربك؟ فتقول : الله ، فيقال من رازقك؟ فتقول : الله ، فيقال له : اذهب إلى الكتاب فإنك ستجد فيه قصة هذه النطفة ، قال : فتخلق فتعيش في أجلها وتأكل رزقها ، وتطأ أثرها حتى إذا جاء أجلها ماتت فدفنت في ذلك؛ ثم تلا عامر الشعبي : { ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ البعث فَإِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ } ، وقال ابن أبي حاتم ، عن حذيفة بن أسيد يبلغ به النبي صلى الله عليه وسلم قال :(1/1669)
« يدخل الملك على النطفة بعد ما تستقر في الرحم بأربعين يوماً أو خمس وأربعين فيقول : أي رب أشقي أم سعيد؟ فيقول الله : ويكتبان فيقول : أذكر أم أنثى؟ فيقول الله ، ويكتبان ، ويكتب عمله وأثره ورزقه وأجله ، ثم تطوى الصحف ، فلا يزاد على ما فيها ولا ينتقص » { ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً } أي ضعيفاً في بدنه وسمعه وبصره وحواسه ، ثم يعطيه الله القوة شيئاً فشيئاً ، ويلطف به ويحنن عليه والديه ، ولهذا قال { ثُمَّ لتبلغوا أَشُدَّكُمْ } أي بتكامل القوى ، ويتزايد ويصل إلى عنفوان الشباب وحسن المنظر ، { وَمِنكُمْ مَّن يتوفى } أي في حال شبابه وقواه ، { وَمِنكُمْ مَّن يُرَدُّ إلى أَرْذَلِ العمر } وهو الشيخوخة والهرم وضعف القوة والعقل والفهم وتناقص الأحوال من الخرف وضعف الفكر ، ولهذا قال : { لِكَيْلاَ يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً } ، كما قال تعالى : { الله الذي خَلَقَكُمْ مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً } [ الروم : 54 ] .
وقوله تعالى : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً } هذا دليل آخر على قدرته تعالى على إحياء الموتى ، كما يحيي الأرض الميتة الهامدة وهي المقحلة التي لا ينبت فيها شيء . وقال قتادة : غبراء متهشمة ، وقال السدي : ميتة ، { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } : أي ماذا أنزل الله عليها المطر { اهتزت } أي تحركت بالنبات وحييت بعد موتها ، { وَرَبَتْ } أي ارتفعت لما سكن فيها الثرى ، ثم أنبتت ما فيها من ثمار وزروع ، وأشتات النبات في اختلاف ألوانها وطعومها ، وروائحها وأشكالها ومنافعها ، ولهذا قال تعالى : { وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } أي حسن المنظر طيب الريح ، وقوله : { ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق } أي الخالق المدبر الفعال لما يشاء ، { وَأَنَّهُ يُحْيِي الموتى } أي كما أحيا الأرض الميتة وأنبت منها هذه الأنواع { إِنَّ الذي أَحْيَاهَا لَمُحْىِ الموتى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ فصلت : 39 ] { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] ، { وَأَنَّ الساعة آتِيَةٌ لاَّ رَيْبَ فِيهَا } أي كائنة لا شك فيها ولا مرية ، { وَأَنَّ الله يَبْعَثُ مَن فِي القبور } أي يعيدهم بعد ما صاروا في قبورهم رمماً ويوجدهم بعد العدم ، كما قال تعالى : { قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 79 ] والآيات في هذا كثيرة . وقد روى الإمام أحمد . « عن لقيط ابن عامر أنه قال : يا رسول الله أكلنا يرى به عزّ وجلّ يوم القيامة وما آية ذلك في خلقه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أليس كلكم ينظر إلى القمر مخلياً به؟ قلنا : بلى ، قال : فالله أعظم ، قال ، قلت : يا رسول الله كيف يحيي الله الموتى وما آية ذلك في خلقه؟ قال : « أما مررت بوادي أهلك ممحلاً؟ » قال : بلى ، قال : « ثم مررت به يهتز خضراً » قال : بلى ، قال : « فكذلك يحيي الله الموتى وذلك آيته في خلقه » وقال ابن أبي حاتم ، عن معاذ بن جبل قال : من علم أن الله هو الحق المبين ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، دخل الجنة « .(1/1670)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (8) ثَانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَنُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَذَابَ الْحَرِيقِ (9) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (10)
لما ذكر تعالى حلال الضلاَّل الجهَّال المقلدين في قوله : { وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطَانٍ مَّرِيدٍ } [ الحج : 3 ] ذكر في هذه حال الدعاة إلى الضلالة من رؤوس الكفر ، والبدع ، فقال : { ومِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } أي بلا عقل صحيح ، ولا نقل صريح ، بل بمجرد الرأي والهوى ، وقوله { ثَانِيَ عِطْفِهِ } قال ابن عباس : مستكبراً عن الحق إذا دعي إليه ، وقال مجاهد وقتادة : لاوي عطفة وهي رقبته يعني يعرض عما يدعى إليه من الحق ، ويثني رقبته استكباراً ، كقوله تعالى : { وَفِي موسى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ * فتولى بِرُكْنِهِ } [ الذاريات : 38-39 ] الآية ، وقال تعالى : { رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } [ النساء : 61 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ الله لَوَّوْاْ رُءُوسَهُمْ وَرَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } [ المنافقون : 5 ] الآية ، وقوله : { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } قال بعضهم : هذه لام العاقبة لأنه قد لا يقصد ذلك ، ثم قال تعالى : { لَهُ فِي الدنيا } وهو الإهانة والذل كما كما أنه لما استكبر عن آيات الله لقّاه الله المذلة في الدنيا وعاقبة فيها قبل الآخرة ، لأنها أكبر همه ومبلغ علمه { وَنُذِيقُهُ يَوْمَ القيامة عَذَابَ الحريق * ذلك بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ } أي يقال له هذا تقريعاً وتوبيخاً { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلعَبِيدِ } كقوله تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم * إِنَّ هذا مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ } [ الدخان : 49-50 ] . عن الحسن قال : بلغني أن أحدهم يحرق في اليوم سبعين ألف مرة .(1/1671)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُ وَمَا لَا يَنْفَعُهُ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلَى وَلَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)
قال مجاهد { على حَرْفٍ } على شك ، وقال غيره : على طرف ، ومنه حرف الجبل أي طرفه ، أي دخل في الدين على طرف ، فإن وجد ما يحبه استقر وإلا انشمر ، عن ابن عباس { مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ } قال : كان الرجل يقدم المدينة ، فإن ولدت امرأته غلاماً ونتجت خيله قال : هذا دين صالح ، وإن لم تلد امرأته ولم تنتج خيله قال : هذا دين سوء . وروى ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : كان ناس من الأعراب يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون ، فإذا رجعوا إلى بلادهم ، فإن وجدوا عام جدوبة وعام ولاد سوء وعام قحط قالوا : ما في ديننا هذا خير ، فأنزل الله على نبيه : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ } الآية . وهكذا ذكر قتادة والضحّاك وابن جريج وغير واحد من السلف في تفسير هذه الآية ، وقال عبد الرحمن بن زيد : هو المنافق إن صلحت له دنياه أقام على العبادة ، وإن فسدت عليه دنياه وتغيرت انقلب فلا يقيم على العبادة إلا لما صلح في دنياه ، فإن أصابته فتنة أو شدة أو اختبار أو ضيق ترك دينه ورجع إلى الكفر ، وقال مجاهد في قوله : { انقلب على وَجْهِهِ } أي ارتد كافراً ، وقوله : { خَسِرَ الدنيا والأخرة } أي فلا هو حصل من الدنيا على شيء ، وأما الآخرة فقد كفر بالله العظيم فهو فيها في غاية الشقاء والإهانة ، ولهذا قال تعالى : { ذلك هُوَ الخسران المبين } أي هذه هي خسارة العظيمة والصفقة الخاسرة ، وقوله : { يَدْعُو مِن دُونِ الله مَا لاَ يَضُرُّهُ وَمَا لاَ يَنفَعُهُ } أي من الأصنام والأنداد يستغيث بها ويستنصرها ويسترزقها وهي لا تنفعه ولا تضره { ذلك هُوَ الضلال البعيد } . وقوله : { يَدْعُو لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِن نَّفْعِهِ } أي ضرورة في الدنيا قبل الآخرة أقرب من نفعه فيها ، وأما في الآخرة فضرره محقق متيقن ، وقوله : { لَبِئْسَ المولى وَلَبِئْسَ العشير } قال مجاهد : يعني الوثن ، يعني بئس هذا الذي دعاه من دون الله مولى ، يعني ولياً وناصراً ، { وَلَبِئْسَ العشير } وهو المخالط والمعاشر ، واختار ابن جرير أن المراد : لبئس ابن العم والصاحب ، { مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ } وقول مجاهد : إن المراد به الوثن أولى وأقرب إلى سياق الكلام ، والله أعلم .(1/1672)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (14)
لما ذكر أهل الضلالة الأشقياء ، عطف بذكر الأبرار السعداء من الذين آمنوا بقلوبهم وصدقوا إيمانهم بأفعالهم ، فعملوا الصالحات من جميع أنواع القربات وتركوا المنكرات ، فأورثهم ذلك سكنى الدرجات العاليات في روضات الجنات ، ولما ذكر تعالى أنه أضل أولئك وهدى هؤلاء قال : { إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } .(1/1673)
مَنْ كَانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّمَاءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ (15) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16)
قال ابن عباس : من كان يظن أن لن ينصر الله محمداً صلى الله عليه وسلم في الدنيا والآخرة ، فليمدد بسبب أي بحبل { إِلَى السمآء } أي سماء بيته ، { ثُمَّ لْيَقْطَعْ } يقول : ثم ليختنق به ، وقال عبد الرحمن بن زيد : { فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السمآء } ، أي ليتوصل إلى بلوغ السماء فإن النصر إنما يأتي محمداً من السماء ، { ثُمَّ لْيَقْطَعْ } ذلك عند إن قدر على ذلك ، وقول ابن عباس وأصحابه أولى وأظهر في المعنى وأبلغ في التهكم ، فإن المعنى : من كان يظن أن الله ليس بناصر محمداً وكتابه ودينه فليذهب فليقتل نفسه إن كان ذلك غائظة فإن الله ناصره لا محالة ، قال الله تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } [ غافر : 51 ] الآية ، ولهذا قال : { فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ مَا يَغِيظُ } قال السدي : يعني من شأن محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال عطاء الخراساني : فلينظر هل يشفي ذلك ما يجد في صدره من الغيظ ، وقوله : { وكذلك أَنزَلْنَاهُ } أي القرآن { آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي واضحات في لفظها ومعناها حجة من الله على الناس ، { وَأَنَّ الله يَهْدِي مَن يُرِيدُ } أي يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، وله الحكمة التامة والحجة القاطعة في ذلك ، { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] .(1/1674)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئِينَ وَالنَّصَارَى وَالْمَجُوسَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (17)
يخبر تعالى عن أهل هذه الأديان المختلفة من المؤمنين ، ومن سواهم من اليهود والصابئين ، والنصارى والمجوس ، والذين أشركوا فعبدوا مع غيره فإنه تعالى { يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } ويحكم بينهم بالعدل ، فيدخل من آمن به الجنة ومن كفر به النار ، فإنه تعالى شهيد على أفعالهم ، حفيظ لأقوالهم ، عليم بسرائرهم وما تكن ضمائرهم .(1/1675)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ وَمَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (18)
يخبر تعالى أنه المستحق للعبادة وحده لا شريك له ، فإنه يسجد لعظمته كل شيء طوعاً وكرهاً ، وسجود كل شيء مما يختص به كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ عَنِ اليمين والشمآئل سُجَّداً لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ } [ النحل : 48 ] وقال هاهنا { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض } ، أي من الملائكة في أقطار السماوات ، والحيوانات في جميع الجهات ، من الإنس والجن والدواب والطير ، { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] إنما ذكر هذه على التنصيص لأنها قد عبدت من دون الله ، فبين أنها تسجد لخالقها وأنها مربوبة مسخرة ، { لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ } [ فصلت : 39 ] الآية . وفي « الصحيحين » عن أبي ذر رضي الله عنه قال ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ » قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : « فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ، ثم تستأمر فيوشك أن يقال لها ارجعي من حيث جئت » وفي حديث الكسوف : « إن الشمس والقمر خلقان من خلق الله وإنهما لا ينكسفان لموت واحد ولا لحياته ولكن الله عزّ وجلّ إذا تجلى لشيء من خلقه خشع له » .
وقال أبو العالية : ما في السماء نجم ولا شمس ولا قمر إلا يقع لله ساجداً حين يغيب ثم ينصرف حتى يؤذن له فيأخذ ذات اليمين حتى يرجع إلى مطلعه ، وأما الجبال والشجر فسجودهما بفيء ظلالهما عن اليمين ، والشمائل . وعن ابن عباس قال : جاء رجل فقال : يا رسول الله إني رأيتني الليلة وأن نائم كأني أصلي خلف شجرة فسجدتُ ، فسجدت الشجرة لسجودي فسمعتها وهي تقول : اللهم اكتب لي بها عندك أجراً ، وضع عني بها وزراً ، واجعلها لي عندك ذخراً ، وتقبلها مني كما تقبلتها من عبدك داود . قال ابن عباس : فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدة ، ثم سجد فسمعته وهو يقول مثل ما أخبره الرجل عن قول الشجرة . وقوله : { والدوآب } أي الحيوانات ، كلها ، وقد جاء في الحديث عن الإمام أحمد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن اتخاذ ظهور الدواب منابر ، فرب مركوبة خير وأكثر ذكراً لله تعالى من راكبها . وقوله : { وَكَثِيرٌ مِّنَ الناس } أي يسجد لله طوعاً مختاراً متعبداً بذلك ، { وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ العذاب } أي ممن امتنع وأبي واستكبر ، { وَمَن يُهِنِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ إِنَّ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } . وقال ابن أبي حاتم : قيل لعلي إن هاهنا رجلاً يتكلم في المشيئة ، فقال له علي : يا عبد الله ، خلقك الله كما يشاء أو كما شئت؟ قال : بل كما شاء ، قال : فيمرضك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال : بل إذا شاء ، قال : فيشفيك إذا شاء أو إذا شئت؟ قال : بل إذا شاء ، قال : فيدخلك حيث شئت أو حيث يشاء ، قال : بل حيث يشاء . قال : والله لو قلت غير ذلك لضربت الذي فيه عيناك بالسيف ، وعن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد لها اعتزل الشيطان يبكي يقول : يا ويله أمر ابن آدم بالسجود فسجد فله الجنة ، وأمرت بالسجود فأبيت فلي النار » .(1/1676)
هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ (20) وَلَهُمْ مَقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (22)
ثبت في « الصحيحين » عن أبي ذر أنه كان يقسم قسماً أن هذه الآية { هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ } نزلت في حمزة وصاحبيه ، وعتبة وصاحبيه يوم برزوا في بدر ، وروى البخاري عن علي بن أبي طالب أنه قال : أنا أول من يجثو بين يدي الرحمن للخصومة يوم القيامة ، قال قيس : وفيهم نزلت { هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ } قال : هم الذين بارزوا يوم بدر : علي وحمزة وعبيدة ، وشيبة بن ربيعة وعتبة بن ربيعة والوليد بن عتبة . وقال قتادة في قوله : { هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ } قال : اختصم المسلمون وأهل الكتاب ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم ، وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : كتابنا يقضي على الكتب كلها ونبينا خاتم الأنبياء ، فنحن أولى بالله منكم فأفلج الله الإسلام على من ناوأه ، وأنزل : { هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ } . وقال مجاهد في هذه الآية : مثل الكافر والمؤمن اختصما في البعث ، وقال مجاهد وعطاء في هذه الآية : هم المؤمنون والكافرون . وقال عكرمة { هذان خَصْمَانِ اختصموا فِي رَبِّهِمْ } قال : هي الجنة والنار ، قالت النار : اجعلني للعقوبة ، وقالت الجنة : اجعلني للرحمة ، وقول مجاهد وعطاء إن المراد بهذه الكافرون والمؤمنون يشمل الأقوال كلها ، وينتظم فيه قصة يوم بدر وغيرها ، فإن المؤمنين يريدون نصرة دين الله عزّ وجلّ ، والكافرون يريدون إطفاء نور الإيمان وخذلان الحق وظهور الباطل ، وهذا اختيار ابن جرير وهو حسن ، ولهذا قال : { فالذين كَفَرُواْ قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِّن نَّارٍ } أي فصلت لهم مقطعات من النار ، قال سعيد بن جبير : من نحاس وهو أشد الأشياء حرارة إذا حمي { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود } أي إذا صب على رؤوسهم الحميم وهو الماء الحار في غاية الحرار ، وقال سعيد بن جبير : هو النحاس المذاب أذاب ما في بطونهم من الشحم والأمعاء ، وكذلك تذوب جلودهم .
عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الحميم ليصب على رؤوسهم فينفذ الجمجمة حتى يخلص إلى جوفة ، فيسلت ما في جوفه حتى يبلغ قدميه ، وهو الصهر ثم يعاد كما كان » وفي رواية : يأتيه الملك يحمل الإناء بكلبتين من حرارته ، فإذا أدناه من وجهه تكرهه ، قال : فيرفع مقمعة معه فيضرب بها رأسه ، فيفرغ دماغه ، ثم يفرغ الإناء في دماغعه فيصل إلى جوفه من دماغه ، فذلك قوله : { يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود } . وقوله : { وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لو أن مقمعاً من حديد وضع في الأرض فاجتمع له الثقلان ما أقلوه من الأرض »(1/1677)
وروى الإمام أحمد : عن أبي سعيد الخدري قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو ضرب الجبل بمقمع من حديد لتفتت ثم عاد كما كان ، ولو أن دلواً من غسَّاق يهراق في الدنيا لأنتن أهل الدنيا » ، وقال ابن عباس في قوله : { وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } قال : يضربون بها فيقع كل عضوو على حياله فيدعون بالثبور ، وقوله : { كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا } ، قال سلمان : النار سوداء مظلمة لا يضيء لهبها ولا جمرها ، ثم قرأ : { كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا } وقال زيد بن أسلم في هذه الآية : بلغني أن أهل النار لا يتنفسون ، وقال الفضيل بن عياض : والله ما طمعوا في الخروج ، إن الأرجل لمقيدة وإن الأيدي لموثقة ، ولكن يرفعهم لهبها وتردهم مقامعها ، وقوله : { وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } ، كقوله : { وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } [ السجدة : 20 ] ، ومعنى الكلام أنهم يهانون بالعذاب قولاً وفعلاً .(1/1678)
إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤًا وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ (23) وَهُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَهُدُوا إِلَى صِرَاطِ الْحَمِيدِ (24)
لما أخبر تعالى عن حال أهل النار ، وما هم فيه من العذاب والنكال ، والحريق والأغلال ، وما أعد لهم من الثياب من النار ، ذكر حال أهل الجنة فقال : { إِنَّ الله يُدْخِلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أي تتخرق في أكنافها وأرجائها وجوانبها ، وتحت أشجارها وقصورها يصرفونها حيث شاءوا وأين أرادوا ، { يُحَلَّوْنَ فِيهَا } من الحيلة ، { مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً } أي في أيديهم كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه : « تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء » وقوله : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } في مقابلة ثياب أهل النار التي فصلت لهم ، لباس هؤلاء من الحرير استبرقه وسندسه ، كما قال : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } [ الإنسان : 21 ] ، وفي الصحيح : « لا تلبسوا الحرير ولا الديباج في الدنيا فإنه من لبسه في الدنيا لم يلبسه في الآخرة » ، وقال عبد الله بن الزبير : من لم يلبس الحرير في الآخرة لم يدخل الجنة ، قال الله تعالى : { وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } ، وقوله : { وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول } كقوله تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار } [ الرعد : 23-24 ] ، وقوله : { لاَ يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْواً وَلاَ تَأْثِيماً * إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } [ الواقعة : 25-26 ] فهدوا إلى المكان الذي يسمعون فيه الكلام الطيب ، { وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } [ الحج : 22 ] ، وقوله : { وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد } أي إلى المكان الذي يحمدون فيه ربهم على ما أحسن إليهم ، وأنعم به وأسداه إليهم ، كما جاء في الحديث الصحيح : « أنهم يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهموا النفس » ، وقد قال بعض المفسرين في قوله : { وهدوا إِلَى الطيب مِنَ القول } أي القرآن وقيل : لا إله إلا الله وقيل : الأذكار المشروعة { وهدوا إلى صِرَاطِ الحميد } أي الطريق المستقيم في الدنيا ، وكل هذا لا ينافي ما ذكرناه ، والله أعلم « .(1/1679)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ الَّذِي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَاءً الْعَاكِفُ فِيهِ وَالْبَادِ وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ (25)
يقول تعالى منكراً على الكفار في صدهم المؤمنين عن إتيان المسجد الحرام وقضاء مناسكهم فيه ، { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام } أي ومن صفتهم أنهم مع كفرهم يصدون عن سبيل الله والمسجد الحرام ، أي ويصدون عن المسجد الحرام من أراده من المؤمنين ، الذين هم أحق الناس به في نفس الأمر ، وقوله : { الذي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد } أي يمنعون عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وقد جعله الله للناس لا فرق بين المقيم فيه والنائي عنه البعيد الدار منه ، { سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد } ، ومن ذلك استواء الناس في رباع مكة وسكناها ، كما قال ابن عباس : ينزل أهل مكة وغيرهم في المسجد الحرام؛ وقال مجاهد : { سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد } أهل مكة وغيرهم فيه سواء في المنازل ، وقال قتادة : سواء فيه أهله وغيره أهله؛ وهذه المسألة هي التي اختلف فيها الشافعي وإسحاق بن راهوية بمسجد الخيف وأحمد بن حنبل حاضر أيضاً . فذهب رحمه الله إلى أن رباع مكة تملك وتورث وتؤجر ، واحتج بحديث الزهري « عن أسامه بن زيد قال ، قلت : يا رسول الله أتنزل غداً في دارك بمكة؟ فقال : » وهل ترك لنا عقيل من رباع « ثم قال : » لا يرث الكافر المسلم ولا المسلم الكافر « ، وبما ثبت أن عمر بن الخطاب اشترى من ( صفوان بن أمية ) داراً بمكة فجعلها سجناً بأربعة آلاف درهم ، وذهب إسحاق بن راهوية إلى أنها لا تورث ولا تؤجر ، وهو مذهب طائفة من السلف ، واحتج إسحاق بن راهوية بما روي عن علقمة بن نضلة قال : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وما تدعى رباع مكة إلا السوائب من احتاج سكن ومن استغنى أسكن . وقال عبد الله بن عمرو : لا يحل بيع دور مكة ولا كراؤها ، وكان عطاء ينهى عن الكراء في الحرم . وقال عمر بن الخطاب : يا أهل مكة لا تتخذوا لدوركم أبواباً لينزل البادي حيث يشاء ، وروى الدارقطني عن عبد الله بن عمرو موقوفاً : » من أكل كراء بيوت مكة أكل ناراً « ، وتوسط الإمام أحمد فقال : تملك وتورث ولا تؤجر جمعاً بين الأدلة والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } قال بعض المفسرين : الباء هاهنا زائدة ، كقوله : { تَنبُتُ بالدهن } [ المؤمنين : 20 ] أي تنبت الدهن ، وكذا قوله : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } تقديره إلحاداً . والأجود أنه ضمن الفعل ههنا معنى يهم ، ولهذا عداه بالباء فقال : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ } أي يهم فيه بأمر فظيع من المعاصي الكبار ، وقوله : { بِظُلْمٍ } أي عامداً قاصداً أنه ظلم ليس بمتأول ، وقال ابن عباس : بظلم بشرك ، وقال مجاهد : أن يعبد فيه غير الله ، وكذا قال قتادة وغير واحد .(1/1680)
وقال العوفي عن ابن عباس : بظلم هو أن تستحل من الحرم ما حرم الله عليك من إساءة أو قتل فتظلم من لا يظلمك وتقتل من لا يقتلك ، فإذا فعل ذلك فقد وجب له العذاب الأليم . وقال مجاهد : بظلم يعمل فيه عملاً سيئاً ، وهذا من خصوصية الحرم أنه يعاقب البادي فيه الشر إذا كان عازماً عليه وإن لم يوقعه ، كما قال ابن مسعود : لو أن رجلاً أراد فيه بإلحاد بظلم وهو بعدن أبين لأذاقه الله من العذاب الأليم . وقال الثوري عن عبد الله بن مسعود قال : ما من رجل يهم بسيئة فتكتب عليه ولو أن رجلاً بعدن أبين هم أن يقتل رجلاً بهذا البيت لأذاقه الله من العذاب الأليم؛ وقال سعيد بن جبير : شتم الخادم ظلم فما فوقه؛ وقال ابن عباس في قول الله : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } قال : نزلت في عبد الله بن أنيس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه مع رجلين أحدهما مهاجر والآخر من الأنصار ، فافتخروا في الأنساب ، فغضب عبد الله بن أنيس فقتل الأنصاري ، ثم ارتد عن الإسلام ، ثم هرب إلى مكة ، فنزلت فيه : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ } يعني من لجأ إلى الحرم بإلحاد يعني بميل عن الإسلام . وهذه الآثار وإن دلت على أن هذه الأشياء من الإلحاد ، ولكن هو أعم من ذلك ، بل فيها تنبيه على ما هو أغلظ منها؛ ولهذا لما هم أصحاب الفيل على تخريب البيت أرسل الله عليهم { طَيْراً أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِم بِحِجَارَةٍ مِّن سِجِّيلٍ * فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَّأْكُولٍ } [ الفيل : 3-5 ] أي دمرهم وجعلهم عبرة ونكالاً لكل من أراده بسوء ، ولذلك ثبت في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يغزو هذا البيت جيش حتى إذا كانوا ببيداء من الأرض خسف بأولهم وآخرهم » وعن سعيد بن عمرو قال : أتى عبد الله بن عمر عبد الله بن الزبير وهو جالس في الحجر فقال : يا ابن الزبير إياك والإلحاد في الحرم ، فإني أشهد لسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يحلها ويحل به رجل من قريش لو وزنت ذنوبه بذنوب لوزنتها » قال : فانظر لا تكن هو .(1/1681)
وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27)
ذكر تعالى أنه بوأ إبراهيم مكان البيت أي أرشده إليه ، وسلمه له وأذن له في بنائه ، واستدل به كثير ممن قال إن إبراهيم عليه السلام هو أول من بنى البيت العتيق وأنه لم يبن قبله ، كما ثبت في « الصحيحين » « عن أبي ذر قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال : » المسجد الحرام « قلت : ثم أي؟ قال : بيت المقدس » قلت كم بينهما؟ قال : « أربعون سنة » ، وقد قال الله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } [ آل عمران : 96 ] الآيتين ، وقال تعالى : { وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود } [ البقرة : 125 ] وقد قدمنا ذكر ما ورد في بناء البيت من الصحاح والآثار بما أغنى عن إعادته هاهنا وقال تعالى هاهنا : { أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً } أي ابنه على اسمي وحدي { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ } قال مجاهد : من الشرك { لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين والركع السجود } أي اجعله خالصاً لهؤلاء الذين يعبدون الله وحده لا شريك له ، فالطائف به معروف ، وهو أخص العبادات عند البيت ، فإنه لا يفعل ببقعة من الأرض سواها { والقآئمين } أي في الصلاة ، ولهذا قال { والركع السجود } فقرن الطواف بالصلاة لأنهما لا يشرعان إلا مختصين بالبيت .
وقوله تعالى : { وَأَذِّن فِي الناس بالحج } أي ناد في الناس بالحج داعياً لهم لحج هذا البيت الذي أمرناك ببنائه فذكر أنه قال : يا رب كيف أبلغ الناس وصوتي لا ينفذهم؟ فقال : ناد وعلينا البلاغ ، فقام على مقامه ، وقيل على الحجر ، وقيل على الصفا ، وقيل على أبي قبيس ، وقال : يا أيها الناس إن ربكم قد اتخذ بيتاً فحجوه ، فيقال : إن الجبال تواضعت حتى بلغ الصوت أرجاء الأرض ، وأسمع من في الأرحام والأصلاب ، وأجابه كل شيء سمعه من حجر ومدر وشجر ، ومن كتب الله أنه يحج إلى يوم القيامة لبيك اللهم لبيك ، هذا مضمون ما ورد عن ابن عباس ومجاهد وعكرمة وسعيد بن جبير وغير واحد من السلف والله أعلم ، وأوردها ابن جرير وابن أبي حاتم مطولة ، وقوله : { يَأْتُوكَ رِجَالاً وعلى كُلِّ ضَامِرٍ } الآية . قد يستدل بهذه الآية من ذهب من العلماء إلى أن الحج ماشياً لمن قدر عليه أفضل من الحج راكباً لأنه قدمهم في الذكر ، فدل على الاهتمام بهم وقوة هممهم وشدة عزمهم ، وقال ابن عباس : ما أساء على شيء إلا أني وددت أني كنت حججت ماشياً ، لأن الله يقول : { يَأْتُوكَ رِجَالاً } ، والذي عليه الأكثرون أن الحج راكباً أفضل اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه حج راكباً مع كمال قوته عليه السلام . وقوله : { يَأْتِينَ مِن كُلِّ فَجٍّ } يعني طريق ، كما قال : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } [ الأنبياء : 31 ] ، وقوله : { عَميِقٍ } أي بعيد ، وهذه الآية كقوله تعالى : { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] ، فليس أحد من أهل الإسلام إلا وهو يحن إلى رؤية الكعبة والطواف ، والناس يقصدونها من سائر الجهات والأقطار .(1/1682)
لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29)
قال ابن عباس { لِّيَشْهَدُواْ مَنَافِعَ لَهُمْ } ، قال : منافع الدنيا والآخرة ، أما منافع الآخرة فرضوان الله تعالى ، وأما منافع الدنيا فما يصيبون من منافع البدن والذبائح والتجارات ، وكذا قال مجاهد وغير واحد : إنها منافع الدنيا والآخرة ، كقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ] ، وقوله : { وَيَذْكُرُواْ اسم الله في أَيَّامٍ مَّعْلُومَاتٍ على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام } ، قال ابن عباس : الأيام المعلومات أيام العشر ، وهو مذهب الشافعي والمشهور عن أحمد بن حنبل ، وقال البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما العمل في أيام أفضل منها في هذه » قالوا : ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال : « ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجل يخرج يخاطر بنفسه وماله فلم يرجع بشيء » ، وروى الإمام أحمد عن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر ، فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد » ، وقال البخاري : وكان ابن عمر وأبو هريرة يخرجان إلى السوق في أيام العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما ، وقد روي عن جابر مرفوعاً أن هذا هو الشعر الذي أقسم الله به في قوله : { والفجر * وَلَيالٍ عَشْرٍ } [ الفجر : 1-2 ] ، وقال بعض السلف : إنه المراد بقوله : { وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } [ الأعراف : 142 ] .
وفي « سنن أبي داود » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصوم هذا العشر ، وهذا العشر مشتمل على يوم عرفة ، وقد سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيام يوم عرفة فقال : احتسب على الله أن يكفر السنة الماضية والآتية ، ويشتمل على يوم النحر الذي هو يوم الحج الأكبر ، وقد ورد في حديث أنه أفضل الأيام عند الله ، وبالجملة فهذا العشر قد قيل إنه أفضل أيام السنة كما نطق به الحديث ، وفضّله كثر على عشر رمضان الأخير ، لأن هذا يشرع فيه ما يشرع في ذلك من صلاة وصيام وصدقة وغيرها ، ويمتاز هذا باختصاصه بأداء فرض الحج فيه ، وقيل ذلك أفضل لاشتماله على ليلة القدر التي هي خير من ألف شهراً ، وتوسط آخرون فقالوا : أيام هذا أفضل وليالي ذاك أفضل؛ وبهذا يجتمع شمل الأدلة والله أعلم ، ( قول ثان ) في الأيام المعلومات ، قال ابن عباس : الأيام المعلومات يوم النحر وثلاثة أيام بعده؛ وإليه ذهب أحمد بن حنبل في رواية عنه . ( قول ثالث ) : عن نافع عن ابن عمر كان يقول : الأيام المعلومات المعدودات هن جميعهن أربعة أيام ، فالأيام المعلومات يوم النحر ويومان بعده ، والأيام المعدودات ثلاثة أيام بعد يوم النحر ، وهو مذهب الإمام مالك بن أنس .(1/1683)
( قول رابع ) : أنها يوم عرفة ويوم النحر ويوم آخر بعده وهو مذهب أبي حنيفة ، وقوله : { على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام } يعني الإبل والبقر والغنم كما فصلها تعالى في سورة الأنعام . وقوله : { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ البآئس الفقير } استدل بهذه الآية من ذهب إلى وجوب الأكل من الأضاحي ، وهو قول غريب والذي عليه الأكثرون أنه من باب الرخصة أو الاستحباب ، كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نحر هديه أمر من كل بدنة ببضعة فتطبخ فأكل من لحمها وحسا من مرقها ، وقال مالك أحب أن يأكل من أضحيته ، لأن الله يقول : { فَكُلُواْ مِنْهَا } ، وقال سفيان الثوري عن إبراهيم { فَكُلُواْ مِنْهَا } قال : المشركون لا يأكلون من ذبائحهم ، فرخص للمسلمين ، فمن شاء أكل ومن لم يشأ لم يأكل . وعن مجاهد في قوله : { فَكُلُواْ مِنْهَا } قال : هي كقوله : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } [ المائدة : 2 ] { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض } [ الجمعة : 10 ] ، وهذا اختيار ابن جرير في تفسيره .
وقوله تعالى : { البآئس الفقير } قال عكرمة : هو المضطر الذي يظهر عليه البؤس وهو الفقير المتعفف . وقال مجاهد : هو الذي لا يبسط يده . وقال قتادة : وقال قتادة : هو الزَّمِن . وقاتل مقاتل : هو الضرير ، وقوله : { ثُمَّ لْيَقْضُواْ تَفَثَهُمْ } ، قال ابن عباس : هو وضع الإحرام من حلق الرأس ، ولبس الثياب ، وقص الأظافر ونحو ذلك ، وقوله : { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } يعني نحر ما نذر من أمر البدن ، وقال مجاهد : { وَلْيُوفُواْ نُذُورَهُمْ } نذر الحج والهدي وما نذر الإنسان من شيء يكون في الحج ، وعنه : كل نذر إلى أجل ، وقوله : { وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق } قال مجاهد : يعني الطواف الواجب يوم النحر ، وقال أبو حمزة قال ، قال لي ابن عباس : أتقرأ سورة الحج ، يقول الله تعالى : { وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق } ؟ فإن آخر المناسك الطواف بالبيت العتيق ، قلت : وهكذا صنع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإنه لما رجع إلى مِنى يوم النحر بدأ برمي الجمرة ، فرماها بسبع حصيات ، ثم نحر هديه وحلق رأسه ، ثم أفاض فطاف بالبيت ، وفي « الصحيحين » عن ابن عباس أنه قال : أمر الناس أن يكون آخر عهدهم بالبيت الطواف إلا أنه خفف عن المرأة الحائض ، وقوله : { بالبيت العتيق } ، قال الحسن البصري في قوله : { وَلْيَطَّوَّفُواْ بالبيت العتيق } قال : لأنه أول بيت وضع للناس ، وقال خصيف . إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار قط . وعن مجاهد : لم يرده أحد بسوء إلا هلك ، وفي الحديث : « إنما سمي البيت العتيق لأنه لم يظهر عليه جبار » روي مرفوعاً ومرسلاً .(1/1684)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30) حُنَفَاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ (31)
يقول تعالى : هذا الذي أمرنا به من الطاعات في أداء المناسبات وما يلقى عليها من الثواب الجزيل ، { وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله } أي ومن يجتنب معاصيه ومحارمه ، { فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ عِندَ رَبِّهِ } أي فله على ذلك خير كثير وثواب جزيل ، فكما على فعل الطاعات ثواب كثير وأجر جزيل ، كذلك على ترك المحرمات واجتناب المحظورات . قال مجاهد في قوله : { ذلك وَمَن يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ الله } قال : المحرمات مكة والحج والعمرة وما نهى الله عنه من معاصيه كلها ، وقوله : { وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُم } أي أحللنا لكم جميع الأنعام ، وقوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } أي من تحريم { الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة } [ المائدة : 3 ] الآية ، قال ذلك ابن جرير وحكاه عن قتادة ، وقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور } ، أي اجتنبوا الرسج الذي هو الأوثان ، وقرن الشرك بالله بقول الزور ، كقوله : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 33 ] ومنه شهادة الزور . وفي « الصحيحين عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ لنا : بلى يا رسول الله قال : الإشراك بالله وعقوق الوالدين - وكان متكئاً فجلس - فقال : ألا وقول الزور ، ألا وشهادة الزور «؛ فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت » وعن خريم بن فاتك الأسدي قال : « صلى الله عليه وسلم الصبح فلما انصرف قام قائماً ، فقال : » عدلت شهادة الزور الإشراك بالله عز وجلَّ « ، ثم تلا هذه الآية : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان واجتنبوا قَوْلَ الزور * حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } ، وقوله : { حُنَفَآءَ للَّهِ } : أي مخلصين له الدين منحرفين عن الباطل قصداً إلى الحق ولهذا قال : { غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ } ثم ضرب للمشرك مثلاً في ضلالة وهلاكه وبعده عن الهدى ، فقال : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء } أي سقط منها ، { فَتَخْطَفُهُ الطير } أي تقطعه الطيور في الهواء ، { أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } أي بعيد ، مهلك لمن هوى فيه ، ولهذا جاء في حديث البراء : أن الكافر إذا توفته ملائكة الموت وصعدوا بروحه إلى السماء ، فلا تفتح له أبواب السماء ، بل تطرح روحه طرحاً من هناك ، ثم قرأ هذه الآية : { فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } .(1/1685)
ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّهَا إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)
يقول تعالى : هذا { وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله } أي أوامره ، { فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب } ، ومن ذلك تعظيم الهدايا والبدن ، كما قال ابن عباس : تعظيمها استسمانها واستحسانها . وقال أبو أمامة عن سهل : كنَّا نسمِّن الأضحية بالمدينة ، وكان المسلمون يسمِّنون . وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « دم عفراء أحب إلى الله من دم سوداوين » ، رواه أحمد وابن ماجه ، قالوا : والعفراء - هي اليضاء بياضاً ليس بناصع ، فالبيضاء أفضل من غيرها ، وغيرها يجزئ أيضاً لما ثبت في « صحيح البخاري » عن أنس « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين أملحين أقرنين » ، وفي « سنن ابن ماجه » عن أبي رافع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحى بكبشين عظيمين سمينين أقرنين أملحين موجوئين ، وعن علي رضي الله عنه قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن ، وأن لا نضحي بمقابلة ولا مدابرة ، ولا شرقاء ولا خرقاء؛ وعن البراء قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أربع لا تجوز في الأضاحي : العوراء البيّن عورها ، والمريضة البيّن مرضها ، والعرجاء البيّن ضلعها ، والكسيرة التي لا تنقي » ، وهذه العيوب تنقص اللحم لضعفها وعجزها عن استكمال الرعي ، لأن الشاء يسبقونها إلى المرعى ، فلهذا لا تجزئ التضحية بها عند الشافعي وغيره من الأئمة كما هو ظاهر الحديث ، ولهذا جاء في الحديث : أمرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن أي أن تكون الهدية أو الأضحية سمينة حسنة ثمينة ، كما روى عبد الله بن عمر : « أهدي عمر نجيباً فأعطى بها ثلثمائة دينار ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أهديت نجيباً فأعطيت بها ثلثمائة دينار ، أفأبيعها وأشتري بثمنها بدناً؟ قال : » لا ، إنحرها إياها « وقال ابن عباس : البدن من شعائر الله ، وقال محمد بن أبي موسى : الوقوف ومزدلفة والجمار والرمي والحلق والبدن من شعائر الله؛ وقال ابن عمر : أعظم شعائر البيت .
وقوله : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ } أي لكم في البدن مافع من لبنها وصوفها وأوبارها وأشعارها وركوبها إلى أجل مسمى ، قال مجاهد في قوله : { لَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } قال : الركوب واللبن والولد ، فإذا سميت بدنة أو هدياً ذهب ذلك كله ، وقال آخرون : بل له أن ينتفع بها وإن كانت هدياً إذا احتاج إلى ذلك؛ كما ثبت في » الصحيحين « عن أنس » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً يسوق بدنة قال : « اركبها » قال : إنها بدنة ، قال : « اركبها ويحك » في الثانية أو الثالثة « ، وفي رواية لمسلم : » اركبها بالمعروف إذا ألجئت إليها « وعن علي أنه رأى رجلاص يسوق بدنه ومعها ولدها ، فقال : لا تشرب من لبنها إلا ما فضل عن ولدها فإذا كان يوم النحر فاذبحها وولدها ، وقوله : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } أي محل الهدى وانتهاؤه إلى البيت العتيق وهو الكعبة ، كما قال تعالى : { هَدْياً بَالِغَ الكعبة } [ المائدة : 95 ] ، وقال : { والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25 ] . وقال عطاء ، كان ابن عباس يقول : كل من طاف بالبيت فقد حل ، قال الله تعالى : { ثُمَّ مَحِلُّهَآ إلى البيت العتيق } .(1/1686)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَبَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَى مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (35)
يخبر تعالى : أنه لم يزل ذبح المناسك وإراقة الدماء على اسم الله مشروعاً في جميع الملل ، قال ابن عباس { مَنسَكاً } : عيداً ، وقال عكرمة : ذبحاً ، وقال زيد بن أسلم في قوله : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنسَكاً } : إنها مكة لم يجعل الله لأمة قط منسكاً غيرها ، وقوله : { لِّيَذْكُرُواْ اسم الله على مَا رَزَقَهُمْ مِّن بَهِيمَةِ الأنعام } كما ثبت في « الصحيحين » عن أنس قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين أملحين أقرنين فسمَّى وكبر ووضع رجله على صفاحهما . وقال الإمام أحمد بن حنبل عن زيد بن أرقم قال ، قلت أو قالوا : « يا رسول الله ما هذه الأضاحي؟ قال : » سنة أبيكم إبراهيم « ، قالوا : ما لنا منها؟ قال : بكل شعرة حسنة » ، قالوا : فالصوف؟ قال : « بكل شعرة من الصوف حسنة » ، وقوله : { فإلهكم إله وَاحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُواْ } أي معبودكم واحد وإن تنوعت شرائع الأنبياء ونسخ بعضها بعضاً ، فالجميع يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] ، ولهذا قال : { فَلَهُ أَسْلِمُواْ } أي أخلصوا واستسلموا لحكمه وطاعته ، { وَبَشِّرِ المخبتين } قال مجاهد : المطمئنين ، وقال الضحاك : المتواضعين ، وقال السدي : الوجلين ، وقال الثوري : المطمئنين الراضين بقضاء الله المستسلمين له ، وأحسن ما يفسر بما بعده وهو قوله : { الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } أي خافت منه قلوبهم ، { والصابرين على مَآ أَصَابَهُمْ } أي من المصائب ، قال الحسن البصري : والله لنبصبرن أو لنهلكن . { والمقيمي الصلاة } أي المؤدين حق الله فيما أوجب عليهم من أداء فريضة ، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أي وينفقون ما آتاهم الله من طيب الرزق على أهليهم وأقاربهم وفقرائهم ومحاويجهم ، ويحسنون إلى الخلق مع محافظتهم على حدود الله .(1/1687)
وَالْبُدْنَ جَعَلْنَاهَا لَكُمْ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا صَوَافَّ فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْقَانِعَ وَالْمُعْتَرَّ كَذَلِكَ سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)
يقول تعالى : ممتناً على عبيده فيما خلق لهم من البدن وجعلها من شعائره ، وهو أنه جعلها تهدى إلى بيته الحرام بل هي أفضل ما يهدى إله . قال عطاء { والبدن } : البقرة والبعير . وقال مجاهد : إنما البدن من الإبل ، واختلفوا في صحة إطلاق البدنة على البقرة على قولين : أصحهما أنه يطلق عليها ذلك شرعاً كما صح الحديث ، ثم جمهور العلماء على أنه تجزئ البدنة عن سبعة والبقرة عن سبعة ، كما ثبت عن جابر بن عبد الله قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الأضاحي : البدنة عن سبعة ، والبقرة عن سبعة ، وقوله : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } أي ثواب في الدار الآخرة ، لما روي عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما عمل ابن آدم يوم النحر عملاً أحب إلى الله من إهراق دم وإنها لتأتي يوم القيامة بقرونها وأظلافها وأشعارها ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع من الأرض فَطِيبُوا بها نفساً » ، وقال سفيان الثوري : كان أبو حازم يستدين ويسوق البدن ، فقيل له : تستدين وتسوق البدن؟ فقال : إني سمعت الله يقول : { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } ، وقال مجاهد { لَكُمْ فِيهَا خَيْرٌ } قال : أجر ومنافع ، وقال إبراهيم النخعي : يركبها ويحلبها إذا احتاج إليها ، وقوله : { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ } ، وعن جابر بن عبد الله قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عيد الأضحى ، فلما انصرف أتي بكبش فذبحه ، فقال : « بسم الله والله أكبر ، اللهم هذا عني وعمن لم يضح من أمتي » وروى محمد بن إسحاق عن جابر قال : ضحى رسول الله صلى الله عليه وسلم بكبشين في يوم عيد فقال حين وجههما : { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 79 ] { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين * لاَ شَرِيكَ لَهُ وبذلك أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } [ الأنعام : 162-163 ] ، « اللهم منك ولك عن محمد وأمته » ، ثم سمَّى وكبر وذبح .
وعن علي بن الحسين عن أبي رافع « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا ضحى اشترى كبشين سمينين أقرنين أملحين ، فإذا صلى وخطب الناس أتى بأحدهما وهو قائم في مصلاه فذبحه بنفسه بالمدية ثم يقول : » اللهم هذا عن أمتي جميعها من شهد لك بالتوحيد وشهد لي بالبلاغ ، ثم يُؤتى بالآخر فيذبحه بنفسه ، ثم يقول : « هذا عن محمد وآل محمد » فيطعمهما جميعاً للمساكين ويأكل هو وأهله منهما « وقال الأعمش عن ابن عباس في قوله : { فاذكروا اسم الله عَلَيْهَا صَوَآفَّ } قال : قياماً على ثلاث قوائم معقولة يدها اليسرى يقول : باسم الله والله أكبر لا إله إلا الله ، اللهم منك ولك ، وقال ليث عن مجاهد : إذا عقلت رجلها اليسرى قامت على ثلاث ، وفي » الصحيحين « عن ابن عمر أنه أتى على رجل قد أناخ بدنة وهو ينحرها فقال : ابعثها قياماً مقيدة سنَّة أبي القاسم صلى الله عليه وسلم ، وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه : كانوا ينحرون البدن معقولة اليسرى قائمة على ما بقي من قوائمها .(1/1688)
وقال العوفي عن ابن عباس { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } يعني نحرت ، وقال ابن أسلم : { فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا } يعني ماتت؛ وهذا القول هو مراد ابن عباس ومجاهد ، فإنه لا يجوز الأكل من البدنة إذا نحرت حتى تموت وتبرد حركتها ، وقد جاء في حديث مرفوع : « لا تعجلوا النفوس أن تزهق » ، ويؤيده حديث شداد بن أوس في « صحيح مسلم » : « إن الله كتب الإحسان على كل شيء فإذا قتلتم فأحسنوا القتلة ، وإذا ذبحتم فأحسنوا الذبحة ، وليحدّ أحدكم شفرته وليرح ذبيحته » وقوله : { فَكُلُواْ مِنْهَا وَأَطْعِمُواْ القانع والمعتر } قال بعض السلف : قوله : { فَكُلُواْ مِنْهَا } أمر إباحة ، وقال مالك : يستحب ذلك ، وقال غيره يجب ، واختلفوا في المراد بالقانع والمعتر ، فقال ابن عباس : القانع المستغني بما أعطيته وهو في بيته ، والمعتر الذي يعترض لك ويلم بك أن تعطيه من اللحم ولا يسأل ، وكذا قال مجاهد ، وقال ابن عباس : القانع المتعفف ، والمعتر السائل ، وقال سعيد بن جبير : القانع هو السائل ، أما سمعت قول الشماخ :
لمَالُ المرءِ يصلحه فيغني ... مفاقرَه أعفُّ من القنوع
أي : يغني من السؤال ، وقال زيد بن أسلم : القانع المسكين الذي يطوف ، والمعتر الصديق والضعيف الذي يزور ، واختار ابن جرير : أن القانع هو السائل لأنه من أقنع بيده إذا رفعها للسؤال ، والمعتر من الاعتراء وهو الذي يعترض لأكل اللحم ، وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس : « إني كنت نهيتكم عن ادخار لحوم الأضاحي فوق ثلاث فكلوا وادخروا ما بدا لكم » ، وفي رواية : « فكلوا وادخروا وتصدقوا » .
مسألة :
عن البراء بن عازب قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أول ما نبدأ به في يومنا هذا أن نصلي ثم نرجع فننحر ، فمن فعل فقد أصاب سنتنا ، ومن ذبح قبل الصلاة فإنما هو لحم قدمه لأهله ليس من النسك في شيء » ، فلهذا قال الشافعي وجماعة من العلماء : إن أول وقت ذبح الأضاحي إذا طلعت الشمس يوم النحر ومضى قدرة صلاة العيد والخطبتين ، زاد أحمد : وأن يذبح الإمام بعد ذلك ، لما جاء في « صحيح مسلم » : وأن لا تذبحوا حتى يذبح الإمام ، وقال أبو حنيفة : أما أهل السواد من القرى ونحوها فلهم أن يذبحوا بعد طلوع الفجر إذ لا صلاة عيد تشرع عنده لهم ، وأما أهل الأمصار فلا يذبحوا حتى يصلي الإمام والله أعلم .(1/1689)
ثم قيل : لا يشرع الذبح إلا يوم النحر وحده ، وقيل : يوم النحر ويوم بعده للجميع ، وقيل : ويومان بعده ، وبه قال الإمام أحمد ، وقيل : يوم النحر وثلاثة أيام التشريق بعده ، وبه قال الشافعي : لحديث جبير بن مطعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أيام التشريق كلها ذبح » ، وقوله : { كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، يقول عالى عن أجل هذا { سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ } أي ذللناهم لكم وجعلناها منقادة لكم خاضعة إن شئتم ركبتم وإن شئتم حلبتم وإن شئتم ذبحتم { كذلك سَخَّرْنَاهَا لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .(1/1690)
لَنْ يَنَالَ اللَّهَ لُحُومُهَا وَلَا دِمَاؤُهَا وَلَكِنْ يَنَالُهُ التَّقْوَى مِنْكُمْ كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَبَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)
يقول تعالى : إنما شرع لكم نحر هذه الضحايا لتذكروه عند ذبحها ، فإنه الخالق الرازق لا يناله شيء من لحومها ولا دمائها ، فهو الغني عما سواه ، وقد كانوا في جاهليتهم إذا ذبحوها لآلهتهم ، وضعوا عليها من لحوم قرابينهم ونضحوا عليها من دمائها ، فقال تعالى : { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا } . عن ابن جريج قال : كان أهل الجاهلية ينضحون البيت بلحوم الإبل ودمائها ، فقال أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : فنحن أحق أن ننضح فأنزل الله : { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ } أي يتقبل ذلك ويجزي عليه ، كما جاء في « صحيح » : « إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » وجاء في الحديث : « إن الصدقة لتقع في يد الرحمن قبل أن تقع في يد السائل ، وإن الدم ليقع من الله بمكان قبل أن يقع إلى الأرض » وقوله : { كذلك سَخَّرَهَا لَكُمْ } أي من أجل ذلك سخر لكم البدن { لِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } أي لتعظموه على ما هداكم لدينه وشرعه وما يحبه ويرضاه ، ونهاكم عن فعل ما يكرهه ويأباه ، وقوله : { وَبَشِّرِ المحسنين } أي وبشر يا محمد المحسنين في عملهم ، القائمين بحدود الله ، المتبعين ما شرع لهم ، المصدّقين الرسول فيما أبلغهم وجاءهم به من عند ربه عزَّ وجلَّ .(1/1691)
إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38)
يخبر تعالى : أنه يدفع عن عباده الذين توكلوا عليه وأنابوا إليه ، شر الأشرار وكيد الفجار ، ويحفظهم ويكلؤهم وينصرهم ، كما قال تعالى : { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] ؟ وقال : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3 ] ، وقوله : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ } أي لا يحب من عباده من اتصف بهذا ، وهو الخيانة في العهود والمواثيق ، لا يفي بما قال ، والكفر : الجحد للنعم فلا يعترف بها .(1/1692)
أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)
قال ابن عباس : نزلت في محمد وأصحابه حين أخرجوا من مكة ، وقال مجاهد والضحاك وغير واحد من السلف : هذه أول آية نزلت في الجهاد ، وقال ابن جرير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : لما أخرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة قال أبو بكر : أخرجوا نبيهم إنا لله وإنا إليه راجعون ليهلكن ، قال ابن عباس : فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } ، قال أبو بكر رضي الله عنه : فعرفت أنه سيكون قتال ، زاد أحمد : وهي أول آية نزلت في القتال . وقوله : { وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } أي هو قادر على نصر عباده المؤمنين من غير قتال ، ولكن هو يريد من عباده أن يبذلوا جهدهم في طاعته كما قال : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ والذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ } [ محمد : 4 ] ، وقال تعالى : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [ التوبة : 14 ] ، وقال : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } [ آل عمران : 142 ] ، وقال : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 21 ] والآيات في هذا كثيرة ، ولهذا قال ابن عباس في قوله : { وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } وقد فعل ، وإنما شرع تعالى الجهاد في الوقت الأليق به ، لأنهم لما كانوا بمكة كان المشركون أكثر عدداً ، فلو أمر المسلمون وهم أقل بقتال الباقين لشق عليهم ، ولهذا لما بايع أهل يثرب ليلة العقبة رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا نيفاً وثمانين قالوا : « يا رسول الله ألا نميل على أهل الوادي ، يعنون أهل منى ليالي منى فنقتلهم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إني لم أؤمر بهذا « ، فلما بغى المشركون وأخرجوا النبي صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم ، وهموا بقتله وشردوا أصحابه ، فلما استقروا بالمدينة وصارت لهم دار الإسلام ، ومعقلاً يلجئون إليه ، شرع الله جهاد الأعداء ، فكانت هذه الآية أول ما نزل في ذلك ، فقال تعالى : { أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُواْ وَإِنَّ الله على نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الذين أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِم بِغَيْرِ حَقٍّ } قال ابن عباس : أخرجوا من مكة إلى المدينة بغير حق يعني محمداً وأصحابه ، { إِلاَّ أَن يَقُولُواْ رَبُّنَا الله } أي ما كان لهم إساءة ولا ذنب ، إلا أنهم وحدوا الله وعبدوه لا شريك له ، كما قال تعالى : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبِّكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] ، وقال تعالى في قصة أصحاب الأخدود : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد } [ البروج : 8 ] .
ثم قال تعالى : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي لولا أنه يدفع بقوم عن قوم ، ويكف شرور أناس عن غيرهم ، بما يخلقه ويقدره من الأسباب لفسدت الأرض ، ولأهلك القوي الضعيف ، { لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ } وهي المعابد للرهبان ، وقال قتادة : هي معابد الصابئين ، وفي رواية عنه : صوامع المجوس ، { وَبِيَعٌ } وهي أوسع منها وهي للنصارى أيضاً ، وحكى ابن جبير عن مجاهد وغيره : أنها كنائس اليهود ، وعن ابن عباس : أنها كنائس اليهود ، وقوله : { وَصَلَوَاتٌ } قال ابن عباس : الصلوات كنائس ، وكذا قال عكرمة والضحاك وقتادة : إنها كنائس اليهود وهم يسمونها صلوات ، وحكى السدي عن ابن عباس : أنها كنائس النصارى ، وقال أبو العالية وغيره : الصلوات معابد الصابئين .(1/1693)
وقال مجاهد : الصلوات مساجد لأهل الكتاب ، ولأهل الإسلام بالطرق ، وأما المساجد فهي للمسلمين . وقوله : { يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً } ، فقد قيل : الضمير في قوله { يُذْكَرُ فِيهَا } عائد إلى المساجد لأنها أقرب المذكورات ، وقال الضحاك : الجميع يذكر فيها الله كثيراً ، وقال ابن جرير : الصواب لهدمت صوامه الرهبان وبيع النصارى وصلوات اليهود وهي كنائسهم ومساجد المسلمين التي يذكر فيها اسم الله كثيراً ، لأن هذا هو المستعمل المعروف في كلام العرب . وقال بعض العلماء : هذا تَرَقٍ من الأقل إلى الأكثر إلى أن انتهى إلى المساجد ، وهي أكثر عُمّاراً وأكير عبَّاداً ، وهم ذوو القصد الصحيح . وقوله : { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } ، كقوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ } [ محمد : 7 ] ، وقوله : { إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } وصف نفسه بالقوة والعزة ، فبقوته خلق كل شيء فقدره تقديراً ، وبعزته لا يقهره قاهر ، ولا يغلبه غالب ، بل كل شيء ذليل لديه فقير إليه ، ومن كان القوي العزيز ناصره فهو المنصور ، وعدوه هو المقهور ، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 171-173 ] ، وقال تعالى : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] .(1/1694)
الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)
قال عثمان بن عفان : فينا نزلت { الذين إِنْ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض أَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة وَأَمَرُواْ بالمعروف وَنَهَوْاْ عَنِ المنكر } فأخرجنا من ديارنا بغير حق إلا أن قلنا ربنا الله ثم مكنّا في الأرض ، فأقمنا الصلاة وآتينا الزكاة ، وأمرنا بالمعروف ونهينا عن المنكر ، ولله عاقبة الأمور ، فهي لي ولأصحابي . وقال أبو العالية : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال عطية العوفي : هذه الآية كقوله : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض } [ النور : 55 ] ، وقوله : { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور } ، كقوله تعالى : { والعاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ القصص : 83 ] ، وقال زيد بن أسلم : { وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الأمور } وعند الله ثواب ما صنعوا .(1/1695)
وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَعَادٌ وَثَمُودُ (42) وَقَوْمُ إِبْرَاهِيمَ وَقَوْمُ لُوطٍ (43) وَأَصْحَابُ مَدْيَنَ وَكُذِّبَ مُوسَى فَأَمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَشِيدٍ (45) أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)
يقول تعالى مسلياً لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم في تكذيب من خالفه من قومه { وَإِن يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ . . . } إلى أن قال { وَكُذِّبَ موسى } أي ما جاء به من الآيات والدلائل الواضحات ، { فَأمْلَيْتُ لِلْكَافِرِينَ } أي أنظرتهم وأخرتهم ، { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ نَكِيرِ } أي فكيف كان إنكاري عليهم ومعاقبتي لهم؟! وذكر بعض السلف أنه كان بين قول فرعون لقومه { أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 24 ] وبين إهلاك الله له أربعون سنة ، وفي « الصحيحين » عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » ، ثم قرأ : { وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] ، ثم قال تعالى : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } أي كم من قرية أهلكتها { وَهِيَ ظَالِمَةٌ } أي مكذبة لرسلها ، { فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } ، وقال الضحاك : سقوفها ، أي قد خربت منازلها وتعطلت حواضرها ، { وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ } أي لا يستقي منها ولا يردها أحد ، بعد كثرة وارديها والازدحام عليها ، { وَقَصْرٍ مَّشِي } قال عكرمة : يعني المبيض بالجص ، وقال آخرون هو المنيف المرتفع ، وقال آخرون : المشيد المنيع الحصين ، وكل هذه الأقوال متقاربة ، ولا منافاة بينها ، فإنه لم يحم أهلَه شدةُ بنائه ولا ارتفاعه ولا إحكامه ولا حصانته عن حلول بأس الله بهم ، كما قال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ] ، وقوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض } أي بأبدانهم وبفكرهم أيضاً ، وذلك للاعتبار ، أي انظروا ما حل بالأمم المكبة من النقم والنكال ، { فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا } أي فيعتبرون بها ، { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } أي ليس العمى عمى البصر ، وإنما العمى عمر البصيرة ، وإن كانت القوة الباصرة سليمة فإنها لا تنفد إلى العبر ولا تدري ما الخير .(1/1696)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47) وَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)
يقول تعالى : لنبيه صلوات الله وسلامه عليه { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب } أي هؤلاء الكبار المحلدون المكذبون بالله وكتابه ورسوله واليوم الآخر ، كما قال تعالى : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب } [ ص : 16 ] ، وقوله : { وَلَن يُخْلِفَ الله وَعْدَهُ } أي الذي قد وعد من إقامة الساعة ، والانتقام من أعدائه ، والإكرام لأوليائه ، وقوله : { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } أي هو تعالى لا يعجل فإن مقدار ألف سنة عند خلقه كيوم واحد عنده بالنسبة إلى حكمه لعلمه بأنه على الانتقام قادر ، وأنه لا يفوته شيء ، وإن أجّل وأنظر ، ولهذا قال بعد هذا : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير } . عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بنصف يوم خمسمائة عام » وعن ابن عباس { وَإِنَّ يَوْماً عِندَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } قال : من الأيام التي خلق الله فيها السماوات والأرض . وقال مجاهد : هذه الآية كقوله : { يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ } [ السجدة : 5 ] .(1/1697)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَالَّذِينَ سَعَوْا فِي آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (51)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم طلب منه الكفار وقوع العذاب واستعجلوه به : { قُلْ ياأيها الناس إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي إنما أرسلني الله إليكم نذيراً لكم بين يدي عذاب شديد ، وليس إليّ من حسابكم من شيء ، أمركم إلى الله إن شاء عجل لكم العذاب وإن شاء أخّره عنكم ، وإن شاء تاب على من يتوب إليه ، وإن شاء أضل من كتب عليه الشقاوة وهو الفعال لما يشاء ، { إِنَّمَآ أَنَاْ لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ * فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي آمنت قلوبهم وصدقوا إيمانهم بأعمالهم ، { لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي مغفرة لما سلف من سيئاتهم ، ومجازاة حسه على القليل من حسناتهم ، قال القرظي : إذا سمعت الله تعالى يقول : { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } فهو الجنة ، وقوله : { والذين سَعَوْاْ في آيَاتِنَا مُعَاجِزِينَ } قال مجاهد : يثبطون الناس عن متابعة النبي صلى الله عليه ، وقال ابن عباس { مُعَاجِزِينَ } مراغمين { أولئك أَصْحَابُ الجحيم } وهي النار الحارة الموجعة ، الشديد عذابها ونكالها أجارنا الله منها .(1/1698)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَالْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (53) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَإِنَّ اللَّهَ لَهَادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (54)
قد ذكر كثير من المفسرين ، هاهنا ( قصة الغرانيق ) وما كان من رجوع كثير من المهاجرة إلى أرض الحبشة ظناً منهم أن مشركي قريش قد أسلموا ، وخلاصتها عن سعيد بن جبير قال : « قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة » النجم « فلما بلغ هذا الموضع : { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى * وَمَنَاةَ الثالثة الأخرى } [ النجم : 19-20 ] قال : فألقى الشيطان على لسانه : » تلك الغرانيق العلى ، وإن شفاعتهن لترتجى « ، قالوا : ما ذكر آلهتنا بخير قبل اليوم فسجد وسجدوا ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ في هذه الآية : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ وَلاَ نَبِيٍّ إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } » ؛ وقد ذكرها محمد بن إسحاق في السيرة بنحو من هذا ، وكلها مرسلات ومنقطعات والله أعلم . وقد ساقها البغوي في تفسيره ثم سأل هاهنا سؤالاً : كيف وقع مثل هذا مع العصمة المضمونة من الله تعالى لرسوله صلاة الله وسلامه عليه؟ ثم حكى أجوبة عن الناس ، من ألطفها : أن الشيطان أوقع في مسامع المشركين ذلك . فتوهموا أنه صدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس كذلك في نفس الأمر ، بل إنما كان من صنيع الشيطان ، لا عن رسول الرحمن صلى الله عليه وسلم والله أعلم . وقوله : { إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ } هذا فيه تسلية من الله لرسوله صلاة الله وسلامه عليه ، قال البخاري قال ابن عباس { في أُمْنِيَّتِهِ } إذا حدث ألقى الشيطان في حديثه ، فيبطل الله ما يلقي الشيطان { ثُمَّ يُحْكِمُ الله آيَاتِهِ } . وقال مجاهد : { إِذَا تمنى } يعني إذا قال؛ ويقال أمنيته قراءته { إِلاَّ أَمَانِيَّ } [ البقرة : 78 ] يقرؤون ولا يكتبون ، قال البغوي : وأكثر المفسرين قالوا : معنى قوله : { تمنى } أي تلا وقرأ كتاب الله { أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ } أي في تلاوته ، قال الشاعر في عثمان حين قتل :
تمنى كتاب الله أول ليله ... وآخرها لاقى حمام المقادر
وقال الضحاك { إِذَا تمنى } إذا تلا ، قال ابن جرير : هذا القول أشبه بتأويل الكلام .
وقوله تعالى : { فَيَنسَخُ الله مَا يُلْقِي الشيطان } حقيقة النسخ لغة الإزالة والرفع ، قال ابن عباس : أي فيبطل الله سبحانه وتعالى ما ألقى الشيطان؛ وقال الضحاك : نسخ جبريل بأمر الله ما ألقى الشيطان وأحكم الله آياته ، وقوله : { والله عَلِيمٌ } أي بما يكون من الأمور والحوادث لا تخفى عليه خافية { حَكِيمٌ } أي في تقديره وخلقه وأمره ، له الحكمة التامة والحجة البالغة ، ولهذا قال : { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي شك وشرك وكفر ونفاق كالمشركين حين فرحوا بذلك واعتقدوا أنه صحيح من عند الله وإنما كان من الشيطان ، قال ابن جريج { لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } هم المنافقون ، { والقاسية قُلُوبُهُمْ } هم المشركون ، وقال مقاتل بن حيان : هم اليهود ، { وَإِنَّ الظالمين لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } أي في ضلال ومخالفة وعناد بعيد أي من الحق والصواب ، { وَلِيَعْلَمَ الذين أُوتُواْ العلم أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُواْ بِهِ } أي وليعلم الذين أوتوا العلم النافع الذي يفرقون به بين الحق والباطل ، والمؤمنون بالله ورسوله أن ما أوحيناه إليك ، هو الحق من ربك الذي أنزله بعلمه وحفظه ، وحرسه أن يختلط به غيره ، بل هو كتاب عزيز(1/1699)
{ لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] ، وقوله : { فَيُؤْمِنُواْ بِهِ } أي يصدقوه وينقادوا له { فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ } أي تخضع وتذل له قلوبهم ، { وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فيرشدهم إلى الحق واتباعه ويوفقهم لمخالفة الباطل واجتنابه ، وفي الآخرة يهديهم الصراط المستقيم الموصل إلى درجات الجنات ، ويزحزحهم عن العذاب الأليم والدركات .(1/1700)
وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (57)
يقول تعالى : مخبراً عن الكفار أنهم لا يزالون في { مِرْيَةٍ } أي في شك وريب من هذا القرآن قاله ابن جريج ، واختاره ابن جرير ، وقال سعيد بن جبير وابن زيد { مِّنْهُ } أي مما ألقى الشيطان ، { حتى تَأْتِيَهُمُ الساعة بَغْتَةً } قال مجاهد : فجأة ، وقال قتادة : { بَغْتَةً } بغت القوم أمر الله ، وما أخذ الله قوماً قط إلا عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم ، فلا تغتروا بالله ، إنه لا يغتر بالله إلا القوم الفاسقون ، وقوله : { أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ } قال أبي بن كعب : هو يوم بدر؛ وقال عكرمة ومجاهد : هو يوم القيامة لا ليل له ، وهذا القول هو الصحيح ، وإن كان يوم بدر من جملة ما أوعدوا به لكن هذا هو المراد ، ولهذا قال : { الملك يَوْمَئِذٍ للَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ } ، كقوله : { مالك يَوْمِ الدين } [ الفاتحة : 4 ] ، وقوله : { الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً } [ الفرقان : 26 ] { فالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي آمنت قلوبهم وصدقوا بالله ورسوله ، وعملوا بمقتضى ما علموا مع توافق قلوبهم وأقوالهم { فِي جَنَّاتِ النعيم } أي لهم النعيم المقيم الذي لا يحول ولا يزول ولا يبيد ، { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآياتِنَا } أي كفرت قلوبهم بالحق وجحدته ، وكذبوا به وخالفوا الرسل ، واستكبروا عن اتباعهم ، { فأولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي مقابلة استكبارهم وإبائهم عن الحق ، كقوله تعالى : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] أي صاغرين .(1/1701)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقًا حَسَنًا وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59) ذَلِكَ وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)
يخبر تعالى ، عمن خرج مهاجراً في سبيل الله ابتغاء مرضاته ، وطلباً لما عنده وترك الأوطان والأهلين والخلان ، وفارق بلاده في الله ورسوله ونصرة لدين الله { ثُمَّ قتلوا } أي في الجهاد { أَوْ مَاتُواْ } أي حتف أنفهم من غير قتال على فرشهم ، فقد حصلوا على الأجر الجزيل والثناء الجميل ، كما قال تعالى : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ } [ النساء : 100 ] ، وقوله : { لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً } أي ليجرين عليهم من فضله ورزقه من الجنة ما تقر به أعينهم ، { وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ } أي الجنة ، كما قال تعالى : { فَأَمَّآ إِن كَانَ مِنَ المقربين * فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ } [ الواقعة : 88-89 ] فأخبر أنه يحصل له الراحة والرزق وجنة النعيم ، كما قال هاهنا : { لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً } ، ثم قال : { لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ } أي بمن يهاجر ويجاهد في سبيله بومن يستحق ذلك ، { حَلِيمٌ } أي يحلم ويصفح ويغفر لهم الذنوب ، فأما من قتل في سبيل الله فإنه حي عند ربه يرزق ، كما قال تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } [ آل عمران : 169 ] . والأحاديث في هذا كثيرة كما تقدم؛ وأما من توفي في سبيل الله فقد تضمنت هذه الآية الكريمة مع الأحاديث الصحيحة إجراء الرزق عليه ، وعظيم إحسان الله إليه ، قال ابن أبي حاتم عن ابن عقبة يعني أبا عبيدة بن عقبة قال ، قال شرحبيل بن السمط : طال رباطنا وإقامتنا على حصن بأرض الروم ، فمر بي سلمان يعني الفارسي رضي الله عنه فقال ، إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من مات مرابطاً أجرى الله عليه مثل ذلك الأجر ، وأجرى عليه الرزق وأمن من الفتانين » واقرأوا إن شئتم { والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً وَإِنَّ الله لَهُوَ خَيْرُ الرازقين * لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُّدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَإِنَّ الله لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ } وعن عبد الرحمن جحدم الخولاني أنه حضر ( فضالة بن عبيد ) في البحر مع جنازتين ، أحدهما أصيب بمنجنيق والآخر توفي ، فجلس فضالة بن عبيد عند قبر المتوفى ، فقيل له : تركت الشهيد فلم تجلس عنده ، فقال : ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت ، إن الله يقول : { والذين هَاجَرُواْ فِي سَبِيلِ الله ثُمَّ قتلوا أَوْ مَاتُواْ لَيَرْزُقَنَّهُمُ الله رِزْقاً حَسَناً } الآيتين ، فما تبتغي أيها العبد إذا أدخلت مدخلاً ترضاه ورزقت رزقاً حسناً! والله ما أبالي من أي حفرتيهما بعثت . وقوله : { ذلك وَمَنْ عَاقَبَ بِمِثْلِ مَا عُوقِبَ بِهِ } الآية ، نزلت في سرية من الصحابة لقوا جمعاً من المشركين في شهر محرم ، فناشدهم المسلمون لئلا يقاتلوهم في الشهر الحرام ، فأبى المشركون إلا قتالهم وبغوا عليهم ، فقاتلهم المسلمون ، فنصرهم الله عليهم { إِنَّ الله لَعَفُوٌّ غَفُورٌ } .(1/1702)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)
يقول تعالى : منبهاً على أنه الخالق المتصرف في خلقه بما يشاء ، كما قال : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ } [ آل عمران : 26 ] الآية ، ومعنى إيلاجه الليل في النهار ، والنهار في الليل ، إدخاله من هذا في هذا ، ومن هذا في هذا ، فتارة يطول الليل ويقصر النهار كما في الشتاء ، وتارة يطول النهار ويقصر الليل كما في الصيف ، وقوله : { وَأَنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } أي سميع بأقوال عباده بصير بهم ، لا يخفى عليه منهم خافية في أحوالهم وحركاتهم وسكناتهم ، ولما تبين أنه المتصرف في الوجود الحاكم الذي لا معقب لحكمه قال : { ذلك بِأَنَّ الله هُوَ الحق } أي الإله الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له ، لأنه ذو السلطان العظيم ، الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وكل شيء فقير إليه ، ذليل لديه { وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ هُوَ الباطل } أي من الأصنام والأنداد والأوثان ، وكل ما عبد من دونه تعالى فهو باطل ، لأنه لا يملك ضراً ولا نفعاً ، وقوله : { وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير } ، كما قال : { وَهُوَ العلي العظيم } [ البقرة : 255 ] ، وقال : { الكبير المتعال } [ الرعد : 9 ] فكل شيء تحت قهره وسلطانه وعظمته لا إله إلا هو ولا رب سواه ، لأنه العظيم الذي لا أعظم منه ، العلي الذي لا أعلى منه ، الكبير الذي لا أكبر منه ، تعالى وتقدس وتنزه عزَّ وجلَّ عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً .(1/1703)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (65) وَهُوَ الَّذِي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسَانَ لَكَفُورٌ (66)
وهذا أيضاً من الدلالة على قدرته وعظيم سلطانه ، وأنه يرسل الرياح فتثير سحاباً فيمطر على الأرض الجرز ، التي لا نبات فيها وهي هامدة يابسة سوداء ممحلة { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ } [ فصلت : 39 ] ، وقوله : { فَتُصْبِحُ الأرض مُخْضَرَّةً } أي خضراء بعد يبسها ومحولها ، { إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي عليم بما في أرجاء الأرض وأقطارها وأجزائها ، لا يخفى عليه خافية ، كما قال لقمان : { يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 16 ] ، وقال تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] ، وقوله : { مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } أي ملكه جميع الأشياء وهو غني عما سواه ، وكل شيء فقير إليه عبد لديه ، وقوله : { أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي الأرض } أي من حيوان وجماد وزروع وثمار كما قال : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] أي من إحسانه وفضله وامتنانه { والفلك تَجْرِي فِي البحر بِأَمْرِهِ } أي بتسخيره وتسييره ، أي في البحر العجاج وتلاطم الأمواج ، تجري الفلك بأهلها بريح طيبة فيحملون فيها ما شاءوا من بضائع ومنافع ، من بلد إلى بلد وقطر إلى قطر { وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ } ولهذا قال : { إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أي من ظلمهم كما قال في الآية الأخرى { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } [ الرعد : 6 ] ، وقوله : { وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ } ، كقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } [ البقرة : 28 ] ، وقوله : { قُلِ الله يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ الجاثية : 26 ] ، وقوله : { قَالُواْ رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } [ غافر : 11 ] ومعنى الكلام كيف تجعلون لله أنداداً وتعبدون معه غيره ، وهو المستقل بالخلق ، والرزق والتصرف ، { وَهُوَ الذي أَحْيَاكُمْ } أي خلقكم بعد أن لم تكونوا شيئاً يذكر فأوجدكم ، { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } أي يوم القيامة ، { إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ } أي جحود لربه .(1/1704)
لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنَا مَنْسَكًا هُمْ نَاسِكُوهُ فَلَا يُنَازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلَى هُدًى مُسْتَقِيمٍ (67) وَإِنْ جَادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69)
يخبر تعالى أنه جعل لكل قوم منسكاً ، وأصل المنسك في كلام العرب هو الموضع الذي يعتاده الإنسان ويتردد إليه ، ولهذا سميت مناسك الحج بذلك ، لترداد الناس إليها وعكوفهم عليها ، والمراد لكل أمة نبي جعلنا منسكاً ، { فَلاَ يُنَازِعُنَّكَ فِي الأمر } أي هؤلاء المشركون ، { هُمْ نَاسِكُوهُ } أي فاعلوه فالضمير هاهنا عائد على هؤلاء الذين لهم مناسك وطرائق ، فلا تتأثر بمنازعتهم لك ولا يصرفك ذلك عما أنت عليه من الحق ، ولهذا قال : { وادع إلى رَبِّكَ إِنَّكَ لعلى هُدًى مُّسْتَقِيمٍ } أي طريق واضح مستقيم موصل إلى المقصود ، وهذه كقوله : { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } [ القصص : 78 ] ، وقوله : { وَإِن جَادَلُوكَ فَقُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } تهديد شديد ووعيد أكيد كقوله : { هُوَ أَعْلَمُ بِمَا تُفِيضُونَ فِيهِ كفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } [ الأحقاف : 8 ] ، ولهذا قال : { الله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } ، وهذه كقوله تعالى : { فَلِذَلِكَ فادع واستقم كَمَآ أُمِرْتَ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَآ أَنزَلَ الله مِن كِتَابٍ } [ الشورى : 15 ] الآية .(1/1705)
أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)
يخبر تعالى عن كمال علمه بخلقه ، وأنه محيط بما في السماوات وما في الأرض ، وأنه تعالى علم الكائنات كلها قبل وجودها وكتب ذلك في اللوح المحفوظ ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله قدّر مقادير الخلائق قبل خلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة وكان عرشه على الماء » ، وفي السنن من حديث جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال أول ما خلق الله القلم قال له : اكتب ، قال : وما أكتب؟ قال : اكتب ما هو كائن ، فجرى القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة » ، وقال ابن عباس : خلق الله اللوح المحفوظ كمسيرة مائة عام ، وقال للقلم قبل أن يخلق الخلق وهو على العرش تبارك وتعالى : اكتب فقال القلم : وما أكتب؟ قال علمي في خلقي إلى يوم تقوم الساعة ، فجرى القلم بما هو كائن في علم الله إلى يوم القيامة فذلك قوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض } ، وهذا من تمام علمه تعالى علم الأشياء قبل كونها وقدرها وكتبها أيضاً ، فيعلم قبل الخلق أن هذا يطيع باختياره وهذا يعصي باختياره وكتب ذلك عنده ، وأحاط بكل شيء علماً ، وهو سهل عليه يسير لديه ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } .(1/1706)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكَادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (72)
يقول مخبراً عن المشركين فيما جهلوا وكفروا . وعبدوا من دون الله ما لم ينزل به سلطاناً ، يعني حجة وبرهاناً كقوله : { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } [ المؤمنون : 117 ] ، ولهذا قال هاهنا { مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَا لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ } أي ولا علم لهم فيما اختلفوا وائتفكوه ، وإنما هو أمر تلقوه عن آبائهم وأسلافهم بلا دليل ولا حجة ، وأصله مما سوَّل لهم الشيطان وزينة لهم ، ولهذا توعدهم تعالى بقوله : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } أي من ناصر ينصرهم من الله فيما يحل بهم من العذاب والنكال؛ ثم قال : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ } أي وإذا ذكرت لهم آيات القرآن والحجج والدلائل والواضحات على توحيد الله { يَكَادُونَ يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتنا } أي يكادون يبادرون الذين يحتجون عليهم بالدلائل الصحيحة من القرآن ويبسطون إليهم أيديهم وألسنتهم بالسوء { قُلْ } أي يا محمد لهؤلاء { أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ } أي النار وعذابها ونكالها أشد وأشق ، وأطم وأعظم مما تخوَّفون به أولياء الله المؤمنين في الدنيا ، وعذاب الآخرة على صنيعكم هذا أعظم مما تنالون منهم إن نلتم بزعمكم وإردتكم ، وقوله : { وَبِئْسَ المصير } أي وبئس النار مقيلاً ومنزلاً ومرجعاً وموئلاً ومقاماً { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 66 ] .(1/1707)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73) مَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)
يقول تعالى منبهاً على حقارة الأصنام وسخافة عقول عابديها { ياأيها الناس ضُرِبَ مَثَلٌ } أي لما يعبده الجاهلون بالله المشركون به { فاستمعوا لَهُ } أي أنصتوا وتفهموا { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ } أي لو اجتمع جميع ما تعبدون من الأصنام والأنداد ، على أن يقدروا على خلق باب واحد ما قدروا على ذلك؛ كما قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « قال الله عزَّ وجلَّ : ومن أظلم ممن ذهب يخلق كخلقي؟ فليخلقوا ذرة ، فليخلقوا شعيرة » ، ثم قال تعالى أيضاً : { وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ } أي هم عاجزون عن خلق ذباب واحد ، بل أبلغ من ذلك عاجزون عن مقاومته والانتصار منه ، لو سلبها شيئاً من الذي عليها من الطيب ، ثم أرادت أن تستنقذه منه لما قدرت على ذلك ، هذا والذباب من أضعف مخلوقات الله وأحقرها ، ولهذا قال : { ضَعُفَ الطالب والمطلوب } ، قال ابن عباس : الطالب الصنم ، والمطلوب الذباب؛ واختاره ابن جرير ، وقال السدي وغيره : الطالب العابد والمطلوب الصنم ، ثم قال : { مَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } أي ما عرفوا قدر الله وعظمته حين عبدوا معه غيره من هذه التي لا تقاوم الذباب لضعفها وعجزها ، { إِنَّ الله لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ } أي هو القوي الذي بقدرته وقوته خلق كل شيء ، { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] ، { إِنَّ الله هُوَ الرزاق ذُو القوة المتين } [ الذاريات : 58 ] ، وقوله : { عَزِيزٌ } أي قد عزَّ كل شيء وغلبه ، فلا يمانع ولا يغالب ، لعظمته وسلطانه وهو الواحد القهار .(1/1708)
اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلَائِكَةِ رُسُلًا وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)
يخبر تعالى أنه يختار من الملائكة رسلاً فيما يشاء من شرعه وقدره ومن الناس لإبلاغ رسالته { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } أي سميع لأقوال عباده بصير بهم ، عليم بمن يستحق ذلك منهم كما قال : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، وقوله : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } أي يعلم ما يفعل برسله فيما أرسلهم به ، فلا يخفى عليه شيء من أمورهم ، فهو سبحانه رقيب عليهم شهيد على ما يقال لهم ، حافظ لهم ، ناصر لجنابهم .(1/1709)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (78)
اختلف في هذه السجدة الثانية على قولين وقد قدمنا عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « فصلت سورة الحج بسجدتين فمن لم يسجدهما فلا يقرأهما » ، وقوله : { وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ } أي بأموالكم وألسنتكم وأنفسكم ، كما قال تعالى : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] وقوله : { هُوَ اجتباكم } أي يا هذه الأمة الله اصطفاكم واختاركم على سائر الأمم ، وفضلكم وشرفكم وخصكم بأكرم رسول وأكمل شرع ، { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } أي ما كلفكم ما لا تطيقون ، وما ألزمكم بشيء يشق عليكم إلا جعل الله لكم فرجاً ومخرجاً ، ولهذا قال عليه السلام : « بعثت بالحنيفية السمحة » وقال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما أميرين إلى اليمن : « بشّرا ولا تنفّرا ، ويسّرا ولا تعسّرا » ، والأحاديث في هذا كثيرة ، ولهذا قال ابن عباس في قوله : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } يعني من ضيق ، وقوله : { مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } قال ابن جرير : نصب على تقدير { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } أي من ضيق بل وسَّعه عليكم كملة أبيكم إبراهيم ، ويحتمل أنه منصوب على تقدير الزموا ملة أبيكم إبراهيم .
قلت : وهذا المعنى في هذه الآية كقولة : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } [ الأنعام : 161 ] الآية ، وقوله : { هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا } ، قال ابن عباس في قوله : { هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ } قال : الله عزَّ وجلَّ . وقال ابن أسلم { هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ } يعني إبراهيم ، وذلك لقوله : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } [ البقرة : 128 ] ، وقد قال الله تعالى : { هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا } قال مجاهد : الله سماكم المسلمين من قبل في الكتب المتقدمة ، وفي الذكر ، { وَفِي هذا } يعني القرآن وكذا قال غيره . ( قلت ) : وهذا هو الصواب لأنه تعالى قال : { هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } ثم حثهم وأغراهم على ما جاء الرسول صلوات الله وسلامه عليه بأنه ملة إبراهيم الخليل ، ثم ذكر منته تعالى على هذه الأمة ، بما نوه به من ذكرها والثناء عليها ، في سالف الدهر وقديم الزمان ، في كتب الأنبياء يتلى هذه الأمة بما نوه به من ذكرها والثناء عليها ، في سالف الدهر وقديم الزمان ، في كتب الأنبياء يتلى على الأحبار والرهبان ، فقال : { هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ } أي من قبل هذا القرآن { وَفِي هذا } ، روى النسائي عن الحارث الأشعري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثي جهنم » ، قال رجل : يا رسول الله وإن صام وصلى؟ قال : « نعم وإن صام وصلى » فادعوا بدعوة الله التي سماكم بها المسلمين المؤمنين عباد الله «(1/1710)
، ولهذا قال : { لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } أي إنما جعلناكم هكذا أمة وسطاً ، عدولاً خياراً مشهوداً بعدالتكم عند جميع الأمم لتكونوا يوم القيامة { شُهَدَآءَ عَلَى الناس } لأن جميع الأمم معترفة يومئذٍ بسيادتها وفضلها على كل أمة سواها ، فلهذا تقبل شهادتهم عليهم يوم القيامة ، في أن الرسل بلغتهم رسالة ربهم ، والرسول يشهد على هذه الأمة أنه بلَّغها ذلك ، وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 142 ] ، وقوله : { فَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة } أي قابلوا هذه النعمة العظيمة بالقيام بشكرها ، فأدوا حق الله عليكم في أداء ما افترض ، وترك ما حرم ، ومن أهم ذلك إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، { واعتصموا بالله } أي اعتضدوا بالله واستعينوا به وتوكلوا عليه وتأيدوا به ، { هُوَ مَوْلاَكُمْ } أي حافظكم وناصركم ومظفركم على أعدائكم ، { فَنِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } : يعني نعم الولي ، ونعم الناصر من الأعداء .(1/1711)
قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ (2) وَالَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ (4) وَالَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ (5) إِلَّا عَلَى أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغَى وَرَاءَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْعَادُونَ (7) وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ (8) وَالَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (9) أُولَئِكَ هُمُ الْوَارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (11)
روى الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب قال : « كان إذا نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم الوحي يسمع عند وجهه كدوي النحل ، فلبثنا ساعة ، فاستقبل القبلة ، ورفع يديه وقال : » اللهم زدنا ولا تنقصنا ، وأكرمنا ولا تهنا ، وأعطنا ولا تحرمنا ، وآثرنا ولا تؤثر علينا ، وارض عنا وأرضِنا ، ثم قال : لقد أنزل عليَّ عشر آيات من أقامهن دخل الجنة « ثم قرأ { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } حتى ختم العشر . وقال النسائي في تفسيره عن يزيد بن بابنوس ، قال ، قلنا لعائشة أم المؤمنين : كيف كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن ، فقرأت : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } - حتى انتهت إلى - { والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } قالت : هكذا كان خلق رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن أنس رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » خلق الله جنة عدن بيده لبنة من درة بيضاء ، ولبنة من ياقوتة حمراء ، ولبنة من زبرجدة خضراء ، ملاطها المسك ، وحصباؤها اللؤلؤ ، وحشيشها الزعفران ، ثم قال لها : انطقي ، قالت : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } ، فقال الله : وعزتي وجلالي لا يجاورني فيك بخيل « ؛ ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فأولئك هُمُ المفلحون } [ الحشر : 9 ] ، وقوله تعالى : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } أي قد فازوا وسعدوا وحصلوا على الفلاح وهم المؤمنون المتصفون بهذه الأوصاف { الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } قال ابن عباس : { خَاشِعُونَ } خائفون ساكنون ، وعن علي الخشوع خشوع القلب ، وقال الحسن البصري : كان خشوعهم في قلوبهم ، فغضوا بذلك أبصارهم ، وخفضوا الجناح . وقال محمد بن سيرين : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرفعون أبصارهم إلى السماء في الصلاة فلما نزلت هذه الآية : { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون * الذين هُمْ فِي صَلاَتِهِمْ خَاشِعُونَ } خفضوا أبصارهم إلى موضع سجودهم ، والخشوع في الصلاة إنما يحصل لمن فرغ قلبه لها ، واشتغل بها عما عداها وآثرها على غيرها ، وحينئذٍ تكون راحة له وقرة عين؛ كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : » حبّب إليَّ الطيب ، والنساء ، وجعلت قرة عيني في الصلاة « وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » يا بلال ، أرحنا بالصلاة « .
وقوله تعالى : { والذين هُمْ عَنِ اللغو مُّعْرِضُونَ } أي عن الباطل وهو يشمل الشرك كما قاله بعضهم ، والمعاصي كما قاله آخرون ، وما لا فائدة فيه من الأقوال والأفعال كما قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] ، قال قتادة : أتاهم والله من أمر الله ما وقفهم عن ذلك ، وقوله : { والذين هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } الأكثرون على أن المراد بالزكاة هاهنا زكاة الأموال مع أن هذه الآية مكية ، وإنما فرضت الزكاة بالمدينة في سنة اثنتين من الهجرة ، والظاهر أن أصل الزكاة كان واجباً بمكة ، قال تعالى في سورة الأنعام وهي مكية :(1/1712)
{ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [ الأنعام : 141 ] ؛ وقد يحتمل أن يكون المراد بالزكاة هاهنا زكاة النفس من الشرك والدنس ، كقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا * وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا } [ الشمس : 9-10 ] ، وقد يحتمل أن يكون كلا الأمرين مراداً ، وهو زكاة النفوس وزكاة الأموال ، فإنه من جملة زكاة النفوس ، والمؤمن الكامل هو الذي يفعل هذا وهذا والله أعلم . وقوله : { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون } أي والذين قد حفظوا فروجهم من الحرام فلا يقعون فيما نهاهم الله عنه من زنا ولواط ، لا يقربون سوى أزواجهم التي أحلها الله لهم ، أو ما ملكت أيمانهم من السراري ، ومن تعاطى ما أحله الله له فلا لوم عليه ولا حرج ، ولهذا قال : { فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ * فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك } أي غير الأزواج والإماء { فأولئك هُمُ العادون } أي المعتدون . وقد استدل الإمام الشافعي رحمه الله ومن وافقه على تحريم الاستمناء باليد بهذه الآية الكريمة : { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ * إِلاَّ على أَزْوَاجِهِمْ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ } قال : فهذا الصنيع خارج عن هذين القسمين ، وقد قال الله تعالى : { فَمَنِ ابتغى وَرَآءَ ذلك فأولئك هُمُ العادون } .
وقوله تعالى : { والذين هُمْ لأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ } أي إذا أؤتمنوا لم يخونوا بل يؤدونها إلى أهلها ، وإذا عاهدوا أو عاقدوا أوفوا بذلك ، لا كصفات المنافقين الذين قال فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « آية المنافق ثلاث : إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان » ، وقوله : { والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } أي يواظبون عليها في مواقيتها كما قال ابن مسعود : « سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أي العمل أحب إلى الله؟ قال : » الصلاة على وقتها « قلت : ثم أي؟ قال : » بر الوالدين « ، قلت : ثم أي؟ قال : » الجهاد في سبيل الله « ، وفي » مستدرك « الحاكم قال : » الصلاة في أول وقتها « ، وقال ابن مسعود ومسروق في قوله : { والذين هُمْ على صَلَوَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ } يعني مواقيت الصلاة ، وقال قتادة : على مواقيتها وركوعها وسجودها ، وقد افتتح الله ذكر هذه الصفات الحميدة بالصلاة واختتمها بالصلاة ، فدل على أفضليتها كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » استقيموا ولن تحصوا واعلموا أن خير أعمالكم الصلاة ، ولا يحافظ على الوضوء إلا مؤم « . ولما وصفهم تعالى بالقيام بهذه الصفات الحميدة والأفعال الرشيدة قال : { أولئك هُمُ الوارثون * الذين يَرِثُونَ الفردوس هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ، وثبت في » الصحيحين « :(1/1713)
« إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوش فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجّر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحما ن » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما منكم من أحد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار ، فإن مات ودخل النار ورث أهل الجنة منزله ، فذلك قوله : { أولئك هُمُ الوارثون } » وقال مجاهد : ما من عبد إلا وله منزلان منزل في الجنة ومنزل في النار ، فأما المؤمن فيبني بيته الذي في الجنة ، ويهدم بيته الذي في النار ، وأما الكافر فيهدم بيته الذي في الجنة ، ويبني بيته الذي في النار ، فالمؤمنون يرثون منازل الكفار لأنهم أطاعوا ربهم عزَّ وجلَّ بل أبلغ من هذا أيضاً ، وهو ما ثبت في « صحيح مسلم » عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كان يوم القيامة دفع الله لكل مسلم يهودياً أو نصرانياً فيقال هذا فكاكك من النار » ، فاستحلف عمر بن عبد العزيز أبا بردة بالله الذي لا إله إلا هو ثلاث مرات أن أباه حدثه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، قال : فحلف له . قلت : وهذه الآية كقوله تعالى : { تِلْكَ الجنة التي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيّاً } [ مريم : 63 ] ، وكقوله : { وَتِلْكَ الجنة التي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الزخرف : 72 ] وقد قال مجاهد : الجنة هي الفردوس ، وقال بعض السلف : لا يسمى البستان الفردوس إلا إذا كان فيه عنب ، فالله أعلم .(1/1714)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظَامًا فَكَسَوْنَا الْعِظَامَ لَحْمًا ثُمَّ أَنْشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ (16)
يقول تعالى مخبراً عن ابتداء خلق الإنسان من سلالة من طين ، وهو آدم عليه السلام خلقه الله من صلصال من حمإ مسنون ، وقال ابن عباس { مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } قال : من صفوة الماء ، وقال مجاهد : من سلالة أي من مني بني آدم ، وقال ابن جرير : إنما سمي آدم طيناً لأنه مخلوق منه ، وقال قتادة : استل آدم من الطين ، وهذا أظهر في المعنى وأقرب إلى السياق ، فإن آدم عليه السلام خلق من طين لازب ، وهو الصلصال من الحمإ المسنون ، وذلك مخلوق من التراب ، كما قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } [ الروم : 20 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، جاء منهم الأحمر والأبيض والأسود وبين ذلك ، والخبيث والطيب بين ذلك » { ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً } هذا الضمير عائد على جنس الإنسان ، كما قال في الآية الأخرى : { الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } [ السجدة : 8-9 ] أي ضعيف كما قال : { إلى قَدَرٍ مَّعْلُومٍ * فَقَدَرْنَا فَنِعْمَ القادرون } [ المرسلات : 22-23 ] يعني الرحم معد لذلك مهيأ له ، { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } أي مدة معلومة وأجل معين ، حتى استحكم ونقل من حال إلى حال وصفه إلى صفة ، ولهذا قال هاهنا { ثُمَّ خَلَقْنَا النطفة عَلَقَةً } أي ثم صيّرنا النطفة وهي الماء الدافق الذي يخرج من صلب الرجل وهو ظهره ، وترائب المرأة وهي عظام صدرها ما بين الترقوة إلى السرة ، فصارت علقة حمراء على شكل العلقة مستطيلة ، قال عكرمة ، وهي دم { فَخَلَقْنَا العلقة مُضْغَةً } وهي قطعة كالبضعة من اللحم لا شكل فيها ولا تخطيط { فَخَلَقْنَا المضغة عِظَاماً } يعني شكلناها ذات رأس ويدين ورجلين بعظامها وعصبها وعروقها . وفي الصحيح : « كل جسد ابن آدم يبلى إلا عَجْب الذَّنَب ، منه خلق وفيه يركب » { فَكَسَوْنَا العظام لَحْماً } أي جعلنا على ذلك ما يستره ويشده ويقويه ، { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } أي ثم نفخنا فيه الروح فتحرك وصار خلقاً آخر ذا سمع وبصر وإدراك وحركة واضطراب { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } . عن ابن أبي طالب رضي الله عنه قال : إذ أتت على النطفة أربعة أشهر بعث الله إليهاً ملكاً فنفخ فيها الروح في ظلمات ثلاث ، فذلك قوله : { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } يعني نفخنا فيه الروح ، وقال ابن عباس : يعني فنفخنا فيه الروح؛ واختاره ابن جرير ، وقال العوفي عن ابن عباس { ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقاً آخَرَ } : يعني ننقله من حال إلى حال ، إلى أن خرج طفلاً ، ثم نشأ صغيراً ، ثم احتلم ، ثم صار شاباً ، ثم كهلاً ، ثم شيخاً ، ثم هرماً ، وفي الصحيح :(1/1715)
« إن أحدكم ليجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح ويؤمر بأربع كلمات : رزقه وأجله وعمله وهل هو شقي أو سعيد ، فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل بعمل أهل الجنة حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى لا يكون بينه وبينها إلا ذراع ، فيسبق عليه الكتاب فيختم له بعمل أهل الجنة فيدخلها » .
وقال عبد الله بن مسعود : إن النطفة إذا وقعت في الرحم طارت في كل شعر وظفر ، فتمكث أربعين يوماً ، ثم تنحدر في الرحم فتكون علقة ، وفي الصحيح : « يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم بأربعين ليلة فيقول يا رب ماذا؟ شقي أم سعيد ، أذكر أم أنثى؟ فيقول الله فيكتبان ، ويكتب عمله وأثره ومصيبته ورزقه ، ثم تطوى الصحيفة فلا يزاد على ما فيها ولا ينقص » وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله وكل بالرحم ملكاً فيقول : أي رب نطفة ، أي رب علقة ، أي رب مضغة ، فإذا أراد الله خلقها قال : أي رب ذكر أو أنثى؟ شقي أو سعيد؟ فما الرزق والأجل؟ قال : فذلك يكتب في بطن أمه » وقوله : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } : يعني حين ذكر قدرته ولطفه في خلق هذه النطفة من حال إلى حال ، ومن شكل لى شكل ، حتى تصورت إلى ما صارت إليه من الإنسان السوي الكامل الخلق ، قال : { فَتَبَارَكَ الله أَحْسَنُ الخالقين } ، وقوله : { ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلك لَمَيِّتُونَ } يعني بعد هذه النشأة الأولى من العدم تصيرون إلى الموت ، { ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ القيامة تُبْعَثُونَ } يعني النشأة الآخرة ، { ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة } [ العنكبوت : 20 ] يعني يوم المعاد ، وقيام الأرواح إلى الأجساد ، فيحاسب الخلائق ، ويوفي كل عامل عمله إن خيراً وإن شراً فشر .(1/1716)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ (17)
لما ذكر تعالى خلق الإنسان عطف بذكر خلق السماوات السبع ، وكثيراً ما يذكر تعالى خلق السماوات والأرض مع خلق الإنسان كما قال تعالى : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 57 ] ، وقوله : { سَبْعَ طَرَآئِقَ } قال مجاهد : يعني السماوات السبع وهذه كقوله تعالى : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ } [ الإسراء : 44 ] ، { أَلَمْ تَرَوْاْ كَيْفَ خَلَقَ الله سَبْعَ سماوات طِبَاقاً } [ نوح : 15 ] { الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ لتعلموا أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ الله قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } [ الطلاق : 12 ] ، وهكذا قال هاهنا { وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَآئِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الخلق غَافِلِينَ } أي أنه سبحانه لا يحجب عنه سماء ولا أرض ، ولا جبل إلا يعلم ما في وعره ، ولا بحر إلا يعلم ما في قعره ، يعلم عدد ما في الجبال والتلال والرمال والبحار والقفار والأشجار ، { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] .(1/1717)
وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (19) وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَصِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (21) وَعَلَيْهَا وَعَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)
يذكر تعالى نعمه على عبيده التي لا تعد ولا تحصى في إنزاله القطر من السماء بقدر ، أي بحسب الحاجة لا كثيراً فيفسد الأرض والعمران ، ولا قليلاً فلا يكفي الزروع والثمار ، بل بقدرالحجة إليه من السقي والشرب والانتفاع به ، حتى إن الأراضي التي تحتاج ماء كثيراً لزرعها ولا تحتمل دمنتها إنزال المطر عليها يسوق إليها الماء من بلاد أخرى ، كما في أرض مصر ، ويقال لها الأرض الجرز يسوق الله إليها ماء النيل معه طين أحمر يجترفه من بلاد الحبشة في زمان أمطارها ، فيأتي الماء يحمل طيناً أحمر ، فيسقي أرض مصر ، ويقر الطين على أرضهم ليزرعوا فيه ، لأن أرضهم سباخ يغلب عليها الرمال ، فسبحان اللطيف الخبير الرحيم الغفور ، وقوله : { فَأَسْكَنَّاهُ فِي الأرض } أي جعلنا الماء إذا نزل من السحاب يخلد في الأرض ، وجعلنا في الأرض قابلية إليه ، تشربه ويتغذى به ما فيها من الحب والنوى ، وقوله : { وَإِنَّا على ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ } أي لو شئنا أن لا تمطر لفعلنا ، ولو شئنا أذى لصرفناه عنكم إلى السباخ والبراري والقفار لفعلنا ، ولو شئنا لجعلناه أجاجاً لا ينتفع به لشرب ولا لسقي لفعلنا ، ولو شئنا لجلعناه إذا نزل فيها يغور إلى مدى لا تصلون إليه ولا تنتفعون به لفعلنا ، ولكن بلطفه ورحمته ينزل عليكم المطر من السحاب عذباً فراتاً زلالاً ، فيسكنه في الأرض ويسلكه ينابيع في الأرض ، فيفتح العيون والأنهار ، ويسقي به الزروع والثمار ، تشربون منه ودوابكم وأنعامكم ، وتغتسلون منه وتتطهرون منه وتتنظفون ، فله الحمد والمنة .
وقوله تعالى : { فَأَنشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } يعني فأخرجنا لكم بما أنزلنا من السماء جنات أي بساتين وحدائق { ذَاتَ بَهْجَةٍ } [ النمل : 60 ] أي ذات منظر حسن ، وقوله : { مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } أي فيها نخيل وأعناب ، وهذا ما كان يألف أهل الحجاز ولا فرق بين الشيء وبين نظيره ، وكذلك في حق كل أهل إقليم عندهم من الثمار من نعمة الله عليهم ما يعجزون عن القيام بشكره ، وقوله : { لَّكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ } أي من جميع الثمار ، كما قال : { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات } [ النحل : 11 ] ، وقوله : { وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } معطوف على شيء مقدر ، تقديره : تنظرون إلى حسنه ونضجه ومنه تأكلون ، وقوله : { وَشَجَرَةً تَخْرُجُ مِن طُورِ سَيْنَآءَ } يعني الزيتونة ، والطور هو الجبل ، وقال بعضهم : إنما يسمى طوراً إذا كان فيه شجر ، فإن عري عنها سمي جبلاً لا طوراً والله أعلم . و { طُورِ سَيْنَآءَ } هو طور سنين ، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى بن عمران عليه السلام وما حوله من الجبال التي فيها شجر الزيتون ، وقوله : { تَنبُتُ بالدهن } أي تنبت الدهن ، كما في قول العرب : ألقى فلان بيده أي يده ، ولهذا قال : { وَصِبْغٍ } أي أدم قاله قتادة { لِّلآكِلِيِنَ } أي فيها ما ينتفع به من الدهن والاصطباغ ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/1718)
« كلوا الزيت وادهنوا به فإنه من شجرة مباركة » وروى عبد بن حميد في « مسنده » عن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ائتدموا بالزيت وادهنوا به ، فإنه يخرج من شجرة مباركة » وقوله : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهَا وَلَكُمْ فيِهَا مَنَافِعُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } يذكر تعالى ما جعل لخلقه في الأنعام من المنافع ، وذلك أنهم يشربون من ألبانها الخارجة من بين فرث ودم ويأكلون من حملانها ، ويلبسون من أصوافها وأوبارها وأشعارها ، ويركبون ظهورها ، ويحملونها الأحمال الثقال إلى البلاد النائية عنهم ، كما قال تعالى : { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 7 ] ، وقال تعالى : { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ * وَلَهُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَمَشَارِبُ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } [ يس : 72-73 ] .(1/1719)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (23) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلَائِكَةً مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25)
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام حين بعثه إلى قومه ، لينذرهم عذاب الله وبأسه الشديد ، وانتقامه ممن أشرك به وخالف أمره وكذب رسله { فَقَالَ ياقوم اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أي لا تخافون من الله في إشراككم به؟ فقال الملأ - وهم السادة والأكابر منهم - { مَا هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُرِيدُ أَن يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ } يعنون يترفع عليكم ويتعاظم بدعوى النبوة وهو بشر مثلكم فكيف أوحي إليه دونكم؟! { وَلَوْ شَآءَ الله لأَنزَلَ مَلاَئِكَةً } أي لو أراد أن يبعث نبياً لبعث ملكاً من عنده ولم يكن بشراً { مَّا سَمِعْنَا بهذا } أي ببعثة البشر { في آبَآئِنَا الأولين } يعنون بهذا أسلافهم وأجدادهم في الدهور الماضية ، وقوله : { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ } أي مجنون فيما يزعمه من أن الله أرسله إليكم ، واختصه من بينكم بالوحي { فَتَرَبَّصُواْ بِهِ حتى حِينٍ } أي انتظروا به ريب المنون ، واصبروا عليه مدة حتى تستريحوا منه .(1/1720)
قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا فَإِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27) فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَمَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانَا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَقُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلًا مُبَارَكًا وَأَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ وَإِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام أنه دعا ربه ليستنصره على قومه كما قال تعالى مخبراً عنه في الآية الأخرى : { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر } [ القمر : 10 ] ، وقال هاهنا : { رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ } ، فعند ذلك أمره الله تعالى بصنعة السفينة وإحكامها وإتقانها ، وأن يحمل فيها من كل زوجين اثنين ، أي ذكراً وأنثى من كل صنف من الحيوانات والنباتات والثمار وغير ذلك ، وأن يحمل فيها أهله { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول مِنْهُمْ } أي من بق عليه القول بالهلاك ، وهم الذين لم يؤمنوا به من أهله كابنه وزوجته والله أعلم ، وقوله : { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } أي عند معاينة إنزال المطر العظيم لا تأخذنك رأفة بقومك وشفقة عليهم ، وطمع في تأخيرهم لعلَّهم يؤمنون ، فإني قد قضيت أنهم مغرقون على ما هم عليه من الكفر والطغيان ، وقد تقدمت القصة مبسوطة في سورة هود بما يغني عن إعادة ذلك هاهنا ، وقوله : { فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين } ، كما قال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ * لِتَسْتَوُواْ على ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُواْ نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا استويتم عَلَيْهِ وَتَقُولُواْ سُبْحَانَ الذي سَخَّرَ لَنَا هذا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّآ إلى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ } { وَقَالَ اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا } [ هود : 41 ] ، فذكر الله تعالى عند ابتداء سيره وعند انتهائه { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ } أي إن في هذا الصنيع - وهو إنجاء المؤمنين وإهلاك الكافرين - لآيات ، أي لحججنا ودلالات واضحات على صدق الأنبياء فيما جاءوا به عن الله تعالى ، وأنه تعالى فاعل لما يشاء قادر على كل شيء عليم بكل شيء ، وقوله : { وَإِن كُنَّا لَمُبْتَلِينَ } أي لمختبرين للعباد بإرسال المرسلين .(1/1721)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنَا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (32) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ الْآخِرَةِ وَأَتْرَفْنَاهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَرًا مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (34) أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنْتُمْ تُرَابًا وَعِظَامًا أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35) هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا نَمُوتُ وَنَحْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِمَا كَذَّبُونِ (39) قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ (40) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَاءً فَبُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)
يخبر تعالى أنه أنشأ بعد قوم نوح قرناً آخرين ، قيل : المراد بهم عاد ، فإنهم كانوا مستخلفين بعدهم . وقيل : المراد بهؤلاء ثمود ، لقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق } ، وأنه تعالى أرسل فيهم رسولاً منهم فدعاهم إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، فكذبوه وخالفوه وأبو اتباعه لكونه بشراً مثلهم ، وكذبوا بلقاء الله ، وقالوا : { أَيَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذَا مِتُّمْ وَكُنتُمْ تُرَاباً وَعِظاماً أَنَّكُمْ مُّخْرَجُونَ * هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ } أي بعد ذلك ، { إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افترى على الله كَذِباً } أي فيما جاءكم به من الرسالة والإخبار بالمعاد ، { وَمَا نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ * قَالَ رَبِّ انصرني بِمَا كَذَّبُونِ } أي استفتح عليهم الرسول واستنصر ربه عليهم فأجاب دعاءه ، { قَالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَّيُصْبِحُنَّ نَادِمِينَ } أي بمخالفتك وعنادك فيما جئتهم به ، { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة بالحق } أي وكانوا يستحقون ذلك من الله بكفرهم وطغيانهم ، والظاهر أنه اجتمع عليهم صيحة مع الريح الصرصر العاصف القوي الباردة تدمر كل شيء بأمر ربها ، { فَأْصْبَحُواْ لاَ يرى إِلاَّ مَسَاكِنُهُمْ } [ الأحقاف : 25 ] ، وقوله : { فَجَعَلْنَاهُمْ غُثَآءً } أي صرعى هلكى كغثاء السيل وهو الشيء الحقير التافه الهالك الذي لا ينتفع بشيء منه ، { فَبُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين } ، كقوله : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن كَانُواْ هُمُ الظالمين } [ الزخرف : 76 ] أي بكفرهم وعنادهم ومخالفة رسول الله ، فليحذر السامعون أن يكذبوا رسولهم .(1/1722)
ثُمَّ أَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُونًا آخَرِينَ (42) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَى كُلَّ مَا جَاءَ أُمَّةً رَسُولُهَا كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضًا وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ فَبُعْدًا لِقَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (44)
يقول تعالى : { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ } أي أمماً وخلائق { مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ } يعني بل يؤخذون على حسب ما قدر لهم تعالى في كتابه المحفوظ وعلمه ، قبل كونهم أمة بعد أمة ، وجيلاً بعد جيل ، { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا } قال ابن عباس : يعني يتبع بعضهم بعضاً ، وهذا كقوله تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة } [ النحل : 36 ] ، وقوله : { كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ } يعني جمهورهم وأكثرهم ، كقوله تعالى : { ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ يس : 30 ] ، وقوله : { فَأَتْبَعْنَا بَعْضَهُمْ بَعْضاً } أي أهلكناهم ، كقوله : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ } [ الإسراء : 17 ] ، وقوله : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ } أي أخباراً وأحاديث للناس ، كقوله : { فَجَعَلْنَاهُمْ أَحَادِيثَ وَمَزَّقْنَاهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ } [ سبأ : 19 ] .(1/1723)
ثُمَّ أَرْسَلْنَا مُوسَى وَأَخَاهُ هَارُونَ بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (45) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا عَالِينَ (46) فَقَالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)
يخبر تعالى أنه بعث رسوله موسى عليه السلام وأخاه هارون إلى فرعون وملئه ، بالآيات والحجج الدامغات والبراهين القاطعات ، وأن فرعون وقومه استكبروا عن اتباعهما والانقياد لأمرهما ، لكونهما بشرين كما أنكرت الأمم الماضية بعثة الرسل من البشر ، تشابهت قلوبهم . فأهلك الله فرعون وملأه وأغرقهم في يوم واحد أجمعين ، وأنزل على موسى الكتاب - وهو التوراة - فيها أحكامه وأوامره ونواهيه ، وذلك بعد أن قصم الله فرعون والقبط ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر ، وبعد أن أنزل الله التوراة لم يهلك أمة بعامة ، بل أمر المؤمنين بقتال الكافرين ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } [ القصص : 43 ] .(1/1724)
وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً وَآوَيْنَاهُمَا إِلَى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ (50)
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليهما السلام أنه جعلهما آية للناس ، أي حجة قاطعة على قدرته على ما يشاء ، فإنه خلق آدم من غير أب ولا أم ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر ، وخلق بقية الناس من ذكر وأنثى . وقوله : { وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } قال ابن عباس : الربوة المكان المرتفع من الأرض ، وهو أحسن ما يكون فيه النبات ، { ذَاتِ قَرَارٍ } يقول ذات خصب { وَمَعِينٍ } يعني ماء ظاهراً ، وقال مجاهد : ربوة مستوية . وقال سعيد بن جبير { ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } : استوى الماء فيها ، وقال مجاهد وقتادة : { وَمَعِينٍ } الماء الجاري ، ثم اختلف المفسرون في مكان هذه الربوة؟ فقال سعيد بن المسيب : هي دمشق ، وعن ابن عباس { ذَاتِ قَرَارٍ وَمَعِينٍ } قال : أنهار دمشق ، وقال مجاهد { وَآوَيْنَاهُمَآ إلى رَبْوَةٍ } قال : عيسى ابن مريم وأمه حين أويا إلى غوطة دمشق وما حولها ، وقال عبد الرزاق عن أبي هريرة قال : هي الرملة من فلسطين ، وأقرب الأقوال في ذلك ما رواه العوفي عن ابن عباس قال : المعين الماء الجاري وهو النهر الذي قال الله تعالى : { قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيّاً } [ مريم : 26 ] ، وكذا قال الضحاك وقتادة : إلى ربوة ذات قرار ومعين ، هو بيت المقدس ، فهذا والله أعلم هو الأظهر ، لأنه المذكور في الآية الأخرى ، والقرآن يفسر بعضه بعضاً ، وهذا أولى ما يفسر به ، ثم الأحاديث الصحيحة ، ثم الآثار .(1/1725)
يَا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَاعْمَلُوا صَالِحًا إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُرًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54) أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مَالٍ وَبَنِينَ (55) نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْرَاتِ بَلْ لَا يَشْعُرُونَ (56)
يأمر تعالى عباده المرسلين عليهم الصلاة والسلام أجمعين بالأكل من الحلال ، والقيام بالصالح من الأعمال ، فدل هذا على أن الحلال عون على العمل الصالح ، فقام الأنبياء عليهم السلام بهذا أتم القيام . وجمعوا بين كل خير قولاً وعملاً ودلالة ونصحاً ، فجزاهم الله عن العباد خيراً ، قال الحسن البصري في قوله : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات } قال : أمَا والله ما أمركم بأصفركم ولا أحمركم ولا حلوكم ولا حامضكم ، ولكن قال : انتهوا إلى الحلال منه . وقال سعيد بن جبير والضحاك { كُلُواْ مِنَ الطيبات } : يعني الحلال ، وكان عيسى ابن مريم يأكل من غزل مه ، وفي الصحيح : « وما من بني إلا رعى الغنم » قالوا : وأنت يا رسول الله؟ قال : « نعم وأنا كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة » ، وفي الصحيح : « إن داود عليه السلام كان يأكل من كسب يده » ، وقد ثبت عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا أيها الناس إن الله طيِّب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين » ، فقال : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } ، وقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } [ البقرة : 172 ] ، ثم ذكر الرجل يطيل السفر أشعث أغبر يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ، ومطعمه حرام ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام فأنى يستجاب لذلك؟! « وقوله : { وَإِنَّ هذه أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً } أي دينكم يا معشر الأنبياء دين واحد ، وملة واحدة ، وهو الدعوة إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، ولهذا قال : { وَأَنَاْ رَبُّكُمْ فاتقون } ، وقوله : { فتقطعوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً } أي الأمم التي بعثت إليهم الأنبياء { كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } أي يفرحون بما هم فيه من الضلال لأنهم يحسبون أنهم مهتدون ، ولهذا قال متهدداً لهم ومتوعداً { فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ } أي في غيهم وضلالهم { حتى حِينٍ } أي إلى حين هلاكهم ، كما قال تعالى : { فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 17 ] ، وقال تعالى : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأمل فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ الحجر : 3 ] .
وقوله تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } يعني أيظن هؤلاء المغرورون أن ما نعطيهم من الأموال والأولاد ، لكرامتهم علينا ومعزتهم عندنا ، كلا ليس الأمر كما يزعمون في قولهم { نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } [ سبأ : 35 ] لقد أخطأوا في ذلك وخاب رجاؤهم ، بل إنما نفعل بهم ذلك استدراجاً وإنظاراً وإملاء ، ولهذا قال : { بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } ، كما قال تعالى : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا }(1/1726)
[ التوبة : 55 ] الآية ، وقال تعالى : { إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] ، وقال تعالى : { وَمَآ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ بالتي تُقَرِّبُكُمْ عِندَنَا زلفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [ سبأ : 37 ] الآية ، والآيات في هذا كثيرة . وقال قتادة : مكر والله بالقوم في أموالكم وأولادهم ، يا ابن آدم فلا تعتبر الناس بأموالهم وأولادهم ولكن اعتبرهم بالإيمان والعمل الصالح ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ، والذي نفس محمد بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه » قالوا : وما بوائقه يا رسول الله؟ قال : « غشمه وظلمه ، ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ، ولا يتصدق به فيقبل منه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيء بالسيء ، ولكن يمحو السيء بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث » .(1/1727)
إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ (59) وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوْا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ (60) أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ (61)
يقول تعالى : { إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ } أي هم مع إحسانهم وإيمانهم وعملهم الصالح ، مشفقون من الله خائفون منه ، وجلون من مكره بهم ، كما قال الحسن البصري : إن المؤمن جمع إحساناً وشفقة ، وإن المنافق جمع إساءة وأمناً ، { والذين هُم بِآيَاتِ رَبَّهِمْ يُؤْمِنُونَ } أي يؤمنون بآياته الكونية والشرعية ، كقوله تعالى : إخباراً عن مريم عليهما السلام { وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ القانتين } [ التحريم : 12 ] أي أيقنت أن ما كان إنما هو عن قدر الله وقضائه ، وما شرعه الله فهو إن كان أمراً فمما يحبه ويرضاه ، وإن كان نهياً فهو مما يكرهه ويأباه ، وإن كان خيراً فهو حق ، كما قال الله : { والذين هُم بِرَبِّهِمْ لاَ يُشْرِكُونَ } أي لا يعبدون معه غيره بل يوحدونه ويعلمون أنه لا إله إلا الله ، وأنه لا نظير له ولا كفء . وقوله : { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إلى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ } أي يعطون العطاء وهم خائفون وجلون أن لا يتقبل منهم ، لخوفهم أن يكونوا قد قصروا في القيام بشروط الإعطاء ، وهذا من باب الإشفاق والاحتياط ، كما قال الإمام أحمد « عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله يؤتون ما آتوا وقلوبهم وجلة هو الذي يسرق ويزني ويشرب الخمر وهو يخاف الله عزَّ وجلَّ؟ قال : » لا بنت أبي بكر ، يا بنت الصديق! ولكنه الذي يصلي ويصوم ويتصدق وهو يخاف الله عزَّ وجلَّ « .
{ أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات } » وقد قرأ آخرون هذه الآية { والذين يُؤْتُونَ مَآ آتَواْ وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ } : أي يفعلون ما يفعلون وهم خائفون ، وروي هذا مرفوعاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم أنه قرأها كذلك ، والمعنى على القراءة الأولى وهي قراءة الجمهور السبعة وغيرهم أظهر؛ لأنه قال : { أولئك يُسَارِعُونَ فِي الخيرات وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ } فجعلهم من السابقين ، ولو كان المعنى على القراءة الأخرى لأوشك أن لا يكونوا من السابقين من المقتصدين أو المقصرين ، والله أعلم .(1/1728)
وَلَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هَذَا وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِنْ دُونِ ذَلِكَ هُمْ لَهَا عَامِلُونَ (63) حَتَّى إِذَا أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذَابِ إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لَا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لَا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66) مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِرًا تَهْجُرُونَ (67)
يقول تعالى مخبراً عن عدله في شرعه على عباده في الدنيا ، أنه لا يكلف نفساً إلا وسعها : أي إلا ما تطيق حمله والقيام به ، وأنه يوم القيامة يحاسبهم بأعمالهم ، التي كتبها عليهم في كتاب مسطور لا يضيع منه شيء ، ولهذا قال : { وَلَدَيْنَا كِتَابٌ يَنطِقُ بالحق } يعني كتاب الأعمال ، { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي لا يبخسون من الخير شيئاً ، وأما السيئات فيعفو ويصفح عن كثير منها لعباده المؤمنين ، ثم قال منكراً على الكفار والمشركين من قريش : { بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ } أي في غفلة وضلالة من هذا ، أي القرآن الذي أنزل على رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } ، قال ابن عباس : { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ } أي سيئة من دون ذلك يعني الشرك { هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } ، قال : لا بد أن يعملوها ، وقال آخرون { وَلَهُمْ أَعْمَالٌ مِّن دُونِ ذلك هُمْ لَهَا عَامِلُونَ } : أي قد كتبت عليهم أعمال السيئة لا بد أن يعملوها قبل موتهم لا محالة لتحق عليهم كلمة العذاب؛ وهو ظاهر قوي حسن ، وقد قدمنا في حديث ابن مسعود : « فوالذي لا إله غيره إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها » ، وقوله : { حتى إِذَآ أَخَذْنَا مُتْرَفِيهِمْ بالعذاب إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } يعني حتى إذا جاء مترفيهم - وهم المنعمون في الدنيا - عذابُ الله وبأسُه ونقمتُه بهم { إِذَا هُمْ يَجْأَرُونَ } أي يصرخون ويستغيثون ، كما قال تعالى : { وَذَرْنِي والمكذبين أُوْلِي النعمة وَمَهِّلْهُمْ قَلِيلاً } [ المزمل : 11 ] ، وقال تعالى : { كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ فَنَادَواْ وَّلاَتَ حِينَ مَنَاصٍ } [ ص : 3 ] ، وقوله : { لاَ تَجْأَرُواْ اليوم إِنَّكُمْ مِّنَّا لاَ تُنصَرُونَ } أي لا يجيركم أحد مما حل بكم سواء جأرتم أو سكتم لا محيد ولا مناص ولا وزر ، لزم الأمر ووجب العذاب ، ثم ذكر أكبر ذنوبهم فقال : { قَدْ كَانَتْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنتُمْ على أَعْقَابِكُمْ تَنكِصُونَ } : أي إذا دعيتم أبيتم وإن طلبتم امتنعتم ، { ذَلِكُم بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ الله وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِن يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُواْ فالحكم للَّهِ العلي الكبير } [ غافر : 12 ] ، وقوله : { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ } الضمير للقرآن كانوا يسمرون ويذكرون القرآن بالهجر من الكلام : إنه سحر ، إنه شعر ، إنه كهانة إلى غير ذلك من الأقوال الباطلة . وقيل إنه محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يذكرونه في سمرهم بالأقوال الفاسدة ويضربن له الأمثال الباطلة ، من أنه شاعر ، أو كاهن ، أو ساحر ، أو كذاب ، أو مجنون . وقيل المراد بقوله { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ } أي بالبيت يفتخرون به ويعتقدون أنهم أولياؤه وليسوا به ، كما قال ابن عباس : إنما كره السمر حين نزلت هذه الآية { مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سَامِراً تَهْجُرُونَ } فقال : مستكبرين بالبيت ، يقولون : نحن أهله { سَامِراً } قال : كانوا يتكبرون ويسمرون فيه ولا يعمرونه ويهجرونه .(1/1729)
أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُمْ مَا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جَاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (70) وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْوَاءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجًا فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَإِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّرَاطِ لَنَاكِبُونَ (74) وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75)
يقول تعالى منكراً على المشركين ، في عدم تفهمهم للقرآن العظيم وإعراضهم عنه ، مع أنهم قد خصوا بهذا الكتاب الذي لم ينزل الله على رسول الله أكمل منه ولا أشرف ، فكان اللائق بهؤلاء أن يقابلوا النعمة التي أسداها الله عليهم بقبولها ، والقيام بشكرها وتفهمها والعمل بمقتضاها آناء الليل وأطراف النهار ، ثم قال منكراً على الكافرين من قريش : { أَمْ لَمْ يَعْرِفُواْ رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } أي أنهم لا يعرفون محمداً وصدقه وأمانته وصاينته التي نشأ بها فيهم ، ولهذا قال ( جعفر بن أبي طالب ) رضي الله عنه للنجاشي ملك الحبشة : أيها الملك إن الله بعث فينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته ، وهكذا قال ( المغيرة بن شعبة ) لنائب كسرى حين بارزهم ، وكذلك قال ( أبو سفيان ) لملك الروم هرقل حين سأله وأصحابه عن صفات النبي صلى الله عليه وسلم ونسبه وصدقه وأمانته ، وكانوا بعد كفاراً لم يسلموا ، ومع هذا لم يمكنهم إلا الصدق فاعترفوا بذلك . وقوله : { أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ } يحكي قول المشركين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه تقوَّل القرآن أي افتراه من عنده ، أو أن به جنوناً لا يدري ما يقول ، وأخبر عنهم أن قلوبهم لا تؤمن به ، وهم يعلمون بطلان ما يقولون في القرآن ، وقد تحداهم وجميع أهل الأرض أن يأتوا بمثله إن استطاعوا ولا يستطيعون أبد الآبدين ، ولهذا قال : { بَلْ جَآءَهُمْ بالحق وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ } ، قال قتادة : ذكر لنا « أن نبي الله صلى الله عليه وسلم لقي رجلاً فقال : » أسلم « فقال الرجل : إنك لتدعوني إلى أمر أنا له كاره ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : » وإن كنت كارهاً « وذكر لنا أنه لقي رجلاً فقال له : » أسلم « فتصعده ذلك وكبر عليه ، فقال له نبي الله صلى الله عليه وسلم : » أرأيت لو كنت في طريق وعر وعث ، فلقيت رجلاً تعرف وجهه وتعرف نسبه ، فدعاك إلى طريق واسع سهل أكنت تتبعه «؟ قال : نعم ، قال : » فوالذي نفس محمد بيده إنك لفي أوعر من ذلك الطريق لو قد كنت عليه ، وإني لأدعوك لأسهل من ذلك لو دعيت إليه « وقوله : { وَلَوِ اتبع الحق أَهْوَآءَهُمْ لَفَسَدَتِ السماوات والأرض وَمَن فِيهِنَّ } قال مجاهد : الحق هو الله عزَّ وجلَّ ، والمراد لو أجابهم الله إلى ما في أنفسهم من الهوى ، وشرع الأمور على وفق ذلك ، لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن أي لفساد أهوائهم واختلافهم ، كما أخبر عنهم في قولهم : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ، وقال تعالى : { قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق }(1/1730)
[ الإسراء : 100 ] الآية .
ففي هذا كله تبيين عجز العباد واختلاف آرائهم وأهوائهم ، وأنه تعالى هو الكامل في جميع صفاته وأقواله وأفعاله وتدبيره لخلقه تعالى وتقدس ، ولهذا قال : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِذِكْرِهِمْ } أي القرآن { فَهُمْ عَن ذِكْرِهِمْ مُّعْرِضُونَ } ، وقوله : { أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً } قال الحسن : أجراً ، وقال قتادة : جُعْلا { فَخَرَاجُ رَبِّكَ خَيْرٌ } أي أنت لا تسألهم أجرة ولا جعلاً ولا شيئاً على دعوتك إياهم إلى الهدى ، بل أنت في ذلك تحتسب عند الله جزيل ثوابه ، كما قال { قُلْ مَا سَأَلْتُكُم مِّن أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله } [ سبأ : 47 ] ، وقال : { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَآ أَنَآ مِنَ المتكلفين } [ ص : 86 ] ، وقال : { اتبعوا مَن لاَّ يَسْأَلُكُمْ أَجْراً } [ يس : 21 ] ، وقوله : { وَإِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ } . عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه فيما يرى النائم ، ملكان ، فقعد أحدهما عند رجليه ، والآخر عند رأسه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : اضرب مَثَل هذا ومثل أمته ، فقال : إن مثل هذا ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة ، فلم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به ، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة ، فقال : أرأيتم إن أوردتكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء تتبعوني؟ فقالوا : نعم ، قال : فانطلق بهم وأوردهم رياضاً معشبة وحياضاً رواء ، فأكلوا وشربوا وسمنوا ، فقال لهم : ألم ألفَكم على تلك الحال ، فجعلتم لي إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء أن تتبعوني؟ قالوا : بلى ، قال : فإن بين أيديكم رياضاً أعشب من هذه ، وحياضاً هي أروى من هذه ، فاتبعوني ، قال : فقالت طائفة : صدق الله ولنتبعنه ، وقالت طائفة : قد رضينا بهذا نقيم عليه . وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني ممسك بحجزكم هلمَّ عن النار ، هلمَّ عن النار وتغلونني ، تتقاحمون فيها تقاحم الفراش والجنادب ، فأوشك أن أرسل حجزكم وأنا فرطكم على الحوض ، فتردون عليّ معاً وأشتاتاً ، أعرفكم بسيماكم وأسمائكم كما يعرف الرجل الغريب من الإبل في إبله ، فيذهب بكم ذات اليمين وذات الشمال ، فأناشد فيكم رب العالمين أي رب قومي ، أي رب أمتي ، فيقال : يا محمد إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، إنهم كانوا يمشون بعدك القهقرى على أعقابهم » وقوله : { وَإِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة عَنِ الصراط لَنَاكِبُونَ } أي لعادلون جائرون منحرفون ، تقول العرب : نكب فلان عن الطريق إذا زاغ عنها ، وقوله : { وَلَوْ رَحِمْنَاهُمْ وَكَشَفْنَا مَا بِهِمْ مِّن ضُرٍّ لَّلَجُّواْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } يخبر تعالى عن غلظهم في كفرهم ، بأنه لو أزاح عنهم الضر وأفهمهم القرآن لما انقادوا له ، ولاستمروا على كفرهم وعنادهم وطغيانهم ، كما قال تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] فهذا من باب علمه تعالى بما لا يكون لو كان كيف يكون ، قال ابن عباس : كل ما فيه ( لو ) فهو مما لا يكون أبداً .(1/1731)
وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بِالْعَذَابِ فَمَا اسْتَكَانُوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77) وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (78) وَهُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (80) بَلْ قَالُوا مِثْلَ مَا قَالَ الْأَوَّلُونَ (81) قَالُوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا هَذَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)
يقول تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب } أي ابتليناهم بالمصائب والشدائد ، { فَمَا استكانوا لِرَبِّهِمْ وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } أي فما ردهم ذلك عما كانوا فيه من الكفر والمخالفة بل استمروا على غيهم وضلالهم ، ما استكانوا أي ما خشعوا { وَمَا يَتَضَرَّعُونَ } أي ما دعوا ، كما قال تعالى : { فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } [ الأنعام : 43 ] الآية . عن ابن عباس أنه قال : جاء أبو سفيان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أنشدك الله والرحم فقد أكلنا العلهز يعني الوبر والدم - فأنزل الله : { وَلَقَدْ أَخَذْنَاهُمْ بالعذاب فَمَا استكانوا } ، وأصله في « الصحيحين » « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا على قريش حين استعصوا فقال : » اللهم أعني عليهم بسبع كسبع يوسف « وقوله : { حتى إِذَا فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَاباً ذَا عَذَابٍ شَدِيدٍ إِذَا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ } ، أي حتى إذا جاءهم أمر الله وجاءتهم الساعة بغتة ، فأخذهم من عذاب الله ما لم يكونوا يحتسبون ، فعند ذلك أبلسوا من كل خير ، وأيسوا من كل راحة وانقطعت آمالهم ورجاؤهم ، ثم ذكر تعالى نعمه على عباده بأن جعل لهم السمع والأبصار والأفئدة وهي العقول اليت يذكرون بها الأشياء ، ويعتبرون بما في الكون من الآيات الدالة على وحدانية الله ، وأنه الفاعل المختار لما يشاء . وقوله : { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي ما أقل شكركم لله على ما أنعم به عليكم ، ثم أخبر تعالى عن قدرته العظيمة وسلطانه القاهر ، في برئه الخليقة وذرئه لهم في سائر أقطار الأرض ، على اختلاف أجناسهم ولغاتهم وصفاتهم ، ثم يوم القيامة يجمع الأولين منهم والآخرين لميقات يوم معلوم ، ولهذا قال : { وَهُوَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي يحيي الرمم ويميت الأمم ، { وَلَهُ اختلاف الليل والنهار } أي وعن أمره تسخير الليل والنهار كل منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً ، يتعاقبان لا يفتران ولا يفترقان بزمان غيرهما كقوله : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار } [ يس : 40 ] الآية ، وقوله : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي أفليس لكم عقول تدلكم على العزيز العليم الذي قد قهر كل شيء وخضع له كل شيء؟ ثم قال مخبراً عن منكري البعث الذين أشبهوا من قبلهم من المكذبين { بَلْ قَالُواْ مِثْلَ مَا قَالَ الأولون * قالوا أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَاباً وَعِظَاماً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ } يعني يستبعدون وقوع ذلك بعد صيرورتهم إلى البلى ، { لَقَدْ وُعِدْنَا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا هذا مِن قَبْلُ إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } يعنون الإعادة محال إنما يخبر بها من تلقاها عن كتب الأولين واختلافهم ، وهذا الإنكار والتكذيب منهم كقوله إخباراً عنهم { أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً * قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } [ النازعات : 11-12 ] ، { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَن يُحيِي العظام وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الذي أَنشَأَهَآ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَهُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ } [ يس : 78-79 ] الآيات .(1/1732)
قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بِالْحَقِّ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (90)
يقرر تعالى وحدانيته واستقلاله بالخلق والتصرف والملك { قُل لِّمَنِ الأرض وَمَن فِيهَآ } أي من مالكها الذي خلقها ، ومن فيها من الحيوانات والنباتات ، والثمرات سائر صنوف المخلوقات؟ { إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي فيعترفون لك بأنّ لك لله وحده لا شريك له ، فإذا كان ذلك { قُلْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أنه لا تنبغي العبادة إلا للخالق الرازق لا لغيره ، { قُلْ مَن رَّبُّ السماوات السبع وَرَبُّ العرش العظيم } ؟ أي من هو خالق العالم العلوي بما فيه من الكواكب النيرات ، والملائكة الخاضعين له في سائر الأقطار منها والجهات؟ ومن هو رب العرش العظيم يعني الذي هو سقف المخلوقات؟ كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « شأن الله أعظم من ذلك إن عرشه على سماواته هكذا وأشار بيده مثل القبة » وفي الحديث الآخر : « ما السماوات السبع والأرضون السبع وما بينهنَّ وما فيهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإن الكرسي بما فيه بالنسبة إلى العرش كتلك الحلقة في تلك القلاة » ، عن ابن عباس : إنما سمي عرشاً لارتفاعه ، وقال مجاهد : ما السماوات والأرض في العرش إلا كحلقة في أرض فلاة ، وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : العرش لا يقدر قدره أحد إلا الله عزَّ وجلَّ . ولهذا قال هاهنا : { وَرَبُّ العرش العظيم } أي الكبير ، وقال آخر السورة { وَرَبُّ العرش العظيم } أي الحسن البهي فقد جمع العرش بين العظمة في الاتساع ، والعلو والحسن الباهر؛ قال ابن مسعود : إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور العرش من نور وجهه ، وقوله : { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } أي إذا كنتم تعترفون بأنه رب السماوات ورب العرش العظيم ، أفلا تخافون عقابه وتحذرون عذابه في عبادتكم معه غيره وإشراككم به؟
قوله : { قُلْ مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ } أي بيده الملك { مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ } [ هود : 56 ] أي متصرف فيها ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا والذي نفسي بيده » ، وكان إذا اجتهد في اليمين قال : « لا ومقلب القلوب » ، فهو سبحانه الخالق المالك المتصرف ، { وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } كانت العرب إذا كان السيد فيهم أجار أحداً لا يخفر في جواره ، وليس لمن دونه أن يجير عليه لئلا يفتات عليه ، ولهذا قال الله : { وَهُوَ يُجْيِرُ وَلاَ يُجَارُ عَلَيْهِ } أي وهو السيد العظيم الذي لا أعظم منه ، الذي له الخلق والأمر ولا معقب لحكمه ، { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] ، { سَيَقُولُونَ لِلَّهِ } أي سيعترفون أن السيد العظيم الذي يجير ولا يجار عليه هو الله تعالى وحده لا شريك له { قُلْ فأنى تُسْحَرُونَ } أي فكيف تذهب عقولكم في عبادتكم معه غيره مع اعترافكم وعلمكم بذلك؟ ثم قال تعالى : { بَلْ أَتَيْنَاهُمْ بالحق } وهو الإعلام بأنه لا إله إلا الله وأقمنا الأدلة الصحيحة الواضحة القاطعة على ذلك ، { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي في عبادتهم مع الله غيره ولا دليل لهم على ذلك ، كما قال في آخر السورة { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ } [ المؤمنون : 117 ] فالمشركون إنما يفعلون ذلك اتباعاً لآبائهم وأسلافهم الحيارى الجهال كما قال عنهم { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] .(1/1733)
مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذًا لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92)
ينزه تعالى نفسه عن أن يكن له ولداً له ولد أو شريك في الملك والتصرف والعبادة ، فقال تعالى : { مَا اتخذ الله مِن وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَّذَهَبَ كُلُّ إله بِمَا خَلَقَ وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ } أي لو قدّر تعدد الآلهة ، لانفرد كل منهم بما خلق ، فما كان ينتظم الوجود ، والمشاهد أن الوجود منتظم متسق ، غاية الكمال { مَّا ترى فِي خَلْقِ الرحمن مِن تَفَاوُتٍ } [ الملك : 3 ] ، ثم لكان كل منهم يطلب قهر الآخر وخلافه ، فيعلو بعضهم على بعض ، والمتكلمون عبروا عنه بدليل ( التمانع ) وهو أنه لو فرض صانعان فصاعداً فأراد واحد تحريك جسم والآخر أراد سكونه ، فإن لم يحصل مراد كل واحد منهما كانا عاجزين ، ويمتنع اجتماع مراديهما للتضاد ، وما جاء هذا المحال إلا من فرض التعدد فيكون محالاً؛ فأما إن حصل مراد أحدهما دون الآخر كان الغالب هو الواجب ، والآخر المغلوب ممكناً ، لأنه لا يليق بصفة الواجب أن يكون مقهوراً ، ولهذا قال تعالى : { وَلَعَلاَ بَعْضُهُمْ على بَعْضٍ سُبْحَانَ الله عَمَّا يَصِفُونَ } أي عما يقول الظالمون المعتدون في دعواهم الولد أو الشريك علواً كبيراً ، { عَالِمِ الغيب والشهادة } أي يعلم ما يغيب عن المخلوقات وما يشاهدونه ، { فتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تقدس وتنزه وتعالى وعزَّ وجلَّ عما يقول الظالمون والجاحدون .(1/1734)
قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلَا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَإِنَّا عَلَى أَنْ نُرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ (95) ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ (96) وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98)
يقول تعالى آمراً نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو بهذا الدعاء عند حلول النقم { رَّبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي مَا يُوعَدُونَ } أي إن عاقبتهم وأنا أشاهد ذلك فلا تجعلني فيهم؛ كما جاء في الحديث : « وإذا أردت بقوم فتنة فتوفني إليك غير مفتون » وقوله تعالى : { وَإِنَّا على أَن نُّرِيَكَ مَا نَعِدُهُمْ لَقَادِرُونَ } أي لو شئنا لأريناك ما نحل بهم من النقم والبلاء والمحن ، ثم قال تعالى مرشداً له إلى الترياق النافع في مخالطة الناس وهو الإحسان إلى من يسيء إليه ليستجلب خاطره ، فتعود عداوته صادقة وبغضه محبة ، فقال تعالى : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة } ، وهذا كما قال : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] ، وقوله تعالى : { وَقُلْ رَّبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشياطين } أمره الله أن يستعيذ من الشياطين لأنهم لا تنفع معهم الحيل ، ولا ينقادون بالمعروف ، وفي الصحيح : « أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم من همزه ونفخه ونفثه » وقوله تعالى : { وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَن يَحْضُرُونِ } أي في شيء من أمري ، ولهذا أمر بذكر الله في ابتداء الأمور ، وذلك لطرد الشيطان عند الأكل والجماع والذبح وغير ذلك من الأمور ، ولهذا روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : « اللهم إني أعوذ بك من الهرم ، وأعوذ بك من الهدم ، ومن الغرق ، وأعوذ بك أن يتخبطني الشيطان عند الموت » وروى الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا كلمات يقولهن عند النوم من الفزع : « باسم الله ، أعوذ بكلمات الله التامة من غضبه وعقابه ومن شر عباده ومن همزات الشياطين وأن يحضرون » قال : فكان عبد الله بن عمرو يعلمها من بلغ من ولده أن يقولها عند نومه ، ومن كان منهم صغيراً لا يعقل أن يحفظها كتبها له فعلقها في عنقه .(1/1735)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)
يخبر تعالى عن حال المحتضر عند الموت من الكافرين ، وسؤالهم الرجعة إلى الدنيا ليصلح ما كان أفسده في مدة حياته ، ولهذا قال : { رَبِّ ارجعون * لعلي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ } كقوله : { وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } [ السجدة : 12 ] ، وقال تعالى : { وَتَرَى الظالمين لَمَّا رَأَوُاْ العذاب يَقُولُونَ هَلْ إلى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ } [ الشورى : 44 ] ، وقال تعالى : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا نَعْمَلْ صَالِحاً غَيْرَ الذي كُنَّا } [ فاطر : 37 ] الآية ، فذكر تعالى أنهم يسألون الرجعة فلا يجابون عند الاحتضار ، ويوم النشور ووقت العرض على الجبار ، وهم في غمرات عذاب الجحيم ، وقوله هاهنا : { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا } كلا حرف ردع وزجر أي لا نجيبه إلى ما طلب ولا نقبل منه . وقوله تعالى : { كَلاَّ إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَآئِلُهَا } قال ابن أسلم : أي لا بد أن يقولها لا محالة كل محتضر ظالم ، ويحتمل أن يكون ذلك علة لقوله { كَلاَّ } أي سؤاله الرجوع ليعمل صالحاً هو كلام منه وقول لا عمل معه ، ولو رد لما عمل صالحاً ولكان يكذب في مقالته هذه ، كما قال تعالى : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] . قال قتادة : والله ما تمنى أن يرجع إلى أهل ولا عشيرة ، ولا بأن يجمع الدنيا ويقضي الشهوات ، ولكن تمنى أن يرجع فيعمل بطاعة الله عزَّ وجلَّ ، فرحم الله امرأ عمل فيما يتمناه الكافر إذا رأى العذاب إلى النار . وقال عمر بن عبد الله مولى غفرة : إذا قال الكافر رب ارجعون لعلي أعمل صالحاً يقول الله تعالى : كلا كذبت ، وكان العلاء بن زياد يقول : لينزلن أحدكم نفسه أنه قد حضره الموت فاستقال ربه فأقاله فليعمل بطاعة الله تعالى . وقال قتادة : والله ما تمنى إلا أن يرجع فيعمل بطاعة الله ، فانظروا أمنية الكافر المفرط ، فاعملوا بها ولا قوة إلا بالله . وعن أبي هريرة قال : إذا وضع - يعني الكافر - في قبره فيرى مقعده من النار ، قال : فيقول رب ارجعون أتوب وأعمل صالحاً ، قال : فيقال : قد عمرت ما كنت معمراً ، قال : فيضيّق عليه قبره ويلتئم فهو كالمنهوش ينام ويفزع تهوي إليه هوام الأرض وحيَّاتها عقاربها . وعن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : ويل لأهل المعاصي من أهل القبور ، تدخل عليهم من قبورهم حيات سود ، أو دُهْم . حية عند رأسه ، وحية عند رجليه ، يقرصانه حتى يتلقيا في وسطه ، فذلك العذاب في البرزخ الذي قال الله تعالى : { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } . قال مجاهد : البرزخ الحاجز ما بين الدنيا والآخرة . وقال محمد بن كعب : البرزخ ما بين الدنيا والآخرة ليسوا مع أهل الدنيا يأكلون ويشربون ولا مع أهل الآخرة يجازون بأعمالهم ، وقال أبو صخر : البرزخ المقابر لا هم في الدنيا ولا هم في الآخرة فهم مقيمون إلى يوم يبعثون ، وفي قوله تعالى : { وَمِن وَرَآئِهِمْ بَرْزَخٌ } تهديد لهؤلاء المحتضرين من الظلمة بعذاب البرزخ ، كما قال تعالى : { مِّن وَرَآئِهِمْ جَهَنَّمُ } [ الجاثية : 10 ] ، وقال تعالى : { وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ } [ إبراهيم : 17 ] ، وقوله تعالى : { إلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } أي يستمر به العذاب إلى يوم البعث كما جاء في الحديث : « فلا يزال معذباً فيها » أي في الأرض .(1/1736)
فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلَا أَنْسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلَا يَتَسَاءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ (104)
يخبر تعالى أنه إذا نفخ في الصور نفخة النشور ، وقام الناس من القبور { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } أي لا تنفع الإنسان يومئذٍ قرابة ولا يرثي والد لولده ولا يلوي عليه ، قال الله تعالى : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ } [ المعارج : 10-11 ] أي لا يسأل القريب قريبه وهو يبصره ، ولو كان عليه من الأوزار ما قد أثقل ظهره ، ولو كان أعز الناس عليه في الدنيا ما التفت إليه ولا حمل عنه وزن جناح بعوضة ، قال الله تعالى : { يَوْمَ يَفِرُّ المرء مِنْ أَخِيهِ * وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ * وصاحبته وَبَنِيهِ } [ عبس : 34-36 ] الآية . وقال ابن مسعود : إذا كان يوم القيامة جمع الله الأولين والآخرين ثم نادى مناد : ألا من كان له مظلمة فليجيء فليأخذ حقه ، قال : فيفرح المرء أن يكون له الحق على والده أو ولده أو زوجته وإن صغيراً ، ومصداق ذلك في كتاب الله ، قال الله تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } . وروى الإمام أحمد عن المسور بن مخرمة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فاطمة بضعة مني يغيظني ما يغيظها وينشطني ما ينشطها ، وإن الأنساب تنقطع يوم القيامة إلا نسبي وسببي وصهري » ؛ وهذا الحديث له أصل في « الصحيحين » : « فاطمة بضعة مني يريبني ما يريبها ويؤذيني ما آذاها » وقد ذكرنا في مسند أمير المؤمنين عمر بن الخطاب من طرق متعددة عنه رضي الله عنه أنه لما تزوج ( أم كلثوم ) بنت علي بن أبي طالب رضي الله عنهما قال : أما والله ما بي إلا أني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « كل سبب ونسب فإنه منقطع يوم القيامة إلا سببي ونسب » ، وروي الحافظ ابن عساكر عن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل نسب وصهر ينقطع يوم القيامة إلا نسبي وصهري » .
وقوله تعالى : { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون } أي من رجحت حسناته على سيئاته ولو بواحدة قال ابن عباس : { فأولئك هُمُ المفلحون } أي الذين فازوا فنجوا من النار وأدخلوا الجنة { وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ } أي ثقلت سيئاته على حسناته { فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ } أي خابوا وهلكوا وباءوا بالصفقة الخاسرة عن أنس بن مالك يرفعه قال : إن لله ملكاً موكلاً بالميزان فيؤتى بابن آدم فيوقف بين كفتي الميزان ، فإن ثقل ميزانه نادى ملك بصوت يسمعه الخلائق : سعد فلان سعادة لا يشقى بعدها أبداً ، وإن خفّ ميزانه نادى ملك بصوت يسمع الخلائق : شقي فلان شفاوة لا يسعدها بعدها أبداً . قال تعالى : { فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } أي ماكثون فيها دائمون مقيمون فلا يظعنون { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار } ، كما قال تعالى :(1/1737)
{ وتغشى وُجُوهَهُمُ النار } [ إبراهيم : 50 ] ، وقال تعالى : { لَوْ يَعْلَمُ الذين كَفَرُواْ حِينَ لاَ يَكُفُّونَ عَن وُجُوهِهِمُ النار وَلاَ عَن ظُهُورِهِمْ } [ الأنبياء : 39 ] الآية . عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن جهنم لما سيق لها أهلها ، تلقَّاهم لهبها ثم تلفحهم لفحة فلم يق لهم لحم إلا سقط على العرقوب » وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار } ، قال : تلفحهم لفحة تسيل لحومهم على أعقابهم . وقوله تعالى : { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } قال ابن عباس : يعني عابسون ، وقال ابن مسعود { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } قال : ألم تر إلى الرأس المشيط الذي قد بدا أسنانه وقلصت شفتاه ، وعن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « { وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } قال تشويه النار ، فتقلص شفته العليا حتى تبلغ وسط رأسه . وتسترخي شفته السفلى حتى تبلغ سرته » .(1/1738)
أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تُتْلَى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ (105) قَالُوا رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْمًا ضَالِّينَ (106) رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ (107)
هذا تقريع من الله وتوبيخ لأهل النار على ما ارتكبوه من الكفر والمآثم ، والمحارم والعظائم التي أوبقتهم في ذلك فقال تعالى : { أَلَمْ تَكُنْ آيَاتِي تتلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِهَا تُكَذِّبُونَ } أي قد أرسلت إليكم الرسل وأنزلت إليكم الكتب وأزلت شبهكم ولم يبق لكم حجة ، كما قال تعالى : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل } [ النساء : 165 ] ، وقال : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، ولهذا قال : { رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ } أي قد قامت علينا الحجة ولكن كنا أشقى من أن ننقاد لها ونتبعها فضللنا عنها ولم نرزقها ، ثم قالوا : { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } أي أرددنا إلى الدنيا فإن عدنا إلى ما سلف منا فنحن ظالمون مستحقون للعقوبة ، كما قال : { فاعترفنا بِذُنُوبِنَا فَهَلْ إلى خُرُوجٍ مِّن سَبِيلٍ } [ غافر : 11 ] ؟ أي لا سبيل إلى الخروج لأنكم كنتم تشكرون بالله إذا وحده المؤمنون .(1/1739)
قَالَ اخْسَئُوا فِيهَا وَلَا تُكَلِّمُونِ (108) إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ (111)
هذا جواب من الله تعالى للكفار إذا سألوا الخروج من النار ، والرجعة إلى هذه الدار ، يقول { اخسئوا فِيهَا } أي امكثوا فيها صاغرين مهانين أذلاء { وَلاَ تُكَلِّمُونِ } أي لا تعودوا إلى سؤالكم هذا فإنه لا جواب لكم عندي . قال ابن عباس { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } قال : هذا قول الرحمن حين انقطع كلامهم منه . وروى ابن أبي حاتم : عن عبد الله بن عمرو قال : إن أهل جهنم يدعون مالكاً فلا يجيبهم أربعين عاماً ، ثم يرد عليهم إنكم ماكثون ، قال : هانت دعوتهم والله على ( مالك ) ورب مالك؛ ثم يدعون ربهم فيقولون : { قَالُواْ رَبَّنَا غَلَبَتْ عَلَيْنَا شِقْوَتُنَا وَكُنَّا قَوْماً ضَآلِّينَ * رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } [ المؤمنون : 6-7 ] قال : فيسكت عنهم قدر الدنيا مرتين ، ثم يرد عليهم : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } قال : فوالله ما نبس القوم بعدها بكلمة واحدة ، وما هو إلا الزفير والشهيق في نار جهنم ، قال : فشبهت أصواتهم بأصوات الحمير أولها زفير وآخرها شهيق ، وقال عبد الله بن مسعود : إذا أراد الله تعالى أن لا يخرج منهم أحداً يعني من جهنم غيَّر وجوههم وألوانهم ، فيجيء الرجل من المؤمنين فيشفع ، فيقول : يا رب ، فيقول الله من عرف أحداً فليخرجه ، فيجيء الرجل من المؤمنين فينظر ، فلا يعرف أحداً فيناديه الرجل : يا فلان أنا فلان . فيقول : ما أعرفك ، قال : فعند ذلك يقولون : { رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْهَا فَإِنْ عُدْنَا فَإِنَّا ظَالِمُونَ } [ المؤمنون : 107 ] فعند ذلك يقول الله تعالى : { اخسئوا فِيهَا وَلاَ تُكَلِّمُونِ } فإذا قال ذلك أطبقت عليهم النار فلا يخرج منهم أحد؛ ثم قال تعالى مذكراً لهم بذنوبهم في الدنيا وما كانوا يستهزئون بعباده المؤمنين وأوليائه ، فقال تعالى : { إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الراحمين * فاتخذتموهم سِخْرِيّاً } أي فسخرتم منهم في دعائهم إياي وتضرعهم إلي { حتى أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي } أي حملكم بغضهم على أن أنسيتم معاملتي { وَكُنْتُمْ مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ } أي من صنيعهم وعبادتهم ، كما قال تعالى : { إِنَّ الذين أَجْرَمُواْ كَانُواْ مِنَ الذين آمَنُواْ يَضْحَكُونَ * وَإِذَا مَرُّواْ بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ } [ المطففين : 29-30 ] أي يلمزونهم استهزاء؛ ثم أخبر تعالى عما جازى به أولياءه وعباده الصالحين ، فقال تعالى : { إِنِّي جَزَيْتُهُمُ اليوم بِمَا صبروا } أي على أذاكم لهم واستهزائكم بهم { أَنَّهُمْ هُمُ الفآئزون } أي جعلتهم هم الفائزين بالسعادة والسلامة والجنة والنجاة من النار .(1/1740)
قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَاسْأَلِ الْعَادِّينَ (113) قَالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116)
يقول تعالى منبهاً لهم على ما أضاعوه في عمرهم القصير في الدنيا من طاعة الله تعالى وعبادته وحده ولو صبروا في مدة الدنيا القصيرة لفازوا كما فاز أولياؤه المتقون ، { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ } أي كم كانت إقامتكم في الدنيا؟ { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ العآدين } أي الحاسبين ، { قَالَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي مدة يسيرة على كل تقدير { لَّوْ أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي لما آثرتم الفاني على الباقي ، ولما تصرفتم لأنفسكم هذا التصرف السيء ، ولا استحققتم من الله سخطه في تلك المدة اليسيرة ، فلو أنكم صبرتم على طاعة الله وعبادته كما فعل المؤمنون لفزتم كما فازوا ، وفي الحديث : « إن الله إذا أدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار قال : يا أهل الجنة كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم ، قال : لنعم ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ، رحمتي ورضواني وجنتي امكثوا فيها خالدين مخلدين . ثم قال : يا أهل النار كم لبثتم في الأرض عدد سنين؟ قالوا : لبثنا يوماً أو بعض يوم ، فيقول بئس ما اتجرتم في يوم أو بعض يوم ، ناري وسخطي امكثوا فيها خالدين مخلدين » وقوله تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً } أي أفظننتم أنكم مخلوقون عبثاً بلا قصد ولا إرادة منكم ولا حكمة لنا؟ وقيل : للعبث لتلعبوا وتعبثوا كما خلقت البهائم لا ثواب لها ولا عقاب ، وإنما خلقناكم للعبادة وإقامة أوامر الله عزَّ وجلَّ { وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } أي لا تعودون في الدار الآخرة ، كما قال تعالى : { أَيَحْسَبُ الإنسان أَن يُتْرَكَ سُدًى } [ القيامة : 36 ] يعني هملاً ، وقوله : { فَتَعَالَى الله الملك الحق } أي تقدس أن يخلق شيئاً عبثاً فإنه الملك الحق المنزه عن ذلك ، { لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش الكريم } فذكر العرش لأنه سقف جميع المخلوقات ، ووصفه بأنه كريم أي حسن المنظر بهي الشكل ، كما قال تعالى : { أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [ الشعراء : 7 ] .
وكان آخر خطبة خطبها ( عمر بن عبد العزيز ) أن حمد الله وأثنى عليه ثم قال : أما بعد أيها الناس إنكم لم تخلقا عبثاً ، ولن تتركوا سدى ، وإن لكم معاداً ينزل الله فيه للحكم بينكم والفصل بينكم ، فخاب وخسر وشقي عبد أخرجه الله من رحمته ، وحرم جنة عرضها السماوات والأرض ألم تعلموا أنه لا يؤمن عذاب الله غداً إلا من حذر هذا اليوم وخافه ، وباع نافداً بباق ، وقليلاً بكثير ، وخوفاً بأمان ، ألا ترون أنكم من أصلاب الهالكين وسيكون من بعدكم الباقين ، حتى تردون إلى خير الوراثين؟ ثم إنكم في كل يوم تشيعون غادياً ورائحاً إلى الله عزَّ وجلّ قد قضى نحبه ، وانقضى أجله ، حتى تغيبوه في صدع من الأرض ، في بطن صدع غير ممهد ولا موسد ، فد فارق الأحباب وباشر التراب ، وواجه الحساب ، مرتهن بعمله ، غني عما ترك ، فقير إلى ما قدم ، فاتقوا الله عباد الله قبل انقضاء مواثيقه ونزول الموت بكم؛ ثم جعل طرف ردائه على وجهه فبكى وأبكى من حوله .(1/1741)
وروى أبو نعيم عن محمد بن إبراهيم بن الحارث عن أبيه قال : بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية ، وأمرنا أن نقول إذا نحن أمسينا وأصبحنا { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } ؟ قال : فقرأناها فغنمنا وسلمنا ، وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا السفينة : باسم الله الملك الحق ، وما قدروا الله حق قدره والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون ، بسم الله مجراها ومرساها إن ربي لغفور رحيم » .(1/1742)
وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (117) وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)
يقول تعالى متوعداً من أشرك به غيره وعبد معه سواه ، ومخبراً أن من أشرك بالله لا برهان له ، أي لا دليل له على قوله ، فقال تعالى : { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ } وهذه جملة معترضة ، وجواب الشرط في قوله : { فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ } أي الله يحاسبه على ذلك؛ ثم أخبر { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } : أي لديه يوم القيامة لا فلاح لهم ولا نجاة . قال قتادة : « ذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لرجل : » ما تعبد؟ « قال : أعبد الله وكذا وكذا حتى عدّ أصناماً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فأيهم إذا أصابك ضر فدعوته كشفه عنك؟ « قال : الله عزَّ وجلَّ ، قال : » فأيهم إذا كانت لك حاجة فدعوته أعطاكها؟ « قال : الله عزَّ وجلَّ ، قال : » فما يحملك على أن تعبد هؤلاء معه أم حسبت أن تغلب عليه « قال : أردت شكره بعبادة هؤلاء معه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » تعلمون ولا يعلمون « ، فقال الرجل بعدما أسلم : لقيت رجلاً خصمني » وقوله تعالى : { وَقُل رَّبِّ اغفر وارحم وَأنتَ خَيْرُ الراحمين } هذا إرشاد من الله تعالى إلى هذا الدعاء ، فالغفر إذا أطلق ، معناه محو الذنب وستره عن الناس ، والرحمة معناها أن يسدده ويوفقه في الأقوال والأفعال .(1/1743)
سُورَةٌ أَنْزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنْزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1) الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2)
يقول تعالى : هذه السورة أنزلناها ، فيه تنبيه على الاعتناء بها ولا ينفي ما عداها { وَفَرَضْنَاهَا } قال مجاهد : أي بينا الحلال والحرام والأمر والنهي والحدود ، وقال البخاري : ومن قرأ { وَفَرَضْنَاهَا } يقول : فرضناها عليكم وعلى بعدكم ، { وَأَنزَلْنَا فِيهَآ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } أي مفسرات واضحات { لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، ثم قال تعالى : { الزانية والزاني فاجلدوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ } يعني هذه الآية الكريمة فيها حكم الزاني في الحد ، وللعلماء فيه تفصيل ، فإن الزاني لا يخلو إما أن يكون بكراً وهو الذي يتزوج ، أو محصناً وهو الذي قد وطئ في نكاح صحيح وهو حر بالغ عاقل ، فأما إذا كان بكراً لم يتزوج فإن وحده مائة جلدة كما في الآية ، ويزاد على ذلك أن يغرب عاماً عن بلده عند جمهور العلماء ، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله فإن عبده أن التغريب إلى رأي الإمام إن شاء غرّب وإن شاء لم يغرب ، وحجة الجمهور في ذلك ما ثبت في « الصحيحين » « في الأعرابيين اللذين أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال أحدهما : يا رسول الله إن ابني هذا كان عسيفاً - يعني أجيراً - على هذا ، فزنى بامرأته ، فافتديت ابني منه بمائة شاة ووليدة ، فسألت أهل العلم فأخبروني أن علي ابني جلد مائة وتغريب عام وأن على امرأة هذا الرجم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » والذي نفسي بيده لأقضين بينكما بكتاب الله تعالى : الوليدة والغنم ردٌّ عليك ، وعلى ابنك مائة جلدة وتغريب عام ، واغد يا أنيس - لرجل من أسلم - إلى امرأة هذا ، فإن اعترفت فارجمها « فغدا عليها فاعترفت فرجمها » وفي هذا دلالة على تغريب الزاني مع جلد مائة إذا كان بكراً؛ فأما إذا كان محصناً فإنه يرجم ، كما روى الإمام مالك .
عن ابن عباس أن عمر قام فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « أما بعد أيها الناس فإن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل عليه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها ، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجمنا بعده ، فأخشى أن يطول بالناس زمان أن يقول قائل : لا نجد آية الرجم في كتاب الله ، فيضنوا بترك فريضة قد أنزلها الله ، فالرجم في كتاب الله حق على من زنى إذا أحصن من الرجال ومن النساء إذا قامت البينة أو الحبل أو الاعتراف » . وفي رواية عنه : « ولولا أن يقول قائل أو يتكلم متكلم أن عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نزلت » . وقال ابن عمر : نبئت عن كثير بن الصلت قال : كنا عند مروان وفينا زيد فقال زيد بن ثابت : كنا نقرأ : الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة ، قال مروان : ألا كتبتها في المصحف؟ قال : ذكرنا ذلك وفينا عمر بن الخطاب ، فقال : أنا أشفيكم من ذلك ، قال ، قلنا : فكيف؟ قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : فذكر كذا وكذا الرجم ، فقال : يا رسول الله اكتب لي آية الرجم ، قال : « لا أستطيع الآن » ، هذا أو نحو ذلك .(1/1744)
وهذه طرق كلها متعددة متعاضدة ، ودالة على أن آية الرجم كانت مكتوبة فنسخ تلاوتها وبقي حكمها معمولاً به والله أعلم . وقد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برجم هذه المرأة لما زنت مع الأجير ، ورجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ( ماعزاً ) و ( الغامدية ) ولم ينقل عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه جلدهم قبل الرجم ، ولهذا كان هذا مذهب جمهور العلماء ، وإليه ذهب أبو حنيفة ومالك والشافعي رحمهم الله ، وذهب الإمام أحمد إلى أنه يجب أن يجمع على الزاني المحصن بين الجلد للآية والرجم للسنة ، كما روى الإمام أحمد وأهل السنن عن عبادة بن الصامت قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خذوا عني خذوا عني ، قد جعل الله لهن سبيلاً ، البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام ، والثيب بالثيب جلد مائة والرجم » .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } أي في حكم الله أي لا ترأفوا بهما في شرع الله ، وليس المهي عنه الرأفة الطبيعية على ترك الحد ، وإنما هي الرأفة التي تحمل الحاكم على ترك الحد فلا يجوز ذلك ، قال مجاهد { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } قال : إقامة الحدود إذا رفعت إلى السلطان فتقام ولا تعطل ، وقد جاء في الحديث : « تعافوا الحدود فيما بينكم فما بلغني من حد فقد وجب » ، وفي الحديث الآخر : « لحد يقام في الأرض خير لأهلها من أن يمطروا أربعين يوماً » ، وقيل المراد : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } فلا تقيموا الحد كما ينبغي من شدة الضرب الزاجر عن المأثم ، وليس المراد الضرب المبرح ، قال عامر الشعبي : رحمة من شدة الضرب ، وقال عطاء : ضرب ليس بالمبرح ، وقال : هذا في الحكم والجلد يعني في إقامة الحد وفي شدة الضرب ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عمر : أن جارية لابن عمر زنت فضرب رجليها ، قال نافع : أراه قال : وظهرها ، قال ، قلت : { وَلاَ تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ الله } قال : يا بني ورأيتني أخذتني بها رأفة إن الله لم يأمرني أن أقتلها ، ولا أن أجعل جلدها في رأسها ، وقد أوجعت حين ضربتها ، وقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } أي فافعلوا ذلك وأقيموا الحدود على من زنى وشددوا عليه الضرب ، ولكن ليس مبرحاً ، ليرتدع هو ومن يصنع مثله بذلك ، وقد جاء في « المسند » عن بعض الصحابة أنه قال :(1/1745)
« يا رسول الله إني لأذبح الشاة وأنا أرحمها ، فقال : » ولك في ذلك أجر « ، وقوله تعالى : { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } هذا فيه تنكيل للزانيين إذا جلدا بجضرة الناس ، فإن ذلك يكون أبلغ في زجرهما ، وأنجع في ردعهما ، فإن في ذلك تقريعاً وتوبيخاً وفضيحة إذا كان الناس حضوراً ، قال الحسن البصري في قوله { وَلْيَشْهَدْ عَذَابَهُمَا طَآئِفَةٌ مِّنَ المؤمنين } : يعني علانية ، والطائفة الرجل فما فوقه ، وقال مجاهد : الطائفة الرجل الواحد إلى الألف ، وكذا قال عكرمة ولهذا قال أحمد : إن الطائفة تصدق على واحد ، وقال عطاء بن أبي رباح : اثنان ، وقال الزهري ثلاثة نفر فصاعداً ، وقال الإمام مالك : الطائفة أربعة نفر فصاعداً ، لأنه لا يكفي شهادة في الزنا إلا أربعة شهداء فصاعداً ، وبه قال الشافعي ، وقال الحسن البصري : عشرة ، وقال قتادة : أمر الله أن يشهد عذابهما طائفة من المؤمنين : أي نفر من المسلمين ليكون ذلك موعظة وعبرة ونكالاً .(1/1746)
الزَّانِي لَا يَنْكِحُ إِلَّا زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَالزَّانِيَةُ لَا يَنْكِحُهَا إِلَّا زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذَلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)
هذا خبر من الله تعالى بأن الزاني لا يطأ إلاّ زانية أو مشركة ، أي لا يطاوعه على مراده من الزنا إلاّ زانية عاصية أو مشركة لا ترى حرمة ذلك ، وكذلك { والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ } أي عاص بزناه { أَوْ مُشْرِكٌ } لا يعتقد تحريمه ، عن ابن عباس رضي الله عنه قال : ليس هذا بالنكاح إنما هو الجماع لا يزني بها إلاّ زان أو مشرك ، وقوله تعالى : { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } أي تعاطيه والتزوج بالبغايا أو تزويج العفائف بالرجال والفجار ، وقال أبو داود الطيالسي عن ابن عباس { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } قال : حرم الله الزنا على المؤمنين ، وقال قتادة ومقاتل بن حبان : حرم الله على المؤمنين نكاح البغايا ، وهذه الآية كقوله تعالى : { مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } [ النساء : 25 ] ، وقوله : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ } [ المائدة : 5 ] الآية ، ومن هاهنا ذهب الإمام أحمد إلى أنه لا يصح العقد من الرجل العفيف على المرأة البغي ما دامت كذلك حتى تستتاب ، فإن تابت صح العقد عليها وإلاّ فلا ، وكذلك لا يصح تزويج المرأة الحرة العفيفة بالرجل الفاجر المسافح حتى يتوب توبة صحيحة ، لقوله تعالى : { وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } . عن عبد الله بن عمرو : قال كانت امرأة يقال لها أم مهزول وكانت تسافح ، فأراد رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يتزوجها ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } . وعن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال : كان رجل يقال له ( مرثد ابن أبي مرثد ) وكان رجلاً يحمل الأسارى من مكة حتى يأتي بهم المدينة ، قال : وكانت امرأة بغي بمكة يقال لها ( عناق ) وكانت صديقة له ، وأنه واعد رجلاً من أسارى مكة يحمله ، قال : فجئت حتى انتهيت إلى ظل حائط من حوائط مكة في ليلة مقمرة ، قال : فجاءت عناق فأبصرت سواد ظل تحت الحائط ، فلما انتهت إليَّ عرفتني ، فقالت : مرثد؟ فقالت : مرحباً وأهلاً ، هلم فبت عندنا الليلة ، قال ، فقلت : يا عناق حرم الله الزنا ، فقالت : يا أهل الخيام هذا الرجل يحمل أسراكم ، قال : فتبعني ثمانية ودخلت الحديقة ، فانتهيت إلى غار أو كهف ، فدخلت فيه فجاءوا حتى قاموا على رأسي ، فبالوا ، فظل بولهم على رأسي ، فأعمالهم الله عني ، قال : ثم رجعوا فرجعت إلى صاحبي فحملته ، وكان ثقيلاً حتى انتهيت إلى الإذخر ، ففككت عنه أحبله ، فجعلت أحمله ويعينني حتى أتيت به المدينة ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : يا رسول الله أنكح عناقاً أنكح عناقاً - مرتين؟ - فأمسك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلم يرد عليّ شيئاً حتى نزلت { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَحُرِّمَ ذلك عَلَى المؤمنين } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/1747)
« يا مرثد : الزاني لا ينكح إلاّ زانية أو مشركة فلا تنكحها » .
وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن يسار مولى ابن عمر قال . أشهد لسمعت سالماً يقول : قال عبد الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة لا يدخلون الجنة ولا ينظر الله إليهم يوم القيامة ، العاق لوالديه ، والمرأة المترجلة المتشبهة بالرجال ، والديوث » وفي رواية : « ثلاثة حرم الله عليهم الجنة : مدمن الخمر ، والعاق لوالديه ، والذي يقر في أهله الخبث » وقال أبو داود الطيالسي في مسنده عن عمار بن ياسر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يدخل الجنة ديوث » وفي الحديث : « من أراد أن يلقى الله وهو طاهر متطهر فليتزوج الحرائر » فأما إذا حصلت توبة فإنه يحل التزويج ، لما روي عن ابن عباس وسأله رجل فقال : إني كنت ألم بامرأة آتي منها ما حرم الله عزَّ وجلَّ عليّ فرزق الله عزَّ وجلَّ من ذلك توبة ، فأردت أن أتزوجها ، فقال أناس : إن الزاني لا ينكح إلا زانية أو مشركة ، فقال ابن عباس : ليس هذا في هذا ، انكحها فما كان من إثم فعلي ، وقد ادعى طائفة من العلماء أن هذه الآية منسوخة . قال ابن أبي حاتم عن سعيد بن المسيب قال : ذكر عنده { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً والزانية لاَ يَنكِحُهَآ إِلاَّ زَانٍ أَوْ مُشْرِكٌ } قال : نسختها التي بعدها : { وأنكحوا الأيامى منكم } قال : كان يقال الأيامى من المسلمين .(1/1748)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلَا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهَادَةً أَبَدًا وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (4) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
هذه الآية الكريمة فيها بيان جلد القاذف للمحصنة وهي الحرة البالغة العفيفة ، فإذا كان المقذوف رجلاً فكذلك يجلد قاذفة أيضاً ، وليس فيه نزاع بين العلماء ، فإن أقام القاذف بينة على صحة ما قاله رداً عنه الحد ، ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً وأولئك هُمُ الفاسقون } فأوجب على القاذف إذا لم يقم البينة على صحة ما قال ثلاثة أحكام : ( أحدها ) أن يجلد ثمانين جلدة ، ( الثاني ) أن ترد شهادته أبداً ، ( الثالث ) أن يكون فاسقاً ليس بعدل لا عند الله ولا عند الناس؛ ثم قال تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ } الآية . واختلف العلماء في هذا الاستثناء؛ هل يعود إلى الجملة الأخيرة فقط ، فترفع التوبة الفسق فقط ، ويبقى مردود الشهادة دائماً وإن تاب ، أو يعود إلى الجملتين الثانية والثالثة؟ وأما الجلد فقد ذهب وانقضى سواء تاب أو أصر ، ولا حكم له بعد ذلك ، بلا خلاف ، فذهب ( مالك وأحمد والشافعي ) إلى أنه إذا تاب قبلت شهادته وارتفع عنه حكم الفسق ، وقال الإمام أبو حنيفة : إنما يعود الاستثناء إلى الجملة الأخيرة فقط فيرتفع الفسق بالتوبة ويبقى مردود الشهادة أبداً ، وقال الشعبي والضحاك : لا تقبل شهادته وإن تاب إلاّ أن يعترف على نفسه أنه قد قال البهتان ، فحينئذٍ تقبل شهادته ، والله أعلم .(1/1749)
وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَالْخَامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (7) وَيَدْرَأُ عَنْهَا الْعَذَابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (8) وَالْخَامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْهَا إِنْ كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)
هذه الآية الكريمة فيها فرج للأزواج وزيادة مخرج إذا قذف أحدهم زوجته ، وتعسر عليه إقامة البينة أن يلاعنها كما أمر الله عزَّ وجلَّ ، وهو أن يحضرها إلى الإمام ، فيدعي عليها بما رماها به ، فيحلفه الحاكم أربع شهادات بالله في مقابلة أربعة شهداء إنه لمن الصادقين : أي فيما رماها به من الزنا { والخامسة أَنَّ لَعْنَةَ الله عَلَيْهِ إِن كَانَ مِنَ الكاذبين } فإذا قال ذلك بانت منه وحرمت عليه أبداً ، ويعطيها مهرها ويتوجه عليها حد الزنا ، ولا يدرأ عنها العذاب إلاّ أن تلاعن ، فتشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الكاذبين : أي فيما رماها به ، { والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصادقين } ، ولهذا قال : { وَيَدْرَؤُاْ عَنْهَا العذاب } يعني الحد ، { أَن تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهَادَاتٍ بالله إِنَّهُ لَمِنَ الكاذبين * والخامسة أَنَّ غَضَبَ الله عَلَيْهَآ إِن كَانَ مِنَ الصادقين } فخصها بالغضب ، كما أن الغالب أن الرجل لا يتجشم فضيحة أهله ورميها بالزنا إلاّ وهو صادق معذور وهي تعلم صدقه فيما رماها به ، ولهذا كانت الخامسة في حقها أن غضب الله عليها ، والمغضوب عليه هو الذي يعلم الحق ثم يحيد عنه؛ ثم ذكر تعالى رأفته بخلقه ولطفه بهم فيما شرع لهم من الفرج والمخرج من شدة ما يكون بهم من الضيق ، فقال تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي لحرجتم ولشق عليكم كثير من أموركم { وَأَنَّ الله تَوَّابٌ } أي على عباده ، وإن كان ذلك بعد الحلف والأيمان المغلظة { حَكِيمٌ } فيما يشرعه ويأمر به وفيما ينهى عنه .
عن ابن عباس قال : « لما نزلت { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ فاجلدوهم ثَمَانِينَ جَلْدَةً وَلاَ تَقْبَلُواْ لَهُمْ شَهَادَةً أَبَداً } [ النور : 4 ] ، قال سعد بن عبادة وهو سيد الأنصار رضي الله عنه : وهكذا أنزلت يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا معشر الأنصار ألا تسمعون ما يقول سيدكم؟ « فقالوا : يا رسول الله لا تلمه ، فإنه رجل غيور ، والله ما تزوج امرأة قط إلا بكراً ، وما طلق امرأة فاجترأ رجل منا أن يتزوجها من شدة غيرته ، فقال سعد : والله يا رسول الله إني لأعلم إنها لحق وأنها من الله ، ولكني قد تعجبت إني لو وجدت لكاعاً قد تفخذها رجل لم يكن لي أن أهيجه ولا أحركه ، حتى آتي بأربعة شهديا ، فوالله إني لا آتي بهم حتى يقضي حاجته . قال : فما لبثوا إلاّ يسيراً حتى جاء ( هلال بن أمية ) وهو أحد الثلاثة الذي تيب عليهم ، فجاء من أرضه عشاء فوجد عند أهله رجلاً ، فرأى بعينيه وسمع بأذنيه ، فلم يهيجه حتى أصبح فغدا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني جئت أهلي عشاء فوجدت عندها رجلاً فرأيت بعيني وسمعت بأذني ، فكره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما جاء به واشتد عليه واجتمعت عليه الأنصار ، وقالوا : قد ابتلينا بما قال سعد بن عبادة ، الآن يضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم هلال بن أمية ويبطل شهادته في الناس ، فقال هلال : والله إني لأرجو أن يجعل الله لي منها مخرجاً؛ وقال هلال : يا رسول الله فإني قد أرى ما اشتد عليك مما جئت به والله يعلم إني لصادق ، فوالله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد أن يأمر بضربه إذا أنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم الوحي ، وكان إذا أنزل عليه الوحي يعرفوا ذلك في تربد وجهه ، يعني فأمسكوا عنه حتى فرغ من الوحي ، فنزلت : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَّهُمْ شُهَدَآءُ إِلاَّ أَنفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بالله } الآية ، فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » أبشر يا هلال فقد جعل الله لك فرجاً ومخرجاً « ، فقال هلال : قد كنت أرجو ذلك من ربي عزَّ وجلَّ ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فأرسلوا إليها « ، فأرسلوا إليها فجاءت فتلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهما فذكرهما ، وأخبرهما أن عذاب الآخرة أشد من عذاب الدنيا ، فقال هلال : والله يا رسول الله لقد صدقت عليها ، فقالت : كذب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لاعنوا بينهما «(1/1750)
، فقيل لهلال ، اشهد ، فشهد أربع شهادات بالله إنه لمن الصادقين ، فلما كانت الخامسة قيل له يا هلال اتق الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فقال : والله لا يعذبني الله عليها كما لم يجلدني عليها ، فشهد في الخامسة أن لعنة الله عليه إن كان من الكاذبين ، ثم قيل للمرأة : اشهدي أربع شهادات بالله إن لمن الكاذبين ، وقيل لها عند الخامسة اتقي الله فإن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة ، وإن هذه الموجبة التي توجب عليك العذاب ، فتلكأت ساعة وهمت بالاعتراف ، ثم قالت : والله لا أفضح قومي فشهدت في الخامسة إن غضب الله عليها إن كان من الصادقين؛ ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما ، وقضى أن لا يدعى ولدها لأب ، ولا يرمي ولدها ، ومن رماها أو رمى ولدها فعليه الحد ، وقضى أن لا بيت لها عليه ولا قوت لها من أجل أنهما يفترقان من غير طلاق ولا متوفى عنها ، وقال : « إن جاءت به أصهيب أريشح حمش الساقين فهو الهلال ، وإن جاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سايغ الأليتين فهو للذي رميت به »(1/1751)
، فجاءت به أورق جعداً جمالياً خدلج الساقين سايغ الأليتين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لولا الأيمان لكان لي ولها شأن » ، قال عكرمة : فكان بعد ذلك أميراً على مصر ، وكان يدعى لأمه ولا يدعى لأب .
ولهذا الحديث شواهد كثيرة في « الصحاح » وغيرها من وجوه كثيرة؛ فمنها ما رواه البخاري عن ابن عباس : « أن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » البينة أو حد في ظهرك « فقال : يا رسول الله إذا رأى أحدنا على امرأته رجلاً ينطلق يلتمس البينة ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول : » البينة وإلاّ حد في ظهرك « ، فقال هلال : والذي بعثك بالحق إني لصادق ولينزلن الله ما يبرئ ظهريه من الحد ، فنزل جبريل وأنزل عليه : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } - فقرأ حتى بلغ { إِن كَانَ مِنَ الصادقين } فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليهما فشهد هلال والنبي صلى الله عليه وسلم يقول » إن الله يعلم أن أحدكما كاذب فهل منكما تائب « ثم قامت فشهدت ، فلما كان في الخامسة وقفوها ، وقالوا : إنها موجبة . قال ابن عباس : فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » أبصروها فإن جاءت به أكحل العينين سابغ الأليتين خدلج الساقين فهو لشريك بن سحماء « فجاءت به كذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » لولا ما مضى من كتاب الله لكان لي ولها شأن « وروى الإمام أحمد عن عبد الله قال : كنا جلوساً عشية الجمعة في المسجد ، فقال رجل من الأنصار : إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلاً إن قتله قتلتموه وإن تكلم جلدتموه ، وإن سكت سكت على غيظ؟! والله لئن أصبحت صحيحاً لأسألن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فسأله ، فقال : يا رسول الله إن أحدنا إذا رأى مع امرأته رجلاً إن قتله قتلتموه ، وإن تكلم جلدتموه ، وإن سكت سكت على غيظ ، اللهم احكم ، قال : فنزلت آية اللعان ، فكان ذلك الرجل أول من ابتلي به . وعن سهل بن سعد قال : » جاء عويمر إلى ( عاصم بن عدي ) فقال له : سل رسول الله صلى الله عليه وسلم أرأيت رجلاً وجد رجلاص مع امرأته فقتله أيقتل به أم كيف يصنع؟ فسأل عاصم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعاب رسول الله صلى الله عليه وسلم المسائل ، قال : فلقيثه عويمر فقال : ما صنعت؟ قال : ما صنعت أنك لم تأتني بخير ، سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فعاب المسائل ، فقال عويمر : والله لآتين رسول الله صلى الله عليه وسلم فلأسألنه؛ فأتاه فوجده قد أنزل عليه فيها ، قال : فدعا بهما ولاعن بينهما ، قال عويمر : إن انطلقت بها يا رسول الله لقد كذبت عليها ، قال ففارقها قبل أن يأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فصارت سنة المتلاعنين ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أبصروها فإن جاءت به أسحم أدعج العينين عظيم الأليتين فلا أراه إلاّ قد صدق ، وإن جاءت به أحيمر كأنه وحرة ، فلا أراه إلاّ كاذباً »(1/1752)
، فجاءت به على النعت المكروه .
وروى الحافظ أبو يعلى عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لأول لعان كان في الإسلام « أن شريك بن سحماء قذفه هلال بن أمية بامرأته ، فرفعه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أربعة شهود وإلاّ فحد في ظهرك « فقال : يا رسول الله إن الله يعلم إني لصادق ، ولينزلن الله عليك ما يبرئ به ظهري من الجلد ، فأنزل الله آية اللعان : { والذين يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ } إلى آخر الآية ، قال : فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : » اشهد بالله إنك لمن الصادقين فيما رميتها به من الزنا « فشهد بذلك أربع شهادات ، ثم قال له الخامسة : » ولعنة الله عليك إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا « ففعل ، ثم دعاها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » قومي فاشهدي بالله إنه لمن الكاذبين فيما رماك به من الزنا « فشهدت بذلك أربع شهادات ، ثم قال لها في الخامسة : » وغضب الله عليك إن كان من الصادقين فيما رماك به من الزنا « قال : فلما كانت الرابعة أو الخامسة سكتت سكتة حتى ظنوا أنها ستعترف ، ثم قالت : لا أفضح قومي سائر اليوم فمضت على القول ، ففرق رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهما وقال : » انظروا فإن جاءت به جعداً حمش الساقين فهو لشريك بن سحماء ، وإن جاءت به أبيض سبطاً قصير العينين فهو لهلا بن أمية « فجاءت به جعداً حمش الساقين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لولا ما نزل فيهما من كتاب الله لكان لي ولها شأن « » .(1/1753)
إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَالَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ (11)
هذه العشر الآيات كلها نزلت في شأن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنهما ، حين رماها أهل الإفك والبهتان من المنافقين بما قالوه من الكذب البحت ، والفرية التي غار الله عزَّ وجلَّ لها ولنبيه صلوات الله وسلامه عليه ، فأنزل الله تعالى براءتها صيانة لعرض الرسول صلى الله عليه وسلم ، فقال تعالى : { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } أي جماعة منكم يعني ما هو واحد ولا اثنان بل جماعة؛ فكان المقدم من في هذه اللعنة ( عبد الله بن أبي بن سلول ) رأس المنافقين ، فإنه كان يجمعه ويستوشيه حتى دخل ذلك في أذهان بعض المسلمين ، فتكلموا به ، وجوزه آخرون منهم ، وبقي الأمر كذلك قريباً من شهر حتى نزل القرآن؛ وبيان ذلك في الأحاديث الصحيحة .
« عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يخرج لسفر أقرع بين نسائه ، فأيتهن خرج سهمها خرج بها رسول الله صلى الله عليه وسلم معه ، قالت عائشة رضي الله عنها : فأقرع بيننا في غزوة غزاها ، فخرج فيها سهمي ، وخرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وذلك بعدما نزل الحجاب ، فأنا أحمل في هودجي وأنزل فيه ، فسرنا حتى إذا فرغ رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته تلك وقفل ، ودنونا من المدينة آذن ليلة بالرحيل ، فقمت حين آذن بالرحيل ، فمشيت حتى جاوزت الجيش ، فلما قضيت شأني أقبلت إلى رحلي ، فلمست صدري فإذا عقد لي من جزع ظفار قد انقطع ، فرجعت فالتمست عقدي فحبسني ابتغاؤه ، وأقبل الرهط الذين كانوا يرحلونني ، فاحتملوا هودجي فرحلوه على بعيري الذي كنت أركب وهم يحسبون أني فيه ، قالت : وكان النساء إذ ذاك خفافاً لم يثقلن ولم يغشهن اللحم ، إنما يأكلن العلقة من الطعام ، فلم يستنكر القوم خفة الهودج حين رفعوه وحملوه ، وكنت جارية حديثة السن ، فبعثوا الجمل وساروا ، ووجدت عقدي بعدما استمر الجيش ، فجئت منازلهم وليس بها داع ولا مجيب ، فتيممت منزلي الذي كنت فيه ، وظننت أن القوم سيفقدونني فيرجعون إلي ، فبينا أنا جالسة في منزلي غلبتني عيناي فنمت ، وكان صفوان بن المعطل السلمي ثم الذكواني قد عرس من وراء الجيش ، فأدلج فأصبح عند منزلي ، فرأى سواد إنسان نائم ، فأتاني فعرفني حين رآني ، وقد كان رآني قبل الحجاب ، فاستيقظت باسترجاعه حين عرفني فخمرت وجهي بجلبابي والله ما كلمني كلمة ولا سمعت منه كلمة غير استرجاعه حين أناخ راحلته ، فوطئ على يدها فركبتها ، فانطلق يقود بي الراحلة حتى أتينا الجيش بعدما نزلوا موغرين في نحر الظهيرة ، فهلك من هلك في شأني ، وكان الذي تولى كبره ( عبد الله بن أبي بن سلول ) .
فقدمنا المدينة ، فاشتكيت حين قدمناها شهراً والناس يفيضون في قول أهل الإفك ، ولا أشعر بشيء من ذلك ، وهو يريبني في وجعي أني لا أرى من رسول الله صلى الله عليه وسلم اللطف الذي أرى منه حين أشتكي ، إنما يدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم ثم يقول : » كيف تيكم؟ « فذلك الذي يريبني ولا أشعر بالشر ، حتى خرجت بعدما نقهت وخرجت معي أم مسطح قِبَل المناسع وهو متبرزنا ولا نخرج إلاّ ليلاً إلى ليل؛ وذلك قبل أن نتخذ الكنف قريباً من بيوتنا ، وأمرنا أمر العرب الأول في التنزه في البرية ، وكنا نتأذى بالكنف أن نتخذها في بيوتنا ، فانطلقت أنا وأم مسطح وهي بنت أبي رهم بن المطلب بن عبد مناف ، وأمها ابنة صخر بن عامر خالة أبي بكر الصديق ، وابنها مسطح بن أثاثة بن عباد بن عبد المطلب بن عبد مناف ، فأقبلت أنا وابنة أبي رهم أم مسطح قبل بيتي حين فرغنا من شأننا فعثرت أم مسطح في مرطها فقالت : تعس مسطح ، فقلت لها : بئسما قلت ، تسبين رجلاً شهد بدراً؟ فقالت : أي هنتاه ألم تسمعي ما قال؟ قلت : وماذا قال؟ قالت : فأخبرتني بقول أهل الإفك ، فازددت مرضاً إلى مرضي ، فلما رجعت إلى بيتي دخل علي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ، ثم قال : » كيف تيكم؟ « فقلت له : أتأذن لي أن آتي أبوي ، قالت : وأنا حينئذٍ أريد أن أتيقن الخبر من قبلهما ، فأذن لي رسول الله صلى الله عليه وسلم فجئت أبوي ، فقلت لأمي : يا أمتاه لماذا يتحدث الناس به؟ فقالت أي بنية هوني عليك فوالله لقلما كانت امرأة قط وضيئة عند رجل يحبها ولها ضرائر إلاّ أكثرن عليها ، قالت ، فقلت : سبحان الله وقد تحدث الناس بها؟ فبكيت تلك الليلة حتى أصبحت لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم ، ثم أصبحت أبكي .
قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( علي بن أبي طالب ) و ( أسامة بن زيد ) حين استلبث الوحي ، يسألهما ويستشيرهما في فراق أهله ، قالت : فأما أسامة بن زيد فأشار على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالذي يعلم من براءة أهله ، وبالذي يعلم في نفسه لهم من الود ، فقال أسامة : يا رسول الله أهلك ولا نعلم إلاّ خيراً ، أما علي بن أبي طالب فقال : يا رسول الله لم يضيق الله عليك والنساء سواها كثير ، وإن تسأل الجارية تصدقك الخبر ، قالت : فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم بريرة فقال : » أي بريرة هل رأيت من شيء يريبك من عائشة؟ « فقالت له بريرة : والذي بعثك بالحق إن رأيت منها أمراً قط أغمصه عليها أكثر من أنها جارية حديثة السن تنام عن عجين أهلها فتأتي الداجن فتأكله ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم من يومه ، فاستعذر من عبد الله بن أبي بن سلول ، قالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر : » يا معشر المسلمين من يعذرني من رجل قد بلغني أذاه في أهلي ، فوالله ما علمت على أهلي إلا خيراً ، ولقد ذكروا رجلاً ما علمت عليه إلا خيراً ، وما كان يدخل على أهلي إلاّ معي « ، فقام سعد بن معاذ الأنصاري رضي الله عنه فقال : أنا أعذرك منه يا رسول الله ، إن كان من الأوس ضربنا عنقه ، وإن كان من إخواننا من الخزرج أمرتنا ففعلنا أمرك ، قالت : فقام سعد بن عبادة وهو سيد الخزرج وكان رجلاً صالحاً ولكن احتملته الحمية ، فقال لسعد بن معاذ : كذبت لعمر الله لا تقتله ولا تقدر على قتله ، ولو كان من رهطك ما أحببت أن يقتل ، فقام أسيد بن حضير وهو ابن عم سعد بن معاذ فقال لسعد بن عبادة ، كذبت لعمر الله لنقتلنه ، فإنك منافق تجادل عن المنافق ، فتثاور الحيان الأوس والخزرج ، حتى هموا أن يقتتلوا ورسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا ، وسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : وبكيت يومي ذلك لا يرقأ لي دمع ، ولا أكتحل بنوم وأبواي يظنان أن البكاء فالق كبدي ، قالت : فبينما هما جالسان عندي وأنا أبكي إذا استأذنت عليّ امرأة من الأنصار ، فأذنت لها ، فجلست تبكي معي ، فبينا نحن على ذلك إذ دخل علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسلم ثم جلس ، قالت : ولم يجلس عندي منذ قيل ما قيل ، وقد لبث شهراً لا يوحى إليه من شأني شيء .
قالت : فتشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم حين جلس ، ثم قال : » أما بعد يا عائشة فإنه قد بلغني عنك كذا وكذا ، فإن كنت بريئة فسيبرئك الله ، وإن كنت ألممت بذنب فاستغفري الله وتوبي إليه ، فإن العبد إذا اعترف بذنبه وتاب تاب الله عليه « قالت : فلما قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم مقالته قلص دميع حتى ما أحس منه قطرة ، فقلت لأبي : أجب عني رسول الله ، فقال : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت لأمي : أجيبي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : والله ما أدري ما أقول لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، قالت : فقلت وأنا جارية حديثة السن لا أقرأ كثيراً من القرآن : والله لقد علمت ، لقد سمعتم بهذا الحديث حتى استقر في أنفسكم وصدقتم به ، فلئن قلت لكم إني بريئة - والله يعلم أني بريئة - لا تصدقونني ، ولئن اعترفت بأمر والله يعلم أني منه بريئة لتُصَدِّقُني ، فوالله ما أجد لي ولكم مثلاً إلاّ كما قال أبو يوسف : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] ، قالت : ثم تحولت فاضطجعت على فراشي ، قالت وأنا والله أعلم حينئذٍ أني بريئة ، وأن الله تعالى مبرئي ببراءتي ، ولكن : والله ما كنت أظن أن ينزل في شأني وحيٌ يتلى ، ولشأني كان أحقر في نفسي من أن يتكلم الله فيّ بأمر يتلى ، ولكن كنت أرجو أن يرى رسول الله صلى الله عليه وسلم في النوم رؤيا يبرئني الله بها ، قالت : فوالله ما رام رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلسه ، ولا خرج من أهل البيت أحد ، حتى أنزل الله تعالى على نبيه ، فأخذه ما كان يأخذه من البرحاء عند الوحي ، حتى إنه ليتحدر منه مثل الجمان من العرق ، وهو في يوم شات من ثقل القول الذي أنزل عليه قالت : فسري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يضحك ، فكان أول كلمة تكلم بها أن قال : » أبشري يا عائشة ، أما الله عزَّ وجلَّ فقد برأك « .
قالت : فقال لي أمي : قومي إليه ، فقلت : والله لا أقوم إليه ، ولا أحمد إلاّ الله عزَّ وجلَّ ، هو الذي أنزل براءتي ، وأنزل الله عزَّ وجلَّ : { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك عُصْبَةٌ مِّنْكُمْ } العشر الآيات كلها ، فلما أنزل الله هذا في براءتي قال أبو بكر رضي الله عنه ، وكان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره : والله لا أنفق عليه شيئاً أبداً بعد الذي قال لعائشة ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى } [ النور : 22 ] إلى قوله : { أَلاَ تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ الله لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النور : 22 ] ، فقال أبو بكر : بلى والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجَّع إلى مسطح النفقة التي كان ينفق عليه ، وقال : والله لا أنزعها منه أبداً ، قالت عائشة : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأل ( زينب نبت جحش ) زوج النبي صلى الله عليه وسلم عن أمري ، فقال : » يا زينب ماذا علمت أو رأيت؟ « فقالت : يا رسول الله أحمي سمعي وبصري ، والله ما علمت إلا خيراً ، قالت عائشة : وهي التي كانت تساميني من أزواج النبي صلى الله عليه وسلم فعصمها الله تعالى بالورع ، وطفقت أختها ( حمنة بنت جحش ) تحارب لها فهلكت فيمن هلك ، قال ابن شهاب فهذا ما انتهى إلينا من أمر هؤلاء الرهط » .(1/1754)
وروى الإمام أحمد عن عائشة قالت : لما نزل عذري قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكر وتلا القرآن ، فلما نزل أمر برجلين وامرأة فضربوا حدَّهم ، وروى الإمام أحمد أيضاً عن مسروق(1/1755)
« عن أم رومان قالت : بينا أنا عند عائشة إذ دخلت عليها امرأة من الأنصار فقالت : فعل الله بابنها وفعل ، فقالت عائشة : ولم؟ قالت : إنه كان فيمن حدَّث الحديث ، قالت : وأي الحديث؟ قالت : كذا وكذا ، قالت : وقد بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، قالت : وبلغ أبا بكر؟ قالت : نعم ، فخرت عائشة رضي الله عنها مغشياً عليها ، فما أفاقت إلاّ وعليها حمى بنافض ، قالت : فقمت فدثرتها ، قالت : فجاء النبي صلى الله عليه وسلم قال : » فما شأن هذه؟ « فقلت : يا رسول الله أخذتها حتى بنافض ، قال : » فلعله في حديث تحدث به « قالت : فاستوت عائشة قاعدة ، فقالت : والله لئن حلفت لكم لا تصدقوني ، ولئن اعتذرت إليكم لا تعذروني ، فمثلي ومثلكم كمثل يعقوب وبنيه حين قال : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ } [ يوسف : 18 ] قالت : فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنزل الله عذرها ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه أبو بكر فدخل ، فقال يا عائشة : » إن الله تعالى قد أنزل عذرك « ، فقالت : بحمد الله لا بحمدك ، فقال لها أبو بكر ، تقولين هذا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قالت : نعم ، قالت : وكان فيمن حدث هذا الحديث رجل كان يعوله أبو بكر ، فحلف أن له يصله ، فأنزل الله : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة } [ النور : 22 ] إلى آخر الآية ، فقال أبو بكر بلى فوصله » .
فقوله تعالى : { إِنَّ الذين جَآءُوا بالإفك } أي الكذب والبهت والافتراء { عُصْبَةٌ } أي جماعة منكم { لاَ تَحْسَبُوهُ شَرّاً لَّكُمْ } أي يا آل أبي بكر { بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي في الدنيا والآخرة ، لسان صدق في الدنيا ورفعة منازل في الآخرة ، وإظهار شرف لهم باعتناء الله تعالى بعائشة أم المؤمنين رضي الله عنها ، حيث أنزل الله براءتها في القرآن العظيم ، ولهذا لما دخل عليها ابن عباس رضي الله عنه وعنها وهي في سياق الموت ، قال لها : أبشري فإنك زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان يحبك ولم يتزوج بكراً غيرك ، ونزلت براءتك من السماء ، وقوله تعالى : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ مَّا اكتسب مِنَ الإثم } أي لكل من تكلم في هذه القضية ، ورمى أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها بشيء من الفاحشة نصيب عظيم من العذاب ، { والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ } قيل : ابتدأ به ، وقيل : الذي كان يجمعه ويذيعه ويشيعه { لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي على ذلك ، ثم الاكثرون على أن المراد بذلك إنما هو ( عبد الله بن أبي بن سلول ) قبحه الله تعالى ولعنه ، وهو الذي تقدم النص عليه في الحديث؛ وقيل بل المراد به حسان بن ثابت ، وهو قول غريب ، فإنه من الصحابة الذين لهم فضائل ومناقب ومآُثر ، وأحسن مآثره أنه كان يذب عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بشعره ، وهو الذي قال له صلى الله عليه وسلم :(1/1756)
« هاجهم وجبريل معك » وقال مسروق : كنت عند عائشة رضي الله عنها ، فدخل حسان بن ثابت ، فأمرت فألق له وسادة ، فلما خرج قلت لعائشة : ما تصنعين بهذا؟ يعني يدخل عليك ، وفي رواية قيل لها : أتأذنين لهذا يدخل عليك؟ وقد قال الله : { والذي تولى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، قالت : وأي عذاب أشد من العمى ، وكان قد ذهب بصره ، لعل الله أن يجعل ذلك هو العذاب العظيم ، ثم قالت : إنه كان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وفي رواية أنه أنشدها عندما دخل عليها شعراً يمتدحها به فقال :
حصان رزان ما تزن بريبة ... وتصبح غرثى من لحوم الغوافل
فقالت : لكنك لست كذلك .(1/1757)
لَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَذَا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْلَا جَاءُوا عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَاءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَدَاءِ فَأُولَئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكَاذِبُونَ (13)
هذا تأديب من الله تعالى للمؤمنين في قصة عائشة رضي الله عنها حين أفاض بعضهم في ذلك الكلام السوء وما ذكر من شأن الإفك ، فقال تعالى : { لولا } يعني هلا { إِذْ سَمِعْتُمُوهُ } أي ذلك الكلام الذي رميت به أم المؤمنين رضي الله عنها { ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً } أي قاسوا ذلك الكلام على أنفسهم ، فإن كان لا يليق بهم فأم المؤمنين أولى بالبراءة منه بطريق الأولى والأحرى ، روي أن أبا أيوب ( خالد بن زيد الأنصاري ) قالت له امرأته أم أيوب : يا أبا أيوب أما تسمع ما يقول الناس في عائشة رضي الله عنها؟ قالت : نعم ، وذلك الكذب ، أكنت فاعله ذلك يا أم أيوب؟ قالت : لا والله ما كنت لأفعله ، قال : فعائشة والله خير منك ، فلما نزل القرآن وذكر هل الإفك ، قال الله عزَّ وجلَّ : { لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ المؤمنون والمؤمنات بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } يعني أبا أيوب حين قال لأم أيوب ما قاله . وقوله تعالى : { ظَنَّ المؤمنون } الخ : أي هلا ظنوا الخير ، فإن أم المؤمنين أهله وأولى به ، هذا ما يتعلوّ . بالباطن ، وقوله : { وَقَالُواْ } : أي بألسنتهم { هاذآ إِفْكٌ مُّبِينٌ } أي كذب ظاهر على أم المؤمنين رضي الله عنها ، فإن الذي وقع لم يكن ريبة ، وذلك أن مجيء أم المؤمنين راكبة جهرة على راحلة ( صفوان بن المعطل ) في وقت الظهيرة والجيش بكماله يشاهدون ذلك ورسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، ولو كان هذا الأمر فيه ريبة لم يكن هكذا جهرة ، ولا كانا يقدمان على مثل ذلك على رؤوس الأشهاد ، بل كان هذا يكون لو قدر خفية مستوراً ، فتعين أن ما جاء به أهل الإفك مما رموا به أم المؤمنين هو الكذب البحت ، والقول الزور ، والرعونة الفاحشة الفاجرة ، قال الله تعالى : { لَّوْلاَ } أي هلا { جَآءُوا عَلَيْهِ } أي على ما قالوه { بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ } يشهدون على صحة ما جاءوا به { فَإِذْ لَمْ يَأْتُواْ بِالشُّهَدَآءِ فأولئك عِندَ الله هُمُ الكاذبون } أي في حكم الله كاذبون فاجرون .(1/1758)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِي مَا أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)
يقول تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ فِي الدنيا والآخرة } أي الخائضون في شأن عائشة ، بأن قبل توبتكم وإنابتكم إليه في الدنيا ، وعفا عنكم لإيمانكم بالنسبة إلى الدار الآخرة { لَمَسَّكُمْ فِي مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ } من قضية الإفك { عَذَابٌ عَظِيمٌ } وهذا فيم عنده إيمان يقبل الله يسببه التوبة ، كمسطح و ( حسان ) و ( حمنة بنت جحش ) ، فأما من خاض فيه من المنافقين كعبد الله بن أبي بن سلول وأضرابه ، فليس أولئك مرادين في هذه الآية ، لأنه ليس عندهم من الإيمان والعمل الصالح ما يعادل هذا ولا ما يعارضه ، ثم قال تعالى : { إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ } قال مجاهد : أي يرويه بعضكم عن بعض ، يقول : هذا سمعته من فلان ، وقال فلان كذا ، وذكر بعضهم كذا ، وقوله تعالى : { وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَّا لَّيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } أي تقولون ما لا تعملون . ثم قال تعالى : { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ } أي تقولون ما تقولون في شأن أم المؤمنين وتحسبون ذلك يسيراً سهلاً ، ولو لم تكن زوجة النبي صلى الله عليه وسلم لما كان هنياً ، فكيف وهي زوجة خاتم الأنبياء وسيد المرسلين ، فعظيم عند الله أن يقال في زوجة نبيه ورسوله ما قيل ، فإن الله سبحانه وتعالى يغار لهذا ، ولهذا قال تعالى : { وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِندَ الله عَظِيمٌ } ، وفي « الصحيحين » : « إن الرجل ليتكلم بالكلمة من سخط الله لا يدري ما تبلغ يهوي بها في النار أبعد مما بين السماء والأرض » .(1/1759)
وَلَوْلَا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ (16) يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18)
هذا تأديب آخر بعد الأول ، يقول الله تعالى : { ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بهذا } أي ما ينبغي لنا أن نتفوه بهذا الكلام ولا نذكره لأحد { سُبْحَانَكَ هذا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ } سبحان الله أن يقال هذا الكلام على زوجة رسوله ، وحليلة خليله ، ثم قال تعالى : { يَعِظُكُمُ الله أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً } أي ينهاكم الله متوعداً أن يقع منكم ما يشبه هذا أبداً ، أي فيما يستقبل ، ولهذا قال : { إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي إن كنتم تؤمنون بالله وشرعه وتعظمون رسوله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال تعالى : { وَيُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات } أي يوضح لكم الأحكام الشرعية والحكم القدرية ، { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بما يصلح عباده ، حكيم في شرعه وقدره .(1/1760)
إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19)
هذا تأديب ثالث لمن سمع شيئاً من الكلام السيء فقام بذهنه شيء منه وتكلم به ، فقد قال تعالى : { إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة فِي الذين آمَنُواْ } أي يختارون ظهور الكلام عنهم بالقبيح { لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدنيا } أي بالحد ، وفي الآخرة بالعذاب { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أي فردوا الأمر إليه ترشدوا ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تؤذوا عباد الله ولا تعيروهم ولا تطلبوا عوراتهم ، فإنه من طلب عورة أخيه المسلم طلب الله عورته حتى يفضحه في بيته »(1/1761)
وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)
يقول الله تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ الله رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } أي لولا هذا لكان أمر آخر ، ولكنه تعالى رؤوف بعباده رحيم بهم ، فتاب على من تاب إليه من هذه القضية ، وطهر من طهر منهم بالحد الذي أقيم عليهم ، ثم قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } يعني طرائقه ومسالكه وما يأمر به ، { وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشيطان فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بالفحشآء والمنكر } ، وهذا تنفير وتحذير من ذلك بأفصح عبارة وأبلغها وأوجزها وأحسنها . قال ابن عباس { خُطُوَاتِ الشيطان } : عمله ، وقال عكرمة : نزعاته ، وقال قتادة : كل معصية فيه من خطوات الشيطان ، وسأل رجل ابن مسعود فقال : إني حرمت أن آكل طعاماً وسماه ، فقال : هذا من نزغات الشيطان ، كفّر عن يمينك وكل . وقال الشعبي في رجل نذر ذبح ولده : هذا من نزغات الشيطان وأفتاه أن يذبح كبشاً . وعن أبي رافع قال : غضبت على امرأتي فقالت : هي يوماً يهويدة ويوماً نصرانية وكل مملوك لها حر إن لم تطلق امرأتك ، فأتيت عبد الله بن عمر فقال : إنما هذه من نزغات الشيطان . ثم قال تعالى : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً } أي لولا أن الله يرزق من يشاء التوبة والرجوع إليه ، ويزكي النفوس من شركها وفجورها ودنسها ، وما فيها من أخلاق رديئة كل بحسبه ، لما حصّل أحد لنفسه زكاة ولا خيراً ، { ولكن الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } أي من خلقه ويضل من يشاء ويرديه في مهالك الضلال والغي ، وقوله : { والله سَمِيعٌ } أي سميع لأقوال عباده ، { عَلِيمٌ } بمن يستحق منهم الهدى والضلال .(1/1762)
وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)
يقول تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ } من الألية وهي الحلف أي لا يحلف { أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ } أي الطول والصدقة والإحسان . { والسعة } أي الجدة { أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله } أي لا تحلفوا أن لا تصلوا قراباتكم المساكين والمهاجرين ، وهذا في غاية الترفق والعطف على صلة الأرحام ، ولهذا قال تعالى : { وَلْيَعْفُواْ وليصفحوا } أي عما تقدم منهم من الإساءة والأذى ، وهذا من حلمه تعالى وكرمه ولطفه بخلقه مع ظلمهم لأنفسهم ، وهذه الآيات نزلت في ( الصدّيق ) رضي الله عنه ، حين حلف أن لا ينفع ( مسطح بن أثاثة ) بنافعة أبداً ، بعدما قال في عائشة ما قال كما تقدم في الحديث ، فلما أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة ، وطابت النفوس المؤمنة واستقرت ، وتاب الله على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك ، وأقيم الحد على من أقيم عليه ، شرع تبارك وتعالى - وله الفضل والمنة - يعطف الصديق على قريبه ونسيبه ، وهو مسطح بن أثاثة ، فإنه كان ابن خالة الصديق ، وكان مسكيناً لا مال له إلاّ ما ينفق عليه أبو بكر رضي الله عنه وكان من المهاجرين في سبيل الله وقد زلق زلقة تاب الله عليه منها وضرب الحد عليها وكان الصديق رضي الله عنه معروفاً بالمعروف ، له الفضل والأيادي على الأقارب والأجانب ، فلما نزلت هذه الآية ، قال الصديق : بلى والله إنا نحب ان تغفر لنا ربنا ، ثم رجع إلى مسطح ما كان يصله من النفقة وقال : والله لا أنزعها منه أبداً ، فلهذا كان الصديق هو الصديق رضي الله عنه وعن بنته .(1/1763)
إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَنَاتِ الْغَافِلَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25)
هذا وعيد من الله تعالى للذين يرمون المحصنات الغافلات ، خرج مخرج الغالب { المؤمنات } فأمهات المؤمنين أولى بالدخول في هذا من كل محصنة ، ولا سيما التي كانت سبب النزول وهي عائشة بنت الصديق رضي الله عنهما ، وقد أجمع العلماء رحمهم الله قاطبة على أن من سبها بعد هذا ، ورماها بما رماها به بعد هذا الذي ذكر في الآية ، فإنه كافر لأنه معاند للقرآن ، وقوله تعالى : { لُعِنُواْ فِي الدنيا والآخرة } ، كقوله : { إِنَّ الذين يُؤْذُونَ الله وَرَسُولَهُ } [ الأحزاب : 57 ] الآية ، وقد ذهب بعضهم إلى أنها خاصة بعائشة رضي الله عنها ، قال ابن عباس : نزلت في عائشة خاصة ، و « عن عائشة رضي الله عنها قالت : بما رميت به وأنا غافلة فبلغني بعد ذلك ، قالت : فبينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس عندي ، إذ أوحي إليه ، قالت : وكان إذا أوحي إليه أخذه كهيئة السبات ، وإنه أوحى إليه وهو جالس عندي ثم استوى جالساً يمسح على وجهه وقال : » يا عائشة أبشري « قالت : فقلت : بحمد الله لا بحمدك ، فقرأ : { إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات } - حتى بلغ - { أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } » [ النور : 26 ] ، وقال الضحاك : المراد بها أزواج النبي خاصة دون غيرهن من النساء ، وقال العوفي عن ابن عباس في الآية { إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات } الآية : يعني أزواج النبي صلى الله عليه وسلم رماهن أهل النفاق ، فأوجب الله لهم اللعنة والغضب وباؤوا بسخط من الله ، فكان ذلك في أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم نزل بعد ذلك : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ . . . } [ النور : 4 ] إلى قوله { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النور : 5 ] فأنزل الله الجلد والتوبة ، فالتوبة تقبل والشهادة ترد .
وقال ابن جرير : فسّر ابن عباس سورة النور ، فلما أتى على هذه الآية { إِنَّ الذين يَرْمُونَ المحصنات الغافلات المؤمنات } الآية فقال : في شأن عائشة وأزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وهي مبهمة وليست لهم توبة ، ثم قرأ : { والذين يَرْمُونَ المحصنات ثُمَّ لَمْ يَأْتُواْ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ . . . } [ النور : 4 ] إلى قوله { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ } [ النور : 5 ] الآية ، قال : فجعل لهؤلاء توبة ، ولم يجعل لمن قذف أولئك توبة ، قال فهمَّ بعض القوم أن يقوم إليه فيقبل رأسه من حسن ما فسر به سورة النور ، وقد اختار ابن جرير عمومها ، وهو الصحيح ويعضد العموم ما رواه أبي حاتم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اجتنبوا السبع الموبقات » قيل : وما هن يا رسول الله؟ قال : « الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلاّ بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات »(1/1764)
وقوله تعالى : { يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، عن ابن عباس قال : إنهم يعني المشركين إذا رأوا أنه لا يدخل الجنة إلاّ أهل الصلاة ، قالوا : تعالوا حتى نجحد فيجحدون فيختم على أفواههم ، وتشهد أيديهم وأرجلهم ، ولا يكتمون الله حديثاً .
وروى ابن أبي حاتم عن أنس بن مالك قال : « كنا عند النبي صلى الله عليه وسلم فضحك حتى بدت نواجذه ثم قال : » أتدرون ممَّ أضحك؟ « قلنا : الله ورسوله أعلم ، قال : » من مجادلة العبد ربه ، يقول : يا رب ألم تجرني من الظلم؟ فيقول : بلى ، فيقول : لا أجيز عليَّ شاهداً إلا من نفسي ، فيقول : كفى بنفسك اليوم عليك شهيداً ، وبالكرام عليك شهوداً ، فيختم على فيه ويقال لأركانه : انطقي ، فتنطق بعمله ، ثم يخلى بينه وبين الكلام ، فيقول : بعداً لكنَّ وسحقاً ، فعنكن كنت أناضل « وقال قتادة : ابن آدم ، والله إن عليك لشهوداً غير متهمة من بدنك فراقبهم ، واتق الله في سرك وعلانيتك ، فإنه لا يخفى عليه خافية ، الظُلمة عنده ضوء ، والسر عنده علانية ، فمن استطاع أن يموت وهو بالله حسن الظن فليفعل ولا قوة إلاّ بالله . وقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ الله دِينَهُمُ الحق } ، قال ابن عباس { دِينَهُمُ } : أي حسابهم ، وكذا قال غير واحد ، وقوله : { وَيَعْلَمُونَ أَنَّ الله هُوَ الحق المبين } أي وعده ووعيده ، وحسابه هو العدل الذي لا جور فيه .(1/1765)
الْخَبِيثَاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَالْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثَاتِ وَالطَّيِّبَاتُ لِلطَّيِّبِينَ وَالطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّبَاتِ أُولَئِكَ مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (26)
قال ابن عباس : الخبيثات من القول للخبثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من القول ، والطيبات من القول للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من القول ، قال : ونزلت في عائشة وأهل الإفك ، واختاره ابن جرير ، ووجهه بأن الكلام القبيح أولى بأهل القبح من الناس ، والكلام الطيب أولى بالطيبين من الناس ، فما نسبه أهل النفاق إلى عائشة من كلام هم أولى به ، وهي أولى بالبراءة والنزاهة منهم! ولهذا قال تعالى : { أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } . وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الخبيثات من النساء للخبيثين من الرجال ، والخبيثون من الرجال للخبيثات من النساء؛ والطيبات من النساء للطيبين من الرجال ، والطيبون من الرجال للطيبات من النساء؛ أي ما كان الله ليجعل عائشة زوجة لرسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ وهي طيبة لأنه أطيب من كل طيب من البشر ، ولو كان خبيثة لما صلحت له لا شرعاً ولا قدراً؛ ولهذا قال تعالى : { أولئك مُبَرَّءُونَ مِمَّا يَقُولُونَ } أي هم بعداء عما يقوله أهل الإفك والعدوان { لَهُم مَّغْفِرَةٌ } أي بسبب ما قيل فيهم من الكذب { وَرِزْقٌ كَرِيمٌ } أي عند الله في جنات النعيم - وفيه وعد بأن تكون زوجة رسول الله صلى الله عليه وسلم الجنة . «(1/1766)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيهَا أَحَدًا فَلَا تَدْخُلُوهَا حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَإِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكَى لَكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (29)
هذه آداب شرعية أدب الله بها عباده المؤمنين ، أمرهم أن لا يدخلوا بيوتاً غير بيوتهم حتى ( يستأنسوا ) أي يستأذنوا قبل الدخول ويسلموا بعده ، وينبغي أن يستأذن ثلاث مرات ، فإن أذن له وإلاّ انصرف كما ثبت في « الصحيح » أن أبا موسى حين استأذن على عمر ثلاثاً ، فلم يؤذن له انصرف ، ثم قال عمر : ألم تسمع صوت عبد الله بن قيس يستأذن؟ ائذنوا له ، فطلبوه فوجدوه قد ذهب ، فلما جاء بعد ذلك قال : ما أرجعك؟ قال : إني استأذنت ثلاثاً فلم يؤذن لي ، وإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فلينصرف » ، فقال عمر لتأتيني على هذا ببينة وإلاّ أوجعتك ضرباً ، فذهب إلى ملإ من الأنصار فذكر لهم ما قال عمر ، فقالوا : لا يشهد لك إلاّ أصغرنا ، فقام معه أبو سعيد الخدري فأخبر عمر بذلك ، فقال : ألهاني عنه الصفق بالأسواق . وعن أنس « أن النبي صلى الله عليه وسلم استأذن على ( سعد بن عبادة ) فقال : » السلام عليك ورحمة الله « فقال سعد : وعليك السلام ورحمة الله ، ولم يسمع النبي صلى الله عليه وسلم حتى سلم ثلاثاً ، ورد عليه سعد ثلاثاً ، ولم يسمعه ، فرجع النبي صلى الله عليه وسلم ، فاتبعه سعد فقال : يا رسول الله بأبي أنت وأمي ما سلمت تسليمة إلاّ وهي بأذني ، ولقد رددت عليك ولم أسمعك ، وأردت أن أستكثر من سلامك ومن البركة ، ثم أدخله البيت فقرب إليه زبيباً ، فأكل نبي الله فلما فرغ قال : » أكل طعامكم الأبرار ، وصلت عليكم الملائكة وأفطر عندكم الصائمون « ثم ليعلم أنه ينبغي للمستأذن على أهل المنزل أن لا يقف تلقاء الباب بوجهه ، ولكن ليكن الباب عن يمينه أو يساره ، لما رواه أبو داود عن عبد الله بن بشر قال : » كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أتى باب قوم لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر ، ويقول : « السلام عليكم ، السلام عليكم » ، وذلك أن الدور لم يكن عليها يومئذٍ ستور . و « جاء رجل فوقف على باب النبي صلى الله عليه وسلم يستأذن ، فقام على الباب - يعني : مستقبل الباب - فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : » هكذا عنك - أو هكذا - فإنما الاستئذان من النظر « » .
وفي « الصحيحين » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لو أن أمراً اطلع عليك بغير إذن فحذفته بحصاة ففقأت عينه ما كان عليك من جناح » ، وعن جابر قال : « أتيت النبي صلى الله عليه وسلم في دين كان على أبي ، فدققت الباب ، فقال : » من ذا؟ « فقلت : أنا ، قال : » أنا أنا «(1/1767)
كأنه كرهه ، وإنما كره ذلك لأن هذه اللفظة لا يعرف صاحبها حتى يفصح باسمه أو كنيته التي هي مشهور بها ، وإلاّ فكل أحد يعبر عن نفسه بأنا ، فلا يحصل بها المقصود من الاستئذان المأمور به في الآية ، قال ابن عباس : الاستئناس الاستئذان ، وكذا قال غير واحد وعن عمرو بن سعيد الثقفي « أن رجلاً استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أألج أو أنلج؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأمة له يقال لها روضة : » قومي إلى هذا فعلميه ، فإنه لا يحسن يستأذن فقولي له يقول السلام عليكم أأدخل؟ « فسمعها الرجل فقال : السلام عليكم أأدخل؟ فقال : » ادخل « وقال مجاهد : جاء ابن عمر من حاجة وقد آذاه الرمضاء ، فأتى فسطاط امرأة من قريش ، فقال : السلام عليكم أأدخل ، قالت : ادخل بسلام ، فأعاد ، فأعادت وهو يراوح بين قدميه قال : قولي ادخل ، قالت ادخل ، وروى هشين عن ابن مسعود قال : عليكم أن تستأذنوا على أمهاتكم وأخوتكم ، وقال أشعث عن ( عدي بن ثابت ) أن امرأة من الأنصار قالت : يا رسول الله إني أكون في منزلي على الحال التي لا أحب أن يراني أحد عليها ، لا والد ولا ولد ، وإنه لا يزال يدخل علي رجل من أهلي وأنا على تلك الحال ، قال : فنزلت : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً } الآية . وقال ابن جريج : سمعت عطاء بن أبي رباح يخبر عن ابن عباس رضي الله عنه قال : ثلاث آيات جحدهن الناس ، قال الله تعالى : { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عَندَ الله أَتْقَاكُمْ } [ الحجرات : 13 ] قال : ويقولون : إن أكرمهم عند الله أعظمهم بيتاً ، قال : والأدب كله قد جحده الناس ، قال ، قلت : أستأذن على أخواتي أيتام في حجري معي في بيت واحد؟ قال : نعم ، فردت عليه ليرخص لي فأبى ، فقال : تحب أن تراها عريانة؟ قلت : لا ، قال : فاستأذن ، قال : فراجعته أيضاًَ فقال : أتحب أن تطيع الله؟ قال : قلت : نعم ، قال : فاستأذن ، وقال طاووس : ما من امرأة أكره إليَّ أن أرى عورتها من ذات محرم قال : وكان يشدد في ذلك . وقال ابن مسعود : عليكم الإذن على أمهاتكم ، وقال ابن جريج : قلت لعطاء أيستأذن الرجل على امرأته؟ قال : لا ، وهذا محمول على عدم الوجوب ، وإلاّ فالأولى أن يعلمها بدخوله ولا يفاجئها به ، لاحتمال أن تكون على هيئة لا تحب أن يراها عليها .
وروى ابن جرير عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : كان عبد الله إذا جاء من حاجة فانتهى إلى الباب تنحنح وبزق ، كراهة أن يهجم منا على أمر يكرهه . وروى ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال : كان عبد الله إذا دخل الدار استأنس تكلم ورفع صوته ، وقال مجاهد : { حتى تَسْتَأْنِسُواْ } قال : تنحنحوا أو تنخّموا ، وقال الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله : إذا دخل الرجل بيته استحب له أن يتنحنح أو يحرك نعليه؛ ولهذا جاء في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه نهى أن يطرق الرجل أهله طروقاً - وفي رواية - ليلاً يتخوفهم ، وفي الحديث الآخر(1/1768)
« أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة نهاراً فأناخ بظاهرها وقال : » انتظروا حتى ندخل عشاء - يعني آخر النهار - حتى تمتشط الشعثة وتستحد المغيبة « وقال قتادة في قوله { حتى تَسْتَأْنِسُواْ } : هو الاستئذان ثلاثاً ، فمن لم يؤذن له منهم فليرجع ، أما الأولى فليسمع الحي ، وأما الثانية فليأخذوا حذرهم ، وأما الثالثة فإن شاءوا أذنوا وإن شاءوا ردّوا ، ولا تقفنّ على باب قوم ردوك عن بابهم ، فإن للناس حاجات ولهم أشغال والله أولى بالعذر . وقال مقاتل بن حيان في الآية : كان الرجل في الجاهلية إذا لقي صاحبه لا يسلم عليه ، ويقول : حييت صباحاً وحييت مساء ، وكان ذلك تحية القوم بينهم ، وكان أحدهم ينطلق إلى صاحبه ، فلا يستأذن حتى يقتحم ويقول : قد دخلت ونحو ذلك ، فيشق ذلك على الرجل ، ولعله يكون مع أهله ، فغّير الله ذلك كله في ستر وعفة ، وجعله نقياً نزهاً من الدنس والقذر والدرن . فقال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حتى تَسْتَأْنِسُواْ وَتُسَلِّمُواْ على أَهْلِهَا } الآية ، وهذا الذي قاله مقاتل حسن ، ولهذا قال تعالى : { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ } يعني الاستئذان ، خير لكم بمعنى هو خير من الطرفين للمستأذن ولأهل البيت { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، وقوله تعالى : { فَإِن لَّمْ تَجِدُواْ فِيهَآ أَحَداً فَلاَ تَدْخُلُوهَا حتى يُؤْذَنَ لَكُمْ } ، وذلك لما فيه من التصرف في ملك الغير بغير إذنه ، فإن شاء أذن وإن شاء لم يأذن ، { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ } أي إذا ردوكم من الباب قبل الإذن أو بعده { فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ } أي رجوعكم أزكى لكم وأطهر { والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } . وقال قتادة : قال بعض المهاجرين : لقد طلبت عمري كله هذه الآية فما أدركتها أن أستأذن على بعض إخواني ، فيقول لي : ارجع فأرجع وأنا مغتبط ، لقوله تعالى : { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } وقال سعيد بن جبير في الآية : أي لا تقفوا على أبواب الناس ، وقوله تعالى : { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ } الآية ، هذه الآية الكريمة أخص من التي قبلها وذلك أنها تقتضي جواز الدخول إلى البيوت التي ليس فيها أحد إذا كان له متاع فيها بغير إذن كالبيت المعد للضيف إذا أذن له فيه أول مرة كفى ، قال ابن عباس : { لاَ تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ } ، ثم نسخ واستثنى ، فقال تعالى : { لَّيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَدْخُلُواْ بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيهَا مَتَاعٌ لَّكُمْ } ، وقال آخرون : هي بيوت التجار كالخانات ومنازل الأسفار وبيوت مكة وغير ذلك .(1/1769)
قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذَلِكَ أَزْكَى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ (30)
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين ، أن يغضوا من أبصارهم عما حرم عليهم ، فلا ينظروا إلاّ لما أباح لهم النظر إليه ، وأن يغمضوا أبصارهم عن المحارم ، فإن اتفق أن وقع البصر على محرم من غير قصد فليصرف بصره عنه سريعاً ، كما روي عن جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه قال : « سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن نظرة الفجأة فأمرني أن أصرف بصري . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي : » لا يا علي لا تتبع النظرة النظرة ، فإن لك الأولى وليس لك الآخرة « وفي الصحيح عن أبي سعيد قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إياكم والجلوس على الطرقات « قالوا : يا رسول الله لا بد لنا من مجالسنا نتحدث فيها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن أبيتم فأعطو الطريق حقه « قالوا : وما حق الطريق يا رسول الله؟ قال : غض البصر ، وكف الأذى ، ورد السلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر » ، ولما كان النظر داعية إلى فساد القلب ، لذلك أمر الله بحفظ الفروج ، كما مر بحفظ الأبصار التي هي بواعث إلى ذلك ، فقال تعالى : { قُلْ لِّلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّواْ مِنْ أَبْصَارِهِمْ وَيَحْفَظُواْ فُرُوجَهُمْ } وحفظ الفرج تارة يكون بمنعه من الزننا كما قال تعالى : { والذين هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حَافِظُونَ } [ المؤمنون : 5 ] الآية ، وتارة يكون بحفظه من النظر إليه كما جاء في الحديث : « احفظ عورتك إلاّ من زوجتك أو ما ملكت يمينك » { ذلك أزكى لَهُمْ } أي أطهر لقلوبهم وأنقى لدينهم ، كما قيل : من حفظ بصره أورثه الله نوراً في بصيرته ، وروى الإمام أحمد عن أبي أمامة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مسلم ينظر إلى محاسن امرأة ثم يغض بصره إلاّ أخلف الله له عبادة يجد حلاوتها » وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن النظر سهم من سهام إبليس مسموم من تركه مخافتي أبدلته إيماناً يجد حلاوته في قلبه » وقوله تعالى : { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا يَصْنَعُونَ } ، كما قال تعالى : { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور } [ غافر : 19 ] . وفي « الصحيح » عن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كتب على ابن آدم حظه من الزنا أدرك ذلك لا محالة ، فزنا العينين النظر ، وزنا اللسان النطق ، وزنا الأذنين الاستماع ، وزنا اليدين البطش ، وزنا الرجلين الخطى ، والنفس تمنّى وتشتهي ، والفرج يصدق ذلك أو يكذبه » ، وقد قال كثير من السلف : إنهم كانوا ينهون أن يحدّ الرجل نظره إلى الأمرد ، وقد شدّد كثير من أئمة الصوفية في ذلك ، وحرمه طائفة من أهل العلم ، لما فيه من الافتتان ، وشدد آخرون في ذلك كثيراً جداً . وفي الحديث : « كل عين باكية يوم القيامة إلاّ عيناً غضت عن محارم الله ، وعيناً سهرت في سبيل الله ، وعيناً يخرج منها مثل رأس الذباب من خشية الله » عزَّ وجلَّ .(1/1770)
وَقُلْ لِلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ أَوْ نِسَائِهِنَّ أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلَى عَوْرَاتِ النِّسَاءِ وَلَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعًا أَيُّهَ الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)
هذا أمر من الله تعالى للنساء المؤمنات وغيرة منه لأزواجهن المؤمنين ، وتمييز لهن عن صفة نساء الجاهلية وفعال المشركات ، وكان سبب نزول هذه الآية ما ذكره ( مقاتل بن حيان ) قال : بلغنا أن أسماء بنت مرثد كانت في محل لها في بني حارثة ، فجعل النساء يدخلن عليها غير متزرات ، فيبدو ما في أرجلهن من الخلاخل ، وتبدو صدورهن وذوائبهن ، فقالت أسماء : ما أقبح هذا ، فأنزل الله تعالى : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } الآية ، فقوله تعالى : { وَقُل لِّلْمُؤْمِنَاتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ } أي عما حرم الله عليهن من النظر إلى غير أزواجهن؛ ولهذا ذهب كثير من العلماء إلى أنه لا يجوز للمرأة النظر إلى الرجال الأجانب بشهوة ولا بغير شهوة أصلاً واحتج كثير منهم بما روي « عن أم سلمة أنها كانت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم وميمونة ، قالت : فبينما نحن عنده أقبل ابن أم مكتوم فدخل عليه وذلك بعدما أمرنا بالحجاب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » احتجبا منه « فقلت : يا رسول الله أليس هو أعمى ولا يبصرنا ولا يعرفنا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أو عمياوان أنتما؟ ألستما تبصرانه « وذهب آخرون من العلماء إلى جواز نظرهن إلى الأجانب بغير شهوة ، كما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل ينظر إلى الحبشة وهم يلعبون بحرابهم يوم العيد في المسجد ، وعائشة أم المؤمنين تنظر إليهم من ورائه وهو يسترها منهم حتى ملّت ورجعت ، وقوله : { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } قال سعيد بن جبير : عن الفواحش؛ وقال قتادة : عما لا يحل لهن؛ وقال مقاتل : عن الزنا؛ وقال أبو العالية : كل آية نزلت في القرآن يذكر فيها حفظ الفروج فهو من الزنا ، إلاّ هذه الآية : { وَيَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ } أن لا يراها أحد ، وقوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } أي لا يظهرن شيئاً من الزينة للأجانب إلاّ ما لا يمكن إخفاؤه ، قال ابن مسعود : كالرداء والثياب ، يعني كل ما كان يتعاطاه نساء العرب من المقنعة التي تجلل ثيابها وما يبدو من أسافل الثياب ، فلا حرج عليها فيه ، لأن هذا لا يمكنها إخفاؤه ، وقال ابن عباس : وجهها وكفيها والخاتم ، وهذا يحتمل أن يكون تفسيراً للزينة التي نهين عن إبدائها ، كما قال عبد الله بن مسعود : الزينة زينتان ، فزينة لا يراها إلاّ الزوج : الخاتم والسوار ، وزينة يراها الأجانب ، وهي الظاهر من الثياب ، وقال مالك { إِلاَّ مَا ظَهَرَ مِنْهَا } : الخاتم والخلخال ، ويحتمل أن ابن عباس ومن تابعه أرادوا تفسير ما ظهر منها بالوجه والكفين ، وهذا هو المشهور ، ويستأنس له بالحديث الذي رواه أبو داود(1/1771)
« عن عائشة رضي الله عنها أن ( أسماء بنت أبي بكر ) دخلت على النبي صلى الله عليه وسلم وعليها ثياب رقاق ، فأعرض عنها وقال : يا أسماء إن المرأة إذا بلغت المحيض لم يصلح أن يرى منها إلاّ هذا ، وأشار إلى وجهه وكفيه » « .
وقوله تعالى : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } يعني المقانع يعمل لها صفات ضاربات على صدورهن لتاري ما تحتها من صدرها وترائبها ، ليخالفن شعار نساء أهل الجاهلية ، فإنهن لم يكن يفعلن ذلك ، بل كانت المرأة منهن تمر بين الرجال مسفحة بصدرها لا يواريه شيء وربما أظهرت عنقها وذوائب شعرها وأقرطه آذانها ، فأمر الله المؤمنات أن يستترن في هيئاتهن وأحوالهن ، كما قال تعالى : { ياأيها النبي قُل لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَآءِ المؤمنين يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلاَبِيبِهِنَّ ذلك أدنى أَن يُعْرَفْنَ فَلاَ يُؤْذَيْنَ } [ الأحزاب : 59 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } والخمر جمع خمار : وهو ما يخمر به أي يغطى به الرأس ، وهي التي تسميها الناس المقانع ، قال سعيد بن جبير { وَلْيَضْرِبْنَ } وليشددن { بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } يعني على النحر والصدر فلا يرى منه شيء . وروى البخاري عن عائشة رضي الله عنها قالت : يرحم الله نساء المهاجرات الأول لما أنزل الله { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } شققن مروطهن فاختمرن بها . وروى ابن أبي حاتم عن صفية بنت شيبة قالت : بينا نحن عند عائشة قالت : فذكرنا نساء قريش وفضلهن ، فقالت عائشة رضي الله عنها : إن لنساء قريش لفضلاً وإني والله ما رأيت أفضل من نساء الأنصار أشد تصديقاً لكتاب الله ولا إيماناً بالتنزيل ، لقد أنزلت سورة النور : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } انقلب رجالهن إليهن يتلون عليهن ما أنزل الله إليهم فيها ، ويتلو الرجل على امرأته وابنته وأخته وعلى كل ذي قرابته ، فما منهن امرأة إلاّ قامت إلى مرطها المرحل ، فاعتجزت به تصديقاً وإيماناً بما أنزل الله من كتابه ، فأصبحن وراء رسول الله صلى الله عليه وسلم معتجزات كأن على رؤوسهن الغربان . وقال ابن جرير عن عائشة قالت : يرحم الله النساء المهاجرات الأول ، لما أنزل الله : { وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ على جُيُوبِهِنَّ } شققن أكتف مروطهن فاختمرن بها ، وقوله تعالى : { وَلاَ يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ } أي أزواجهن { أَوْ آبَآئِهِنَّ أَوْ آبَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَآئِهِنَّ أَوْ أَبْنَآءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بني إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ } كل هؤلاء محارم للمرأة يجوز لها أن تظهر عليهم بزينتها ، ولكن من غير تبرج فأما الزوج فإنما ذلك كله من أجله ، فتتصنع له بما لا يكون بحضرة غيره ، وقوله : { أَوْ نِسَآئِهِنَّ } يعني تظهر بزينتها أيضاً للنساء المسلمات ، دون نساء أهل الذمة ، لئلا تصفهن لرجالهن ، فإنهن لا يمنعهن من ذلك مانع؛ فأما المسلمة فإنها تعلم أن ذلك حرام فتنزجر عنه ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/1772)
« لا تباشر المرأة المرأة تنعتها لزوجها كأنه ينظر إليها » .
وروي أن عمر بن الخطاب كتب إلى أبي عبيدة : أما بعد ، فإنه بلغني أن نساء من نساء المسلمين يدخلن الحمامات مع نساء أهل الشرك . فإنه من قبلك فلا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن ينظر إلى عورتها إلا أهل ملتها ، وقال مجاهد في قوله : { أَوْ نِسَآئِهِنَّ } قال : نساؤهن المسلمات ، ليس المشركات من نسائهن ، وليس للمرأة المسلمة أن تنكشف بين يدي مشركة ، وروي عن ابن عباس : { أَوْ نِسَآئِهِنَّ } قال : هَنُ المسلمات لا تبديه ليهودية ولا نصرانية ، وهو النحر والقرط والوشاح وما لا يحل أن يراه إلاّ محرم ، وروى سعيد عن مجاهد قال : لا تضع المسلمة خمارها عند مشركة لأن الله تعالى يقول : { أَوْ نِسَآئِهِنَّ } فليست من نسائهن ، وعن مكحول وعبادة بن نسي : أنهما كرها أن تقبل النصرانية واليهودية والمجوسية المسلمة . وقوله تعالى : { أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُنَّ } قال ابن جرير : يعني من نساء المشركين ، فيجوز لها أن تظهر زينتها لها وإن كانت مشركة لأنها أمتها ، وإليه ذهب سعيد بن المسيب . وقال الأكثرون : بل يجوز أن تظهر على رقيقها من الرجال والنساء ، واستدلوا بالحديث الذي رواه أبو داود « عن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم أتى فاطمة بعبد قد وهبه لها ، قال : وعلى فاطمة ثوب إذا قنّعت به رأسها لم يبلغ رجليها ، وإذا غطّت به رجليها لم يبلغ رأسها ، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما تلقى قال : » إنه ليس عليك بأس إنما هو أبوك وغلامك « ، وروى الإمام أحمد عن أم سلمة ذكرت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إذا كان لإحداكن مكاتب وكان له ما يؤدي فلتحتجب منه « ، وقوله تعالى : { أَوِ التابعين غَيْرِ أُوْلِي الإربة مِنَ الرجال } يعني كالأجراء والأتباع الذين ليسوا بأكفاء ، وهم مع ذلك في عقولهم وله ولا همة لهم إلى النساء ولا يشتهونهن ، قال ابن عباس : هو المغفل الذي لا شهوة له . وقال مجاهد : هو الأبله ، وقال عكرمة : هو المخنث الذي لا يقوم ذكره ، وكذلك قال غير واحد من السلف ، وفي الصحيح » عن عائشة أن مخنثاً كان يدخل على أهل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكانوا يعدونه من غير أولي الأربة ، فدخل النبي صلى الله عليه وسلم وهو ينعت امرأة يقول : إنها إذا أقبلت أقبلت بأربع ، وإذا أدبرت أدبرت بثمان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا أرى هذا يعلم ما هاهنا لا يدخلن عليكم » فأخرجه ، وروى الإمام أحمد « عن أم سلمة أنها قالت : دخل عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وعندها مخنث ، وعندها ( عبد الله بن أبي أمية ) يعني أخاها والمخنث يقول : يا عبد الله إن فتح الله عليكم الطائف غداً فعليك بابنة غيلان ، فإنها تقبل بأربع وتدبر بثمان ، قال : فسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لأم سلمة : » لا يدخلن هذا عليك « .(1/1773)
وقوله تعالى : { أَوِ الطفل الذين لَمْ يَظْهَرُواْ على عَوْرَاتِ النسآء } يعني لصغرهم لا يفهمون أحوال النساء وعوراتهن من كلامهن الرخيم ، وتعطفهن في المشية وحركاتهن وسكناتهن ، فإذا كان الطفل صغيراً لا يفهم ذلك فلا بأس بدخوله على النساء ، فأما إن كان مراهقاً أو قريباً منه بحيث يعرف ذلك ويدريه ويفرق بين الشوهاء والحسناء ، فلا يمكن من الدخول على النساء ، وقد ثبت في « الصحيحين » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إياكم والدخول على النساء » قيل : يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ قال : « الحمو الموت » وقوله تعالى : { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ } الآية ، كانت المرأة في الجاهلية إذا كانت تمشي في الطريق وفي رجلها خلخال صامت لا يعلم صوتها ضربت برجلها الأرض ، فيسمع الرجال طنينه ، فنهى الله المؤمنات عن مثل ذلك ، وكذلك إذا كان شيء من زينتها مستوراً فتحركت بحركة لتظهر ما هو خفي دخل في هذا النهي ، لقوله تعالى : { وَلاَ يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ } إلى آخره ، ومن ذلك أنها تنهى عن التعطر والتطيب عند خروجها من بيتها ، فيشم الرجال فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « كل عين زانية ، والمرأة إذا استعطرت فمرت بالمجلس فهي كذا وكذا » يعني زانية . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه لقي امرأة شم منها ريح الطيب ولذيلها إعصار ، فقال : يا أمة الجبار جئت من المسجد؟ قالت : نعم ، قال لها : تطيبت؟ قالت : نعم ، قال : إني سمعت حبي أبا القاسم صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يقبل الله صلاة امرأة طيبت لهذا المسجد حتى ترجع فتغسل غسلها من الجنابة » وفي الحديث : « الرأفلة في الزينة من غير أهلها كمثل ظلمة يوم القيامة لا نور لها » ، ومن ذلك أيضاً أنهن ينهين عن المشي في وسط الطريق لما فيه من التبرج ، فقد روي « عن حمزة بن أبي أسيد الأنصاري عن أبيه أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو خارج من المسجد ، وقد اختلط الرجال مع النساء في الطريق ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للنساء : » استأخرن فإنه ليس لكن أن تحتضن الطريق ، عليكن بحافات الطريق « ، فكانت المرأة تلصق بالجدار حتى إن ثوبها ليتعلق بالجدار من لصوقها به » ، وقوله تعالى : { وتوبوا إِلَى الله جَمِيعاً أَيُّهَ المؤمنون لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي افعلوا ما أمركم به من هذه الصفات الجميلة والأخلاق الجليلة ، واتركوا ما كان عليه أهل الجاهلية من الأخلاق والصفات الرذيلة ، فإن الفلاح كل الفلاح في فعل ما أمر الله به ورسوله ، وترك ما نهى عنه والله تعالى المستعان .(1/1774)
وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (32) وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ نِكَاحًا حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَالَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْرًا وَآتُوهُمْ مِنْ مَالِ اللَّهِ الَّذِي آتَاكُمْ وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَمَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)
اشتملت هذه الآيات الكريمات ، على جمل من الأحكام المحكمة ، فقوله تعالى : { وَأَنْكِحُواْ الأيامى مِنْكُمْ } أمر بالتزويج ، وقد ذهب طائفة من العلماء إلى وجوبه على كل من قدر عليه واحتجوا بظاهر قوله عليه السلام : « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج فإنه أغض للبصر وأحصن الفرج ، ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » ، وقد جاء في السنن : « تزوجوا الولود ، تناسلوا فإني مباه الأمم يوم القيامة » ، الأيامى جمع أيم ، ويقال ذلك للمرأة التي لا زوج لها ، وللرجل الذي لا زوجة له ، يقال : رجل أيم وامرأة أيم ، وقوله تعالى : { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } الآية ، قال ابن عباس : رغبهم الله في التزويج وأمر به الأحرار والعبيد ، ووعدهم عليه الغنى ، فقال : { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } ، وقال أبو بكر رضي الله عنه : أطيعوا الله فيما أمركم به من النكاح ، ينجز لكم ما وعدكم من الغنى يقول الله تعالى : { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } ، وعن ابن مسود : التمسوا الغنى في النكاح ، يقول الله تعالى : { إِن يَكُونُواْ فُقَرَآءَ يُغْنِهِمُ الله مِن فَضْلِهِ } وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة حق على الله عونهم : الناكح يريد العفاف ، والمكاتب يريد الأداء ، والغازي في سبيل الله » ، وقد زوّج النبي صلى الله عليه وسلم ذلك الرجل الذي لا يجد عليه إلاّ إزاره ولم يقدر على خاتم من حديد ، ومع هذا فزوجه بتلك المرأة ، وجعل صداقها عليه أن يعلمها ما معه من القرآن ، والمعهود من كرم الله تعالى ولطفه أن يرزقه ما فيه كفاية لها وله ، وقوله تعالى : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً حتى يُغْنِيَهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } هذا أمر من الله تعالى لمن لا يجد تزويجاً بالتعفف عن الحرام ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » وهذه الآية مطلقة والتي في سورة النساء أخص منها وهي قوله : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات } [ النساء : 25 ] ، إلى قوله : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ النساء : 25 ] أي صبركم عن تزوج الإماء خير لكم لأن الولد يجيء رقيقاً { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النساء : 25 ] ، قال عكرمة في قوله : { وَلْيَسْتَعْفِفِ الذين لاَ يَجِدُونَ نِكَاحاً } قال : هو الرجل يرى المرأة فكأنه يشتهي ، فإن كانت له امرأة فليذهب إليها وليقض حاجته منها ، وإن لم يكن له امرأة فلينظر في ملكوت السماوات والأرض حتى وقوله تعالى : { والذين يَبْتَغُونَ الْكِتَابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } هذا أمر من الله تعالى للسادة إذا طلب عبيدهم منهم الكتابة أن يكاتبوهم ، بشرط أن يكون للعبد حيلة وكسب ، يؤدي إلى سيده المال الذي شارطه على أدائه ، وقد ذهب كثير من العلماء إلى أن هذا الأمر أمر إرشاد واستحباب ، لا أمر تحتم وإيجاب ، قال الشعبي : إن شاء كاتبه وإن شاء لم يكاتبه ، وذهب آخرون إلى أنه يجب على السيد إذا طلب منه عبده ذلك أن يجيبه إلى ما طلب آخذاً بظاهر هذا الأمر ، وقال البخاري عن ابن جريج قلت لعطاء : أواجب علي إذا علمت له مالاً أن أكاتبه؟ قال : ما أراه إلا واجباً ، وقال عمرو بن دينار ، قلت لعطاء : أتأثره عن أحد؟ قال : لا ، ثم أخبرني أن سيرين سأل أنساً المكاتبة ، وكان كثير المال ، فأبى ، فانطلق إلى عمر رضي الله عنه ، فقال : كاتبه ، فأبى ، فضربه بالدرة ويتلو عمر رضي الله عنه : { فَكَاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } فكاتبه .(1/1775)
وذهب الشافعي في الجديد إلى أنه لا يجب لقوله عليه السلام : « لا يحل مال امرئ مسلم إلاّ بطيب نفس » ، وقال مالك : الأمر عندنا أنه ليس على سيد العبد أن يكاتبه إذا سأله ذلك ، ولم أسمع أحداً من الأئمة أكره أحداً على أن يكاتب عبده ، وكذا قال الثوري وأبو حنيفة ، وقوله تعالى : { إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً } قال بعضهم : أمانة ، وقال بعضهم : صدقاً ، وقال بعضهم : مالاً ، وقال بعضهم : حيلة وكسباً ، وقوله تعالى : { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ } اختلف المفسرون فيه ، فقا بعضهم : معناه اطرحوا لهم من الكتابة بعضها ، وقال آخرون : ل المراد هو النصيب الذي فرض الله لهم من أموال الزكاة ، وقال ابن عباس : أمر الله المؤمنين أن يعينوا في الرقاب ، وقد تقدم الحديث : « ثلاثة حق على الله عونهم » فذكر منهم المكاتب يريد الأداء ، والقول الأول أشهر . وعن ابن عباس في الآية { وَآتُوهُمْ مِّن مَّالِ الله الذي آتَاكُمْ } قال : ضعوا عنهم من مكاتبتهم ، وقال محمد بن سيرين في الآية : كان يعجبهم أن يدع الرجل لمكاتبه طائفة من مكاتبته ، وقوله تعالى : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء } الآية ، كان أهل الجاهلية إذا كان لأحدهم أمة أرسلها تزني وجعل عليها ضريبة يأخذها منها كل وقت ، فلما جاء الإسلام نهى الله المؤمنين عن ذلك ، وكان سبب نزول هذه الآية الكريمة في شأن ( عبد الله بن أبي بن سلول ) فإنه كان له إماء فكان يكرههن على البغاء طلباً لخراجهن ، ورغبة في أولادهن ، ورياسة منه فيما يزعم .
( ذكر الآثار الواردة في ذلك )
قال الحافظ البزار في « مسنده » : كانت جارية لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها ( معاذة ) يكرهها على الزنا فلما جاء الإسلام نزلت : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء } الآية ، وقال الأعمش : نزلت في أمة لعبد الله بن أبي بن سلول يقال لها ( مسيكة ) كان يكرهها على الفجور وكانت لا بأس بها فتأبى ، فأنزل الله هذه الآية : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } الآية ، وروى النسائي عن جابر نحوه .(1/1776)
وعن الزهري أن رجلاً من قريش أسر يوم بدر ، وكان عند ( عبد الله بن أبي ) أسيراً وكانت لعبد الله بن أبي جارية يقال لها ( معاذة ) وكان القرشي الأسير يريدها على نفسها ، وكانت مسلمة ، وكانت تمتنع منه لإسلامها ، وكان عبد الله بن أبي يكرهها على ذلك ويضربها رجاء أن تحمل من القرشي فيطلب فداء ولده ، فقال تبارك وتعالى : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } ، وقال السدي : أنزلت هذه الآية الكريمة في ( عبد الله بن أبي بن سلول ) رأس المنافقين ، وكانت له جارية تدعى ( معاذة ) وكان إذا نزل به ضيف أرسلها إليه ليواقعها إرادة الثواب منه والكرامة له ، فأقبلت الجارية إلى أبي بكر رضي الله عنه فشكت إليه ذلك ، فذكره أبو بكر للنبي صلى الله عليه وسلم ، فأمره بقبضها ، فصاح عبد الله بن أبي من يعذرنا من محمد يغلبنا على مملوكتنا فأنزل الله فيهم هذا ، وقوله تعالى : { إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } هذا خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له ، وقوله تعالى : { لِّتَبْتَغُواْ عَرَضَ الحياة الدنيا } أي من خراجهن ومهورهن وأولادهن ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كسب الحجام ، ومهر البغي ، وحلوان الكاهن ، وفي رواية : « مهر البغي خبيث وكسب الحجام خبيث ، وثمن الكلب خبيث » ، وقوله تعالى : { وَمَن يُكْرِههُنَّ فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي لهن ، كما تقدم في الحديث عن جابر ، وقال ابن عباس : فإن فعلتم فإن الله لهن غفور رحيم ، وإثمهن على من أكرههن ، وقال أبو عبيد عن الحسن في هذه الآية { فَإِنَّ الله مِن بَعْدِ إِكْرَاهِهِنَّ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قال : لهن والله ، لهن والله ، وفي الحديث المرفوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » ولما فصل تبارك وتعالى هذه الأحكام وبينها قال تعالى : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ } يعني القرآن فيه آيات واضحات مفسرات { وَمَثَلاً مِّنَ الذين خَلَوْاْ } أي خبراً عن الأمم الماضية وما حل بهم في مخالفتهم أوامر الله تعالى كما قال تعالى : { فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِّلآخِرِينَ } [ الزخرف : 56 ] أي زاجراً عن ارتكاب المآثم والمحارم { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } أي لمن اتقى الله وخافه ، قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في صفة القرآن : فيه حكم ما بينكم ، وخبر ما قبلكم ، ونبأ ما بعدكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله ، ومن اتبغى الهدى من غيره أضله الله .(1/1777)
اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (35)
قال ابن عباس { الله نُورُ السماوات والأرض } يقول : هادي أهل السماوات والأرض ، يدبر الأمر فيهما نجومهما وشمسهما وقمرهما . وقال ابن جرير عن أنس بن مالك قال : إن الله يقول نوري هدى ، واختار هذا القول ابن جرير ، وقال أبي بن كعب : هو المؤمن جعل الله الإيمان والقرآن في صدره فضرب الله مثله فقال : { الله نُورُ السماوات والأرض } فبدأ بنور نفسه ، ثم ذكر نور المؤمن ، فقال : مثل نور من آمن به ، فهو المؤمن جعل الإيمان والقرآن في صدره ، وعن ابن عباس أنه قرأها { مثل نور من آمن بالله } وقرأ بعضهم { الله منّور السماوات والأرض } وقال السدي في قوله { الله نُورُ السماوات والأرض } فبنوره أضاءت السماوات والأرض ، وفي الحديث : « أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت له الظلمات » وفي « الصحيحين » عن ابن عباس رضي الله عنه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قام من الليل يقول : « اللهم لك لحمد ، أنت نور السماوات والأرض ومن فيهن ، ولك الحمد أنت قيوم السماوات والأرض ومن فيهن » الحديث . وعن ابن مسعود قال : إن ربكم ليس عنده ليل ولا نهار ، نور العرش من نور وجهه ، وقوله تعالى : { مَثَلُ نُورِهِ } في هذا الضمير قولان : ( أحدهما ) أنه عائد إلى الله عزَّ وجلَّ أي مثل هداه في قلب المؤمن ، قاله ابن عباس { كَمِشْكَاةٍ } ( والثاني ) : أن الضمير عائد إلى المؤمن الذي دل عليه سياق الكلام ، تقديره مثل نور المؤمن الذي في قلبه كمشكاة ، فشبه قلب المؤمن وما هو مفطور عليه من الهدى وما يتلقاه من القرآن المطابق لما هو مفطور عليه ، كما قال تعالى : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } [ هود : 17 ] فشبه قلب المؤمن في صفائه في نفسه بالقنديل من الزجاج الشفاف الجوهري ، وما يستهديه من القرآن والشرع بالزيت الجيد الصافي المشرق المعتدل الذي لا كدر فيه ولا انحراف؛ فقوله { كَمِشْكَاةٍ } قال ابن عباس ومجاهد : هو موضع الفتيلة من القنديل . هذا هو المشهور ، ولهذا قال بعده { فِيهَا مِصْبَاحٌ } وهو الزبالة التي تضيء .
وقال مجاهد : هي الكوة بلغة الحبشة . وزاد بعضهم فقال : المشكاة الكوة التي لا منفذ لها ، وعن مجاهد : المشكاة الحدائد التي يعلق بها القنديل؛ والقول الأول أولى ، وهو أن المشكاة هو موضع القنبلة من القنديل : ولهذا قال : { فِيهَا مِصْبَاحٌ } وهو النور الذي في الزبالة ، قال أُبي بن كعب : المصباح النور وهو القرآن والإيمان الذي في صدره ، وقال السدي هو السراج { المصباح فِي زُجَاجَةٍ } أي الضوء مشرق في زجاجة صافية ، وهي نظير قلب المؤمن { الزجاجة كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ } أي كأنها كوكب من در ، قال أبي بن كعب : كوكب مضيء ، وقال قتادة : مضيء مبين ضخم { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } أي يستمد من زيت زيتون شجرة مباركة { زَيْتُونَةٍ } بدل أو عطف بيان { لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } أي ليست في شرقي بقعتها فلا تصل إليها الشمس من أول النهار ، ولا في غربها فيقلص عنها الفيء قبل الغروب ، بل هي في مكان وسط تعصرها الشمس من أول النهار إلى آخره ، فيجيء زيتها صافياً معتدلاً مشرقاً ، عن ابن عباس في قوله { زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } قال : هي شجرة بالصحراء لا يظلها شجر ولا جبل ولا كهف ، ولا يواريها شيء ، وهو أجود لزيتها ، وقال عكرمة : تلك زيتونة بأرض فلاة إذا أشرقت الشمس أشرقت عليها ، فإذا غربت غربت عليها فذلك أصفى ما يكون من الزيت ، وعن سعيد بن جبير في قوله { زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء } قال : هو أجود الزيت ، قال إذا طلعت الشمس أصابتها من صوب المشرق ، فإذا أخذت من الغروب أصابتها الشمس ، فالشمس تصيبها بالغداوة والعشي فتلك لا تعد شرقية ولا غربية .(1/1778)
وقال الحسن البصري : لو كانت هذه الشجرة في الأرض لكانت شرقية أو غربية ، ولكنه مثل ضربه الله تعالى لنوره ، وقال الضحاك عن ابن عباس { يُوقَدُ مِن شَجَرَةٍ مُّبَارَكَةٍ } قال : رجل صالح { زَيْتُونَةٍ لاَّ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ } قال : لا يهودي ولا نصراني ، وأولى هذه الأقوال : أنها في مستوى من الأرض في مكان فسيح باد ظاهر ضاح للشمس ، تقرعه من أول النهار إلى آخره ، ليكون ذلك أصفى لزيتها وألطف ، ولهذا قال تعالى : { يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } يعني لضوء إشراق الزيت ، وقوله تعالى : { نُّورٌ على نُورٍ } قال ابن عباس : يعني بذلك إيمان العبد وعمله ، وقال أبي بن كعب { نُّورٌ على نُورٍ } المؤمن يتقلب في خمسة من النور ، فكلامه نور وعمله نور ، ومدخلة نور ، ومخرجه نور ، ومصيره إلى نور يوم القيامة إلى الجنة . وقال شمر بن عطية : جاء ابن عباس إلى كعب الأحبار فقال : حدثني عن قول الله تعالى { يَكَادُ زَيْتُهَا يضياء وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ } قال : يكاد محمد صلى الله عليه وسلم يبين للناس ولو لم يتكلم أنه نبي ، كما يكاد ذلك الزيت أن يضيء ، وقال السدي في قوله تعالى : { نُّورٌ على نُورٍ } قال : نور النار ونور الزيت حين اجتمعا أضاءا ولا يضيء واحد بغير صاحبه ، كذلك نور القرآن ونور الإيمان حين اجتمعا فلا يكون واحد منهما إلاّ بصاحبه ، وقوله تعالى : { يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } أي يرشد الله إلى هدايته من يختاره ، كما جاء في الحديث : « إن الله تعالى خلق خلقه في ظلمة ثم ألقى عليهم من نوره يومئذٍ ، فمن أصاب من نوره يومئذ اهتدى ومن أخطأ ضل ، فلذلك أقول : جفَّ القلم على علم الله عزَّ وجلَّ »(1/1779)
وقوله تعالى : { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } لما ذكر تعالى هذا مثلاً لنور هداه في قلب المؤمن ختم الآية بقوله : { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلَيِمٌ } أي هو أعلم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الإضلال ، عن أبي سعيد الخدري قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « القلوب أربعة : قلب أجرد فيه مثل السراج يزهر ، وقلب أغلف مربوط على غلافه ، وقلب منكوس ، وقلب مصفح . فأما القلب الأجرد فقلب المؤمن سراجه فيه نوره ، وأما القلب الأغلف فقلب الكافر ، وأما القلب المنكوس فقلب المنافق عرف ثم أنكر ، وأما القلب المصفح فقلب فيه إيمان ونفاق ، ومثل الإيمان فيه كمثل البقلة يمدها الماء الطيب ، ومثل النفاق فيه كمثل القرحة يمدها الدم والقيح ، فأي المدتين غلبت على الأخرى غلبت عليه » .(1/1780)
فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (36) رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (38)
لما ضرب الله تعالى مثل قلب المؤمن وما فيه من الهدى والعلم ، بالمصباح في الزجاجة الصافية المتوقد من زيت طيب وذلك كالقنديل مثلاً ، ذكر محلها وهي المساجد التي هي أحب البقاع إلى الله تعالى من الأرض ، وهي بيوته التي يعبد فيها ويوحد ، فقال تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ } أي أمر الله تعالى بتعاهدها وتطهيرها من الدنس واللغو ، والأقوال والأفعال التي لا تليق فيها ، كما قال ابن عباس : نهى الله سبحانه عن اللغو فيها وقال قتادة : هي هذه المساجد أمر الله سبحانه وتعالى ببنائها وعمارتها ورفعها وتطهيرها ، وقد ذكر لنا أن كعباً كان يقول : مكتوب فيه التوراة إن بيوتي في الأرض المساجد ، وإنه من توضأ فأحسن وضوءه ، ثم زارني في بيتي أكرمته ، وحقٌ على المزور كرامة الزائر . وقد وردت أحاديث كثيرة في بناء المساجد واحترامها وتوقيرها وتطييبها وتبخيرها ، فعن أمير المؤمنين ( عثمان بن عفان ) رضي الله عنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من بنى مسجداً يبتغي به وجه الله بنى الله له مثله في الجنة » ، وعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من بنى مسجداً يذكر فيه اسم الله بنى الله له بيتاً في الجنة » وعن عائشة رضي الله عنها : أمرنا سول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد في الدور ، وأن تنظّف وتطيب . وعن أنس رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تقوم الساعة حتى يتباهى الناس في المساجد » وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا رأيتم من يبيع أو يبتاع في المسجد فقولوا : لا أربح الله تجارتك؛ وإذا رأيتم من ينشد ضالة في المسجد فقولوا : لا ردها الله عليك » .
وقد روى ابن ماجه وغيره من حديث ابن عمر مرفوعاً قال : خصال لا تنبغي في المسجد : لا يتخذ طريقاً ، ولا يشهر فيه سلاح ، ولا ينبض فيه بقوس ، ولا ينثر فيه نبل ، ولا يمر فيه بلحم نيء ، ولا يضرب فيه حد ، ولا يقتص فيه أحد ، ولا يتخذ سوقاً . وعن واثلة بن الأسقع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « جنبوا المساجد صبيانكم ومجانينكم وشراءكم وبيعكم ، وخصوماتكم ، ورفع أصواتكم ، وإقامة حدودكم وسل سيوفكم ، واتخذوا على أبوابها المطاهر ، وجمروها في الجمع » أما أنه لا يتخذ طريقاً فقد كره بعض العلماء المرور فيه إلاّ لحاجة إذا وجد مندوحة عنه؛ وفي الأثر : إن الملائكة لتتعجب من الرجل يمر بالمسجد لا يصلي فيه؛ وأما أنه لا يشهر فيه السلاح ولا ينبض فيه بقوس ولا ينثر فيه نبل ، فلما يخشى من إصابة بعض الناس به ، وأما النهي عن المرور باللحم النيء فيه فلما يخشى من تقاطر الدم منه ، وأما أنه لا يضرب فيه حد ولا يقتص منه فلما يخشى من إيجاد النجاسة فيه من المضروب أو المقطوع ، وأما أنه لا يتخذ سوقاً فلما تقدم من النهي عن البيع والشراء فيه ، فإنه إنما بني لذكر الله والصلاة فيه ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لذلك الأعرابي الذي بال في طائفة المسجد :(1/1781)
« إن المساجد لم تبن لهذا إنما بنيت لذكر الله والصلاة فيها » ، وفي الحديث الثاني : « جنبوا مساجدكم صبيانكم » وذلك لأنهم يلعبون فيه ولا يناسبهم؛ وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا رأى صبياناً يلعبون في المسجد ضربهم بالمخفقة وهي الدرة ، وكان يفتش المسجد بعد العشاء فلا يترك فيه أحداً ، « ومجانينكم » يعني لأجل ضعف عقولهم ، وسخر الناس بهم ، فيؤدي إلى اللعب فيها ولما يخشى من تقذيرهم المسجد ونحو ذلك « وبيعكم وشراءكم » كما تقدم ، « وخصوماتكم » يعني التحاكم والحكم فيه؛ ولهذا نص كثير من العلماء على أن الحاكم لا ينتصب لفصل الأقضية في المسجد ، بل يكون في موضع غيره لما فيه من كثرة الحكومات والتشاجر والألفاظ التي لا تناسبه؛ ولهذا قال بعده : « ورفع أصواتكم » .
وروى البخاري عن السائب بن يزيد الكندي قال : كنت قائماً في المسجد فحصبني رجلن فنظرت فإذا عمر بن الخطاب فقال : اذهب فائتني بهذين ، فجئته بهما فقال : من أنتما؟ أو من أين أنتما؟ قالا : من أهل الطائف ، قال : لو كنتما من أهل البلد لأوجعتكما ، ترفعان أصواتكما في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال النسائي : سمع عمر صوت رجل في المسجد فقال : أتدري أين أنت؟ وقوله : « واتخذوا على أبوابها المطاهر » يعني المراحيض التي يستعان بها على الوضوء وقضاء الحاجة ، وقد كانت قريباً من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم آبار يستقون منها فيشربون ويتطهرون ويتوضأون وقد روى الحافظ أبو يعلى الموصلي عن ابن عمر : أن عمر كان يجمر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم كل جمعة ، وقد ثبت في « الصحيحين » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « صلاة الرجل في الجماعة تضعف على صلاته في بيته وفي سوقه خمساً وعشرين ضعفاً . وذلك أنه إذا توضأ فأحسن الوضوء ، ثم خرج إلى المسجد لا يخرجه إلاّ الصلاة لم يخط خطوة إلاّ رفع له بها درجة وحط عنه بها خطيئة ، فإذا صلى لم تزل الملائكة تصلي عليه ما دام في مصلاه : اللهم صل عليه ، اللهم ارحمه ، ولا يزال في صلاة ما انتظر الصلاة »(1/1782)
وعند الدارقطني مرفوعاً : « لا صلاة لجار المسجد إلاّ في المسجد » ، وفي السنن : « بشر المشائين إلى المساجد في الظلم بالنور التام يوم القيامة » .
ويستحب لمن دخل المسجد أن يبدأ برجله اليمنى ، وأن يقول كما ثبت في « صحيح البخاري » عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دخل المسجد يقول : « أعوذ بالله العظيم ، وبوجهه الكريم وسلطانه القديم ، من الشيطان الرجيم » قال : فإذا قال ذلك قال الشيطان حفظ مني سائر اليوم ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا دخل أحدكم المسجد فليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليقل : اللهم إني أسألك من فضلك » ، وعن أبي هريرة : رضي الله عنه قال ، « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إذا دخل أحدكم المسجد فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم افتح لي أبواب رحمتك ، وإذا خرج فليسلم على النبي صلى الله عليه وسلم وليقل : اللهم اعصمني من الشيطان الرجيم « ، وعن فاطمة بنت الحسين عن جدتها فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دخل المسجد صلى على محمد وسلم ، ثم قال : » اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب رحمتك « ، وإذا خرج صلى على محمد وسلم ، ثم قال : » اللهم اغفر لي ذنوبي وافتح لي أبواب فضلك « ، فهذا الذي ذكرناه داخل في قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ } وقوله : { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه } أي اسم الله ، كقوله : { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } [ الأعراف : 29 ] ، وقوله : { وَأَنَّ المساجد لِلَّهِ } [ الجن : 18 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه } قال ابن عباس : يعني يتلى كتابه ، وقوله تعالى : { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } أي في البكرات والعشيات ، والآصال جمع أصيل وهو آخر النهار ، وقال ابن عباس : كل تسبيح في القرآن هو الصلاة ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعني الغدو صلاة الغداة ، ويعني بالآصال صلاة العصر ، وهما أول من افترض الله من الصلاة ، فأحب أن يذكرهما وأن يذكر بهما عباده ، وعن الحسن والضحاك { يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } : يعني الصلاة .
وقوله تعالى : { رِجَالٌ } فيه إشعار بهممهم السامية ، ونياتهم وعزائمهم العالية ، التي بها صاروا عماراً للمساجد ، التي هي بيوت الله في أرضه ، ومواطن عبادته وشكره ، وتوحيده وتنزيهه ، كما قال تعالى : { مِّنَ المؤمنين رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَاهَدُواْ الله عَلَيْهِ } [ الأحزاب : 23 ] الآية . وأما النساء فصلاتهن في بيوتهن أفضل لهن ، لما رواه أبو داود عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال :(1/1783)
« صلاة المرأة في بيتها أفضل من صلاتها في حجرتها ، وصلاتها في مخدعها أفضل من صلاتها في بيتها » ، وعن أم سلمة رضي الله عنها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « خير مساجد النساء قعر بيوتهن » وروى أحمد « عن أم حميد امرأة أبي حميد الساعدي أنها جاءت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله إني أحب الصلاة معك ، قال : » قد علمت أنك تحبين الصلاة معي ، وصلاتك في بيتك خير من صلاتك في حجرتك ، وصلاتك في حجرتك خير من صلاتك في دارك ، وصلاتك في دارك خير من صلاتك في مسجد قومك ، وصلاتك في مسجد قومك خير من صلاتك في مسجدي « قال : فأمرت فبنى لها مسجد في أقصى بيت من بيوتها » ، فكانت والله تصلي فيه حتى لقيت الله تعالى . ويجوز للمرأة شهود جماعة الرجال بشرط أن لا تؤذي أحداً من الرجال بظهور زينة ولا ريح طيب . كما ثبت في الصحيح : « لا تمنعوا إماء الله مساجد الله » ، وفي رواية : « وليخرجن وهن تفلات » أي لا ريح لهن ، وقد ثبت في « صحيح مسلم » عن زينب امرأة عبد الله بن مسعود قالت : قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا شهدت إحداكن المسجد فلا تمس طيباً » ، وفي « الصحيحين » عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان نساء المؤمنين يشهدن الفجر مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم يرجعن متلفعات بمروطهن ما يعرفن من الغلس ، وفي « الصحيحين » عنها أيضاً أنها قالت : لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد كما منعت نساء بني إسرائيل .
وقوله تعالى : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } ، كقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله } [ المنافقون : 9 ] الآية ، يقول تعالى : لا تشغلهم الدنيا وزخرفها وزينتها وملاذ بيعها وربحها عن ذكر ربهم ، لأن الذي عنده خير لهم وأنفع مما بأيديهم ، ولهذا قال تعالى : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله وَإِقَامِ الصلاة وَإِيتَآءِ الزكاة } أي يقدمون طاعته ومراده ومحبته على مرادهم ومحبتهم ، روى عمرو بن دينار : أن ابن عمر رضي الله عنهما كان في السوق فأقيمت الصلاة ، فأغلقوا حوانيتهم ودخلوا المسجد ، فقال ابن عمر : فيهم نزلت : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } ، وقال ابن أبي حاتم قال أبو الدرداء رضي الله عنه : إني قمت على هذا الدرج أبايع عليه ، أربح كل يوم ثلثمائة دينار ، أشهد الصلاة في كل يوم في المسجد ، أما إني لا أقول إن ذلك ليس بحلال ، ولكني أحب أن أكون من الذين قال الله فيهم : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } .(1/1784)
وقال عمرو بن دينار الأعور : كنت مع سالم بن عبد الله ونحن نريد المسجد فمررنا بسوق المدينة ، وقد قاموا إلى الصلاة وخمروا متاعهم ، فنظر سالم إلى أمتعتهم ليس فيها أحد ، فتلا سالم هذه الآية : { رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } ثم قال : هم هؤلاء؛ وقال الضحاك : لا تلهيهم التجارة والبيع أن يأتوا الصلاة في وقتها ، وقال مطر الوراق : كانوا يبيعون ويشترون ولكن كان أحدهم إذا سمع النداء وميزانه في يده خفضه وأقبل إلى الصلاة ، وقال ابن عباس { لاَّ تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله } يقول : عن الصلاة المكتوبة ، وقال السدي : عن الصلاة في جماعة ، وقال مقاتل بن حيان : لا يلهيهم ذلك عن حضور الصلاة وأن يقيموها كما أمرهم الله ، وأن يحافظوا على مواقيتها وما استحفظهم الله فيها .
وقوله تعالى : { يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار } أي يوم القيامة الذي تتقلب فيه القلوب والأبصار : أي من شدة الفزع وعظمة الأهوال ، كقوله : { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } [ إبراهيم : 42 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً } [ الإنسان : 10 ] ، وقوله تعالى هاهنا : { لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ } أي هؤلاء من الذين يتقبل حسناتهم ويتجاوز عن سيئاتهم . وقوله : { وَيَزِيدَهُمْ مِّن فَضْلِهِ } أي يتقبل منهم الحسن ويضاعفه لهم كما قال تعالى : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } [ الأنعام : 160 ] الآية ، وقال : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 242 ] الآية ، وقال : { والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } [ البقرة : 261 ] ، وقال هاهنا : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } ، وعن ابن مسعود أنه جيء بلبن فعرضه على جلسائه واحداً واحداً فكلهم لم يشربه لأنه كان صائماً ، فتناوله ابن مسعود فشربه لأنه كان مفطراً ، ثم تلا قوله : { يَخَافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ القلوب والأبصار } ، وفي الحديث : « إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ، جاء مناد فنادى بصوت يسمع الخلائق : سيعلم أهل الجمع من أولى بالكرم ، الذين لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله ، فيقومون وهم قليل ، ثم يحاسب سائر الخلائق » وروى الطبراني عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدَهُم مِّن فَضْلِهِ } [ فاطر : 30 ] قال : أجورهم يدخلم الجنة ، ويزيدهم من فضله الشفاعة لمن وجبت له الشفاعة لمن صنع لهم المعروف في الدنيا .(1/1785)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئًا وَوَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (39) أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِنْ نُورٍ (40)
هذان مثلان ضربهما الله تعالى لنوعي الكفار ، فأما الأول من هذين المثلين فهو للكفار الدعاة إلى كفرهم الذين يحسبون أنهم على شيء من الأعمال والاعتقادات ، وليسوا في نفس الأمر على شيء ، فمثلهم في ذلك كالسراب الذي يرى في القيعان من الأرض من بعد كأنه بحر طام ، والقيعة جمع قاع كجار وجيرة ، وهي الأرض المستوية المتسعة المنبسطة وفيه يكون السراب ، يرى كأنه ماء بين السماء والأرض ، فإذا رأى السراب من هو محتاج إلى الماء يحسبه ماء قصده ليشرب منه ، فلما انتهى إليه { لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } ، فكذلك الكافر ، يحسب أنه قد عمل عملاً وأنه قد حصل شيئاً ، فإذا وافى الله يوم القيامة وحاسبه عليها ونوقش على أفعاله لم يجد له شيئاً بالكلية ، كما قال تعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] ، وقال هاهنا : { وَوَجَدَ الله عِندَهُ فَوَفَّاهُ حِسَابَهُ والله سَرِيعُ الحساب } ، وفي « الصحيحين » : « أنه يقال يوم القيامة لليهود ما كنتم تعبدون؟ فيقولون : كنا نعبد عزير ابن الله ، فيقال : كذبتم ما اتخذ الله من ولد ماذا تبغون؟ فيقولون : يا رب عطشنا فاسقنا ، فيقال : ألا ترون؟ فتمثل لهم النار كأنها سراب يحطم بعضها بعضاً فينطلقون فيتهافتون فيها » وهذا المثال مثال لذوي الجهل المركب . فأما أصحاب الجهل البسيط ، وهم الأغشام المقلدون لأئمة الكفر الصم البكم الذين لا يعقلون فمثلهم كما قال تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } قال قتادة : { لُّجِّيٍّ } هو العميق ، { يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا } أي لم يقارب رؤيتها من شدة الظلام ، فهذا مثل قلب الكافر الجاهل البسيط المقلد الذي لا يعرف حال من يقوده ، ولا يدري أين يذهب ، بل كما يقال في المثل للجاهل : أين تذهب؟ قال : معهم ، قيل : فإلى أين تذهبون؟ قال . لا أدري . وقال ابن عباس رضي الله عنهما { يَغْشَاهُ مَوْجٌ } يعني بذلك الغشاوة التي على القلب والسمع والبصر ، وهي كقوله : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } [ البقرة : 7 ] الآية . وكقوله : { وَخَتَمَ على سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ على بَصَرِهِ غِشَاوَةً } [ الجاثية : 23 ] فالكافر يتقلب في خمسة من الظلم : فكلامه ظلمة ، وعمله ظلمة ، ومدخله ظلمة ، ومخرجه ظلمة ومصيره يوم القيامة إلى الظلمات إلى النار ، وقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُور } أي من لم يهده الله فهو هالك جاهل بائر كافر ، كقوله : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } [ الأعراف : 186 ] وهذا في مقابلة ما قال في مثل المؤمنين { يَهْدِي الله لِنُورِهِ مَن يَشَآءُ } [ النور : 35 ] ، فنسأل الله العظيم أن يجعل في قلوبنا نوراً ، وعن أيماننا نوراً ، وعن شمائلنا نوراً ، وأن يعظم لنا نوراً .(1/1786)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلَاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (41) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42)
يخبر تعالى أنه يسبح له من في السماوات والأرض أي من الملائكة والأناسي والجان والحيوان حتى الجماد ، كما قال تعالى : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ } [ فصلت : 44 ] الآية . وقوله تعالى : { والطير صَآفَّاتٍ } أي في حال طيرانها ، تسبح ربها وتعبده بتسبيح ألهمها وأرشدها إليه وهو يعلم ما هي فاعلة ، ولهذا قال تعالى : { كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاَتَهُ وَتَسْبِيحَهُ } أي كل قد أرشده إلى طريقته ومسلكه في عبادة الله عزَّ وجلَّ ، ثم أخبر أنه عالم بجميع ذلك لا يخفى عليه من ذلك شيء ، ولهذا قال تعالى : { والله عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } ، ثم أخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض فهو الحاكم المتصرف الإله المعبود الذي لا تنبغي العبادة إلاّ له ولا معقب لحكمه ، { وإلى الله المصير } : أي يوم القيامة فيحكم فيه بما يشاء { لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ } [ النجم : 31 ] الآية ، فهو الخالق المالك ، له الحمد في الأولى والآخرة .(1/1787)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحَابًا ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَامًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ جِبَالٍ فِيهَا مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشَاءُ يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصَارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (44)
يذكر تعالى أنه يسوق السحاب بقدرته أول ما ينشئها وهي ضعيفة وهو الإزجاء ، { ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ } أي يجمعه بعد تفرقه ، { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } أي متراكماً أي يركب بعضه بعضاً ، { فَتَرَى الودق } أي المطر ، { يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } أي من خلله ، وقوله : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مِن جِبَالٍ فِيهَا مِن بَرَدٍ } قال بعض النحاة : { مِنَ } الأولى لابتداء الغاية ، والثانية للتبعيض ، والثالثة لبيان الجنس ، ومعناه أن في السماء جبال برد ينزل الله منها البرد ، وأما من جعل الجبال هاهنا كناية عن السحاب فإن « من » الثانية عنده لابتداء الغاية لكنها بدل من الاولى والله أعلم ، وقوله تعالى : { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } يحتمل أن يكون المراد بقوله { فَيُصِيبُ بِهِ } : أي بما ينزل من السماء من نوعي المطر والبرد ، فيكون قوله : { فَيُصِيبُ بِهِ مَن يَشَآءُ } رحمة لهم { وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } أي يؤخر عنهم الغيث ، ويحتمل أن يكون المراد بقوله { فَيُصِيبُ بِهِ } أي بالبرد نقمة على من يشاء لما فيه من إتلاف زروعهم وأشجارهم ، { وَيَصْرِفُهُ عَن مَّن يَشَآءُ } رحمة بهم ، وقوله : { يَكَادُ سَنَا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بالأبصار } أي يكاد ضوء برقه من شدته يخطف الأبصار إذا اتبعته وتراءته ، وقوله تعالى : { يُقَلِّبُ الله الليل والنهار } أي يتصرف فيهما فيأخذ من طول هذا في قصر هذا ، حتى يعتدلا ، فهو المتصرف في ذلك بأمره وقهره وعزته وعلمه ، { إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } أي لدليلاً على عظمته تعالى .(1/1788)
وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (45)
يذكر تعالى قدرته التامة وسلطانه العظيم في خلقه أنواع المخلوقات ، على اختلاف أشكالها وألوانها وحركاتها وسكناتها من ماء واحد ، { فَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على بَطْنِهِ } كالحية وما شاكلها ، { وَمِنهُمْ مَّن يَمْشِي على رِجْلَيْنِ } كالإنسان والطير ، { وَمِنْهُمْ مَّن يَمْشِي على أَرْبَعٍ } كالأنعام وسائر الحيوانات ، ولهذا قال : { يَخْلُقُ الله مَا يَشَآءُ } أي بقدرته ، لأنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ولهذا قال : { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .(1/1789)
لَقَدْ أَنْزَلْنَا آيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)
يقرر تعالى أنه أنزل في هذا القرآن من الحكم والأمثال البينة المحكمة كثيراً جداً ، وأنه يرشد إلى تفهمها وتعقلها أولي الألباب والبصائر والنهى ، ولهذا قال : { والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .(1/1790)
وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَإِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَإِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَفِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتَابُوا أَمْ يَخَافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَرَسُولُهُ بَلْ أُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50) إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَخْشَ اللَّهَ وَيَتَّقْهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (52)
يخبر تعالى عن صفات المنافقين الذين يظهرون خلاف ما يبطنون ، يقولون قولاً بألسنتهم { آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا ثُمَّ يتولى فَرِيقٌ مِّنْهُمْ مِّن بَعْدِ ذلك } أي يخالفون أقوالهم بأعمالهم فيقولون ما لا يفعلون ، ولهذا قال تعالى : { وَمَآ أولئك بالمؤمنين } ، وقوله تعالى : { وَإِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ } الآية ، أي إذا طلبوا إلى اتباع الهدى فيما أنزل الله على رسوله أعرضوا عنه واستكبروا في أنفسهم عن اتباعه ، وهذه كقوله تعالى : { رَأَيْتَ المنافقين يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } [ النساء : 61 ] ، وفي الطبراني عن سمرة مرفوعاً : « من دعي إلى سلطان فلم يجب فهو ظالم لا حق له » وقوله تعالى : { وَإِن يَكُنْ لَّهُمُ الحق يأتوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ } أي وإذا كانت الحكومة لهم لا عليهم جاءوا سامعين مطيعين وهو معنى قوله { مُذْعِنِينَ } وإذا كانت الحكومة عليه أعرض ودعا إلى غير الحق ، وأحب أن يتحاكم إلى غير النبي صلى الله عليه وسلم ليروج باطله ، فإذعانه أولاً لم يكن عن اعتقاد منه إن ذلك هو الحق ، بل لأنه موافق لهواه ، ولهذا لما خالف الحق قصده عدل عنه إلى غيره ، ولهذا قال تعالى : { أَفِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ } الآية ، يعني لا يخرج أمرهم عن أن يكون في القلوب مرض لازم لها ، أو قد عرض لها شك في الدين ، أو يخافون أن يجور الله ورسوله عليهم في الحكم ، وأياً ما كان فهو كفر محض والله عليم بكل منهم ، وما هو منطو عليه من هذه الصفات ، وقوله تعالى : { بَلْ أولئك هُمُ الظالمون } أي بل هم الظالمون الفاجرون ، والله ورسوله مبرآن مما يظنون ويتوهمون من الحيف والجور ، تعالى الله ورسوله عن ذلك .
قال الحسن : كان الرجل إذا كان بينه وبين الرجل منازعة ، فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو محق أذعن ، وعلم أن النبي صلى الله عليه وسلم سيقضي له بالحق ، وإذا أراد أن يظلم فدعي إلى النبي صلى الله عليه وسلم أعرض ، وقال : انطلق إلى فلان ، فأنزل الله هذه الآية ، ثم أخبر تعالى عن صفة المؤمنين المستجيبين لله ولرسوله الذين لا يبغون ديناً سوى كتاب الله وسنة رسوله ، فقال : { إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ المؤمنين إِذَا دعوا إِلَى الله وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَن يَقُولُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي سمعاً وطاعة ، ولهذا وصفهم تعالى بالفلاح وهو نيل المطلوب والسلامة من المرهوب ، فقال تعالى : { وأولئك هُمُ المفلحون } ، وقال قتادة : ذكر لنا أن أبا الدرداء قال : لا إسلام إلاّ بطاعة الله ، ولا خير إلاّ في جماعة ، والنصيحة لله ولرسوله وللخليفة وللمؤمنين عامة ، قال : وقد ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يقول : عروة الإسلام شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وإقام الصلاة ، وإيتاء الزكاة ، والطاعة لمن ولاه الله أمر المسلمين . والأحاديث والآثار في وجوب الطاعة لكتاب الله وسنّة رسوله وللخلفاء الراشدين والأئمة إذا أمروا بطاعة الله أكثر من أن تحصر في هذا المكان ، وقوله : { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } قال قتادة : فيما أمراه به وترك ما نهياه عنه { وَيَخْشَ الله } فيما مضى من ذنوبه { وَيَتَّقْهِ } فيما يستقبل ، وقوله { فأولئك هُمُ الفآئزون } يعني الذين فازوا بكل خير وأمنوا من كل شر في الدنيا والآخرة .(1/1791)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لَا تُقْسِمُوا طَاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (54)
يقول تعالى مخبراً عن أهل النفاق الذين كانوا يحلفون للرسول صلى الله عليه وسلم لئن أمرتهم بالخروج في الغزو ليخرجن ، قال الله تعالى : { قُل لاَّ تُقْسِمُواْ } أي لا تحلفوا ، وقوله : { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } قيل : معناه طاعتكم طاعة معروفة ، أي قد علم طاعتكم إنما هي قول لا فعل معه ، وكلما حلفتم كذبتم ، كما قال تعالى : { يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ } [ التوبة : 96 ] الآية . وقال تعالى : { اتخذوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً } [ المجادلة : 16 ] الآية ، فهم من سجيتهم الكذب حتى فيما يختارونه ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين نَافَقُواْ يَقُولُونَ لإِخْوَانِهِمُ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَلاَ نُطِيعُ فيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَإِن قُوتِلْتُمْ لَنَنصُرَنَّكُمْ والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الحشر : 11 ] ، وقيل المعنى { طَاعَةٌ مَّعْرُوفَةٌ } أي ليكن أمركم طاعة معروفة ، أي بالمعروف من غير حلف ولا أقسام ، كما يطيع الله ورسوله المؤمنون بغير حلف ، فكونوا أنتم مثلهم { إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي هو خبير بكم وبمن يطيع ممن يعصي ، فالحلف وإظهار الطاعة وإن راج على المخلوق فالخالق تعالى يعلم السر وأخفى ، لا يروج عليه شيء من التدليس ، بل هو خبير بضمائر عباده وإن أظهروا خلافها . ثم قال تعالى : { قُلْ أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول } أي اتبعوا كتاب الله وسنّة رسوله ، وقوله تعالى : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي تتولوا عنه وتتركوا ما جاءكم به { فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ } أي إبلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، { وَعَلَيْكُمْ مَّا حُمِّلْتُمْ } أي بقبول ذلك وتعظيمه والقيام بمقتضاه ، { وَإِن تُطِيعُوهُ تَهْتَدُواْ } وذلك لأنه يدعو إلى صراط مستقيم { صِرَاطِ الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ الشورى : 53 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين } ، كقوله تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } [ الرعد : 20 ] .(1/1792)
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
هذا وعد من الله تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه بأنه سيجعل أمته خلفاء الأرض ، أي أئمة الناس والولاة عليهم ، وبهم تصلح البلاد ، وتخضع لهم العباد ، وليبدلنهم من بعد خوفهم من الناس أمناً وحكماً فيهم ، وقد فعله تبارك وتعالى وله الحمد والمنة ، فإنه صلى الله عليه وسلم لم يمت حتى فتح الله عليه مكة وخيبر والبحرين وسائر جزيرة العرب وأرض اليمن بكمالها ، وأخذ الجزية من مجوس هجر ، ومن بعض أطراف الشام ، وهاداه هرقل ملك الروم وصاحب مصر المقوقس ، وملوك عمان ، والنجاشي ملك الحبشة ، ثم قام بالأمر بعده خليفته أبو بكر الصديق ، فبعث جيوش الإسلام إلى بلاد فارس صحبة ( خالد بن الوليد ) رضي الله عنه ، ففتحوا طرفاً منها ، وقتلوا خلقاً من أهلها ، وجيشاً آخر صحبة ( أبي عبيدة ) رضي الله عنه إلى أرض الشام ، وثالثاً صحبة ( عمرو بن العاص ) رضي الله عنه إلى بلاد مصر ، ففتح الله للجيش الشامي في أيامه بصرى ودمشق ، وتوفاه الله عزَّ وجلَّ واختار له ما عنده من الكرامة ، ومنَّ على أهل الإسلام بأن ألهم الصديق أن يستخلف عمر الفاروق ، فقام بالأمر بعده قياماً تاماً لم يدر الفلك بعد الأنبياء على مثله في قوة سيرته وكمال عدله ، وتم في أيامه فتح البلاد الشامية بكمالها وديار مصر إلى آخرها وأكثر إقليم فارس ، وكسر كسرى ، وأهانه غاية الهوان ، وكسر قيصر وانتزع يده عن بلاد الشام وانحدر إلى الفلسطينية ، وأنفق أموالهما في سبيل الله ، كما أكبر بذلك ووعد به رسول الله عليه من ربه أتم سلام وأزكى صلاة . ثم لما كانت الدولة العثمانية امتدت الممالك الإسلامية إلى أقصى مشارق الأرض ومغاربها ، ففتحت بلاد المغرب إلى أقصى ما هنالك الأندلس وقبرص ، وبلاد القيروان وبلاد سبتة مما يلي البحر المحيط ، ومن ناحية المشرق إلى أقصى بلاد الصين ، وقتل كسرى وباد ملكه بالكلية ، وفتحت مدائن العراق وخراسان والأهواز ، وقتل المسلمون من الترك مقتلة عظيمة جداً ، وخذل الله ملكهم الأعظم خاقان ، وجبي الخراج من المشارق والمغارب إلى حضرة أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه ، وذلك ببركة تلاوته ودراسته وجمعه الأمة على حفظ القرآن؛ ولهذا ثبت في « الصحيح » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله زوى لي الأرض فرأيت مشارقها ومغاربها ، وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها » فها نحن نتقلب فيما وعدنا الله ورسوله ، وصدق الله ورسوله ، فنسأل الله الإيمان به وبرسوله ، والقيام بشكره على الوجه الذي يرضيه عنا .
روي الإمام مسلم في « صحيحه » « عن جابر بن سمرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً « ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عني ، فسألت أبي ماذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال ، قال : » كلهم من قريش «(1/1793)
، وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا بد من وجود اثني عشر خليفة عادلاً ، وليسوا هم بأئمة الشيعة الاثني عشر ، فإن كثيراً من أولئك لم يكن لهم من الأمر شيء؛ فأما هؤلاء فإنهم يكونون من قريش يلون فيعدلون ، وقد وقعت البشارة بهم في الكتب المتقدمة ، ثم لا يشترط أن يكونوا متتابعين ، بل يكون وجودهم في الأمة متتابعاً ومتفرقاً؛ وقد وجد منهم أربعة على الولاء وهم أبو بكر ثم عمر ثم عثمان ثم علي رضي الله عنهم ، ثم كانت بعدهم فترة؛ ثم وجد منهم من شاء الله ، ثم قد يوجد منهم من بقي في الوقت الذي يعلمه الله تعالى؛ ومنهم المهدي الذي اسمه يطابق اسم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنيته كنيته ، يملأ الأرض عدلاً وقسطاً ، كما ملئت جوراً وظلماً ، وقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الخلافة بعدي ثلاثون سنة ، ثم تكون ملكاً عضوضاً » وقال أبو العالية في قوله : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض } الآية ، قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بمكة نحواً من عشر سنين يدعون إلى الله وحده وإلى عبادته وحده لا شريك له سراً ، وهم خائفون لا يؤمرون بالقتال ، حتى أمروا بالهجرة إلى المدينة فقدموها ، فأمرهم الله بالقتال ، فكانوا بها خائفين يمسون في سلاح ويصبحون في السلاح ، فصبروا على ذلك ما شاء الله ، ثم إن رجلاً من الصحابة قال : يا رسول الله أبد الدهر نحن خائفون هكذا؟ أما يأتي علينا يوم نأمن فيه ونضع عنا السلاح؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لن تصبروا إلاّ يسيراً حتى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبياً ليست فيه حديدة » وأنزل الله هذه الآية ، فأظهر الله نبيه على جزيرة العرب فأمنوا ووضعوا السلاح ، ثم إن الله تعالى قبض نبيه صلى الله عليه وسلم فكانوا كذلك آمنين في إمارة أبي بكر وعمر وعثمان ، حتى وقعوا فيما وقعوا فيه ، فأدخل عليهم الخوف ، فاتخذوا الحجزة والشرط وغيَّروا فغيَّر بهم ، وقال البراء بن عازب : نزلت هذه الآية ونحن في خوف شديد ، وهذه الآية الكريمة ، كقوله تعالى : { واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض } [ الأنفال : 26 ] الآية ، وقوله تعالى : { كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ } كما قال تعالى عن موسى عليه السلام أنه قال لقومه : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض } [ الأعراف : 129 ] الآية ، وقال تعالى : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض }(1/1794)
[ القصص : 5 ] الآيتين .
وقوله تعالى : { وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى } الآية ، كما « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعدي بن حاتم حين وقد عليه : » أتعرف الحيرة؟ « قال : لم أعرفها ، ولكن قد سمعت بها ، قال : فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة ، حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز » قلت : كسرى بن هرمز؟ قال : « نعم كسرى بن هرمز ، وليبذلنّ المال حتى لا يقبله أحد » قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت في غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها ، وقال الإمام أحمد عن أبي بن كعب قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بشِّرْ هذه الأمة بالسنا والرفعة والدين والنصر والتمكين في الأرض ، فمن عمل منهم عمل الآخرة للدين لم يكن له في الآخرة نصيب » ، وقوله تعالى : { يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } ، وفي الحديث : « يا معاذ بن جبل » قلت : لبيك يا رسول الله وسعديك ، قال : هل تدري ما حق الله على العباد؟ « قلت : الله ورسوله أعلم ، قال : » حق الله على العباد أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً « ، وقوله تعالى : { وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك فأولئك هُمُ الفاسقون } أي فمن خرج عن طاعتي بعد ذلك ، فقد خرج عن أمر ربه وكفى بذلك ذنباً عظيماً ، فالصحابة رضي الله عنهم لما كانوا أقوم الناس بأوامر الله عزَّ وجلَّ ، وأطوعهم لله كان نصرهم بحسبهم ، أظهروا كلمة الله في المشارق والمغارب ، وأيدهم تأييداً عظيماً ، وحكموا سائر العباد والبلاد ، ولما قصّر الناس بعدهم في بعض الأوامر نقص ظهورهم بحسبهم ، ولكن قد ثبت في » الصحيحين « من غير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : » لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم إلى يوم القيامة « - وفي رواية » حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك « .(1/1795)
وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَلَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بإقامة الصلاة ، وهي عبادة الله وحده لا شريك له ، وإيتاء الزكاة وهي الإحسان إلى المخلوقين ضعفائهم وفقرائهم ، وأن يكونوا في ذلك مطيعين لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما به أمرهم ، وترك ما عنه زجرهم ، لعل الله يرحمهم بذلك ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله } [ التوبة : 71 ] ، وقوله تعالى : { لاَ تَحْسَبَنَّ } أي لا تظن يا محمد أن { الذين كَفَرُواْ } أي خالفوك وكذبوك { مُعْجِزِينَ فِي الأرض } أي لا يعجزون الله بل الله قادر عليهم ، وسيعذبهم على ذلك أشد العذاب ولهذا قال تعالى { وَمَأْوَاهُمُ } أي في الدار الآخرة { النار وَلَبِئْسَ المصير } أي بئس المآل مآل الكافرين ، وبئس القرار وبئس المهاد .(1/1796)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَمِنْ بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاءِ ثَلَاثُ عَوْرَاتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلَا عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلَى بَعْضٍ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَإِذَا بَلَغَ الْأَطْفَالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَالْقَوَاعِدُ مِنَ النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا يَرْجُونَ نِكَاحًا فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ وَأَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)
هذه الآيات الكريمة اشتملت على استئذان الأقارب بعضهم على بعض ، وما تقدم في أول السورة فهو استئذان الأجانب بعضهم على بعض ، فأمر الله تعالى المؤمنين أن يستأذنهم خدمهم مما ملكت أيمانهم وأطفالهم الذين لم يبلغوا الحلم منهم في ثلاثة أحوال : ( الأول ) من قبل صلاة الغداة لأن الناس إذ ذاك يكونون نياماً في فرشهم ، { وَحِينَ تَضَعُونَ ثيابكم مِّنَ الظهيرة } أي في وقت القيلولة ، لأن الإنسان قد يضع ثيابه في تلك الحال مع أهله ، { وَمِن بَعْدِ صلاوة العشآء } ، لأنه وقت النوم فيؤمر الخدم والأطفال أن لا يهجموا على أهل البيت في هذه الأحوال ، لما يخشى من أن يكون الرجل على أهله أو نحو ذلك من الأعمال ، ولهذا قال : { ثَلاَثُ عَوْرَاتٍ لَّكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَلاَ عَلَيْهِمْ جُنَاحٌ بَعْدَهُنَّ } أي إذا دخلوا في حال غير هذه الأحوال ، فلا جناح عليكم في تمكنيكم إياهم ، ولا عليهم إن رأوا شيئاً في غير تلك الأحوال ، ولأنهم طوافون عليكم أي في الخدمة وغير ذلك ، ولهذا روى أهل السنن أن النبي صلى الله عليه وسلم قال في الهرة : « إنها ليست بنجسة إنها من الطوافين عليكم - أو الطوافات- » عن ابن عباس أن رجلين سألاه عن الاستئذان في ثلاث عورات التي أمر الله بها في القرآن؟ فقال ابن عباس : إن الله ستير يحب الستر ، كان الناس ليس لهم ستور على أبوابهم ، ولا حجال في بيوتهم ، فربما فاجأ الرجل خادمه أو ولده أو يتيمه في حجره وهو على أهله ، فأمرهم الله أن يستأذنوا في تلك العورات التي سمى الله ، ثم جاء الله بعد بالستور ، فبسط الله عليهم الرزق فاتخذوا الستور واتخذوا الحجال ، فرأى الناس أن ذلك قد كفاهم من الاستئذان الذي أمروا به وقال السدي : كان أناس من الصحابة رضي الله عنهم يحبون أن يوقعوا نساءهم في هذه الساعات ليغتسلوا ثم يخرجوا إلى الصلاة ، فأمرهم الله أن يأمروا المملوكين والغلمان أن لا يدخلوا عليهم في تلك الساعات إلاّ بإذن ، وقال مقاتل بن حيان : بلغنا والله أعلم أن رجلاً من الأنصار وامرأته أسماء بنت مرثد صنعا للنبي صلى الله عليه وسلم طعاماً ، فجعل الناس يدخلون بغير إذن ، فقالت أسماء : يا رسول الله ما أقبح هذا ، إنه ليدخل على المرأة زوجها وهما في ثوب واحد غلامهما بغير إذن ، فأنزل الله في ذلك : { ياأيها الذين ءَامَنُواْ لِيَسْتَأْذِنكُمُ الذين مَلَكَتْ أيمانكم } إلى آخرها ، ومما يدل على أنها محكمة لم تنسخ قوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الأيات والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } ، ثم قال تعالى : { وَإِذَا بَلَغَ الأطفال مِنكُمُ الحلم فَلْيَسْتَأْذِنُواْ كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني إذا بلغ الأطفال الذين إنما كانوا يستأذنون في العورات الثلاث إذا بلغوا الحلم ، وجب عليهم أن يستأذنوا على كل حال ، وإن لم يكن في حال الأحوال الثلاث .(1/1797)
قال الأوزاعي : إذا كان الغلام رباعياً فإنه يستأذن في العورات الثلاث على أبويه ، فإذا بلغ الحلم فليستأذن على كل حال ، وقال في قوله : { كَمَا استأذن الذين مِن قَبْلِهِمْ } يعني كما استأذن الكبار من ولد الرجل وأقاربه ، وقوله : { والقواعد مِنَ النسآء } هن اللواتي انقطع عنهن الحيض ويئسن من الولد { اللاتي لاَ يَرْجُونَ نِكَاحاً } أي لم يبق لهن تشوف إلى التزوج ، { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } أي ليس عليهن من الحجر في التستر كما على غيرهن من النساء ، قال ابن مسعود في قوله : { فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُنَاحٌ أَن يَضَعْنَ ثِيَابَهُنَّ } قال : الجلباب أو الرداء ، وقال أبو صالح : تضع الجلباب وتقوم بين يدي الرجل في الدرع والخمار ، وقال سعيد بن جبير في الآية { غَيْرَ مُتَبَرِّجَاتٍ بِزِينَةٍ } يقول : لا يتبرجن بوضع الجلباب ليرى ما عليهن من الزينة . عن أم الضياء أنها قالت : دخلت على عائشة رضي الله عنها فقلت : يا أم المؤمنين ما تقولين في الخضاب والنفاض والصباغ والقرطين والخلخال وخاتم الذهب وثياب الرقاق؟ فقالت : يا معشر النساء قصتكن كلها واحدة ، أحل الله لكنّ الزينة غير متبرجات ، أي لا يحل لكن أن يروا منكن محرماً . وقوله : { وَأَن يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَّهُنَّ } أي وترك وضعهن لثيابهن وإن كان جائزاً ، خير وأفضل لهن ، والله سميع عليم .(1/1798)
لَيْسَ عَلَى الْأَعْمَى حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)
اختلف المفسرون رحمهم الله في المعنى الذي رفع لأجله الحرج عن الأعمى والأعرج والمريض هاهنا كالتي في سورة الفتح وتلك في الجهاد لا محالة ، أي إنهم لا إثم عليهم في ترك الجهاد لضعفهم وعجزهم ، وكما قال تعالى في سورة براءة : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الآية : 91 ] وقيل : المراد هاهنا أنهم كانوا يتحرجون من الأكل مع الأعمى لأنه لا يرى الطعام وما فيه من الطيبات ، فربما سبقه غيره إلى ذلك ، ولا مع الأعرج لأنه لا يتمكن من الجلوس فيفتات عليه جليسه ، والمريض لا يستوفي من الطعام كغيره ، فكرهوا أن يؤاكلوهم لئلا يظلموهم ، فأنزل الله هذه الآية رخصة في ذلك ، وقال الضحاك : كانوا قبل البعثة يتحرجون من الأكل مع هؤلاء تقذراً وتعززاً ولئلا يتفضلوا عليهم فأنزل الله هذه الآية . وقال السدي : كان الرجل يدخل بيت أبيه أو أخيه أو ابنه فتتحفه المرأة بشيء من الطعام ، فلا يأكل من أجل أن رب البيت ليس ثمّ ، فقال الله تعالى : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } الآية . وقوله تعالى : { وَلاَ على أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُواْ مِن بُيُوتِكُمْ } إنما ذكر هذا وهذا معلوم ليعطف عليه غيره في اللفظ ، وليساوي به ما بعده في الحكم ، وتضمن هذا بيوت الأبناء لأنه لم ينص عليهم ، ولهذا استدل بهذا من ذهب إلى أن مال الولد بمنزلة مال أبيه ، وقد جاء في المسند والسنن من غير وجه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أنت ومالك لأبيك » .
وقوله تعالى : { أَوْ بُيُوتِ آبَآئِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ } إلى قوله : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } هذا ظاهر ، وقد يستدل به من يوجب نفقة الأقارب بعضهم على بعض ، كما هو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد بن حنبل في المشهور عنهما ، وأما قوله : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } فقال سعيد بن جبير والسدي : هو خاجم الرجل من عبد وقهرمان ، فلا بأس أن يأكل مما استودعه من الطعام بالمعروف . وقال الزهري عن عائشة رضي الله عنها قالت : كان المسلمون يذهبون مع النفير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيدفعون مفاتحهم إلى ضمنائهم ، ويقولون : قد أحللنا لكم أن تأكلوا ما احتجتم إليه ، فكانوا يقولون : إنه لا يحل لنا أن نأكل ، إنهم أذنوا لنا عن غير طيب أنفسهم ، وإنما نحن أمناء ، فأنزل الله : { أَوْ مَا مَلَكْتُمْ مَّفَاتِحهُ } ، وقوله : { أَوْ صَدِيقِكُمْ } أي بيوت أصدقائكم وأصحابكم فلا جناح عليكم في الأكل منها إذا علمتم أن ذلك لا يشق عليهم ولا يكرهون ذلك ، وقال قتادة : إذا دخلت بيت صديقك فلا بأس أن تأكل بغير إذنه ، وقوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } قال ابن عباس : وذلك لما أنزل الله :(1/1799)
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } [ النساء : 29 ] ، قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل والطعام هو أفضل من الأموال ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد ، فكف الناس عن ذلك ، فأنزل الله : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } إلى قوله { أَوْ صَدِيقِكُمْ } ، وكانوا أيضاً يأنفون ويتحرجون أن يأكل الرجل الطعام وحده حتى يكون معه غيره فرخص الله لهم في ذلك ، فقال : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } ، وقال قتادة : كان هذا الحي من ( بني كنانة ) يرى أحدهم أن مخزاة عليه أن يأكل وحده في الجاهلية ، حتى إن كان الرجل ليسوق الذود الحفل وهو جائع حتى يجد من يؤاكله ويشاربه ، فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُواْ جَمِيعاً أَوْ أَشْتَاتاً } فهذه رخصة من الله تعالى في أن يأكل الرجل وحده ومع الجماعة ، وإن كان الأكل مع الجماعة أبرك وأفضل ، كما روي « أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا نأكل ولا نشبع ، قال : » لعلكم تأكلون متفرقين ، اجتمعوا على طعامكم واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه « وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : » كلوا جميعا ولا تفرقوا ، فإن البركة مع الجماعة « .
وقوله تعالى : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ } يعني فليسلم بعضكم على بعض ، وقال جابر بن عبد الله إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم تحية من عند الله طيبة مباركة ، قال ابن جريج : قلت لعطاء : أواجب إذا خرجت ثم دخلت أن أسلم عليهم؟ قال : لا ، ولا أثر وجوبه عن أحد ، ولكن هو أحب إليَّ ، وقال قتادة : إذا دخلت على أهلك فسلم عليهم ، وإذا دخلت بيتاً ليس فيه أحد فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ، فإنه كان يؤمر بذلك ، وحدثنا أن الملائكة ترد عليه ، وقال أنس بن مالك : أوصاني النبي صلى الله عليه وسلم بخمس خصال ، قال : » يا أنس أسبغ الوضوء يزد في عمرك ، وسلم على من لقيك من أمتي تكثر حسناتك ، وإذا دخلت - يعني بيتك - فسلم على أهلك يكثر خير بيتك ، وصل صلاة الضحى فإنها صلاة الأوَّابين قبلك ، يا أنس ارحم الصغير ، ووقر الكبير تكن من رفقائي يوم القيامة « وقوله : { تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } . عن ابن عباس أنه كان يقول : ما أخذت التشهد إلاّ من كتاب الله ، سمعت الله يقول : { فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُواْ على أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ الله مُبَارَكَةً طَيِّبَةً } فالتشهد في الصلاة : التحيات المباركات الصلوات الطيبات لله ، وقوله : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } لما ذكر تعالى ما في هذه السور الكريمة من الأحكام المحكمة والشرائع المتقنة المبرمة ، نبه تعالى عباده على أنه يبين لعباده الآيات بياناً شافياً ليتدبروها ويتعقلوها لعلهم يعقلون .(1/1800)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِذَا كَانُوا مَعَهُ عَلَى أَمْرٍ جَامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولَئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)
وهذا أيضاً أدب أرشده الله عباده المؤمنين ، فكما أمرهم بالاستئذان عند الدخول ، كذلك أمرهم بالاستئذان عند الانصراف ، لا سيما إذا كانوا في أمر جامع مع الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، من صلاة جمعة أو عيد أو جماعة أو اجتماع في مشورة ونحو ذلك ، أمرهم الله تعالى أن لا يتفرقوا عنه والحالة هذه إلاّ بعد استئذانه ومشاورته ، ثم أمر رسوله صلوات الله وسلامه عليه إذا استأذنه أحد منهم في ذلك أن يأذن له إن شاء الله ، ولهذا قال : { فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ واستغفر لَهُمُ } الآية ، وقد قال : « إذا انتهى أحدكم إلى المجلس فليسلم ، فإذا أراد أن يقوم فليسلم ، فليست الأولى بأحق من الآخرة » .(1/1801)
لَا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضًا قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِوَاذًا فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63)
قال ابن عباس : كانوا يقولون يا محمد ، يا أبا القاسم ، فنهاهم الله عزَّ وجلَّ عن ذلك إعظاماً لنبيه صلى الله عليه وسلم ، قال : فقولوا يا نبي الله ، يا رسول الله ، وقال قتادة : أمر الله أن يهاب نبيه صلى الله عليه وسلم وأن يبجل وأن يعظم وأن يسود ، وقال مقاتل في قوله : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } يقول : لا تسموه إذا دعوتموه يا محمد ، ولا تقولوا : يا ابن عبد الله ، ولكن شرفوه فقولوا : يا نبي الله ، يا رسول الله؛ وهذا كقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ ترفعوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النبي وَلاَ تَجْهَرُواْ لَهُ بالقول كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَن تَحْبَطَ أَعْمَالُكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تَشْعُرُونَ } [ الحجرات : 2 ] ، فهذا كله من باب الأدب في مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم والكلام معه عنده ، كما أمروا بتقديم الصدقة قبل مناجاته ، والقول الثاني في ذلك أن المعنى في : { لاَّ تَجْعَلُواْ دُعَآءَ الرسول بَيْنَكُمْ كَدُعَآءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً } أي لا تعتقدوا أن دعاءه على غيره كدعاء غيره ، فإن دعاءه مستجاب ، فاحذروا أن يدعو عليكم فتهلكوا ، حكاه ابن أبي حاتم عن ابن عباس والحسن البصري ، والأول أظهر ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً } قال مقاتل : هم المنافقون كان يثقل عليهم الحديث في يوم الجمعة ، فيلوذون ببعض أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، حتى يخرجوا من المسجد وكان إذا أراد أحدهم الخروج أشار بأصبعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فيأذن له من غير أن يتكلم الرجل ، وقال السدي : كانوا إذا كانوا معه في جماعة لاذ بعضهم ببعض حتى يتغيبوا عنه فلا يراهم ، وقال قتادة في قوله { قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً } يعني لواذاً عن نبي الله وعن كتابه ، وقال سفيان { قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً } قال : من الصف ، وقال مجاهد في الآية : { لِوَاذاً } خلافاً ، وقوله : { فَلْيَحْذَرِ الذين يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ } أي أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو سبيله منهجه وطريقته وسنته وشريعته ، كما ثبت في « الصحيحين » وغيرهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » ، أي فليحذر وليخش من خالف شريعة الرسول باطناً وظاهراً { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي في قلوبهم من كفر أو نفاق أو بدعة { أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي في الدنيا بقتل أو حد أو حبس و نحو ذلك ، كما روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً فلما أضاءت ما حولها جعل الفراش وهذه الدواب اللائي يقعن في النار يقعن فيها ، وجعل يحجزهن ويغلبنه فيقتحمن فيها ، قال : فذلك مثلي ومثلكم ، أنا آخذ بحجزكم عن النار ، هلم عن النار ، فتغلبوني وتتقحمون فيها » .(1/1802)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (64)
يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض ، وأنه عالم الغيب والشهادة وهو عالم بما العباد عاملون في سرهم وجهرهم فقال : { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } ، وقد للتحقيق ، كما قال قبلها { قَدْ يَعْلَمُ الله الذين يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذاً } [ النور : 63 ] ، وقال تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ الله المعوقين مِنكُمْ } [ الأحزاب : 18 ] الآية ، فكل هذه الآيات فيها تحقيق الفعل بقد ، فقوله تعالى : { قَدْ يَعْلَمُ مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ } أي هو عالم به مشاهد له لا يعزب عنه مثقال ذرة ، كما قال تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذلك ولا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ يونس : 61 ] ، وقال تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] أي هو شهيد على عباده بما هم فاعلون من خير وشر ، وقال تعالى : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } [ الرعد : 10 ] الآية . والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً . وقوله : { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ } أي ويوم يرجع الخلائق إلى الله يوم القيامة { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ } أي يخبرهم بما فعلوا في الدنيا من جليل وحقير وصغير وكبير ، كما قال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] ، وقال : { وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ ياويلتنا مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] ، ولهذا قال هاهنا : { وَيَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمُ } والحمد لله رب العالمين .(1/1803)
تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا (2)
يقول تعالى حامداً لنفسه الكريمة على ما نزله على رسوله الكريم من القرآن العظيم ، كما قال تعالى : { الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب } [ الكهف : 1 ] ، وقال هاهنا : { تَبَارَكَ } وهو تفاعل من البركة المستقرة الثابتة الدائمة ، { الذي نَزَّلَ الفرقان } نّزل فعّل من التكرر والتكثر ، كقوله : { والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ } [ النساء : 136 ] لأن الكتب المتقدمة كانت تنزل جملة واحدة ، والقرآن نزل منجماً مفرقاً مفصلاً آيات بعد آيات ، وأحكاماً بعد أحكام ، وسوراً بعد سور ، وهذا أشد وأبلغ وأشد اعتناء بمن أنزل عليه ، كما قال في هذه السورة : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } [ الفرقان : 32 ] ولهذا سماه هاهنا الفرقان لأنه يفرق بين الحق والباطل ، والهدى والضلال ، والغي والرشاد ، والحلال والحرام ، وقوله : { على عَبْدِهِ } هذه صفة مدح وثناء ، لأنه إضافه إلى عبوديته ، كما وصفه بها في أشرف أحواله وهي ليلة الإسراء فقال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [ الإسراء : 1 ] ، وكما وصفه بذلك في مقام الدعوة إليه { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ كَادُواْ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً } [ الجن : 19 ] ، وقوله : { لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } أي إنما خصه بهذا الكتاب المفصل العظيم المبين المحكم الذي { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] الذي جعله فرقاناً عظيماً ليخصه بالرسالة إلى من يستظل بالخضراء ويستقل على الغبراء ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « بعثت إلى الأحمر والأسود » ، وقال : « وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة » ، كما قال تعالى : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] الآية ، وهكذا قال هاهنا : { الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي المُلْكِ } ونزه نفسه عن الولد وعن الشريك ، ثم أخبر أنه { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً } أي كل شيء مما سواه مخلوق مربوب ، وهو خالق كل شيء وربه ، ومليكه وإلهه ، وكل شيء تحت قهره وتدبيره وتسخيره وتقديره .(1/1804)
وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا (3)
يخبر تعالى عن جهل المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ، الخالق لكل شيء المالك لأزمة الأمور الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ومع هذا عبدوا معه من الأصنام ما لا يقدر على خلق جناح بعوضة ، بل هم مخلوقون لا يملكون لأنفسهم ضراً ولا نفعاً فكيف يملكون لعابديهم؟ { وَلاَ يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَلاَ حَيَاةً وَلاَ نُشُوراً } أي ليس لهم من ذلك شيء بل ذلك كله مرجعه إلى الله عزَّ وجلَّ الذي هو يحيي ويميت ، وهو الذي يعيد الخلائق يوم القيامة أولهم وآخرهم ، { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] ، كقوله : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } [ القمر : 50 ] ، وقوله : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ } [ الصافات : 19 ] { إِن كَانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً وَاحِدَةً فَإِذَا هُمْ جَمِيعٌ لَّدَيْنَا مُحْضَرُونَ } [ يس : 53 ] فهو الله الذي لا إله غيره ولا رب سواه ولا تنبغي العبادة إلاّ له ، وهو الذي لا ولد له ولا والد ، ولا عديل ولا بديل ولا وزير ولا نظير بل هو الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .(1/1805)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا (4) وَقَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (6)
يقول تعالى مخبراً عن سخافة عقول الجهلة من الكفار في قولهم عن القرآن { إِنْ هذا إِلاَّ إِفْكٌ } أي كذب { افتراه } يعنون النبي صلى الله عليه وسلم { وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ } أي واستعان على جمعه بقوم آخرين ، فقال الله تعالى : { فَقَدْ جَآءُوا ظُلْماً وَزُوراً } أي فقد افتروا هم قولاً باطلاً وهم يعلمون أنه باطل ، ويعرفون كذب أنفسهم فيما زعموه ، { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها } يعنون كتب الأوائل أي استنسخها { فَهِيَ تملى عَلَيْهِ } أي تقرأ عليه { بُكْرَةً وَأَصِيلاً } أي أول النهار وآخره ، وهذا الكلام لسخافته وكذبه كل أحد يعلم بطلانه ، فإنه قد علم بالتواتر أن محمداً صلى الله عليه وسلم لم يكن يعاني شيئاً من الكتابة ، لا في أول عمره ولا في آخره ، وقد نشأ بين أظهرهم من أول مولده إلى أن بعثه الله نحواً من أربعين سنة ، وهم يعرفون مدخله ، ومخرجه ، وصدقه ونزاهته وبره وأمانته ، حتى إنهم كانوا يسمونه في صغره ، وإلى أن بعث : ( الأمين ) لما يعلمون من صدقه وبره ، فلما أكرمه الله بما أكرمه به ، نصبوا له العداو ، ورموه بهذه الأقوال التي يعلم كل عاقل براءته منها ، وحاروا فيما يقذفونه به ، فتارة من إفكهم يقولون ساحر ، وتارة يقولون شاعر ، وتارة يقولون مجنون ، وتارة يقولون كذاب ، وقال الله تعالى : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 48 ] . وقال تعالى في جواب ما عاندوا هاهنا وافتروا : { قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض } الآية : أي أنزل القرآن المشتمل على أخبار الأولين والآخرين { الذي يَعْلَمُ السر } ، أي الله الذي يعلم غيب السماوات والأرض ، ويعلم السرائر كعلمه بالظواهر ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } ، دعاء لهم إلى التوبة والإنابة ، وإخبار لهم بأن رحمته واسعة وأن حمله عظيم ، مع أن من تاب إليه تاب عليه ، فهؤلاء مع كذبهم وافترائهم وفجورهم وبهتانهم ، يدعوهم إلى التوبة والإقلاع عما هم فيه إلى الإسلام والهدى ، كما قال تعالى : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ المائدة : 74 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الذين فَتَنُواْ المؤمنين والمؤمنات ثُمَّ لَمْ يَتُوبُواْ فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الحريق } [ البروج : 10 ] . قال الحسن البصري : انظروا إلى هذا الكرم والجود ، قتلوا أولياءه وهو يدعوهم إلى التوبة والرحمة .(1/1806)
وَقَالُوا مَالِ هَذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ لَوْلَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيرًا (7) أَوْ يُلْقَى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا وَقَالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (9) تَبَارَكَ الَّذِي إِنْ شَاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ وَيَجْعَلْ لَكَ قُصُورًا (10) بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَأَعْتَدْنَا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيرًا (11) إِذَا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظًا وَزَفِيرًا (12) وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَانًا ضَيِّقًا مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُورًا (13) لَا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُورًا وَاحِدًا وَادْعُوا ثُبُورًا كَثِيرًا (14)
يخبر تعالى عن تعنت الكفار وعنادهم ، وتكذيبهم للحق بلا حجة ولا دليل منهم ، وإنما تعللوا بقولهم : { مَالِ هذا الرسول يَأْكُلُ الطعام } يعنون كما نأكله ، ويحتاج إليه كما نحتاج إليه { وَيَمْشِي فِي الأسواق } أي يتردد فيها وإليها طلباً للتكسب والتجارة { لولا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً } يقولون : هلا أنزل إليه ملك من عند الله فيكون له شاهداً على صدق ما يدعيه؟ وهذا كما قال فرعون : { فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ } [ الزخرف : 53 ] وكذلك قال هؤلاء على السواء تشابهت قلوبهم ، ولهذا قالوا { أَوْ يلقى إِلَيْهِ كَنْزٌ } أي علم كنز ينفق منه { أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْهَا } أي تسير معه حيث سار ، وهذا كله سهل يسير على الله ولكن له الحكمة في ترك ذلك ، وله الحجة البالغة ، { وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } ، قال الله تعالى : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ } أي جاءوا بما يقذفونك به ويكذبون به عليك ، من قولهم ساحر ، مجنون ، كذاب ، شاعر ، وكلها أقوال باطلة ، كل أحد ممن له أدنى فهم وعقل يعرف كذبهم وافتراءهم في ذلك ، ولهذا قال : { فَضَلُّواْ } عن طريق الهدى { فَلاَ يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً } ، وذلك أن كل من خرج عن الحق وطريق الهدى فإنه ضال حيثما توجه ، لأن الحق واحد ومنهجه متحد يصدق بعضه بعضاً؛ ثم قال تعالى مخبراً نبيه أنه إن شاء لآتاه خيراً مما يقولون في الدنيا وأفضل وأحسن ، فقال : { تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك } الآية قال مجاهد : يعني في الدنيا ، قال : وقريش يسمون كل بيت من حجارة قصراً ، كبيراً كان أو صغيراً . قال سفيان الثوري عن خيثمة قيل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن شئت أن نعطيك خزائن الأرض ومفاتيحها ما لم نعطه نبياً قبلك ، ولا نعطي أحداً من بعدك ، ولا ينقص ذلك مما لك عند الله . فقال : « اجمعوها لي في الآخرة » ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ في ذلك { تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك } الآية .
وقوله تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة } أي إنما يقول هؤلاء هكذا تكذيباً وعناداً ، لا أنهم يطلبون ذلك تبصراً واسترشاداً ، بل تكذيبهم بيوم القيامة يحملهم على قول ما يقولونه من هذه الأقوال ، { وَأَعْتَدْنَا } أي أرصدنا { لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً } أي عذاباً أليماً حاراً لا يطاق في نار جهنم ، وقوله : { إِذَا رَأَتْهُمْ } أي جهنم { مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } يعني في مقام المحشر ، فقال السدي : من مسيرة مائة عام { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } أي حنقاً عليهم ، كما قال تعالى : { إِذَآ أُلْقُواْ فِيهَا سَمِعُواْ لَهَا شَهِيقاً وَهِيَ تَفُورُ * تَكَادُ تَمَيَّزُ مِنَ الغَيْظِ }(1/1807)
[ الملك : 7-8 ] أي يكاد ينفصل بيعضها من بعض من شدة غيظها على من كفر بالله . عن أبي وائل قال : خرجنا مع عبد الله بن مسعود ومعنا الربيع بن خيثم ، فمروا على حداد ، فقام عبد الله ينظر إلى حديدة في النار ، وينظر الربيع بن خيثم إليها ، فتمايل الربيع ليسقط ، فمر عبد الله على أتون على شاطئ الفرات ، فلما رآه عبد الله والنار تلتهب في جوفه قرأ هذه الآية : { إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } فصعق ، يعني الربيع ، وحملوه إلى أهل بيته ، فرابطة عبد الله إلى الظهر ، فلم يفق رضي الله عنه . وعن مجاهد بإسناده إلى ابن عباس قال : إن الرجل ليجر إلى النار فتنزوي وتنقبض بعضها إلى بعض فيقول لها الرحمن : مالك؟ قالت : إنه يستجير مني فيقول : أرسلوا عبدي ، وإن الرجل ليجر إلى النار فيقول : يا رب ما كان هذا الظن بك فيقول : فما كان ظنك؟ فيقول : أن تسعني رحمتك ، فيقول : أرسلوا عبدي ، وإن الرجل ليجر إلى النار فتشهق إليه النار شهقة البغلة إلى الشعير ، وتزفر زفرة لا يبقى أحد إلاّ خاف . وقال عبيد بن عمير في قوله : { سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } قال : إن جهنم لتزفر زفرة لا يبقى ملك مقرب ولا نبي مرسل إلاّ خرَّ لوجهه ، ترتعد فرائصه ، حتى إن إبراهيم عليه السلام ليجثو على ركبتيه ، ويقول : رب لا أسألك اليوم إلا نفسي ، وقوله : { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ } قال قتادة : مثل الزج في الرمح أي من ضيقه ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله : { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ } قال : « والذي نفسي بيده إنهم ليستكرهون في النار كما يستكره الوتد في الحائط » وقوله : { مُّقَرَّنِينَ } يعني مكتفين { دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } أي بالويل والحسرة والخيبة ، { لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً } الآية . روى الإمام أحمد عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » أول من يكسى حلة من النار إبليس ، فيضعها على حاجيه ويسحبها من خلفه ، وذريته من بعده ، وهو ينادي : يا ثبوراه ، وينادون : يا ثبورهم ، حتى يقفوا على النار ، فيقول : يا ثبوراه ، ويقولون : يا ثبورهم ، فيقال لهم : { لاَّ تَدْعُواْ اليوم ثُبُوراً وَاحِداً وادعوا ثُبُوراً كَثِيراً } « عن ابن عباس : أي لا تدعو اليوم ويلاً واحداً وادعوا ويلاً كثيراً ، وقال الضحاك : الثبور والهلاك ، والأظهر أن الثبور يجمع الهلاك والويل والخسار والدمار ، كما قال موسى لفرعون : { وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً } [ الإسراء : 102 ] أي هالكاً .(1/1808)
قُلْ أَذَلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كَانَتْ لَهُمْ جَزَاءً وَمَصِيرًا (15) لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ خَالِدِينَ كَانَ عَلَى رَبِّكَ وَعْدًا مَسْئُولًا (16)
يقول تعالى : يا محمد هذا الذي وصفناه لك من حال الأشقياء ، الذين يحشرون على وجوههم إلى جهنم ، فتلقاهم بوجه عبوس وتغيظ وزفير ، ويلقون في أماكنها الضيقة مقرنين ، لا يستطيعون حراكاً ولا استنصاراً ولا فكاكاً مما هم فيه ، أهذ خير أم جنة الخلد التي وعدها الله المتقين من عباده ، التي أعدها لهم جزاء ومصيراً على ما أطاعوه في الدنيا وجعل مآلهم إليها؟! { لَّهُمْ فِيهَا مَا يَشَآءُونَ } من الملاذ من مآكل ومشارب ، وملابس ومساكن ، ومراكب ومناظر وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب أحد ، وهم في ذلك خالدون أبداً دائماً سرمداً ، بلا انقطاع ولا زوال ولا انقضاء ، ولا يبغون عنها حولاً ، وهذا من وعد الله الذي تفضل به عليهم وأحسن به إليهم ، ولهذا قال : { كَانَ على رَبِّكَ وَعْداً مَّسْئُولاً } أي لا بد أن يقع وأن يكون ، أي وعداً واجباً ، وقال محمد بن كعب القرظي : إن الملائكة تسأل لهم ذلك { رَبَّنَا وَأَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ التي وَعَدْتَّهُمْ } [ غافر : 8 ] ، وقال أبو حازم : إذا كان يوم القيامة قال المؤمنون : ربنا عملنا لك بالذي أمرتنا فأنجز لنا ما وعدتنا ، فذلك قوله : { وَعْداً مَّسْئُولاً } وهذا المقام في هذه السورة كما ذكر تعالى في سورة الصافات حال أهل الجنة وما فيها من النضرة والحبور؛ ثم قال { أَذَلِكَ خَيْرٌ نُّزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزقوم * إِنَّا جَعَلْنَاهَا فِتْنَةً لِّلظَّالِمِينَ } [ الصافات : 62-63 ] الآيات .(1/1809)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَأَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلَاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قَالُوا سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنْبَغِي لَنَا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَآبَاءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَكَانُوا قَوْمًا بُورًا (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفًا وَلَا نَصْرًا وَمَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذَابًا كَبِيرًا (19)
يقول تعالى مخبراً عما يقع يوم القيامة من تقريع الكفار في عبادتهم من عبدوا من دون الله من الملائكة وغيرهم فقال : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } ، قال مجاهد : هو عيسى والعزير . والملائكة ، { فَيَقُولُ أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِي هَؤُلاَءِ } الآية ، أي فيقول تبارك وتعالى للمعبودين : أأنتم دعوتم هؤلاء إلى عبادتكم من دوني ، أم هم عبدوكم من تلقاء أنفسهم من غير دعوة منكم لهم؟ كما قال الله تعالى : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } [ المائدة : 116 ] الآية . ولهذا قال تعالى مخبراً عما يجيب به المعبودون يوم القيامة : { قَالُواْ سُبْحَانَكَ مَا كَانَ يَنبَغِي لَنَآ أَن نَّتَّخِذَ مِن دُونِكَ مِنْ أَوْلِيَآءَ } ، أي ليس للخلائق كلهم أن يعبدوا أحداً سواك لا نحن ولا هم ، فنحن ما دعوناهم إلى ذلك بل هم فعلوا ذلك من تلقاء أنفسهم من غير أمرنا ولا رضانا ، ونحن برآء منهم ومن عبادتهم ، { ولكن مَّتَّعْتَهُمْ وَآبَآءَهُمْ } أي طال عليهم العمر حتى نسوا الذكر ، أي نسوا ما أنزلته إليهم على ألسنة رسلك من الدعوة إلى عبادتك وحدك لا شريك لك ، { وَكَانُواْ قَوْماً بُوراً } قال ابن عباس : أي هلكى ، وقال الحسن البصري : أي لا خير فيهم . قال الله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِمَا تَقُولُونَ } أي فقد كذبكم الذين عبدتم من دون الله ، فيما زعمتم أنهم لكم أولياء وأنهم يقربونكم إلى الله زلفى كقوله تعالى : { وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 6 ] . وقوله : { فَمَا تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَلاَ نَصْراً } أي لا يقدرون على صرف العذاب عنهم ولا الانتصار لأنفسهم ، { وَمَن يَظْلِم مِّنكُمْ } أي يشرك بالله { نُذِقْهُ عَذَاباً كَبِيراً } .(1/1810)
وَمَا أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعَامَ وَيَمْشُونَ فِي الْأَسْوَاقِ وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا (20)
يقول تعالى مخبراً عن جميع من بعثه من الرسل المتقدمين أنهم كانوا يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق للتكسب والتجارة ، وليس ذلك بمناف لحالهم ومنصبهم ، فإن الله تعالى جعل لهم من السمات الحسنة ، والصفات الجميلة ، والأقوال الفاضلة ، والأعمال الكاملة ، والخوارق الباهرة ، ما يستدل به كل ذي لب سليم على صدق ما جاءوا به من الله ، ونظير هذه الآية الكريمة قوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام } [ الأنبياء : 8 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } ؟ أي اختبرنا بعضكم ببعض ، وبلونا بعضكم ببعض لنعلم من يطيع ممن يعصي ، ولهذا قال { أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيراً } أي بمن يستحق أن يوحى إليه ، كما قال تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ومن يستحق أن يهديه الله ومن لا يستحق ذلك ، وقال محمد بن إسحاق في قوله : { وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ } ؟ قال : يقول الله : لو شئت أن أجعل الدنيا مع رسلي فلا يخالفون لفعلت ، ولكني قد أردت أن أبتلي العباد بهم وأبتليكم بهم ، وفي « صحيح مسلم » : « يقول الله تعالى إني ميتليك ومبتل بك » ، وفي الصحيح أنه عليه أفضل الصلاة والسلام خيِّر بين أن يكون نبياً ملكاً أو عبداً رسولاً ، فاختار أن يكون عبداً رسولاً .(1/1811)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلَائِكَةُ أَوْ نَرَى رَبَّنَا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوًّا كَبِيرًا (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلَائِكَةَ لَا بُشْرَى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْرًا مَحْجُورًا (22) وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا (23) أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَأَحْسَنُ مَقِيلًا (24)
يقول تعالى مخبراً عن تعنت الكفار في كفرهم وعنادهم في قولهم : { لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة } أي بالرسالة كما تنزل على الأنبياء ، كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى { قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله } [ الأنعام : 124 ] ، ويحتمل أن يكون مرادهم هاهنا { لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة } فنراهم عياناً فيخبرونا أن محمداً رسول الله ، كقولهم { أَوْ نرى رَبَّنَا } ، ولهذا قالوا { أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً } [ الإسراء : 92 ] ، ولهذا قال الله تعالى : { لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } ، وقوله تعالى : { يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } أي هم يوم يرونهم بشرى يومئذٍ لهم ، وذلك يصدق على وقت الاحتضار ، حين تبشرهم الملائكة بالنار ، فتقول الملائكة للكافر عند خروج روحه : أخرجي أيتها النفس الخيبثة في الجسد الخبيث ، أخرجي إلى سموم وحميم وظل من يحموم ، فتأبى الخروج وتتفرق في البدن فيضربونه ، كما قال الله تعالى : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [ فصلت : 30 ] ، وفي « الصحيح » عن البراء بن عازب : إن الملائكة تقول لروح المؤمن : أخرجي أيتها النفس الطيبة من الجسد الطيب إن كنت تعمرينه ، أخرجي إلى روح وريحان ورب غير غضبان ، وقال آخرون : بل المراد بقوله { يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى } يعني يوم القيامة ، قاله مجاهد والضحاك وغيرهما ، ولا منافاة بين هذا وما تقدم ، فإن الملائكة في هذين اليومين - يوم الممات ويوم المعاد - تتجلى للمؤمنين وللكافرين ، فنبشر المؤمنين بالرحمة والرضوان وتخبر الكافرين بالخيبة والخسران ، فلا بشرى يومئذٍ للمجرمين { وَيَقُولُونَ حِجْراً مَّحْجُوراً } أي وتقول الملائكة للكافرين : حرام محرم عليكم الفلاح اليوم ، وأصل الحجر المنع ، ومنه يقال : حجر القاضي على فلان إذا منعه التصرف ، إما لسفهٍ أو صغرٍ أو نحو ذلك؛ ومنه يقال للعقل ( حِجْر ) لأنه يمنع صاحبه عن تعاطي ما لا يليق ، والغرض أن الضمير في قوله : { وَيَقُولُونَ } عائد على الملائكة ، هذا قول مجاهد وعكرمة والضحاك واختاره ابن جرير .
وقوله تعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ } الآية ، هذا يوم القيامة حين يحاسب الله العباد على ما عملوه من الخير والشر ، فأخبر أنه لا يحصل لهؤلاء المشركين من الأعمال التي ظنوا أنها منجاة لهم شيء ، وذلك لأنها فقدت الشرط الشرعي إما الإخلاص فيها ، وإما المتابعة لشرع الله ، فكل عمل لا يكون خالصاً وعلى الشريعة المرضية فهو باطل ، ولهذا قال تعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } ، عن علي رضي الله عنه في قوله { هَبَآءً مَّنثُوراً } قال : شعاع الشمس إذا دخل الكوة وكذا قال الحسن البصري : هو الشعاع في كوة أحدكم ولو ذهب يقبض عليه لم يستطع ، وقال ابن عباس هَبَآءً مَّنثُوراً } قال : هو الماء المهراق ، قال قتادة : أما رأيت يبس الشجر إذا ذرته الريح؟ فهو ذلك الورق .(1/1812)
وروى عبد الله بن وهب عن عبيد بن يعلى قال : إن الهباء الرماد إذا ذرته الريح ، وحاصل هذه الأقوال التنبيه على مضمون الآية ، وذلك أنهم عملوا أعمالاً اعتقدوا أنها على شيء فلما عرضت على الملك الحكم العدل الذي لا يجور ولا يظلم أحداً إذا بها لا شيء بالكلية ، وشبهت في ذلك بالشيء التافه الحقير المتفرق ، الذي لا يقدر صاحبه منه على شيء بالكلية ، كما قال تعالى : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح } [ إبراهيم : 18 ] الآية ، وقال تعالى : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } [ النور : 39 ] .
وقوله تعالى : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } أي يوم القيامة { لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون } [ الحشر : 20 ] وذلك أن أهل الجنة يصيرون إلى الدرجات العاليات ، والغرفات الآمنات ، فهم في مقام أمين حسن المنظر طيب المقام { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 76 ] وأهل النار يصيرون إلى الدركات السافلات ، وأنواع العذاب والعقوبات { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 66 ] أي بئس المنزل منظراً وبئس المقيل مقاماً ، ولهذا قال تعالى : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } أي بما عملوه من الأعمال المتقبلة نالوا ما نالوا وصاروا إلى ما صاروا إليه بخلاف أهل النار ، فإنهم ليس لهم عمل واحد يقتضي دخول الجنة لهم والنجاة من النار ، فنبه تعالى بحال السعداء على حال الأشقياء وأنه لا خير عندهم بالكلية ، فقال تعالى : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } ، قال ابن عباس : إنما هي ساعة فيقيل أولياء الله على الأسرة مع الحور العين ، ويقيل أعداء الله مع الشياطين مقرنين ، وقال سعيد بن جبير : يفرغ الله من الحساب نصف النهار فيقيل أهل الجنة في الجنة وأهل النار في النار ، قال الله تعالى : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } ، قال قتادة : أي مأوى ومنزلاً . وقال ابن جرير عن سعيد الصواف : أنه بلغه أن يوم القيامة يقصر على المؤمن حتى يكون كما بين العصر إلى غروب الشمس ، وإنهم يتقلبون في رياض الجنة ، حتى يفرغ من الناس ، وذلك قوله تعالى : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } .(1/1813)
وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمَنِ وَكَانَ يَوْمًا عَلَى الْكَافِرِينَ عَسِيرًا (26) وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا (27) يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا (28) لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا (29)
يخبر تعالى عن هول يوم القيامة وما يكون فيه من الأمور العظيمة ، فمنها انشقاق السماء وتفطرها ، وانفراجها بالغمام وهو ظلل النور العظيم الذي يبهر الأبصار ، ونزول ملائكة السماوات يومئذٍ ، فيحيطون بالخلائق في مقام المحشر . ثم يجيء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء ، قال مجاهد : وهذا كما قال تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة } [ البقرة : 210 ] الآية . قال شهر بن حوسب : حملة العرش ثمانية ، أربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك . لك الحمد على حلمك بعد علمك ، وأربعة منهم يقولون : سبحانك اللهم وبحمدك ، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك .
وقوله تعالى : { الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن } الآية . كما قال تعالى : { لِّمَنِ الملك اليوم لِلَّهِ الواحد القهار } [ غافر : 16 ] وفي « الصحيح » : أن الله تعالى يطوي السماوات بيمينه . ويأخذ الأرضين بيده الأخرى ثم يقول : أنا الملك ، أنا الديان ، أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون؟ . وقوله : { وَكَانَ يَوْماً عَلَى الكافرين عَسِيراً } أي شديداً صعباً لأنه يوم عدل وقضاء فصل . كما قال تعالى : { فَذَلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ * عَلَى الكافرين غَيْرُ يَسِيرٍ } [ المدثر : 9-10 ] فهذا حال الكافرين في هذا اليوم . وأما المؤمنون فكما قال تعالى : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] الآية ، وروى الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال ، قيل : يا رسول الله { يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ } [ المعارج : 4 ] ما أطول هذا اليوم! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده إنه ليخفف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا » وقوله تعالى : { وَيَوْمَ يَعَضُّ الظالم على يَدَيْهِ } الآية ، يخبر تعالى عن ندم الظالم الذي فارق طريق الرسول صلى الله عليه وسلم ، وما جاء من عند الله من الحق المبين الذي لا مرية فيه ، وسلك طريقاً أخرى غير سبيل الرسول ، فإذا كان يوم القيامة ندم حيث لا ينفعه الندم ، وعض على يديه حسرة وأسفاً ، وسواء كان سبب نزولها في عقبة بن معيط ، أو غيره من الأشقياء ، فإنها عامة في كل ظالم كما قال تعالى : { يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النار } [ الأحزاب : 66 ] الآيتين ، فكل ظالم يندم يوم القيامة غاية الندم ، ويعض على يديه قائلاً { ياليتني اتخذت مَعَ الرسول سَبِيلاً * ياويلتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاَناً خَلِيلاً } يعني من صرفه عن الهدى وعدل به إلى طريق الضلال من دعاة الضلالة ، وسواء في ذلك ( أمية بن خلف ) أو أخوه ( أبي بن خلف ) أو غيرهما { لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذكر } وهو القرآن { بَعْدَ إِذْ جَآءَنِي } أي بعد بلوغه إليَّ قال الله تعالى : { وَكَانَ الشيطان لِلإِنْسَانِ خَذُولاً } أي يخذله عن الحق ويصرفه عنه ويستعمله في الباطل ويدعوه إليه .(1/1814)
وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا (30) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا (31)
يقول تعالى مخبراً عن رسوله ونبيه محمد صلى الله عليه وسلم أنه قال : { يارب إِنَّ قَوْمِي اتخذوا هذا القرآن مَهْجُوراً } ، وذلك أن المشركين كانوا لا يصغون للقرآن ولا يستمعونه ، كما قال تعالى : { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] الآية ، فكانوا إذا تلي عليهم القرآن ، أكثروا اللغط والكلام حتى لا يسمعونه؛ فهذا من هجرانه ، وترك الإيمان به من هجرانه ، وترك تدبره وتفهمه من هجرانه ، وترك العمل به من هجرانه ، والعدول عنه إلى غيره من شعر أو قول ، أو غناءٍ أو لهوٍ من هجرانه . وقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين } أي كما حصل لك يا محمد في قومك من الذين هجروا القرآن ، كذلك كان في الأمم الماضين ، لأن الله جعل لكل نبي عدواً من المجرمين ، يدعون الناس إلى ضلالهم وكفرهم ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإنس والجن } [ الأنعام : 112 ] الآية ، ولهذا قال تعالى هاهنا : { وكفى بِرَبِّكَ هَادِياً وَنَصِيراً } أي لمن اتبع رسوله وآمن بكتابه وصدقه واتبعه ، فإن الله هاديه وناصره في الدنيا والآخرة .(1/1815)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا (32) وَلَا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلَّا جِئْنَاكَ بِالْحَقِّ وَأَحْسَنَ تَفْسِيرًا (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلَى وُجُوهِهِمْ إِلَى جَهَنَّمَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ سَبِيلًا (34)
يقول تعالى مخبراً عن كثرة اعتراض الكفار وتعنتهم وكلامهم فيما لا يعنيهم حيث قالوا : { لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ القرآن جُمْلَةً وَاحِدَةً } أي هلا أنزل عليه هذا الكتاب الذي أوحي إليه جملة واحدة ، كما نزلت الكتب قبله جملة واحدة كالتوارة والإنجيل والزبور وغيرها من الكتب الإلهية؟ فأجابهم الله تعالى عن ذلك بأنه إنما نزل منجماً في ثلاث وعشرين سنة بحسب الوقائع والحوادث وما يحتاج إليه من الأحكام ليثبت قلوب المؤمنين به كقوله : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } [ الإسراء : 106 ] الآية ، ولهذا قال : { لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً } ، وقال قتادة : بيناه تبيناً ، وقال ابن زيد : وفسرناه تفسيراً { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } أي بحجة وشبهة { إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } أي : ولا يقولون قولاً يعارضون به الحق إلاّ أجبناهم بما هو الحق في نفس الأمر وأبين وأوضح وأفصح من مقالتهم ، قال ابن عباس : { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ } أي بما يلتمسون به عيب القرآن والرسول { إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق } أي : إلاّ نزل جبريل من الله تعالى بجوابهم ، وما هذا إلاّ اعتناء وكبير شرف للرسول صلى الله عليه وسلم ، حيث كان يأتيه الوحي من الله عزَّ وجلَّ بالقرآن صباحاً ومساء ، سفراً وحضراً ، لا كإنزال ما قبله من الكتب المتقدمة؛ فهذا المقام أعلى وأجل وأعظم مكانة من سائر إخوانه الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين؛ فالقرآن أشرف كتاب أنزله الله ، ومحمد صلى الله عليه وسلم أعظم نبي أرسله الله تعالى ، وقد جمع القرآن للقرآن الصفتين معاً : ففي الملأ الأعلى أنزل جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة في السماء الدنيا؛ ثم أنزل بعد ذلك إلى الأرض منجماً بحسب الوقائع والحوادث . روي عن ابن عباس أنه قال : أنزل القرآن جملة واحدة إلى سماء الدنيا في ليلة القدر ، ثم نزل بعد ذلك في عشرين سنة ، قال الله تعالى : { وَلاَ يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْنَاكَ بالحق وَأَحْسَنَ تَفْسِيراً } ، وقال تعالى : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس على مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } [ الإسراء : 106 ] .
ثم قال تعالى مخبراً عن سوء حال الكفار في معادهم يوم القيامة ، وحشرهم إلى جهنم في أسوأ الحالات وأقبح الصفات . { الذين يُحْشَرُونَ على وُجُوهِهِمْ إلى جَهَنَّمَ أولئك شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ سَبِيلاً } ، وفي الصحيح عن أنس ، أن رجلاً قال : يا رسول الله! كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ فقال : « إن الذي أمشاه على رجليه قادر أن يمشيه على وجهه يوم القيامة » .(1/1816)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَا مَعَهُ أَخَاهُ هَارُونَ وَزِيرًا (35) فَقُلْنَا اذْهَبَا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَدَمَّرْنَاهُمْ تَدْمِيرًا (36) وَقَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْنَاهُمْ وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَأَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (37) وَعَادًا وَثَمُودَ وَأَصْحَابَ الرَّسِّ وَقُرُونًا بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيرًا (38) وَكُلًّا ضَرَبْنَا لَهُ الْأَمْثَالَ وَكُلًّا تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا (39) وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَفَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَهَا بَلْ كَانُوا لَا يَرْجُونَ نُشُورًا (40)
يقول تعالى متوعداً من كذب رسول الله محمداً صلى الله عليه وسلم من مشركي قومه ومحذرهم من عقابه وأليم عذابه ، مما أحله بالأمم الماضية المكذبين لرسله؛ فبدأ بذكر موسى وأنه بعثه وجعل معه أخاه هارون وزيراً أي نبياً موازراً ومؤيداً وناصراً ، فكذبهما فرعون وجنوده ف { دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [ محمد : 10 ] ، وكذلك فعل بقوم نوح حين كذبوا رسوله نوحاً عليه السلام ، ولهذا قال تعالى : { وَقَوْمَ نُوحٍ لَّمَّا كَذَّبُواْ الرسل } ولم يبعث إليهم إلاّ نوح فقط ، وقد لبث فيهم ألف سنة إلاّ خمسين عاماً يدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ ويحذرهم نقمة { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } [ هود : 40 ] ، ولهذا أغرقهم الله جميعاً ولم يبق منهم أحداً ، ولم يترك من بني آدم على وجه الأرض سوى أصحاب السفينة فقط ، { وَجَعَلْنَاهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً } أي عبرة يعتبرون بها ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 11-12 ] أي وأبقينا لكم من السفن ما تركبون في لجج البحار ، لتذكروا نعمة الله عليكم من إنجائكم من الغرق . وقوله تعالى : { وَعَاداً وَثَمُودَاْ وَأَصْحَابَ الرس } قد تقدم الكلام على قصتيهما في غير ما سورة كسورة الأعراف بما أغنى عن الإعادة ، وأما أصحاب الرس فقال ابن عباس : هم أهل قرية من قرى ثمود ، وقال عكرمة : أصحاب الرس بفلج وهم أصحاب يس ، وقال قتادة : فلج من قرى اليمامة ، وعن عكرمة : الرس بئر رسوا فيها نبيهم ، أي دفنوا فيها .
وقوله تعالى : { وَقُرُوناً بَيْنَ ذَلِكَ كَثِيراً } أي وأمماً - أضعاف من ذكر أهلكناهم - كثيرة ، ولهذا قال : { وَكُلاًّ ضَرَبْنَا لَهُ الأمثال } أبي بينا لهم الحجج ، ووضحنا لهم الأدلة ، وأزحنا الأعذار عنهم ، { وَكُلاًّ تَبَّرْنَا تَتْبِيراً } أي أهلكنا إهلاكاً ، كقوله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ } [ الإسراء : 17 ] ، والقرن هو الأمة من الناس ، كقوله : { ثُمَّ أَنشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ } [ المؤمنون : 42 ] ، وحَدَّه بعضُهم بمائة ، وقيل بثمانين ، والأظهر أن القرآن هو الأمة المتعاصرون من الزمن الواحد ، وإذا ذهبوا وخلفهم جبل فهو الحديث . { وَلَقَدْ أَتَوْا عَلَى القرية التي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السوء } يعني قرية قوم لوط وهي ( سدوم ) التي أهلكها الله بالقلب وبالمطر من الحجارة التي من سجيل ، كما قال تعالى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين } [ الشعراء : 173 ] ، وقال : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 137-138 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } [ الججر : 76 ] ، وقال : { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } [ الحجر : 79 ] ، ولهذا قال : { أَفَلَمْ يَكُونُواْ يَرَوْنَهَا } ؟ أي فيعتبروا بما بأهلها من العذاب والنكال بسبب تكذيبهم بالرسول وبمخالفتهم أوامر الله ، { بَلْ كَانُواْ لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً } يعني المارين بها من الكفار لا يعتبرون ، لأنهم { لاَ يَرْجُونَ نُشُوراً } أي معاداً يوم القيامة .(1/1817)
وَإِذَا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُوًا أَهَذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا (41) إِنْ كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا لَوْلَا أَنْ صَبَرْنَا عَلَيْهَا وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا (42) أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا (44)
يخبر تعالى عن استهزاء المشركين بالرسول صلى الله عليه وسلم إذا رأوه ، كما قال تعالى : { وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً } [ الأنبياء : 36 ] الآية ، يعنونه بالعيب والنقص ، وقال هاهنا : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } ؟ أي على سبيل التنقص والإزدراء ، وقوله تعالى : { إِن كَادَ لَيُضِلُّنَا عَنْ آلِهَتِنَا } يعنون أنه كاد يثنيهم عن عبادة الأصنام ، لولا أنصبروا وتجلدوا واستمروا عليها ، قال الله تعالى متوعداً لهم ومتهدداً : { وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ العذاب } الآية ، ثم قال تعالى لنبيه منبهاً : أنّ من كتب الله عليه الشقاوة والضلال فإنه لا يهديه أحد إلا الله عزَّ وجلَّ ، { أَرَأَيْتَ مَنِ اتخذ إلهه هَوَاهُ } أي مهما استحسن من شيء ورآه حسناً في هوى نفسه كان دينه ومذهبه ، كما قال تعالى : { أَفَمَن زُيِّنَ لَهُ سواء عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ } [ فاطر : 8 ] الآية ، ولهذا قال هاهنا : { أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً } ؟ قال ابن عباس : كان الرجل في الجاهلية يعبد الحجر الأبيض زماناً فإذا رأى غيره أحسن منه عبد الثاني وترك الأول ، ثم قال تعالى : { أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ } ؟ الآية ، أي هم أسوأ حالاً من الأنعام السارحة ، فإن تلك تفعل ما خلقت له ، وهؤلاء خلقوا لعبادة الله وحده ، وهم يعبدون غيره ويشركون به ، مع قيام الحجة عليهم وإرسال الرسل إليهم .(1/1818)
أَلَمْ تَرَ إِلَى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَلَوْ شَاءَ لَجَعَلَهُ سَاكِنًا ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا (45) ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضًا يَسِيرًا (46) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِبَاسًا وَالنَّوْمَ سُبَاتًا وَجَعَلَ النَّهَارَ نُشُورًا (47)
شرع سبحانه وتعالى في بيانه الأدلة الدالة على وجوده ، وقدرته التامة على خلق الأشياء المختلفة والمتضادة ، فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظل } ؟ قال ابن عباس ومجاهد : هو ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس { وَلَوْ شَآءَ لَجَعَلَهُ سَاكِناً } أي دائماً لا يزول ، وقوله تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَا الشمس عَلَيْهِ دَلِيلاً } أي لولا أن الشمس تطلع عليه لما عرف ، وقال قتادة والسدي : دليلاً تتلوه وتتبعه حتى تأتي عليه كله ، وقوله تعالى : { ثُمَّ قَبَضْنَاهُ إِلَيْنَا قَبْضاً يَسِيراً } أي الظل ، وقيل الشمس ، { يَسِيراً } أي سهلاً ، قال ابن عباس : سريعاً ، وقال مجاهد خفياً حتى لا يبقى في الأرض ظل إلاّ تحت سقف أو تحت شجرة . وقال أيوب بن موسى { قَبْضاً يَسِيراً } : قليلاً قليلاً . وقوله : { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اليل لِبَاساً } أي يلبس الوجود ويغشاه ، كما قال تعالى : { والنوم سُبَاتاً } أي قاطعاً للحركة لراحة الأبدان ، فإن الأعضاء والجوارح تكل من كثرة الحركة ، فإذا جاء الليل وسكن سكنت الحركات فاستراحت ، فحصل النوم الذي فيه راحة البدن والروح معاً ، { وَجَعَلَ النهار نُشُوراً } أي ينتشر الناس فيه لمعايشهم ومكاسبهم وأسبابهم .(1/1819)
وَهُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَا أَنْعَامًا وَأَنَاسِيَّ كَثِيرًا (49) وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (50)
وهذا أيضاً من قدرته التامة وسلطانه العظيم ، وهو أنه تعالى يرسل الرياح مبشرات ، أي بمجيء السحاب بعدها والرياح أنواع ، فمنها ما يثير السحاب ، ومنها ما يحمله ، ومنها ما يسوقه ، ومنها ما يكون بين يدي السحاب مبشراً ، ومنها ما يلقح السحاب ليمطر ، ولهذا قال تعالى : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً طَهُوراً } أي آلة يتطهر بها كالسحور . فهذا أصح ما يقال في ذلك ، وروى ابن أبي حاتم بإسناده عن خالد بن يزيد قال : كنا عند عبد الملك بن مروان ، فذكروا الماء ، فقال خالد بن يزيد : منه من السماء ، ومنه ما يسوقه الغيم من البحر فيذبه الرعد والبرق؛ فأما ما كان من البحر فلا يكون منه نبات فأما النبات فمما كان من السماء؛ وروي عن عكرمة قال : ما أنزل الله من السماء قطرة إلا أنبت بها في الأرض عشبة أو في البحر لؤلؤة . وقال غيره : في البر بُرٌّ ، وفي البحر دُرٌّ . وقوله تعالى : { لِّنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً } أي أرضاً قد طال انتظارها للغيث فهي هامدة لا نبات فيها ولا شيء ، فلما جاءها الحياة عاشت واكتست رباها أنواع الأزاهير والألوان ، كما قال تعالى : { فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ } [ فصلت : 39 ] الآية ، { وَنُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنَآ أَنْعَاماً وَأَنَاسِيَّ كَثِيراً } أي وليشرب منه الحيوان من أنعام وأناسي محتاجين إليه غاية الحاجة لشربهم وزروعهم وثمارهم ، كما قال تعالى : { فانظر إلى آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ } [ الروم : 50 ] الآية .
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ } أي أمطرنا هذه الأرض دون هذه ، وسقنا السحاب يمر على الأرض ويتعداها ويتجاوزها إلى الأرض الأخرى ، فيمطرها ويكفيها ويجعلها غدقاً والتي وراءها لم ينزل فيها قطرة من ماء ، وله في ذلك الحجة البالغة والحكمة القاطعة . قال ابن عباس وابن مسعود رضي الله عنهما : ليس عام بأكثر مطراً من عام ، ولكن الله يصرفه كيف يشاء ، ثم قرأ هذه الآية { وَلَقَدْ صَرَّفْنَاهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً } : أي ليذكروا بإحياء ، الله الأرض الميتة أنه قادر على إحياء الأموات والعظام الرفات ، أو ليذكر من منع المطر إنما أصابه ذلك بذنب أصابه فيقلع عما هو فيه . وقوله : { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً } قال عكرمة : يعني الذين يقولون : مطرنا بنوء كذا وكذا ، وفي « صحيح مسلم » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال لأصحابه يوما على أثر سماء أصابتهم من الليل : « أتدرون ماذا قال ربكم؟ » قالوا : الله ورسوله أعلم ، « قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر ، فأما من قال : مطرنا بفضل الله ورحمته فذاك مؤمن بي كافر بالكوكب ، وأمن من قال : مطرنا بنوء كذا وكذا فذاك كافر بي مؤمن بالكوكب » .(1/1820)
وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيرًا (51) فَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَجَاهِدْهُمْ بِهِ جِهَادًا كَبِيرًا (52) وَهُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخًا وَحِجْرًا مَحْجُورًا (53) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْمَاءِ بَشَرًا فَجَعَلَهُ نَسَبًا وَصِهْرًا وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيرًا (54)
يقول تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَبَعَثْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَّذِيراً } يدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ ، ولكنا خصصناك يا محمد بالبعثة إلى جميع أهل الأرض ، وأمرناك أن تبلغهم هذا القرآن { لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] ، وفي « الصحيحين » : « بعثت إلى الأحمر والأسود » ، وفيهما « وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة » ، ولهذا قال تعالى : { فَلاَ تُطِعِ الكافرين وَجَاهِدْهُمْ بِهِ } يعني بالقرآن ، قاله ابن عباس { جِهَاداً كَبيراً } ، كما قال تعالى : { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين } [ التوبة : 73 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي خالق الماءين الحلو والملح ، فالحلو كالأنهار والعيون والآبار . قاله ابن جريج واختاره ابن جرير ، وهذا المعنى لا شك فيه ، فإنه ليس في الوجود بحر ساكن وهو عذب فرات ، والله سبحانه وتعالى إنما أخبر بالواقع لينبه العباد على نعمه عليهم ليشكروه ، فالبحر العذب فرقه الله تعالى بين خلقه لاحتياجهم إليه نهاراً أو عيوناً في كل أرض ، بحسب حاجتهم وكفايتهم لأنفسهم وأراضهيم ، وقوله تعالى : { وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ } أي مالح مرٌّ ، زُعاق لا يستساغ ، وذلك كالبحار المعروفة في المشارق والمغارب ، البحر المحيط وبحر فارس وبحر الصين والهند وبحر الروم وبحر الخزر ، وما شاكلها وشابهها من البحار الساكنة التي لا تجري ، ولكن تموج وتضطرب وتلتطم في زمن الشتاء وشدة الرياح ، ومنها ما فيه مد وجزر ، ففي أول كل شهر يحصل منها مد وفيض ، فإذا شرع الشهر في النقصان جزرت حتى ترجع إلى غايتها الأولى ، فأجرى الله سبحانه وتعالى - وهو ذو القدرة التامة - العادة بذلك؛ فكل هذه البحار الساكنة خلقها الله سبحانه وتعالى مالحة ، لئلا يحصل بسببها نتن الهواء ، فيفسد الوجود بذلك ، ولئلا تجوى الأرض بما يموت فيها من الحيوان ، ولما كان ماؤها ملحاً كان هواؤها صحيحاً وميتها طيبة؛ ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد سئل عن ماء البحر : أنتوضأ به؟ فقال : « هو الطهور ماؤه ، الحل ميتته » وقوله تعالى : { وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً } أي بين العذب والمالح { بَرْزَخاً } أي حاجزاً وهو اليبس من الأرض { وَحِجْراً مَّحْجُوراً } أي مانعاً من أن يصل أحدهما إلى الآخر ، كقوله تعالى : { مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 19-20 ] ، وقوله تعالى : { وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً أإله مَّعَ الله بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } [ النمل : 61 ] ، وقوله تعالى : { وَهُوَ الذي خَلَقَ مِنَ المآء بَشَراً } الآية ، أي خلق الإنسان من نطفة ضعيفة وعدّله ، وجعله كامل الخلقة ذكراً وأنثى كما يشاء ، { فَجَعَلَهُ نَسَباً وَصِهْراً } فهو في ابتداء أمره ولد نسيب ، ثم يتزوج فيصير صهراً ، ثم يصير له أصهار واختان وقرابات ، وكل ذلك من ماء مهين ، ولهذا قال تعالى : { وَكَانَ رَبُّكَ قَدِيراً } .(1/1821)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَى رَبِّهِ ظَهِيرًا (55) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (56) قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شَاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلًا (57) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لَا يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا (58) الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا (60)
يخبر تعالى عن جهل المشركين في عبادتهم غير الله من الأصنام ، التي لا تملك لهم ضراً ولا نفعاً بلا دليل قادهم إلى ذلك ولا حجة أدتهم إليه بل بمجرد الآراء والأهواء ، فهم يوالونهم ويقاتلون في سبيلهم ويعادون الله ورسوله والمؤمنين فيهم ، ولهذا قال تعالى : { وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً } أي عوناً في سبيل الشيطان على حزب الله ، وحزب الله هم الغالبون ، قال مجاهد { وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً } قال : يظاهر الشيطان على معصية الله ويعينه ، وقال سعيد بن جبير : عوناً للشيطان على ربه بالعداوة والشرك ، وقال زيد بن أسلم : موالياً ، ثم قال تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } أي بشيراً للمؤمنين ونذيراً للكافرين ، مبشراً بالجنة لمن أطاع الله ، ونذيراً بين يدي عذاب شديد لمن خالف أمر الله ، { قُلْ مَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي على هذا البلاغ وهذا الإنذار من أجره أطلبها من أموالكم ، وإنما أفعل ذلك ابتغاء وجه الله تعالى ، { إِلاَّ مَن شَآءَ أَن يَتَّخِذَ إلى رَبِّهِ سَبِيلاً } أي طريقاً ومسلكاً ومنهجاً يقتدي فيها بما جئت به ، ثم قال تعالى : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الحي الذي لاَ يَمُوتُ } أي في أمورك كلها ، كن متوكلا على الله الحي الذي لا يموت أبداً ، الدائم الباقي السرمدي ، الأبدي الحي القيوم ، رب كل شيء ومليكه ، اجعله ذخرك وملجأك ، فإنه كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك ، كما قال تعالى : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] .
وقوله تعالى : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ } أي أقرن بين حمده وتسبيحه ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « سبحانك اللهم ربنا وبحمدك » ، أي أخلص له العبادة والتوكل ، كما قال تعالى : { رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً } [ المزمل : 9 ] ، وقال تعالى : { فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقال تعالى : { قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [ الملك : 29 ] وقوله تعالى : { وكفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً } أي بعلمه التام لا يخفى عليه خافية ولا يعزب عنه مثقال ذرة ، وقوله تعالى : { الذي خَلَقَ السماوات والأرض } الآية ، أي هو خالق كل شيء وربه ومليكه ، الذي خلق بقدرته وسلطانه السماوات السبع في ارتفاعها واتساعها ، والأرضين السبع في سفولها وكثافتها { فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش } ، يدبر الأمر ويقضي الحق وهو خير الفاصلين ، وقوله : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } أي استعلم عنه من هو خبير بن عالم به ، فاتبعه واقتد به ، وقد علم أنه لا أحد أعلم بالله ولا أخبر به ، من عبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه سيد ولد آدم علىلإطلاق ، الذي لا ينطق عن الهوى ، إن هو إلاّ وحي يوحى ، فما قاله فهو الحق ، وما أخبره به فهو الصدق ، ولهذا قال تعالى : { فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً } ، قال مجاهد : ما أخبرتك من شيء فهو كما أخبرتك ، وقال شمر بن عطية : هذا القرآن خبير به ، ثم قال تعالى منكراً على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن قَالُواْ وَمَا الرحمن } ؟ أي لا نعرف الرحمن ، وكانوا ينكرون أن يسمى الله باسمه الرحمن ، كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب :(1/1822)
« اكتب بسم الله الرحمن الرحيم » ، فقالوا : لا نعرف الرحمن ولا الرحيم ، ولكن اكتب كما كنت تكتب : باسمك اللهم؛ ولهذا أنزل الله تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى } [ الإسراء : 110 ] أي هو الله وهو الرحمن ، وقال في هذه الآية : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسجدوا للرحمن } أي لا نعرفه ولا نقرُّ به ، { أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا } ؟ أي لمجرد قولك ، { وَزَادَهُمْ نُفُوراً } فأما المؤمنون فإنهم يعبدون الله الذي هو الرحمن الرحيم ويفردونه بالإلهية ويسجدون له .(1/1823)
تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا (62)
يقول تعالى ممجداً نفسه ومعظماً على جميل ما خلق السماوات من البروج ، وهي الكواكب العظام ، وقيل : هي قصور في السماء للحرس ، والقول الأول أظهر ، اللهم إلاّ أن يكون الكواكب العظام هي قصور للحرس فيجتمع القولان ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ } [ الملك : 5 ] الآية ، ولهذا قال تعالى : { تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجاً وَقَمَراً مُّنِيراً } وهي الشمس المنيرة التي هي كالسراج في الوجود ، كما قال تعالى : { سِرَاجاً وَقَمَراً } { وَقَمَراً مُّنِيراً } أي مشرقاً مضيئاً بنور آخر من غير نور الشمس ، كما قال تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً } [ يونس : 5 ] ، وقال : { وَجَعَلَ القمر فِيهِنَّ نُوراً وَجَعَلَ الشمس سِرَاجاً } [ نوح : 16 ] ، ثم قال تعالى : { وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً } أي يخلف كل واحد منهما الآخر يتعاقبان لا يفتران ، إذا ذهب هذا جاء هذا ، وإذا جاء هذا ذهب ذاك ، كما قال تعالى : { وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ } [ إبراهيم : 33 ] الآية ، وقال : { يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } [ الأعراف : 54 ] الآية وقال : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر } [ يس : 40 ] الآية وقوله تعالى : { لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } أي جعلهما يتعاقبان توقيتاً لعبادة عباده ، فمن فاته عمل في الليل استدركه في النهار ، ومن فاته عمل في النهار استدركه في الليل ، وقد جاء في الحديث الصحيح : « إن الله عزَّ وجلَّ يبسط يده بالليل ليتوب مسيء النهار ويبسط يده بالنهار ليتوب مسيء الليل » قال ابن عباس في الآية : من فاته شيء من الليل أن يعمله أدركه بالنهار ، أو من النهار أدركه بالليل ، وقال مجاهد وقتادة : خلفه أي مختلفين : أي هذا بسواده وهذا بضيائه .(1/1824)
وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا (63) وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا (64) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا (65) إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (66) وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا (67)
هذه صفات عباد الله المؤمنين { الذين يَمْشُونَ على الأرض هَوْناً } أي بسكينة ووقار من غير تجبر ولا استكبار ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً } [ الإسراء : 37 ] الآية . وليس المراد أنهم يمشون كالمرضى تصنعاً ورياء ، فقد كان سيد ولد آدم صلى الله عليه وسلم إذا مشى كأنما ينحطُّ من صَبَب وكأنما الأرض تطوى له ، وقد كره بعض السلف المشي بتضعف وتصنع ، حتى روي عن عمر أنه رأى شاباً يمشي رويداً فقال : ما بالك! أأنت مريض؟ قال : لا يا أمير المؤمنين ، فعلاه بالدرة ، وأمره أن يمشي بقوة ، وإنما المراد بالهون هنا السكينة والوقار ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا أتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة فما أدركتم منها فصلوا وما فاتكم فأتموا » ، وقوله تعالى : { وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الجَاهِلُونَ قَالُواْ سَلاَماً } أي إذا سفه عليهم الجهال بالقول السيء لم يقابلوهم عليه بمثله ، بل يعفون ويصفحون ولا يقولون إلاّ خيراً ، كما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لا تزيده شدة الجاهل عليه إلاّ حلماً ، وكما قال تعالى : { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } الآية ، وقال مجاهد : { قَالُواْ سَلاَماً } : يعني قالوا سداداً ، وقال سعيد بن جبير : ردوا معروفاً من القول ، وقال الحسن البصري : قالوا سلام عليكم ، إن جهل عليهم حلموا ، يصاحبون عباد الله نهارهم بما يسمعون ، ثم ذكر أن ليلهم خير ليل ، فقال تعالى : { وَالَّذِينَ يِبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَقِيَاماً } أي في طاعته وعبادته ، كما قال تعالى : { كَانُواْ قَلِيلاً مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ * وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الذاريات : 17-18 ] ، وقوله : { تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع } [ السجدة : 16 ] الآية ، وقال تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } [ الزمر : 9 ] الآية ، ولهذا قال تعالى : { والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا اصرف عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } أي ملازماً دائماً كما قال الشاعر :
إِنْ يُعذّبْ يكنْ غراماً وإن يع ... طِ جزيلاً فإنه لا يبالي
ولهذا قال الحسن في قوله { إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَاماً } : كل شيء يصيب ابن آدم ويزول عنه فليس بغرام ، وإنما الغرام اللازم ما دامت الأرض والسماوات . { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } أي بئس المنزل منزلاً وبئس المقيل مقاماً ، وروى ابن أبي حاتم عن مجاهد عن عبيد بن عمير قال : إن في النار لجباباً فيها حيات أمثال البُخْت ، وعقارب أمثال البغال الدُّهْم . فإذا قذف بهم في النار خرجت إليهم من أوطانها ، فأخذت بشفاههم وأبشارهم وأشعارهم ، فكشطت لحومهم إلى أقدامهم ، فإذا وجدت حر النار رجعت . وروى الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : « إن عبداً في جهنم لينادي ألف سنة : يا حنان يا منان ، فيقول الله عزَّ وجلَّ لجبريل : اذهب فأتني بعبدي هذا ، فينطلق جبريل ، فيجد أهل النار مكبين يبكون ، فيرجع إلى ربه عزَّ وجلَّ فيخبره ، فيقول الله عزَّ وجلَّ : ائتني به فإنه في مكان كذا وكذا ، فيجئ به ، فيوقفه على ربه عزَّ وجلَّ ، فيقول له : يا عبدي كيف وجدت مكانك ومقيلك؟ فيقول : يا رب شر مكان وشر مقيل ، فيقول الله عزَّ وجلَّ : ردوا عبدي ، فيقول : يا رب ما كنت أرجو إذا أخرجتني منها أن تردني فيها ، فيقول الله عزَّ وجلَّ : دعوا عبدي »(1/1825)
وقوله تعالى : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ } الآية ، أي ليسوا بمبذرين في إنفاقهم فيصرفون فوق الحاجة ، ولا بخلاء على أهليهم ، فيقصرون في حقهم فلا يكفونهم ، بل عدلاً خياراً ، وخير الأمور أوسطها لا هذا ولا هذا { وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } ، كما قال تعالى : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } [ الإسراء : 29 ] الآية . وفي الحديث : « من فقه الرجل فصده في معيشته » ، وعن عبد الله بن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما عال من اقتصد » ، وقال الحسن البصري : ليس في النفقة في سبيل الله سرف ، وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله تعالى فهو سرف ، وقال غيره : السرف النفقة في معصية الله عزَّ وجلَّ .(1/1826)
وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا (68) يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا (69) إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (70) وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا (71)
عن عبدالله بن مسعود قال : « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذنب أكبر؟ قال : » أن تجعل لله أنداداً وهو خلقك « ، قال : ثم أي؟ قال : » أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك « ، قال : ثم أي؟ قال : » إن تزاني حليلة جارك « ، قال عبد الله : وأنزل الله تصديق ذلك { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ } الآية وعن سلمة بن قيس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : » ألا إنما هي أربع « فما أنا الآية وعن سلمة بن قيس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : » ألا إنما هي أربع « فما أنا بأشح عليهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله بأشح عليهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تقتلو النفس التي حرم الله بأشح عليهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله بأشح عليهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع : « ألا إنما هي أربع » فما أنا بأشح عليهن منذ سمعتهن من رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تشركوا بالله شيئاً ، ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ، ولا تزنوا ، ولا تسرقوا » وروى الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود رضي الله عنه قال ، « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : » ما تقولون في الزنا؟ « قالوا : حرمه الله ورسوله فهو حرام إلى يوم القيامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : » لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بامرأة جاره « قال : » فما تقولون في السرقة؟ « قالوا : حرمها الله ورسوله فهي حرام ، قال : » لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من بيت جاره « وعن الهيثم بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له « ، وقال ابن عباس : إن ناساً من أهل الشرك قتلوا فأكثروا ، وزنوا فأكثروا ثم أتوا محمداً صلى الله عليه وسلم فقالوا : إن الذي تقول وتدعو إليه لحسن ، لو تخبرنا أن لما عملنا كفارة ، فنزلت : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ } الآية ، ونزلت :(1/1827)
{ قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الزمر : 53 ] الآية . وقوله تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك يَلْقَ أَثَاماً } ، روي عن عبد الله بن عمرو أنه قال : أثاماً : واد في جهنم ، وقال عكرمة { يَلْقَ أَثَاماً } أودية في جهنم يعذب فيها الزناة ، وقال قتادة { يَلْقَ أَثَاماً } : نكالاً . كنا نحدث أنه واد في جهنم ، وقال السدي { يَلْقَ أَثَاماً } جزاء ، وهذا أشبه بظاهر الآية وبهذا فسره بما بعده مبدلاً منه ، وهو قوله تعالى : { يُضَاعَفْ لَهُ العذاب يَوْمَ القيامة } أي يقرر عليه ويغلظ { وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً } أي حقيراً ذليلاً ، وقوله تعالى : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } أي جزاؤه على ما فعل من هذه الصفات القبيحة ما ذكر { إِلاَّ مَن تَابَ } أي في الدنيا إلى الله عزَّ وجلَّ من جميع ذلك فإن من هذه الله يتوب عليه ، وفي ذلك دلالة على صحة توبة القاتل ، ولا تعارض بين هذه وبين آية النساء { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } [ النساء : 93 ] الآية ، فإن هذه وإن كانت مدنية ، إلاّ أنها مطلقة ، فتحمل على من لم يتب .
وقوله تعالى : { فأولئك يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } . في معنى قوله : { يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قولان : أحدهما أنهم بدلا مكان عمل السيئات بعمل الحسنات ، قال ابن عباس : هم المؤمنون كانوا من قبل إيمانهم على السيئات فرغب الله بهم عن السيئات فحولهم إلى الحسنات فأبدلهم مكان السيئات الحسنات . وقال سعيد بن جبير : أبدلهم الله بعبادة الأوثان عبادة الرحمن ، وأبدلهم بقتال المسلمين قتال المشركين ، وأبدلهم بنكاح المشركات نكاح المؤمنات ، وقال الحسن البصري : أبدلهم الله بالعمل السيء العمل الصالح ، وأبدلهم بالشرك إخلاصاً ، وأبدلهم بالفجور إحصاناً ، وبالكفر إسلاماً ، ( والقول الثاني ) : أن تلك السيئات الماضية تنقلب بنفس التوبة النصوح حسنات ، كما ثبتت السنة بذلك وصحت به الآثار المروية عن السلف رضي الله عنهم . فعن أبي ذر رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني لأعرف آخر أهل النار خروجاً من النار ، وآخر أهل الجنة دخولاً إلى الجنة ، يؤتى برجل فيقول : نحوّا عنه كبار ذنوبه وسلوه عن صغارها ، قال فيقال له : عملت يوم كذا ، كذا وكذا ، وعملت يوم كذا ، كذا وكذا ، فيقول : نعم ، لا يستطيع أن ينكر من ذلك شيئاً ، فيقال : فإن لك بكل سيئة حسنة ، فيقول : يا رب عملت أشياء لا أراها هاهنا » قال : فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بدت نواجذه « وعن أبي هريرة قال : ليأتين الله عزَّ وجلَّ بأناس يوم القيامة رأوا أنهم قد استكثروا من السيئات ، قيل : من هم يا أبا هريرة؟ قال : الذين يبدل الله سيئاتهم حسنات ، وقال علي بن الحسين زين العابدين { يُبَدِّلُ الله سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ } قال : في الآخرة . وقال مكحول : يغفرها لهم فيجعلها حسنات ، قال ابن أبي حاتم حدثنا أبو جابر أنه سمع مكحولاً يحدث قال :(1/1828)
« جاء شيخ كبير هرم قد سقط حاجباه على عينيه فقال : يا رسول الله رجل غدر وفجر ولم يدع حاجة ولا داجة إلاّ اقتطفها بيمينه ، لو قسمت خطيئته بين أهل الأرض لأوبقتهم فهل له من توبة؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » أأسلمت؟ « قال : أما أنا فأشهد أن لا إله إلاّ الله وحده لا شريك له وأن محمداً عبده ورسوله فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » فإن الله غافر لك ما كنت كذلك ومبدل سيئاتك حسنات « ، فقال : يا رسول الله وغدراتي وفجراتي؟ فقال : » وغدراتك وفجراتك « ، فولى الرجل يكبر ويهلل » ثم قال تعالى مخبراً عن عموم رحمته بعباده وأنه من تاب إليه منهم عليه من أي ذنب كان جليلاً أو حقيراً كبيراً أو صغيراً ، فقال تعالى : { وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى الله مَتاباً } أي فإن الله يقبل توبته ، كما قال تعالى : { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } [ التوبة : 104 ] الآية ، وقال تعالى : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } [ الزمر : 53 ] الآية : أي لمن تاب إليه .(1/1829)
وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا (72) وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا (73) وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا (74)
وهذه أيضاً من صفات عباد الرحمن أنهم لا يشهدون الزور ، قيل : هو الشرك وعبادة الأصنام ، وقيل : الكذب والفسق واللغو والباطل ، وقال محمد بن الحنفية : هو اللغو والغناء ، وقال عمرو بن قيس : هي المجالس السوء والخنا ، وقيل : المراد بقوله تعالى : { لاَ يَشْهَدُونَ الزُّورَ } أي شهادة الزور ، وهي الكذب متعمداً على غيره كما في « الصحيحين » : « » ألا أنبئكم بأكبر الكبائر «؟ ثلاثاً قلنا : بلى يا رسول الله قال : » الشرك بالله عقوق الوالدين « . وكان متكئاً فجلس ، فقال : » ألا وقول الزور ألا وشهادة الزور « فما زال يكررها حتى قلنا ليته سكت » ، والأظهر من السياق أن المراد لا يشهدون الزور أي لا يحضرونه ، ولهذا قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } ، أي لا يحضرون الزور وإذا اتفق مرورهم به مروا ولم يتدنسوا منه بشيء ولهذا قال : { مَرُّوا كِراماً } وروى ابن أبي حاتم عن ميسرة قال : بلغني أن بلغني أن ابن مسعود مر بلهو معرضاً فلم يقف فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد أصبح ابن مسعود وأمسى كريماً ثم تلا إبراهيم بن ميسرة : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } وقوله تعالى : { وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } وهذه أيضاً من صفات المؤمنين { الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } [ الأنفال : 2 ] بخلاف الكافر ، فإنه إذا سمع كلام الله لا يؤثر فيه ، ولا يتغير عما كان عليه ، بل يبقى مستمراً على كفره وطغيانه ، وجهله وضلاله ، كما قال تعالى : { وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 125 ] ، فقوله : { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } أي بخلاف الكافر الذي إذا سمع آيات الله فلا تؤثر فيه فيستمر على حاله كأن لم يسمعها أصم أعمى ، قال مجاهد قوله : { لَمْ يَخِرُّواْ عَلَيْهَا صُمّاً وَعُمْيَاناً } قال : لم يسمعوا ولم يبصروا ولم يفقهوا شيئاً ، وقال الحسن البصري : كم من رجل يقرؤها ويخر عليها أصم وأعمى ، وقال قتادة : لم يصموا عن الحق ولم يعموا فيه ، فهم والله قوم عقلوا عن الحق وانتفعوا بما سمعوا من كتابه .
وقوله تعالى : { والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ } يعني الذين يسألون الله أن يخرج من أصلابهم من ذرياتهم من يطيعه ويعبده وحده لا شريك له ، قال ابن عباس : يعنون من يعمل بطاعة الله فتقر به أعينهم في الدنيا والآخرة ، قال عكرمة : لم يريدوا بذلك صباحة ولا جمالاً ، ولكن أرادوا أن يكونوا مطيعين . وسئل الحسن البصري عن هذه الآية فقال : أن يرى الله العبد المسلم من زوجته ومن أخيه ومن حميمه طاعة الله ، لا والله لا شيء أقر لعين المسلم من أن يرى ولداً ، أو ولد ولد ، أو أخاً ، أو حميماً مطبعاً لله عزَّ وجلَّ .(1/1830)
وقال ابن أسلم : يعني يسألون الله تعالى لأزواجهم وذرياتهم أن يهديهم للإسلام . وقوله تعالى : { واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } قال ابن عباس والحسن والسدي : أئمة يقتدى بنا في الخير ، وقال غيرهم : هداة مهتدين دعاة إلى الخير ، ولهذا ثبت في « صحيح مسلم » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : ولد صالح يدعو له ، أو علم ينتفع به من بعده ، أو صدقة جارية » .(1/1831)
أُولَئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا (75) خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا (76) قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا (77)
لما ذكر تعالى من أوصاف عباده المؤمنين ما ذكر من الصفات الجميلة ، والأقوال والأفعال الجليلة ، قال بعد ذلك كله : { أولئك } أي المتصفون بهذه { يُجْزَوْنَ } يوم القيامة { الغرفة } وهي الجنة سميت بذلك لارتفاعها ، { بِمَا صَبَرُواْ } أي على القيام بذلك ، { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا } أي في الجنة { تَحِيَّةً وَسَلاَماً } أي يبتدرون فيها بالتحية والإكرام ، ويلقون التوقير والاحترام ، فلهم السلام وعليهم السلام ، فإن الملائكة يدخلون عليهم من كل باب { سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار } [ الرعد : 24 ] ، وقوله تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا } أي مقيمين لا يظعنون ولا يحولون ولا يموتون ، ولا يزولون عنها ولا يبتغون عنها حولاً ، كما قال تعالى : { وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ فَفِي الجنة خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض } [ هود : 108 ] الآية ، وقوله تعالى : { حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } أي حسنت منظراً وطابت مقيلاً ومنزلاً ، ثم قال تعالى : { قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي } أي لا يبالي ولا يكترث بكم إذا لم تعبدوه ، فإنه إنما خلق الخلق ليعبدوه ويوحدوه ويسبحوه بكرة وأصيلاً .
قال ابن عباس : لولا دعاؤكم : أي لولا إيمانكم ، وأخبر تعالى الكفار أنه لا حاجة له بهم إذ لم يخلقهم مؤمنين ، ولو كان له بهم حاجة لحبب إليهم الإيمان كما حببه إلى المؤمنين . وقوله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبْتُمْ } أيها الكافرون { فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَاماً } أي فسوف يكون تكذيبكم لزاما لكم ، يعني مقتضياً لعذابكم وهلاككم ودماركم في الدنيا والآخرة .(1/1832)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ (4) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (6) أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تكلمنا عليه في أول تفسير سورة البقرة ، وقوله تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب المبين } أي هذه آيات القرآن المبين ، أي البيِّن الواضح الجلي ، الذي يفصل بين الحق والباطل والغي والرشاد ، وقوله تعالى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ } أي مهلك { نَّفْسَكَ } أي مما تحرص وتحزن عليهم { أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } ، وهذه تسلية من الله لرسوله صلى الله عليه وسلم في عدم إيمان من لم يؤمن به من الكفار ، كما قال تعالى : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] ، كقوله : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ } [ الكهف : 6 ] الآية . قال مجاهد وعكرمة { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ } : أي قاتل نفسك ، ثم قال تعالى : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } أي لو نشاء لأنزلنا آية تضطرهم إلى الإيمان قهراً ، ولكن لا نفعل ذلك لأنا من أحد إلاّ الإيمان الاختياري ، وقال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً } [ يونس : 99 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } [ هود : 118 ] الآية ، فنفذ قدره ومضت حكمته ، وقامت حجته البالغة على خلقه بإرسال الرسل إليهم وإنزال الكتب عليهم ، ثم قال تعالى : { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهُ مُعْرِضِينَ } أي كلما جاءهم كتاب من السماء أعرض عنه أكثر الناس كما قال تعالى : { وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] ، وقال تعالى : { ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ يس : 30 ] ، وقال تعالى : { كُلَّ مَا جَآءَ أُمَّةً رَّسُولُهَا كَذَّبُوهُ } [ المؤمنون : 44 ] الآية ولهذا قال تعالى هاهنا : { فَقَدْ كَذَّبُواْ فَسَيَأْتِيهِمْ أَنبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي فقد كذبوا بما جاءهم من الحق ، فسيعلمون نبأ هذا التكذيب بعد حين ، ثم نبَّه تعالى على عظمة سلطانه وجلالة قدره ، وهو القاهر العظيم القادر الذي خلق الأرض وأنبتت فيها من كل زوج كريم ، من زروع وثمار وحيوان ، قال الشعبي : الناس من نبات الأرض ، فمن دخل الجنة فهو كريم ، ومن دخل النار فهو لئيم ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي دلالة على قدرة الخالق للأشياء ، الذي بسط الأرض ، ورفع بناء السماء ومع هذا ما آمن أكثر الناس ، بل كذبوا به وبرسله ، وقوله : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز } أي الذي عز كل شيء وقهره وغلبه ، { الرحيم } أي بخلقه فلا يعجل على من عصاه بل يؤجله وينظره ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر ، قال أبو العالية : العزيز في نقمته وانتصاره ممن خالف أمره وعبد غيره الرحيم بمن تاب إليه وأناب .(1/1833)
وَإِذْ نَادَى رَبُّكَ مُوسَى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلَا يَتَّقُونَ (11) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلَا يَنْطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إِلَى هَارُونَ (13) وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14) قَالَ كَلَّا فَاذْهَبَا بِآيَاتِنَا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فَقُولَا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (17) قَالَ أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيدًا وَلَبِثْتَ فِينَا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَفَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَأَنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (19) قَالَ فَعَلْتُهَا إِذًا وَأَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْمًا وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (22)
يخبر تعالى عما أمر به عبده ورسوله كليمه ( موسى بن عمران ) عليه السلام حين ناداه من جانب الطور الأيمن ، وكلمه ناجاه ، وأرسله واصطفاه ، وأمره بالذهاب إلى فرعون وملئه ، ولهذا قال تعالى : { أَنِ ائت القوم الظالمين * قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَلا يَتَّقُونَ * قَالَ رَبِّ إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ * وَيَضِيقُ صَدْرِي وَلاَ يَنطَلِقُ لِسَانِي فَأَرْسِلْ إلى هَارُونَ * وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } هذه أعذار سأل من الله إزاحتها عنه ، كما قال في سورة طه { قَالَ رَبِّ اشرح لِي صَدْرِي * وَيَسِّرْ لي أَمْرِي . . . } [ الآية : 25-26 ] إلى قوله { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } [ الآية : 36 ] ، وقوله تعالى : { وَلَهُمْ عَلَيَّ ذَنبٌ فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } أي بسبب قتل القبطي الذي كان سبب خروجه من بلاد مصر ، { قَالَ كَلاَّ } أي قال الله له : لا تخف من شيء من ذلك ، كقوله : { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً } [ القصص : 35 ] ، { فاذهبا بِآيَاتِنَآ إِنَّا مَعَكُمْ مُّسْتَمِعُونَ } ، كقوله : { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } أي إنني معكما بحفظي وكلاءتي ونصري وتأييدي ، { فَأْتِيَا فِرْعَوْنَ فقولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ العالمين } ، كقوله في الآية الأخرى : { أَنَاْ رَسُولُ رَبِّكِ } [ مريم : 19 ] أي كل منا أرسل إليك ، { أَنْ أَرْسِلْ مَعَنَا بني إِسْرَائِيلَ } أي أطلقهم من إسارك وقبضتك وقهرك وتعذيبك ، فإنهم عباد الله المؤمنون وحزبه المخلصون ، فلما قال له موسى ذلك أعرض فرعون هنالك بالكلية ، ونظر إليه بعين الأزدراء والغَمْص فقال : { أَلَمْ نُرَبِّكَ فِينَا وَلِيداً } الآية ، أي أما أنت الذي ربيناه فينا وفي بيتنا وعلى فراشنا ، وأنعمنا عليه مدة من السنين ، ثم بعد هذا قابلت ذلك الإحسان بتلك الفعلة أن قتلت منا رجلاً وجحدت نعمتنا عليك ، ولهذا قال : { وَأَنتَ مِنَ الكافرين } أي الجاحدين { قَالَ فَعَلْتُهَآ إِذاً } أي في تلك الحال { وَأَنَاْ مِنَ الضالين } أي قبل أن يوحي إليّ وينعم الله عليّ بالرسالة والنبوة ، قال ابن عباس { وَأَنَاْ مِنَ الضالين } أي الجاهلين ، { فَفَرَرْتُ مِنكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ } الآية ، أي انفصل الحال الأول وجاء أمر آخر ، فقد أرسلني الله إليك فإن أطعته سلمت ، وإن خالفته عطبت ، ثم قال موسى : { وَتِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّهَا عَلَيَّ أَنْ عَبَّدتَّ بَنِي إِسْرَائِيلَ } أي وما أحسنت إلي وربيتني مقابل ما أسأت إلى بني إسرائيل ، فجعلتهم عبيداً وخدماً ، تصرفهم في أعمالك ومشاق رعيتك ، أَفيفي إحسانك إلى رجل واحد منهم بما أسأت إلى مجموعهم؟ أي ليس ما ذكرته شيئاً بالنسبة إلى ما فعلت بهم .(1/1834)
قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ الْعَالَمِينَ (23) قَالَ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قَالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَلَا تَسْتَمِعُونَ (25) قَالَ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قَالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27) قَالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)
يقول تعالى مخبراً عن كفر فرعون وتمرده وطغيانه وجحوده في قوله : { وَمَا رَبُّ العالمين } ، وذلك أنه كان يقول لقومه : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] { فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } [ الزخرف : 54 ] وكانوا يجحدون الصانع جلَّ وعلا ، ويعتقدون أنه لا رب لهم سوى فرعون ، فلما قال له موسى : إني رسول رب العالمين ، قال له فرعون : ومن هذا الذي تزعم أنه رب العالمين غيري؟ هذكا فسره علماء السلف وأئمة الخلف ، حتى قال السدي : هذه الآية كقوله تعالى : { قَالَ فَمَن رَّبُّكُمَا ياموسى } [ طه : 49 ] فعند ذلك قال موسى لما سأله عن رب العالمين : { قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ } أي خالق جميع ذلك ومالكه ، والمتصرف فيه ، وإلهه لا شريك له ، هو الذي خلق الأشياء كلها من بحار وقفار ، وجبال وأشجار ، ونبات وثمار ، وما بين ذلك من الهواء والطير ، وما يحتوي عليه الجو ، الجميع عبيد له خاضعون ذليلو ، { إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } أي إن كانت لكم قلوب موقنة وأبصار نافذة ، فعند ذلك التفت فرعون إلى من حوله من ملئه ، ورؤساء دولته قائلاً على سبيل التهكم والاستهزاء والتكذيب لموسى فيما قاله : { أَلاَ تَسْتَمِعُونَ } ؟ أي ألا تعجبون من هذا في زعمه أن لكم إلهاً غيري؟ فقال لهم موسى : { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين } أي خالقكم وخالق آبائكم الأولين الذين كانوا قبل فرعون وزمانه ، { قَالَ } أي فرعون لقومه { إِنَّ رَسُولَكُمُ الذي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ } أي ليس له عقل في دعواه أنَّ ثمّ رباً غيري ، { قَالَ } أي موسى لأولئك الذين أوعز إليهم فرعون ما أوعز من الشبهة ، فأجاب موسى بقوله : { رَبُّ المشرق والمغرب وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُونَ } أي هو الذي جعل المشرق مشرقاً تطلع منه الكواكب ، والمغرب مغرباً تغرب فيه ، الكواكب ، فإن كان هذا الذي يزعم أنه ربكم وإلهكم صادقاً فليعكس الأمر ، وليجعل المشرق مغرباً والمغرب مشرقاً ، كما قال تعالى : { قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب } [ البقرة : 258 ] الآية ، ولهذا لما غلب فرعون وانقطعت حجته عدل إلى استعمال جاهه وقوته وسلطانه ، واعتقد أن ذلك نافع له ونافذ في موسى عليه السلام ، فقال ما أخبر الله تعالى عنه :(1/1835)
قَالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلَهًا غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيْءٍ مُبِينٍ (30) قَالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (32) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33) قَالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (35) قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَابْعَثْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37)
لما قامت الحجة على فرعون بالبيان والعقل ، عدل إلى أن يقهر موسى بيده وسلطانه ، فظن أنه ليس وراء هذا المقام مقال فقال : { لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } ، فعند ذلك قال موسى : { أَوَلَوْ جِئْتُكَ بِشَيءٍ مُّبِينٍ } ؟ أي ببرهان قاطع واضح ، { قَالَ فَأْتِ بِهِ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين * فألقى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } أي ظاهر واضح في غاية الجلاء والوضوح ، ذات قوائم وفم كبير وشكل هائل مزعج ، { وَنَزَعَ يَدَهُ } أي من جيبه { فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } أي تتلألأ كقطعة من القمر ، فبادر فرعون بشقاوته إلى التكذيب والعناد فقال للمأ حوله : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } أي بارع في السحر ، فروّج عليهم أن هذا من قبيل السحر لا من قبيل المعجزة ، ثم هيجهم وحرضهم على مخالفته والكفر به ، فقال : { يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُمْ مِّنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ } الآية ، أي أراد أن يذهب بقلوب الناس معه بسبب هذا ، فيكثر أعوانه وأنصاره وأتباعه ويغلبكم على دولتكم ، فيأخذ البلاد منكم ، فأشيروا عليَّ فيه ماذا أصنع به؟ { قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وابعث فِي المدآئن حَاشِرِينَ * يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيم } أي أخره وأخاه حتى تجمع له من مدائن مملكتك ، وأقاليم دولتك كل سحار عليهم يقابلونه ، ويأتون بنظير ما جاء به ، فتغلبه أنت وتكون لك النصرة والتأييد فأجابهم إلى ذلك ، وكان هذا من تسخير الله تعالى ، ليجتمع الناس في صعيد واحد ، وتظهر آيات الله وحججه وبراهينه على الناس في النهار جهرة .(1/1836)
فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقَاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38) وَقِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كَانُوا هُمُ الْغَالِبِينَ (40) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالُوا لِفِرْعَوْنَ أَئِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (41) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذًا لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42) قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغَالِبُونَ (44) فَأَلْقَى مُوسَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (46) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (47) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (48)
لما جاء السحرة وقد جمعوهم من أقاليم بلاد مصر ، وكانوا إذ ذاك أسحر الناس وأصنعهم ، وكان السحرة جمعاً كثيراً وجماً غفيراً ، قيل : كانوا اثني عشر ألفاً ، وقيل : خمسة عشر ألفاً ، وقيل : غير ذلك ، والله أعلم بعدتهم . واجتهد الناس في الاجتماع ذلك اليوم ، وقال قائلهم : { لَعَلَّنَا نَتَّبِعُ السحرة إِن كَانُواْ هُمُ الغالبين } ، ولم يقولوا نتبع الحق سواء كان من السحرة أو من موسى ، بل الرعية على دين ملكهم { فَلَمَّا جَآءَ السحرة } أي إلى مجلس فرعون ، وقد جمع خدمه وحشمه ، ووزراءه ورؤساء دولته ، وجنود مملكته ، فقام السحرة بين يدي فرعون يطلبون منه الإحسان إليهم إن غلوا فقالوا : { أَإِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الغالبين * قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ إِذاً لَّمِنَ المقربين } أي وأخص مما تطلبون أجعلكم من المقربين عندي وجلسائي ، فعادوا إلى مقام المناظرة { قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى } [ طه : 65 ] وقد اختصر هذا هاهنا فقال لهم موسى : { أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ * فَأَلْقَوْاْ حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ وَقَالُواْ بِعِزَّةِ فِرْعَونَ إِنَّا لَنَحْنُ الغالبون } وهذا كما تقول الجهلة من العوام إذا فعلوا شيئاً هذا بثواب فلان ، { فألقى موسى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ } أي تخطفه وتجمعه من كل بقعة وتبتلعه فلم تدع منه شيئاً . قال الله تعالى : { فَوَقَعَ الحق وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 118 ] فكان هذا أمراً عظيماً ، وبرهاناً قاطعاً للعذر ، وحجة دامغة ، وذلك أن الذين استنصر بهم وطلب منهم أن يغلبوا غُلبوا ، وخضعوا وآمنوا بموسى في الساعة الراهنة ، وسجدوا لله رب العالمين الذي أرسل موى وهارون بالحق وبالمعجزة الباهرة ، فغلب فرعون غلباً لم يشاهد العالم مثله ، وكان وقحاً جريئاً عليه لعنة الله والملائكة والناس أجمعين ، فعدل إلى المكابرة والعناد ودعوى الباطل ، فشرع يتهددهم ويتوعدهم ، ويقول : { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } [ طه : 71 ] ، وقال : { إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي المدينة } [ الأعراف : 123 ] الآية .(1/1837)
قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قَالُوا لَا ضَيْرَ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)
تهددهم فلم ينفع ذلك فيهم ، وتوعدهم فما زادهم إلاّ إيماناً وتسليماً ، وذلك أنه قد كشف عن قلوبهم حجاب الكفر ، وظهر لهم الحق من أن هذا الذي جاء به موسى لا يصدر عن بشر ، إلاّ أن يكون الله قد أيده به وجعله له حجة ، ودلالة على صدق ما جاء به من ربه ، ولهذا لما قال لهم فرعون { آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ } ؟ أي كان ينبغي أن تستأذنوني فيما فعلتم ولا تفتانوا عليَّ في ذلك ، فإن أذنت لكم فعلتم وإن منعتكم امتنعتم ، فإني أنا الحاكم المطاع { إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر } . وهذه مكابرة يعلم كل أحد بطلانها ، فإنهم لم يجتمعوا بموسى قبل ذلك اليوم ، فكيف يكون كبيرهم الذي أفادهم صناعة السحر؟ هذا لا يقوله عاقل ، ثم توعدهم فرعون بقطع الأيدي والأرجل والصلب ، فقالوا { لاَ ضَيْرَ } أي لا حرج ولا يضرنا ذلك ولا نبالي به ، { إِنَّآ إلى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ } أي المرجع إلى الله عزَّ وجلَّ ، وهو لا يضيع أجر من أحسن عملاً ، ولا يخفى عليه من فعلت بنا وسيجزينا على ذلك أتم الجزاء ، ولهذا قالوا : { إِنَّا نَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَآ } أي من فارقنا من الذنوب وما أكرهتنا عليه من السحر ، { أَن كُنَّآ أَوَّلَ المؤمنين } أي بسبب أنا بادرنا قومنا من القبط إلى الإيمان ، فقتلهم كلهم .(1/1838)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَسْرِ بِعِبَادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (53) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَائِظُونَ (55) وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ (56) فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (57) وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (58) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ (59)
لما طال مقام موسى عليه السلام ببلاد مصر ، وأقام بها حجج الله وبراهينه على فرعون وملئه ، وهم من ذلك يكابرون ويعاندون ، لم يبق لهم إلاّ العذاب والنكال ، فأمر الله تعالى موسى عليه السلام أن يخرج ببني إسرائيل ليلاً من مصر ، وأن يمضي بهم حيث يؤمر ، ففعل موسى عليه السلام ما أمره به ربه عزَّ وجلَّ . خرج بهم بعدما استعاروا من قوم فرعون حلياً كثيراً ، وكان خروجه بهم فيما ذكره غير واحد من المفسرين وقت طلوع القمر ، وأن موسى عليه السلام سأل عن قبر يوسف عليه السلام ، فدلته امرأة عجوز من بني إسرائيل عليه ، فاحتمل تابوته معهم ، وكان يوسف عليه السلام قد أوصى بذلك إذا خرج بنو إسرائيل أن يحتملوا معهم ، فلما أصبحوا وليس في ناديهم داع ولا مجيب ، غاظ ذلك لفرعون ، واشتد غضبه على بني إسرائيل لما يريد الله به من الدمار ، فأرسل سريعاً في بلاده حاشرين ، أي من يحشر الجند ويجمعه كالنقباء والحجاب ونادى فيهم : { إِنَّ هؤلاء } يعني بني إسرائيل { لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ } أي لطائفة قليلة ، { وَإِنَّهُمْ لَنَا لَغَآئِظُونَ } أي كل وقت يصل منهم إلينا ما يغيظنا ، { وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَاذِرُونَ } أي نحن كل وقت نحذر من غائلتهم ، وإني أريد أن أستأصل شأفتهم وأبيد خضراءهم ، فجوزي في نفسه وجنده بما أراد لهم ، قال الله تعالى : { فَأَخْرَجْنَاهُمْ مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ } أي فخرجوا من هذا النعيم إلى الجحيم ، وتركوا تلك المنازل العالية والبساتين والأنهار والأموال والأرزاق والملك والجاه الوافر في الدنيا ، { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } ، كما قال تعالى : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا } [ الأعراف : 137 ] الآية .(1/1839)
فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَرَاءَى الْجَمْعَانِ قَالَ أَصْحَابُ مُوسَى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61) قَالَ كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَأَنْجَيْنَا مُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)
ذكر غير واحد من المفسرين : أن فرعون خرج في محفل عظيم وجمع كبير ، من الأمراء والوزراء والكبراء والرؤساء والجنود ، { فَأَتْبَعُوهُم مُّشْرِقِينَ } أي وصلوا إليهم عند شروق الشمس وهو طلوعها ، { فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان } أي رأى كل من الفريقين صاحبه فعند ذلك { قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } ، وذلك أنهم انتهى بهم السير إلى سيف البحر ، وهو بحر القلزم فصار أمامهم البحر ، وقد أدركهم فرعون بجنوده ، فلهذا قالوا : { إِنَّا لَمُدْرَكُونَ * قَالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } أي لا يصل إليكم شيء مما تحذرون ، فإن الله سبحانه هو الذي أمرني أن أسير هاهنا بكم ، وهو سبحانه وتعالى لا يخالف الميعاد ، وكان هارون عليه السلام في المقدمة ، ومعه ( يوشع بن نون ) ومؤمن آل فرعون ، وموسى عليه السلام في الساقة ، فعند ذلك أمر الله نبيه موسى عليه السلام أن يضرب بعصاه البحر فضربه ، وقال : انفلق بإذن الله . وروى ابن أبي حاتم عن عبد الله بن سلام : أن موسى عليه السلام لما انتهى إلى البحر قال : يا من كان قبل كل شيء ، والمكون لكل شيء ، والكائن بعد كل شيء ، اجعل لنا مخرجاً ، فأوحى الله إليه : { أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر } . وقال محمد بن إسحاق : أوحى الله - فيما ذكر لي - إلى البحر أن إذا ضربك موسى بعصاه فانفلق له ، قال : فبات البحر يضطرب ويضرب بعضه بعضاً فرقاً من الله تعالى وانتظاراً لما أمره الله ، وأوحى الله إلى موسى { أَنِ اضرب بِّعَصَاكَ البحر } فضربه بها ، ففيها سلطان الله الذي أعطاه فانفلق ، قال الله تعالى : { فانفلق فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كالطود العظيم } أي كالجبل الكبير ، قاله ابن عباس ، وقال عطاء الخراساني : هو الفج بين الجبلين . وقال ابن عباس : صار البحر اثني عشر طريقاً لكل سبط طريق؛ وزاد السدي : وصار فيه طاقات ينظر بعضهم إلى بعض ، قال الله تعالى : { فاضرب لَهُمْ طَرِيقاً فِي البحر يَبَساً لاَّ تَخَافُ دَرَكاً وَلاَ تخشى } [ طه : 77 ] ، وقال في هذه القصة { وَأَزْلَفْنَا ثَمَّ الآخرين } أي هنالك . قال ابن عباس { وَأَزْلَفْنَا } أي قربنا من البحر فرعون وجنوده وأدنيناهم إليه ، { وَأَنجَيْنَا موسى وَمَن مَّعَهُ أَجْمَعِينَ * ثُمَّ أَغْرَقْنَا الآخرين } أي أنجينا موسى وبني إسرائيل ومن اتبعهم على دينهم فلم يهلك منهم أحد ، وأغرق فرعون وجنوده فلم يبق منهم رجل إلاّ هلك . عن عبد الله ابن مسعود قال : فلما خرج آخر أصحاب موسى وتكامل أصحاب فرعون انطم عليهم البحر ، فما رئي سواد أكير من يومئذٍ ، وغرق فرعون لعنه الله ، ثم قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً } أي في هذه القصة وما فيها من العجائب والنصر والتأييد لعباد الله المؤمنين لدلالة وحجة قاطعة وحكمة بالغة { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } تقدم تفسيره .(1/1840)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْرَاهِيمَ (69) إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ (70) قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ (71) قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73) قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلَّا رَبَّ الْعَالَمِينَ (77)
هذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله وخليله إبراهيم عليه السلام إمام الحنفاء ، أمر الله تعالى رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يتلوه على أمته ليقتدوا به في الإخلاص والتوكل ، وعبادة الله وحده لا شريك ولا والتبري من الشرك وأهله ، فإن الله تعالى آتى إبراهيم رشده من صغره ، فإنه من وقت نشأ وشب أنكر على قومه عبادة الأصنام مع الله عزَّ وجلَّ ، { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ } ؟ أي ما هذه التماثيل التي أنتم لها عاكفون؟ { قَالُواْ نَعْبُدُ أَصْنَاماً فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ } أي مقيمين على عبادتها ودعائها ، { قَالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ * أَوْ يَنفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ * قَالُواْ بَلْ وَجَدْنَآ آبَآءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ } يعني اعترفوا بأن أصنامكم لا تفعل شيئاً من ذلك وإنما رأوا آباءهم كذذلك يفعلون ، فهم على آثارهم يهرعون ، فعند ذلك قال لهم إبراهيم : { أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين } أي إن كانت هذه الأصنام شيئاً ولها تأثير ، فلتخلص إليّ بالمساءة ، فإني عدو لها لا أبالي بها ولا أفكر فيها ، وهذه كما قال تعالى مخبراً عن نوح عليه السلام { فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } [ يونس : 71 ] الآية . وقال هود عليه السلام { فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } [ هود : 55 ] ، وهكذا تبرأ إبراهيم من آلهتهم ، قال تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [ الزخرف : 26-27 ] .(1/1841)
الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78) وَالَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ (79) وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَالَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَالَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)
يعني لا أعبد إلاّ الذي يفعل هذه الأشياء { الذي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ } : أي هو الخالق الذي قدر قدراً ، وهدى الخلائق إليه فكل يجري على ما قدر له ، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، { والذي هُوَ يُطْعِمُنِي وَيَسْقِينِ } أي هو خالقي ورازقي بما سخر ويسر من الأسباب السماوية والأرضية ، { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } أسند المرض إلى نفسه وإن كان عن قدر الله وقضائه وخلقه ، ولكن أضافه إلى نفسه أدباً ، كما قال الجن : { وَأَنَّا لاَ ندري أَشَرٌّ أُرِيدَ بِمَن فِي الأرض أَمْ أَرَادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً } [ الآية : 10 ] ، وكذا قال إبراهيم : { وَإِذَا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ } أي إذا وقعت في مرض فإنه لا يقدر على شفائي أحد غيره بما يقدر من الأسباب الموصلة إليه ، { والذي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ } أي هو الذي يحيي ويميت لا يقدر على ذلك أحد سواه ، فإنه هو الذي يبدئ ويعيد { والذي أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدين } أي لا يقدر على غفران الذنوب في الدنيا والآخرة إلاّ هو ، ومن يغفر الذنوب إلاّ الله؟ وهو الفعال لما يشاء .(1/1842)
رَبِّ هَبْ لِي حُكْمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَاجْعَلْ لِي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَاجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَاغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كَانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87) يَوْمَ لَا يَنْفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ (88) إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)
وهذا سؤال من إبراهيم عليه السلام أن يؤتيه ربه حكماً ، قال ابن عباس : وهو العلم ، وقال عكرمة : هو اللب ، وقال مجاهد : هو القرآن ، وقال السدي : هو النبوة ، وقوله : { وَأَلْحِقْنِي بالصالحين } أي اجعلني مع الصالحين في الدنيا والآخرة كما قال النبي صلى الله عليه وسلم عند الاحتضار : « اللهم في الرفيق الأعلى » ، قالها ثلاثاً . وفي الحديث : « اللهم أحينا مسلمين ، وأمتنا مسلمين ، وألحقنا بالصالحين ، غير خزايا ولا مبدلين » ، وقوله : { واجعل لِّي لِسَانَ صِدْقٍ فِي الآخرين } أي واجعل لي ذكراً جميلاً بعدي أذكر به ويقتدى بي في الخير ، كما قال تعالى : { وَتَرَكْنَا عَلَيْهِ فِي الآخرين * سَلاَمٌ على إِبْرَاهِيمَ * كَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } [ الصافات : 108-110 ] . قال مجاهد وقتادة : يعني الثناء الحسن ، قال ليث ابن أبي سليم : كل ملة تحبه وتتولاه ، وقوله تعالى : { واجعلني مِن وَرَثَةِ جَنَّةِ النعيم } أي أنعم علي في الدنيا ببقاء الذكر الجميل بعدي ، وفي الآخرة بأن تجعلني من ورثة جنة النعيم ، وقوله : { واغفر لأبي } الآية ، كقوله : { رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ } [ إبراهيم : 41 ] وهذا مما رجع عنه إبراهيم عليه السلام ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ } [ التوبة : 114 ] إلى قوله { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 114 ] ، وقوله : { وَلاَ تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ } أي أجرني من الخزي يوم القيامة ، ويوم يبعث الخلائق أولهم وآخرهم ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يلقى إبراهيم يوم القيامة أباه عليه الغبرة والقترة » .
وفي رواية أخرى : « يلقى إبراهيم أباه آزر يوم القيامة ، وعلى وجه آزر قترة وغبرة فيقول له إبراهيم : ألم أقل لك لا تعصني ، فيقول أبوه فاليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم : يا رب إنك وعدتني أن لا تخزني يوم يبعثون فأي خزي من أبي الأبعد؟ فيقول الله تعالى : إني حرمت الجنة على الكافرين؛ ثم يقول : يا إبراهيم انظر تحت رجلك فينظر فإذا هو بذيخ متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النا » وقوله : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } أي لا يقي المرء من عذاب الله ماله ولو افتدى بملء الأرض ذهباً { وَلاَ بَنُونَ } أي ولو افتدى بمن على الأرض جميعاً ولا ينفع يومئذٍ إلاّ الإيمان بالله ، وإخلاص الدين له ، ولهذا قال : { إِلاَّ مَنْ أَتَى الله بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } أي سالم من الدنس والشرك ، قال ابن سيرين : القلب السليم أن يعلم أن الله أحق ، وأن الساعة آتية لا ريب فيها ، وأن الله يبعث من في القبور ، وقال ابن عباس : القلب السليم أن يشهد أن لا إله إلاّ لله ، وقال مجاهد والحسن : { بِقَلْبٍ سَلِيمٍ } يعني من الشرك ، وقال سعيد بن المسيب : القلب السليم هو القلب الصحيح ، وهو قلب المؤمن لأن قلب الكافر والمنافق مريض ، قال الله تعالى : { فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } [ البقرة : 10 ] قال أبو عثمان النيسابوري : هو القلب السالم من البدعة المطمئن إلى السنّة .(1/1843)
وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ (91) وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ (94) وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (98) وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ (99) فَمَا لَنَا مِنْ شَافِعِينَ (100) وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)
{ وَأُزْلِفَتِ الجنة } أي قربت وأدنيت من أهلها مزخرفة مزينة لناظريها ، وهم المتقون الذين رغبوا فيها وعملوا لها في الدنيا ، { وَبُرِّزَتِ الجحيم لِلْغَاوِينَ } أي أظهرت وكشف عنها ، وبدت منها عنق فزفرت زفرة بلغت منها القلوب الحناجر ، وقيل لأهلها تقريعاً وتوبيخاً : { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ * مِن دُونِ الله هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ } ؟ أي ليست الآلهة التي عبدتموها من دون الله من تلك الأصنام والأنداد تغني عنكم اليوم شيئاً ، ولا تدفع عن أنفسها ، فإنكم إياها اليوم حصب جهنم أنتم لها واردون ، وقوله : { فَكُبْكِبُواْ فِيهَا هُمْ والغاوون } قال مجاهد : يعني فدهوروا فيها ، والمراد أنه لها واردون ، وقوله : { وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ } قال مجاهد : يعني فدهوروا فيها ، والمراد أنه ألقي بعضهم على بعض من الكفار وقادتهم الذين دعوهم إلى الشرك ، { قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين } أي ألقوا فيها عن آخرهم ، { قَالُواْ وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ * تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين } أي يقول الضعفاء للذين استكبروا وقد عادوا على أنفسهم بالملامة : { تالله إِن كُنَّا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ العالمين } أي نجعل أمركم مطاعاً كما يطاع أمر رب العالمين وعبدناكم مع رب العالمين ، { وَمَآ أَضَلَّنَآ إِلاَّ المجرمون } أي ما دعانا إلى ذلك إلاّ المجرمون ، { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ } قال بعضهم يعني من الملائكة ، كما يقولون { فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ } [ الأعراف : 53 ] ؟ وكذا قالوا : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } أي قريب ، قال قتادة : يعلمون والله أن الصديق إذا كان صالحاً نفع ، وأن الحميم إذا كان صالحاً شفع { فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } ، وذلك أنهم يتمنون أنهم يردون إلى دار الدنيا ليعملوا بطاعة ربهم فيما يزعمون ، والله تعالى يعلم أنهم لو رادوا إلى دار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ، وقد أخبر الله تعالى عن تخاصم أهل النار ، ثم قال تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ } أي إن في محاجة إبراهيم لقومه وإقامة الحجج عليهم في التوحيد { لآيَةً } أي لدلالة واضحة جلية على أن لا إله إلاّ الله ، { وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } .(1/1844)
كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (108) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (109) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (110)
هذا إخبار من الله عزَّ وجلَّ عن عبده ورسوله نوح عليه السلام ، وهو أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعدما عبدت الأصنام والأنداد ، فبعثه الله ناهياً عن ذلك محذراً من وبيل عقابه ، فكذبه قومه فاستمروا على ما هم عليه من الفعال الخبيثة في عبادتهم أصنامهم مع الله تعالى ، ونّزل الله تعالى تكذيبهم له منزلة تكذيبهم جميع الرسل ، فلهذا قال تعالى : { كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ المرسلين * إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَلاَ تَتَّقُونَ } أي ألا تخافون الله في عبادتكم غيره { إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ } أي إني رسول من الله إليكم ، أمين فيما بعثني الله به ، أبلغكم رسالات ربي ولا أزيد فيها ولا أنقص منها { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * وَمَآ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } الآية ، أي لا أطلب منكم جزاء على نصحي لكم بل أدخر ثواب ذلك عند ذلك ، { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } فقد وضح لكم وبان صدقي ونصحي وأمانتي فيما بعثني الله به وائتمنني عليه .(1/1845)
قَالُوا أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (112) إِنْ حِسَابُهُمْ إِلَّا عَلَى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114) إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (115)
يقولون : لا نؤمن لك ولا نتبعك ونتأسى في ذلك بهؤلاء الأرذلين ، الذين اتبعوك وصدقوك وهم أراذلنا ، ولهذا { قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي وأي شيء يلزمني من اتباع هؤلاء لي ولو كانوا على أي شيء كانوا عليه . لا يلزمني التنقيب عنهم والبحث والفحص ، إنما علي أن أقبل منهم تصديقهم إياي ، وأَكِلَ سرائرهم إلى الله عزَّ وجلَّ ، { إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ * وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين } كأنهم سألوا منه أن يبعدهم عنه ويتابعوه فأبى عليهم ذلك ، وقال { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ المؤمنين * إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي إنما بعثت نذيراً ، فمن أطاعني واتبعني وصدقني كان مني وأنا منه سواء كان شريفاً أو وضيعاً ، أو جليلاً أو حقيراً .(1/1846)
قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قَالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحًا وَنَجِّنِي وَمَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119) ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الْبَاقِينَ (120) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)
لما طال مقام نبي الله بين أظهرهم يدعوهم إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً ، وسراً وجهاراً ، وكلما كرر عليهم الدعوة صمموا على الكفر الغليظ والامتناع الشديد ، وقالوا في الآخر : { لَئِنْ لَّمْ تَنْتَهِ يانوح لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين } أي لئن لم تنته عن دعوتك إيانا إلى دينك { لَتَكُونَنَّ مِنَ المرجومين } أي لنرجمنك ، فعند ذلك دعا عليهم دعوة استجاب الله منه فيقال : { رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ * فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } الآية ، كما قال في الآية الأخرى { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر } [ القمر : 10 ] إلى آخر الآية ، وقال هاهنا { فَأَنجَيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الفلك المشحون * ثُمَّ أَغْرَقْنَا بَعْدُ الباقين } والمشحون هو المملوء بالأمتعة والأزواج التي حمل فيها من كل زوجين اثنين ، أي أنجينا نوحاً ومن اتبعه كلهم وأغرقنا من كفر به وخالف أمره كلهم أجمعين { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } .(1/1847)
كَذَّبَتْ عَادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَلَا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (126) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (127) أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (131) وَاتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ (132) أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ (133) وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (134) إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135)
وهذا إخبار من الله تعالى عن عبده ورسوله ( هود ) عليه السلام أنه دعا قومه عاداً ، وكان قومه يسكنون الأحقاف ، وهي جبال الرمل قريباً من حضرموت متاخمة بلاد اليمن ، وكان زمانهم بعد قوم نوح ، كما قال في سورة الأعراف : { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً } [ الآية : 69 ] ، وذلك أنهم كانوا في غاية من قوة التركيب والقوة والبطش الشديد ، والأموال والجنات والأنهار ، والأبناء والزروع والثمار ، وكانوا مع ذلك يعبدون غير الله معه ، فبعث الله هوداً إليهم رجلاً منهم رسولاً وبشيراً ونذيراً فدعاهم إلى الله وحده وحذرهم نقمته وعذابه ، فقال لهم { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ } ؟ الريع : المكان المرتفع عند جواد الطرق المشهورة ، يبنون هناك بنياناً محكماً هائلاً باهراً ، ولهذا قلا : { أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ } أي معلماً بناء مشهوراً ، { تَعْبَثُونَ } أي وإنما تفعلون ذلك عبثاً لا للاحتياج إليه ، بل لمجرد اللعب واللهو وإظهار القوة ، ولهذا أنكر عليهم نبيهم عليه السلام ، لأنه تضييع للزمان وإتعاب للأبدان في غير فائدة ، واشتغال بما لا يجدي في الدنيا ولا في الآخرة ، ولهذا قال : { وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } قال مجاهد : والمصانع البروج المشيدة والبنيان المخلد ، وفي رواية عنه : بروج الحمام . وقال قتادة : هي مأخذ الماء ، { لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ } أي لكي تقيموا فيها أبداً ، وذلك ليس بحاصل لكم بل زائل عنكم ، كما زال عمن كان قبلكم ، روي أن أبا الدرداء رضي الله عنه لما رأى ما أحدث المسلمون في الغوطة من البنيان ونصب الشجر ، قام في مسجدهم فنادى يا أهل دمشق ، فاجتمعوا إليه ، فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : ألا تستحيون ، ألا تستحيون ، تجمعون ما لا تأكلون ، وتبنون ما لا تسكنون ، وتأملون ما لا تدركون ، إنه قد كانت قبلكم قرون يجمعون فيوعون ، ويبنون فيوثقون ويأملون فيطيلون ، فأصبح أملهم غروراً ، وأصبح جمعهم بوراً ، وأصبحت مساكنهم قبوراً ، ألا إن عاداً ملكت ما بين عدن وعمان خيلاً ، وركاباً فمن يشتري مني ميراث عاد بدرهمين؟ وقوله : { وَإِذَا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ } أي يصفهم بالقوة والغلظة والجبروت ، { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } أي اعبدوا ربكم وأطيعوا رسولكم ، ثم شرع يذكرهم نعم الله عليهم فقال : { واتقوا الذي أَمَدَّكُمْ بِمَا تَعْلَمُونَ * أَمَدَّكُمْ بِأَنْعَامٍ وَبَنِينَ * وَجَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي إن كذبتم وخالفتم ، فدعاهم إلى الله بالترغيب والترهيب فما نفع فيهم .(1/1848)
قَالُوا سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْوَاعِظِينَ (136) إِنْ هَذَا إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137) وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)
يقول تعالى مخبراً عن جواب قوم هود له ، بعدما حذرهم وأنذرهم وبيَّن لهم الحق ووضحه { قَالُواْ سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَوَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِّنَ الواعظين } أي لا نرجع عما نحن عليه ، { وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } [ هود : 53 ] وهكذا الأمر ، فإن الله تعالى قال : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 96 ] الآية ، وقولهم { إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين } ، كما قال المشركون ، { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] ، وقال : وقيل للذين كفروا { مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأولين } [ النحل : 20 ] { خُلُقُ الأولين } بضم الخاء واللام . يعنون دينهم وما هم عليه من الأمر هو دين الأولين من الآباء والأجداد . ونحن تابعون لهم سالكون وراءهم نعيش كما عاشوا ونموت كما ماتوا ولا بعث ولا معاد . ولهذا قالوا { وَمَا نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ } ، قال ابن عباس : { إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الأولين } يقول : دين الأولين ، وقوله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ } أي استمروا على تكذيب نبي الله هود مخالفته وعناده فأهلكهم الله ، وقد بيَّن سبب إهلاكه إياهم في غير موضع من القرآن ، بأنه أرسل عليهم ريحاً صرصراً عاتية ، أي ريحاً شديدة الهبوب ذات برد شديد جداً ، فكان سبب إهلاكهم من جنسهم ، فإنهم كانوا أعتى شيء وأجبره ، فسلط عليهم ما هو أعتى منهم وأشد قوة ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد } [ الفجر : 6-7 ] ، وقال تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا } [ فصلت : 15 ] فسلكت الريح فحصبت بلادهم ، فحصبت كل شيء لهم كما قال تعالى : { تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا } [ الأحقاف : 25 ] الآية ، وقال تعالى : { وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ } [ الحاقة : 6 ] إلى قوله : { فَتَرَى القوم فِيهَا صرعى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ } [ الحاقة : 7 ] أي بقوا أبداناً بلا رؤوس ، وذلك أن الريح كانت تأتي الرجل منهم فتقتلعه وترفعه في الهواء ، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخ دماغه ، وتكسر رأسه ، وتلقيه ، كأنهم أعجاز نخل منقعر ، وقد كانوا تحصنوا في الجبال والكهوف والمغارات ، وحفروا لهم في الأرض إلى أنصافهم ، فلم يغن عنهم ذلك من أمر الله شيئاً ، { إِنَّ أَجَلَ الله إِذَا جَآءَ لاَ يُؤَخَّرُ } [ نوح : 4 ] ، ولهذا قال تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْنَاهُمْ } الآية .(1/1849)
كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صَالِحٌ أَلَا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (144) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (145)
وهذا إخبار من الله عزّ وجلَّ عن عبده ورسوله ( صالح ) عليه السلام أنه بعثه إلى قومه ثمود ، وكانوا عرباً يسكنون مدينة الحجر التي بين وادي القرى وبلاد الشام ، ومساكنهم معروفة مشهورة ، وكانوا بعد عاد وقبل الخليل عليه السلام ، فدعاهم نبيهم صالح إلى الله عزَّ وجلَّ أن يعبدوه وحده لا شريك له ، وأن يطيعوه فيما بلغهم من الرسالة ، فأبوا عليه وكذبوه وخالفوه ، وأخبرهم أنه لا يبتغي بدعوتهم أجراً منهم ، وإنما يطلب ثواب ذلك من الله عزَّ وجلَّ ، ثم ذكرهم آلاء الله عليهم فقال : { تُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَآ . . . . }(1/1850)
أَتُتْرَكُونَ فِي مَا هَاهُنَا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (147) وَزُرُوعٍ وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ (148) وَتَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا فَارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (150) وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (152)
يقول لهم واعظاً لهم ومحذرهم نقم الله أن تحل لهم ، ومذكراً بأنعم الله عليهم فيما رزقهم من الأرزاق الدارة ، وأنبت لهم من الجنات ، وفجر لهم من العيون الجاريات ، وأخرج لهم من الزروع والثمرات ، ولهذا قال : { وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } قال ابن عباس : أينع وبلغ فهو هضيم ، وعنه يقول : معشبة ، وقال مجاهد : هو الذي إذا يبس تهشم وتفتت وتناثر ، وقال ابن جريج عن مجاهد { وَنَخْلٍ طَلْعُهَا هَضِيمٌ } قال : حين يطلع تقبض عليه فتهضمه ، فهو من الرطب الهضيم ، ومن اليابس الهشيم ، تقبض عليه فتهشمه ، وقال عكرمة وقتادة : الهضيم الرطب اللين . وقال الضحاك : إذا كثر حمل الثمرة وركب بعضها بعضاً فهو هضيم ، وقال الحسن البصري : هو الذي لا نوى له ، وقال أبو صخر : ما رأيت الطلع حين ينشق عنه الكم فترى الطلع قد لصق بعضه ببعض فهو الهضيم . وقوله : { وَتَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً فَارِهِين } قال ابن عباس وغير واحد : يعني حاذقين ، وفي رواية عنه : شرهين أشرين ، وهو اختيار مجاهد وجماعة ، ولا منافاة بينهما ، فإنهم كانوا يتخذون تلك البيوت المنحوتة في الجبال أشراً وبطراً وعبثاً من غير حاجة إلى سكناها ، وكانوا حاذقين متقنين لنحتها ونقشها ، كما هو المشاهد من حالهم لمن رأى منازلهم ، ولهذا قال : { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ } أي أقبلوا على ما يعود نفعه عليكم في الدنيا والآخرة ، من عبادة ربكم الذي خلقكم ورزقكم ، لتعبدوه وتوحدوه وتسبحوه بكرة وأصيلاً { وَلاَ تطيعوا أَمْرَ المسرفين * الذين يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ } يعني رؤساءهم وكبراءهم الدعاة إلى الشرك والكفر ومخالفة الحق .(1/1851)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) مَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قَالَ هَذِهِ نَاقَةٌ لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155) وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُوا نَادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)
يقول تعالى مخبراً عن ثمود في جوابهم لنبيهم ( صالح ) عليه السلام ، حين دعاهم إلى عبادة ربهم عزَّ وجلَّ أنهم { قالوا إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين } قال مجاهد وقتادة : يعنون من المسحورين ، يقولون : إنما أنت في قولك هذا مسحور لا عقل لك ، ثم قالوا { مَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } يعني فكيف أوحي إليك دوننا ، كما قالوا في الآية الأخرى { أَأُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِن بَيْنِنَا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ } [ القمر : 25 ] ثم إنهم اقترحوا عليه آية يأتيهم بها ليعلموا صدقة بما جاءهم به من ربهم ، وقد اجتمع ملؤهم وطلبوا منه أن يخرج لهم الآن من هذه الصخرة ناقة عشراء ، وأشاروا إلى صخرة عندهم من صفتها كذا وكذا ، فعند ذلك أخذ عليهم نبي الله صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم عندهم ، من صفتها كذا وكذا ، فعند ذلك أخذ عليهم نبي الله صالح العهود والمواثيق لئن أجابهم إلى ما سألوا ليؤمنن به وليتبعنه ، فأعطوه ذلك ، فقام نبي الله صالح عليه السلام فصلى ثم دعا الله عزَّ وجلَّ أن يجيبهم إلى سؤالهم ، فانفطرت تلك الصخرة التي أشاروا إليها عن ناقة عشراء على الصفة التي وصفوها ، فآمن بعضهم وكفر أكثرهم { قَالَ هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } يعني ترد ماءكم يوماً ويوماً تردونه أنتم ، { وَلاَ تَمَسُّوهَا بسواء فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ } فحذرهم نقمة الله إن أصابوها بسوء ، فمكثت الناقة بين أظهرهم حيناً من الدهر ترد الماء ، وتأكل الورق والمرعى وينتفعون بلبنها يحلبون منها ما يكفيهم شرباً ورياً؛ فلما طال عليهم الأمد وحضر أشقاهم تمالأوا على قتلها وعقرها { فَعَقَرُوهَا فَأَصْبَحُواْ نَادِمِينَ * فَأَخَذَهُمُ العذاب } وهو أن أرضهم زلزلت زلزالاً شديداً ، وجاءتهم صيحة عظيمة اقتلعت القلوب من محالها ، وأتاهم من الأمر ما لم يكونوا يحتسبون ، وأصبحوا في ديارهم جاثمين { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } .(1/1852)
كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قَالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَلَا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (163) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (164)
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله لوط عليه السلام ، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليه السلام ، وكان الله تعالى قد بعثه إلى أمة عظيمة في حياة إبراهيم عليهما السلام ، وكانوا يسكنون ( سدوم ) وأعمالها التي أهلكهم الله بها ، وجعل مكانها بحيرة منتنة خبيثة ، وهي مشهورة ببلاد الغور متاخمة لجبال البيت المقدس ، فدعاهم إلى الله عزَّ وجلَّ أن يعبدوه وحده لا شريك له ، وأن يطيعوا رسولهم الذي بعثه الله إليهم ، ونهاهم عن معصية الله ، وارتكاب ما كانوا قد ابتدعوه مما لم يسبقهم أحد من الخلائق إلى فعله من إتيان الذكور دون الإناث ، ولهذا قال تعالى : { أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ . . . . } .(1/1853)
أَتَأْتُونَ الذُّكْرَانَ مِنَ الْعَالَمِينَ (165) وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ (166) قَالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يَا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قَالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقَالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169) فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلَّا عَجُوزًا فِي الْغَابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)
لما نهاهم نبي الله عن ارتكاب الفواحش وغشيانهم الذكور ، وأرشدهم إلى إتيان نسائهم اللاتي خلقهن الله لهم ما كان جوابهم له إلاّ أن قالوا { لَئِن لَّمْ تَنتَهِ يالوط } أي عما جئتنا به { لَتَكُونَنَّ مِنَ المخرجين } أي ننفيك من بين أظهرنا ، كما قال تعالى : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } [ النمل : 56 ] ، لما رأى أنهم لا يرتدعون عما هم فيه وأنهم مستمرون على ضلالتهم تبرأ منهم ، وقال : { إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِّنَ القالين } أي المبغضين لا أحبه ولا أرضى به وإني بريء منكم ، ثم دعا الله عليهم ، فقال : { رَبِّ نَّجِنِي وَأَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ } قال الله تعالى : { فَنَجَّيْنَاهُ وَأَهْلَهُ أَجْمَعِينَ } أي كلهم { إِلاَّ عَجُوزاً فِي الغابرين } وهي امرأته ، وكانت عجوز سوء ، بقيت فهلكت مع من بقي من قومها ، حين أمره الله أن يسري بأهله إلا امرأته ، وأنهم لا يلتفتون إذا سمعوا الصيحة حين تنزل على قومه ، فصبروا لأمر الله واستمروا ، وأنزل الله على أولئك العذاب الذي عم جميعهم وأمطر عليهم حجارة من سجيل منضود ، ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ دَمَّرْنَا الآخرين * وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً } إلى قوله { وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } .(1/1854)
كَذَّبَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَلَا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (179) وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ (180)
هؤلاء - يعني أصحاب الأيكة - هم « أهل مدين » على الصحيح ، وكان نبي الله شعيب من أنفسهم ، وإنما لم يقل هاهنا أخوهم شعيب ، لأنهم نسبوا إلى عبادة الأيكة ، وهي شجرة ، وقيل : شجر ملتف كالغيضة كانوا يعبدونها ، فلهذا لما قال : كذب أصحاب الأيكة المرسلين لم يقل : إذ قال لهم أخوهم شعيب وإنما قال : { إِذْ قَالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ } فقطع نسب الأخوة بينهم للمعنى الذي نسبوا إليه وإن كان أخاهم نسباً ، ومن الناس من لم يفطن لهذه النكتة ، فظن أن أصحاب الأيكة غير أهل مدين ، والصحيح أنهم أمة واحدة وصفوا في كل مقام بشيء ، ولهذا وعظ هؤلاء ، وأمرهم بوفاء المكيال والميزان كما في قصة مدين سواء بسواء ، فدل ذلك على أنهما أمة واحدة .(1/1855)
أَوْفُوا الْكَيْلَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَاتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184)
يأمرهم عليه السلام بإيفاء المكيال والميزان وينهاهم عن التطفيف فيهما فقال : { أَوْفُواْ الكيل وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المخسرين } أي إذا دفعتم للناس فكملوا الكيل لهم ، ولا تبخسوا الكيل فتعطوه ناقصاً وتأخذوه إذا كان لكم تاماً وافياً ، ولكن خذوا كما تعطون ، وأعطوا كما تأخذون { وَزِنُواْ بالقسطاس المستقيم } والقسطاس هو الميزان ، قال مجاهد : هو العدل بالرومية ، وقال قتادة : القسطاط العدل ، وقوله : { وَلاَ تَبْخَسُواْ الناس أَشْيَآءَهُمْ } أي لا تنقصوهم أموالهم { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } يعني قطع الطريق كما قال في الآية الأخرى { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } [ الأعراف : 86 ] ، وقوله : { واتقوا الذي خَلَقَكُمْ والجبلة الأولين } يخوفهم بأس الله الذي خلقهم وخلق آباءهم الأوائل ، كما قال موسى عليه السلام { رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَآئِكُمُ الأولين } [ الشعراء : 26 ] قال ابن عباس ومجاهد : { والجبلة الأولين } يقول : خلق الأولين ، وقرأ ابن زيد { وَلَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً } [ يس : 62 ] .(1/1856)
قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185) وَمَا أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا وَإِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكَاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفًا مِنَ السَّمَاءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قَالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190) وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)
يخبر تعالى عن جواب قومه له بمثل ما أجابت به ثمود لرسولها تشابهت قلوبهم حيث قالوا : { إِنَّمَآ أَنتَ مِنَ المسحرين } يعنون من المسحورين كما تقدم ، { وَمَآ أَنتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا وَإِن نَّظُنُّكَ لَمِنَ الكاذبين } أي تتعمد الكذب فيما تقوله لا أن الله أرسلك إلينا ، { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء } قال قتادة : قطعاً من السماء ، وقال السدي : عذاباً من السماء ، وهذا شبيه بما قالت قريش فيما أخبر الله عنهم في قوله تعالى : { أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً } [ الإسراء : 92 ] . وقوله : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء } [ الأنفال : 32 ] الآية . وهكذا قال هؤلاء الكفار الجهلة { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء } الآية ، { قَالَ ربي أَعْلَمُ بِمَا تَعْمَلُونَ } يقول : الله أعلم بكم ، فإن كنتم تستحقون ذلك جازاكم به وهو غير ظالم لكم ، وهكذا وقع بهم كما سألوا جزاء وفاقاً ولهذا قال تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } وهذا من جنس ما سألوه من إسقاط الكسف عليهم ، فإن الله سبحانه وتعالى جعل عقوبتهم أن أصابهم حر عظيم مدة سبعة أيام لا يكنهم منه شيء ، ثم أقبلت إليهم سحابة أظلتهم فجعلوا ينطلقون إليها يستظلون بظلها من الحر ، فلما اجتمعوا كلهم تحتها أرسل الله تعالى عليهم منها شرراً من نار ولهباً ووهجاً عظيماً ، ورجفت بهم الأرض ، وجاءتهم صيحة عظيمة أزهقت أرواحهم ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } قال قتادة : قال عبد الله بن عمر رضي الله عنه : إن الله سلط عليهم الحر سبعة أيام حتى ما يظلهم منه شيء ، ثم إن الله تعالى أنشأ لهم سحابة ، فانطلق إليها أحدهم فاستظل بها ، فأصاب تحتها برداً وراحة ، فأعلم بذلك قومه ، فأتوها جميعاً ، فاستظلوا تحتها ، فأججت عليهم ناراً ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : بعث الله إليهم الظلة ، حتى إذا اجتمعوا كلهم كشف الله عنهم الظلة وأحمى عليهم الشمس ، فاحترقوا كما يحترق الجراد في المقلى ، وقال محمد بن جرير عن يزيد الباهلي سألت ابن عباس عن هذه الآية { فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة } الآية ، قال : بعث الله عليهم رعدة وحراً شديداً ، فأخذ بأنفاسهم ، فخرجوا من البيوت هرباً إلى البرية ، فبعث الله عليهم سحابة فأظلتهم من الشمس ، فوجدوا لها برداً ولذة ، فنادى بعضهم بعضاً ، حتى إذا اجتمعوا تحتها أرسل الله عليهم ناراً . قال ابن عباس : فذلك عذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً وَمَا كَانَ أَكْثَرُهُم مُّؤْمِنِينَ * وَإِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ العزيز الرحيم } أي العزيز في انتقامه من الكافرين ، الرحيم بعباده المؤمنين .(1/1857)
وَإِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195)
يقول تعالى مخبراً عن الكتاب الذي أنزله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { وَإِنَّهُ } أي القرآن الذي تقدم ذكره في أول السورة في قوله : { وَمَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مِّنَ الرحمن مُحْدَثٍ } [ الشعراء : 5 ] الآية ، . { لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين } أي أنزله الله عليك وأوحاه إليك { نَزَلَ بِهِ الروح الأمين } وهو جبريل عليه السلام ، قال الزهري : وهذه كقوله : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [ البقرة : 97 ] { على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين } أي نزل به ملك كريم أمين ذو مكانة عند الله مطاع في الملأ الأعلى { على قَلْبِكَ } يا محمد سالماً من الدنس والزيادة والنقص ، { لِتَكُونَ مِنَ المنذرين } أي لتنذر به بأس الله ونقمته على من خالفه وكذبه ، وتبشر به المؤمنين المتبعين له ، وقوله تعالى : { بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } أي هذا القرآن الذي أنزلناه إليك أنزلناه باللسان العربي الفصيح الكامل الشامل ، ليكون بيناً واضحاً ظاهراً ، قاطعاً للعذر ، مقيماً للحجة ، دليلاً على المحجة ، وقال سفيان الثوري : لم ينزل وحي إلاّ بالعربية ، ثم ترجم كل نبي لقومه ، واللسان يوم القيامة بالسريانية ، فمن دخل الجنة تكلم بالعربية .(1/1858)
وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196) أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ (197) وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ عَلَى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ مَا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199)
يقول تعالى : وإن ذكر هذا القرآن والتنويه به لموجود في كتب الأولين المأثورة عن أنبيائهم ، الذين بشروا به في قديم الدهر وحديثه ، كما أخذ الله عليهم الميثاق بذلك حتى قام آخرهم خطيباً في ملئه بالبشارة بأحمد { وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ } [ الصف : 6 ] والزبر هاهنا هي الكتب ، وهي جمع زبور ، وكذلك الزبور هو كتاب داود ، قال الله تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر } [ القمر : 52 ] أي مكتوب عليهم في صحف الملائكة ، ثم قال تعالى : { أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بني إِسْرَائِيلَ } أي أو ليس يكفيهم من الشاهد الصادق على ذلك أن العلماء من بني إسرائيل ، يجدون ذكر هذا القرآن في كتبهم التي يدرسونها ، والمراد العدول منهم الذين يعترفون بما في أيديهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم ومبعثه وأمته ، كما أخبر بذلك من آمن منهم ك ( عبد الله بن سلام ) و ( سلمان الفارسي ) ون شاكلهم ، قال الله تعالى : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي } [ الأعراف : 157 ] الآية؛ ثم قال عالى مخبراً عن شدة كفر قريش وعنادهم لهذا القرآن : إنه لو نزل على رجل من الأعاجم ممن لا يدري من العربية كلمة وأنزل عليه هذا الكتاب ببيانه وفصاحته لا يؤمنون به ، ولهذا قال : { وَلَوْ نَزَّلْنَاهُ على بَعْضِ الأعجمين * فَقَرَأَهُ عَلَيْهِم مَّا كَانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ } كما أخبر عنهم في الآية الأخرى ، { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ * لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } [ الحجر : 14-15 ] الآية ، وقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى } [ الأنعام : 111 ] الآية ، وقال تعالى : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 96 ] الآية .(1/1859)
كَذَلِكَ سَلَكْنَاهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (201) فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203) أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَفَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جَاءَهُمْ مَا كَانُوا يُوعَدُونَ (206) مَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَهَا مُنْذِرُونَ (208) ذِكْرَى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ (209)
يقول تعالى : كذلك سكلنا التكذيب والكفر والجحود والعناد ، أي أدخلناه في قلوب المجرمين { لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي بالحق { حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } أي حيث لا ينفع الظالمين معذرتهم ، { فَيَأْتِيَهُم بَغْتَةً } أي عذاب الله فجأة { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فَيَقُولُواْ هَلْ نَحْنُ مُنظَرُونَ } أي يتمنون حين يشاهدون العذاب أن لو أنظروا قليلاً ليعملوا في زعمهم بطاعة الله ، فكل ظالم وفاجر وكافر إذا شاهد عقوبته ندم ندماً شديداً؛ هذا فرعون لما دعا عليه الكليم بقوله : { رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الحياة الدنيا رَبَّنَا } يونس : 88 ] فأثرت هذه الدعوة في فرعون فما آمن حتى رأى العذاب الأليم { حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } [ يونس : 90 ] الآية ، وقال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ } [ غافر : 84 ] الآية ، وقوله تعالى : { أَفَبِعَذَابِنَا يَسْتَعْجِلُونَ } إنكار عليهم وتهديد لهم ، فإنهم كانوا يقولون للرسول تكذيباً واستبعاداً : ائتنا بعذا الله ، كما قال تعالى : { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُون } الآيات ، ثم قال : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب } [ الحج : 47 ] أي لو أخرناهم وأنظرناهم وأمليناهم برهة من الدهر وحيناً من الزمان وإن طال ، ثم جاءهم أمر الله ، أي شيء يجدي عنهم ما كانوا فيه من النعيم { حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ } [ يونس : 90 ] ، وقال تعالى : { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ } [ البقرة : 96 ] ، وقال تعالى : { وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تردى } [ الليل : 11 ] ، ولهذا قال تعالى : { مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } . وفي الحديث الصحيح : « » يؤتى بالكافر فيغمس في النار غمسة ثم يقال له هل رأيت خيراً قط؟ هل رأيت نعيماً قط؟ فيقول : لا والله يا رب « . ويؤتى بأشد الناس بؤساً كان في الدنيا فيصبغ في الجنة صبغة ثم يقال له : هل رأيت بؤساً قط؟ فيقول : لا والله يا رب » ثم قال تعالى مخبراً عن عدله في خلقه إنه ما أهلك أمة من الأمم إلاّ بعد الإعذار إليهم والإنذار لهم وبعثة الرسل إليهم ، وقيام الحجة عليهم ، ولهذا قال تعالى : { وَمَآ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ لَهَا مُنذِرُونَ * ذكرى وَمَا كُنَّا ظَالِمِينَ } كما قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } [ القصص : 59 ] إلى قوله { وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ } [ القصص : 59 ] .(1/1860)
وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّيَاطِينُ (210) وَمَا يَنْبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212)
يقول تعالى مخبراً عن كتابه العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد : أنه نزل به الروح الأمين المؤيد من الله { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين } ، ثم ذكر أنه يمتنع عليهم ذلك من ثلاثة أوجه : أحدها أنه ما ينبغي لهم لأن سجاياهم الفساد ، وإضلال العباد ، وهذا فيه نور ووهدى وبرهان عظيم ، فبينه وبين الشياطين منافاة عظيمة ، ولهذا قال تعالى : { وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ } ، وقوله تعالى : { وَمَا يَسْتَطِيعُونَ } أي ولو انبغى لهم لما استطاعوا ذلك ، ثم بين أنه لو انبغى لهم واستطاعوا حمله وتأديته لما وصلوا إلى ذلك ، لأنهم بمعزل عن استماع القرآن حال نزوله ، لأن السماء ملئت حرساً شديداً وشهباً في مدة إنزال القرآن على رسول الله ، فلم يخلص أحد من الشياطين إلى استماع حرف واحد منه لئلا يشتبه الأمر ، وهذا من رحمة الله بعباده ، وحفظه لشرعه ، وتأييده لكتابه ولرسوله ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ } كما قال تعالى مخبراً عن الجن { وَأَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْهَا مَقَاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَن يَسْتَمِعِ الآن يَجِدْ لَهُ شِهَاباً رَّصَداً } [ الجن : 9 ] .(1/1861)
فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214) وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219) إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)
يقول تعالى آمراً بعبادته وحده لا شريك له ومخبراً أن من أشرك به عذبه . ثم قال تعالى آمراً لرسوله صلى الله عليه وسلم أن ينذر عشيرته الأقربين أي الأدنين إليه ، وأنه لا يخلص أحد منهم إلاّ إيمانه بربه عزَّ وجلَّ ، وأمره أن يلين جانبه لمن اتبعه من عباد الله المؤمنين ، ومن عصاه من خلق الله كائناً من كان فليتبرأ منه ، ولهذا قال تعالى : { فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ } ، وهذه النذارة الخاصة لا تنافي العامة بل هي فرد من أجزائها ، كما قال تعالى : { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أُنذِرَ آبَآؤُهُمْ فَهُمْ غَافِلُونَ } [ يس : 6 ] ، وقال تعالى : { لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا } [ الشورى : 7 ] ، وقال تعالى : { لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، كما قال تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] ، وفي « صحيح مسلم » : « والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلاّ دخل النار » وقد وردت أحاديث كثيرة في نزول هذه الآية الكريمة ، فلنذكرها ، الحديث الأول : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : لما أنزل الله عزَّ وجلَّ { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } « أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا فصعد عليه ثم نادى : » يا صباحاه « ، فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه ، وبين رجل يبعث رسوله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا بني عبد المطلب ، يا بني فهر ، يا بني لؤي ، أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً بسفح هذا الجبل تريد أن تغير عليكم صدقتموني؟ « قالوا : نعم ، قال : » فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد « فقال أبو لهب : تباً لك سائر اليوم أما دعوتنا إلاّ لهذا؟ » { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد : 1 ] ، الحديث الثاني : روى الإمام أحمد عن عائشة قالت : لما نزلت : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « يا فاطمة ابنة محمد ، يا صفية ابنة عبد المطلب ، يا بني عبد المطلب لا أملك لكم من الله شيئاً سلوني من مالي ما شئتم » الحديث الثالث : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : لما نزلت هذه الآية : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فعمَّ وخصَّ ، فقال : « يا معشر قريش أنقذوا أنفسكم من النار ، يا معشر بني كعب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا معشر بني هاشم أنقذوا أنفسكم من النار يا معشر بني عبد المطلب أنقذوا أنفسكم من النار ، يا فاطمة بنت محمد أنقذي نفسك من النار ، فإني والله لا أملك لكم من الله شيئاً إلاّ أن لكم رحماً سأبليها ببلاها »(1/1862)
وقال الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا بني عبد المطلب اشتروا أنفسكم من الله ، يا صفية عمة رسول الله ويا فاطمة بنت رسول الله اشتريا أنفسكما من الله ، فإني لا أغني عنكما من الله شيئاً ، سلاني من مالي ما شئتما » وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « يا بني قصي ، يا بني هاشم ، يا بني عبد مناف ، أنا النذير ، والموت المغير ، والساعة الموعد » ، الحديث الرابع : قال الإمام أحمد عن قبيصة بن مخارق وزهير بن عمرو قالا : لما نزلت : { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } صعد رسول الله صلى الله عليه وسلم رضمة من جبل على أعلاها حجر فجعل ينادي : « يا بني عبد مناف إنما أنا نذير ، إنما مثلي ومثلكم كرجل رأى العدوا فذهب يربأ أهله رجاء أن يسبقوه فجعل ينادي ويهتف يا صباحاه
؟ » . وقوله تعالى : { وَتَوكَّلْ عَلَى العزيز الرحيم } أي في جميع أمورك فإنه مؤيدك وحافظك وناصرك ومظفرك ومعلي كلمتك ، وقوله تعالى : { الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } أي هو معتن بك ، كما قال تعالى : { واصبر لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنَا } [ الطور : 48 ] ، قال ابن عباس { الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ } : يعني إلى الصلاة . وقال عكرمة : يرى قيامه وركوعه وسجوده ، وقال الحسن : إذا صليت وحدك ، وقال الضحاك : أي من فراشك أو مجلسك ، وقال قتادة { الذي يَرَاكَ } قائماً وجالساً وعلى حالاتك ، وقوله تعالى : { وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } ، قال قتادة : { الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } قال : في الصلاة يراك وحدك ويراك في الجمع . وعن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : يعني تقلبه من صلب نبي إلى صلب نبي ، حتى أخرجه نبياً ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ هُوَ السميع العليم } أي السميع لأقوال عباده ، العليم بحركاتهم وسكناتهم ، كما قال تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيه } [ يونس : 61 ] الآية .(1/1863)
هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلَى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّيَاطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلَى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ (223) وَالشُّعَرَاءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغَاوُونَ (224) أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ (225) وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لَا يَفْعَلُونَ (226) إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيرًا وَانْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)
يقول تعالى مخاطباً لمن زعم من المشركين أن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ليس بحق ، وأنه شيء افتعله من تلقاء نفسه ، أو أنه أتاه به رِئي الجان ، فنزه الله سبحانه وتعالى جناب رسوله عن قولهم وافترائهم ، ونبه أن ما جاء به إنما هو من عند الله ، وأنه تنزيله ووحيه نزل به ملك كريم أمين عظيم ، وأنه ليس من قبل الشياطين ، فإنهم ليس لهم رغبة في مثل هذا القرآن العظيم وإنما ينزلون على من يشاكلهم ويشابههم من الكهان الكذبة . ولهذا قال الله تعالى : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ } أي أخبركم { تَنَزَّلُ الشياطين * تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ } أي كذوب في قوله وهو الأفاك { أَثِيمٍ } وهو الفاجر في أفعاله ، فهذا هو الذي تنزل عليه الشياطين من الكهان وما جرى مجراهم من الكذبة الفسقة فإن الشياطين أيضاً كذبه فسقة { يُلْقُونَ السمع } أي يسترقون السمع من السماء فيسمعون الكلمة من علم الغيب ، فيزيدون معها مائة كذبة ثم يلقونها إلى أوليائهم من الإنس ، فيحدثون بها فيصدقهم الناس في كل ما قالوه بسبب صدقهم في تلك الكلمة التي سمعت من السماء ، كما روى البخاري عن عروة بن الزبير قال ، قالت عائشة رضي الله عنها : « سأل ناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الكهان فقال : » إنهم ليسوا بشيء « ، قالوا : يا رسول الله فإنهم يحدثون بالشيء يكون ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » تلك الكلمة من الحق يخطفها الجني فيقرقرها في أذن وليه كقرقرة الدجاج فيخطلون معها أكثر من مائة كذبة « وروى البخاري أيضاً عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » إذا قضى الله الأمر في السماء ضربت الملائكة بأجنحتها خضعاناً لقوله ، كأنها سلسلة على صفوان ، فإذا فزع عن قلوبهم قالوا : ماذا قال ربكم؟ قالوا : الحق وهو العلي الكبير ، فيسمعها مسترقو السمع ، ومسترقو السمع هكذا بعضهم فوق بعض - وصفه سفيان بيده فحرفها وبدد بين أصابعه - فيسمع الكلمة فيلقيها إلى من تحته ، ثم يلقيها الآخر إلى من تحته ، حتى يلقيها على لسان الساحر أو الكاهن ، فربما أدركه الشهاب قبل أن يلقيها ، وربما ألقاها قبل أن يدركه فيكذب معها مائة كذبة ، فيقال : أليس قد قال لنا يوم كذا وكذا : كذا وكذا؟ فيصدق بتلك الكلمة التي سمعت من السماء « .
وقوله تعالى : { والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } قال ابن عباس : يعني الكفار يتبعهم ضلال الإنس والجن؛ وكذا قال مجاهد رحمه الله ، وقال عكرمة : كان الشاعران يتهاجيان فينتصر لهذا فئام من الناس ، ولهذا فئام من الناس ، فأنزل الله تعالى : { والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } . وقال الإمام أحمد عن أبي سعيد قال : بينما نحن نسير مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعرج إذ عرض شاعر ينشد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :(1/1864)
« خذوا الشيطان - أو أمسكوا الشيطان - ، لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً خير له من أن يمتلئ شعراً » وقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ } قال ابن عباس : في كل لغو يخوضون ، وقال الضحاك عن ابن عباس : في كل فن من الكلام ، وكذا قال مجاهد وغيره . وقال الحسن البصري : قد والله رأينا أوديتهم التي يخوضون فيها مرة في شتيمة فلان ومرة في مديحة فلان ، وقال قتادة : الشاعر يمدح قوماً بباطل ويذم قوماً بباطل ، وقوله تعالى : { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } قال ابن عباس : كان رجلان على عهد رسول الله أحدهما من الأنصار والآخر من قوم آخرين ، وإنهما تهاجيا فكان مع كل واحد منهما غواة من قومه وهم السفهاء ، فقال الله تعالى : { والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : أكثر قولهم يكذبون فيه ، وهذا الذي قاله ابن عباس رضي الله عنه هو الواقع في نفس الأمر ، فإن الشعراء يتبجحون بأقوال وأفعال لم تصدر منهم ولا عنهم فيتكثرون بما ليس لهم ، ولهذا جاء في الحديث : « لأن يمتلئ جوف أحدكم قيحاً يريه خير له من أن يمتلئ شعراً » ، والمراد من هذا أن الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أنزل عليه هذا القرآن ليس بكاهن ولا بشاعر ، لأن حاله مناف لحالهم من وجوه ظاهرة ، كما قال تعالى : { وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشعر وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ } [ يس : 69 ] ، وقال تعالى : { وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَّا تُؤْمِنُونَ * وَلاَ بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العالمين } [ الحاقة : 41-43 ] وهكذا قال هاهنا { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين * نَزَلَ بِهِ الروح الأمين * على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ } [ الشعراء : 192-195 ] إلى أن قال : { وَمَا تَنَزَّلَتْ بِهِ الشياطين * وَمَا يَنبَغِي لَهُمْ وَمَا يَسْتَطِيعُونَ * إِنَّهُمْ عَنِ السمع لَمَعْزُولُونَ } [ الشعراء : 210-212 ] ، إلى أن قال : { هَلْ أُنَبِّئُكُمْ على مَن تَنَزَّلُ الشياطين * تَنَزَّلُ على كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ * يُلْقُونَ السمع وَأَكْثَرُهُمْ كَاذِبُونَ * والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } . وقوله : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً } الآية .
قال محمد بن إسحاق : لما نزلت { والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } جاء حسان بن ثابت وعبد الله بن رواحة وكعب بن مالك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم يبكون قالوا : قد علم الله حين أنزل هذه الآية أنا شعراء ، فتلا النبي صلى الله عليه وسلم : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } قال : « أنتم » { وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً } قال : « أنتم » ، { وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } قال : « أنتم » .(1/1865)
وروى أيضاً عن عروة قال : لما نزلت { والشعرآء يَتَّبِعُهُمُ الغاوون } ، إلى قوله : { وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لاَ يَفْعَلُونَ } قال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله قد علم الله أني منهم ، فأنزل الله تعالى : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } الآية ، وهكذا قال ابن عباس وعكرمة ومجاهد وغير واحد من أن هذا استثناء مما تقدم . ولهذا قال تعالى : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَذَكَرُواْ الله كَثِيراً } قيل : معناه ذكروا الله كثيراً في كلامهم ، وقيل : في شعرهم ، وكلاهما صحيح مكفر لما سبق ، وقوله تعالى : { وانتصروا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ } قال ابن عباس : يردون على الكفار الذين كانوا يهجون به المؤمنين؛ وهذا كما ثبت في « الصحيح » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال حسان : « أهجهم - أو قال - هاجهم وجبريل معك » وقال الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه أنه قال للنبي صلى الله عليه وسلم إن الله عزَّ وجلَّ قد أنزل في الشعراء ما أنزل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن المؤمن يجاهد بسيفه ولسانه ، والذي نفسي بيده لكأن ما ترمونهم به نضح النيل » وقوله تعالى : { وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } ، كقوله تعالى : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ } [ غافر : 52 ] الآية ، وفي « الصحيح » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إياكم والظلم فإن الظلم ظلمات يوم القيامة » ، قال قتادة : يعني من الشعراء وغيرهم وقيل : المراد بهم أهل مكة ، وقيل الذين ظلموا من المشركين ، والصحيح أن هذه الآية عامة في كل ظالم ، كما قال ابن أبي حاتم عن عائشة رضي الله عنها قالت : كتب أبي في وصيته سطرين : بسم الله الرحمن الرحيم هذا ما وصى به أبو بكر بن أبي قحافة عند خروجه من الدنيا حين يؤمن الكافر ، وينتهي الفاجر ، ويصدق الكاذب ، إني استخلفت عليكم عمر بن الخطاب ، فإن يعدل فذاك ظني به ورجائي فيه ، وإن يجر ويبذل فلا أعلم الغيب { وَسَيَعْلَمْ الذين ظلموا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } .(1/1866)
طس تِلْكَ آيَاتُ الْقُرْآنِ وَكِتَابٍ مُبِينٍ (1) هُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذَابِ وَهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5) وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6)
قد تقدم الكلام في سورة البقرة على الحروف المقطعة في أوائل السور ، وقوله تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ } أي هذه آيات { القرآن وَكِتَابٍ مُّبِينٍ } أي بيِّن واضح ، { هُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي إنما تحصل الهداية والبشارة من القرآن ، لمن آمن به واتبعه وصدقه وعمل بما فيه ، وأقام الصلاة المكتوبة ، وآتى الزكاة المفروضة ، وأيقن بالدار الآخرة ، والبعث بعد الموت ، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها ، والجنة والنار ، كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ } [ فصلت : 44 ] الآية ، وقال تعالى : { لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } [ مريم : 97 ] ، ولهذا قال تعالى هاهنا : { إِنَّ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } أي يكذبون بها ويستبعدون وقوعها ، { زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمَالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ } أي حسناً لهم ما هم فيه ، ومددنا لهم في غيهم ، فهم يتيهون في ضلالهم ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] الآية ، { أولئك الذين لَهُمْ سواء العذاب } أي في الدنيا والآخرة { وَهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون } أي ليس يخسر سواهم من أهل المحشر ، وقوله تعالى : { وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } أي { وَإِنَّكَ } يا محمد { لَتُلَقَّى } أي لتأخذ { القرآن مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ } أي من عند حكيم عليم أي حكيم في أمره ونهيه ، عليم بالأمور جليلها وحقيرها ، فخبره هو الصدق المحض ، وحكمه هو العدل التام ، كما قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] .(1/1867)
إِذْ قَالَ مُوسَى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ نَارًا سَآتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جَاءَهَا نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَمَنْ حَوْلَهَا وَسُبْحَانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (8) يَا مُوسَى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى لَا تَخَفْ إِنِّي لَا يَخَافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10) إِلَّا مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْنًا بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آيَاتٍ إِلَى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (12) فَلَمَّا جَاءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَجَحَدُوا بِهَا وَاسْتَيْقَنَتْهَا أَنْفُسُهُمْ ظُلْمًا وَعُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم مذكراً له ما كان من أمر موسى عليه السلام ، كيف اصطفاه الله وكلمه وناجاه ، وأعطاه من الآيات العظيمة الباهرة والأدلة القاهرة ، وابتعثه إلى فرعون وملئه فجحدوا بها وكفروا ، فقال تعالى : { إِذْ قَالَ موسى لأَهْلِهِ } أي اذكر حين سار موسى بأهله فأفضل الطريق وذلك في ليل وظلام ، فآنس من جانب الطور ناراً ، أي رأى ناراً تأجج وتضطرم ، فقال : { لأَهْلِهِ إني آنَسْتُ نَاراً سَآتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } أي عن الطريق ، { أَوْ آتِيكُمْ بِشِهَابٍ قَبَسٍ لَّعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي تستدفئون به وكان كما قال فإنه رجع منها بخبر عظيم ، واقتبس منها نوراً عظيماً ، ولهذا قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَهَا نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا } أي فلما أتاها ورأى منظراً هائلاً عظيماً ، حيث انتهى إليها والنار تضطرم في شجرة خضراء ، لا تزداد النار إلاّ توقعداً ، ولا تزداد الشجرة إلاّ خضرة ونضرة ، ثم رفع رأسه فإذا نورها متصل بعنان السماء ، قال ابن عباس وغيره : لم تكن ناراً وإنما كانت نوراً يتوهج ، وفي رواية عنه نور رب العالمين ، فوقف موسى متعجباً مما رأى { نُودِيَ أَن بُورِكَ مَن فِي النار } قال ابن عباس : تقدس { وَمَنْ حَوْلَهَا } أي من الملائكة ، روى ابن أبي حاتم عن أبي موسى رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه ، يرفع إليه عمل الليل قبل النهار وعمل النهار قبل الليل » ، زاد المسعودي : « وحجابه النور أو النار لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه كل شيء أدركه بصره » ثم قرأ أبو عبيدة { أَن بُورِكَ مَن فِي النار وَمَنْ حَوْلَهَا } ، وقوله تعالى : { وَسُبْحَانَ الله رَبِّ العالمين } أي الذي يفعل ما يشاء ولا يشبهه شيء من مخلوقاته ، ولا يحيط به شيء من مصنوعاته ، وهو العلي العظيم المباين لجميع المخلوقات ، ولا يكتنفه الأرض والسماوات ، بل هو الأحد الصمد المنزه عن مماثلة المحدثات ، .
وقوله تعالى : { ياموسى إِنَّهُ أَنَا الله العزيز الحكيم } أعلمه أن الذي يخاطبه ويناجيه هو ربه ، العزيز الذي عزَّ كل شيء وقهره وغلبه ، الحكيم في أقواله وأفعاله ، ثم أمره أن يلقي عصاه من يده ، ليظهر له دليلاً واضحاً على أنه الفاعل المختار القادر على كل شيء ، فلام ألقى موسى تلك العصا من يده انقلبت في الحال حية عظيمة هائلة ، في غاية الكبر وسرعة الحركة مع ذلك ، ولهذا قال تعالى : { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ } والجان ضرب من الحيات أسرعهحركة وأكثره اضطراباً ، فلما عاين موسى ذلك { ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي لم يلتفت من شدة فرقه { ياموسى لاَ تَخَفْ إِنِّي لاَ يَخَافُ لَدَيَّ المرسلون } أي لا تخف مما ترى فإني أريد أن أصطفيك رسولاً ، وأجعلك نبياً وجيهاً ، وقوله تعالى : { إِلاَّ مَن ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سواء فَإِنِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } هذا استثناء منقطع وفيه بشارة عظيمة للبشر ، وذلك أن من كان على عمل سيء ، ثم أقلع عنه ورجع وتاب وأناب فإن الله يتوب عليه ، كما قال تعالى :(1/1868)
{ وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِّمَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحَاً ثُمَّ اهتدى } [ طه : 82 ] ، وقوله تعالى : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء } هذه آية أخرى ودليل باهر على قدرة الله الفاعل المختار وصدق من جعل له معجزة ، وذلك أن الله تعالى أمره أن يدخل يده في جيب درعه ، فإذا أدخلها وأخرجها خرجت بيضاء ساطعة كأنها قطعة قمر ، لها لمعان تتلألأ كالبرق الخاطف ، وقوله تعالى : { فِي تِسْعِ آيَاتٍ } أي هاتان ثنتان من تسع آيات ، أؤيدك بهن وأجعلهن برهاناً لك إلى فرعون وقومه { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } وهذه هي الآيات التسع التي قال الله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [ الإسراء : 101 ] كما تقدم تقرير ذلك هنالك ، وقوله تعالى : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ آيَاتُنَا مُبْصِرَةً } أي بينة واضحة ظاهرة { قَالُواْ هذا سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي عملوا في أنفسهم أنها حق من عند الله ولكن جحدوها وعاندوها وكابروها { ظُلْماً وَعُلُوّاً } ، أي ظلماً من أنفسهم { وَعُلُوّاً } أي استكباراً عن اتباع الحق ، ولهذا قال تعالى : { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين } أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة أمرهم في إهلاك الله إياهم ، وفحوى الخطاب ، يقول : احذروا أيها المكذبون لمحمد الجاحدون لما جاء به من ربه ، أن يصيبكم ما أصابهم بطريق الأولى والأحرى ، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم أشرف وأعظم من موسى ، وبرهانه أدل وأقوى من برهان موسى ، عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام .(1/1869)
وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِ النَّمْلِ قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لَا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضَاحِكًا مِنْ قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحًا تَرْضَاهُ وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ (19)
يخبر تعالى عما أنعم به على عبديه ونبييه ( داود ) وابنه ( سليمان ) عليهما السلام ، من النعم الجزيلة والمواهب الجليلة ، والصفات الجميلة ، وما جمع لهما بين سعادة الدنيا والآخرة ، والملك والنبوة ، ولهذا قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالاَ الحمد لِلَّهِ الذي فَضَّلَنَا على كَثِيرٍ مِّنْ عِبَادِهِ المؤمنين } ، وقوله تعالى : { وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ } أي في الملك والنبوة ، وليس المراد وراثة المال إ لو كان كذلك لم يخص سليمان وحده من بين سائر أولاد داود ، ولكن المراد بذلك وراثة الملك والنبوة ، فإن الأنبياء لا نورث أموالهم ، كما أخبر بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله : « نحن معاشر الأنبياء لا نورث ، ما تركناه فهو صدقة » ، { وَقَالَ ياأيها الناس عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } أي أخبر سليمان بنعم الله عليه فيما وهبه له من الملك التام والتمكين العظيم ، حتى أنه سخر له الإنس والجن والطير ، وكان يعرف لغة الطير والحيوان أيضاً على اختلاف أصنافها ، ولهذا قال تعالى : { عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطير وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ } أي ما يحتاج إليه الملك ، { إِنَّ هذا لَهُوَ الفضل المبين } أي الظاهر البين لله علينا ، وقوله تعالى : { وَحُشِرَ لِسْلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الجن والإنس والطير فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي وجمع لسليمان جنوده من الجن ، والإنس والطير ، يعني ركب فيهم في أبهة وعظمة كبيرة ، في الإنس وكانوا هم الذين يلونه ، والجن وهم بعدهم في المنزلة ، والطير ومنزلتها فوق رأسه ، فإن كان حر أظلته منه بأجنحتها ، وقوله { فَهُمْ يُوزَعُونَ } أي يكف أولهم على آخرهم لئلا يتقدم أحد عن منزلته ، قال مجاهد : جعل على كل صنف وزعة لئلا يتقدموا في السير كما يفعل الملوك اليوم .
وقوله تعالى : { حتى إِذَآ أَتَوْا على وَادِ النمل } أي حتى إذا مر سليمان عليه السلام بمن معه من الجيوش والجنود على وادي النمل { قَالَتْ نَمْلَةٌ ياأيها النمل ادخلوا مَسَاكِنَكُمْ لاَ يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي خافت على النمل أن تحطمها الخيول بحوافرها فأمرتهم بالدخول إلى مساكنهم ، ففهم ذلك سليمان عليه السلام منها : { فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِّن قَوْلِهَا وَقَالَ رَبِّ أوزعني أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ التي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وعلى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } أي ألهمني أن أشكر نعمتك التي مننت بها علي من تعليمي منطق الطير والحيوان ، وعلى والدي بالإسلام لك ، والإيمان بك { وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ } أي عملاً تحبه وترضاه ، { وَأَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبَادِكَ الصالحين } أي إذا توفيتني فألحقني بالصالحين من عبادك ، والرفيق الأعلى من أوليائك . والغرض أن سليمان عليه السلام فهم قولها وتبسم ضاحكاً من ذلك وهذا أمر عظيم جداً ، وقد روى ابن أبي حاتم عن أبي الصديق الناجي قال : خرج سليمان بن داود عليهما السلام يستسقي ، فإذا هو بنملة مستلقية على ظهرها رافعة قوائمها إلى السماء وهي تقول : اللهم إنا خلق من خلقك ، ولا غنى بنا عن سقياك ، وإلاّ تسقنا تهلكنا ، فقال سليمان : ارجعوا فقد سقيتم بدعوة غيركم . وقد ثبت في الصحيح عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « قرصت نبياً من الأنبياء نملة فأمر بقرية النمل فأحرقت ، فأوحى الله إليه ، أفي أن قرصتك نملة أهلكت أمة من الأمم تسبّح؟ فهلا نملة واحدة؟ »(1/1870)
وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (21)
قال ابن عباس وغيره : كان الهدهد مهندساً يدل سليمان عليه السلام على الماء ، إذا كان بأرض فلاة طلبه فنظر له الماء في تخوم الأرض ، فإذا دلهم عليه أمر سليمان عليه السلام الجان فحفروا له ذلك المكان ، حتى يستنبط الماء من قراره ، فنزل سليمان عليه السلام يوماً بفلاة من الأرض فتفقد الطير ليرى الهدهد فلم يره { فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين } حدث يوماً ابن عباس بنحو هذا وفي القوم رجل من الخوارج يقال له ( نافع بن الأزرق ) وكان كثير الاعتراض على ابن عباس فقال له : قف يا ابن عباس غلبت اليوم ، قال : ولم؟ قال : إنك تخبر أن الهدهد يرى الماء في تخوم الأرض ، وإن الصبي ليضع له الحبة في الفخ ، ويحثو على الفخ تراباً فيجيء الهدهد ليأخذها فيقع في الفخ فيصيده الصبي ، فقال ابن عباس : لولا أن يذهب هذا فيقول رددت على ابن عباس لما أجبته ، ثم قال له : ويحك إنه نزل القدر عمي البصر وذهب الحذر ، فقال له نافع : والله لا أجادلك في شيء من القرآن أبداً ، وقال محمد بن إسحاق : كان سليمان عليه السلام إذا غدا إلى مجلسه الذي كان يجلس فيه تفقد الطير ، وكان فيما يزعمون يأتيه نوب من كل صنف من الطير كل يوم طائر ، فنظر فرأى من أصناف الطير كلها من حضره إلاّ الهدهد { فَقَالَ مَالِيَ لاَ أَرَى الهدهد أَمْ كَانَ مِنَ الغآئبين } أخطأه بصري من الطير أم غاب فلم يحضر؟ وقوله : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً } قال ابن عباس يعني نتف ريشه ، وكذا قال غير واحد من السلف إنه نتف ريشه وتركه ملقى يأكله الذر والنمل ، وقوله : { أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ } يعني قتله { أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } بعذر بين واضح ، وقال سفيان بن عيينة : لما أقدم الهدهد قالت له الطير : ما خلفك فقد نذر سليمان دمك ، فقال : له استثنى؟ قالوا : نعم ، قال : { لأُعَذِّبَنَّهُ عَذَاباً شَدِيداً أَوْ لأَاْذبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } قال : نجوت إذاً .(1/1871)
فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ (24) أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)
يقول تعالى : { فَمَكَثَ } الهدهد { غَيْرَ بَعِيدٍ } أي غاب زماناً يسيراً ثم جاء فقال لسليمان { أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ } أي اطلعت على ما لم تطلع عليه أنت ولا جنودك { وَجِئْتُكَ مِن سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ } أي بخبر صدق حق يقين ، وسبأ هم ملوك اليمن ، ثم قال : { إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ } قال الحسن البصري : وهي بلقيس بنت شراحيل ملكة سبأ ، وعن قتادة في قوله تعالى : { إِنِّي وَجَدتُّ امرأة تَمْلِكُهُمْ } كانت من بيت مملكة وكان أولو مشورتها ثلثمائة واثني عشر رجلاً ، كل رجل منهم على عشرة آلاف رجل ، وكانت بأرض يقال لها ( مأرب ) على ثلاثة أميال من صنعاء ، وقوله : { وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ } أي من متاع الدنيا مما يحتاج إليه الملك المتمكن { وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ } يعني سرير تجلس عليه عظيم هائل ، مزخرف بالذهب وأنواع الجواهر واللآليء ، قال علماء التاريخ : وكان هذا السرير في قصر عظيم مشيد رفيع البناء محكم ، وكان فيه ثلثمائة وستون طاقة من مشرقه ، ومثلها من مغربه ، وقد وضع بناؤه على أن تدخل الشمس كل يوم من طاقة وتغرب من مقابلتها فيسجدون لها صباحاً ومساء ، ولهذا قال : { وَجَدتُّهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِن دُونِ الله وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السبيل } أي عن طريق الحق { فَهُمْ لاَ يَهْتَدُونَ } ، وقوله : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ } أي لا يعرفون سبيل الحق اليت هي إخلاص السجود لله وحده دون ما خلق من الكواكب وغيرها ، كما قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ اليل والنهار والشمس والقمر لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 ] .
وقوله تعالى : { الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض } قال ابن عباس : يعلم كل خبيثة في السماء والأرض ، وقال سعيد بن المسيب : الخبء الماء ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : مناسب من كلام الهدهد الذي جعل الله فيه من الخاصية ما ذكره ابن عباس وغيره أنه يرى الماء يجري في تخوم الأرض وداخلها ، وقوله : { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } أي يعلم ما يخفيه العباد وما يعلنونه من الأقوال والأفعال ، وهذا كقوله تعالى : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار } [ الرعد : 10 ] ، وقوله : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ رَبُّ العرش العظيم } الذي ليس في المخلوقات أعظم منه . ولما كان الهدهد داعياً إلى الخير ، وعبادة الله وحده ، نهي عن قتله ، كما روي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن قتل أربع من الدواب : النملة والنحلة والهدهد والصرد .(1/1872)
قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ (28) قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)
يقول تعالى مخبراً عن قيل سليمان للهدهد ، حين أخبره عن أهل سبأ وملكهم { قَالَ سَنَنظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين } أي أصدقت في إخبارك هذا { أَمْ كُنتَ مِنَ الكاذبين } في مقالتك للتخلص من الوعيد الذي أوعدتك؟ { اذهب بِّكِتَابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فانظر مَاذَا يَرْجِعُونَ } ، وذلك أن سليمان عليه السلام كنت كتاباً إلى بلقيس وقومها ، وأعطاه ذلك الهدهد فحمله وذهب إلى بلادهم ، فجاء إلى قصر بلقيس فألقاه إليها من كوة هنالك بين يديها ، ثم تولى ناحية أدباً ورياسة فتحيرت مما رأت وهالها ذلك ثم عمدت إلى الكتاب فأخذته ففتحت ختمه وقرأته ، فإذا فيه : { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم * أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } فجمعت عند ذلك أمراءها ووزراءها وكبراء دولتها ومملكتها ثم قالت لهم : { ياأيها الملأ إني أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ } تعين بكرمه ما رأته من عجيب أمره ، كون طائر ذهب به فألقاه إليها ثم تولى عنها أدباً وهذا أمر لا يقدر عليه أحد من الملوك ولا سبيل لهم إلى ذلك ثم قرأته عليهم { إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرحمن الرحيم * أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } فعرفوا أنه من نبي الله سليمان عليه السلام ، وأنه لا قبل لهم به وهذا الكتاب في غاية البلاغة والوجازة والفصاحة فإنه حصل المعنى بأيسر عبارة وأحسنها . قال العلماء : لم يكتب أحد بسم الله الرحمن الرحيم قبل سليمان عليه السلام . وقوله : { أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ } قال قتادة يقول : لا تتجبروا علي { وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } ، وقال ابن أسلم : لا تمتنعوا ولا تتكبروا عليّ وأتوني مسلمين ، قال ابن عباس : موحدين : وقال غيره : مخلصين ، وقال سفيان بن عيينة : طائعين .(1/1873)
قَالَتْ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنْتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُولُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)
لما قرأت عليهم كتاب سليمان استشارتهم في أمرها وما قد نزل بها ، ولهذا قالت : { ياأيها الملأ أَفْتُونِي في أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْراً حتى تَشْهَدُونِ } أي حتى تحضرون وتشيرون { قَالُواْ نَحْنُ أُوْلُو قُوَّةٍ وَأُولُو بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي منّوا عليها بعددهم وعددهم وقوتهم ، ثم فوضوا إليها بعد ذلك الأمر فقالوا : { والأمر إِلَيْكِ فانظري مَاذَا تَأْمُرِينَ } ؟ أي نحن أشداء إن شئت أن تقصديه وتحاربيه فما لنا عاقة عنه ، وبعد هذا فالأمر إليك ، مري فينا رأيك نمتثله ونطيعه ، قال الحسن البصري : فوضوا أمرهم إلى علجة تضطرب ثدياها ، فلما قالوا لها ما قالوا كانت هي أحزم رأياً منهم وأعلم بأمر سليمان ، وأنه لا قبل لها بجنوده وجيوشه وما سخر له من الجن والإنس والطير ، وقد شاهدت من قضية الكتاب مع الهدهد أمراً عجيباً بديعاً فقالت لهم : إني أخشى أن نحاربه ونمتنع عليه ، فيقصدنا بجنوده ويهلكنا بمن معه ، ويخلص إليّ وإليكم الهلاك والدمار دون غيرنا ، ولهذا قالت : { إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا } ، قال ابن عباس : أي إذا دخلوا بلداً عنوة أفسدوه أي خربوه ، { وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } أي وقصدوا من فيها من الولاة والجنود فأهانوهم غاية الهوان إما بالقتل أو بالأسر ، قال ابن عباس ، قالت بلقيس : { إِنَّ الملوك إِذَا دَخَلُواْ قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وجعلوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَآ أَذِلَّةً } ، قال الرب عزَّ وجلَّ : { وكذلك يَفْعَلُونَ } ، ثم عدلت إلى المصالحة والمهادنة والمسالمة فقالت : { وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المرسلون } أي سأبعث إليه بهدية تليق بمثله ، وأنظر ماذا يكون جوابه بعد ذلك ، فلعله يقبل ذلك منا ويكف عنا ، أو يضرب علينا خراجاً نحمله إليه في كل عام ، ونلتزم له بذلك ويترك قتالنا ومحاربتنا ، قال قتادة : ما كان أعقلها في إسلامها وشركها ، علمت أن الهدية تقع موقعاً من الناس ، وقال ابن عباس : قالت لقومها : إن قبل الهدية فهو ملك فقاتلوه ، وإن لم يقبلها فهو نبي فاتبعوه .(1/1874)
فَلَمَّا جَاءَ سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتَاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَا قِبَلَ لَهُمْ بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ (37)
ذكر غير واحد من المفسرين أنها بعثت إليه بهدية عظيمة ، من ذهب وجواهر ولآلئ وغير ذلك ، والصحيح أنها أرسلت إليه بآنية من ذهب ، فلم ينظر سليمان إلى ما جاءوا به بالكلية ، ولا أعتنى به بل أعرض عنه ، وقال منكراً عليهم { أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ } أي أتصانعونني بمال لأترككم على شركم وملككم؟ { فَمَآ آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّآ آتَاكُمْ } أي الذي أعطاني الله من الملك والمال والجنود ، خير مما أنتم فيه { بَلْ أَنتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ } أي أنتم الذين تنقادون للهدايا والتحف ، وأما أنا فلا أقبل منكم إلاّ الإسلام أو السيف ، قال ابن عباس رضي الله عنه : أمر سليمان الشياطين فموهوا له ألف قصر من ذهب وفضة ، فلما رأت رسلها ذلك قالوا : ما يصنع هذا بهديتنا؟ وفي هذا جواز تهيؤ الملوك وإظهارهم الزينة للرسل والقصاد { ارجع إِلَيْهِمْ } أي بهديتهم ، { فَلَنَأْتِيَنَّهُم بِجُنُودٍ لاَّ قِبَلَ لَهُمْ بِهَا } أي لا طاقة لهم بقتالهم { وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَآ أَذِلَّةً } أي ولنخرجنهم من بلدتهم أذلة ، { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي مهانون مدحورون ، فلما رجعت إليها رسلها بهديتها وبما قال سليمان سمعت وأطاعت هي وقومها ، وأقبلت تسير إليه في جنودها خاضعة ذليلة معظمة لسليمان ناوية متابعته في الإسلام ، ولما تحقق سليمان عليه السلام قدومهم عليه ووفودهم إليه فرح بذلك وسره .(1/1875)
قَالَ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)
قال محمد بن إسحاق : فلما رجعت إليها الرسل بما قال سليمان قالت : قد والله عرفت ما هذا بملك وما لنا به من طاقة ، وما نصنع بمكابرته شيئاً ، وبعثت إليه إني قادمة عليك بملوك قومي لأنظر ما أمرك وما توعدنا إليه من دينك ، ثم أمرت بسرير ملكها الذي كانت تجلس عليه ، وكان من ذهب مفصص بالياقوت والزبرجد واللؤلؤ فجعل في سبعة أبيات ، ثم أقفلت عليه الأبواب . ثم قالت : لمان خلفت على سلطانها احتفظ بما قبلك وسرير ملكي ، فلا يخلص إليه أحد من عباد الله ، ولا يرينه أحد حتى آتيك ، ثم شخصت إلى سليمان في اثني عشر ألف فجعل سلميان يبعث الجن يأتونه بمسيرها ومنتهاها كل يوم وليلة ، حتى إذا دنت جمع من عنده من الجن والإنس ممن تحت يده فقال : { ياأيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } . وقال قتادة : لما بلغ سليمان أنها جائية وكان قد ذكر له عرشها فأعجبه ، وكان من ذهب وقوائمه لؤلؤ وجوهر ، وكان مستراً بالديباج والحرير ، وكانت عليه تسعة مغاليق فكره أن يأخذه بعد إسلامهم ، وقد علم نبي الله أنهم متى أسلموا تحرم أموالهم ودماؤهم ، فقال : { ياأيها الملأ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } ، وهكذا قال عطاء الخراساني والسدي { قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ } فتحرم علي أموالهم بإسلامهم ، { قَالَ عِفْرِيتٌ مِّن الجن } أي مارد من الجن ، { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ } قال ابن عباس : يعني قبل أن تقوم من مجلسك ، وقال مجاهد : مقعدك ، وقال السدي وغيره : كان يجلس للناس للقضاء والحكومات من أول النهار إلى أن تزول الشمس ، { وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ } قال ابن عباس : أي قوي على حمله { أَمِينٌ } على ما فيه من الجوهر ، فقال سليمان عليه السلام : أريد أعجل من ذلك ، ومن هاهنا يظهر أن سليمان أراد بإضحار هذا السرير إظهار عظمة ما وهب الله له من الملك ، وما سخر له من الجنود الذي لا يعطه أحد قبله ، ولا يكون لأحد من بعده ، وليتخذ ذلك حجة على نبوته عند بلقيس وقومها ، لأن هذا خارق عظيم ، أن يأتي بعرشها كما هو من بلادها قبل أن يقدموا عليه ، هذا وقد حجبته بالأغلاق والأقفال والحفظة ، فلما قال سليمان أريد أعجل من ذلك ، { قَالَ الذي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الكتاب } قال ابن عباس : وهو ( آصف ) كاتب سليمان عليه السلام .
وكذا روي عن يزيد بن رومان أنه ( آصف بن برخياء ) وكان صدّيقاً يعلم الاسم الأعظم ، وقال قتادة : كان مؤمناً من الإنس واسمه آصف من بني إسرائيل ، وقوله : { أَنَاْ آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ } أي ارفع بصرك وانظر فإنه لا يكل بصرك إلاّ وهو حاضر عندك ، وقال وهب بن منبه : امدد بصرك فلا يبلغ مداه حت آتيك به ، ثم قام فتوضأ ودعا الله تعالى ، قال مجاهد : قال يا ذا الجلال والإكرام .(1/1876)
وقال الزهري قال : يا إلهنا وإلأه كل شيء إلهاً واحداً لا إله إلاّ أنت ائتني بعرشها ، قال : فمثل بين يديه ، فلما عاين سليمان وملؤه ذلك ورآه مستقراً عنده { قَالَ هذا مِن فَضْلِ رَبِّي } أي هذا من نعم الله علي { ليبلوني } أي ليختبرني { أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } ، كقوله : { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [ فصلت : 46 ] ، وكقوله : { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [ الروم : 44 ] ، وقوله : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ } أي هو غني عن العباد وعبادتهم ، كريم : أي كريم في نفسه وإن لم يعبده أحد ، فإن عظمته ليست مفتقرة إلى أحد ، وهذا كما قال موسى : { إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ إبراهيم : 8 ] ، وفي « صحيح مسلم » : « يقول الله تعالى : يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئاً ، يا عبادي لو أن أولكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل منكم ما نقص ذلك من ملكي شيئاً ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ثم أوفيكم إياها فمن وجد خيراً فليحمد الله ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلاّ نفسه » .(1/1877)
قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنْظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جَاءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَصَدَّهَا مَا كَانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّهَا كَانَتْ مِنْ قَوْمٍ كَافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَنْ سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (44)
لما جيء سليمان عليه السلام بعرش بلقيس قبل قدومها ، أمر به أن يغير بعض صفاته ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته ، هل تقدم على أنه عرشها أو أنه ليس بعرشها ، فقال : { نَكِّرُواْ لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أتهتدي أَمْ تَكُونُ مِنَ الذين لاَ يَهْتَدُونَ } قال مجاهد : أمر به فغير ما كان فيه أحمر جعل أصفر ، وما كان أصفر جعل أحمر ، وما كان أخضر جعل أحمر ، وغير كل شيء عن حاله ، وقال عكرمة : زادوا فيه ونقصوا { فَلَمَّا جَآءَتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ } أي عرض عليها عرشها وقد غير ونكر وزيد فيه ونقص منه مكان فيها ثبات وعقل ، ولها لب ودهاء وحزم ، فلم تقدم على أنه هو لبعد مسافته عنها ولا أنه غيره لما رأت من أثاره وصفاته وإن غير وبدل ونكر ، فقالت { كَأَنَّهُ هُوَ } أي يشبهه ويقاربه ، وهذا غاية في الذكاء والحزم . وقوله : { وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } قال مجاهد : يقوله سليمان ، وقوله تعالى : { مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ } ، وهذا من تمام كلام سليمان عليه السلام في قول مجاهد أي قال سليمان { وَأُوتِينَا العلم مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ } ، وهي كانت قد صدها أي منعها من عبادة الله وحده { مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ } .
قلت : ويؤيد قول مجاهد أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح كما سيأتي ، وقوله : { قِيلَ لَهَا ادخلي الصرح فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا } ، وذلك أن سليمان عليه السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصراً عظيماً من قوارير أي من زجاج ، وأجرى تحته الماء ، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء ، ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه ، قال محمد بن إسحاق عن يزيد بن رومان : ثم قال لها ادخلي الصرح ليريها ملكاً هو أعز من ملكها ، وسلطاناً هو أعظم من سلطانها ، فلما رأته حسبته لجة ، وكشفت عن ساقيها لا تشك أنه ماء ماء تخوضه ، فقيل لها { إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوارِيرَ } فلما وقفت على سليمان ، دعاها إلى عبادة الله وحده وعاتبها في عبادة الشمس من دون الله ، قالت : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين } فأسلمت وحسن إسلامها . وأصلالصرح في كلام العرب هو القصر وكل بناء مرتفع ، قال الله سبحانه وتعالى إخباراً عن فرعون لعنه الله { ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب } [ غافر : 36 ] الآية ، والصرح قصر في اليمن عالي البناء ، والممرد المبني بناء محكماً أملس { مِّن قَوارِيرَ } أي زجاج ، والغرض أن سليمان عليه السلام اتخذ قصراً عظيماً منيفاً من زجاج ، لهذه الملكة ليريها عظمة سلطانه وتمكنه ، فلما رأت ما آتاه الله وجلالة ما هو فيه ، وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله تعالى وعرفت أنه نبي كريم ، وملك عظيم ، وأسلمت لله عزَّ وجلَّ ، وقالت : { رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي } أي بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها للشمس من دون الله { وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ العالمين } أي متابعة لدين سليمان في عبادته للهوحده لا شريك له ، الذي خلق كل شيء فقدره تقديراً .(1/1878)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قَالَ يَا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قَالُوا اطَّيَّرْنَا بِكَ وَبِمَنْ مَعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47)
يخبر تعالى عن ثمود وما كان من أمرها مع نبيها ( صالح ) عليه السلام ، حين بعثه الله إليهم فدعاهم إل عبادة الله وحده لا شريك له { فَإِذَا هُمْ فَرِيقَانِ يَخْتَصِمُونَ } قال مجاهد : مؤمن وكافر . قَالَ ياقوم لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بالسيئة قَبْلَ الحسنة } أي لم تدعون بحضور العذاب ولا تطلبون من الله رحمته ، ولهذا قال : { لَوْلاَ تَسْتَغْفِرُونَ الله لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ * قَالُواْ اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ } أي ما رأينا على وجهك ووجوه من اتبعك خيراً ، وذلك أنهم لشقائهم كان لا يصيب أحداً منهم سوء إلاّ قال هذا من قبل صالح وأصحابه ، قال مجاهد : تشاءموا بهم ، وهذا كما قال الله تعالى إخباراً عن قوم فرعون { وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] الآية ، وقال تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } [ النساء : 78 ] أي بقضائه وقدره ، وقال تعالى : { قالوا إِنَّا تَطَيَّرْنَا بِكُمْ لَئِن لَّمْ تَنتَهُواْ لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَلَيَمَسَّنَّكُمْ مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ * قَالُواْ طَائِرُكُم مَّعَكُمْ } [ يس : 18-19 ] الآية ، وقال هؤلاء { اطيرنا بِكَ وَبِمَن مَّعَكَ قَالَ طَائِرُكُمْ عِندَ الله } أي الله يجازيكم على ذلك { بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ } قال قتادة : تبتلون بالطاعة والمعصية ، والظاهر أن المراد بقوله { تُفْتَنُونَ } أي : تستدرجون فيما أنتم فيه من الضلال .(1/1879)
وَكَانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ (48) قَالُوا تَقَاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (49) وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَأَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (53)
يخبر تعالى عن طغاة ثمود ورؤوسهم ، الذين كانوا دعاة قومهم إلى الضلال والكفر ، وعقروا الناقة وهموا بقتل صالح أيضاً ، بأن يبيتوه في أهله ليلاً فيقتلوه غيلة ، ثم يقولوا لأوليائه من أقربيه إنهم ما علموا بشيء من أمره ، وإنهم لصادقون فيما أخبروهم به من أنهم لم يشاهدوا ذلك . فقال تعالى : { وَكَانَ فِي المدينة } أي مدينة ثمود { تِسْعَةُ رَهْطٍ } أي تسعة نفر { يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ } وإنما غلبت هؤلاء على أمر ثمود لأنهم كانوا كبراءهم ورؤساءهم ، قال ابن عباس : هؤلاء هم الذين عقروا الناقة أي الذين صدر ذلك عن رأيهم ومشورتهم قبحهم الله ولعنهم ، والغرض أن هؤلاء الكفرة الفسقة كان من صفاتهم الإفساد في الأرض بكل طريق يقدرون عليها .
وقوله تعالى : { قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } أي تحالفوا وتبايعوا على قتل نبي الله ( صالح ) عليه السلام من لقيه ليلاً غيلة ، فكادهم الله وجعل الدائرة عليهم ، قال مجاهد : تقاسموا وتحالفوا على هلاكه فلم يصلوا إليه حتى هلكوا وقومهم أجمعين ، وقال محمد بن إسحاق : قال هؤلاء التسعة ، بعدما عقروا الناقة هلم فلنقتل صالحاً ، فإن كان صادقاً عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذباً كنا قد ألحقناه بناقته ، فأتوه ليلاً ليبيتوه في أهله فدمغتهم الملائكة بالحجارة ، فلما أبطأوا على أصحابهم أتوا منزل صالح فوجدوهم منشدخين قد رضخوا بالحجارة ، فقالوا لصالح أنت قتلتهم ثم هموا به ، فقامت عشيرته دونه ولبسوا السلاح ، وقالوا لهم : والله لا تقتلونه أبداً وقد وعدكم أن العذاب نازل بكم في ثلاث ، فإن كان صادقاً فلا تزيدوا ربكم عليكم غضباً ، وإن كاذباً فأنتم من وراء ما تريدون فانصرفوا عنهم ليلتهم تلك . وقال ابن أبي حاتم : لما عقروا الناقة قال لهم صالح : { تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ] قالوا : زعم صالح أنه يفرغ منا إلى ثلاثة أيام فنحن نفرغ منه وأهله قبل ثلاث ، وكان لصالح مسجد في الحجر عند شعب هناك يصلي فيه ، فخرجوا إلى كهف أي غار هناك ليلاً فقالوا : إذا جاء يصلي قتلناه ثم رجعنا إذا فرغنا منه إلى أهله ، ففرغنا منهم ، فبعث الله عليهم صخرة من الهضب حيالهم ، فخشوا أن تشدخهم فتبادروا فانطبقت عليهم الصخرة وهم في ذلك الغار ، فلا يدري قومهم أين هم ، ولا يدرون ما فعل بقومهم : فعذب الله هؤلاء هاهنا وهؤلاء هاهنا وأنجى الله صالحاً ومن معه ، ثم قرأ : { وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ * فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً } أي فارغة ليس فيها أحد { بِمَا ظلموا إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَأَنجَيْنَا الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } .(1/1880)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَاهَا مِنَ الْغَابِرِينَ (57) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَسَاءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)
يخبر تعالى عن عبده ورسوله ( لوط ) عليه السلام أنه أنذر قومه نقمة الله بهم في فعلهم الفاحشة ، التي لم يسبقهم إليها أحد من بني آدم ، وهي ( إتيان الذكور ) دون الإناث ، وذلك فاحشة عظيمة استغنى الرجال بالرجال والنساء بالنساء ، فقال { أَتَأْتُونَ الفاحشة وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } أي يرى بعضكم بعضاً وتأتون في ناديكم المنكر { أَإِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } أي لا تعرفون شيئاً لا طبعاً ولا شرعاً كما قال في الآية الأخرى : { أَتَأْتُونَ الذكران مِنَ العالمين * وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [ الشعراء : 165-166 ] { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قالوا أخرجوا آلَ لُوطٍ مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } أي يتحرجون من فعل ما تفعلونه ومن إقراركم على صنيعكم ، فأخرجوهم من بين أظهركم فإنهم لا يصلحون لمجاورتكم في بلادكم ، فعزموا على ذلك فدمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ، قال الله تعالى : { فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَاهَا مِنَ الغابرين } أي من الهالكين مع قومها ، لأنها كانت ردءاً لهم على دينهم ، وعلى طريقتهم في رضاها بأفعالهم القبيحة ، فكانت تدل قومها على ضيفان لوط ليأتوا إليهم ، وقوله تعالى : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً } أي حجارة من سجيل منضود ، ولهذا قال : { فَسَآءَ مَطَرُ المنذرين } أي الذين قامت عليهم الحجة ، ووصل إلهم الإنذار ، فخالفوا الرسول وكذبوه وهموا بإخراجه من بينهم .(1/1881)
قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَسَلَامٌ عَلَى عِبَادِهِ الَّذِينَ اصْطَفَى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59) أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَا كَانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60)
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول : { الحمد لِلَّهِ } أي على نعمه على عباده من النعم التي لا تعد ولا تحصى وعلى ما اتصف به من الصفات العلى والأسماء الحسنى ، وأن يسلم على عباد الله الذين اصطفاهم واختارهم وهم رسله وأنبياؤه الكرام ، عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام ، هكذا قال عبد الرحمن بن أسلم هم الأنبياء ، قال : وهو كقوله : { سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ العزة عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلاَمٌ على المرسلين * والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الصافات : 180-182 ] ، وقال الثوري والسدي : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم أجمعين ، ولا منافاة فإنهم إذا كانوا من عباد الله الذين اصطفى فالأنبياء بطريق الأولى والأحرى ، والقصد أن الله تعالى أمر رسوله ومن اتبعه أن يحمدوه على جميع أفعاله ، وأن يسلموا على عباده المصطفين الأخيار ، وقد روى أبو بكر البزار عن ابن عباس { وَسَلاَمٌ على عِبَادِهِ الذين اصطفى } قال : هم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم اصطفاهم الله لنبيه رضي الله عنهم . وقوله تعالى : { آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ } ؟ استفهام إنكار على المشركين في عبادتهم مع الله آلهة أخرى . ثم شرع تعالى يبين أنه المنفرد بالخلق والرزق والتدبير دون غيره ، فقال تعالى : { أَمَّنْ خَلَقَ السماوات } أي خلق تلك السماوات في ارتفاعها وصفائها ، وما جعل فيها من الكواكب النيرة ، والنجوم الزاهرة ، والأفلاك الدائرة ، وخلق الأرض وما فيها من الجبال والأطواد والسهول والأوعار ، والفيافي والقفار ، والزروع والأشجار ، والثمار والبحار ، والحيوان على اختلاف الأصناف والأشكال والألوان وغير ذلك ، وقوله تعالى : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً } أي جعله رزقاً للعباد { فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ } أي بساتين { ذَاتَ بَهْجَةٍ } أي منظر حسن وشكل بهي { مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا } أي لم تكونوا تقدرون على إنبات أشجارها ، وإنما يقدر على ذلك الخالق الرازق دون ما سواه من الأصنام والأنداد ، كما يعترف به المشركون { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله فأنى يُؤْفَكُونَ } [ الزخرف : 87 ] { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّن نَّزَّلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَحْيَا بِهِ الأرض مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ الله } [ العنكبوت : 63 ] أي هم معترفون بأنه الفاعل لجميع ذلك وحده لا شريك له ، ثم هم يعبدون معه غيره مما يعترفون أنه لا يخلق ولا يرزق ، ولهذا قال تعالى : { أإله مَّعَ الله } أي أإله مع الله يعبد ، وقد تبين لكم ولكل ذي لب مما يعترفون به أيضاً أنه الخالق الرازق ، ومن المفسرين من يقول : معنى قوله { أإله مَّعَ الله } فعل هذا؟ وهو يرجع إلى معنى الأول ، لأن تقدير الجواب أنهم يقولون : ليس ثَمّ أحد فعل هذا معه بل هو المتفرد به فيقال : فكيف تعبدون معه غيره وهو المستقل المتفرد بالخلق والرزق والتدبير؟ كما قال تعالى : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } [ النحل : 17 ] الآية ، وقوله تعالى هاهنا : { أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض } { أَمَّنْ } في هذه الآيات كلها تقديره أمن يفعل هذه الأشياء كمن لا يقدر على شيء منها؟ هذا معنى السياق وإن لم يذكر الآخر ، ثم قال : { بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } أي يجعلون لله عدلاً ونظيراً ، وهكذا قال تعالى : { أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَآءَ اليل سَاجِداً وَقَآئِماً يَحْذَرُ الآخرة وَيَرْجُواْ رَحْمَةَ رَبِّهِ } [ الزمر : 9 ] أي أمن هو هكذا كمن ليس كذلك؟ ولهذا قال تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } [ الزمر : 9 ] .(1/1882)
أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (61)
يقول تعالى : { أَمَّن جَعَلَ الأرض قَرَاراً } أي قارة ساكنة ثابتة لا تميد ولا تتحرك بأهلها ولا ترجف بها ، فإنها لو كانت كذلك لما طاب عليها العيش والحياة ، بل جعلها من فضله ورحمته مهاداً ، ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرك ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأرض قَرَاراً والسمآء بِنَآءً } [ غافر : 64 ] ، { وَجَعَلَ خِلاَلَهَآ أَنْهَاراً } أي جعل فيها الأنهار العذبة الطيبة ، شقها في خلالها وصرفها فيها ما بين أنهار كبار وصغار وبين ذلك ، وسيرها شرقاً وغرباً وجنوباً وشمالاً ، بحسب مصالح عباده في أقاليمهم وأقطارهم ، حيث ذرأهم في أرجاء الأرض ، وسير لهم أرزاقهم بحسب ما يحتاجون إليه { وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ } أي جبالاً شامخة ترسي الأرض وتثبتها لئلا تميد بكم { وَجَعَلَ بَيْنَ البحرين حَاجِزاً } أي جعل بين المياه العذبة والمالحة { حَاجِزاً } أي مانعاً يمنعها من الاختلاط ، لئلا يفسد هذا بهذا وهذا بهذا ، فإن الحكمة الإلهية تقتقضي بقاء كل منهما على صفته المقصودة منه ، فإن البحر الحلو هو هذه الأنهار السارحة الجارية بين الناس ، والمقصود منها أن تكون عذبة زلالاً يسقى منها الحيوان والنبات والثمار ، والبحار المالحة هي المحيطة بالأرجاء والأقطار من كل جانب ، والمقصود منها أن يكون ماؤها ملحاً أجاجاً لئلا يفسد الهواء بريحها ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الذي مَرَجَ البحرين هذا عَذْبٌ فُرَاتٌ وهذا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَجَعَلَ بَيْنَهُمَا بَرْزَخاً وَحِجْراً مَّحْجُوراً } [ الفرقان : 53 ] ، ولهذا قال تعالى : { أإله مَّعَ الله } ؟ أي فعل هذا أو يعبد على القول الأول والآخر؟ وكلاهما متلازم صحيح { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي في عبادتهم غيره .(1/1883)
أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (62)
ينبه تعالى أنه هو المدعو عند الشدائد ، المرجو عند النوازل ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] ، وقال تعالى : { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } [ النحل : 53 ] ، وهكذا قال هاهنا : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ } أي من هو الذي لا يلجأ المضطر إلا إليه ، والذي لا يكشف ضر المضرورين سواه؟ قال الإمام أحمد عن أبي تميمة الهجيمي عن رجل من هجيم قال : « قلت يا رسول الله إلام تدعو؟ قال : » أدعوا إلى الله وحده ، الذي إن مسك ضر فدعوته كشف عنك ، والذي إن أضللت بأرض قفر فدعوته رد عليك ، والذي إن أصابتك سنة فدعوته أنبت لك « قال : قلت أوصني ، قال : » لا تسبن أحداً ولا تزهدن في المعروف ، ولو أن تلقى أخاك وأنت منبسط إليه وجهك ، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي ، واتزر إلى نصف الساق فإن أبيت فإلى الكعبين ، وإياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة « ، وفي رواية أخرى لأحمد عن جابر بن سليم الهجيمي قال : » أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محتب بشملة وقد وقع هدبها على قدميه ، فقلت : إيكم محمد رسول الله؟ فأومأ بيده إلى نفسه ، فقلت : يا رسول الله أنا من أهل البادية وفيَّ جفاؤهم فأوصني ، قال : « لا تحقرن من المعروف شيئاً ، ولو أن تلقى أخاك ووجهك منبسط ، ولو أن تفرغ من دلوك في إناء المستقي ، وإن امرؤ شتمك بما يعلم فيك لا تشتمه بما تعلم فيه فإنه يكون لك أجره وعلى زره ، وإياك وإسبال الإزار فإن إسبال الإزار من المخيلة وإن الله لا يحب المخيلة ، ولا تسبن أحداً » قال : فما سببت بعده أحداً ولا شاة ولا بعيراً « وقال وهب بن منبه : قرأت في الكتاب الأول : إن الله تعالى يقول : بعزتي إنه من اعتصم بي فإن كادته السماوات بمن فيهن ، والأرض بمن فيها ، فإني أجعل له من بين ذلك مخرجاً ، ومن لم يعتصم بي ، فإن أخسف به من تحت قدميه الأرض ، فأجعله في الهواء فأكله إلى نفسه .
وذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة رجل حكى عنه أبو بكر ( محمد بن داود الدينوري ) المعروف بالدقي الصوفي ، قال هذا الرجل : كنت أكاري على بغل لي من دمشق إلى بلد الزبداني ، فركب معي ذات مرة رجل ، فمررنا على بعض الطريق على طريق غير مسلوكة ، فقال لي : خذ في هذه فإنها أقرب ، لا خبرة لي فيها ، فقال : بل هي أقرب فسلكناها فانتهينا إلى مكان وعر وواد عميق وفيه قتلى كثيرة ، فقال لي : أمسك رأس البغل حتى أنزل ، فنزل وتشمر وجمع عليه ثيابه وسل سكيناً معه وقصدني ففرت من بين يديه وتبعني ، فناشدته الله ، وقلت : خذ البغل بما عليه ، فقال : هو لي ، وإنما أريد قتلك ، فخوفته الله والعقوبة فلم يقبل ، فاستسلمت بين يديه ، وقلت إن رأيت أن تتركني حتى أصلي ركعتين فقال : عجل فقمت أصلي ، فأرتج عليّ القرآن ، فلم يحضرني منه حرف واحد فبقيت واقفاً متحيراً ، وهو يقول : هيه افرغ ، فأجرى الله على لساني قوله تعالى : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء } فإذا أنا بفارس قد أقبل من فم الوادي وبيده حربة ، فرمى بها الرجل ، فما أخطأت فؤاده فخر صريعاً ، فتعلقت بالفارس ، وقلت : بالله من أنت؟ فقال : أنا رسول الله الذي يجيب المضطر إذا دعاه ويكشف السوء ، قال : فأخذت البغل والحمل ورجعت سالماً .(1/1884)
وقوله تعالى : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض } أي يخلف قرناً لقرن قبلهم وخلفاً لسلف ، كما قال تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } [ الأنعام : 133 ] ، وقال تعالى : { وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ } [ الأنعام : 165 ] ، وهكذا هذه الآية { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض } أي أمة بعد أمة ، وجيلاً بعد جيل ، وقوماً بعد قوم ، ولو شاء لأوجدهم كلهم في وقت واحد ، ولم يجعل بعضهم من ذرية بعض ، بل لو شاء لخلقهم كلهم أجمعين ، كما خلق آدم من تراب ، ولو شاء أن يجعلهم بعضهم من ذرية بعض ، ولكن لا يميت أحداً حتى تكون وفاة الجميع في وقت واحد لكانت تضيق عنهم الأرض وتضيق عليهم معايشتهم وأكسابهم ويتضرر بعضهم ببعض ، ولكن اقتضت حكمته وقدرته أن يخلقهم من نفس واحدة ، ثم يكثرهم غاية الكثرة ويجعلهم أمماً بعد أمم ، حتى ينقضي الأجل وتفرغ البرية كما قدر ذلك تبارك وتعالى ، وكما أحصاهم وعدهم عداً ، ثم يقيم القيامة ويوفي كل عامل عمله إذا بلغ الكتاب أجله ، ولهذا قال تعالى : { أَمَّن يُجِيبُ المضطر إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السواء وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض أإله مَّعَ الله } أي يقدر على ذلك ، أو أإله مع الله بعد هذا! وقد علم أن الله هو المتفرد بفعل ذلك وحده لا شريك له؟ { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } أي ما أقل تذكرهم فيما يرشدهم إلى الحق ويهديهم إلى الصراط المستقيم .(1/1885)
أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَنْ يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ تَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63)
يقول تعالى : { أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر } أي بما خلق من الدلائل السماوية والأرضية ، كما قال تعالى : { وَعَلامَاتٍ وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } [ النحل : 61 ] ، وقال تعالى : { وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر } [ الأنعام : 97 ] الآية ، { وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي بين يدي السحاب الذي فيه مطر يغيث الله به عباده المجدبين القنطين { أإله مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُون }(1/1886)
أَمَّنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَمَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (64)
أي هو الذي بقدرته وسلطانه يبدأ الخلق ثم يعيده ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ } [ البروج : 13 ] ، وقال تعالى : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] ، { وَمَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض } أي بما ينزل من مطر السماء وينبت من بركات الأرض ، كما قال تعالى : { يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأرض وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السمآء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا } [ سبأ : 2 ] ، فهو تبارك وتعالى ينزل من السماء ماء مباركاً ، فيسلكه ينابيع في الأرض ، ثم يخرج به أنواع الزروع والثمار والأزاهير ، وغير ذلك من ألوان شتى { كُلُواْ وارعوا أَنْعَامَكُمْ إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لأُوْلِي النهى } [ طه : 54 ] ، ولهذا قال تعالى : { أإله مَّعَ الله } أي فعل هذا وعلى القول الآخر بعد هذا { قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } على صحة ما تدعونه من عبادة آلهة أخرى { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } في ذلك ، وقد علم أنه لا حجة لهم ولا برهان كما قال تعالى : { وَمَن يَدْعُ مَعَ الله إِلَهَا آخَرَ لاَ بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِندَ رَبِّهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } [ المؤمنون : 117 ] .(1/1887)
قُلْ لَا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْهَا بَلْ هُمْ مِنْهَا عَمُونَ (66)
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقول معلماً لجميع الخلق أنه لا يعلم أحد من أهل السماوات والأرض الغيب إلاّ الله . وقوله تعالى : { إِلاَّ الله } استثناء منقطع أي لا يعلم أحد ذلك إلاّ الله عزَّ وجلَّ ، كما قال تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] الآية ، وقال تعالى : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث } [ لقمان : 34 ] إلى آخر السورة ، والآيات في هذا كثيرة . وقوله تعالى : { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي وما يشعر الخلائق الساكنون في السماوات والأرض بوقت الساعة ، كما قال تعالى : { ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } [ الأعراف : 187 ] أي ثقل علمها على أهل السماوات والأرض ، وقالت عائشة رضي الله عنها : من زعم أنه يعلم - يعني النبي صلى الله عليه وسلم - ما يكون في غد فقد أعظم على الله الفرية ، لأن الله تعالى يقول : { قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله } ، وقال قتادة : إنما جعل الله هذه النجوم لثلاث خصال : جعلها زينة للسماء ، وجعلها يهتدى بها ، وجعلها رجوماً للشياطين ، فمن تعاطى فيها غير ذلك فقد قال برأيه وأخطأ حظه ، وأضاع نصيبه ، وتكلف ما لا علم له به ، وإن أناساً جهلة بأمر الله قد أحدثوا من هذه النجوم كهانة : من أعرس بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ، ومن سافر بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا ، ومن ولد بنجم كذا وكذا كان كذا وكذا . ولعمري ما من نجم إلاّ يولد به الأحمر والأسود والقصير والطويل والحسن والدميم ، وما علم هذا النجم وهذه الدابة وهذا الطير بشيء من الغيب ، وقضى الله تعالى أنه { لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السماوات والأرض الغيب إِلاَّ الله وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } .
وقوله تعالى : { بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا } أي انتهى علمهم وعجز عن معرفة وقتها . قال ابن عباس { بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ } أي غاب ، وقال قتادة : { بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة } يعني بجهلهم بربهم ، يقول : لم ينفذ لهم علم في الآخرة ، هذا قول ، وقال ابن جريج عن ابن عباس { بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ فِي الآخرة } حين لم ينفع العلم ، وبه قال عطاء والسدي : أن عملهم إنما يدرك ويكمل يوم القيامة حيث لا ينفعهم ذلك ، كما قال تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا لكن الظالمون اليوم فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } [ مريم : 38 ] ، وكان الحسن يقرأ { بَلِ ادارك عِلْمُهُمْ } قال : اضمحل علمهم في الدنيا حين عاينوا الآخرة ، وقوله تعالى : { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا } عائد على الجنس والمراد الكافرون ، كما قال قال تعالى : { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } [ الكهف : 47 ] أي الكافرون منكم ، وهكذا قال هاهنا : { بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِّنْهَا } أي شاكون في وجودها ووقوعها ، { بَلْ هُم مِّنْهَا عَمُونَ } أي في عماية وجهل كبير في أمرها وشأنها .(1/1888)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا وَآبَاؤُنَا أَئِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنَا هَذَا نَحْنُ وَآبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70)
يقول تعالى مخبراً عن منكري البعث من المشركين ، أنهم استبعدوا إعادة الأجساد بعد صيرورتها عظاماً ورفاتاً وتراباً ، ثم قال : { لَقَدْ وُعِدْنَا هذا نَحْنُ وَآبَآؤُنَا مِن قَبْلُ } أي ما زلنا نسمع بهذا نحن وآباؤنا ولا نرى له حقيقة ولا وقوعاً ، وقولهم : { إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } يعنون ما هذا الود بإعادة الأبدان { إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } أيأخذه قوم عمن قبلهم من كتب ، يتلقاه بعض عن بضع وليس له حقيقة ، قال الله تعالى مجيباً لهم عما ظنوه من الكفر وعدم المعاد { قُلْ } يا محمد لهؤلاء { سِيرُواْ فِي الأرض فَاْنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين } أي المكذبين بالرسل وبما جاءوهم به من أمر المعاد وغيره ، كيف حلت بهم نقمة على صدق ما جاءت به الرسل وصحته ، ثم قال تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } أي المكذبين بما جئت به ولا تأسف عليهم وتذهب نفسك عليهم حسرات ، { وَلاَ تَكُن فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ } أي في كيدك ورد ما جئت به ، فإن الله مؤيدك وناصرك ، ومظهر دينك على من خالفه وعانده في المشارق والمغارب .(1/1889)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (71) قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (73) وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (74) وَمَا مِنْ غَائِبَةٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (75)
يقول تعالى مخبراً عن المشركين في سؤالهم عن يوم القيامة واستبعادهم وقوع ذلك ، { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ؟ قال الله تعالى مجيباً لهم : { قُلْ } يا محمد { عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم بَعْضُ الذي تَسْتَعْجِلُونَ } قال ابن عباس : أن يكون قرب أو أن يقرب لكم بعض الذي تستعجلون ، كقوله تعالى : { وَيَقُولُونَ متى هُوَ قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً } [ الإسراء : 51 ] ، وقال تعالى : { يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } [ العنكبوت : 54 ] ، وإنما دخلت اللام في قوله : { رَدِفَ لَكُم } لأنه ضمّن معنى عجّل لكم ، كما قال مجاهد في رواية عنه { عسى أَن يَكُونَ رَدِفَ لَكُم } عُجّل لكم . ثم قال الله تعالى : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } أي في إسباغه نعمه عليهم مع ظلمهم لأنفسهم وهم مع ذلك لا يشكرونه على ذلك إلاّ القليل منهم ، { وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر ، { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ } [ الرعد : 10 ] ، { يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] ، ثم أخبر تعالى بأنه عالم غيب السماوات والأرض وأنه عالم الغيب والشهادة ، وهو ما غاب عن العباد وما شاهدوه ، فقال تعالى : { وَمَا مِنْ غَآئِبَةٍ } قال ابن عباس : يعني وما من شيء { فِي السمآء والأرض إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } ، وهذه كقوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } [ الحج : 70 ] .(1/1890)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80) وَمَا أَنْتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81)
يقول تعالى مخبراً عن كتابه العزيز وما اشتمل عليه من الهدى والبيان والفرقان ، أنه يقص على بني إسرائيل وهم حملة التوراة والإنجيل { أَكْثَرَ الذي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } كاختلافهم في عيسى وتباينهم فيه ، فاليهود افتروا والنصارى غلوا ، فجاء القرآن بالقول الوسط الحق العدل أنه عبد من عباد الله وأنبيائه ورسله الكرام ، عليه أفضل الصلاة والسلام ، كما قال تعالى : { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ } [ مريم : 34 ] ، وقوله : { وَإِنَّهُ لَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤمِنِينَ } أي هدى لقلوب المؤمنين به ورحمة لهم ، ثم قال تعالى : { إِن رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم } أي يوم القيامة { بِحُكْمِهِ وَهُوَ العزيز } أي في انتقامه { العليم } بأفعال عباده وأقوالهم { فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } أي في جميع أمورك وبلغ رسالة ربك ، { إِنَّكَ عَلَى الحق المبين } أي أنت على الحق المبين وإن خالفك من خالفك ممن كتبت عليه الشقاوة ، وحقت عليهم كلمة ربك أنهم لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى } أي لا تسمعهم شيئاً ينفعهم ، فكذلك هؤلاء على قلوبهم غشاوة وفي آذانهم وقر الكفر ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّكَ لاَ تُسْمِعُ الموتى وَلاَ تُسْمِعُ الصم الدعآء إِذَا وَلَّوْاْ مُدْبِرِينَ * وَمَآ أَنتَ بِهَادِي العمي عَن ضَلالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ } أي إنما يستجيب لك من هو سميع بصير ، السمع والبصر النافع في القلب ، الخاضع لله ولما جاء عنه على ألسنة الرسل عليهم السلام .(1/1891)
وَإِذَا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ (82)
هذه الدابة تخرج في آخر الزمان عند فساد الناس وتركهم أوامر الله وتبديلهم الدين الحق ، يخرج الله لهم دابة من الأرض . قيل : من مكة ، وقيل من غيرها كما سيأتي تفصيله إن شاء الله تعالى ، فتكلم الناس على ذلك ، قال ابن عباس والحسن وقتادة : تكلمهم كلاماً أي تخابطهم مخاطبة وقال عطاء الخراساني : تكلمهم فتقول لهم : إن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون ، ويروى هذا عن علي واختاره ابن جرير ، وقد ورد في ذكر الدابة أحاديث وآثار كثيرة ، فلنذكر منها ما تيسر والله المستعان ، روى الإمام أحمد : عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال : أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر أمر الساعة فقال : « لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم عليه السلام ، والدجال ، وثلاثة خسوف : خسف بالمغرب ، وخسف بالمشرق وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق أو تحشر الناس تبيت معهم حيث باتوا وتقيل لهم حيث قالوا » حديث قال مسلم بن الحجاج عن عبد الله بن عمرو قال : حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً لم أنسه بعد ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن أول الآيات خروجاً طلوع الشمس من مغربها ، وخروج الدابة على الناس ضحى ، وأيتهما كانت قبل صاحبتها فالأخرى على أثرها قريباً » حديث آخر : وروى مسلم في « صحيحه » عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « بادروا بالأعمال ستاً : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدجال ، والدابة ، وخاصة أحدكم ، وأمر العامة » ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تخرج دابة الأرض ومعها عصا موسى وخاتم سليمان عليهما السلام ، فتخطم أنف الكافر بالعصا ، وتجلي وجه المؤمن بالخاتم حتى يجتمع الناس على الخوان يعرف المؤمن من الكافر » وعن وهب بن منبه أنه حكى من كلام عزير عليه السلام أنه قال : وتخرج من تحت سدوم دابة تكلم الناس كل يسمعها ، وتضع الحبالى قبل التمام ، ويعود الماء العذب أجاجاً ويتعادى الأخلاء ، وتحرق الحكمة ويرفع العلم وتكلم الأرض التي تليها ، وفي ذلك الزمان يرجو الناس ما لا يبلغون ، ويتعبون فيما لا ينالون ، ويعملون فيما لا يأكلون .(1/1892)
وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجًا مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْمًا أَمَّاذَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَوَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِمَا ظَلَمُوا فَهُمْ لَا يَنْطِقُونَ (85) أَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86)
يقول تعالى مخبراً عن يوم القيامة . وحشر الظالمين من المكذبين بآيات الله ورسله ، ليسألهم عما فعلوه في الدار الدنيا ، تقريعاً وتصغيراً وتحقيراً ، فقال تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً } أي من كل قوم وقرن فوجاً أي جماعة { مِّمَّن يُكَذِّبُ بِآيَاتِنَا } ، كما قال تعالى : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] ، وقوله تعالى : { فَهُمْ يُوزَعُونَ } قال ابن عباس : سيدفعون ، وقال قتادة : يرد أولهم على آخرهم ، وقال عبد الرحمن بن زيد : يساقون { حتى إِذَا جَآءُوا } ووقفوا بين يدي الله عزَّ وجلَّ في مقام المساءلة { قَالَ أَكَذَّبْتُم بِآيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُواْ بِهَا عِلْماً أَمَّا ذَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي فيسألون عن اعتقادهم وأعمالهم ، فلما لم يكونوا من أهل السعادة وكانوا كما قال الله عنهم ، { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى * ولكن كَذَّبَ وتولى } [ القيامة : 31 - 32 ] فحينئذٍ قامت عليهم الحجة ولم يكن لهم عذر يعتذرون به ، كما قال الله تعالى : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 35 - 36 ] الآية ، وهكذا قال هاهنا { وَوَقَعَ القول عَلَيهِم بِمَا ظَلَمُواْ فَهُمْ لاَ يَنطِقُونَ } أي بهتوا فلم يكن لهم جواب ، لأنهم كانوا في الدار الدنيا ظلمة لأنفسهم ، وقد ردوا إلى عالم الغيب والشهادة الذي لا تخفى عليه خافية ، ثم قال تعالى منبهاً على قدرته التامة وسلطانه العظيم وشأنه الرفيع : { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا الليل لِيَسْكُنُواْ فِيهِ } أي في ظلام الليل لتسكن حركاتهم بسببه وتهدأ أنفاسهم ، ويستريحون من نصب التعب في نهارهم { والنهار مُبْصِراً } أي منيراً مشرقاً ، فبسبب ذلك يتصرفون في المعايش والمكاسب والأسفار والتجارات ، وغير ذلك من شؤونهم التي يحتاجون إليها { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .(1/1893)
وَيَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ (87) وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَهُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)
يخبر تعالى عن هول يوم نفخة الفزع في الصور ، وفي حديث الصور : إن إسرافيل هو الذي ينفخ فيه بأمر الله تعالى ، فينفخ فيه أولاً نفخة الفزع وبطولها ، وذلك في آخر عمر الدنيا حين تقوم الساعة على شرار الناس من الأحياء ، فيفزع من في السماوات ومن في الأرض { إِلاَّ مَن شَآءَ الله } وهم الشهداء فإنهم أحياء عند ربهم يرزقون ، وفي حديث مسلم الطويل قال : « فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً فيتمثل لهم الشيطان فيقول : ألا تستيجيبون؟ فيقولون : فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان وهم في ذلك دارٌّ رزقهم حسن عيشهم ، ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا . قال - وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله قال : فيصعق ويصعق الناس ، ثم يرسل الله - أو قال ينزل الله - مطراً كأنه الطل - أو قال الظل ، فتنبت منه أجساد الناس ، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون ، ثم يقال : يا أيها الناس هلموا إلى ربكم { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] ثم يقال : أخرجوا بعث النار : فيقال : من كم؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون قال : فذلك يوم يجعل الولدان شيباً وذلك يوم يكشف عن ساق » وقوله : ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلاّ أصغى ليتا ورفع ليتا الليت هو صفحة العنق أي أمال عنقه ليستمعه من السماء جيداً ، فهذه ( نفخة الفزع ) ثم بعد ذلك ( نفخة الصعق ) وهو الموت ، ثم بعد ذلك ( نفخة القيام لرب العالمين ) وهو النشور من القبور لجيمع الخلائق ، ولهذا قال تعالى : { وَكُلٌّ أَتَوْهُ دَاخِرِينَ } أي صاغرين مطيعين لا يتخلف أحد عن أمره كما قال تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 52 ] .
وقال تعالى : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } [ الروم : 25 ] وفي حديث الصور : أنه في النفخة الثالثة يأمر الله الأرواح فتوضع في ثقب في الصور ، ثم ينفخ إسرافيل فيه بعدما تنبت الأجساد في قبورها وأماكنها ، فإذا نفخ في الصور طارت الأرواح تتوهج ، أرواح المؤمنين نوراً ، وأرواح الكافرين ظلمة ، فيقول الله عزَّ وجلَّ : وعزتي وجلالي لترجعن كل روح إلى جسدها ، فتجيء الأرواح إلى أجسادها فتدب فيها كما يدب السم في اللديغ ، ثم يقومون ينفضون التراب من قبورهم ، قال الله تعالى : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً كَأَنَّهُمْ إلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ } [ المعارج : 43 ] ، وقوله تعالى : { وَتَرَى الجبال تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السحاب } أي تراها كأنها ثابتة باقية على ما كانت عليه ، وهي تمر مر السحاب أي تزول عن أماكنها ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً * وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً }(1/1894)
[ الطور : 9 - 10 ] ، وقال تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً * فَيَذَرُهَا قَاعاً صَفْصَفاً * لاَّ ترى فِيهَا عِوَجاً ولا أَمْتاً } [ طه : 105 - 107 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الجبال وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } [ الكهف : 47 ] ، وقوله تعالى : { صُنْعَ الله الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } أي يفعل ذلك بقدرته العظيمة { الذي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْءٍ } أي أتقن كل ما خلق وأودع فيه من الحكمة ما أودع ، { إِنَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَفْعَلُونَ } أي هو عليم بما يفعل عباده من خير وشر وسيجازيهم عليه أتم الجزاء ثم بيَّن تعالى حال السعداء والأشقياء يومئذٍ فقال : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } ، قال قتادة : بالإخلاص ، وقال زين العابدين : هي لاإله إلاّ الله . وقد بين تعالى في الموضع الآخر أن له عشر أمثالها { وَهُمْ مِّن فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ } ، كما قال في الآية الأخرى : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر } [ الأنبياء : 103 ] ، وقال تعالى : { أَفَمَن يلقى فِي النار خَيْرٌ أَم مَّن يأتي آمِناً يَوْمَ القيامة } [ فصلت : 40 ] ، وقال تعالى : { وَهُمْ فِي الغرفات آمِنُونَ } [ سبأ : 37 ] ، وقوله تعالى : { وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار } أي من لقي الله مسيئاً لا حسنة له أو قد رجحت سيئاته على حسناته كل بحسبه ، ولهذا قال تعالى : { هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } . وقال ابن مسعود وابن عباس والضحاك والحسن وقتادة في قوله { وَمَن جَآءَ بالسيئة } يعني بالشرك .(1/1895)
إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَأَنْ أَتْلُوَ الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)
يقول تعالى مخبراً رسوله وآمراً له أن يقول : { إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ البلدة الذي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ } وإضافة الربوبية إلى البلدة على سبيل التشريف لها والاعتناء بها ، كما قال تعالى : { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت * الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3 - 4 ] ، وقوله تعالى : { الذي حَرَّمَهَا } أي الذي إنما صارت حراماً شرعاً وقدراً يتحريمه لها كما ثبت في « الصحيحين » عن ابن عباس ، قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : « إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلاّ من عرفها ، ولا يختلى خلاه » الحديث بتمامه . وقوله تعالى : { وَلَهُ كُلُّ شَيءٍ } من باب عطف العام على الخاص أي هو رب هذه البلدة ورب كل شيء ومليكه لا إله إلاّ هو ، { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } .(1/1896)
طسم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُو عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسَى وَفِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4) وَنُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَا كَانُوا يَحْذَرُونَ (6)
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة . وقوله : { تِلْكَ } أي هذه { آيَاتُ الكتاب المبين } أي الواضح الجلي الكاشف عن حقائق الأمور وعلم ما قد كان وما هو كائن ، وقوله : { نَتْلُواْ عَلَيْكَ مِن نَّبَإِ موسى وَفِرْعَوْنَ بالحق } أي نذكر لك الأمر على ما كان عليه كأنك تشاهد وكأنك حاضر ، ثم قال تعالى { إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلاَ فِي الأرض } أي تكبر وتجبر وطغى ، { وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعاً } أي أصنافاً قد صرف كل صنف فيما يريد من أمور دولته ، وقوله تعالى : { يَسْتَضْعِفُ طَآئِفَةً مِّنْهُمْ } يعني بني إسرائيل ، وكانوا في ذلك الوقت خيار أهل زمانهم ، هذا وقد سلط عليهم هذا الملك الجبار العنيد يستعملهم في أخس الأعمال ، ويقتل مع هذا أبناءهم ، ويستحيي نسائهم ، إهانة لهم واحتقاراً وخوفاً من أن يوجد منهم غلام يكون سبب هلاكه وذهاب دولته على يديه ، فاحترز فرعون من ذلك ، وأمر بقتل ذكور بني إسرائيل ، ولن ينفع حذر من قدر لأن أجل الله إذا جاء لا يؤخر ولكل أجل كتاب ، ولهذا قال تعالى : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض } إلى قوله { يَحْذَرُونَ } وقد فعل تعالى ذلك بهم ، كما قال تعالى : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ } [ الأعراف : 137 ] إلى قوله { يَعْرِشُونَ } [ الأعراف : 137 ] ، وقال تعالى : { كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 59 ] أراد فرعون بحوله وقوته أن ينجو من موسى ، فما نفعه ذلك مع قدرة الإله العظيم الذي لا يخالف أمره ولا يغلب ، بل نفذ حكمه في القدم بأن يكون هلاك فرعون على يديه ، بل يكون هذا الغلام الذي احترزت من وجوده وقتلت بسببه ألوفاً من الولدان ، إنما منشؤه ومرباه على فراشك ، وفي دارك وغذاؤه من طعامك ، وأنت تربية وتدلله وتتفداه وحتفك وهلاكك وهلاك جنودك على يديه ، لتعلم أن رب السماوات العلا هو القاهر الغالب العظيم ، القوي العزيز الشديد المحال الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن .(1/1897)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ (8) وَقَالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (9)
ذكروا أن فرعون لما أكثر من قتل ذكور بني إسرائيل ، خافت القبط أن يفنى بني إسرائيل فيلون هم ما كانوا يلونه من الأعمال الشاقة ، قالوا لفرعون : أنه يوشك إن استمر هذا الحال أن يموت شيوخهم ، وغلمانهم يقتلون ، ونساؤهم لا يمكن أن تقمن بما تقوم به رجالهم من الأعمال فيخلص إلينا ذلك . فأمر بقتل الولدان عاماً وتركهم عاماً ، فولد هارون عليه السلام في السنة التي يتركون فيها الولدان ، وموسى في السنة التي يقتلون فيها الولدان ، وكان لفرعون ناس موكلون بذلك وقوابل يدرن على النساء ، فمن رأينها قد حملت أحصوا اسمها ، فإِذا كان وقت ولادتها لا يقبلها إلاّ نساء القبط ، فإن ولدت المرأة جارية تركنها وذهبن ، وإن ولدت غلاماً دخل أولئك الذباحون بأيديهم الشفار المرهفة فقتلوه ومضوا ، قبحهم الله تعالى ، فلما حملت أم موسى به عليه السلام لم يظهر عليها مخايل الحمل كغيرها ولم تفطن لها الدايات ، ولكن لما وضعته ذكراً ضاقت به ذرعاً ، وخافت عليه خوفاً شديداً وأحبته حباً زائداً ، وكان موسى عليه السلام لا يراه أحد إلاّ أحبه ، قال تعالى : { وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي } [ طه : 39 ] فلما ضاقت به ذرعاً ألهمت في سرها ونفث في روعها ، كما قال تعالى { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي اليم وَلاَ تَخَافِي وَلاَ تحزني إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } وذلك أنه كانت دارها على حافة النيل ، فاتخذت تابوتاً ومهدت فيه مهداً ، وجعلت ترضع ولدها ، فإذا دخل عليها أحد ممن تخافه ذهبت فوضعته في ذلك التابوت ، وسيرته في البحر وربطته بحبل عندها . فلما كان ذات يوم دخل عليها من تخافه ، فذهبت فوضعته في ذلك التابوت ، وأرسلته في البحر ، وذهلت أن تربطه ، فذهب مع الماء واحتمله حتى مر به على دار فرعون فالتقطه الجواري ، فاحتملنه فذهبن به إلى امرأة فرعون ولا يدرين ما فيه ، وخشين أن يفتتن عليها في فتحه دونها ، فلما كشفت عنه إذا هو غلام من أحسن الخلق وأجمله وأحلاه وأبهاه؟ فأوقع الله محبته في قلبها حين نظرت إليه ، وذلك لسعادتها وما أراد الله من كرامتها وشقاوة بعلها ، ولهذا قال : { فالتقطه آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } الآية ، قال محمد بن إسحاق : اللام هنا ( لام العاقبة ) لا ( لام التعليل ) لأ ، هم لم يريدوا بالتقاطه ذلك ، قال تعالى : { إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُواْ خَاطِئِينَ } ، وقوله تعالى : { وَقَالَتِ امرأة فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } الآية ، يعني أن فرعون لما رآه هم بقتله خوفاً من أن يكون من بني إسرائيل فشرعت امرأته ( آسية بنت مزاحم ) تخاصم عنه وتذب دونه وتحببه إلى فرعون ، فقالت : { قُرَّتُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ } ، فقال فرعون : أما لك فنعم ، وأما لي فلا ، فكان كذلك وهداها الله بسببه وأهلكه على يديه وقوله : { عسى أَن يَنْفَعَنَا } وقد حصل لها ذلك وهداها الله به وأسكنها الجنة بسببه ، وقوله : { أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } أي أرادت أن تتخذه ولداً وتتبناه ، وذلك أنه لم يكن لها ولد منه ، وقوله تعالى : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي لا يدرون ما أراد الله منه بالتقاطهم إياه من الحكمة العظيمة البالغة والحجة القاطعة .(1/1898)
وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10) وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (11) وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ (12) فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
يقول تعالى مخبراً عن فؤاد أم موسى حين ذهب ولدها في البحر أنه أصبح فارغاً ، أي من كل شيء من أمور الدنيا إلاّ من موسى ، قاله ابن عباس ومجاهد { إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ } : أي إن كادت من شدة وجدها وحزنها لتظهر أنه ذهب لها ولد ، وتخبر بحالها لولا أن الله ثبتها وصبرها ، قال الله تعالى : { لولا أَن رَّبَطْنَا على قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ المؤمنين * وَقَالَتْ لأُخْتِهِ قُصِّيهِ } أي أمرت ابنتها وكانت كبيرة تعي ما يقال لها فقالت لها { قُصِّيهِ } أي اتبعي أثره وخذي خبره ، وتطلبي شأنه من نواحي البلد فخرجت لذلك { فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ } قال ابن عباس : عن جانب ، وقال مجاهد : بصرت به عن بعيد وقال قتادة : جعلت تنظر إليه وكأنها لا تريده ، وذلك أنه لما استقر موسى عليه السلام بدار فرعون ، وأحبته امرأة الملك عرضوا عليه المراضع التي في دارهم ، فلم يقبل ثدياً وأبى أن يقبل شيئاً من ذلك ، فخرجوا به إلى السوق لعلهم يجدون امرأة تصلح لرضاعته ، فلما رأته بأيديهم عرفته ، ولم تظهر ذلك ولم يشعر بها ، قال الله تعالى : { وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ المراضع مِن قَبْلُ } أي تحريماً قدرياً وذلك لكرامته عند الله وصيانته له أن يرتضع غير ثدي أمه ، ولأن الله سبحانه وتعالى جعل ذلك سبباً إلى رجوعه إلى أمه لترضعه وهي آمنة بعدما كانت خائفة فلما رأتهم حائرين فيمن يرضعه { فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ على أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ } ؟ قال ابن عباس : فلما قالت ذلك أخذوها وشكوا في أمرها ، وقالوا لها : ما يدريك بنصحهم له وشفقتهم عليه؟ فقالت لهم : نصحهم له وشفقتهم عليه رغبتهم في سرور الملك ورجاء منفعته فأرسلوها ، فلما قالت لهم ذلك وخلصت من أذاهم ذهبوا معها إلى منزلهم ، فدخلوا به على أمه ، فأعطته ثديها ، فالتقمه ففرحوا بذلك فرحاً شديداً وذهب البشير إلى امرأة الملك ، فاستدعت أم موسى ، وأحسنت إليها وأعطتها عطاء جزيلاً وهي لا تعرف أنها أمه في الحقيقة ولكن لكونه وافق ثديها ، ثم سألتها آسية أن تقيم عندها فترضعه فأبت عليها وقالت : إن لي بعلاً وأولاداً ولا أقدر على المقام عندك ، ولكن إن أحببت أن أرضعه في بيتي فعلت ، فأجابتها امرأة فرعون إلى ذلك وأجرت عليها النفقة والصلات والإِحسان الجزيل ، فرجعت أم موسى بولدها راضية مرضية ، قد أبدلها الله بعد خوفها آمناً في عز وجاه ورزق دارّ ، ولهذا جاء في الحديث : « مثل الذي يعمل ويحتسب في صنعته الخير كمثل أم موسى ترضع ولدها وتأخذ أجرها » ، ولم يكن بين الشدة والفرج إلاّ القليل يوم وليلة ، فسبحان من بيده الأمر ، يجعل لمن اتقاه بعد كل هم فرجاً ، وبعد كل ضيق مخرجاً ، ولهذا قال تعالى : { فَرَدَدْنَاهُ إلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا } أي به { وَلاَ تَحْزَنَ } أي عليه { وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي فيما وعدها من رده إليها وجعله من المرسلين ، وقوله تعالى : { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي حكم الله في أفعاله وعواقبها المحمودة ، فربما يقع الأمر كريهاً إلى النفوس وعاقبته محمودة في نفس الأمر ، كما قال تعالى : { فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } [ النساء : 19 ] .(1/1899)
وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَدَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلَى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِهَا فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلَانِ هَذَا مِنْ شِيعَتِهِ وَهَذَا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغَاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قَالَ رَبِّ بِمَا أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيرًا لِلْمُجْرِمِينَ (17)
لما ذكر تعالى مبدأ أمر موسى عليه السلام ، ذكر أنه لما بلغ أشده واستوى آتاه الله حكماً وعلماً ، قال مجاهد : يعني النبوة { وَكَذَلِكَ نَجْزِي المحسنين } ، ثم ذكر تعالى سبب وصوله إلى ما كان تعالى قدره له من النبوة والتكليم في قضية قتله ذلك القبطي ، الذي كان سبب خروجه من الديار المصرية إلى بلاد مدين ، فقال تعالى : { وَدَخَلَ المدينة على حِينِ غَفْلَةٍ مِّنْ أَهْلِهَا } قال ابن عباس : وذلك بين المغرب والعشاء ، وقال ابن المنكدر عن ابن عباس : كان ذلك نصف النهار ، { فَوَجَدَ فِيهَا رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلاَنِ } أي يتضاربان ويتنازعان ، { هذا مِن شِيعَتِهِ } أي إسرائيل { وهذا مِنْ عَدُوِّهِ } أي قبطي ، فاستغاث الإسرائيلي بموسى عليه السلام ، فوجد موسى فرصة وهي غفلة الناس فعمد إلى القبطي { فَوَكَزَهُ موسى فقضى عَلَيْهِ } قال مجاهد : فوكزه أي لعنه بجميع كفه ، وقال قتادة : وكزه بعصا كانت معه فقضى عليه أي كان فيها حتفه فمات ، { قَالَ } موسى { هذا مِنْ عَمَلِ الشيطان إِنَّهُ عَدُوٌّ مُّضِلٌّ مُّبِينٌ * قَالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فاغفر لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم * قَالَ رَبِّ بِمَآ أَنْعَمْتَ عَلَيَّ } أي بما جعلت لي من الجاه والعز والنعمة { فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً } أي معيناً { لِّلْمُجْرِمِينَ } أي الكافرين بك ، المخالفين لأمرك .(1/1900)
فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خَائِفًا يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قَالَ لَهُ مُوسَى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18) فَلَمَّا أَنْ أَرَادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُمَا قَالَ يَا مُوسَى أَتُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَمَا قَتَلْتَ نَفْسًا بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّارًا فِي الْأَرْضِ وَمَا تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)
يقول تعالى مخبراً عن موسى عليه السلام لما قتل ذلك القبطي إن أصبح { فِي المدينة خَآئِفاً } أي من معرة ما فعل { يَتَرَقَّبُ } أي يتلفت ويتوقع ما يكون من هذا الأمر ، فمر في بعض الطرف فإِذا ذلك الذي استنصره بالأمس على القبطي يقاتل آخر ، فلما مر عليه موسى استصرخه على الآخر فقال له موسى : { إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُّبِينٌ } أي ظاهر الغواية كثير الشر ، ثم عزم موسى على البطش بذلك القبطي ، فاعتقد الإِسرائيلي لخوره وضفعه وذلته أن موسى إنما يريد قصده لما سمعته يقول ذلك ، فقال يدفع عنه نفسه { ياموسى } أتريد أن تقلني كما قتلت نفساً بالأمس؟ وذلك لأنه لم يعلم به إلاّ هو وموسى عليه السلام ، فلما سمعها ذلك القبطي لقفها من فمه ، ثم ذهب إلى باب فرعن وألقاها عنده فعلم فرعون بذلك ، فاشتد حنقه وعزم على قتل موسى ، فطلبوه فبعثوا وراءه ليحضروه لذلك .(1/1901)
وَجَاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20)
قال تعالى : { وَجَآءَ رَجُلٌ } وصفه بالرجولية لأنه خالف الطريق فسلك طريقاً أقرب من طريق الذين بعثوا وراءه فسبق إلى موسى ، فقال له يا موسى { إِنَّ الملأ يَأْتَمِرُونَ بِكَ } يتشاورون فيك { لِيَقْتُلُوكَ فاخرج } أي من البلد { إِنِّي لَكَ مِنَ الناصحين } .(1/1902)
فَخَرَجَ مِنْهَا خَائِفًا يَتَرَقَّبُ قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَوَاءَ السَّبِيلِ (22) وَلَمَّا وَرَدَ مَاءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَوَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودَانِ قَالَ مَا خَطْبُكُمَا قَالَتَا لَا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعَاءُ وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقَى لَهُمَا ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَا أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)
لما أخبره الرجل بما تمالأ عليه فرعون ودولته في أمره ، خرج من مصر وحده ولم يألف ذلك قبله ، بل كان في رفاهية ونعمة ورياسة { فَخَرَجَ مِنْهَا خَآئِفاً يَتَرَقَّبُ } أي يتلفت { قَالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ القوم الظالمين } أي من فرعون وملئه ، فذكروا أن الله سبحانه وتعالى بعث إليه ملكاً فأرشده إلى الطريق { وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَآءَ مَدْيَنَ } أي أخذ طريقاً سالكاً فرح بذلك ، { قَالَ عسى ربي أَن يَهْدِيَنِي سَوَآءَ السبيل } أي الطريق الأقوم ، ففعل الله به ذلك ، وهداه إلى الصراط المستقيم في الدنيا والآخرة ، فجعله هادياً مهدياً ، { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ } أي لما وصل إلى مدين ورد ماءها ، وكان لها بئر يرده رعاء الشاء { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ } أي جماعة يسقون { وَوَجَدَ مِن دُونِهِمُ امرأتين تَذُودَانِ } أي تكفكفان غنمهما أن ترد مع غنم أولئك الرعاء لئلا يؤذيا ، فلما رآهما موسى عليه السلام رق لهما ورحمهما ، { قَالَ مَا خَطْبُكُمَا } ؟ أي ما خبركما لا تردان مع هؤلاء ، { قَالَتَا لاَ نَسْقِي حتى يُصْدِرَ الرعآء } أي لا يحصل لنا سقي إلاّ بعد فراغ هؤلاء ، { وَأَبُونَا شَيْخٌ كَبِيرٌ } أي فهذا الحال الملجىء لنا إلى ما ترى ، قال الله تعالى : { فسقى لَهُمَا } روى عمرو بن ميمون الأودي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : أن موسى عليه السلام لما ورد ماء مدين وجد عليه أمة من الناس يسقون ، قال : فلما فرغوا أعادوا الصخرة على البئر ولا يطيق رفعها إلاّ عشرة رجال ، فإذا هو بأمرأتين تذودان قال : ما خطبكما؟ فحدثناه فأتى الحجر فرفعه ، ثم لم ستق إلاّ ذنوباً واحداً حتى رويت الغنم ، وقوله تعالى : { ثُمَّ تولى إِلَى الظل فَقَالَ رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } قال ابن عباس : سار موسى من مصر إلى مدين ليس له طعام إلاّ ورق الشجر ، وكان حافياً ، فما وصل إلى مدين حتى سقطت نعل قدميه ، وجلس في الظل وهو صفوة الله من خلقه ، وإن بطنه للاصق بظهره من الجوع ، وإن حضرة البقل لترى من داخل جوفه ، وإنه لمحتاج إلى شق تمرة ، وقوله : { إِلَى الظل } جلس تحت شجرة ، قال السدي : كانت الشجرة من شجر السمر ، وقال عطاء : لما قال موسى { رَبِّ إِنِّي لِمَآ أَنزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ } أسمع المرأة .(1/1903)
فَجَاءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى اسْتِحْيَاءٍ قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا فَلَمَّا جَاءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قَالَ لَا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قَالَتْ إِحْدَاهُمَا يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قَالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هَاتَيْنِ عَلَى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْرًا فَمِنْ عِنْدِكَ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلَا عُدْوَانَ عَلَيَّ وَاللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (28)
لما رجع المرأتان سريعاً بالغنم إلى أبيهما أنكر حالهما بسبب مجيئهما سريعاً ، فسألهما عن خبرهما فقصتا عليه ما فعل موسى عليه السلام ، فبعث إحداهما إليه لتدعوه إلى أبيها ، قال الله تعالى : { فَجَآءَتْهُ إِحْدَاهُمَا تَمْشِي عَلَى استحيآء } أي مشي الحرائر ، جاءت مستترة بكم درعها ، قال عمر رضي الكله عنه جاءت { تَمْشِي عَلَى استحيآء } قائلة بثوبها على وجهها ليست بسَلْفَع من النساء ولاَّجة خرَّاجة . { قَالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } وهذا تأدب في العبارة لم تطلبه طلباً مطلقاً لئلا يوهم ريبة ، بل قالت : { إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ مَا سَقَيْتَ لَنَا } يعني لثيبك ويكافئك على سقيك لغنمنا ، { فَلَمَّا جَآءَهُ وَقَصَّ عَلَيْهِ القصص } أي ذكر له ما كان من أمره وما جرى له من السبب الذي خرج من أجله من بلده { قَالَ لاَ تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين } يقول : طب نفساً وقر عيناً فقد خرجت من مملكتهم فلا حكم لهم في بلادنا ، ولهذا قال : { نَجَوْتَ مِنَ القوم الظالمين } . وقد اختلف المفسرون في الرجل من هو؟ على أقوال : أحدها أنه شعيب النبي عليه السلام الذي أرسل إلى أهل مدين ، وقال آخرون : بل كان ابن أخي شعيب ، وقيل : رجل مؤمن من قوم شعيب ، وقال آخرون : كان شعيب قبل زمان موسى عليه السلام بمدة طويلة لأنه قيل لقومه { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } [ هود : 89 ] ، وعن ابن عباس قال : الذي استأجر موسى ( يثرى ) صابح مدين رواه ابن جرير ، ثم قال : الصواب أن هذا لا يدرك إلاّ بخبر تجب به الحجة في ذلك . وقوله تعالى : { قَالَتْ إِحْدَاهُمَا ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين } أي قالت إحدى ابنتي هذا الرجل قيل : هي التي ذهبت وراء موسى عليه السلام قالت لأبيها : { ياأبت استأجره } أي لرعية هذه الغنم ، { إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين } قال لها أبوها : وما علمك بذلك؟ قالت له : إنه رفع الصخرة التي لا يطيق حملها إلاّ عشرة رجال ، وإني لما جئت معه تقدمت أمامه فقال لي : كوني من ورائي ، فإذا اختلف عليَّ الطريق فاحذفي لي بحصاة أعلم بها كيف الطريق لأهتدي إليه . وقال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة : أبو بكر حين تفرس في عمر ، وصاحب يوسف حين قال أكرمي مثواه ، وصاحبة موسى حين قالت : { ياأبت استأجره إِنَّ خَيْرَ مَنِ استأجرت القوي الأمين } ، { قَالَ إني أُرِيدُ أَنْ أُنكِحَكَ إِحْدَى ابنتي هَاتَيْنِ } أي طلب إليه هذا الرجل الشيخ الكبير أن يرعىغنمه ويزوجه إحدى بنتيه .
وقوله تعالى : { على أَن تَأْجُرَنِي ثَمَانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِندِكَ } أي على أن ترعى غنمي ثماني سنين ، فإن تبرعت بزيادة سنتين فهو إليك ، وإلاّ ففي الثمان كفاية ، { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِن شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ } أي لا أشاقك ولا أؤاذيك ولا أماريك .(1/1904)
وفي الحديث : « إن موسى عليه السلام آجر نفسه بعفة فرجه وطعمة بطنه » ، وقوله تعالى أخباراً عن موسى عليه السلام { قَالَ ذَلِكَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } يقول : إن موسى قال لصهره الأمر على ما قلت من أنك استأجرتني على ثمان سنين ، فإن أتممت عشراً فمن عندي فأنا متى فعلت أقلهما ، فقد برئت من العهد وخرجت من الشرط ، ولهذا قال : { أَيَّمَا الأجلين قَضَيْتُ فَلاَ عُدْوَانَ عَلَيَّ } أي فلا حرج عليّ ، وقد دل دليل على أن موسى عليه السلام إنما فعل أكمل الأجلين وأتمهما . روى البخاري عن سعيد بن جبير قال : قال سألني يهودي من أهل الحيرة : أي الأجلين قضى موسى؟ فقلت لا أدري حتى أقدم على حبر العرب ، فأسأله ، فقدمت على ( ابن عباس ) رضي الله عنه فسألته ، فقال : قضى أكثرهما وأطيبهما ، إن رسول الله صلى إذا قال فعل . وعن أبي ذر رض الله عنه « أن النبي صلى الله عليه وسلم سئل : أي الأجلين قضى موسى؟ قال : أوفاهما وأبرهما ، قال : وإن سئلت أي المرأتين تزوج فقل الصغرى منهما » ، وروى ابن جرير عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : لما دعا نبي الله موسى عليه السلام صاحبه إلى الأجل الذي كان بينهما قال له صاحبه : كل شاة ولدت على غير لونها فلك ولدها ، فعمد موسى فرفع حبالاً على الماء ، فلما رأت الخيال فزعت فجالت جولة ، فولدن كلهن بلقاً إلاّ شاة واحدة فذهب بأولادهن كلهن ذلك العام .(1/1905)
فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الْأَجَلَ وَسَارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جَانِبِ الطُّورِ نَارًا قَالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْهَا بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتَاهَا نُودِيَ مِنْ شَاطِئِ الْوَادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبَارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يَا مُوسَى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (30) وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَانٌّ وَلَّى مُدْبِرًا وَلَمْ يُعَقِّبْ يَا مُوسَى أَقْبِلْ وَلَا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَاضْمُمْ إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِنْ رَبِّكَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ (32)
قد تقدم أن موسى عليه السلام قضى أتم الأجلين وأوفاهما وأبرهما وأكملهما . قوله : { وَسَارَ بِأَهْلِهِ } قالوا : كان موسى قد اشتاق إلى بلاده وأهله ، فعزم على زيارتهم خفية من فرعون وقومه ، فتحمل بأهل وما كان معه من الغنم التي وهبها له صهره ، فسلك بهم في ليلة مطيرة مظلمة باردة ، فنزل منزلاً فجعل كلما أورى زنده لا يضيء شيئاً فتعجب من ذلك ، فبينما هو كذلك { آنَسَ مِن جَانِبِ الطور نَاراً } أي رأى ناراً تضيء على بعد { قَالَ لأَهْلِهِ امكثوا إني آنَسْتُ نَاراً } أي حتى أذهب إليها { لعلي آتِيكُمْ مِّنْهَا بِخَبَرٍ } وذلك لأنه قد أضل الطريق { أَوْ جَذْوَةٍ مِّنَ النار } أي قطعة منها { لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ } أي تستدفئون بها من البرد ، قال الله تعالى : { فَلَمَّآ أَتَاهَا نُودِيَ مِن شَاطِىءِ الوادي الأيمن } أي من جانب الوادي مما يلي الجبل عن يمينه من ناحية الغرب ، كما قال تعالى : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر } [ القصص : 44 ] فهذا مما يرشد إلى أن موسى قصد النار إلى جهة القبلة ، والجبل الغربي عن يمينه ، والنار وجدها تضطرم في شجرة خضراء ، في لحف الجبل مما يلي الوادي فوقف باهتاً في أمرها فناداه ربه { أَن ياموسى إني أَنَا الله رَبُّ العالمين } أي الذي يخاطبك ويكلمك هو { رَبُّ العالمين } الفعل لما يشاء ، تعالى وتقدس وتنزه عن مماثلة المخلوقات ، في ذاته وصفاته وأقواله وأفعاله ، وقوله : { وَأَنْ أَلْقِ عَصَاكَ } أي التي في يدك ، كما في قوله تعالى : { وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ ياموسى * قَالَ هِيَ عَصَايَ أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا على غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أخرى } [ طه : 17-18 ] ، والمعنى : أمنا هذه عصاك التي تعرفها { أَلْقِهَا ياموسى * فَأَلْقَاهَا فَإِذَا هِيَ حَيَّةٌ تسعى } [ طه : 19-20 ] ، فعرف وتحقق أن الذي يكلمه ويخاطبه هو الذي يقول للشيء كن فيكون { فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ } أي تضطرب ، { كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً } أي في حركاتها السريعة مع عظم خلقتها واتساع فمها ، واصطكاك أنيابها بحيث لا تمر بصخرة إلاّ ابتلعتها تنحدر في فيها ، تتقعقع كأنها حادرة في واد ، فعند ذلك { ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ } أي ولم يلتفت لأن طبع البشرية ينفر من ذلك ، فلما قال الله له : { ياموسى أَقْبِلْ وَلاَ تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الآمنين } رجع فوقف في مقامه الأول ، ثم قال الله تعالى : { اسلك يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء } أي إِذا أدخلت يدك في جيب درعك ثم أخرجتها فإنها تخرج تتلألأ كأنها قطعة قمر في لمعان البرق ، ولهذا قال { مِنْ غَيْرِ سواء } : أي من غير برص . وقوله تعالى : { واضمم إِلَيْكَ جَنَاحَكَ مِنَ الرهب } قال مجاهد : من الفزع ، وقال قتادة : من الرعب مما حصل لك من خوفك من الحية ، والظاهر أنه أمر عليه السلام إذا خاف من شيء أن يضم إليه جناحه من الرهب ، وهو يده فإذا فعل ذلك ذهب عنه ما يجده من الخوف ، وربما إذا استعمل أحد ذلك على سبيل الاقتداء فوضع يده على فؤاده ، فإنه يزول عنه ما يجده .(1/1906)
عن مجاهد قال : كان موسى عليه السلام قد ملىء قلبه رعباً من فرعون ، فكان إذا رآه قال : « اللهم إني أدرأ بك في نحره ، وأعوذ بك من شره » فنزع الله ما كان في قلب موسى عليه السلام ، وجعله في قلب فرعون فكان إذا رآه بال كما يبول الحمار . وقوله تعالى : { فَذَانِكَ بُرْهَانَانِ مِن رَّبِّكَ } يعني جعل العصا حية تسعة ، وإدخاله يده في جيبه فتخرج بيضاء من غير سوء ، دليلان قاطعان واضحان على قدرة الفاعل المختار ، وصحة نبوة من جرى هذا الخارق على يديه ، ولهذا قال تعالى : { إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي وقومه من الرؤساء والكبراء والأتباع ، { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } أي خارجين عن طاعة الله مخالفين لأمره ودينه .(1/1907)
قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33) وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَانًا فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءًا يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قَالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَانًا فَلَا يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَا أَنْتُمَا وَمَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغَالِبُونَ (35)
لما أمره الله تعالى بالذهاب إلى فرعون { قَالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً } يعني ذلك القبطي ، { فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ } أي إذا رأوني ، { وَأَخِي هَارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِسَاناً } وذلك أن موسى عليه السلام كان في لسانه لثغة بسبب ما كان تناول تلك الجمرة ، فحصل فيه شدة في التعبير ، ولهذا قال : { واحلل عُقْدَةً مِّن لِّسَانِي * يَفْقَهُواْ قَوْلِي } [ طه : 27-28 ] { فَأَرْسِلْهُ مَعِيَ رِدْءاً } أي وزيراً ومعيناً ومقوياً لأمري ، يصدقني فيما أقوله وأخبر به عن الله عزَّ وجلَّ ، لأن خبر الاثنين أنجع في النفوس من خبر الواحد ، ولهذا قال : { إني أَخَافُ أَن يُكَذِّبُونِ } ، وقال محمد بن إسحاق : { رِدْءاً يُصَدِّقُنِي } أي يبين لهم غني ما أكلمهم به فإنه عني ما لا يفهمون ، فلما سأل ذلك موسى ، قال الله تعالى : { سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ } أي سنقوي أمرك ونعز جانبك بأخيك ، الذي سألت له أن يكون نبياً معك ، كما قال في الآية الأخرى : { قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ ياموسى } [ طه : 36 ] . ولهذا قال بعض السلف : ليس أحد أعظم منه على أخيه من ( موسى ) على ( هارون ) عليهما لسلام ، فإنه شفع فيه حتى جعله الله نبياً ورسولاً ، ولهذا قال تعالى في حق موسى { وَكَانَ عِندَ الله وَجِيهاً } [ الأحزاب : 69 ] ، وقوله تعالى : { وَنَجْعَلُ لَكُمَا سُلْطَاناً } أي حجة قاهرة { فَلاَ يَصِلُونَ إِلَيْكُمَا بِآيَاتِنَآ } أي لا سبيل لهم إلى الوصول إلى أذاكما بسبب إبلاغكما آيات الله ، كما قال تعالى : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } [ المائدة : 67 ] - إلى قوله - { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] ، ولهذا أخبرهما أن العاقبة لهما ولمن اتبعهما في الدنيا والآخرة فقال تعالى : { أَنتُمَا وَمَنِ اتبعكما الغالبون } ، كما قال تعالى : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] ، وقال تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا } [ غافر : 51 ] إلى آخر الآية .(1/1908)
فَلَمَّا جَاءَهُمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا بَيِّنَاتٍ قَالُوا مَا هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرًى وَمَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي آبَائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَقَالَ مُوسَى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جَاءَ بِالْهُدَى مِنْ عِنْدِهِ وَمَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37)
يخبر تعالى عن مجيء موسى وأخيه هارون إلى فرعون وملئه ، وعرضه ما آتاهما الله من المعجزات الباهرة والدلالة القاهرة ، على صدقهما فيما أخبرا به عن الله عزَّ وجلَّ ، من توحيده واتباع أوامره ، فلما عاين فرعون وملؤه ذلك وشاهدوه وتحققوه ، وأيقنوا أنه من عند الله ، عدلوا بكفرهم وبغيهم إلى العناد والمباهتة ، وذلك لطغيانهم وتكبرهم عن اتباع الحق ، فقالوا : { مَا هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّفْتَرًى } أي مفتعل مصنوع ، وأرادوا معارضته بالحيلة والجاه ، وقوله : { وَمَا سَمِعْنَا بهذا في آبَآئِنَا الأولين } يعنون عبادة الله وحده لا شريك له ، ويقولون ما رأينا أحداً من آبائنا على هذا الدين ، ولم نر الناس إلاّ يشركون مع الله آهلة أخرى ، فقال موسى عليه السلام مجيئاً لهم : { ربي أَعْلَمُ بِمَن جَآءَ بالهدى مِنْ عِندِهِ } يعني مني ومنكم ، وسيفصل بيني وبينكم ، ولهذا قال : { وَمَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار } أي من النصرة والظفر والتأييد ، { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } أي المشركون بالله عزَّ وجلَّ .(1/1909)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يَا هَامَانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحًا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلَى إِلَهِ مُوسَى وَإِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكَاذِبِينَ (38) وَاسْتَكْبَرَ هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لَا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40) وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ (41) وَأَتْبَعْنَاهُمْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)
يخبر تعالى عن كفر فرعون وطغيانه ، وافترائه في دعواه الإِلهية لعنه الله ، كما قال تعالى : { فاستخف قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ } [ الزخرف : 54 ] الآية ، وذلك لأنه دعاهم إلى الاعتراف له بالإلهية ، فأجابوه إلى ذلك بقلة عقولهم وسخافة أذهانهم ، ولهذا قال : { ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } ، وقال تعالى أخباراً عنه { فَحَشَرَ فنادى * فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 23-24 ] يعني أنه جمع قومه ونادى فيهم بصوته العالي مصرحاً لهم بذلك فأجابوه سامعين مطيعين ، ولهذا انتقم الله تعالى منه فجعله عبرة لغيره في الدنيا والآخرة ، حتى إنه واجه موسى الكليم بذلك ، فقال : { لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } [ الشعراء : 29 ] ، وقوله : { فَأَوْقِدْ لِي ياهامان عَلَى الطين فاجعل لِّي صَرْحاً لعلي أَطَّلِعُ إلى إله موسى } يعني أمر وزيره ( هامان ) مدير رعيته أو يوقد له على الطين يعني يتخذ له آجراً لبناء الصرح ، وهو القصر المنيف الرفيع العالي ، كما قال في الآية الأخرى : { وَقَالَ فَرْعَوْنُ ياهامان ابن لِي صَرْحاً لعلي أَبْلُغُ الأسباب * أَسْبَابَ السماوات فَأَطَّلِعَ إلى إله موسى وَإِنِّي لأَظُنُّهُ كَاذِباً } [ غافر : 36-37 ] الآية . وذلك لأن فرعون بنى هذا الصرح الذي لم ير في الدنيا بناء أعلى منه إنما أراد بهذا أن يظهر لرعيته تكذيب موسى فيما زعمه من دعوى إله غير فرعون ، ولهذا قال : { وَإِنِّي لأَظُنُّهُ مِنَ الكاذبين } أي في قوله إن ثَمَّ رباً غيري ، لا أنه كذبه في أن الله تعالى أرسله لأنه لم يكن يعترف بوجود الصانع جل وعلا ، فإنه قال : { وَمَا رَبُّ العالمين } [ الشعراء : 23 ] ؟ وقال : { لَئِنِ اتخذت إلها غَيْرِي لأَجْعَلَنَّكَ مِنَ المسجونين } [ الشعراء : 29 ] ، وقال : { ياأيها الملأ مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } وهذا قول ابن جرير ، وقوله تعالى : { واستكبر هُوَ وَجُنُودُهُ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وظنوا أَنَّهُمْ إِلَيْنَا لاَ يُرْجَعُونَ } أي طغوا وتجبروا وأكثروا في الأرض الفساد ، واعتقدوا أنه لا قيامة ولا معاد ، { فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ * إِنَّ رَبَّكَ لبالمرصاد } [ الفجر : 13-14 ] ، ولهذا قال تعالى هاهنا : { فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي اليم } أي إغرقناهم في البحر في صبيحة واحدة فلم يبق منهم أحد ، { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين * وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار } أي لمن سلك وراءهم وأخذ بطريقتهم في تكذيب الرسل وتعطيل الصانع ، { وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ } أي فاجتمعك عليهم خزي الدنيا موصولاً بذل الآخرة ، كما قال تعالى : { أَهْلَكْنَاهُمْ فَلاَ نَاصِرَ لَهُمْ } [ محمد : 13 ] ، وقوله تعالى : { وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً } أي وشرع الله لعنتهم ولعنة ملكهم فرعون على ألسنة المؤمنين من عبادة المتبعين لرسله كما أنهم في الدينا ملعونين على ألسنة الأنبياء وأتباعهم كذلك ، { وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين } قال قتادة : هذه الآية كقوله تعالى : { وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة بِئْسَ الرفد المرفود } [ هود : 99 ] .(1/1910)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ مِنْ بَعْدِ مَا أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولَى بَصَائِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43)
يخبر تعالى عما أنعم به على عبده ورسوله موسى الكليم ، عليه من ربه أفضل الصلاة والتسليم ، من إنزال التوراة عليه بعدما أهلك فرعون وملأه ، وقوله تعالى : { مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى } يعني أنه بعد إنزال التوراة لم يعذب أمة بعامة ، بل أمر المؤمنين أن يقاتلوا أعداء الله من المشركين ، كما قال تعالى : { وَجَآءَ فِرْعَوْنُ وَمَن قَبْلَهُ والمؤتفكات بِالْخَاطِئَةِ * فَعَصَوْاْ رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رَّابِيَةً } [ الحاقة : 9-10 ] ، وروى ابن جرير عن أبي سعيد الخدري قال : ما أهلك الله قوماً بعذاب من السماء ولا من الأرض بعدما أنزلت التوراة على وجه الأرض ، غير أهل القرية الذين مسخوا قردة بعد موسى ، ثم قرأ : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى } الآية ، وقوله : { بَصَآئِرَ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةً } أي من العمى والغي ، { وَهُدًى } إلى الحق ، { وَرَحْمَةً } أي إرشاداً إلى العمل الصالح ، { لَّعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي لعل الناس يتذكرون ويهتدون بسببه .(1/1911)
وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنَا إِلَى مُوسَى الْأَمْرَ وَمَا كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَلَكِنَّا أَنْشَأْنَا قُرُونًا فَتَطَاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَمَا كُنْتَ ثَاوِيًا فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطُّورِ إِذْ نَادَيْنَا وَلَكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَلَوْلَا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنَا لَوْلَا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)
يقول تعالى منبهاً على برهان نبوة محمد صلى الله عليه وسلم ، حيث أخبر بالغيوب الماضية خبراً كأن سامعه شاهدٌ وراءٍ لما تقدم . وهو رجل أمي لا يقرأ شيئاً من الكتب ، نشأ بين قوم لا يعرفون شيئاً من ذلك ، كما أنه لما أخبره عن مريم ، قال تعالى : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ } [ آل عمران : 44 ] ، ولما أخبره عن نوح وإغراق قومه ، قال تعالى : { تِلْكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهَآ إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هذا فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ } [ هود : 49 ] الآية . وقال بعد ذكر قصة يوسف { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ } [ يوسف : 102 ] الآية ، وقال في سورة طه : { كذلك نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَآءِ مَا قَدْ سَبَقَ } [ طه : 99 ] الآية ، وقال هاهنا بعدما أخبر عن قصة موسى { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر } يعني ما كنت يا محمد بجانب الجبل الغربي الذي كلّم الله موسى من الشجرة على شاطىء الوادي ، { وَمَا كنتَ مِنَ الشاهدين } لذلك ، ولكن الله سبحانه وتعالى أوحى إليك ذلك ، ليكون حجة وبرهاناً على قرون قد تطاول عهدها ، ونسوا حجج الله عليهم ، وما أوحاه إلى الأنبياء المتقدمين ، وقوله تعالى : { وَمَا كُنتَ ثَاوِياً في أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } أي وما كنت مقيماً في أهل مدين تتلو عليهم آياتنا ، حين أخبرت عن نبيها شعيب وما قاله لقومه وما ردوا عليه ، { وَلَكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ } أي ولكن نحن أوحينا إليك ذلك ، وأرسلنا إلى الناس رسولاً ، { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا } قيل : المراد أمة محمد ، نودوا يا أمة محمد أعطيتكم قبل أن تسألوني وأجبتكم قبل أن تدعوني ، وقال قتادة : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا } موسى ، وهذا أشبه بقوله تعالى : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر } ، ثم أخبر هاهنا بصيغة أخرى أخص من ذلك وهو النداء ، كما قال تعالى : { وَإِذْ نادى رَبُّكَ موسى } [ الشعراء : 10 ] ، وقوله تعالى : { إِذْ نَادَاهُ رَبُّهُ بالواد المقدس طُوًى } [ النازعات : 16 ] وقال تعالى : { وَنَادَيْنَاهُ مِن جَانِبِ الطور الأيمن وَقَرَّبْنَاهُ نَجِيّاً } [ مريم : 52 ] وقوله تعالى : { ولكن رَّحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أي ما كنت مشاهداً لشيء من ذلك ، ولكن الله تعالى أوحاه إليك وأخبرك به رحمة منه بك وبالعباد بإرسالك إليهم ، { لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } أي لعلهم يهتدون بما جئتهم به من الله عزَّ وجلَّ ، { ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً } الآية ، أي : وأرسلناك إليهم لتقيم عليهم الحجة؛ وينقطع عذرهم إذا جاءهم عذاب من الله بكفرهم ، فيحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ولا نذير ، كما قال تعالى : { أَن تقولوا إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } [ الأنعام : 156 ] ، وقال تعالى : { يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ على فَتْرَةٍ مِّنَ الرسل أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } [ المائدة : 19 ] والآيات في هذه كثيرة .(1/1912)
فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا لَوْلَا أُوتِيَ مِثْلَ مَا أُوتِيَ مُوسَى أَوَلَمْ يَكْفُرُوا بِمَا أُوتِيَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ قَالُوا سِحْرَانِ تَظَاهَرَا وَقَالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتَابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدَى مِنْهُمَا أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50) وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51)
يقول تعالى مخبراً عن القوم أنه لو عذبهم قبل قيام الحجة عليهم لاحتجوا بأنهم لم يأتهم رسول ، فلما جاءهم الحق من عنده على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، قالوا على وجه التعنت والعناد ، والكفر والإِلحاد : { لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى } الآية ، يعنون مثل العصا ، واليد ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، وتنقيص الزروع والثمار مما يضيق على أعداء الله ، وكفلق البحر ، وتظليل الغمام ، وإنزال المن والسلوى إلى غير ذلك من الآيات الباهرة ، والحجج القاهرة ، التي أجراها الله تعالى على يدي موسى عليه السلام ، حجة وبرهاناً له على فرعون وملئه ، ومع هذا كله لم ينجع في فرعون وملئه ، بل كفروا بموسى وأخيه هارون ، كما قالوا لهما : { أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } [ يونس : 78 ] ، وقال تعالى : { فَكَذَّبُوهُمَا فَكَانُواْ مِنَ المهلكين } [ المؤمنون : 48 ] ، ولهذا قال ها هنا : { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ } أي أولم يكفر البشر بما أوتي موسى من تلك الآيات العظيمة ، { قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } أي تعاونا ، { وَقَالُواْ إِنَّا بِكُلٍّ كَافِرُونَ } أي بكل منهما كافرون ، قال مجاهد : أمرت اليهود قريشاً أن يقولوا لمحمد صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقال الله : { أَوَلَمْ يَكْفُرُواْ بِمَآ أُوتِيَ موسى مِن قَبْلُ قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } قال : يعني موسى وهارون صلى الله عليهما وسلم { تَظَاهَرَا } أي تعاونا وتناصرا وصدق كل منهما الآخر؛ وهذا قول جيد قوي ، وعن ابن عباس : { قَالُواْ سِحْرَانِ تَظَاهَرَا } قال : يعنون موسى ومحمداً صلى الله عليهما وسلم وهذا رواية الحسن البصري ، وأما من قرأ ( سحران تظاهرا ) فروي عن ابن عباس : يعنون التوراة والقرآن ، قال السدي : يعني صدق كل واحد منهما الآخر ، وقال عكرمة : يعنون التوراة والإِنجيل واختاره ابن جرير ، والظاهر أنهم يعنون التوراة والقرآن لأنه قال بعده : { قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ } ، وكثيراً ما يقرن الله بين التوراة والقرآن ، كما في قوله تعالى : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ } [ الأنعام : 91 ] إلى أن قال { وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ } [ الأنعام : 92 ] ، وقال في آخر السورة { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ } [ الأنعام : 154 ] الآية ، وقال : { وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } } [ الأنعام : 155 ] .
وقد علم بالضرورة لذوي الألباب ، أن الله تعالى لم ينزل كتاباً من السماء فيما أنزل منن الكتب المتعددة على أنبيائه أكمل ولا أشمل ولا أفضح ولا أعظم ولا أشرف ، من الكتاب الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم ، وهو القرآن ، وبعده في الشرف والعظمة الكتب الذي أنزله على موسى عليه السلام ، وهو الكتاب الذي قال الله فيه : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ }(1/1913)
[ المائدة : 44 ] والإِنجيل إنما أنزل متمماً للتوراة ، ومحلاً لبعض ما حرم على بني إسرائيل . ولهذا قال تعالى : { قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي فيما تدافعون به الحق وتعارضون به من الباطل ، قال الله تعالى : { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكَ } إي فإن لم يجيبوك عما قلت لهم ولم يتبعوا الحق { فاعلم أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَآءَهُمْ } أي بلا دلليل ولا حجة ، { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتبع هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ الله } أي بغير حجة مأخوذة من كتاب الله ، { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } ، وقوله تعالى : { وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ القول } قال مجاهد : فصلنا لهم القول ، وقال السدي : بيَّنا لهم القول ، وقال قتادة ، يقول تعالى : أخبرهم كيف صنع بمن مضى وكيف هو صانع { لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } .(1/1914)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ (55)
يخبر تعالى عن العلماء الأولياء من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالقرآن ، كما قال تعالى : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ } [ البقرة : 121 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ } [ آل عمران : 199 ] . قال سعيد بن جبير : نزلت في سبعين من القسيسين بعثهم النجاشي ، فما قدموا على النبي صلى الله عليه وسلم قرأ عليهم : { يس * والقرآن الحكيم } [ يس : 1-2 ] حتى خمتها ، فجعلوا يبكون وأسلموا ، ونزلت فيهم هذه الآية الآخرى : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } يعني من قبل هذا القرآن كنا مسلمين أي موحدين مخلصين لله مستجيبين له ، قال الله تعالى : { أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ } أي هؤلاء المتصفون بهذه الصفة الذين أمنوا بالكتاب الأول ، ثم بالثاني ، ولهذا قال : { بِمَا صَبَرُواْ } أي على اتباع الحق ، فإن تجشم مثل هذا شديد على النفوس ، وقد ورد في الصحيح : « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيه ثم آمن بي ، وعبد مملوك أدّى حق الله وحق مواليه ، ورجل كانت له أَمَة فأدبها فأحسن تأديبها ثم أعتقها فتزوجها » ، وفي الحديث : « من أسلم من أهل الكتابين فله أجره مرتين ، وله ما لنا وعليه ما علينا » ، وقوله تعالى : { وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة } أي لا يقابلون السيء بمثله ولكن يعفون ويصفحون ، { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } أي ومن الذي رزقهم من الحلال ينفقون على خلق الله في الزكاة المفروضة ، وصدقات النفل والقربات ، وقوله تعالى : { وَإِذَا سَمِعُواْ اللغو أَعْرَضُواْ عَنْهُ } أي لا يخالطون أهله ولا يعاشرونهم ، بل كما قال تعالى : { وَإِذَا مَرُّواْ بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً } [ الفرقان : 72 ] ، { وَقَالُواْ لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين } أي إذا سفه عليه سفيه وكلمهم بما لا يليق أعرضوا عنه ، ولم يقابلوه بمثله من الكلام القبيح ، ولا يصدر عنهم إلاّ كلام طبيب ، وقالوا : { لَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لاَ نَبْتَغِي الجاهلين } أي لا نريد طريق الجاهلين ولا نحبها . قال محمد بن إسحاق : ثم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بمكة عشرون رجلاً أو قريب من ذلك من النصارى حين بلغهم خبره من الحبشة ، فوجدوه في المسجد فجلسوا إليه وكلموه وساءلوه ورجال من قريش من أنديتهم حول الكعبة ، فلما فرغوا من مساءلة رسول الله صلى الله عليه وسلم عما أرادوا دعاهم إلى الله تعالى ، وتلا عليهم القرآن ، فلما سمعوا القرآن فاضت أعينهم من الدمع ، ثم استجابوا الله وآمنوا به وصدقوه ، وعرفوا منه ما كان يوصف لهم في كتابهم من أمره ، فلما قاموا عنه اعترضهم ( أبو جهل بن هشام ) في نفر من قريش فقالوا لهم : خيبكم الله من ركب ، بعثكم من وراءكم من أهل دينكم ترتادون لهم لتأتوهم بخبر الرجل ، فلم تطمئن مجالسكم عنده ، حتى فارقتم دينكم وصدقتموه فيما قال ، ما نعلم ركباً أحمق منكم ، فقالوا لهم : سلام عليكم لا نجاهلكم ، لنا ما نحن عليه ، ولكم ما أنتم عليه ، قال ويقال : إن النفر النصارى من أهل نجران وفيهم نزلت هذه الآيات { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } ، إلى قوله : { لاَ نَبْتَغِي الجاهلين } قال : وسألت الزهري عن هذه الآيات فيمن نزلت؟ قال : ما زلت أسمع من علمائنا أنهن نزلن في ( النجاشي ) وأصحابه رضي الله عنهم ، والآيات اللاتي في سورة المائدة(1/1915)
{ ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } [ الآية : 82 ] إلى قوله { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } [ الآية : 83 ] .(1/1916)
إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56) وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (57)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : إنك يا محمد { لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } أي ليس إليك ذلك ، إنما عليك البلاغ والله يهدي من يشاء ، كما قال تعالى : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 272 ] ، وقال تعالى : { وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] . وقد ثبت في « الصحيحين » أنها نزلت في ( أبي طالب ) عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان يحوطه وينصره ، ويقوم في صفه ويحبه حباً شديداً ، فلما حضرته الوفاة دعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإيمان والدخول في الإِسلام ، فاستمر على ما كان عليه من الكفر ، ولله الحكمة التامة ، روى الزهري عن المسيب بن حزن المخزومي رضي الله عنه قال : « لما حضرت أبا طالب الوفاة جاءه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فوجد عنده ( أبا جهل بن هشام ) و ( عبد الله بن أبي أُمية بن المغيرة ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا عم قل لا إله إلا الله كلمة أحاج لك بها عند الله « ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فلم يزل رسول الله صلى الله عليه وسلم يعرضها عليه ويعودان عليه بتلك المقالة ، حتى كان آخر ما قال : هو على ملة عبد المطلب ، وأبى أن يقول لا إله إلاّ الله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » والله لأستغفرن لك ما لم أنه عنك « » فأنزل الله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى } [ التوبة : 113 ] ، وأنزل في أبي طالب : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } ، وعن أبي هريرة قال : « لما حضرت وفاة أبي طالب أتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » يا عماه قل لا إله إلاّ الله أ شهد لك بها يوم القيامة « فقال : لولا أن تعيرني بها قريش يقولون ما حمله عليه إلاّ جزع الموت لأقررت بها عينك ، لا أقولها إلاّ لأقر بها عينك ، فأنزل الله تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } » .
وقوله تعالى : { وقالوا إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ } يقول تعالى مخبراً عن اعتذار بعض الكفار في عدم اتباع الهدى حيث قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِن نَّتَّبِعِ الهدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَآ } أن نخشى أن اتبعنا ما جئت به من الهدى وخالفنا من حولنا من أحياء العرب المشركين ، أن يقصدونا بالأذى والمحابة ، ويتخطفونا أينما كنا ، قال الله تعالى مجيباً لهم : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً } يعني هذا الذي اعتذروا به كذب وباطل ، لأن الله تعالى جعلهم في بلد أمين ، وحرم معظم آمن من وضع ، فكيف يكون هذا الحرم آمناً لهم في حال كفرهم وشركهم . ولا يكون آمناً لهم وقد أسلموا وتابعوا الحق؟ وقوله تعالى : { يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ } أي من سائر الثمار مما حوله من الطائف وغيره ، وكذلك المتاجر والأمتعة { رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا } أي من عندنا { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ولهذا قالوا ما قالوا .(1/1917)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلَّا قَلِيلًا وَكُنَّا نَحْنُ الْوَارِثِينَ (58) وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّهَا رَسُولًا يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا وَمَا كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرَى إِلَّا وَأَهْلُهَا ظَالِمُونَ (59)
يقول تعالى معرّضاً بأهل مكة : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا } أي طغت وأشرت ، وكفرت نعمة الله فيما أنعم به عليهم من الأرزاق ، كما قال : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ } [ النحل : 112 ] إلى قوله { فَأَخَذَهُمُ العذاب وَهُمْ ظَالِمُونَ } [ النحل : 113 ] ، ولهذا قال تعالى : { فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً } أي دثرت ديارهم فلا ترى إلاّ مساكنهم ، وقوله تعالى : { وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين } أي رجعت خراباً ليس في أحد ، ثم قال تعالى مخبراًعن عدله ، وأنه لا يهلك أحداً ظالماً له ، وإنما بعد قيام الحجة عليهم ، ولهذا قال : { وَمَا كَانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ القرى حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا } وهي مكة { رَسُولاً يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِنَا } فيه دلالة على أن النبي الأمي رسول إلى جميع القرى من عرب وأعاجم ، كما قال تعالى : { لِّتُنذِرَ أُمَّ القرى وَمَنْ حَوْلَهَا } [ الشورى : 7 ] ، وقال تعالى : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] ، وتمام الدليل قوله تعالى : { وَإِن مِّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ القيامة أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً } [ الإِسراء : 58 ] الآية ، فأخبر تعالى أنه سيهلك كل قرية قبل يوم القيامة ، وقد قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإِسراء : 15 ] فجعل تعالى بعثة النبي الأمي شاملة لجميع القرى لأنه مبعوث إلى أمها وأصلها التي ترجع إليها ، وثبت في « الصحيحين » عنه صلوات الله وسلامه عليه أنه قال : « بعثت إلى الأحمر والأسود » ولهذا ختم به النبوة والرسالة ، فلا نبي بعده ولا رسول ، بل شرعه باق بقاء الليل والنهار إلى يوم القيامة ، وقيل المراد بقوله : { حتى يَبْعَثَ في أُمِّهَا رَسُولاً } أي أصلها وعظيمتها كأمهات الرساتيق والأقاليم .(1/1918)
وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى أَفَلَا تَعْقِلُونَ (60) أَفَمَنْ وَعَدْنَاهُ وَعْدًا حَسَنًا فَهُوَ لَاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61)
يقول تعالى مخبراً عن حقارة الدنيا وما فيها من الزينة الدنيئة والزهرة الفانية ، بالنسبة إلى ما أعده الله لعباده الصالحين في الدار الآخرة ، من النعيم العظيم المقيم ، كما قال تعالى : { مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } [ النحل : 96 ] ، وقال : { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } [ آل عمران : 198 ] ، وقال : { وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ } [ الرعد : 26 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والله ما الحياة الدنيا في الآخرة إلاّ كما يغمس أحدكم أصبعه في اليوم فلينظر ماذا يرجع إليه » ، وقوله تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؟ أي أفلا يعقل من يقدم الدنيا على الآخرة ، وقوله تعالى : { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين } ، يقول تعالى : أفمن هو مؤمن مصدق بما وعده الله على صالح الأعمال من الثواب ، كمن هو كافر مكذب بلقاء الله ووعده ووعيده فهو ممتع في الحياة الدنيا أياماً قلائل { ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين } ؟ قال مجاهد : من المعذبين ، وهذا كقوله تعالى : { وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين } [ الصافات : 57 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمَتِ الجنة إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ } [ الصافات : 158 ] .(1/1919)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قَالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنَا أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَا إِلَيْكَ مَا كَانُوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ (63) وَقِيلَ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَرَأَوُا الْعَذَابَ لَوْ أَنَّهُمْ كَانُوا يَهْتَدُونَ (64) وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْبَاءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لَا يَتَسَاءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَعَسَى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)
يقول تعالى مخبراً عما يوبخ به المشركين يوم القيامة حيث يناديهم فيقول : { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } ؟ يعني : أين الآلهة التي كنتم تعبدونها في الدنيا ، من الأصنام والأنداد هل ينصرونكم أو ينتصرون؟ وهذا على سبيل التقريع والتهديد كما قال تعالى : { وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ الأنعام : 94 ] ، وقوله : { قَالَ الذين حَقَّ عَلَيْهِمُ القول } يعني الشياطين والمردة والدعاة إلى الكفر { رَبَّنَا هؤلاء الذين أَغْوَيْنَآ أَغْوَيْنَاهُمْ كَمَا غَوَيْنَا تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } فشهدوا عليهم أنهم أغووهم فاتبعوهم ، ثم تبرأوا من عبادتهم ، كما قال تعالى : { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 6 ] ، وقال الخليل عليه السلام لقومه { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } [ العنكبوت : 25 ] الآية ، وقال الله تعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا } [ البقرة : 166 ] الآية ، ولهذا قال : { وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ } أي ليخلصوكم مما أنتم فيه كما كنتم ترجون منهم في الدار الدنيا ، { فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَرَأَوُاْ العذاب } ، أي وتيقنوا أنهم صائرون إلى النار لا محالة ، وقوله : { لَوْ أَنَّهُمْ كَانُواْ يَهْتَدُونَ } أي فودُّوا حين عاينوا العذاب لو أنهم كانوا من المهتدين في الدنيا ، وهذا كقوله تعالى : { وَيَوْمَ يَقُولُ نَادُواْ شُرَكَآئِيَ الذين زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُم مَّوْبِقاً * وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً } [ الكهف : 5253 ] ، وقوله : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين } النداء الأول سؤال عن التوحيد ، وهذا عن إثبات النبوات ، ماذا كان جوابكم للمرسلين إليكم ، وكيف كان حالكم معهم؟ وهذا كما يسأل العبد في قبره : من ربك؟ ومن نبيك؟ وما دينك؟ فأما المؤمن فيشهد أنه لا إله إلاّ الله وأن محمداً عبده ورسوله ، وأما الكافر فيقول : هاه هاه لا أدري ، ولهذا لا جواب له يوم القيامة غير السكوت ، لأن من كان في هذه أعمى فهو في الآخرة أعمى وأضل سبيلاً ، ولهذا قال تعالى : { فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الأنبآء يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لاَ يَتَسَآءَلُونَ } قال مجاهد : فعميت عليهم الحجج فهم لا يتساءلون بالأنساب ، وقوله : { فَأَمَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } أي في الدنيا { فعسى أَن يَكُونَ مِنَ المفلحين } أي يوم القيامة ، و ( عسى ) من الله موجبة ، فإن هذا واقع بفضل الله ومنته لا محالة .(1/1920)
وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحَانَ اللَّهِ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ (69) وَهُوَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولَى وَالْآخِرَةِ وَلَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)
يخبر تعالى أنه المنفرد بالخلق والإختيار ، وأنه ليس له في ذلك منازع ولا معقب ، قال تعالى : { وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ وَيَخْتَارُ } أي ما يشاء ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، فالأمور كلها خيرها وشرها بيده ومرجعها إليه ، وقوله : { مَا كَانَ لَهُمُ الخيرة } نفي على أصح القولين ، كقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلاَ مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى الله وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الخيرة مِنْ أَمْرِهِمْ } [ الأحزاب : 36 ] ، ولهذا قال : { سُبْحَانَ الله وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي من الأصنام والأنداد التي لا تخلق ولا تختار شيئاً ، ثم قال تعالى : { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي يعلم ما تكن الضمائر ، وما تنطوي عليه السرائر ، كما يعلم ما تبديه الظواهر من سائر الخلائق { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار } [ الرعد : 10 ] ، وقوله : { وَهُوَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ } أي هو المنفرد بالإلهية ، فلا معبود سواه ، كما لا رب سواه ، { لَهُ الحمد فِي الأولى والآخرة } أي في جميع ما يفعله هو المحمود عليه بعدله وحكمته ، { وَلَهُ الحكم } أي الذي لا معقب له لقهره وغلبته وحكمته ورحمته ، { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي جميعكم يوم القيامة ، فيجزي كل عامل بعمله من خير وشر ، ولا يخفى عليه منهم خافية في سائر الأعمال .(1/1921)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِيَاءٍ أَفَلَا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهَارَ سَرْمَدًا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَفَلَا تُبْصِرُونَ (72) وَمِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73)
يقول تعالى ممتناً على عباده بما سخر لهم من الليل والنهار اللذين لا قوام لهم بدونهما ، وبين أنه لو جعل الليل دائماً عليهم سرمداً إلى يوم القيامة لأضر ذلك بهم ، ولسئمته النفوس ، ولهذا قال تعالى : { مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ } أي تبصرون به وتستأنسون بسببه { أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } ؟ ثم أخبر تعالى أنه لو جعل النهار { سَرْمَداً } أي دائماً مستمراً إلى يوم القيامة لأضر ذلك بهم ، ولتعبت الأبدان وكلّت من كثرة الحركات والأشغال ، ولهذا قال تعالى : { مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ } ؟ أي تستريحون من حركاتكم وأشغالكم ، { أَفلاَ تُبْصِرُونَ * وَمِن رَّحْمَتِهِ } أي بكم { جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار } أي خلق هذا وذا { لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } أي الليل ، { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي في النهار بالأسفار والترحال والحركات والأشغال ، وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تشكرون الله بأنواع العبادات في الليل والنهار ، ومن فاته شيء بالليل استدركه بالنهار ، أو بالنهار استدركه بالليل ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [ الفرقان : 62 ] والآيات في هذا كثيرة .(1/1922)
وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَنَزَعْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا فَقُلْنَا هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (75)
وهذا أيضاً نداء ثان على سبيل التوبيخ والتقريع لمن عبد الله إلهاً آخر ، يناديهم الرب تعالى على رؤوس الأشهاد فيقول : { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } أي في دار الدنيا ، { وَنَزَعْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً } قال مجاهد : يعني رسولاً ، { فَقُلْنَا هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } أي على صحة ما ادعيتموه من أن لله شركاء { فعلموا أَنَّ الحق لِلَّهِ } أي لا إله غيره فلم ينطقوا ولم يحيروا جواباً ، { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي ذهبوا فلم ينفعوهم .(1/1923)
إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77)
عن ابن عباس قال في قوله تعالى : { إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِن قَوْمِ موسى } قال : كان ابن عمه ، وقال ابن جريج : هو قارون بن يصهب بن قاهث ، وموسى بن عمران بن قاهث ، وزعم محمد بن إسحاق أن قارون كان عم موسى بن عمران عليه السلام ، وأكثر أهل العلم على أنه كان بان عمه والله أعلم ، وقال قتادة : كنا نحدث أنه كان ابن عم موسى ، وكان يسمى المنور لحسن صوته بالتوراة ، ولكن عدو الله نافق كما نافق السامري ، فأهلكه البغي لكثرة ماله ، وقوله : { وَآتَيْنَاهُ مِنَ الكنوز } أي الأموال { مَآ إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ بالعصبة أُوْلِي القوة } أي ليثقل حملها الفِئام من الناس لكثرتها ، قال الأعمش : كانت مفاتيح كنوز قارون من جلود ، كل مفتاح على خزانة على حدته ، فإذا ركب حملت على ستين بغلاً أغر محجلاً ، وقيل غير ذلك والله أعلم ، وقوله : { إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لاَ تَفْرَحْ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } أي وعظه فيما هو فيه صالحو قومه ، فقالوا على سبيل النصح الإِرشاد : لا تفرح بما أنت فيه ، يعنون لا تبطر بما أنت فيه من المال { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الفرحين } قال ابن عباس : يعني المرحين ، وقال مجاهد : يعني الأشرين البطرين ، الذين لا يشركون الله على ما أعطاهم ، وقوله : { وابتغ فِيمَآ آتَاكَ الله الدار الآخرة وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا } أي استعمل ما وهبك الله من هذا المال الجزيل والنعمة الطائلة في طاعة ربك ، والتقرب إليه بأنواع القربات التي يحصل لك بها الثواب في الدنيا والآخرة ، { وَلاَ تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدنيا } أي مما أباح الله فيها من المآكل والمشارب والملابس والمساكن والمناكح ، فإن لربك عليك حقاً ولنفسك عليك حقاً ، ولأهلك عليك حقاً ، ولزوجك عليك حقاً ، فآت كل ذي حق حقه ، { وَأَحْسِن كَمَآ أَحْسَنَ الله إِلَيْكَ } أي أحسن إلى خلقه كما أحسن هو إليك ، { وَلاَ تَبْغِ الفساد فِي الأرض } أي لا تكن همتك بما أنت فيه أن تفسد به في الأرض وتسيء إلى خلق الله { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المفسدين } .(1/1924)
قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعًا وَلَا يُسْأَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)
يقول تعالى مخبراً عن جواب قارون لقومه حين نصحوه وأرشدوه إلى الخير { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي } أي أنا لا أفتقر إلى ما تقولون ، فإن الله تعالى إنما أعطاني هذا المال لعلمه بأني استحقه ولمحبته لي ، فتقديره إنما أعطيته لعلم الله فيَّ أني أهل له ، وهذا كقوله تعالى : { فَإِذَا مَسَّ الإنسان ضُرٌّ دَعَانَا ثُمَّ إِذَا خَوَّلْنَاهُ نِعْمَةً مِّنَّا قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ } [ الزمر : 49 ] أي على علم من الله بي ، وقد روي عن بعضهم أنه أراد { إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي } أي أنه كان يعاني علم الكيمياء وهذا القول ضعيف لأن علم الكيمياء في نفسه علم باطل ، لأن قلب الأعيان لا يقدر أحد عليه إلاّ الله عزَّ وجلَّ ، وقال بعضهم : إن قارون كان يعرف الاسم الأعظم فدعا الله به فتمول بسببه ، والصحيح المعنى الأول ، ولهذا قال الله تعالى راداً عليه فيما ادعاه من اعتناء الله به فيما أعطاه من المال { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } ؟ أي قد كان من هو أكثر منه مالاً ، وما كان ذلك عن محبة منا له ، وقد أهلكهم الله مع ذلك بكفرهم وعدم شكرهم ، ولهذا قال : { وَلاَ يُسْأَلُ عَن ذُنُوبِهِمُ المجرمون } أي لكثرة ذنوبهم ، قال قتادة { على عِلْمٍ عندي } على خيرٍ عندي ، وقال السدي : على علم أني أهل لذلك ، وقد أجاد في تفسير هذه الآية الإمام عبد الرحمن بن زيد بن أسلم ، فإنه قال في قوله : { قَالَ إِنَّمَآ أُوتِيتُهُ على عِلْمٍ عندي } قال : لولا رضا الله عني ومعرفته بفضلي ما أعطاني هذا المال ، وقرأ : { أَوَلَمْ يَعْلَمْ أَنَّ الله قَدْ أَهْلَكَ مِن قَبْلِهِ مِنَ القرون مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَأَكْثَرُ جَمْعاً } الآية ، وهكذا يقول من قلَّ علمه إذا رأى من وسع الله عليه ، لولا أنه يستحق ذلك لما أعطي .(1/1925)
فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا وَلَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ (80)
يقول الله تعالى مخبراً عن قارون أنه خرج ذات يوم على قومه ، في زينة عظيمة وتجمل باهر ، فلما رآه من يريد الحياة الدنيا ويميل إلى زخارفها وزينتها ، تمنوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطي قالوا { ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } أي ذو حظ وافر من الدنيا ، فلما سمع مقالتهم أهل العلم النافع قالوا لهم { وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً } أي جزاء الله لعباده المؤمنين الصالحين في الدار الآخرة خير مما ترون . كما في الحديث الصحيح : « يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرأوا إن شئتم : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } » ، وقوله : { وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصابرون } قال السدي : ولا يُلَقَّى الجنة إلاّ الصابرون ، كأنه جعل ذلك من تمام كلام الذين أوتوا العلم ، وقال ابن جرير : ولا يلقى هذه الكلمة إلاّ الصابرون عن محبة الدنيا الراغبون في الدار الآخرة ، وكأنه جعل ذلك مقطوعاً من كلام أولئك وجعله من كلام الله عزَّ وجلَّ وإخباره بذلك .(1/1926)
فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ (81) وَأَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكَانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَوْلَا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا وَيْكَأَنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ (82)
لما ذكر تعالى اختيال قارون في زينته وفخره على قومه وبغيه عليهم ، عقّب ذلك بأنه خسف به وبداره الأرض ، كما ثبت في الصحيح عند البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « بينما رجل يجر إزاره إذ خسف به فهو يتجلجل في الأرض إلى يوم القيامة » ، وروى الإِمام أحمد عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بينما رجل ممن كان قبلكم خرج في بردين أخضرين يختال فيهما أمر الله الأرض فأخذته فإنه ليتجلجل فيها إلى يوم القيامة » وقد ذكر أن هلاك قارون كان من دعوة موسى نبي الله عليه السلام ، وقيل : إن قارون لما خرج على قومه في زينته تلك وهو راكب على البغال الشهب وعليه وعلى خدمه ثياب الأرجوان المصبغة ، فمر في محفله ذلك على مجلس نبي الله موسى عليه السلام وهو يذكرهم بأيام الله ، فلما رأى الناس قارون انصرفت وجوههم نحوه ينظرون إلى ما هو فيه ، فدعاه موسى عليه السلام وقال : ما حملك على ما صنعت؟ فقال : يا موسى أما لئن كنت فضلت عليّ بالنبوة فلقد فضلت عليك بالدنيا ، فاستوت بهم الأرض ، وعن ابن عباس اقل : خسف بهم إلى الأرض السابعة ، وقال قتادة : ذكرلنا أنه يخسف بهم كل يوم قامة فهم يتجلجلون فيها إلى يوم القيامة ، وقوله تعالى : { فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مِنَ المنتصرين } أي ما أغنى عنه ماله ولا جمعه ولا خدمه وحشمه ، ولا دفعوا عنه نقمة الله وعذابه ونكاله ، ولا كان هو في نفسه منتصراً لنفسه فلا ناصر له من نفسه ولا من غيره ، وقوله تعالى : { وَأَصْبَحَ الذين تَمَنَّوْاْ مَكَانَهُ بالأمس } أي الذين لما رأوه في زينته : قالوا { ياليت لَنَا مِثْلَ مَآ أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ القصص : 79 ] فلما خسف به أصبحوا يقولون { وَيْكَأَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ } أي ليس المال بدالٍّ على رضا الله عن صاحبه ، فإن الله يعطي ويمنع ، ويضيق ويوسع ، ويخفض ويرفع ، وهذا كما في الحديث المرفوع عن ابن مسعود : « إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم أرزاقكم ، وإن الله يعطي المال من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الإِيمان إلا من يحب » ، { لولا أَن مَّنَّ الله عَلَيْنَا لَخَسَفَ بِنَا } أي لولا لطف الله بنا وإحسانه إلينا لخسف بنا كما خسف به لأنا وددنا أن نكون مثله ، { وَيْكَأَنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الكافرون } يعنون أنه كان كافراً ولا يفلح الكافرون عند الله لا في الدنيا ولا في الآخرة ، وقد اختلف في معنى قوله هاهنا { وَيْكَأَنَّهُ } فقال بعضهم : معناه ويلك اعلم أن ، ولكن خفف فقيل ويك ، ودل فتح أن على حذف اعلم ، وهذا القول ضعه ابن جرير ، والظاهر أنه قوي ، ولا يشكل على ذلك إلاّ كتابتها في المصاحف متصلة ويكأن ، والكتابة أمر وضعي اصطلاحي والمرجع إلى اللفظ العرب والله أعلم . وقيل : معناها { وَيْكَأَنَّهُ } أي ألم تر أن ، قاله قتادة : وقيل معناها وي كأن ففصلها ، وجعل حرف وي للتعجب أو للتنبيه ، وكأن بمعنى أظن وأحتسب . قال ابن جرير : وأقوى الأقوال في هذا قول إنها بمعنىألم تر أن ، والله أعلم .(1/1927)
تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لَا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَلَا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (84)
يخبر تعالى أن الدار الآخرة ونعيمها المقيم الذي لا يحول ولا يزول ، جعلها لعباده المؤمنين المتواضعين ، الذي لا يريدون { عُلُوّاً فِي الأرض } أي ترفعاً على خلق الله وتعاظماً عليهم وتجبراً بهم ولا فساداً فيهم ، قال عكرمة : العلو : التجبر ، وقال سعيد بن جبير : العلو البغي ، وقال سفيان الثوري : العلو في الأرض التكبر بغير حق ، والفساد أخذ المال بغير حق ، وقال بن جرير { لاَ يُرِيدُونَ عُلُوّاً فِي الأرض } تعظماً وتجبراً ، { وَلاَ فَسَاداً } عملاً بالمعاصي . وفي الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إنه أوحي إليّ أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد عن أحد ، ولا يبغي أحد على أحد » وأما إذا أحب ذلك لمجرد التجمل فهذا لا بأس به ، فقد ثبت « أن رجلاً قال : يا رسول الله إني أحب أن يكون ردائي حسناً ونعلي حسنة أفمن الكبر ذلك؟ فقال : » لا ، إن الله جميل يجب الجمال « » ، وقال تعالى : { مَن جَآءَ بالحسنة } أي يوم القيامة { فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } أي ثواب الله خير من حسنة العبد فكيف والله يضاعفه أضعافاً كثيرة وهذا مقام الفضل ، ثم قال : { وَمَن جَآءَ بالسيئة فَلاَ يُجْزَى الذين عَمِلُواْ السيئات إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، كما قال في الآية الأخرى : { وَمَن جَآءَ بالسيئة فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النار هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ النمل : 90 ] وهذا مقام الفضل والعدل .(1/1928)
إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرَادُّكَ إِلَى مَعَادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جَاءَ بِالْهُدَى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (85) وَمَا كُنْتَ تَرْجُو أَنْ يُلْقَى إِلَيْكَ الْكِتَابُ إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ ظَهِيرًا لِلْكَافِرِينَ (86) وَلَا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَادْعُ إِلَى رَبِّكَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)
يقول تعالى آمراً رسوله صلوات الله وسلامه عليه ببلاغ الرسالة وتلاوة القرآن على الناس ، ومخبراً له بأنه سيرده إلى معاد وهو يوم القيامة فيسأله عما استرعاه من أعباء النبوة ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن } أي افترض عليك أداءه إلى الناس { لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ } أي إلى يوم القيامة فيسألك عن ذلك ، كما قال تعالى { فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين } [ الأعراف : 6 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ } [ المائدة : 109 ] وقال : { وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء } [ الزمر : 69 ] ، وقال ابن عباس : { لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ } يقول : لرادك إلى الجنة ثم سائلك عن القرآن ، وقال مجاهد : يحييك يوم القيامة ، وقال الحسن البصري : إي الله إن له لمعاداً فيبعثه الله يوم القيامة ثم يدخله الجنة . وقد روي عن ابن عباس غير ذلك كما قال البخاري في التفسير عن ابن عباس { لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ } قال : إلى مكة . وهكذا رواه العوفي عن ابن عباس { لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ } أي لرادك إلى مكة كما أخرجك منها ، وقال محمد بن إسحاق عن مجاهد في قوله { لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ } : إلى مولدك بمكة ، وعن الضحاك قال : لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم من مكة فبلغ الجحفة اشتاق إلى مكة ، فأنزل الله عليه : { إِنَّ الذي فَرَضَ عَلَيْكَ القرآن لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ } إلى مكة ، وهذا من كلام الضحاك يقتضي أن هذه الآية مدنية وإن كان مجموع السورة مكياً ، والله أعلم .
ووجه الجمع بين هذه الأقوال أن ابن عباس فسر ذلك تارة برجوعه إلى مكة وهو الفتح الذي هو عند ابن عباس أمارة على اقتراب أجل النبي صلى الله عليه وسلم ، كما فسر ابن عباس سورة { إِذَا جَآءَ نَصْرُ الله والفتح } [ النصر : 1 ] أنه أجل رسول الله صلى الله عليه وسلم نعي إليه ، ولهذا فسر ابن عباس تارة أخرى قوله : { لَرَآدُّكَ إلى مَعَادٍ } بالموت ، وتارة بيوم القيامة الذي هو بعد الموت ، وتارة بالجنة التي هي جزاؤه ومصيره على أداء رسالة الله ، وإبلاغها إلى الثقلين الإنس والجن ، ولأنه أكمل خلق الله وأفصح خلق الله وأشرف خلق الله على الإِطلاق ، وقوله تعالى : { قُل ربي أَعْلَمُ مَن جَآءَ بالهدى وَمَنْ هُوَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي قل لمن خالفك وكذبك يا محمد من قومك من المشركين ومن تبعهم على كفرهم قل : ربي أعلم بالمهتدي منكم ومني ، وستعلمون لمن تكون له عاقبة الدار ولمن تكون العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة ، ثم قال تعالى مذكراً لنبيه نعمته العظيمة عليه وعلى العباد إذ أرسله إليهم : { وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب } أي ما كنت تظن قبل إنزال الوحي إليك أن الوحي ينزل عليك ، { إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } أي إنما أنزل الوحي عليك من الله من رحمته بك وبالعباد بسببك ، فإذا منحك بهذه النعمة العظيمة { فَلاَ تَكُونَنَّ ظَهيراً } أي معيناً { لِّلْكَافِرِينَ } ولكن فارقهم ونابذهم وخالفهم ، { وَلاَ يَصُدُّنَّكَ عَنْ آيَاتِ الله بَعْدَ إِذْ أُنزِلَتْ إِلَيْكَ } أي لا تتأثر لمخالفتهم لك وصدهم الناس عن طريقكم ، فإن الله معلٍ كلمتك ، ومؤيد دينك ، ومظهر ما أرسلك به على سائر الأديان ، ولهذا قال : { وادع إلى رَبِّكَ } أي إلى عبادة ربك وحده لا شريك له { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } .(1/1929)
وقوله تعالى : { وَلاَ تَدْعُ مَعَ الله إلها آخَرَ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أي لا تليق العبادة إلاّ له ولا تنبغي الإليهة إلاّ لعظمته ، وقوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } إخبارٌ بأنه الدائم الباقي الحي القيوم الذي تموت الخلائق ولا يموت ، كما قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام } [ الرحمن : 26-27 ] فعبر بالوجه عن الذات ، وهكذا قوله هاهنا : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } أي إلاّ إياه ، وقد ثبت في الصحيح : « أصدق كلمة قالها الشاعر لبيد :
ألا كل شيء ما خلا الله باطل »
وقال مجاهد والثوري في قوله : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } أي إلاّ ما أريد به وجهه ، وهذا القول لا ينافي القول الأول ، فإن هذا إخيار عن كل الأعمال بأنها باطلة ، إلاّ ما أريد به وجه الله تعالى من الأعمال الصالحة المطابقة للشريعة ، والقول مقتضاه أن كل الذوات فانية وزائلة إلاّ ذاته تعالى وتقدس ، فإنه الأول والآخر الذي هو قبل كل شيء وبعد كل شيء ، وكان ابن عمر إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين : فيقول أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } ، وقوله : { لَهُ الحكم } أي الملك والتصرف ولا معقب لحكمه { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي يوم معادكم فيجزيكم بأعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر .(1/1930)
الم (1) أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ (2) وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ أَنْ يَسْبِقُونَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (4)
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة ، وقوله تعالى : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } استفهام إنكار ، ومعناه أن الله سبحانه وتعالى لا بد أن يبتلى عباده المؤمنين ، بحسب ما عندهم من الإِيمان ، كما جاء في الحديث الصحيح : « أشد الناس بلاء الأنبياء ، ثم الصالحون ، ثم الأمثل فالأمثل ، يبتلى الرجل على حسب دينه ، فإن كان دينه صلابة زيد له في البلاء » وهذه الآية كقوله : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } [ آل عمران : 142 ] ، وقال في البقرة : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } [ البقرة : 214 ] ولهذا قال هاهنا : { وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } أي الذين صدقوا في دعوى الإِيمان ، ممن هو كاذب في قوله ودعواه ، والله سبحانه وتعالى يعلم ما كان وما يكون وما لم يكن لو كان كيف يكون . وهذا مجمع عليه عند أئمة السنة والجماعة ، وبهذا يقول ابن عباس وغيره في مثل قوله : { إِلاَّ لِنَعْلَمَ } [ البقرة : 143 ] إلاّ لنرى ، وذلك لأن الرؤية إنما تتعلق بالموجود والعلم أعم من الرؤية فإنه يتعلق بالمعدوم والموجود ، وقوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي لا يحسبن الذين لم يدخلوا في الإِيمان أنه يتخلصون من هذه الفتنة والامتحان ، فإن من ورائهم من العقوبة والنكال ما هو أغلظ من هذا وأطم ، ولهذا قال : { أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا } أي يفوتونا { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي بئس ما يظنون .(1/1931)
مَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5) وَمَنْ جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (6) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كَانُوا يَعْمَلُونَ (7)
يقول تعالى : { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله } أي في الدار الآخرة وعمل الصالحات ، ورجا ما عند الله من الثواب الجزيل ، فإن سيحقق له رجاءه ، ويوفيه عمله كاملاً موفراً ، فإن ذلك كائن لا محالة لأنه سميع الدعاء ، بصير بكل الكائنات . ولهذا قال تعالى : { مَن كَانَ يَرْجُو لِقَآءَ الله فَإِنَّ أَجَلَ الله لآتٍ وَهُوَ السميع العليم } ، وقوله تعالى : { وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ } ، كقوله تعالى : { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ } [ فصلت : 46 ] أي من عمل صالحاً فإنما يعود نفع عمله على نفسه ، فإن الله تعالى غني عن العباد ولو كانوا كلهم على أتقى قلب رجل منهم ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الله لَغَنِيٌّ عَنِ العالمين } . قال الحسن البصري : إن الرجل ليجاهد وما ضرب يوماً من الدهر بسيف ، ثم أخبر تعالى أنه مع غناه عن الخلائق جميعهم ، ومع بره وإحسانه بهم ، يجازي الذين آمنوا وعلموا الصالحات أحسن الجزاء ، وهو أنه يكفِّر عنهم أسوأ الذي عملوا ويجزيهم أجرهم بأحسن الذين كانوا يعملون ، فيقبل القليل من الحسنات ويثيب عليها الواحدة بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ويجزي على السيئة بمثلها أو يعفو ويصفح ، كما قال تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 40 ] ، وقال هاهنا : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الذي كَانُواْ يَعْمَلُونَ } .(1/1932)
وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْنًا وَإِنْ جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)
يقول تعالى آمراً عباده ، بالإِحسان إلى الوالدين ، بعد الحث على التمسك بتوحيده ، فإن الوالدين هما سبب وجود الإِنسان ، ولهما عليه غاية الإِحسان ، فالوالد بالإِنفاق والوالدة بالإِشفاق ، ولهذا قال تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإِسراء : 23 ] ، ومع هذه الوصية بالرأفة والرحمة والإِحسان إليهما في مقابلة إِحسانهما المتقدم ، قال : { وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ } أي وإِن حرصا أن تتابعهما على دينهما إذا كانا مشركين ، فلا تطعهما في ذلك فإن مرجعكم إليّ يوم القيامة ، فأجزيك بإحسانك إليهما وصبرك على دينك ، وأحشرك مع الصالحين لا في زمرة والديك ، ولهذا قال تعالى : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصالحين } . عن مصعب بن سعد يحدث عن أبيه سعد قال : نزلت فيَّ أربع آيات فذكر قصته ، وقال ، قالت أم سعد : أليس الله قد أمرك بالبر؟ والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أموت أو تكفر ، قال : فكانوا إذا أرادوا أن يطعموها شجروا فاها ، فنزلت : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَآ } الآية .(1/1933)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذَا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذَابِ اللَّهِ وَلَئِنْ جَاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَوَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ الْعَالَمِينَ (10) وَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْمُنَافِقِينَ (11)
يقول تعالى مخبراً عن صفات المكذبين ، الذين يدعون الإِيمان بألسنتهم ولم يثبت الإِيمان في قلوبهم ، بأنهم إذا جاءتهم محنة وفتنة في الدنيا ، اعتقدوا أن هذا من نقمة الله تعالى بهم فارتدوا عن الإِسلام ، ولهذا قال تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يِقُولُ آمَنَّا بالله فَإِذَآ أُوذِيَ فِي الله جَعَلَ فِتْنَةَ الناس كَعَذَابِ الله } قال ابن عباس : يعني فتنته أن يرتد عن دينه إذا أوذي في الله ، وكذا قال غيره من علماء السلف ، وهذه الآية كقوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطمأن بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انقلب على وَجْهِهِ } [ الحج : 11 ] إلى قوله { ذلك هُوَ الضلال البعيد } [ الحج : 12 ] ، ثم قال عزَّ وجلَّ : { وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } أي ولئن جاء نصر قريب من ربك يا محمد وفتح ومغانم ، ليقولن هؤلاء لكم إنا كنا معكم أي إخوانكم في الدين ، كما قال تعالى : { الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ } [ النساء : 141 ] الآية ، وقوله تعالى مخبراً عنهم هاهنا : { وَلَئِنْ جَآءَ نَصْرٌ مِّن رَّبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ } ، ثم قال تعالى : { أَوَ لَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بِمَا فِي صُدُورِ العالمين } أي أوليس الله بأعلم بما في قلوبهم ، وما تكنه ضمائرهم ، وإن أظهروا لكم الموافقة؟ وقوله تعالى : { وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين } أي وليختبرن الله الناس بالضراء والسراء ، ليتميز من يطيع الله في الضراء والسراء ، ومن يطيعه في حظ نفسه ، كما قال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31 ] .(1/1934)
وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنَا وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (12) وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالًا مَعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَمَّا كَانُوا يَفْتَرُونَ (13)
يقول تعالى مخبراً عن كفار قريش أنهم قالوا لمن آمن منهم واتبع الهدى : ارجعوا عن دينكم إلى ديننا واتبعوا سبيلنا { وَلْنَحْمِلْ خَطَايَاكُمْ } أي آثاماكم إن كانت لكم آثام ، كما يقول القائل : افعل هذا وخطيئتك في رقبتي ، قال الله تعالى تكذيباً لهم : { وَمَا هُمْ بِحَامِلِينَ مِنْ خَطَايَاهُمْ مِّن شَيْءٍ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي فيما قالوه إنهم يحتملون عن أولئك خطاياهم . فإنه لا يحمل أحد وزر أحد ، قال الله تعالى : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } [ فاطر : 18 ] ، وقال تعالى : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً * يُبَصَّرُونَهُمْ } [ المعارج : 1011 ] ، وقوله تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } إخبار عن الدعاة إلى الكفر والضلالة ، أنهم يحملون يوم القيامة أوزار أنفسهم وأوزاراً أخر ، بسبب ما أضلوا من الناس من غير أن ينقص من أوزار أولئك شيئاً ، كما قال تعالى : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 25 ] الآية ، وفي الصحيح : « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من آثامهم شيئاً » ، وفي الصحيح : « ما قتلت نفس ظلماً إلاّ كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل » وقوله تعالى : { وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي يكذبون ويختلقون من البهتان .
وفي الحديث : « إياكم والظلم فإن الله يعزم يوم القيامة فيقول : وعزتي وجلالي لا يجوزني اليوم ظلم ثم ينادي مناد فيقول : أين فلان بن فلان؟ فيأتي يتبعه من الحسنات أمثال الجبال ، فيشخص الناس أبصارهم ، حتى يقوم بين يدي الرحمن عزَّ وجلَّ ، ثم يأمر المنادي ، فينادي من كانت له تباعة أو ظلامة عند فلان بن فلان فهلم ، فيقبلون حتى يجتمعوا قياماً بين يدي الرحمن ، فيقول الرحمن : اقضوا عن عبدي ، فيقولون : كيف نقضي عنه؟ فيقول : خذوا لهم من حسناته فلا يزالون يأخذون منها حتى لا يبقى منها حسنة ، وقد بقي من أصحاب الظلامات ، فيقول : اقضوا عن عبدي ، فيقولون : لم يبق له حسنة . فيقول : خذوا من سيئاتهم فاحملوها عليه » ثم نزع صلى الله عليه وسلم بهذه الآية الكريمة : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ وَلَيُسْأَلُنَّ يَوْمَ القيامة عَمَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } وهذا الحديث له شاهد في الصحيح من غير هذا الوجه : « إن الرجل ليأتي يوم القيامة بحسنات أمثال الجبال ، وقد ظلم هذا وأخذ مال هذا ، وأخذ من عرض هذا ، فيأخذ هذا من حسناته ، وهذا من حسناته ، فإذا لم تبق له حسنة أخذ من سيئاتهم فطرح عليه » .(1/1935)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عَامًا فَأَخَذَهُمُ الطُّوفَانُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ وَجَعَلْنَاهَا آيَةً لِلْعَالَمِينَ (15)
هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله صلى الله عليه وسلم ، يخبره عن نوح عليه السلام أنه مكث في قومه هذه المدة ، يدعوهم إلى الله تعالى ليلاً ونهاراً وسراً وجهاراً ، ومع هذا ما زادهم ذلك إلاّ فراراً ، وما آمن معه منهم إلاّ قليل ، ولهذا قال تعالى : { فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عَاماً فَأَخَذَهُمُ الطوفان وَهُمْ ظَالِمُونَ } أي بعد هذه المدة الطويلة ما نجع فيهم البلاغ والإِنذار ، فأنت يا محمد لا تأسف على من كفر بكل من قومك ولا تحزن عليهم ، فإن الله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وبيده الأمر وإليه ترجع الأمور واعلم أن الله سيظهرك وينصرك ويؤيدك ، ويذل عدوك ويكتبهم ويجعلهم أسفل السافلين . عن ابن عباس قال : بعث نوح وهو لأربعين سنة ولبث في قومه ألف سنة إلاّ خمسين عاماً وعاش بعد الطوفان ستين عاماً حتى كثر الناس وفشوا ، وقوله تعالى : { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة } أي الذين آمنوا بنوح عليه السلام ، وقد تقدم تفسيره بما أغنى عن إعادته ، وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } أي وجعلنا تلك السفينة باقية؛ إما عينها كما قال قتادة إنها بقيت إلى أول الإسلام على جبل الجودي ، أو نوعها جعله للناس تذكرة لنعمه على الخلق كيف أنجاهم من الطوفان ، كما قال تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمْ أَنَّا حَمَلْنَا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الفلك المشحون } [ يس : 41 ] وقال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 1112 ] ، وقال هاهنا : { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة وَجَعَلْنَاهَآ آيَةً لِّلْعَالَمِينَ } .(1/1936)
وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17) وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (18)
يخبر تعالى عن عبده ورسوله وخليله ( إبراهيم ) إمام الحنفاء ، أنه دعا قومه إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، والإِخلاص له في التقوى ، وطلب الرزق منه وحده لا شريك له ، وتوحيده في الشكر فإنه المشكور على النعم لا مُسْدِي لها غيره ، فقال لقومه : { اعبدوا الله واتقوه } أي أخلصوا له العبادة والخوف { ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي إذا فعلتم ذلك حصل لكم الخير في الدنيا والآخرة ، ثم أخبر تعالى أن الأصنام التي يعبدونها لا تضر ولا تنفع ، وإنما هي مخلوقة مثلكم ، قال ابن عباس : { وَتَخْلُقُونَ إِفْكاً } أي تنحتونها أصناماً ، وهي لا تملك لكم رزقاً { فابتغوا عِندَ الله الرزق } ، وهذا أبلغ في الحصر كقوله : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ولهذا قال : { فابتغوا } أي فطلبوا { عِندَ الله الرزق } أي لا عند غيره فإن غيره لا يملك شيئاً ، { واعبدوه واشكروا لَهُ } أي كلوا من رزقه واعبدوه وحده واشكروا له على ما أنعم به عليكم ، { إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله . وقوله تعالى : { وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ } أي فبلغكم ما حل بهم ن العذاب والنكال في مخالفة الرسل ، { وَمَا عَلَى الرسول إِلاَّ البلاغ المبين } يعني إنما على الرسول أن يبلغكم ما أمره الله تعالى به من الرسالة ، والله يضل من يشاء ويهدي من يشاء ، فاحرصوا لأنفسكم أن تكونوا من السعداء ، وقال قتادة في قوله : { وَإِن تُكَذِّبُواْ فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِّن قَبْلِكُمْ } ، قال : يعزي نبيه صلى الله عليه وسلم ، والظاهر مر السياق أن كل هذا من كلام إبراهيم الخليل عليه السلام ، يحتج عليهم لإثبات المعاد لقوله بعد هذا كله { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ } [ العنكبوت : 24 ] والله أعلم .(1/1937)
أَوَلَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَرْحَمُ مَنْ يَشَاءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (22) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَلِقَائِهِ أُولَئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (23)
يقول تعالى مخبراً عن الخليل عليه السلام ، أنه أرشدهم إلى إثبات المعاد الذي ينكرونه ، بما يشاهدونه في أنفسهم من خلق الله إياهم بعد أن لم يكونوا شيئاً مذكوراً ، ثم وجدوا وصاروا أناساً سامعين مبصرين ، فالذي بدأ هذا قادر على إعادته ، فإنه سهل عليه يسير لديه؛ ثم أرشدهم إلى الاعتبار بما في الآفاق من الآيات المشاهدة من خلق الله الأشياء : السماوات وما فيها من الكواكب النيرة ، والأرضين وما فيها من مهاد وجبال ، وأودية وبراري وقفار ، وأشجار وأنهار ، وثمار وبحار ، كل ذلك دال على حدوثها في أنفسها ، وعلى وجود صانعها الفاعل المختار ، الذي يقول للشيء كن فيكون ، ولهذا قال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ كَيْفَ يُبْدِئُ الله الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } ، كقوله تعالى : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 17 ] ثم قال تعالى : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ بَدَأَ الخلق ثُمَّ الله يُنشِىءُ النشأة الآخرة } ثم يوم القيامة ، { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، وهذا المقام شبه بقوله تعالى : { سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفاق وفي أَنفُسِهِمْ حتى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحق } [ فصلت : 53 ] ، وكقوله تعالى : { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون * أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ } [ الطور : 3536 ] ، وقوله تعالى : { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ } أي هو الحاكم المتصرف الذي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فله الخلق والأمر لأنه المالك الذي لا يظلم مثقال ذرة ، كما جاء في الحديث : « إن الله لو عذب أهل سماواته وأهل أرضه لعذبهم وهو غير ظالم لهم » ، ولهذا قال تعالى : { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَرْحَمُ مَن يَشَآءُ وَإِلَيْهِ تُقْلَبُونَ } أي ترجعون يوم القيامة ، وقوله تعالى : { وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الأرض وَلاَ فِي السمآء } أي لا يعجزه أحد من أهل سماواته وأرضه ، بل هو القاهر فوق عباده ، فكل شيء خائف منه فقير إليه وهو الغني عما سواه { وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ * والذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله وَلِقَآئِهِ } أي جحدوها وكفروا بالمعاد ، { أولئك يَئِسُواْ مِن رَّحْمَتِي } أي لا نصيب لهم فيها ، { وأولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي موجع شديد في الدنيا والآخرة .(1/1938)
فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَقَالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضًا وَمَأْوَاكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (25)
يقول تعالى مخبراً عن قوم إبراهيم في كفرهم وعنادهم ومكابرتهم ، ودفعهم الحق بالباطل ، إنهم ما كان لهم جواب بعد مقالة إبراهيم هذه المشتملة على الهدى والبيان { إِلاَّ أَن قَالُواْ اقتلوه أَوْ حَرِّقُوهُ } ، وذلك لأنهم قام عليهم البرهان وتوجهت عليهم الحجة ، فعدلوا إلى استعمال جاههم وقوة ملكهم ، { قَالُواْ ابنوا لَهُ بُنْيَاناً فَأَلْقُوهُ فِي الجحيم } [ الصافات : 97 ] وذلك أنه حشدوا في جمع أحطاب عظيمة مدة طويلة ، ثم أضرموا فيها النار ، ثم عمدوا إلى إبراهيم فكتفوه وألقوه في كفة المنجنيق ، ثم قذفوه فيها فجعلها الله عليه برداً وسلاماً ، وخرج منها سالماً بعدما مكث فيها أياماً ، ولهذا وأمثاله جعله الله للناس إماماً ، فإنه بذل نفسه للرحمن ، وجسده للنيران ، ولهذا اجتمع على محبته جميع أهل الأديان ، وقوله تعالى : { فَأَنْجَاهُ الله مِنَ النار } أي سلمه منه بأن جعلها عليه برداً وسلاماً ، { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَقَالَ إِنَّمَا اتخذتم مِّن دُونِ الله أَوْثَاناً مَّوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الحياة الدنيا } ، يقول لقومه مقرعاً لهم وموبخاً على سوء صنيعهم في عبادتهم للأوثان ، إنما اتخذتم هذه لتجتمعوا على عبادتها في الدنيا صداقة وألفة منكم { ثُمَّ يَوْمَ القيامة } ينعكس هذا الحال فتبقى هذه الصداقة والمودة بغضاً وشنآناً ، ثم { يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } أي تتجاحدون ما كان بينكم ، { وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً } أي يلعن الأتباع المتبوعين ، والمتبوعون الأتباع ، { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } [ الأعراف : 38 ] ، وقال تعالى : { الأخلاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ المتقين } [ الزخرف : 67 ] ، وقال هاهنا : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار } الآية ، أي مصيركم ومرجعكم بعد عرصات القيامة إلى النار ، وما لكم من ناصر ينصركم ، ولا منقذ ينقذكم من عذاب الله .(1/1939)
فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إِلَى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)
يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم أنه آمن له ( لوط ) يقال : إنه ابن أخي إبراهيم ، وهو لوط بن هاران بن آزر ، وهاجر معه إلى بلاد الشام ، ثم أرسل في حياة الخليل إلى أهل سدوم وإقليمها ، وكان من أمرهم ما تقدم وما سيأتي ، وقوله تعالى : { وَقَالَ إِنِّي مُهَاجِرٌ إلى ربي } يحتمل عود الضمير في قوله : { وَقَالَ } على ( لوط ) لأنه هو أقرب المذكورين ، ويحتمل عوده إلى ( إبراهيم ) وهو المكنى عنه بقوله : { فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ } أي من قومه ، ثم أخبر عنه بأنه اختار المهاجرة من بين أظهرهم ، ابتغاء إظهار الدين والتمكن من ذلك ، ولهذا قال : { إِنَّهُ هُوَ العزيز الحكيم } أي له العزة ولرسوله وللمؤمنين به { الحكيم } في أقواله وأفعاله ، وقال قتادة : هاجرا جميعاً من كوثى وهي من سواد الكوفة إلى الشام ، روى الإمام أحمد عن قتادة عن شهر بن حوشب قال : لما جاءتنا بيعة ( يزيد بن معاوية ) قدمت الشام ، فأخبرت بمقام يقومه ( نوف البكالي ) فجئته إذ جاء رجل ، فانتبذ الناس وعليه خميصة ، فإذا هو عبد الله بن عمرو بن العاص ، فلما رآه نوف أمسك عن الحديث ، فقال عبد الله : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنها ستكون هجرة بعد هجرة فينحاز الناس إلى مهاجر إبراهيم لا يبقى في الأرض إلاّ شرار أهلها ، فتلفظهم أرضهم تقذرهم نفس الرحمن ، تحشرهم النار مع القردة والخنازير ، فتبيت معهم إذا باتوا وتقيل معهم إذا قالوا ، وتأكل من تخلف منهم » قال : وسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « سيخرج أناس من أمتي من قبل المشرق ، يقرأون القرآن لا يجاوز تراقيهم ، كلما خرج منهم قرن قطع ، كلما خرج قطع حتى عدها زيادة على عشرين مرة حتى يخرج الدجال في بقيتهم » .
وقوله تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } ، كقوله : { فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } [ مريم : 49 ] أي لما فارق قومه أقر الله عينه بوجود ولد صالح نبي ، وولد له ولد صالح نبي في حياة جده ، وكذلك قال تعالى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] أي زيادة ، كما قال تعالى : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] أي يولد لهذا الولد ولد في حياتكما تقر به أعينكما ، فأما ما روي عن ابن عباس في قوله : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } قال : هما ولدا إبراهيم ، فمعناه أن ولد الولد بمنزلة الولد ، فإن هذا الأمر لا يكاد يخفى على من هو دون ابن عباس ، وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب } هذه خلعة سنية عظيمة مع اتخاذ الله إياه خليلاً وجعله للناس إماماً أن جعل في ذريته النبوة والكتاب ، فلم يوجد نبي بعد إبراهيم عليه السلام إلاّ وهو من سلالته ، فجميع أنبياء إسرائيل من سلالة ( يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم ) حتى كان أخرهم عيسى ابن مريم ، فقام مبشراً بالنبي العربي سيد ولد آدم في الدنيا والآخرة ، الذي اصطفاه الله من صميم العرب العرباء ، من سلالة ( إسماعيل بن إبراهيم ) عليهما السلام ، ولم يوجد نبي من سلالة إسماعيل سواه عليه أفضل الصلاة والسلام ، وقوله : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } أي جمع الله له بين سعادة الدنيا الموصلة بسعادة الآخرة ، فكان في الدنيا الرزق الواسع الهني والمنزل الرحب ، والمورد العذب ، والزوجة الحسنة الصالحة ، والثناء الجميل ، والذكر الحسن وكل أحد يبحه ويتولاه ، كما قال ابن عباس ومجاهد وقتادة وغيرهم مع القيام بطاعة الله من جميع الوجوده ، كما قال تعالى :(1/1940)
{ وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } [ النجم : 37 ] أي قام بجميع ما أمر به وكمل طاعة ربه ، ولهذا قال تعالى : { وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدنيا وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } ، وكما قال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } [ النحل : 120 ] إلى قوله : { وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ الصالحين } [ النحل : 122 ] .(1/1941)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (28) أَئِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ وَتَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا ائْتِنَا بِعَذَابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قَالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)
يقول تعالى مخبراً عن نبيه ( لوط ) عليه السلام أنه أنكر على قومه سوء صنيعهم ، وما كانوا يفعلونه من قبيح الأعمال ، في اتباعهم الذكران من العالمين ، ولم يسبقهم إلى هذه الفعلة أحد من بني آدم قبلهم ، وكانوا مع هذا يكفرون بالله ويكذبون رسوله ويخالفونه ويقطعون السبيل ، أي يقفون في طريق الناس يقتلونهم ويأخذون أموالهم ، { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر } أي يفعلون ما لا يليق من الأقوال والأفعال في مجالسهم التي يجتمعون فيها ، لا ينكر بعضهم على بعض شيئاً من ذلك ، فمن قائل : كانوا يأتون بعضهم بعضاً في الملأ قاله مجاهد ، ومن قائل : كانوا يتضارطون ويتضاحكون ، روى الإمام أحمد عن أم هانىء قالت : « سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر } قال : » يحذفون أهل الطريق ويسخرون منهم وذلك المنكر الذي كانوا يأتونه « » وعن مجاهد { وَتَأْتُونَ فِي نَادِيكُمُ المنكر } قال : الصفير ولعب الحمام وحل أزرار القباء ، وقوله تعالى : { فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ ائتنا بِعَذَابِ الله إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } وهذا من كفرهم واستهزائهم وعنادهم ، ولهذا استنصر عليهم نبي الله فقال : { رَبِّ انصرني عَلَى القوم المفسدين } .(1/1942)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ (31) قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطًا قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (32) وَلَمَّا أَنْ جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالُوا لَا تَخَفْ وَلَا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلَّا امْرَأَتَكَ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلَى أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَلَقَدْ تَرَكْنَا مِنْهَا آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)
لما استنصر ( لوط ) عليه السلام بالله عزَّ وجلَّ عليهم بعث الله لنصرته ملائكة ، فمروا على ( إبراهيم ) عليه السلام في هيئة أضياف ، فجاءهم بما ينبغي للضيف ، فلما رأى إبراهيم أنه لا همة لهم إلى الطعام نكرهم ، وأوجس منهم خيفة ، فشرعوا يؤانسونه ويبشرونه بوجود ولد صالح من امرأته سارة ، وكانت حاضرة فتعجبت من ذلك ، كما تقدم بيانه في سورة هود والحجر ، فلما جاءت إبراهيم بالبشرى وأخبروه بأنهم أرسلوا لهلاك قوم لوط أخذ يدافع لعلهم ينظرون؛ لعل الله أن يهديهم ، ولما قالوا إنا مهلكوا أهل هذه القرية { قَالَ إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين } أي من الهالكين لأنها كانت تمالئهم على كفرهم وبغيهم ، ثم ساروامن عنده فدخلوا على ( لوط ) في صورة شبان حسان ، فلما رآهم كذلك { سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً } أي اغتم بأمرهم إن هو أضافهم خالف عليهم من قومه ، وإن لم يضفهم خشي عليهم منهم ، ولم يعلم بأمرهم إلاَّ في الساعة الراهنة { قَالُواْ لاَ تَخَفْ وَلاَ تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَأَهْلَكَ إِلاَّ امرأتك كَانَتْ مِنَ الغابرين * إِنَّا مُنزِلُونَ على أَهْلِ هذه القرية رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } ، وذلك أن جبريل عليه السلام اقتلع قراهم من قرار الأرض ثم رفعها إلى عنان السماء ثم قلبها عليهم ، وأرسل الله عليهم حجارة من سجيل منضود ، وجعل الله مكانها بحيرة خبيثة منتنة ، وجعلهم عبرة إلى يوم التناد ، وهم من أشد الناس عذاباً يوم المعاد ، ولهذا قال تعالى : { وَلَقَد تَّرَكْنَا مِنْهَآ آيَةً بَيِّنَةً } أي واضحة { لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، كما قال تعالى : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 137138 ] ؟ .(1/1943)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (37)
يخبر تعالى عن عبده ورسوله ( شعيب ) عليه السلام أنه أنذر قومه أهل مدين فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له ، وأن يخافوا بأس الله ونقمته وسطوته يوم القيامة ، فقال : { ياقوم اعبدوا الله وارجوا اليوم الأخر } قال ابن جرير : معناه واخشوا اليوم الآخر ، كقوله تعالى : { لِّمَن كَانَ يَرْجُواْ الله واليوم الآخر } [ الأحزاب : 21 ، الممتحنة : 6 ] ، وقوله : { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } نهاهم عن العيث في الأرض بالفساد ، وهي السعي فيها والبغي على أهلها ، وذلك أنهم كانوا ينقصون المكيال والميزان ، ويقطعون الطريق على الناس ، هذا مع كفرهم بالله ورسوله ، فأهلكهم الله برجفة عظيمة زلزلت عليهم بلادهم ، وصيحة أخرجت القلوب من حناجرها ، وعذب يوم الظلة الذي أزهق الأرواح من مستقرها إنه كان عذاب يوم عظيم ، وقد تقدمت قصتهم مبسوطة في سورة الأعراف وهود والشعراء ، وقوله : { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } قال قتادة : ميتين ، وقال غيره : قد ألقى بعضهم على بعض .(1/1944)
وَعَادًا وَثَمُودَ وَقَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ (39) فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)
يخبر تعالى عن هؤلاء الأمم المكذبة للرسل كيف أبادهم وتنوع في عذابهم؛ وأخذهم بالانتقام منهم ، فعاد قوم هود عليه السلام كانوا يسكنون ( الأحقاف ) وهي قريبة من حضرموت بلاد اليمن ، وثمود قوم صالح كانوا يسكنون ( الحجر ) قريباً من وادي القرى ، وكانت العرب تعرف مساكنهما جيداً وتمر عليها كثيراً ، وقارون صاحب الأموال الجزيلة والكنوز الثقيلة ، وفرعون ووزيره ( هامان ) القبطيان الكافران بالله تعالى وبرسوله صلى الله عليه وسلم { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } أي كانت عقوبته بما يناسبه { فَمِنْهُم مَّن أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً } وهم عاد ، وذلك أنهم قالوا من أشد منا قوة؟ فجاءتهم ريح صرصر باردة شديدة البرج ، عاتية شديدة الهبوب ، تحمل عليهم حصباء الأرض فتلقيها عليهم ، وتقتلعهم من الأرض ، فترفع الرجل منهم من الأرض إلى عنان السماء ، ثم تنكسه على أم رأسه فتشدخه فيبقى بدناً بلا رأس كأنهم أعجاز نخل منقعر ، { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَخَذَتْهُ الصيحة } وهم ثمود قامت عليهم الحجة وظهرت لهم الدلالة على تلك الناقة التي انفلقت عنها الصخرة مثل ما سألوا سواء بسواء ، ومع هذا ما آمنوا بل استمروا على طغيانهم وكفرهم وتهددوا نبي الله صالحاً ومن آمن معه ، وتوعدوهم بأن يخرجوهم ويرجموهم فجاءتهم صيحة أخمدت الأصوات منهم والحركات ، { وَمِنْهُمْ مَّنْ خَسَفْنَا بِهِ الأرض } وهو قارون الذي طغى وبغى وعتا وعصى الرب الأعلى ، ومشى في الأرض مرحاً واعتقد أنه أفضل من غيره ، واختال في مشيته ، فخسف الله به وبداره الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة ، { وَمِنْهُمْ مَّنْ أَغْرَقْنَا } وهو فرعون ووزيره هامان وجنودهما عن آخرهم أغرقوا في صبيحة واحدة فلم ينج منهم مخبر ، { وَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } أي فيما فعل بهم ، { ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي إنما فعل ذلك بهم جزاء وفاقاً بما كسبت أيديهم .(1/1945)
مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُونَ (43)
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ، يرجون نصرهم ورزقهم ويتمسكون بهم في الشدائد ، فهم في ذلك كبيت العنكبوت في ضعفه ووهنه ، ليس في أيدي هؤلاء من آلهتهم إلاّ كمن يتمسك ببيت العنكبوت ، فإنه لا يجدي عنه شيئاً ، فلو علموا هذا الحال لما اتخذوا من دون الله أولياء ، وهذا بخلاف المسلم المؤمن قلبه لله ، وهو مع ذلك يحسن العمل في اتباع الشرع ، فإنه متمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها لقوتها وثباتها ، ثم قال تعالى متوعداً لمن عبد غيره وأشرك به : إنه تعالى يعلم ما هم عليه من الأعمال ويعلم ما يشركون به من الأنداد وسيجزيهم وصفهم إنه حكيم عليم ، ثم قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } أي وما يفهمها ويتدبرها إلاّ الراسخون في العلم المتضلعون منه . عن عمرو بن مرة قال : ما مررت بآية من كتاب الله لا أعرفها إلاّ أحزنني لأني سمعت الله تعالى يقول : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } .(1/1946)
خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ (45)
يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة أنه خلق السماوات والأرض بالحق ، يعني لا على وجه العبث واللعب { لتجزى كُلُّ نَفْسٍ بِمَا تسعى } [ طه : 15 ] ، { لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى } [ النجم : 31 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ } أي لدلالة واضحة على أنه تعالى المتفرد بالخلق والتدبير والإلهية ، ثم قال تعالى آمراً رسوله والمؤمنين بتلاوة القرآن وهو قراءته وإبلاغه للناس ، { وَأَقِمِ الصلاة إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } يعني أن الصلاة تشتمل على شيئين على ترك الفواحش والمنكرات ، أي مواظبتها تحمل على ترك ذلك ، وقد جاء في الحديث عن ابن عباس مرفوعاً : « من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم تزده من الله إلاّ بعداً » .
( ذكر الآثار الواردة في ذلك )
روى ابن أبي حاتم عن عمران بن حصين قال : « سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله { إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } ؟ قال : » من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له « » ، وعن ابن عباس ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر لم يزدد بها من الله إلاّ بعداً » وروى الحافظ أبو بكر البزار قال ، « قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : إن فلاناً يصلي بالليل فإذا أصبح سرق ، وقال : » إنه سينهاه ما تقول « » ، وتشتمل الصلاة أيضاً على ذكر الله تعالى هو المطلوب الأكبر ، ولهذا قال تعالى : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } أي أعظم من الأول { والله يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } أي يعلم جميع أعمالكم وأقوالكم ، وقال أبو العالية : إن الصلاة فيها ثلاث خصال ، فكل صلاة لا يكون فيها شيء من هذه الخلال فليست بصلاة : الإخلاص ، والخشية ، وذكر الله ، فالإخلاص يأمره بالمعروف ، والخشية تنهاه عن المنكر ، وذكر الله ( القرآن ) يأمره وينهاه ، وقال ابن عون الأنصاري : إذا كنت في صلاة فأنت في معروف وقد حجزتك عن الفحشاء والمنكر والذي أنت فيه من ذكر الله أكبر ، وعن ابن عباس في قوله تعالى : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } يقول : ولذكر الله لعباده أكبر إذا ذكروه من ذكرهم أياه ، وعن عبد الله بن ربيعة قال ، قال لي ابن عباس : هل تدري ما قوله تعالى : { وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ } ؟ قال ، قلت : نعم ، قال : فما هو؟ قلت : التسبيح والتحميد والتكبير في الصلاة وقراءة القرآن ونحو ذلك ، قال : لقد قلت قولاً عجيباً وما هو كذلك ، ولكنه إنما يقول : ذكر الله إياكم عندما أمر به أو نهى عنه إذا ذكرتموه أكبر من ذكركم أياه ، وقد روي هذا من غير وجه عن ابن عباس ، واختاره ابن جرير .(1/1947)
وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَقُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَأُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَإِلَهُنَا وَإِلَهُكُمْ وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46)
قال قتادة وغير واحد : هذه الآية منسوخة بآية السيف ، ولم يبق معهم مجادلة ، وإنما هو الإسلام أو الجزية أو السيف ، وقال آخرون : بل هي باقية محكمة لمن أراد الاستبصار منهم في الدين ، فيجادل بالتي هي أحسن ، ليكون أنجع فيه ، كما قال تعالى : { ادع إلى سَبِيلِ رَبِّكَ بالحكمة والموعظة الحسنة } [ النحل : 125 ] الآية . وهذا القول اختاره ابن جرير ، وقوله تعالى : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } أي حادوا عن وجه الحق ، وعموا عن واضح المحجة ، وعاندوا وكابروا ، فحينئذٍ ينتقل من الجدال إلى الجلاد ، ويقاتلون بما يمنعهم ويردعهم ، قال جابر : أمرنا من خالف الله أن نضربه بالسيف ، قال مجاهد : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } يعني أهل الحرب ومن امتنع منهم من أداء الجزية ، وقوله تعالى : { وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ } يعني إذا أخبروا بما لا نعلم صدقه ولا كذبه فهذا لا نقدم على تكذيبه لأنه قد يكون حقاً ولا تصديقه فلعله أن يكون باطلاً ، ولكن نؤمن به إيماناً مجملاً ، أخرج البخاري رحمه الله عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسرونها بالعربية لأهل الإِسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم { وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } « وروى ابن جرير عن ( عبد الله بن مسعود ) قال : لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء ، فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، إما أن تكذبوا بحق أو تصدقوا بباطل ، فإنه ليس أحد من أهل الكتاب إلاّ وفي قلبه تالية تدعوه إلى دينه كتالية المال ، وروى البخاري عن ابن عباس قال : كيف تسألون أهل الكتاب عن شيء وكتابكم الذي أنزل إليكم على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحدث ، تقرأونه محضاً لم يشب ، وقد حدثكم أن أهل الكتاب بدلوا وغيروا وكتبوا بأيديهم الكتاب ، وقالوا : هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً؟ ألا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مسألتهم؟ لا والله ما رأينا منهم رجلاً يسألكم عن الذي أنزل عليكم . وحدّث معاوية رهطاً من قريش بالمدينة وذكر كعب الأحبار ، فقال : إن كان من أصدق هؤلاء المحدثين الذين يحدثون عن أهل الكتاب ، وإن كنا مع ذلك لنبلو عليه الكذب .(1/1948)
وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ فَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمِنْ هَؤُلَاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الْكَافِرُونَ (47) وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ (49)
يقول الله تعالى كما أنزلنا الكتب على من قبلك يا محمد من الرسل ، كذلك أنزلنا إليك هذا الكتاب ، وقوله تعالى : { فالذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي الذين أخذوه فتلوه حق تلاوته ، من أحبارهم العلماء الأذكياء ك ( عبد الله بن سلام ) و ( سلمان الفارسي ) وأشباههما ، وقوله تعالى : { وَمِنْ هؤلاء مَن يُؤْمِنُ بِهِ } يعني العرب من قريش وغيرهم ، { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الكافرون } أي ما يكذب بها ويجحد حقها إلاّ من يستر الحق بالباطل ، ثم قال تعالى : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } أي قد لبثت في قومك يا محمد من قبل أن تأتي بهذا القرآن عمراً لا تقرأ كتاباً ولا تحسن الكتابة ، بل كل أحد من قومك وغيرهم يعرف أنك رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ، وهكذا صفته في الكتب المتقدمة ، كما قال تعالى : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر } [ الأعراف : 157 ] الآية ، وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم دائماً إلى يوم الدين لا يحسن الكتابة ولا يخط سطراً ولا حرفاً بيده ، بل كان له كتّاب يكتبون بين يده الوحي والرسائل إلى الأقاليم ، وما أورده بعضهم من الحديث أنه لم يمت صلى الله عليه وسلم حتى تعلم الكتابة فضعيف لا أصل له ، قال الله تعالى : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ } أي تقرأ { مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ } لتأكيد النفي { وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } تأكيداً أيضاً وخرج مخرج الغالب ، كقوله تعالى : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] .
وقوله تعالى : { إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون } أي لو كنت تحسنها لارتاب بعض الجهلة من الناس ، فيقول : إنما تعلم هذا من كتب قبله مأثورة عن الأنبياء ، وقد قالوا ذلك مع علمهم بأنه أمي لا يحسن الكتابة ، { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] ، قال الله تعالى : { قُلْ أَنزَلَهُ الذي يَعْلَمُ السر فِي السماوات والأرض } [ الفرقان : 6 ] الآية ، وقال هاهنا { بَلْ هُوَ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الذين أُوتُواْ العلم } أي هذا القرآن آيات بينة واضحة في الدلالة على الحق ، يحفظه العلماء ، يسره الله عليهم حفظاً وتلاوة وتفسيراً ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ يَسَّرْنَا القرآن لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } [ القمر : 17 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من نبي إلاّ وقد أعطى ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً » ، وفي « صحيح مسلم » يقول الله تعالى : « إني مبتليك ومبتل بك ، ومنزلٌ عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظاناً » ، أي لأنه محفوظ في الصدور ، ميسر على الألسنة ، مهيمن على القلوب ، معجز لفظاً ومعنى ، ولهذا جاء في الكتب المتقدمة في صفة هذه الأمة ( أناجيلهم في صدورهم ) ، وقوله تعالى : { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ الظالمون } أي ما يكذب بها ويبخس حقها ويردها { إِلاَّ الظالمون } أي المعتدون المكابرون الذين يعلمون الحق ويحيدون عنه ، كما قال تعالى : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 96-97 ] .(1/1949)
وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51) قُلْ كَفَى بِاللَّهِ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيدًا يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ آمَنُوا بِالْبَاطِلِ وَكَفَرُوا بِاللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (52)
يقول تعالى مخبراً عن المشركين في تعنتهم ، وطلبهم آيات يعنون تشردهم إلى أن محمداً رسول الله ، كما أتى صالح بناقته ، قال الله تعالى : { قُلْ } يا محمد { إِنَّمَا الآيات عِندَ الله } أي إنما أمر ذلك إلى الله ، فإنه لو علم أنكم تهتدون لأجابكم إلى سؤالكم ، لأن هذا سهل عليه يسير لديه ، ولكنه يعلم منكم أنكم إنما قصدتم التعنت والامتحان ، فلا يجيبكم إلى ذلك ، كما قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا } [ الإِسراء : 59 ] ، وقوله : { وَإِنَّمَآ أَنَاْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } بعثت نذيراً لكم فعلي أن أبلغكم رسالة الله تعالى ، و { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتدي } [ الأعراف : 178 ] ، ثم قال تعالى مبيناً كثرة جهلهم وسخافة عقلهم ، حيث طلبوا آيات تدلهم على صدق محمد صلى الله عليه وسلم فيما جاءهم ، وقد جاءهم بالكتاب العزيز الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، الذي هو أعظم من كل معجزة ، إذ عجزت الفصحاء والبلغاء عن معارضته ، بل عن معارضة سورة منه ، فقال تعالى : { أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّآ أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكتاب يتلى عَلَيْهِمْ } أي أو لم يكفهم أية أنا أنزلنا عليك الكتاب العظيم الذي فيه خبر ما قبلهم ونبأ ما بعدهم وحكم ما بينهم ، وأنت رجل أمي لا تقرأ ولا تكتب ولم تخالط أحداً من أهل الكتاب ، فجئتهم بأخبار ما في الصحف الأولى ببيان الصواب مما اختلفوا فيه ، وبالحق الواضح البين الجلي ، كما قال تعالى : { أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بني إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 197 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ يَأْتِينَا بِآيَةٍ مِّن رَّبِّهِ أَوَلَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ مَا فِي الصحف الأولى } [ طه : 133 ] وفي الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم : « ما من الأنبياء من نبي إلاّ قد أعطي من الآيات مثله آمن عليه الشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة » وقد قال تعالى : { إِنَّ فِي ذلك لَرَحْمَةً وذكرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي إن في هذا القرآن { لَرَحْمَةً } أي بياناً للحق وإزاحة للباطل { وذكرى } بما فيه حلول النقمات ونزول العقاب بالمكذبين والعاصين لقوم يؤمنون ، ثم قال تعالى : { قُلْ كفى بالله بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ شَهِيداً } أي هو أعلم بما تفيضون فيه من التكذيب ، ويعلم ما أقول لكم من إخباري عنه بأنه أرسلني ، فلو كنت كاذباً عليه لانتقم مني ، كما قال تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين * فَمَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ } [ الحاقة : 44-47 ] ، وإنما أنا صادق عليه فما أخبرتكم به ، ولهذا أيدني بالمعجزات الواضحات والدلائل القاطعات { يَعْلَمُ مَا فِي السماوات والأرض } أي لا تخفى عليه خافية ، { والذين آمَنُواْ بالباطل وَكَفَرُواْ بالله أولئك هُمُ الخاسرون } أي يوم القيامة سيجزيهم على ما فعلوا ويقابلهم على ما صنعوا ، في تكذيبهم بالحق واتباعهم الباطل ، كذبوا برسل الله مع قيام الأدلة على صدقهم ، وآمنوا بالطواغيت والأوثان بلا دليل ، فسيجزيهم على ذلك إنه حكيم عليم .(1/1950)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجَاءَهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَيَقُولُ ذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)
يقول تعالى مخبراً عن جهل المشركين ، في استعجالهم عذاب الله أن يقع بهم ، وبأس الله أن يحل عليهم ، كما قال تعالى : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الأنفال : 32 ] ، وقال هاهنا : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب } أي لولا ما حتم الله من تأخير العذاب إلى يوم القيامة لجاءهم العذاب قريباً سريعاً كما استعجلوه ، ثم قال : { وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً } أي فجأة ، { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * يَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } أي يستعجلون العذاب وهو واقع بهم لا محالة ، ثم قال عزَّ وجلَّ : { يَوْمَ يَغْشَاهُمُ العذاب مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ } ، كقوله تعالى : { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } [ الأعراف : 41 ] ، وقال تعالى : { لَهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ . . وَمِن تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ } [ الزمر : 16 ] ، فالنار تغشاهم من سائر جهاتهم وهذا أبلغ في العذاب الحسي ، وقوله تعالى : { وَيِقُولُ ذُوقُواْ مَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } تهديد وتقريع وتوبيخ وهذا عذاب معنوي على النفوس ، كقوله تعالى : { يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النار على وُجُوهِهِمْ ذُوقُواْ مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ } [ القمر : 48-49 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يُدَعُّونَ إلى نَارِ جَهَنَّمَ دَعًّا * هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ الطور : 13-14 ] .(1/1951)
يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ (57) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفًا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَكَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لَا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)
هذا أمر من الله تعالى لعباده المؤمنين ، بالهجرة من البلد الذي لا يقدرون فيه على إقامة الدين ، إلى أرض الله الواسعة ، حيث يمكن إقامة الدين ، بأن يوحدوا الله ويعبدوه كما أمرهم ، ولهذا قال تعالى : { ياعبادي الذين آمنوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فاعبدون } . عن الزبير بن العوام قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « البلاد بلاد الله ، والعباد عباد الله ، فحيثما أصبت خيراً فأقم » ، ولهذا ما ضاق على المستضعفين بمكة مقامهم بها ، خرجوا مهاجرين إلى أرض الحبشة ليأمنوا على دينهم هناك ، فوجدوا خير المنزلين هناك ( أصحمة النجاشي ) ملك الحبشة رحمه الله تعالى ، فآواهم وأيدهم ، ثم بعد ذلك هاجر رسول الله الله صلى الله عليه وسلم والصحابة الباقون إلى المدينة المطهرة ، ثم قال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت ثُمَّ إِلَيْنَا تُرْجَعُونَ } أي أينما كنتم يدرككم الموت ، فكونوا في طاعة الله وحيث أمركم الله فهو خير لكم ، فإن الموت لا بد منه ولا محيد عنه ، ثم إلى الله المرجع والمآب ، فما كان مطيعاً له جازاه أفضل الجزاء ووافاه أتم الثواب ، ولهذا قال تعالى : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِّنَ الجنة غُرَفَاً تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أي لنسكننهم منازل عالية في الجنة ، تجري من تحتها الأنهار على اختلاف أصنافها ، من ماء وخمر وعسل ولبن ، يصرفونها ويجرونها حيث شاءوا ، { خَالِدِينَ فِيهَا } أي ما كثين فيها أبداً لا يبغون عنها حولاً ، { نِعْمَ أَجْرُ العاملين } نعمت هذه الغرف أجراً على أعمال المؤمنين { الذين صَبَرُواْ } أي على دينهم وهاجروا إلى الله ، ونابذوا الأعداء ، وفارقوا الأهل والأقرباء ، ابتغاء وجه الله ورجاء ما عنده .
وفي الحديث : « إن في الجنة غرفاً يرى ظاهراً من باطنها ، وباطنها من ظاهرها ، أعدها الله تعالى لمن أطعم الطعام ، وأطاب الكلام ، وتابع الصلاة والصيام ، وقام بالليل والناس نيام » { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } في أحوالهم كلها في دينهم ودنياهم ، ثم أخبرهم تعالى أن الرزق لا يختص ببقعة ، بل رزقه تعالى عام لخلقه حيث كانوا وأين كانوا ، بل كانت أرزاق المهاجرين حيث هاجروا أكثر وأوسع وأطيب ، فإنهم بعد قليل صاروا حكام البلاد في سائر الأقطار والأمصار ، ولهذا قال تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا } أي لا تطيق جمعه وتحصيله ولا تدخر شيئاً لغد ، { الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ } أي الله يقيّض لها رزقها على ضعفها وييسره عليها ، فيبعث إلى كل مخلوق من الرزق ما يصلحه حتى الذر في قرار الأرض ، والطير في الهواء ، والحيتان في الماء ، قال تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ هود : 6 ] ، وروى ابن أبي حاتم(1/1952)
« عن ابن عمر قال : خرجت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى دخل حيطان المدينة ، فجعل يلتقط من التمر ويأكل ، فقال لي : » يا ابن عمر مالك لا تأكل؟ « قال ، قلت : لا أشتهيه يا رسول الله ، قال : » لكني أشتهيه وهذا صبح رابعةٍ منذ لم أذق طعاماً ، ولم أجده ، ولو شئت لدعوت ربي فأعطاني مثل ملك كسرى وقيصر ، فكيف بك يا بان عمر إذا بقيت في قوم يخبثون رزق سنتهم بضعف اليقين؟ « قال فوالله ما برحنا ولا رمنا حتى نزلت : { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السميع العليم } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن الله عزَّ وجلَّ لم يأمرني بكنز الدنيا ، ولا باتباع الشهوات ، فمن كنز دنياه يريد بها حياة باقية ، فإن الحياة بيد الله ، ألا وإني لا أكنز ديناراً ولا درهماً ولا أخبأ رزقاً لغد « ، وعن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » سافروا تربحوا ، وصوموا تصحوا واعزوا تغنموا « وقوله : { وَهُوَ السميع العليم } أي السميع لأقوال عباده { العليم } بحركاتهم وسكناتهم .(1/1953)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (62) وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (63)
يقول تعالى مقرراً أنه لا إله إلاّ هو ، لأن المشركين الذين يعبدون معه غيره معترفون بأنه المستقبل بخلق السماوات والأرض ، والشمس والقمر ، وتسخير الليل والنهار ، وأنه الخالق الرازق لعباده ، ومقدر آجالهم وأرزاقهم فتفاوت بينهم ، فمنهم الغني والفقير ، وهو العليم بما يصلح كلا منهم ومن يستحق الغنى وممن يستحق الفقر ، فذكر أنه المستقل بخلق الأشياء المتفرد بتدبيرها ، فإذا كان الأمر كذلك فلم يعبد غيره؟ ولم يتوكل على غيره؟ فكما أنه الواحد في ملكه ، فليكن الواحد في عبادته ، وكثيراً ما يقرر تعالى « مقام الإلية » بالاعتراف بتوحيد الربوبية ، وقد كان المشركون يعترفون بذلك ، كما كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلاّ شريكاً هو لك ، تملكه وما ملك .(1/1954)
وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (64) فَإِذَا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66)
يقول تعالى مخبراً عن حقارة الدنيا وزوالها وانقضائها ، وأنها لا دوام لها وغاية ما فيها لهو ولعب { وَإِنَّ الدار الآخرة لَهِيَ الحيوان } أي الحياة الدائمة ، الحق الذي لا زوال له ولا انقضاء ، بل هي مستمرة أبد الآباد ، وقوله تعالى : { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي لآثروا ما يبقى على ما يفنى . ثم أخبر تعالى عن المشركين أنهم عند الاضطرار يدعونه وحده لا شريك له ، فلا يكون هذا منهم دائماً { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } ، كقوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ } [ الإِسراء : 67 ] الآية ، وقال هاهنا : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } . وقد ذكر محمد ابن إسحاق عن ( عكرمة بن أبي جهل ) أنه لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة ، ذهب فاراً منها ، فلما ركب في البحر ليذهب إلى الحبشة اضطربت بهم السفينة ، فقال أهلها : يا قوم أخلصوا لربكم الدعاء ، فإنه لا ينجي هاهنا إ لاّ هو ، فقال عكرمة : والله لئن كان لا ينجي في البحر غيره فإنه لا ينجي في البر أيضاً غيره ، اللهم لك عليَّ عهد لئن خرجت لأذهبن فلأضعن يدي في يد محمد ، فلأجدنه رؤوفاً رحيماً ، فكان كذلك ، وقوله تعالى : { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ وَلِيَتَمَتَّعُواْ } هذه اللام ( لام العاقبة ) لأنهم لا يقصدون ذلك ولا شك أنها كذلك بالنسبة إليهم ، وأما بالنسبة إلى تقدير الله عليهم ذلك ، وتقييضه إياهم لذلك فهي لام التعليل ، وقد قدمنا تقرير ذلك في قوله : { لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوّاً وَحَزَناً } [ القصص : 8 ] .(1/1955)
أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا وَيُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْكَافِرِينَ (68) وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)
يقول تعالى ممتناً على قريش فيما أحلهم من حرمة الذي جعله للناس سواء العاكف فيه والباد ، ومن دخله كان آمناً ، فهو أمن عظيم ، والأعراب حوله ينهب بعضهم بعضاً ويقتل بعضهم بعضاً ، وكما قال تعالى : { لإِيلاَفِ قُرَيْشٍ } [ قريش : 1 ] إلى لآخر السورة ، وقوله تعالى : { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ الله يَكْفُرُونَ } أي أفكأن شكرهم على هذه النعمة العظيمة أن أشركوا به وعبدو معه غيره من الأصنام والأنداد ، { بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار } [ إبراهيم : 28 ] فكفروا بني الله ورسوله فكذبوه ، فقاتلوه ، فأخرجوه من بين أظهرهم ، ولهذا سلبهم الله تعالى ما كان أنعم عليهم ، وقتل من قتل منهم ببدر ، ثم صارت الدولة لله ولرسوله وللمؤمنين ، ففتح الله على رسوله مكة وأرغم انافهم وأذل رقابهم ، ثم قال تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بالحق لَمَّا جَآءَهُ } ؟ أي لا أحد أشد عقوبة ممن كذب على الله ، فقال إن الله أوحى إليه ولم يوح إليه شيء ، وهكذا لا أحد أشد عقوبة ممن كذب بالحق لما جاءه ، فالأول مفتر والثاني مكذب ، ولهذا قال تعالى : { أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ } . ثم قال تعالى : { والذين جَاهَدُواْ فِينَا } يعني الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه وأتباعه إلى يوم الدين { لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا } أي لنبصرنهم سبلنا أي طرقنا في الدنيا والآخرة ، وقوله : { وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين } .
روى ابن أبي حاتم يسنده عن الشعبي قال ، قال عيسى ابن مريم عليه السلام : إنما الإِحسان أن تحسن إلى من أساء إليك ، ليس الإحسان أن تحسن إلى من أحسن إليك ، والله أعلم .(1/1956)
الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4) بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لَا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ (7)
نزلت هذه الآيات حين غالب الفرس على بلاد الشام ، وما والاها من بلاد الجزيرة وأقاصي بلاد الروم ، فاضطر ملك الروم حتى لجأ إلى القسطنطينية وحوصر فيها مدة طويلة ، ثم عادت الدولة لهرقل كما سيأتي . عن بن عباس رضي الله عنهما قال : « كان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم لأنهم أصحاب أوثان ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل الكتاب ، فذكر لأبي بكر ، فذكره أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إما إنهم سيلغبون « ، فذكره أبو بكر لهم ، فقالوا : اجعل بيننا وبينك أجلاً ، فإن ظهرنا كان لنا كذا وكذا ، وإن ظهرتم كان لكم كذا وكذا ، فجعل أجل خمس سنين ، فلم يظهروا ، فذكر ذلك أبو بكر لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » ألا جعلتها إلى دون العشر؟ « » ثم ظهرت الروم بعد ، قال فذلك قوله : { الم * غُلِبَتِ الروم * في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ } . حديث آخر : عن مسروق قال ، قال عبد الله : خمس قد مضين : الدخان ، واللزام ، والبطشة ، والقمر ، والروم . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : « كانت فارس ظاهرة على الروم ، وكان المشركون يحبون أن تظهر فارس على الروم ، وكان المسلمون يحبون أن تظهر الروم على فارس ، لأنهم أهل كتاب ، وهم أقر إلى دينهم ، فلما نزلت : { الم * غُلِبَتِ الروم * في أَدْنَى الأرض وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِين } قالوا : يا أبا بكر إن صاحبك يقول : إن نقامرك ، فبايعوه على أربع قلائص إلى سبع سنين فمضت السبع ، ولم يكن شيء ، ففرح المشركون بذلك ، فشق على المسلمين فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : » ما بضع سنين عندكم «؟ قالوا : دون العشر ، قال : » اذهب فزايدهم وازدد سنتين في الأجل « قال : فما مضت السنتان حتى جاءت الركبان بظهور الروم على فارس ، ففرح المؤمنون بذلك » وأنزل الله تعالى : { الم * غُلِبَتِ الروم } إلى قوله { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } .
وقال عكرمة : « لقي المشركون أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إنكم أهل كتاب ، والنصارى أهل كتاب ، ونحن أميون وقد ظهر إخواننا من أهل فارس على إخوانكم من أهل الكتاب ، وإنكم إن قاتلتمونا لنظهرن عليكم ، فأنزل الله تعالى : { الم * غُلِبَتِ الروم } إلى قوله { يَنصُرُ مَن يَشَآءُ } فخرج أبو بكر الصدّيق إلى الكفار فقال : أفرحتم بظهور إخوانكم على إخواننا ، فلا تفرحوا ولا يقرن الله أعينكم ، فوالله ليظهرن الله الروم على فارس ، أخبرنا بذلك نبينا صلى الله عليه وسلم ، فقام إليه ( أبي بن خلف ) فقال : كذبت يا أبا فضيل ، فقال له أبو بكر : أنت أكذب يا عدو الله ، فقال : أناجيك عشر قلائص من وعشر قلائص منك ، فإن ظهرت الروم على فارس غرمت ، وإن ظهرت فارس غرمت إلى ثلاث سنين ، ثم جاء أبو بكر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره فقال : » ما هكذا ذكر إنما البضع ما بين الثلاث إلى التسع فزايده في الخطر ، ومادَّه في الأجل « ، فخرج أبو بكر ، فلقي أبياً فقال : لعلك ندمت؟ فقال : لا ، تعال أزايدك في الخطر وأمادك في الأجل ، فاجعلها مائة قلوص إلى تسع سنين ، قال : قد فعلت ، فظهرت الروم على فارس قبل ذلك فغلبهم المسلمون » .(1/1957)
ولنتكلم على كلمات هذه الآيات الكريمات ، فقوله تعالى : { الم * غُلِبَتِ الروم } قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السورة في أول سورة البقرة ، وأما الروم فهم من سلالة العيص بن إسحاق بن إبراهيم ، ويقال لهم بنو الأصفر ، وكانوا على دين اليونان ، واليونان من سلالة بافت بن نوح أبناء عم الترك ، وكانوا يعبدون الكواكب السيارة ، وهم الذين أسسوا دمشق وبنوا معبدها ، فكان الروم على دينهم إلى بعد مبعث المسيح بنحو من ثلثمائة سنة ، وكان من ملك منهم الشام مع الجزيرة يقال له ( قيصر ) ، فكان أول من دخل في دين النصارى من الروم ( قسطنطين ) ، وأمه مريم الهيلانية من أرض حرَّان كانت قد تنصرت قبله فدعته إلى دينها ، وكان قبل ذلك فيلسوفاً ، فتابعها ، واجتمعت به النصارى وتناظروا في زمانه مع عبد الله بن أريوس ، واختلفوا اختلافاً كثيراً لا ينضبط ، إلاّ أنه اتفق مع جماعتهم ثلثمائة وثمانية عشر أسقفاً ، فوضعوا لقسطنطين العقيدة ، وهي التي يسمونها ( الأمانة الكبيرة ) وإنما هي الخيانة الحقيرة ، ووضعوا له القوانين يعنون كتب الأحكام من تحريم وتحليل وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، وغيّروا دين المسيح عليه السلام ، وزادوا فيه ونقصوا منه ، فصلوا إلى المشرق ، واعتاضوا عن السبت بالأحد ، وعبدوا الصليب ، وأحلوا الخنزير ، واتخذوا أعياداً أحدثوها ، كعيد الصليب والقداس ، والغطاس وغير ذلك من البواعيث والشعانين ، وجعلوا له الباب وهو كبيرهم ، ثم البتاركة ، ثم المطارنة ، ثم الأساقفة والقساوسة ، ثم الشمامسة؛ وابتدعوا الرهبانية ، وبنى لهم الملك الكنائس والمعابد ، وأسس المدينة المنسوبة إليه وهي القسطنطينية ، يقال : إنه بنى في أيامه اثني عشر ألف كنيسة ، وبنى بيت لحم بثلاث محاريب ، وبينت أمه القمامة ، وهؤلاء هم الملكية ، يعنون الذين هم على دين الملك؛ ثم حدثت اليعقوبية أتباع يعقوب الأسكاف ثم النسطورية أصحاب نسطورا ، وهم فرق وطوائف كثيرة ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنهم افترقوا على اثنتين وسبعين فرقة » والغرض أنهم استمروا على النصرانية كلما هلك قيصر خلفه آخر بعدهه حتى آخرهم ( هرقل ) وكان من عقلاء الرجال ، ومن أحزم الملوك وأدهاهم وأبعدهم غوراً وأقصاهم رأياً ، فتملك عليهم في رياسة عظيمة وأبهة كثيرة ، فناوأه كسرى ملك الفرس ، وكانت مملكته أوسع من مملكة قيصر ، وكانوا مجوساً يعبدون النار ، فتقدم عن عكرمة أنه قال : بعث إليه نوابه وجيشه فقاتلوه ، والمشهور أن كسرى غزاه بنفسه في بلاده فقهره وكسره وقصره حتى لم يبق معه سوى مدينة القسطنطينية فحاصره بها مدة طويلة حتى ضاقت عليه ، ولم يقدر كسى على فتح البلد ولا أمكنه ذلك لحصانتها ، لأن نصفها من ناحية البر ونصفها الآخر من ناحية البحر ، فكانت تأتيهم الميرة والمدد من هنالك ، ثم كان غلب الروم لفارس بعد بضع سنين وهي تسع ، فإن البضع في كلام العرب ما بين الثلاث إلى التسع .(1/1958)
وقوله تعالى : { لِلَّهِ الأمر مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ } أي من قبل ذلك ومن بعد : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله } أي للروم أصحاب قيصر ملك الشام على فارس أصحاب كسرى ، وهم المجوس ، وكانت نصرة الروم على فارس يوم وقعة بدر في قول طائفة كثيرة من العلماء كابن عباس والثوري والسدي وغيرهم ، وقد ورد في الحديث عن أبي سعيد قال : لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين ففرحوا به ، وأنزل الله : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم } ، وقال الآخرون : بل كان نصر الروم على فارس عام الحديبية ، والأمر في هذا سهل قريب ، إلاّ أنه لما انتصرت فارس على الروم ساء ذلك المؤمنين ، فلما انتصرت الروم على فارس فرح المؤمنون بذلك لأن الروم أهل كتاب في الجملة فهم أقرب إلى المؤمنين من المجوس ، كما قال تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى } [ المائدة : 82 ] إلى قوله : { رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين } [ المائدة : 83 ] . وقال تعلى هاهنا : { وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ المؤمنون * بِنَصْرِ الله يَنصُرُ مَن يَشَآءُ وَهُوَ العزيز الرحيم } ، عن العلاء بن الزبير الكلابي عن أبيه قال : رأيت غلبة فارس الروم ، ثم رأيت غلبة الروم فارس ، ثم رأيت غلبة المسلمين فارس والروم كل ذلك في خمس عشرة سنة . وقوله تعالى : { وَهُوَ العزيز } أي في اتصاره وانتقامه من أعدائه ، { الرحيم } بعباده المؤمنين ، وقوله تعلى : { وَعْدَ الله لاَ يُخْلِفُ الله وَعْدَهُ } أي هذا الذي أخبرناك به يا محمد من أنا سننصر الروم على فارس وعد من الله حق ، وخبر صدق لا يخلف ، ولا بد من كونه ووقوعه ، لأن الله قد جرت سنته أن ينصر أقرب الطائفتين المقتتلتين إلى الحق ويجعل لها العاقبة ، { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أي بحكم الله في كونه وأفعاله المحكمة الجارية على وقف العدل ، وقوله تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ } أي أكثر الناس ليس لهم علم إلاّ بالدنيا وأكسابها وشؤونها وما فيها ، فهم حذاف أذكياء في تحصيلها ووجوه مكاسبها ، وهم غافلون في أمور الدين وما ينفعهم في الدار الآخرة ، كأن أحدهم مغفل لا ذهن له ولا فكرة ، قال الحسن البصري : والله ليبلغ من أحدهم بدنياه أنه ثقلب الدرهم على ظفره فيخبرك بوزنه وما يحسن أن يصلي ، وقال ابن عباس في قوله تعالى : { يَعْلَمُونَ ظَاهِراً مِّنَ الحياة الدنيا وَهُمْ عَنِ الآخرة هُمْ غَافِلُونَ } يعني الكفار يعرفون عمران الدنيا وهم في أمر الدين جهال .(1/1959)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ مَا خَلَقَ اللَّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَأَجَلٍ مُسَمًّى وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ (8) أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الَّذِينَ أَسَاءُوا السُّوأَى أَنْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ وَكَانُوا بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ (10)
يقول تعالى منبهاً على التفكير في مخلوقاته الدالة على وجوده ، وأنه لا إله غيره ولا رب سواه ، { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ في أَنفُسِهِمْ } يعني به النظر والتدبر والتأمل لخلق الله الأشياء ، من العالم العلوي و السفلي ، وما بينهما من المخلوقات المتنوعة ، والأجناس المختلفة ، فيعلموا أنها ما خلقت سدى ولا باطلاً بل بالحق ، وأنها مؤجلة إلى أجل مسمى وهو يوم القيامة ، ولهذا قال تعالى : { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ لَكَافِرُونَ } ، ثمن نبههم على صدق رسله فيما جاءوا به عنه ، بما أيدهم به من المعجزات والدلالات الواضحات ، من إهلاك من كفر بهم ، ونجاة من صدقهم ، فقال تعالى : { أَوَلَمْ يَسيرُواْ فِي الأرض } أي بأفهامهم وعقولهم ونظرهم وسماع أخبار الماضين ، ولهذا قال : { فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ كانوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً } أي كانت الأمم الماضية والقرون السالفة أشد منكم قوة وأكثر أموالاً وأولاداً ، ومكنوا في الدنيا تمكيناً لم تبلغوا إليه ، وعمروا فيها أعماراً طوالاً فعمروها أكثر منكم ، واستغلوها أكثر من استغلالكم ، ومع هذا فلما جاءتهم رسلهم بالبينات وفرحوا بما أوتوا أخذه الله بذنبوبهم وما كان لهم من الله من واق ، ولا حالت أموالهم وأولادهم بينهم وبين بأس الله ، ولا دفعوا عنه مثقال ذرة ، وما كان الله ليظلمهم فيما أحل بهم من العذاب والنكال ، { ولكن كانوا أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } حيث كذبوا بآيات الله واستهزأوا بها ، وما ذاك إلاّ بسبب ذنوبهم السالفة وتكذيبهم المتقدم ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ كَانَ عَاقِبَةَ الذين أَسَاءُواْ السواءى أَن كَذَّبُواْ بِآيَاتِ الله وَكَانُواْ بِهَا يَسْتَهْزِئُونَ } ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] ، وقال تعالى : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] أي كانت السوأى عاقبتهم لأنهم كذبوا بآيات الله وكانوا بها يستهزئون .(1/1960)
اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكَائِهِمْ شُفَعَاءُ وَكَانُوا بِشُرَكَائِهِمْ كَافِرِينَ (13) وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15) وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ (16)
يقول تعالى : { الله يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي كما هو قادر على بداءته فهو قادر على إعادته ، { ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي يوم القيامة فيجازي كل عامل بعمله ، ثم قال : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُبْلِسُ المجرمون } قال ابن عباس : ييأس المجرمون ، وقال مجاهد : يفتضح المجرمون ، وفي رواية يكتئب المجرمون ، { وَلَمْ يَكُن لَّهُمْ مِّن شُرَكَآئِهِمْ شُفَعَاءُ } أي ما شفعت فيهم الآلهة التي كانوا يعبدونها من دون الله تعالى وكفروا بهم وخانوهم أحوج ما كانوا إليهم ، ثم قال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } قال قتادة : هي والله الفرقة التي لا اجتماع بعدها ، يعني أنه إذا رفع هذا إلى عليين وخفض هذا إلى أسفل سافلين ، فذلك آخر العهد بينهما ، ولهذا قال تعالى : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ } قال مجاهد وقتادة : ينعمون .(1/1961)
فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَلَهُ الْحَمْدُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَعَشِيًّا وَحِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَيُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (19)
هذا تسبيح منه تعالى لنفسه المقدسة ، وإرشاد لعباده إلى تسبيحه وتحميده في هذه الأوقات المتعاقبة ، الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه ، عند المساء وهو إقبال الليل بظلامه ، وعند الصباح وهو إسفار النهار بضيائه ، ثم اعترض بحمده مناسبة للتسبيح وهو التحميد ، فقال تعالى : { وَلَهُ الحمد فِي السماوات والأرض } أي هو المحمود على ما خلق في السماوات والأرض ، ثم قال تعالى : { وَعَشِيّاً وَحِينَ تُظْهِرُونَ } فالعَشاء هو شدة الظلام والإظهار هو قوة الضياء ، كما قال تعالى : { والنهار إِذَا جَلاَّهَا * والليل إِذَا يَغْشَاهَا } [ الشمس : 3-4 ] ، وقال تعالى : { والليل إِذَا يغشى * والنهار إِذَا تجلى } [ الليل : 1-2 ] ، وقال تعالى : { والضحى * والليل إِذَا سجى } [ الضحى : 1-2 ] والآيات في هذا كثيرة . وفي الحديث : « ألا أخبركم لم سمى الله إبراهيم خليله الذي وفَّى ، لأنه كان يقول كلما أصبح وكلما أمسى : سبحان الله حين تمسون وحين تصبحون وله الحمد في السماوات والأرض وعشياً وحين تظهرون » وقوله تعالى : { يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } هو ما نحن فيه من قدرته على خلق الأشياء المتقابلة ، فإنه يذكر خلقه الأشياء وأضدادها ليدل على كمال قدرته ، فمن ذلك إخراج النبات من الحب ، والحب من النبات ، والبيض من الدجاج ، والدجاج من البيض ، والإنسان من النطفة ، والنفطة من الإِنسان ، والمؤمن من الكافر ، والكافر من المؤمن . وقوله تعالى : { وَيُحْي الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } ، كقوله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } [ يس : 33 ] ، وقال تعالى : { وَتَرَى الأرض هَامِدَةً فَإِذَآ أَنزَلْنَا عَلَيْهَا المآء اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] ، ولهذا قال : { وَكَذَلِكَ تُخْرَجُونَ } .(1/1962)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ إِذَا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)
يقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ } الدالة على عظمته وكمال قدرته ، أنه خلق أباكم آدم من تراب ، { ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } فأصلكم من تراب ، ثم من ماء مهين ، ثم تصور فكان علقة ، ثم مضغة ، ثم صار عظاماً ، شكله على شكل الإنسان ثم كسا الله تلك العظام لحماً ، ثم نفخ فيه الروح فإذا هو سميع بصير ، ثم كلما طال عمره تكاملت قواه وحركاته حتى آل به الحال إلى أن صار يبني المدائن والحصون ، ويدور أقطار الأرض ، ويكتسب ، ويجمع الأموال ، وله فكرة وغور ، ودهاء ومكر ، ورأي وعلم ، واتساع في أمور الدنيا والآخرة كل بحسبه ، فسبحان من أقدرهم وسيّرهم وسخّرهم وصرفهم في فنون المعايش والمكاسب وفاوت بينهم في العلوم والفكر ، والحسن والقبح ، والغنى والفقر ، والسعادة والشقاوة ، ولهذا قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِّن تُرَابٍ ثُمَّ إِذَآ أَنتُمْ بَشَرٌ تَنتَشِرُونَ } . عن أبي موسى الأشعري قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله خلق آدم من قبضة قبضها من جميع الأرض ، فجاء بنو آدم على قدر الأرض ، جاء منهم الأبيض والأحمر والأسود وبين ذلك ، والخبيث والطيب والسهل والحزن وبين ذلك » وقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } أي خلق لكم من جنسكم إناثاً تكون لكم أزواجاً { لتسكنوا إِلَيْهَا } ، كما قال تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } [ الأعراف : 189 ] يعني بذلك حواء خلقها الله من آدم من ضلعه الأيسر ، ولو أنه تعالى جعل بني آدم كلهم ذكوراً ، وجعل إناثهم من جنس آخر من غيرهم ، إما من جان أو حيوان ، لما حصل هذا الائتلاف بينهم وبين الأزواج ، بل كانت تحصل نفرة لو كانت الأزواج من غير الجنس ، ثم من تمام رحمته ببني آدم أن جعل أزواجهم من جنسهم ، وجعل بينهم . وبينهن { مَّوَدَّةً } وهي المحبة { وَرَحْمَةً } وهي الرأفة { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } .(1/1963)
وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ (22) وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَابْتِغَاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23)
يقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ } الدالة على قدرته العظيمة { خَلْقُ السماوات والأرض } أي خلق السماوات في ارتفاعها واتساعها ، وشفوف أجرامها وزهارة كواكبها ، ونجومها الثوابت والسيارات ، وخلق الأرض في انخفاضها وكثافتها ، وما فيها من جبال وأودية ، وبحار وقفار وحيوان وأشحار ، وقوله تعالى : { واختلاف أَلْسِنَتِكُمْ } يعني اللغات ، فهؤلاء بلغة العرب ، وهؤلاء تتر ، وهؤلاء كرج ، وهؤلاء روم ، وهؤلاء فرنج ، وهؤلاء بربر ، وهؤلاء حبشة ، وهؤلاء هنود ، وهؤلاء عجم ، وهؤلاء صقالية ، وهؤلاء أكراد ، إلى غير ذلك مما لا يعلمه إلاّ الله من اختلاف لغات بني آدم واختلاف ألوانهم ، وهي حلاهم فجميع أهل الأرض بل أهل الدنيا منذ خلق الله آدم إلى قيام الساعة ، لك له عينان وحاجبان وأنف وجبين وفم وخدان وليس يشبه واحد منهم الآخر ، بل لا بد أن يفارقه بشيء من السمت أو الهيئة أو الكلام ، ظاهراً كان أو خفياً يظهر عند التأمل ، كل وجه منهم أسلوب بذاته ، وهيئة لا تشبه أخرى ، ولو توافق جماعة في صفة من جمال أو قبح ، لا بد من فارق بن كل واحد منهم وبين الآخر { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّلْعَالَمِينَ * وَمِنْ آيَاتِهِ مَنَامُكُم باليل والنهار وابتغآؤكم مِّن فَضْلِهِ } أي ومن الآيات ما جعل الله من صفة النوم في الليل والنهار ، فيه تحصل الراحة ، وسكون الحركة ، وذهاب الكلال والتعب ، وجعل لكم الانتشار والسعي في الأسباب والأسفار في النهار وهذا ضد النوم ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي يعون ، روى الطبراني عن زيد بن ثابت رضي الله عنه ، قال : « أصابني أرق من الليل فشكوت ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » قل : اللهم غارت النجوم ، وهدأت العيون ، وأنت حي قيوم ، يا حي يا قيوم ، أنم عيني ، وأهدىء ليلي « فقلتها فذهب عني » .(1/1964)
وَمِنْ آيَاتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذَا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25)
يقول تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ } الدالة على عظمته أنه { يُرِيكُمُ البرق خَوْفاً وَطَمَعاً } أي تارة تخافون مما يحدث بعده من أمطار مزعجة ، وصواعق متلفة وتارة ترجون وميضه وما يأتي به من المطر المحتاج إليه ، ولهذا قال تعالى : { وَيُنَزِّلُ مِنَ السمآء مَآءً فَيُحْيِي بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } أي بعدما كانت هامدة لا نبات فيها ولا شيء ، فلما جاءها الماء { اهتزت وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ } [ الحج : 5 ] ، وفي ذلك عبرة ودلالة واضحة عن المعاد وقيام الساعة ، ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ، ثم قال تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ } ، كقوله تعالى : { وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ الحج : 65 ] ، وقوله : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ } [ فاطر : 41 ] وكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا اجتهد في اليمين قال : والذي تقوم السماء والأرض بأمره ، أي هي قائمة ثابتة بأمره لها وتسخيره إياها ، ثم إذا كان يوم القيامة بدلت الأرض غير الأرض والسماوات ، وخرجت الأموات من قبورها أحياء ، بأمره تعالى ودعائه إياهم ، ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } أي من الأرض ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإِسراء : 52 ] ، وقال تعالى : { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ فَإِذَا هُمْ يَنظُرُونَ * فَإِذَا هُم بالساهرة } [ النازعات : 13-14 ] .(1/1965)
وَلَهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (26) وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَلَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلَى فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)
يقول تعالى : { وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض } أي ملكه وعبيده { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } أي خاضعون خاشعون طوعاً وكرهاً ، وقوله : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } ، قال ابن عباس : يعني أيسر عليه ، وقال مجاهد : الإعادة أهون عليه من البداءة ، والبداءة عليه هينة ، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يقول الله تعالى كذبني أبن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فقوله : لن يعيدني كما بدأني ، وليس أول الخلق بأهونّ عليّ من إعادته ، وأما شتمه إياي فقوله : اتخذ الله ولداً ، وأنا الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن في كفواً أحد » ، وقال آخرون : كلاهما بالنسبة إلى القدرة على السوء ، وقال العوفي عن ابن عباس : كلٌّ عليه هيِّن ، وقوله : { وَلَهُ المثل الأعلى فِي السماوات والأرض } ، قال ابن عباس : كقوله تعالى : { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ } [ الشورى : 11 ] وقال قتادة : مثله أنه لا إله إلاّ هو ولا رب غيره ، قوله : { وَهُوَ العزيز الحكيم } وهو العزيز الذي لا يغالب ولا يمانع ، بل قد غلب كل شيء ، وقهر كل شيء بقدرته وسلطانه { الحكيم } في أقواله وأفعاله ، وعن مالك في قوله تعالى : { وَلَهُ المثل الأعلى } قال : لا إله إلاّ الله .(1/1966)
ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ شُرَكَاءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاءٌ تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْوَاءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (29)
هذا مثل ضربه الله تعالى للمشركين ، العابدين معه غيره ، وهم مع ذلك معترفون أن شركاءه من الأصنام والأنداد عبيد له ملك له ، كما كانوا يقولون : لبيك لا شريك لك إلاّ شريكاً هو لك تملكه وما ملك ، فقال تعالى : { ضَرَبَ لَكُمْ مَّثَلاً مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أي تشهدونه وتفهمونه من أنفسكم { هَلْ لَّكُمْ مِّن مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِّن شُرَكَآءَ فِي مَا رَزَقْنَاكُمْ فَأَنتُمْ فِيهِ سَوَآءٌ } أي أيرضى أحدكم أن يكون عبداً شريكاً له في ماله وهو فيه على السواء؟ { تَخَافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنفُسَكُمْ } أي تخافون أن يقاسموكم الأموال ، قال أبو مجلز : إن مملوكك لا تخاف أن يقاسمك مالك وليس له ذاك ، كذلك الله لا شريك له ، والمعنى : أن أحدكم يأنف من ذلك فيكف تجعلون لله الأنداد من خلقه؟ وهذا كقوله تعالى : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } [ النحل : 62 ] فهم يأنفون من البنات ، وجعلوا الملائكة بنات الله ، فنسبوا إليه ما لا يرتضونه لأنفسهم ، فهذا أغلظ الكفر ، وهكذا في هذا القمام جعلوا له شركاء من عبيده وخلقه ، وأحدهم يأبى غاية الإباء ويأنف غاية الأنفة ، من ذلك أن يكون عبده شريكه في ماله يساويه فيه ولو شاء لقاسمه عليه ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، ولما كان التنبيه بمثل هذا المثل على براءته تعالى ونزاهته عن ذلك بطريق الأوْلى والأحرى ، قال تعالى : { كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ثم قال تعالى مبيناً أن المشركين إنما عبدوا غيره سفهاً من أنفسهم وجهلاً : { بَلِ اتبع الذين ظلموا } أي المشركون { أَهْوَآءَهُمْ } أي في عبادتهم الأنداد بغير علم ، { فَمَن يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ الله } ؟ أي فلا أحد يهديهم إذا كتب الله ضلالهم ، { بِغَيْرِ عِلْمٍ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } أي ليس لهم من قدرة الله منقذ ولا مجير .(1/1967)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَاتَّقُوهُ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَلَا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)
يقول تعالى : فسدِّدْ وجهك واستمر على الدين الذي شرعه الله لك من الحنيفية ، ملة إبراهيم الذي هداك الله لها ، وكملها لك غاية الكمال ، ولازم فطرتك السليمة التي فطر الله الخلق عليها ، فإنه تعالى فطر خلقه على معرفته وتوحيده ، وأنه لا إله غيره ، وقوله تعالى : { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } قال بعضهم : معناه لا تبدلوا خلق الله ، فتغيروا الناس عن فطرتهم التي فطرهم الله عليها ، فيكون خبراً بمعنى الطلب ، كقوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] وهو معنى حسن صحيح ، وقال آخرون هو خبر على بابه ، ومعناه أنه تعالى ساوى بين خلقه كلهم في الفطرة ، ولا تفاوت بين الناس في ذلك ، ولهذا قال ابن عباس { لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } أي لدين الله ، وقال رسول الله صلى الله عليه سلم : « ما من مولود يولد إلاّ على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه كما تنتج البهيمة جمعاء هل تحسون فيها من جدعا » ثم يقول : { فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدين القيم } . وروى الإِمام أحمد عن الأسود بن سريع قال : « أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وعزوت معه ، فأصبت ظفراً . فقاتل الناس يومئذٍ حتى قتلوا الولدان ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » ما بال أقوام جاوزهم القتل اليوم حتى قتلوا الذرية «؟ فقال رجل : يا رسول الله أما هم أبناء المشركين؟ فقال : » لا إنما خياركم أبناء المشركين ، ثم قال : لا تقتلوا ذرية ، لا تقتلوا ذرية ، وقال : كل نسمة تولد على الفطرة حتى يعرب عنها لسانها فأبواها يهودانها أو ينصرانها « » ، وعن جابر عن عبد الله قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل مولود يولد على الفطرة حتى يعرب عنه لسانه فإذا عبر عنه لسانه إما شاكراً وإما كفرواً » .
وروى الإمام أحمد عن عياض بن حمار : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب ذات يقوم فقال في خطبته : « إن ربي عزَّ وجلَّ أمرني أن أعلمكم ما جهلتهم مما عملني في يومي هذا : كل مال نحلته عبادي حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإنهم أتتهم الشياطين فأضلتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن لا يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ، ثم إن الله عزَّ وجلَّ نظر إلى أهل الارض فمقتهم عربهم وعجمهم إلاّ بقايا من أهل الكتاب ، وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرؤه نائماً ويقظان ، ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشاً ، فقلت : رب إذاً يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة ، قال : استخرجهم كما استخرجوك ، واغزهم نغزك ، وأنفق فسننفق عليك ، وابعث جيشاً نبعث خمسة مثله ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك ، قال : وأهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط متصدق موفق ، ورجل رحيم رقيق القلب لكل ذي قربى ومسلم ، ورجل عفيف متعفف ذو عيال . قال : وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا زِبْر له ، الذين هم فيكم تبع لا يبتغون أهلاً ولا مالاً ، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلاّ خانه ، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلاّ وهو يخادعك عن أهلك ومالك »(1/1968)
، وذلك البخيل والكذاب والشنظير الفحَّاش . وقوله تعالى : { ذَلِكَ الدين القيم } أي التمسك بالشريعة والفطرة السليمة هو الدين القيم المستقيم { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أي فلهذا لا يعرفه أكثر الناس فهم عنه ناكبون ، كما قال تعالى : { وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] ، وقال تعالى : { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله } [ الأَنعام : 116 ] الآية .
وقوله تعالى : { مُنِيبِينَ إِلَيْهِ } قال ابن جريج : أي راجعين إليه { واتقوه } أي خافوه وراقبوه { وَأَقِيمُواْ الصلاة } وهي الطاعة العظيمة { وَلاَ تَكُونُواْ مِنَ المشركين } أي بل كونوا من الموحدين المخلصين له العبادة لا يريدون بها سواه ، قال ابن جرير : مر عمر رضي الله عنه بمعاذ بن جبل ، فقال عمر : ما قوام هذه الأمة؟ قال معاذ ثلاث وهو المنجيات : الإِخلاص ، وهي الفطرة ، فطرة الله التي فطر الناس عليها ، والصلاة وهي الملة ، والطاعة وهي العصمة ، فقال عمر صدقت . وقوله تعالى : { مِنَ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِمَا لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ } أي لا تكونوا من المشركين الذين قد فرقوا دينهم أي بدلوه وغيروه وآمنوا ببعض وكفروا ببعض؛ كاليهود والنصارى والمجوس وعبد الأوثان وسائر أهل الأديان الباطلة مما عدا أهل الإِسلام ، كما قال تعالى : { إِنَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى الله } [ الأَنعام : 159 ] الآية ، فأهل الأديان قبلنا اختلوا فيما بينهم على آراء باطلة ، وكل فرقة منهم تزعم أنهم على شيء ، وهذه الأمة أيضاً اختلفوا فيما بينهم على نحل كلها ضلالة إلاّ واحدة ، وهم أهل السنّة والجماعة المتمسكون بكتاب الله وسنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبما كان عليه الصدر الأول من الصحابة والتابعين وأئمة المسلمين في قديم الدهر وحديثه ، كما رواه الحاكم في « مستدركه » أنه : « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الفرقة الناجية منهم قال : » من كان على ما أنا عليه اليوم وأصحابي « » .(1/1969)
وَإِذَا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذَا أَذَاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِمَا كَانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)
يقول تعالى مخبراً عن الناس أنهم في حال الاضطرار يدعون الله وحده لا شريك له ، وأنه إذا أسبغ عليهم النعم إذا فريق منهم يشركون بالله ويعبدون معه غيره ، وقوله تعالى : { لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ } هي لام العاقبة عند بعضهم ولام التعليل عند آخرين ، ولكنها تعليل لتقييض الله لهم ذلك ، ثم توعدهم بقوله : { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ، قال بعضهم : والله لو توعدني حارس لخفت منه ، فكيف والمتوعد هاهنا هو الذي يقول للشيء كن فيكون؛ ثم قال تعالى منكراً على المشركين فيما اختلفوا فيه من عبادة غيره بلا دليل ولا حجة ولا برهان : { أَمْ أَنزَلْنَا عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً } أي حجة ، { فَهُوَ يَتَكَلَّمُ } أي ينطق { بِمَا كَانُواْ بِهِ يُشْرِكُونَ } ؟ وهذا استفهام إنكاراً ، أي لم يكن لهم شيء من ذلك ، ثم قال تعالى : { وَإِذَآ أَذَقْنَا الناس رَحْمَةً فَرِحُواْ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ } ، هذا إنكار على الإنسان من حيث هو إلاّ من عصمه الله ووفقه ، فإن الإِنسان إذا أصابته نعمة بطر ، وإذا أصابته شدة قنط وأيس ، قال تعالى : { إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ هود : 11 ] أي صبروا في الضراء وعملوا الصالحات في الرخاء ، كما ثبت في الصحيح ، « عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلاّ كان خيراً له ، إن أصابته سراء شكر فكان خيراً له ، وإن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له » وقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } أي هو المتصرف الفاعل لذلك بحكمته وعدله فيوسع على قوم ويضيق على آخرين ، { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .(1/1970)
فَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ذَلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38) وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ رِبًا لِيَرْبُوَ فِي أَمْوَالِ النَّاسِ فَلَا يَرْبُو عِنْدَ اللَّهِ وَمَا آتَيْتُمْ مِنْ زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذَلِكُمْ مِنْ شَيْءٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)
يقول تعالى آمراً بإعطاء { ذَا القربى حَقَّهُ } أي من البر والصلة ، { والمسكين } وهو الذي لا يشء له ينفق عليه أو له شيء لا يقوم بكفايته ، { وابن السبيل } وهو المسافر المحتاج إلى نفقة وما يحتاج إليه في سفره ، { ذَلِكَ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ الله } أي النظر إليه يوم القيامة وهو الغاية القصوى ، { وأولئك هُمُ المفلحون } أي في الدنيا والآخرة ، ثم قال تعالى : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله } أي من أعطى عطية يريد أن يرد الناس عليه أكثر مما أهدى لهم فهذا لا ثواب له عند الله ، بهذا فسره ابن عباس ومجاهد والضحاك ، وهذا الصنيع مباح وإن كان لا ثواب فيه ، إلاّ أنه قد نهي عنه بقوله تعالى : { وَلاَ تَمْنُن تَسْتَكْثِرُ } [ المدثر : 6 ] أي لا تعط العطاء تريد أكثر منه ، قال تعالى : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن زَكَاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ الله فأولئك هُمُ المضعفون } أي الذين يضاعف الله لهم الثواب والجزاء كما جاء في الصحيح : « وما تصدق أحد بعدل تمرة من كسب طيب ، إلاّ وأخذها الرحمن بيمينه فيربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله ، حتى تصير التمرة أعظم من أُحُدٍ » ، وقوله عزَّ وجلَّ : { الله الذي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ } أي هو الخالق الرازق يخرج الإِنسان من بطن أمه عرياناً لا علم له ولا سمع ولا بصر ولا قوى ، ثم يرزقه جميع ذلك بعد ذلك ، والرياش واللباسي والمال والأملاك والمكاسب . وقوله تعالى : { ثُمَّ يُمِيتُكُمْ } أي بعد هذه الحياة ، { ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } أي يوم القيامة ، وقوله تعالى : { هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ } أي الذين تعبدونهم من دون الله { مَّن يَفْعَلُ مِن ذلكم مِّن شَيْءٍ } ؟ أي لا يقدر أحد منهم على فعل شيء من ذلك ، بل الله سبحانه وتعالى هو المستقبل بالخلق والرزق والإحياء والإماتة ، ثم يبعث الخلائق يوم القيامة ، ولهذا قال بعد هذا كله { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تعالى وتقدس ، وتنزّه وتعاظم عن أن يكون له شريك أو نظير ، أو ولد أو والد ، بل هو الأحد الفرد الصمد .(1/1971)
ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42)
قال ابن عباس وعكرمة : المراد بالبر هاهنا الفيافي ، وبالبحر الأمصار والقرى ، وفي رواية عنه : البحر الأمصار والقرى ما كان منها على جانب نهر ، وقال آخرون : بل المراد بالبر هو البر المعروف ، وبالبحر هو البحر المعروف ، وعن مجاهد { ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر } قال : فساد البر قتل ابن آدم ، وفساد البحر أخذ السفينة غصباً ، وقال عطاء : المراد بالبر ما فيه من المدائن والقرى ، وبالبحر جزائره ، والقول الأول أظهر وعليه الأكثرون؛ ومعنى قوله تعالى : { ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس } أي بان النقص في الزروع والثمار بسبب المعاصي ، وقال أبو العالية : من عصى الله في الأرض فقد أفسد في الأرض ، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة ، ولهذا جاء في الحديث : « لَحَدٍّ يقام في الأَرض أحب إلى أهلها من أن يمطروا أربعين صباحاً » والسبب في هذا أن الحدود إذا أقيمت انكف الناس عن تعاطي المحرمات ، وإذا تكرت المعاصي كان سبباً في حصول البركات من السماء والأرض؛ ولهذا إذا نزل عيسى ابن مريم عليه السلام في آخر الزمان ، قيل للأرض : أخرجي بركتك ، فيأكل من الرمانة الفئام من الناس ويستظلون بقحفها ، ويكفي لبن اللَّقُحة الجماعمة من الناس ، وما ذاك إلاّ ببركة تنفيذ شريعة محمد صلى الله عليه وسلم ، فكلما أقيم العدل كثرت البركات والخير ، ولهذا ثبت في « الصحيحين » : « أن الفاجر إذا مات يستريح منه العباد والبلاد والشجر والدواب » ، وقوله تعالى : { لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الذي عَمِلُواْ } الآية ، أي يبتليهم بنقص الأموال والأنفس والثمرات اختباراً منه لهم ومجازاة على صنيعهم { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } أي عن المعاصي ، كما قال تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168 ] ، ثم قال تعالى : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلُ } أي من قبلكم ، { كَانَ أَكْثَرُهُمْ مُّشْرِكِينَ } أي فانظر ما حل بهم من تكذيب الرسل وكفر النعم .(1/1972)
فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحًا فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (45)
يقول تعالى آمراً عباده بالمبادرة إلى الاستقامة في طاعته والمبادرة إلى الخيرات { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ القيم مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ مَرَدَّ لَهُ مِنَ الله } أي يوم القيامة إذا أراد كونه فلا راد له ، { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } أي يتفرقون ففريق في الجنة ، وفريق في السعير ، ولهذا قال تعالى : { مَن كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات مِن فَضْلِهِ } أي يجازيهم مجازاة الفضل ، الحسنة بعشر أمثالها إالى سبعمائة ضعف إلى ما يشاء الله { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الكافرين } ومع هذا هو العادل فيهم الذي لا يجور .(1/1973)
وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَانْتَقَمْنَا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (47)
يذكر تعالى نعمه على خلقه ، في إرساله الرياح مبشرات بين يدي رحمته ، بمجيء الغيث عقبها ، ولهذا قال تعالى : { وَلِيُذِيقَكُمْ مِّن رَّحْمَتِهِ } أي المطر الذي ينزله فيحيي به العباد والبلاد ، { وَلِتَجْرِيَ الفلك بِأَمْرِهِ } أي في البحر وإنما سيرها بالريح { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } أي في التجارات والمعايش والسير من قطر إلى قطر ، { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تشكرون الله على ما أنعم به عليكم ، من النعم الظاهرة والباطنة الي لا تعد ولا تحصى ، ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُم بالبينات فانتقمنا مِنَ الذين أَجْرَمُواْ } هذه تسلية من الله تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، بأنه وإن كذبه من قومه ، فقد كذبت الرسل المتقدمون ، مع ما جاءوا أممهم من الدلائل الواضحات ، ولكن انتقم الله ممن كذبهم وخالفهم ، وأنجى المؤمنين بهم ، { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } أي هو حق أوجبه على نفسه الكريمة تكرماً وتفضلاً ، كقوله تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } [ الأنعام : 54 ] ، عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من امرىء مسلم يرد عن عرض أخيه إلاّ كان حقاً على الله أن يرد عنه نار جهنم يوم القيامة » ثم تلا هذه الآية : { وَكَانَ حَقّاً عَلَيْنَا نَصْرُ المؤمنين } .(1/1974)
اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلَالِهِ فَإِذَا أَصَابَ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلَى آثَارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (50) وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحًا فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51)
يبين تعالى كيف يخلق السحاب ، الذي ينزل منه الماء ، فقال تعالى : { الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً } إما من البحر أو مما يشاء الله عزَّ وجلَّ ، { فَيَبْسُطُهُ فِي السمآء كَيْفَ يَشَآءُ } أي يمده فيكثره وينميه ، ينشىء سحابة ترى في رأي العين مثل الترس ، ثم يبسطها حتى تملأ أرجاء الأفق ، وتارة يأتي السحاب من نحو البحر ثقالاً مملوءة كما قال تعالى : { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } إلى قوله { كذلك نُخْرِجُ الموتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } [ الأعراف : 57 ] ، وكذلك قال هنا { الله الذي يُرْسِلُ الرياح فَتُثِيرُ سَحَاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السمآء كَيْفَ يَشَآءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفاً } ، قال مجاهد : يعني قطعاً وقال الضحاك : متراكماً ، وقال غيره : أسود من كثرة الماء تراه مدلهماً ثقيلاً قريباً من الأرض ، وقوله تعالى : { فَتَرَى الودق يَخْرُجُ مِنْ خِلاَلِهِ } أي فترى المطر وهو القطر ، يخرج من بين ذلك السحاب { فَإِذَآ أَصَابَ بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ إِذَا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } أي لحاجتهم إليه يفرحون بنزوله عليهم ووصوله إليهم ، وقوله تعالى : { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلِ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِّن قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ } معنى الكلام : أن هؤلاء القوم الذين أصابهم هذا المطر ، كانوا قانطين من نزول المطر إليهم ، فلما جاؤهم ، على فاقة فوقع منهم موقعاً عظيماً ، فبعدما كانت أرضهم مقشعرة هامدة ، أصبحت وقد اهتزت وربت ، وأنبتت من كل زوج بهيج ، ولهذا قال تعالى : { فانظر إلى آثَارِ رَحْمَتِ الله } يعني المطر { كَيْفَ يُحْيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ } ثم نبه بذلك على إحياء الأجساد بعد موتها وتفرقها وتمزقها ، فقال تعالى : { إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الموتى } أي إن الذي فعل ذلك لقادر على إحياء الأموات { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
ثم قال تعالى : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ } ، يقول تعالى : { وَلَئِنْ أَرْسَلْنَا رِيحاً } يابسة على الزرع والذي زرعوه ، ونبت وشب واستوى على سوقه { فَرَأَوْهُ مُصْفَرّاً } أي قد اصفر وشرع في الفساد { لَّظَلُّواْ مِن بَعْدِهِ } أي بعد هذا الحال { يَكْفُرُونَ } أي يجحدون ما تقدم إليهم من النعم ، كقوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ } [ الواقعة : 63 ] إلى قوله { بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ } [ الواقعة : 68 ] ، قال ابن أبن أبي حاتم عن عبيد الله بن عمرو قال : الرياح ثمانية : أربعة منها رحمة ، وأربعة منها عذاب ، فأما الرحمة : فالناشرات ، والمبشرات ، والمرسلات ، والذاريات؛ أما العذاب : فالعقيم ، والصرصر وهما في البر والعاصف والقاصف وهما في البحر ، فإذا شاء سبحانه وتعالى حركه بحركة الرحمة ، فجعله رخاء ورحمة وبشرى بين يدي رحمته ولاقحاً للسحاب تلقحه بحمله الماء كما يلقح الذكر الأنثى بالحمل ، وإن شاء حركه بحركة العذاب ، فجعله عقيماً وأودعه عذاباً أليماً وجعله نقمة على من يشاء من عباده ، فيجعله صرصراً وعاتياً ومفسداً لما يمر عليه؛ والرياح مختلفة في مهابها ، صبَا ودَبُور وجَنوب وشَمال ، وفي منفعتها وتأثيرها أعظم اختلاف ، فريح لينة تغذي النبات وأبدان الحيوان ، وأخرى تجففه ، وأخرى تهلكه وتعطيه ، وأخرى تسيره وتصله ، وأخرى توهنه وتضعفه .(1/1975)
فَإِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاءَ إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَمَا أَنْتَ بِهَادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)
يقول تعالى : كما أنك ليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها ، ولا تبلغ كلامك الصم الذين لا يسمعون ، كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق وردهم عن ضلالتهم ، بل ذلك إلى الله فإنه تعالى بقدرته يسمع الأموات إذا شاء ، ويهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، وليس ذلك لأحد سواه ، ولهذا قال تعالى : { إِن تُسْمِعُ إِلاَّ مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُمْ مُّسْلِمُونَ } أي خاضعون مستجيبون مطيعون ، فأولئك هم الذين يسمعون الحق ويتبعونه ، وهذا حال المؤمنين ، والأول مثل الكافرين ، كما قال تعالى : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ والموتى يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ الأَنعام : 36 ] ، وقد تواترت الآثار بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر؛ فروى ابن أبي الدنيا عن عائشة رضي الله عنها قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده إلاّ استأنس به ورد عليه حتى يقوم » ، وروي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « إذا مر الرجل بقبر يعرفه فسلم عليه رد عليه السلام » وقد شرع السلام على الموتى ، والسلام على من لم يشعر ولا يعلم بالمسلِّم محال ، وقد علّم النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا رأوا القبور أن يقولوا : سلام عليك أهل الديار من المؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية ، فهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد وإن لم يسمع المسلِّم الرد ، والله أعلم .(1/1976)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54)
ينبه تعالى على تنقل الإِنسان في أطوار الخلق ، حالاً بعد حال ، فأصله من تراب ، ثم من نطفة ، ثم من علقة ، ثم من مضغة ، ثم يصير عظاماً ، ثم تكسى العظام لحماً ، وينفخ فيه الروح ، ثم يخرج من بطن أمه ضعيفاً نحيفاً واهن القوى ، ثم يشب قليلاً قليلاً حتى يكون صغيراً ، ثم حدثاً ، ثم مراهقاً ، ثم شاباً وهو القوة بعد الضعف ثم يشرع في النقص فيكتهل ، ثم يشيخ ثم يهرم وهو الضعف بعد القوة فتضعف الهمة والحركة والبطش ، وتشيب اللمة وتتغير الصفات الظاهرة والباطنة ، ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } أي يفعل ما يشاء ويتصرف في عبيده بما يريد { وَهُوَ العليم القدير } .(1/1977)
وَيَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ مَا لَبِثُوا غَيْرَ سَاعَةٍ كَذَلِكَ كَانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهَذَا يَوْمُ الْبَعْثِ وَلَكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57)
يخبر تعالى عن جهل الكفار في الدنيا والآخرة ، ففي الدنيا فعلوا ما فعلوا من عبادة الأوثان ، وفي الآخرة يكون منهم جهل عظيم أيضاً ، فمنه : إقسامهم بالله أنهم ما لبثوا غير ساعة واحدة في الدنيا ، ومقصودهم بذلك عدم قيام الحجة عليهم ، وأنهم لم ينظروا حتى يعذر إليهم ، قال الله تعالى : { كَذَلِكَ كَانُواْ يُؤْفَكُونَ * وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم والإيمان لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله إلى يَوْمِ البعث } أي فيرد عليهم المؤمنون العلماء في الآخرة كما أقاموا عليهم حجة الله في الدنيا ، فيقولون لهم حين يحلفون ما لبثوا غير ساعة { لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ الله } أي في كتاب الأعمال { إلى يَوْمِ البعث } أي من يوم خلقتم إلى أن بعثتم ، { ولكنكم كُنتمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ، قال الله تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ } أي يوم القيامة { لاَّ ينفَعُ الذين ظَلَمُواْ مَعْذِرَتُهُمْ } أي اعتذارهم عما فعلوا ، { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي ولا هم يرجعون إلى الدنيا ، كما قال تعالى : { وَإِن يَسْتَعْتِبُواْ فَمَا هُم مِّنَ المعتبين } [ فصلت : 24 ] .(1/1978)
وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ (58) كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ (60)
يقول تعالى : { وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ } أي قد بينا لهم الحق ووضحناه لهم ، وضربنا لهم فيه الأمثال ليستبينوا الحق ويبتعوه ، { وَلَئِن جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَّيَقُولَنَّ الذين كفروا إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ } أي لو رأوا أي آية كانت ، سواء كانت باقتراحهم أو غيره لا يؤمنون بها ، ويعتقدون أنها سحر وباطل ، كما قالوا في انشقاق القمر ونحوه ، ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الذين لاَ يَعْلَمُونَ * فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ } أي اصبر على مخالفتهم وعنادهم ، فإن الله تعالى منجز لك ما وعدك ، من نصره إياك عليهم ، وجعله العاقبة لك ولمن اتبعك في الدنيا والآخرة { وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ } أي بل اثبت على ما بعثك الله به ، فإنه الحق الذي لا مرية فيه ، قال ابن أبي حاتم عن أبي يحيى : صلى علي بن أبي طالب رضي الله عنه صلاة الفجر فناداه رجل من الخوارج { لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } [ الزمر : 65 ] فأجابه علي رضي الله عنه وهو في الصلاة { فاصبر إِنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلاَ يَسْتَخِفَّنَّكَ الذين لاَ يُوقِنُونَ } .(1/1979)
الم (1) تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (2) هُدًى وَرَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
تقدم في أول سورة البقرة عامة الكلام على ما يتعلق بصدر هذه الآية ، وهو أنه سبحانه وتعالى جعل هذا القرآن هدى وشفاء ورحمة للمحسنين ، وهم الذين أحسنوا العمل في اتباع الشريعة ، فأقاموا الصلاة المفروضة بحدودها وأوقاتها ، وما يتبعها من نوافل راتبة وغير راتبة ، وآتوا الزكاة المفروضة عليهم إلى مستحقيها ، ووصلوا أرحامهم وقراباتهم ، وأيقنوا بالجزاء في الدار الآخرة ، فرغبوا إلى الله في ثواب ذلك ، لم يراؤوا ولا أرادوا جزاء من الناس ولا شكوراً ، فمن فعل ذلك كذلك فهو من الذين قال الله تعالى : { أولئك على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } أي على بصيرة وبينة ومنهج واضح جلي { وأولئك هُمُ المفلحون } أي في الدنيا الآخرة .(1/1980)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَيَتَّخِذَهَا هُزُوًا أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (6) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آيَاتُنَا وَلَّى مُسْتَكْبِرًا كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْرًا فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (7)
لما ذكر تعالى حال السعداء ، وهم الذين يهتدون بكتاب الله وينتفعون بسماعة عطف بذكر حال الأشقياء ، الذين أعرضوا عن الانتفاع بسماع كلام الله ، وأقبلوا على استماع المزامير والغناء ، بالألحان وآلات الطرب . روى ابن جرير عن أبي الصهباء البكري أنه سمع عبد الله بن مسعود وهو يسأل عن هذه الآية : { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } فقال عبد الله ابن مسعود : الغناء ، والله الذي لا إله إلاَ هو ، يرددها ثلاث مرات ، وقال الحسن البصري : نزلت هذه الآية { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله بِغَيْرِ عِلْمٍ } في الغناء والمزامير ، وقيل : أراد بقوله : { يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث } اشتراء المغنيات من الجواري ، قال ابن أبي حاتم عن أبي أمامة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « لا يحل بيع المغنيات ، ولا شراؤهن ، وأكل أثمانهن حرام ، وفيهن أنزل الله عزَّ وجلَّ عليَّ : { وَمِنَ الناس مَن يَشْتَرِي لَهْوَ الحديث لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } » ، قال الضحّاك : { لَهْوَ الحديث } يعني الشرك ، وبه قال ابن أسلم ، واختار ابن جرير أنه كل كلام يصد عن آيات الله واتباع سبيله ، وقوله : { لِيُضِلَّ عَن سَبِيلِ الله } إي إنما يصنع هذا للتخالف للإسلام وأهله ، وقوله تعالى : { وَيَتَّخِذَهَا هُزُواً } قال مجاهد : ويتخذ سبيل الله هزواً يستهزىء بها ، وقال قتادة : يعني ويتخذ آيات الله هزواً . وقول مجاهد أولى . وقوله : { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي كما استهانوا بآيات الله وسبيلهن أهينوا يوم القيامة في العذاب الدائم المستمر ، ثم قال تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِ آيَاتُنَا ولى مُسْتَكْبِراً كَأَن لَّمْ يَسْمَعْهَا كَأَنَّ في أُذُنَيْهِ وَقْراً } أي هذا المقبل على اللهو واللعب والطرب ، إذ تليت عليه الآيات القرآنية ، ولى عنها وأعرض وأدبر ، وتصامم وما به من صمم ، كأنه ما سمعها لأنه يتأذى بسماعها ، إذ لا انتفاع له بها ولا أرب له فيها ، { فَبَشِّرْهُ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي يوم القيامة يؤلمه كما تألم بسماع كتاب الله وآياته .(1/1981)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خَالِدِينَ فِيهَا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)
هذا ذكر مآل الآبرار ، من السعداء في الدار الآخرة ، الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ، وعملوا الأعمال الصالحة التابعة لشريعة الله { لَهُمْ جَنَّاتُ النعيم } أي يتنعمون فيها بأنواع الملاذ ، من المآكل والمشارب والملابس والمساكن ، والمراكب ، والنساء ، والنضرة ، والسماع ، الذي لم يخطر ببال أحد ، وهم في ذلك مقيمون دائماً لا يظعنون ولا يبغون عنها حولاً ، وقوله تعالى : { وَعْدَ الله حَقّاً } أي هذا كائن لا محالة ، لأنه وعد الله ، والله لا يخلف الميعاد لأنه الكريم المنان ، الفعال لما يشاء ، القادر على كل شيء ، { وَهُوَ العزيز } الذي قهر كل شيء ودان له كل شيء ، { الحكيم } في أقواله وأفعاله الذي جعل القرآن هدى للمؤمنين ، { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } [ فصلت : 44 ] .(1/1982)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (11)
يبين سبحانه بهذا قدرته العظيمة على خلق السماوات والأرض ، وما فيها وما بينهما ، فقال تعالى : { خَلَقَ السماوات بِغَيْرِ عَمَدٍ } قال الحسن وقتادة : ليس لها عمد ، وقال ابن عباس : لها عمد لا ترونها ، وقد تقدم تقرير هذه المسألة في أول سورة الرعد ، { وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ } يعني الجبال أرست الأرض وثقلتها لئلا تضطرب بأهلها على وجه الماء ، ولهذا قال : { أَن تَمِيدَ بِكُمْ } أي لئلا تميد بكم ، وقوله تعالى : { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } أي وذرأ فيها من أصناف الحيوانات مما لا يعلم عدد أشكالها وألوانها إلاّ الذي خلقها ، ولما قرر سبحانه أنه الخالق نبه على أنه الرازق ، بقوله : { وَأَنزَلْنَا مِنَ السمآء مَآءً فَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } أي من كل زوج من النبات { كَرِيمٍ } أي حسن المنظر ، وقال الشعبي : من دخل الجنة فهو كريم ومن دخل النار فهو لئيم ، وقوله تعالى : { هذا خَلْقُ الله } أي ذها الذي ذكره تعالى من خلق السماوات والأرض وما بينهما صادر عن فعل الله وخلقه وتقديره وحده لا شريك له في ذلك ، ولهذا قال تعالى : { فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الذين مِن دُونِهِ } أي مما تعبدون وتدعون من الأصنام والأنداد ، { بَلِ الظالمون } يعني المشركين بالله العابدين معه غيره { فِي ضَلاَلٍ } أي جهل وعمى { مُّبِينٍ } أي واضح ظاهر لا خفاء به .(1/1983)
وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12)
اختلف السلف في لقمان : هل كان نبياً أو عبداً صالحاً؟ على قولين : الأكثرون على الثاني ، قال ابن عباس : كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً ، وقال سعيد بن المسيب : كان لقمان من سودان مصر ذا مشافر ، أعطاه الله الحكمة ومنعه النبوة ، وقال ابن جرير عن خالد الربعي قال : كان لقمان عبداً حبشياً نجاراً ، فقال له مولاه : اذبح لنا هذه الشاة فذبحها ، قال أخرج أطيب مضغتين فيها ، فأخرج اللسان والقلب ، ثم مكث ما شاء الله ، ثم قال اذبح لنا هذه الشاة فذبحها فقال : أخرج أخبث مضغتين فيها ، فأخرج اللسان والقلب ، فقال له مولاه ، أمرتك أن تخرج أطيب مضغتين فيها فأخرجتهما ، وأمرتك أن تخرج أخبث مضغتين فيها فأخرجتهما : فقال لقمان؛ إنه ليس من شيء أطيب منهما إذا طابا ولا أخبث منهما إذا خبثا ، وقال مجاهد : كان لقمان عبداً صالحاً ولم يكن نبياً ، غليظ الشفتين مصفح القدمين قاضياً على بني إسرائيل . وقوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الحكمة } أي الفهم والعلم والتعبير ، { أَنِ اشكر للَّهِ } أي أمرنا أن يشكر الله عزَّ وجلَّ على ما آتاه الله ومنحه ووهبه من الفضل الذي خصصه به عمن سواه من ابناء جنسه وأهل زمانه ، ثم قال تعالى : { وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ } أي إنما يعود نفع ذلك وثوابه على الشاكرين ، لقوله تعالى : { وَمَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلأَنفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ } [ الروم : 44 ] ، وقوله : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي غني عن العباد لا يتضرر بذلك ولو كفر أهل الأرض كلهم جميعاً ، فإنه الغني عما سواه ، فلا إله إلاّ الله ولا نعبد إلاّ إياه .(1/1984)
وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)
يقول تعالى مخبراً عن وصية لقمان لولده ، وقد ذكره الله تعالى بأحسن الذكر ، وهو يوصي ولده الذي هو أشفق الناس عليه وأحبهم إليه ، فهو حقيق أن يمنحه أفضل ما يعرف ، ولهذا أوصاه أولاً بأن يعبد الله وحده لا يشرك به شيئاً ، ثم قال محذراً له { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } أي هو أعظم الظلم عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت { الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } [ الأنعام : 82 ] « شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا : أينا لم يلبس إيمانه بظلم؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنه ليس بذلك ، ألا تسمع إلى قول لقمان { يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } « » ، ثم قرن بوصيته أياه بعبادة الله وحده ، البر بالوالدين كما قال تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] وكثيراً ما يقرن تعالى بين ذلك في القرآن؛ وقال هاهنا : { وَوَصَّيْنَا الإنسان بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً على وَهْنٍ } ، قال مجاهد : مشقة وهن الولد؛ وقال قتادة : جهداً على جهد؛ وقال عطاء الخراساني : ضعفاً على ضعف ، وقوله : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ } أي تربيته وإرضاعه بعد وضعه في عامين ، كما قال تعالى : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ البقرة : 233 ] ألآية ، ومن ههنا استنبط ابن عباس وغيره من الأئمة أن أقل مدة الحمل ستة أشهر ، لأنه قال في الآية الأخرى : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] ، وإنما يذكر تعالى تربية الوالدة ، وتعبها ومشقتها في سهرها ليلاً ونهاراً ، ليذكّر الولد بإحسانها المتقدم إليه ، كما قال تعالى : { وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } [ الإسراء : 24 ] ، ولهذا قال : { أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير } أي فإني سأجزيك على ذلك أوفر جزاء . عن سعيد بن وهب قال : قدم علينا معاذ بن جبل وكان بعثه النبي صلى الله عليه وسلم ، فقام فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : إني رسول رسول الله صلى الله عليه وسلم إليكم أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تطيعوني لا آلوكم خيراً ، وإن المصير إلى الله إلى الجنة أو إلى النار ، إقامة فلا ظعن ، وخلود فلا موت .
وقوله تعالى : { وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } أي إن حرصا عليك كل الحرص ، على أن تتابعهما على دينهما فلا تقبل منهما ذلك ، ولا يمنعك ذلك أن تصاحبهما في الدنيا { مَعْرُوفاً } أي محسناً إليهما ، { واتبع سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ } يعني المؤمنين ، { ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ، روى الطبراني عن داود بن أبي هند أن سعد بن مالك قال : أنزلت فيّ هذه الآية : { وَإِن جَاهَدَاكَ على أَن تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلاَ تُطِعْهُمَا } الآية ، قال : كنت رجلاً براً بأمي ، فلما أسلمت قالت : يا سعد ما هذا الذي أراك قد أحدثت؟ لتدعنَّ دينك هذا أو لا آكل ولا أشرب حتى أموت ، فتعيّر بي ، فيقال : يا قاتل أمه ، فقلت : لا تفعلي يا أمه ، فإني لا أدع ديني هذا لشيء؛ فمكثت يوماً وليلة لم تأكل ، فأصبحت قد جهدت فمكثت يوماً آخر وليلة لم تأكل ، فأصبحت قد جهدت ، فمكثت يوماً وليلة أخرى لا تأكل فأصبحت قد اشتد جهدها ، فلما رأيت ذلك قلت يا أمه تعلمين والله لو كانت لك مائة نفس فخرجت نَفْساً نَفْساً ما تركت ديني هذا لشيء؛ فإن شئت فكلي وإن شئت لا تأكلي ، فأكلت .(1/1985)
يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِنْ تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ (18) وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)
هذه وصايا نافعة حكاها الله سبحانه عن ( لقمان الحكيم ) ليمتثلها الناس ويقتدوا بها ، فقال : { يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ } أي إن المظلمة أو الخطيئة لو كانت مثقال حبة خردل ، وكانت مخفية في السماوات أو في الأرض { يَأْتِ بِهَا الله } أي أحضرها الله يوم القيامة حين يضع الموازين القسط ، وجازى عليها إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، كما قال تعالى : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً } [ الأنبياء : 47 ] الآية ، ولو كانت تلك الذرة محصنة محجبة في داخل صخرة صماء ، أو ذاهبة في أرجاء السماوات والأرض ، فإن الله يأتي بها لأنه لا تخفى عليه خافية ، ولا يعزب عنه مثقال ذرة في السماوات ولا في الأرض . ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الله لَطِيفٌ خَبِيرٌ } أي لطيف العلم فلا خفى عليه الأشياء ، وإن دقّت ولطفت وتضاءلت ، { خَبِيرٌ } بدبيب النمل في الليل البهيم ، وقد زعم بعضهم أن المراد بقوله { فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ } أنها صخرة تحت الأرضين السبع ، والظاهر والله أعلم أن المراد أن هذه الحبة في حقارتها لو كانت داخل صخرة فإن الله سيبديها ويظهرها بلطيف علمه ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة . لخرج عمله للناس كائناً ما كان » ، ثم قال : { يابني أَقِمِ الصلاة } أي بحدودها وفروضها وأوقاتها ، { وَأْمُرْ بالمعروف وانه عَنِ المنكر } أي بحسب طاقتك وجهدك ، { واصبر على مَآ أَصَابَكَ } لأن الآمر بالمعروف والناهي عن المنكر ، لا بد أن يناله من الناس أذى فأمره بالصبر ، وقوله : { إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمور } أي إن الصبر على أذى الناس لمن عزم الأمور .
وقوله تعالى : { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } يقول : لا تعرض بوجهك عن الناس إذا كلمتهم أو كلموك ، احتقاراً منك لهم واستكباراً عليهم ، ولكن أَلِنْ جانبك وابسط وجهك إليهم ، كما جاء في الحديث : « ولو أن تلقى أخاك ووجهك إليه منبسط » ، قال ابن عباس يقول : لا تتكبر فتحتقر عباد الله وعرض عنهم بوجهك إذا كلموك ، وقال زيد بن أسلم { وَلاَ تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ } : لا تتكلم وأنت معرض ، وقال إبراهيم النخعي : يعني بذلك التشدق في الكلام ، والصواب القول الأول ، قال الشاعر :
دوكنا إذا الجبار صعَّر خده ... أقمنا له من ميله فتقوما
وقوله تعالى : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً } أي خيلاء متكبراً جباراً عنيداً ، لا تفعل ذلك يبغضك الله ، ولهذا قال : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ } أي مختال معجب في نفسه { فَخُورٍ } أي على غيره ، وقال تعالى : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً }(1/1986)
[ الإسراء : 37 ] . عن ثابت بن قيس بن شماس قال : ذكر الكبر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فشدد فيه فقال : « » إن الله لا يحب كل مختال فخور « فقال رجل من القوم : والله يا رسول الله إني لأغسل ثيابي فيعجبني بياضها ويعجبني شراك نعلي وعلاَّقة سوطي ، فقال : » ليس ذلك الكبر ، إنما الكبر أن تسفه الحق ، وتغمط الناس « » ، وقوله : { واقصد فِي مَشْيِكَ } أي امش مقتصداً مشياً ليس بالبطيء المتثبط ، ولا بالسريع المفرط بل عدلاً وسطاً بين بين ، وقوله : { واغضض مِن صَوْتِكَ } أي تبالغ في الكلام ولا ترفع صوتك فيما لا فائدة فيه ، ولهذا قال : { إِنَّ أَنكَرَ الأصوات لَصَوْتُ الحمير } قال مجاهد : إن أقبح الأصوات لصوت الحمير ، أي غاية من رفع صوته أنه يشبه بالحمير في علوه ورفعه ، ومع هذا هو بغيض إلى الله تعالى ، وهذا التشبيه بالحمير يقتضي تحريمه وذمه غاية الذم ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ليس لنا مثل السوء العائد في هبته كالكلب يقيء ثم يعود في قيئه » ، وروى النسائي عند تفسير هذه الآية عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا سمعتم صياح الديكة فاسألوا الله من فضله ، وإذا سمعتم نهيق الحمير فتعوذوا بالله من الشيطان ، فإنها رأت شيطاناً » فهذه وصايا نافعة جداً ، وهي من قصص القرآن العظيم ، عن لقمان الحكيم ، قود روي عنه من الحكم والمواعظ أشياء كثرة .(1/1987)
أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُجَادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلَا هُدًى وَلَا كِتَابٍ مُنِيرٍ (20) وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ الشَّيْطَانُ يَدْعُوهُمْ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ (21)
يقول تعالى منبهاً خلقه على نعمه عليهم في الدنيا والآخرة ، بأنه سخر لهم ما في السماوات ، من نجوم يستضيئون بها في ليلهم ونهارهم ، وما يخلق فيها من سحاب وأمطار ، وما خلق لهم في الأرض من أنهار وأشجار وزروع وثمار ، واسبغ عليهم نعمه الظاهرة والباطنة ، ثم مع هذا كله ما آمن الناس كلهم ، بل منهم من يجادل في الله أي في توحيده وإرساله الرسل ، ومجادلته في ذلك بغير علم ولا مستند ، ومن حجة صحيحة ولا كتاب مأثور صحيح ، ولهذا قال تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يُجَادِلُ فِي الله بِغَيْرِ عِلْمٍ وَلاَ هُدًى وَلاَ كِتَابٍ مُّنِيرٍ } أي مبين مضيء { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ } أي لهؤلاء المجادلين في توحيده الله { اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله } أي على رسوله من الشرائع المطهرة ، { قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا } أي لم يكن لهم حجة إلاّ اتباع الآباء الأقدمين ، قال الله تعالى : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } [ البقرة : 170 ] أي فما ظنكم أيها المحتجون بصنيع آبائهم أنهم كانوا على ضلالة وأنتم خلف لهم فيما كانوا فيه ، ولهذا قال تعالى : { أَوَلَوْ كَانَ الشيطان يَدْعُوهُمْ إلى عَذَابِ السعير } .(1/1988)
وَمَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى وَإِلَى اللَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَمَنْ كَفَرَ فَلَا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلًا ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلَى عَذَابٍ غَلِيظٍ (24)
يقول تعالى مخبراً عمن أسلم وجهه لله أي أخلص له العمل ، وانقاد لأمره وابتع شرعه ، ولهذا قال : { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي في عمله باتباع ما به أمر ، وترك ما عنه زجر { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } أي فقد أخذ موثقاً من الله ممتيناً أنه لا يعذبه ، { وإلى الله عَاقِبَةُ الأمور * وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ } أي لا تحزن عليهم يا محمد في كفرهم بالله وبما جئت به ، فإن قدر الله نافذ فيهم ، وإلى الله مرجعهم { فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا } أي فيجزيهم عليه ، { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } فلا تخفى عليه خافية ، ثم قال تعالى : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً } أي في الدنيا ، { ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ } أي نلجئهم { إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } أي فظيع صعب شاق على النفوس ، كما قال تعالى : { مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ يونس : 70 ] .(1/1989)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)
يقول تعالى مخبراً عن هؤلاء المشركين ، أنهم يعرفون أن الله خالق السماوات والأرض ، وحده لا شريك له ، ومع هذا يعبدون معه شركاء يعترفون أنه خلق له وملك له ، ولهذا قال تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله قُلِ الحمد لِلَّهِ } أي إذا قامت عليكم الحجة باعترافكم { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } ، ثم قال تعالى : { لِلَّهِ مَا فِي السماوات والأرض } أي هي خلقه وملكه ، { إِنَّ الله هُوَ الغني الحميد } أي الغني عما سواه وكل شيء فقير إليه ، { الحميد } في جميع ما خلق له في السماوات والأرض ، وهو المحمود في الأمور كلها .(1/1990)
وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27) مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28)
يقول تعالى مخبراً عن عظمته وكبريائه ، وجلاله وأسمائه الحسنى وصفاته العلا ، وكلماته التامة التي لا يحيط بها أحد ، ولا اطلاع لبشر على كنهها وإحصائها ، كما ق سيد البشر : « لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك » ، فقال تعالى : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله } أي ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاماً ، وجعل البحر مداداً وأمده سبعة أبحر معه ، فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله ، لتكسرت الأقلام ونفد ماء البحر ولو جاء أمثالها مدداً ، وإنما ذكرت السبعة على جه المبالغة ولم يرد الحصر ، فقد قال تعالى في الآية الأخرى : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً } [ الكهف : 109 ] ، فليس المراد بقوله : { بِمِثْلِهِ } آخر فقط ، بل بمثله ثم بمثله ثم بمثله ، ثم هلم جرا ، لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته ، قال الحسن البصري : لو جعل شجر الأرض أقلاماً وجعل البحر مداداً ، وقال الله : إن من أمري كذا ومن أمري كذا لنفد ماء البحر وتكسرت الأقلام ، وقال الربيع بن أنس : إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها ، وقد أنزل الله ذلك : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ } الآية ، وقوله تعالى : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } أي ما خلق جميع الناس ، وبعثهم يوم المعاد بالنسبة إلى قدرته ، إلاّ كنسبة خلق نفس واحدة ، الجميع هيّن عليه ، { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] ، { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } [ القمر : 50 ] أي لا يأمر بالشيء إلاّ مرة واحدة فيكون ذلك الشيء لا يحتاج إلى تكرره وتوكيده ، { فَإِنَّمَا هِيَ زَجْرَةٌ وَاحِدَةٌ * فَإِذَا هُم بالساهرة } [ النازعات : 13-14 ] ، وقوله : { إِنَّ الله سَمِيعٌ بَصِيرٌ } أي كما هو سميع لأقوالهم بصير بأفعالهم ، كسمعه وبصره بالنسبة إلى نفس واحدة ، كذلك قدرته عليهم كقدرته على نفس واحدة ، ولهذا قال تعالى : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } الآية .(1/1991)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَيُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَأَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْبَاطِلُ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (30)
يخبر تعالى أنه { يُولِجُ الليل فِي النهار } يعني يأخذ منه في النهار فيطول ذلك وبقصر هذا ، وهذا يكون زمن الصيف يطول النهار إالى الغاية ، ثم يشرع في النقص فيطول الليل ويقصر النهار وهذا يكون في الشتاء { وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يجري إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } قيل إلىغاية محدودة ، وقيل إلى يوم القيامة ، وكلا المعنيين صحيح ويستشهد للقول الأول بحديث أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » يا أبا ذر أتدري أين تذهب هذه الشمس؟ « قلت الله ورسوله أعلم؟ قال : » فإنها تذهب فتسجد تحت العرش ثم تستأذن ربها فيوشك أني قال لها ارجعي من حيث جئت « » ، وعن ابن عباس أنه قال : الشمس بمنزلة الساقية تجري بالنهار في السماء في فلكها ، فإذا غربت جرت بالليل في فلكها تحت الأرض حتى تطلع من شرقها ، قال : وكذلك القمر ، وقوله . { وَأَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } المعنى أنه تعالى الخالق العالم بجميع الأشياء ، وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل } أي إنما يظهر لكم آياته لتستدلوا بها على أنه الحق أي الإله الحق ، وأن كل ما سواه باطل ، فإنه الغني عما سواه وكل شيء فقير إليه ، الجميع خلقه وعبيده ، لا يقدر أحد منهم على تحريك ذرة إلاّ بإذنه ، ولو اجتمع كل أهل الأرض على أن يخلقوا ذباباً لعجزوا عن ذلك ، ولهذا قال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله هُوَ الحق وَأَنَّ مَا يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الباطل وَأَنَّ الله هُوَ العلي الكبير } أي العلي الذي لا أعلى منه ، الكبير الذي هو أكبر من كل شيء ، فالكل خاضع حقير بالنسبة إاليه .(1/1992)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آيَاتِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)
يخبر تعالى أنه هو الذي سخر البحر ، لتجري فيه الفلك بأمره ، أي بلطفه وتسخيره ، فإنه لولا ما جعل في الماء من قوة يحمل بها السفن لما جرت ، ولهذا قال : { لِيُرِيَكُمْ مِّنْ آيَاتِهِ } أي من قدرته { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي صبار في الضراء ، شكور في الرخاء ، ثم قال تعالى : { وَإِذَا غَشِيَهُمْ مَّوْجٌ كالظلل } أي كالجبال والغمام { دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } ، كما قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] ، وقال تعالى : { فَإِذَا رَكِبُواْ فِي الفلك } [ العنكبوت : 65 ] الآية ، ثم قال تعالى : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر فَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } قال مجاهد : أي كافر ، كأنه فسر المقتصد هاهنا بالجاحد ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى البر إِذَا هُمْ يُشْرِكُونَ } [ العنكبوت : 65 ] وقال ابن زيد ، هو المتوسط في العمل ، وهذا الذي قاله ابن زيد في المراد في قوله تعالى : { فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ } [ فاطر : 32 ] الآية ، فالمقتصد هاهنا هو المتوسط في العمل ، ويكون من باب الإِنكار على من شاهد تلك الأهوال ، والأمور العظام ، والآيات الباهرات في البحر؛ ثم بعدها أنعم الله عليه بالخلاص ، كان ينبغي أن يقابل ذلك بالعمل التام ، والدؤوب في العبادة ، والمبادرة إلى الخيرات ، فمن اقتصد بعد ذلك كان مقصراً والله أعلم ، وقوله تعالى : { وَمَا يَجْحَدُ بِآيَاتِنَآ إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ } الختار : هو الغدّار ، قال مجاهد والحسن وهو الذي كلما عاهد نقض عهده ، والختر أتم الغدر وأبلغه . قال عمر بن معد يكرب :
وإنك لو رأيت أبا عمير ... ملأت يديك من غدر وختر
وقوله { كَفُورٍ } أي جحود للنعم لا يشكرها بل يتناساها ولا يذكرها .(1/1993)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَا يَجْزِي وَالِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَنْ وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)
يقول تعالى منذراً للناس يوم المعاد ، وآمراً لهم بتقواه والخوف منه ، والخشية من يوم القيامة حيث { لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ } أي لو أراد أن يفديه بنفسه لما قبله منه ، وكذلك الولد لو أراد فداء والده بنفسه لم يقبل منه ، ثم عاد بالموعظة عليهم بقوله : { فَلاَ تَغُرَّنَّكُمُ الحياة الدنيا } أي لا تلهينكم بالطمأنينة فيها عن الدار الآخرة ، { وَلاَ يَغُرَّنَّكُم بالله الغرور } يعني الشيطان ، فإنه يغر ابن آدم ويعده ويمنيه ، وليس من ذلك شيء ، بل كان كما قال تعالى : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } [ النساء : 120 ] ، قال وهب بن منبه : قال عزير عليه السلام : لما رأيت بلاء قومي اشتد حزني وكثر همي وأرق نومي ، فتضرعت إلى ربي وصليت وصمت ، فأنا في ذلك التضرع أبكي إذا أتاني الملك ، فقلت له : خبرني هل تشفع أرواح الصديقين للظلمة ، أو الآباء لأبنائهم؟ قال : إن القيامة فيها فصل القضاء ، وملك الظاهر ليس فيه رخصة لا يتكلم فيه أحد إلاّ بإذن الرحمن ، ولا يؤخذ فيه والد عن ولده ولا ولد عن والده ، ولا أخ عن أخيه ، ولا عبد عن سيده ، ولا يهتم أحد به بغيره ، ولا يحزن لحزنه ولا أحد يرحمه ، كل مشفق عل نفسه ، ولا يؤخذ إنسان عن إنسان ، كل يهمه همه ويكبي ذنبه ، ويحمل وزره ولا يحمل وزره معه غيره .(1/1994)
إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)
هذه مفاتيح الغيب التي استأثر الله تعالى بعلمها ، فلا يعلمها أحد إلاّ بعد إعلامه تعالى بها؛ فعلم وقت الساعة لا يعلمه نبي مرسل ، ولا ملك مقرب { لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] ، وكذلك إنزال الغيب لا يعلمه إلا الله ، ولكن إذا أمر به علمته الملائكة الموكلون بذلك ، ومن يشاء الله من خلقه ، وكذلك لا يعلم ما في الأرحام مما يريد أن يخلقه تعالى سواه ، ولكن إذا أمر بكونه ذكراً أو أنثى ، شقياً أو سعيداً ، علم الملائكة الموكلون بذلك ، وكذا لا تدري نفس ماذا تكسب غداً في دنياها وأخراها ، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } في بلدها أو غيره من أي بلاد الله كان ، لا علم لأحد بذلك وهي شبيهة بقوله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] الآية ، وقد وردت السنّة بتسمية هذه الخمس مفاتيح الغيب ، روى الإمام أحمد « عن أبي بريدة سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » خمسٌ لا يعلمهن إلاّ الله عزَّ وجلَّ : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ } « ، عن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلاّ الله { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ } « .
وعن مجاهد قال : جاء رجل من أهل البادية فقال : إن امرأتي حبلى فأخبرني ما تلد؟ وبلادنا مجدبة ، فأخبرني متى ينزل الغيث؟ وقد علمت متى ولدت فأخبرني متى أموت؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } إلى قوله : { عَلَيمٌ خَبِيرٌ } قال مجاهد وهي مفاتيح الغيب التي قال الله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 59 ] ، وروى مسروق عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : من حدثك أنه يعلم ما في غد ، فقد كذب ، ثم قرأت { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } . وقوله تعالى : { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } قال قتادة : أشياء استأثر الله بهن فلن يطلع عليهن ملكاً مقرباً ولا نبياً مرسلاً { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } فلا يدري أحد من الناس متى تقوم الساعة في أي سنة أو في أي شهر أو ليل أو نهار ، { وَيُنَزِّلُ الغيث } فلا يعلم أحد متى ينزل الغيث ليلاً أو نهاراً ، { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام } فلا يعلم أحد ما في الأرحام أذكر أم أنثى ، أحمر أو أسود وما هو ، { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً } أخير أم شر ، ولا تدري يا ابن آدم متى تموت لعلك الميت غداً لعلك المصاب غداً { وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ } أي ليس أحد من الناس يدري أي مضجعه من الأرض ، أفي بحر أم بر ، أو سهل أو جبل . وقد جاء في الحديث : » إذا أراد الله قبض عبد بأرض جعل له إليها حاجة « وروي مثله عن ابن مسعود ، وبمعناه عن أسامة .(1/1995)
الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا ، وقوله : { تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ } أي لا شك فيه ولا مرية أنه منزل { مِن رَّبِّ العالمين } ، ثم قال تعالى مخبراً عن المشركين { أَمْ يَقُولُونَ افتراه } بل يقولون افتراه أي اختلقه من تلقاء نفسه ، { بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْماً مَّآ أَتَاهُم مِّن نَّذِيرٍ مِّن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ } في يتبعون الحق .(1/1996)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّمَاءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5) ذَلِكَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6)
يخبر تعالى أنه خالق الأشياء ، فخلق السماوات والأرض وما بينهما في ستة أيام ثم استوى على العرش ، وقد تقدم الكلام على ذلك ، { مَا لَكُمْ مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ } أي بل هو المالك لأزمة الأمور ، الخالق لكل شيء ، المدبر لكل شيء ، القادر على كل شيء ، فلا ولي لخلقه سواه ، ولا شفيع إلاّ من بعد إذنه ، { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } يعني أيها العابدون غيره ، المتوكلون على من عداه ، تعالى وتقدس وتنزه أن يكون له نظير أو شريك أو وزير ، لا إله إلاّ هو ولا رب سواه . وقوله تعالى : { يُدَبِّرُ الأمر مِنَ السمآء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ } أي يتنزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة ، كما قال تعالى : { الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سماوات وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ } [ الطلاق : 12 ] الآية ، وترفع الأعمال إلى ديوانها فوق سماء الدنيا ، ومسافة ما بينها وبين الأرض مسيرة خمسمائة سنة ، وسمك السماء خمسمائة سنة ، وقال مجاهد والضحاك : النزول من الملك في مسيرة خمسمائة عام ، وصعوده في مسيرة خمسمائة عام ، ولكنه يقطعها في طفة عين ، ولهذا قال تعالى : { فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِّمَّا تَعُدُّونَ * ذلك عَالِمُ الغيب والشهادة } أي المدبر لهذه الأمور الذي هو شهيد على أعمال عباده ، يرفع إليه جليلها وحقيرها وصغيرها وكبيرها ، هو العزيز الذي قد عز كل شيء فقهره وغلبه ، ودانت له العباد والرقاب ، { الرحيم } بعباده المؤمنين .(1/1997)
الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسَانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلَالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (9)
يقول تعالى مخبراً أنه الذي أحسن خلق الأشياء وأتقنها وأحكمها قال زيد بن أسلم : { الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ } قال : أحسن خلق كل شيء ، كأنه جعله من المقدم والمؤخر؛ ثم لما ذكر تعالى خلق السماوات والأرض ، شرع في ذكر خلق الإنسان ، فقال تعالى : { وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ } يعني خلق أبا البشر آدم من طين ، { ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِّن مَّآءٍ مَّهِينٍ } أي يتناسلون كذلك من نطفة ، تخرج من بين صلب الرجل وترائب المرأة { ثُمَّ سَوَّاهُ } يعني آدم لما خلقه من تراب خلقه سوياً مستقيماً ، { وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة } يعني العقول ، { قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } أي بهذه القوى التي رزقكموها الله عزَّ وجلَّ ، فالسعيد من استعملها في طاعة ربه عزَّ وجلَّ .(1/1998)
وَقَالُوا أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الْأَرْضِ أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ (10) قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)
يقول تعالى مخبراً عن المشركين في استبعاهدم المعاد حيث قالوا { أَإِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض } أي تمزقت أجسامنا ، وتفرقت في أجزاء الأرض وذهبت ، { أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } أي أئنا لنعود بعد تلك الحال؟ يستبعدون ذلك ، ولهذا قال تعالى : { بَلْ هُم بِلَقَآءِ رَبِّهِمْ كَافِرُونَ } ، ثم قال تعالى : { قُلْ يَتَوَفَّاكُم مَّلَكُ الموت الذي وُكِّلَ بِكُمْ } ، الظاهر أن ملك الموت شخص معين ، وقد سمي في بعض الآثار بعزرائيل وهو المشهور ، وله أعوان؛ وهكذا ورد في الحديث أن أعوانه ينتزعون الأرواح من سائر الجسد ، حتى إذا بلغت الحلقوم تناولها ملك الموت ، قال مجاهد : حويت له الأرض فجعلت مثل الطست يتناول منها متى شاء ، وقال كعب الأحبار : والله ما من بيت فيه أحد من أهل الدنيا إلاّ وملك الموت يوقم على بابه كل يوم سبع مرات ينظر هل فيه أحد أمر أن يتوفاه ، وقوله تعالى : { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ } أي يوم معادطم وقيامكم من قبوركم لجزائكم .(1/1999)
وَلَوْ تَرَى إِذِ الْمُجْرِمُونَ نَاكِسُو رُءُوسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فَارْجِعْنَا نَعْمَلْ صَالِحًا إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا إِنَّا نَسِينَاكُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)
يخبر تعالى عن حال المشركين يوم القيامة ، حين عاينوا البعث وقاموا بين يدي الله عزَّ وجلَّ ، حقيرين ذليلين ناكسي رؤوسهم أي من الحياء والخجل ، يقولون { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } أي نحن الآن نسمع قولك ونطيع أمرك كما قال تعالى : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ مريم : 38 ] وكذلك يعودون على أنفسهم بالملامة إذا دخلوا النار بقولهم : { لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير } [ الملك : 10 ] ، وهكذا هؤلاء يقولون { رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا فارجعنا } أي إلى دار الدنيا { نَعْمَلْ صَالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ } أي قد أيقنا وتحققنا فيها أن وعدك حق ولقائك حق ، وقد علم الرب تعالى منهم أنه لو أعادهم إلى الدنيا لكانوا كفاراً يكذبون بآيات الله ، ويخالفون رسله ، كما قال تعالى : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا } [ الأنعام : 27 ] الآية ، وقال هاهنا : { وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا } ، كما قال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً } [ يونس : 99 ] ، { ولكن حَقَّ القول مِنِّي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } أي من الصنفين فدارهم النار لا محيد لهم عنها ولا محيص لهم منها ، نعوذ بالله وكلماته التامة من ذلك { فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هاذآ } أي يقال لأهل النار على سبيل التقريع والتوبيخ ، ذوقوا هذا العذاب بسبب تكذيبكم به ، واستبعادكم وقوعه ، { إِنَّا نَسِينَاكُمْ } أي سنعاملكم معاملة الناسي ، لأنه تعالى لا ينسى شيئاً ولا يضل عنه شيء ، بل من باب المقابلة ، كما قال تعالى : { اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } [ الجاثية : 34 ] ، وقوله تعالى : { وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي بسبب كفركم وتكذيبكم ، كما قال تعالى : { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } [ النبأ : 30 ] .(1/2000)
إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا الَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِهَا خَرُّوا سُجَّدًا وَسَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)
يقول تعالى : { إِنَّمَا يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا } أي إنما يصدق بها { الذين إِذَا ذُكِّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً } أي استمعوا لها وأطاعوها قولاً وفعلاً ، { وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي عن اتباعها والانقياد لها ، كما يفعله الجهلة من الكفرة الفجرة ، قال الله تعالى : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] ، ثم قال تعالى : { تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع } يعني بذلك قيام الليل وترك النوم ، والاضطجاع على الفرش الوطيئة ، قال مجاهد الحسن : يعني بذلك قيام الليل ، وعن أنس وعكرمة : هو الصلاة بين العشاءين ، وعن أنس أيضاً : هو انتظار صلاة العتمة ، وقال الضحاك : هو صلاة العشاء في جماعة وصلاة الغداة في جماعة { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً } أي خوفاً من وبال عقابه ، وطمعاً في جزيل ثوابه { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } فيجمعون بين فعل القربات اللازمة والمتعدية ، عن معاذ بن جبل قال : « كنت مع النبي صلى الله عليه سولم في سفر ، فأصبحت يوماً قريباً منه ونحن نسير ، فقلت : يا نبي الله أخبرني بعمل يدخلني الجنة ويباعدني من النار قال : » لقد سألت عن عظيم وإنه ليسير على ن يسره الله عليه ، وتعبد الله ولا تشرك به شيئاً ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت ، ثم قال : ألا أدلك على أبواب الخير؟ الصوم جنة ، والصدقة تطفىء الخطيئة ، وصلاة الرجل في جوف الليل ثم قرأ { تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع } حتى بلغ { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، ثم قال : ألا أخبرك برأس الأمر وعموده وذروة سنامه؟ « فقلت : بلى يا رسول الله ، فقال : » رأس الأمر الإسلام ، وعموده الصلاة ، وذروة سنامه الجهاد في سبيل الله ، ثم قال : ألا أخبرك بملاك ذلك كله «؟ فقلت : بلى يا نبي الله ، فأخذ بلسانه ثم قال : » كفْ عليك هذا « فقلت : يا رسول الله وإنا لمؤاخذون بما نتكلم به ، فقال : ثكلتك أمك يا معاذ وهل يكب الناس في النار على وجوههم أو قال على مناخرهم إلاّ حصائد ألسنتهم » .
وروى ابن أبي حاتم ، عن معاذ بن جبل قال : « كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك فقال : » إن شئت نبأتك بأبواب الخير ، الصوم جنة والصدقة تطفىء الخطيئة وقيام الرجل في جوف الليل « ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع } الآية ، عن أسماء بنت يزيد قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إذا جمع الله الأولين والآخرين يوم القيامة ، جاء منادي فنادى بصوت يسمع الخلائق « سيعلم أهل الجمع الجمع اليوم من أولى بالكرم » ثم يرجع فينادي : ليقم الذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضادجع الآية فيقومون وهم قليل «(1/2001)
، وقال بلال : لما نزلت هذه الآية { تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع } الآية ، كنا نجلس في المجلس وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون بعد المغرب إلى العشاء ، فنزلت هذه الآية { تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع } ، وقوله تعالى : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } أي فلا يعلم أحد عظمة ما أخفى الله لهم في الجنات ، من النعيم المقيم ، واللذات التي لم يطلع على مثلها أحد ، لما أخفوا أعمالهم ، كذلك أخفى الله لهم من الثواب ، جزاء وفاقاً ، فإن الجزاء من جنس العمل ، قال الحسن البصري : أخفى قوم عملهم فأخفى الله لهم ما لم تر عين ولم يخطر على قلب بشر ، قال البخاري : قوله تعالى : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } الآية ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قال الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ، ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر » قال أبو هريرة اقرأوا إن شئتم { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } . وفي الحديث : « من يدخل الجنة ينعم لا يبأس ، ولا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه ، في الجنة ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر » ، وروى مسلم عن المغيرة بن شعبة يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال : سأل موسى عليه السلام ربه عزَّ وجلَّ ما أدنى أهل الجنة منزلة؟ قال : هو رجل يجيء بعدما أُدخِلَ أهلُ الجنةِ الجنةَ ، فيقال له : ادخل الجنة ، فيقول : أي رب كيف وقد أخذ الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له أترضى أن يكون لك مثل ملك من ملوك الدنيا؟ فيقول : رضيت رب ، فيقول لك ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله ، فقال في الخامسة : رضيت ربي ، فيقول : هذا لك وعشرة أمثاله معه ، ولك ما اشتهت نفسك ولذت عينك فيقول : رضيت رب ، قال رب فأعلاهم منزلة ، قال : أولئك الذين أردت غرست كرامتهم بيدي وختمت عليها فلم تر عين ولم تسمع أذن ولم يخطر على قلب بشر . قال : ومصداقه من كتاب الله عزَّ وجلَّ { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ } الآية .(1/2002)
أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لَا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَى نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (19) وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)
يخبر تعالى عن عدله وكرمه ، أنه لا يساوي في حكمه يوم القيامة ، من كان مؤمناً بآياته متبعاً لرسله بمن كان فاسقاً ، أي خارجاً عن طاعة ربه ، مكذباً رسل الله ، كما قال تعالى : { أَمْ حَسِبَ الذين اجترحوا السيئات أَن نَّجْعَلَهُمْ كالذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَوَآءً مَّحْيَاهُمْ وَمَمَاتُهُمْ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ الجاثية : 21 ] ، وقال : { أَمْ نَجْعَلُ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات كالمفسدين فِي الأرض أَمْ نَجْعَلُ المتقين كالفجار } [ ص : 28 ] وقال تعالى : { لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة } [ الحشر : 20 ] الآية ، ولهذا قال تعالى ههنا : { أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ } أي عند الله يوم القيامة ، وقد ذكر عطاء والسدي أنها نزلت في ( علي بن أبي طالب ) و ( عقبة بن أبي معيط ) ولهذا فصل حكمهم فقال : { أَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي صدقت قلوبهم بآيات الله ، وعملوا بمقتضاها وهي الصالحات ، { فَلَهُمْ جَنَّاتُ المأوى } أي التي فيها المساكن والدور والغرف والعالية { نُزُلاً } أي ضيافة وكرامة ، { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ } أي خرجوا عن الطاعة ، { فَمَأْوَاهُمُ النار كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } ، كقوله : { كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَآ أُعِيدُواْ فِيهَا } الآية ، قال الفضيل بن عياض : والله إن الأيدي لموثقة ، وإن الأرجل لمقيدة ، وإن اللهب ليرفعهم والملائكة تقمعهم ، { وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ } أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً ، وقوله تعالى : { وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِّنَ العذاب الأدنى دُونَ العذاب الأكبر } ، قال ابن عباس : يعني بالعذاب الأدنى مصائب الدنيا وأسقامها وآفاتها ، وما يحل بأهلها مما يبتلى الله به عباده ليتوبوا إليه ، وقال مجاهد : يعني به عذاب القبر ، وقال عبد الله بن مسعود : العذاب الأدنى ما أصابهم من القتل والسبي يوم بدر ، قال السدي : لم يبق بيت بمكة إلاّ دخله الحزن على قتيل لهم أو أسير فأصيبوا أو غرموا ، ومنهم من جمع له الأمران ، وقوله تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَآ } أي لا أظلم ممن ذكره الله بآياته وبينها له ووضحها ، ثم بعد ذلك تركها وجحدها ، وأعرض عنها وتناساها كأنه لا يعرفها ، قال قتادة : إياكم والإعراض عن ذكر الله ، فإن من أعرض عن ذكره فقد اغتر أكبر الغرة وأعوز أشد العوز ، ولهذا قال تعالى متهدداً لمن فعل ذلك : { إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ } أي سأنتقم ممن فعل ذلك أشد الانتقام .(1/2003)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَلَا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقَائِهِ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ (23) وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله ( موسى ) عليه السلام ، أنه آتاه الكتاب وهو التوراة ، وقوله تعالى : { فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ } قال قتادة : يعني به ليلة الإِسراء ، وفي الحديث : « رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلاً آدم جعداً كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى رجلاً مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس ، ورأيت مالكاً خازن النهار ، والدجال » في آيات أراهن الله أياها { فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ } أنه قد رأى موسى ولقي موسى ليلة أسري به . وروى ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ } قال من لقاء موسى ربه عزَّ وجلَّ ، وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَاهُ } أي الكتاب الذي آتيناه { هُدًى لبني إِسْرَائِيلَ } ، كما قال تعالى في الإسراء : { وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً } [ الإسراء : 2 ] . وقوله تعالى : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } أي لما كانوا صابرين على أوامر الله ، وترك زواجره ، وتصديق رسله ، واتباعهم فيما جاؤوهم به ، كان منهم أئمة يهدون إلى الحق بأمر الله ، ويدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ثم لمّا بدّلوا وحرّفوا سلبوا ذلك المقام ، وصارت قلوبهم قاسية يحرفون الكلم عن مواضعه ، فلا عمل صالحاً ولا اعتقاداً صحيحاً ، ولهذا قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب } قال قتادة : لما صبروا عن الدنيا ، وقال سفيان : هكذا كان هؤلاء ، ولا ينبغي للرجل أن يكون إماماً يقتدى به حتى يتحامى عن الدنيا ، وسئل سفيان عن قول علي رضي الله عنه : الصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد ، ألم تسمع قوله : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ } ؟ قال : لما أخذوا برأس الأمر صاروا رؤساء ، قال بعض العلماء : بالصبر واليقين تنال الإمامة في الدين ، ولهذا قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا بني إِسْرَائِيلَ الكتاب والحكم والنبوة وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين } [ الجاثية : 16 ] ، كما قال هاهنا : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي من الاعتقادات والأعمال .(1/2004)
أَوَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ أَفَلَا يَسْمَعُونَ (26) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْمَاءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعًا تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنْفُسُهُمْ أَفَلَا يُبْصِرُونَ (27)
يقول تعالى أو لم يهد لهؤلاء المكذبين بالرسل ، ما أهلك الله قبلهم من الأمم الماضية ، بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم إياهم فيما جاؤوهم به ، فلم يبق منهم باقية ولا عين ولا أثر { هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } [ مريم : 98 ] ، ولهذا قال : { يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } أي وهؤلاء المكذبون يمشون في مساكن أولئك المكذبين ، فلا يرون فيها أحداً ممن كان يسكنها ويعمرها ذهبوا منها كأن لم يغنوا فيها ، كما قال : { فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خَاوِيَةً بِمَا ظلموا } [ النمل : 52 ] ، وقال : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } [ الحج : 45 ] ، ولهذا قال هاهنا : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ } أي إن في ذهاب أولئك القوم ودمارهم ، وما حل بهم بسبب تكذيبهم الرسل ، ونجاة من آمن بهم ، لآيات وعبراً مواعظ ودلائل { أَفَلاَ يَسْمَعُونَ } أي أخبار من تقدم كيف كان من أمرهم . وقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز } يبين تعالى لطفه بخلقه وإحسانه إليهم ، في إرساله الماء من السماء أو من السيح ، وهو ما تحمله الأنهار ويتحدر من الجبال ، إلى الأراضي المحتاجة إليه في أوقاته ، ولهذا قال تعالى : { إِلَى الأرض الجرز } وهي التي لا نبات فيها ، كما قال تعالى : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } [ الكهف : 8 ] ، وأرض مصر رخوة تحتاج من الماء ما لو نزل عليها مطراً لتهدمت أبنيتها فيسوق الله تعالى إليها النيل ، بما يتحمله من الزيادة الحاصلة من أمطار بلاد الحبشة ، فيستغلون كل سنة على ماء جديد ممطور في غير بلادهم ، وطين جديد من غير أرضهم فسبحان الحكيم الكريم المنان المحمود أبداً . روى قيس بن حجاج قال : لما فتحت مصر أتى أهلها ( عمرو بن العاص ) وكان أميراً بها ، فقالوا أيها الأمير إن لنيلنا هذا سنة لا يجي إلاّ بها ، قال وما ذاك؟ قالوا إذا كانت ثنتا عشر ليلة خلت من هذا الشهر عمدنا إلى جارية بكر بين أبويها فأرضينا أبويها وجعلنا عليها من الحلي والثياب أفضل ما يكون ، ثم ألقيناها في هذا النيل ، فقال لهم عمرو : إن هذا لا يكون في الإِسلام ، إن الإِسلام يهدم ما كان قبله ، فأقاموا والنيل لا يجري حتى هموا بالجلاء ، فكتب ( عمرو ) إلى ( عمر بن الخطاب ) بذلك فكتب إليه عمر إنك قد أصبت البطاقة ففتحها فإذا فيها : من عبد الله عمر أمير المؤمنين إلى نيل أهل مصر ، أما بعد : فإنك إن كنت إنما تجري من قبلك فلا تجر ، وإن كان الله الواحد القهار هو الذي يجريك فنسأل الله أن يجريك ، قال فألقى البطاقة في النيل فأصبحوا يوم السبت وقد أجرى الله النيل ستة عشر ذراعاً في ليلة واحدة ، وقد قطع الله تلك السنة عن أهل مصر إلى اليوم . ولهذا قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } ، كما قال تعالى : { فَلْيَنظُرِ الإنسان إلى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا المآء صَبّاً } [ عبس : 24-25 ] الآية ، ولهذا قال ههنا : { أَفَلاَ يُبْصِرُونَ } ؟ وقال ابن عباس في قوله { إِلَى الأرض الجرز } قال : هي التي لا تمطر إلاّ مطراً لا يغني عنها شيئاً إلاّ ما يأتيها من السيول ، وقال عكرمة والضحاك : الأرض الجرز الي لا نبات فيها وهي مغبرة ، قلت وهذا كقوله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا } [ يس : 33 ] الآيتين .(1/2005)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لَا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمَانُهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَانْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)
يقول تعالى مخبراً عن استعجال الكفار وقوع بأس الله بهم ، وحلول غضبه ونقمته عليهم ، استبعاداً وتكذيباً وعناداً { وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح } أي متى تنصر علينا محمد؟ كما تزعم أن لك وقتاً تدال علينا وينتقم لك منا ، فمتى يكون هذا؟ ما نراك أنت وأصحابك إلاّ مختفين خائفين ذليلين ، قال الله تعالى : { قُلْ يَوْمَ الفتح } أي إذا حل بكم بأس الله وسخطه وغضبه في الدنيا وفي الأخرى { لاَ يَنفَعُ الذين كفروا إِيَمَانُهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات فَرِحُواْ بِمَا عِندَهُمْ مِّنَ العلم } [ غافر : 83 ] الآيتين . والمراد بالفتح القضاء والفصل ، كقوله : { فافتح بَيْنِي وَبَيْنَهُمْ فَتْحاً } [ الشعراء : 118 ] الآية ، وكقوله : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق } [ سبأ : 26 ] الآية ، ثم قال تعالى : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } أي أعرض عن هؤلاء المشركين ، وبلّغ ما أنزل إليك من ربك ، كقوله تعالى : { اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إله إِلاَّ هُوَ } [ الأنعام : 106 ] الآية ، وانتظر فإن الله سينجز لك ما وعدك ، وسينصرك على من خالفك ، إنه لا يخلف الميعاد ، وقوله : { إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ } أي أنت منتظر وهم منتظرون ، ويتربصون بكم الدوائر { أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } [ الطور : 30 ] وسترى عاقبة صبرك عليهم ، وعلى أداء رسالة الله في نصرتك وتأييدك ، وسيجدون غب ما ينتظرونه فيك وفي أصحابك ، من وبيل عقاب الله لهم ، وحلول عذابه بهم ، وحسبنا الله ونعم الوكيل .(1/2006)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَلَا تُطِعِ الْكَافِرِينَ وَالْمُنَافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (1) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (2) وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (3)
قال طلق بن حبيب : التقوى أن تعمل بطاعة الله ، على نور من الله ، ترجو ثواب الله ، وأن تترك معصية الله ، على نور من الله ، مخافة عذاب الله ، وقوله تعالى : { وَلاَ تُطِعِ الكافرين والمنافقين } أي لا تسمع منهم ولا تستشرهم { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } أي فهو أحق أن تتبع أوامره وتطيعه ، فإنه عليم بعواقب الأمور ، حكيم في أقواله وأفعاله ، ولهذا قال تعالى : { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ } أي من قرآن وسنّة ، { إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أي فلا تخفى عليه خافية ، { وَتَوَكَّلْ على الله } أي في جميع أمورك أحوالك ، { وكفى بالله وَكِيلاً } أي وكفى به وكيلاً لمن توكل عليه وأناب إليه .(1/2007)
مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (5)
يقول تعالى موطئاً قبل المقصود المعنوي ، أمراً معروفاً حسياً ، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله أنت عليَّ كظهر أمي أماً له ، كذلك لا يصير الدعيُّ ولداً للرجل إذا تبناه فدعاه ابناً له ، فقال : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللائي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ } ، كقوله عزَّ وجلَّ : { مَّا هُنَّ أُمَّهَاتِهِمْ إِنْ أُمَّهَاتُهُمْ إِلاَّ اللائي وَلَدْنَهُمْ } [ المجادلة : 2 ] الآية ، وقوله : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } هذا هو المقصود بالنفي ، فإنها نزلت في شأن ( زيد بن حارثة ) رضي الله عنه مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة ، فكان يقال له ( زيد بن محمد ) فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذا النسبة بقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } ، كما قال تعالى : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ ولكن رَّسُولَ الله وَخَاتَمَ النبيين } [ الأحزاب : 40 ] ، وقال هاهنا : { ذلكم قَوْلُكُم بِأَفْوَاهِكُمْ } يعني تبنّيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابناً حقيقياً فإنه مخلوق من صلب رجل آخر ، فما يمكن أن يكون له أبوان ، كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان ، { والله يَقُولُ الحق } أي العدل ، { وَهُوَ يَهْدِي السبيل } أي الصراط المستقيم . وقد ذكر غير واحد أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش كان يقال له ذو القلبين ، وأنه كان يزعم أن له قلبين كل منهما بعقل وافر ، فأنزل الله تعالى هذه الآية رداً عليه . وقال عبد الرزاق عن الزهري في قوله : { مَّا جَعَلَ الله لِرَجُلٍ مِّن قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ } ، قال : بلغنا أن ذلك كان في ( زيد بن حارثة ) ضرب له مثل ، يقول ليس ابن رجل آخر ابنك ، وكذا قال مجاهد وقتادة وابن زيد : أنها نزلت في زيد بن حارثة رضي الله عنه ، وهذا يوافق ما قدمناه من التفسير والله سبحانه وتعالى أعلم ، وقوله عزَّ وجلَّ : { ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله } هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام ، من جواز ادعاء الأبناء الأجانب ، وهم الأدعياء ، فأمر تبارك وتعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة ، وأن هذا هو العدل والقسط والبر .
روى البخاري عن عبد الله بن عمر قال : إن زيد بن حارثة رضي الله عنه مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما كنا ندعوه إلاّ زيد بن محمد حتى نزل القرآن : { ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله } . وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه في الخلوة بالمحارم وغير ذلك ، ولهذا لما نسخ هذا الحكم أباح تبارك وتعالى زوجه الدعي ، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بن جحش مطلقة زيد بن حارثة رضي الله عنه ، وقال عزَّ وجلَّ :(1/2008)
{ لِكَيْ لاَ يَكُونَ عَلَى المؤمنين حَرَجٌ في أَزْوَاجِ أَدْعِيَآئِهِمْ إِذَا قَضَوْاْ مِنْهُنَّ وَطَراً } [ الأحزاب : 37 ] ، وقال تبارك وتعالى في آية التحريم : { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } [ النساء : 23 ] احترازاً عن زوجة الدعي فإنه ليس من الصلب ، فأما دعوة الغير ابناً على سبيل التكريم والتحبيب ، فليس مما نهي عنه في هذه الآية ، بدليل ما رواه ابن عباس رضي الله عنهما قال : « قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على جمرات لنا من جمع ، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول : » أبينيّ لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس « » وعن أنس بن مالك رضي الله عنه قال ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا بني » ، وقوله عزَّ وجلَّ : { فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ } أمر تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم إن عرفوا ، فإن لم يعرفوا فهم إخوانهم في الدين ومواليهم أي عوضاً عما فاتهم من النسب ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه : « أنت مني وأنا منك » وقال لجعفر رضي الله عنه : « أشبهتَ خَلْقي وخُلُقي » ، وقال لزيد رضي الله عنه : « أنت أخونا ومولانا » كما قال تعالى : { فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ } .
وقد جاء في الحديث : « ليس من رجل ادعى إلى غير أبيه وهو يعلمه إلاّ كفر » ؛ وهذا تشديد وتهديد ، ووعيد أكيد ، في التبري من النسب المعلوم ، ولهذا قال تعالى : { ادعوهم لآبَآئِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ الله فَإِن لَّمْ تعلموا آبَاءَهُمْ فَإِخوَانُكُمْ فِي الدين وَمَوَالِيكُمْ } ، ثم قال تعالى : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ } أي إذا نسبتم بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة خطأ ، بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع ، فإن الله تعالى قد وضع الحرج في الخطأ ، ورفع إثمه كما أرشد إليه في قوله تبارك وتعالى : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] ، وفي الحديث : « إذا اجتهد الحاكم فأصاب فله أجران ، وإن اجتهد فأخطا فله أجر » ، وفي الحديث الآخر : « إن الله تعالى رفع عن أمتي الخطأ والنسيان والأمر الذي يكرهون عليه » ، وقال تبارك وتعالى ههنا : { وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَآ أَخْطَأْتُمْ بِهِ ولكن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } أي إنما الإثم على من تعمد الباطل ، كما قال عزَّ وجلَّ : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } [ البقرة : 225 ] الآية ، وروى الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه أنه قال : إن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل معه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ورجمنا بعده ، ثم قال : قد كنا نقرأ : [ ولا ترغبوا عن آبائكم فإنه كفر بكم إن ترغبوا عن آبائكم ] ، وفي الحديث الآخر : « ثلاث في الناس كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت ، والاستسقاء بالنجوم » .(1/2009)
النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (6)
علم الله تعالى شفقة رسول الله صلى الله عليه وسلم على أمته ونصحه لهم ، فجعله أولى بهم من أنفسهم ، وحكمه فيهم مقدمٌ على اختيارهم لأنفسهم ، كما قال تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } [ النساء : 65 ] ، وفي الصحيح : « والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وماله وولده والناس أجمعين » وفي الصحيح أيضاً « أن عمر رضي الله عنه قال : يا رسول الله ، والله لأنت أحب إِليَّ من كل شيء إلاّ من نفسي ، فقال صلى الله عليه وسلم : » لا يا عمر حتى أكون أحب إليك من نفسك « فقال : يا رسول الله والله لأنت أحب إليَّ من كل شيء حتى من نفسي ، فقال صلى الله عليه وسلم : » الآن يا عمر « » ؛ ولهذا قال تعالى في هذه الآية : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } ، وقال البخاري عند هذه الآية الكريمة عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مؤمن إلاّ وأنا أولى الناس به في الدنيا والآخرة ، إقرأوا إن شئتم : { النبي أولى بالمؤمنين مِنْ أَنْفُسِهِمْ } . فأيما مؤمن ترك مالاً فليرثه عصبته من كانوا ، وإن ترك ديناً أو ضياعاً فليأتني فأنا مولاه » وقال تعالى : { وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ } أي في الحرمة والاحترام ، والتوقير والإكرام والإعظام ، ولكن لا تجوز الخلوة بهن ولا ينتشر التحريم إلى بناتهن وأخواتهن بالإجماع .
وقوله تعالى : { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله } أي في حكم الله { مِنَ المؤمنين والمهاجرين } أي القرابات أولى بالتوارث من المهاجرين والأنصار ، وهذه ناسخة لما كان قبلها من التوارث بالحلف والمؤاخاة التي كانت بينهم ، كما قال ابن عباس وغيره : كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه للأخوة التي آخى بينهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عن الزبير بن العوام رضي الله عنه قال : أنزل الله عزَّ وجلَّ فينا خاصة معشر قريش والأنصار : { وَأُوْلُو الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ } ، وذلك أنا معشر قريش لما قدمنا من المدينة قدمنا ولا أموال لنا ، فوجدنا الأنصار نعم الإخوان فواخيناهم ووارثناهم ، فآخى أبو بكر رضي الله عنه ( خارجة بن زيد ) ، وآخى عمر رضي الله عنه فلاناً ، وآخى عثمان رضي الله عنه رجلاً من بني زريق ( ابن سعد الزرقي ) ويقول بعض الناس غيره ، قال الزبير رضي الله عنه وواخيت أنا ( كعب بن مالك ) فجئته فابتعلته ، فوجدت السلاح قد ثقله فيما يرى ، فوالله يا بني لو مات يومئذٍ عن الدنيا ما ورثه غيري ، حتى أنزل الله تعالى هذه الآية فينا معشر قريش ، والأنصار خاصة ، فرجعنا إلى مواريثنا . وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن تفعلوا إلى أَوْلِيَآئِكُمْ مَّعْرُوفاً } أي ذهب الميراث وبقي النصر والبر والصلة والإحسان والوصية ، وقوله تعالى : { كَانَ ذَلِكَ فِي الكتاب مَسْطُوراً } أي هذا الحكم ، وهو أن أولى الأرحام بعضهم أولى ببعض ، حكم من الله مقدر مكتوب في الكتاب الأول الذي لا يبدل ولا يغير ، وإن كان تعالى قد شرع خلافه في وقت ، لما له في ذلك من الحكمة البالغة وهو يعلم أنه سينسخه إلى ما هو جار في قدره الأزلي وقضائه القدري الشرعي والله أعلم .(1/2010)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِنْ نُوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (7) لِيَسْأَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا أَلِيمًا (8)
يقول تعالى مخبراً عن أولي العزم الخمسة وبقية الأنبياء ، أنه أخذ عليهم العهد والميثاق ، في إقامة دين الله تعالى وإبلاغ رسالته ، والتعاون والتناصر والاتفاق ، كما قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ } [ آل عمران : 81 ] الآية ، فهذا العهد والميثاق أخذ عليهم بعد أرسالهم ، وكذلك هذا ، ونص من بينهم على هؤلاء الخمسة وهم أولو العزم ، وقد صرح بذكرهم أيضاً في قوله تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } [ الشورى : 13 ] فهذه هي الوصية التي أخذ عليهم الميثاق بها ، كما قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } فبدأ في هذه الآية بالخاتم لشرفه صلوات الله عليه ، ثم رتبهم بحسب وجودهم صلوات الله عليهم ، وقد قيل : إن المراد بهذا الميثاق الذي أخذ منهم حين أخرجوا في صورة الذر من صلب آدم عليه الصلاة والسلام ، كما قال أبي بن كعب : ورفع أباهم آدم فنظر إليهم يعني ذريته ، وأن فيهم الغني والفقير ، وحسن الصورة ودون ذلك فقال : رب لو سويت بين عبادك فقال : إني أحببت أن أشكر ، ورأى فيهم الأنبياء مثل السرج عليهم النور وخصوا بميثاق آخر من الرسالة والنبوة وهو الذي يقول الله تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } وقال ابن عباس : الميثاق الغليظ العهد ، وقوله تعالى : { لِّيَسْأَلَ الصادقين عَن صِدْقِهِمْ } قال مجاهد : المبلغين المؤدين عن الرسل ، وقوله تعالى : { وَأَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ } أي من أممهم { عَذَاباً أَلِيماً } أي موجعاً ، فنحن نشهد أن الرسل قد بلغوا رسالات ربهم ونصحوا الأمم ، وإن كذبهم من كذبهم من الجهلة والمعاندين ، والمارقين والقاسطين .(1/2011)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا (9) إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10)
يقول تعالى مخبراً عن نعمته وفضله وإحسانه ، إلى عباده المؤمنين في صرفه أعداءهم وهزمه إياهم ، عام تألبوا عليهم وتحزبوا ، وذلك عام الخندق ، وكان سبب قدوم الأحزاب أن نفراً من أشراف يهود بني النضير ، الذين كانوا قد أجلاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى خيبر ، منهم ( سلام بن أبي الحقيق ) و ( سلام بن مشكم ) و ( كنانة بن الربيع ) خرجوا إلى مكة ، فاجتمعوا بأشراف قريش ، وألبوهم على حرب النبي صلى الله عليه وسلم ، ووعدوهم من أنفسهم النصر والإعانة ، فأجابوهم إلى ذلك ، ثم خرجوا إلى غطفان فدعوهم فاستجابوا لهم أيضاً ، وخرجت قريش في أحابيشها ومن تابعها وقائدهم ( أبو سفيان ) صخر بن حرب ، وعلى غطفان عيينة بن حصن بن بدر ، والجميع قريب من عشرة آلاف ، فلما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمسيرهم أمر المسلمين بحفر الخندق حول المدينة مما يلي الشرق ، وذلك بإشارة سلمان الفارسي رضي الله عنه ، فعمل المسلمون فيه واجتهدوا ونقل معهم رسول الله صلى الله عليه وسلم التراب و حفر ، وجاء المشركون فنزلوا شرقي المدينة قريباً من أحد ، ونزلت طائفة منهم في أعالي أرض المدينة ، كما قال الله تعالى : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ } ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه من المسلمين وهم نحو من ثلاثة آلاف ، فأسندوا ظهروهم إلى سلع ووجوههم نحو العدو ، والخندق حفير ليس فيه ماء بينهم وبينهم ، يحجب الخيالة والرجالة أن تصل إليهم وجعل النساء والذراري في آطام المدينة ، وكانت بنو قريظة وهم طائفة من اليهود لهم حصن شرقي المدينة ، ولهم عنهد من النبي صلى الله عليه وسلم وذمة ، وهم قريب من ثمانمائة مقاتل ، فذهب إليهم ( حيي بن أخطب ) فلم يزل بهم حتى نقضوا العهد ، ومالأوا الأحزاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فعظم الخطب واشتد الأمر ، وضاق الحال ، كما قال الله تبارك وتعالى : { هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } [ الأحزاب : 11 ] ومكثوا محاصرين للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه قريباً من شهر ، إلاّ أنهم لا يصلون إليهم ، ولم يقع بينهم قتال ، ثم أرسل الله عزَّ وجلَّ الأحزاب ريحاً شديدة الهبوب قوية حتى لم يبقى لهم خيمة ولا شيء ، ولا توقد لهم نار ولا يقر لهم قرار ، حتى ارتحلوا خائبين خاسرين ، كما قال الله عزَّ وجلَّ : { ياأيها الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَآءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحاً } قال مجاهد : وهي الصَّبا : ويؤيده الحديث الشريف : « نصرت بالصَّبا وأهلكت عاد بالدبور » .
وقوله تعالى : { وَجُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } هم الملائكة زلزلتهم وألقت في قلوبهم الرغب والخوف ، فكان رئيس كل قبيلة يقول : يا بني فلان إليّ فيجتمعون إليه فيقول : النجاء لما ألقى الله عزَّ وجلَّ في قلوبهم من الرغب ، روى مسلم في « صحيحه » عن إبراهيم التيمي عن أبيه قال : كنا عند حذيفة بن اليمان رضي الله عنه فقال له رجل :(1/2012)