{ إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ] الآية ، وهذا القول أرجح في المقام من الأول ، والله أعلم ، ولهذا قال : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } ، ولهذا لما « جاء جبريل عليه السلام في صورة أعرابي ليعلم الناس أمر دينهم ، فجلس من رسول الله صلى الله عليه وسلم مجلس السائل المسترشد ، وسأله صلى الله عليه وسلم عن الإسلام ، ثم عن الإيمان ، ثم عن الإحسان ، ثم قال : فمتى الساعة؟ قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما المسئول عنها بأعلم من السائل « أي لست أعلم بها منك ولا أحد أعلم بها من أحد ، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } [ لقمان : 34 ] الآية ، وفي رواية : » فسأله عن أشراط الساعة فبين له أشراط الساعة ، ثم قال : « في خمس لا يعلمهن إلا الله » ، وقرأ هذه الآية ، ثم « لما انصرف قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هذا جبريل أتاكم يعلمكم دينكم « ، ولما سأله ذلك الأعرابي وناداه بصوت جهوري فقال : » يا محمد ، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هاؤم » على نحوٍ من صوته ، قال : يا محمد متى الساعة؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ويحك إن الساعة آتية فما أعددت لها »؟ قال : ما أعددت لها كبير صلاة ولا صيام ، ولكني أحب الله ورسوله ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « المرء مع من أحب » فما فرح المسلمون بشيء فرحهم بهذا الحديث « .
وقال الإمام أحمد عن حذيفة قال : » سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الساعة ، فقال : « علمها عند ربي عزّ وجلَّ لا يجليها لوقتها إلا هو ، ولكن سأخبركم بمشارطها وما يكون بين يديها : إن بين يديها فتنة وهرجاً » قالوا : يا رسول الله الفتنة قد عرفناها ، فما الهرج؟ قال : « بلسان الحبشة : القتل » ، قال : « ويلقى بين الناس التناكر فلا يكاد أحد يعرف أحداً »(1/932)
وقال وكيع عن طارق بن شهاب قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يزال يذكر من شأن الساعة ، حتى نزلت : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا } الآية ، وهذا إسناد جيد قوي ، فهذا النبي الأمي سيد الرسل وخاتمهم محمد صلوات الله عليه وسلامه نبي الرحمة ونبي التوبة ونبي الملحمة ، والعاقب المقفي والحاشر ، الذي تحشر الناس على قدميه مع قوله فيما ثبت عنه في الصحيح من حديث أنس وسهل بن سعد رضي الله عنهما : « بعثت أنا والساعة هاتين » وقرن بين إصبعيه السبابة والتي تليها ، ومع هذا كله قد أمره الله أن يرد علم وقت الساعة إليه إذا سئل عنها ، فقال : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ الله ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } .(1/933)
قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعًا وَلَا ضَرًّا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)
أمره الله تعالى أن يفوض الأمور إليه وأن يخبر عن نفسه أنه لا يعلم الغيب المستقبل ولا اطلاع له على شيء من ذلك إلا بما أطلعه الله عليه ، كما قال تعالى : { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً } [ الجن : 26 ] الآية ، وقوله : { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير } قال مجاهد : لو كنت أعلم متى أموت لعملت عملاً صالحاً ، والأحسن من هذا ما رواه الضحاك عن ابن عباس { وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الغيب لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الخير } : أي من المال ، وفي رواية : لعلمت إذا اشتريت شيئاً ما أربح فيه ، فلا أبيع شيئاً إلا ربحت فيه ، ولا يصيبني الفقر . وقال ابن جرير : وقال آخرون : معنى ذلك لو كنت أعلم الغيب لأعددت للسنة المجدبة من المخصبة ، ولوقت الغلاء من الرخص ، فاستعددت له من الرخص ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { وَمَا مَسَّنِيَ السواء } قال : لاجتنبت ما يكون من الشر أن يكون واتقيته ، ثم أخبر أنه هو نذير وبشير ، أي نذير من العذاب وبشير للمؤمنين بالجنات ، كما قال تعالى : { فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ المتقين وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } [ مريم : 97 ] .(1/934)
هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفًا فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحًا لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحًا جَعَلَا لَهُ شُرَكَاءَ فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190)
ينبه تعالى على أنه خلق جميع الناس من آدم عليه السلام وأنه خلق منه زوجته حواء ، ثم انتشر الناس منهما ، كما قال تعالى : { ياأيها الناس إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وأنثى } [ الحجرات : 13 ] الآية ، وقال تعالى : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } [ النساء : 1 ] الآية ، وقال في هذه الآية الكريمة : { وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا } ليألفها ويسكن بها ، كقوله تعالى : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لتسكنوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً } [ الروم : 21 ] فلا ألفة أعظم مما بين الزوجين ، ولهذا ذكر تعالى أن الساحر ربما توصل بكيده إلى التفرقة بين المرء وزوجه ، { فَلَماَّ تَغَشَّاهَا } أي وطئها { حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً } وذلك أول الحمل لا تجد المرأة له ألماً إنما هي النطفة ثم العلقة ثم المضغة ، وقوله : { فَمَرَّتْ بِهِ } ، قال مجاهد : استمرت بحمله ، وقال أيوب سألت الحسن عن قوله : { فَمَرَّتْ بِهِ } قال : لو كنت رجلاً عربياً لعرفت ما هي ، إنما هي : فاستمرت به ، وقال قتادة : { فَمَرَّتْ بِهِ } : استبان حملها ، وقال العوفي عن ابن عباس : استمرت به فشكت أحملت أم لا ، { فَلَمَّآ أَثْقَلَتْ } أي صارت ذات ثقل بحملها ، وقال السدي : كبر الولد في بطنها ، { دَّعَوَا الله رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً } أي بشراً سوياً ، كما قال الضحاك عن ابن عباس : أشفقا أن يكون بهيمة . وقال الحسن البصري : لئن آتيتنا غلاماً لنكونن من الشاكرين { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } . ذكر المفسرون هاهنا آثاراً سأوردها وأبين ما فيها .
قال الإمام أحمد في « مسنده » عن الحسن عن سمرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لما ولدت حواء طاف بها إبليس ، وكان لا يعيش لها ولد ، فقال : سميه ( عبد الحارث ) فإنه يعيش ، فسمته عبد الحارث فعاش ، وكان ذلك من وحي الشيطان وأمره » قال ابن جرير عن الحسن { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا } قال : كان هذا في بعض أهل الملل ولم يكن بآدم ، وعن قتادة قال كان الحسن يقول : هم اليهود رزقهم الله أولاداً فهودوا ونصروا ، وهذه أسانيد صحيحة عن الحسن رضي الله عنه أنه فسر الآية بذلك ، وهو من أحسن التفاسير ، وأولى ما حملت عليه الآية ، ولو كان هذا الحديث عنده محفوظاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما عدل عنه هو ولا غيره ، فهذا يدلك على أنه موقوف على الصحابي ، وعن ابن عباس قال : كانت حواء تلد لآدم عليه السلام أولاداً فيعبدهم لله ويسميهم عبد الله وعبيد الله ونحو ذلك ، فيصيبهم الموت ، فأتاهما إبليس فقال : إنكما لو سميتماه بغير الذي تسميانه به لعاش ، قال فولدت له رجلاً فسماه عبد الحارث ، ففيه أنزل الله يقول : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } إلى قوله { جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا } إلى أخر الآية ، وعنه قال : أتاهما الشيطان فقال : هل تدريان ما يولد لكما! أم هل تدريان ما يكون أبهيمة أم لا؟ وزين لهما الباطل ، وقد كانت قبل ذلك ولدت ولدين فماتا ، فقال لهما الشيطان : إنكما إن لم تسمياه بي لم يخرج سوياً ومات ، كما مات الأول ، فسميا ولدهما عبد الحارث ، فذلك قول الله تعالى : { فَلَمَّآ آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَآءَ فِيمَآ آتَاهُمَا } الآية .(1/935)
وروى ابن أبي حاتم عن أبي بن كعب قال : لما حملت حواء أتاها الشيطان فقال لها : أتطيعيني ويسلم لك ولدك؟ سميه عبد الحارث ، فلم تفعل ، فولدت فمات ، ثم حملت فقال لها مثل ذلك فلم تفعل ، ثم حملت الثالثة فجاءها فقال : إن تطيعيني يسلم ، وإلا فإنه يكون بهيمة فهيبها فأطاعا ، وهذه الآثار يظهر عليها والله أعلم أنها من آثار أهل الكتاب ، وأما نحن فعلى مذهب الحسن البصري رحمه الله في هذا ، وأنه ليس المراد من هذا السياق ( آدم وحواء ) وإنما المراد من ذلك المشركون من ذريته ، ولهذا قال الله : { فَتَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } مذكر آدم وحواء أولاً كالتوطئة لما بعدهما من الوالدين ، وهو كالاستطراد من ذكر الشخص إلى الجنس كقوله : { وَلَقَدْ زَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ } [ الملك : 5 ] الآية ، ومعلوم أن المصابيح وهي النجوم التي زينت بها السماء ليست هي التي يرمى بها ، وإنما هذ استطراد من شخص المصابيح إلى جنسها ، ولهذا نظائر في القرآن ، والله أعلم .(1/936)
أَيُشْرِكُونَ مَا لَا يَخْلُقُ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلَا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْرًا وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُوا شُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلَا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلَا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ (198)
هذا إنكار من الله على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأنداد والأصنام والأوثان ، وهي مخلوقة لله مربوبة مصنوعة ، لا تملك شيئاً من الأمر ، ولا تضر ولا تنفع ، ولا تبصر ولا تنتصر لعابديها ، بل هي جماد لا تتحرك ولا تسمع ولا تبصر وعابدوها أكمل منها بسمعهم وبصرهم وبطشهم ، ولهذا قال : { أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } أي أتشركون به من المعبودات ما لا يخلق شيئاً ولا يستطيع ذلك ، كقوله تعالى : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب } [ الحج : 73 ] أخبر تعالى أن آلهتهم لو اجتمعوا كلهم ما استطاعوا خلق ذبابة ، بل لو سلبتهم الذبابة شيئاً من حقير المطاعم وطارت لما استطاعوا إنقاذه منها ، فمن هذه صفته وحاله كيف يعبد ليرزق ويستنصر؟ ولهذا قال تعالى : { لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ } [ النمل : 20 ] أي بل هم مخلوقون مصنوعون كما قال الخليل : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ } [ الصافات : 95 ] الآية ، ثم قال تعالى : { وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً } أي لعابديهم { وَلاَ أَنْفُسَهُمْ يَنصُرُونَ } يعني ولا لأنفسهم ينصرون ممن أرادهم بسوء ، كما كان الخليل عليه الصلاة والسلام يكسر أصنام قومه ويهينها غاية الإهانة كما أخبر تعالى عنه في قوله : { فَرَاغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً باليمين } [ الصافات : 93 ] ، وقال تعالى : { فَجَعَلَهُمْ جُذَاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ } [ الأنبياء : 58 ] ، وكما كان ( معاذ بن عمرو بن الجموح ) و ( معاذ بن جبل ) رضي الله عنهما ، وكانا شابين قد أسلما لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فكانا يعدوان في الليل على أصنام المشركين يكسرانها ويتلفانها ويتخذانها حطباً للأرامل ، ليعتبر قومهما بذلك ، ليرتأوا لأنفسهم ، فكان لعمرو بن الجموح ، وكان سيداً في قومه ، صنم يعبده ويطيبه ، فكانا يجيئان في الليل فينكسانه على رأسه ، ويلطخانه بالعذرة ، فيجيء ( عمرو بن الجموح ) فيرى ما صنع به ، فيغسله ويطيبه ويضع عنده سيفاً ويقول له : انتصر ، ثم يعودان لمثل ذلك ويعود إلى صنيعه أيضاً ، حتى أخذاه مرة فقرناه مع كلب ميت ، ودلياه في حبل في بئر هناك ، فلما جاء عمرو بن الجموح ، ورأى ذلك نظر ، فعلم أن ما كان عليه من الدين باطل وقال :
تالله لو كنت إلهاً مستدن ... لم تك والكلب جميعاً في قرن
من أسلم فحسن إسلامه ، وقتل يوم أحد شهيداً رضي الله عنه وأرضاه جعل جنة الفردوس مأواه . وقوله : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ } الآية ، يعني أن هذه الأصنام لا تسمع دعاء من دعاها ، وسواء لديها من دعاها ومن دحاها كما قال إبراهيم : { إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] ثم ذكر تعالى أنها عبيد مثل عابديها أي مخلوقات مثلهم ، بل الأناس أكمل منها ، لأنها تسمع وتبصر وتبطش ، وتلك لا تفعل شيئاً من ذلك .(1/937)
وقوله تعالى : { قُلِ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ } الآية ، أي استنصروا بها عليَّ فلا تؤخروني طرفة عين واجهدوا جهدكم ، { إِنَّ وَلِيِّيَ الله الذي نَزَّلَ الكتاب وَهُوَ يَتَوَلَّى الصالحين } أي الله حسبي وكافيني وهو نصيري وعليه متكلي وإليه ألجأ ، وهو وليي في الدنيا والآخرة وهو ولي كل صالح بعدي ، وهذا كما قال هود عليه السلام : { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ إِنَّ رَبِّي على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ هود : 56 ] ، وكقول الخليل : { قَالَ أَفَرَأَيْتُمْ مَّا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ * أَنتُمْ وَآبَآؤُكُمُ الأقدمون * فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لي إِلاَّ رَبَّ العالمين } [ الشعراء : 57-77 ] الآيات ، وكقوله لأبيه وقومه : { إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [ الزخرف : 26-27 ] ، وقوله : { والذين تَدْعُونَ مِن دُونِهِ } إلى آخر الآية؛ مؤكد لما تقدم إلا أنه بصيغة الخطاب وذاك بصيغة الغيبة ، ولهذا قال : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ ولا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ } ، وقوله : { وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الهدى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } ، كقوله تعالى : { إِن تَدْعُوهُمْ لاَ يَسْمَعُواْ دُعَآءَكُمْ } [ فاطر : 14 ] الآية ، وقوله : { وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } ، إنما قال : { يَنظُرُونَ إِلَيْكَ } أي يقابلونك بعيون مصورة كأنها ناظرة وهي جماد ، ولهذا عاملهم معاملة من يعقل لأنها على صور مصورة كالإنسان وتراهم ينظرون إليك ، فعبر عنها بضمير من يعقل ، وقال السدي : المراد بهذا المشركون ، والأول أولى ، وهو اختيار ابن جرير .(1/938)
خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)
قال ابن عباس : { خُذِ العفو } يعني خذ ما عفا لك من أموالهم وما أتوك به من شيء فخذه ، وكان هذا قبل أن تنزل براءة بفرائض الصدقات وتفصيلها وما انتهت إليه الصدقات ، وقال الضحاك عن ابن عباس : أنفق الفضل ، وقال عبد الرحمن بن أسلم : أمره الله بالعفو والصفح عن المشركين عشر سنين ، ثم أمره بالغلظة عليهم ، واختار هذا القول ابن جرير ، وقال غير واحد عن مجاهد في قوله تعالى : { خُذِ العفو } قال : من أخلاق الناس وأعمالهم من غير تجسس ، وفي « صحيح البخاري » عن عبد الله بن الزبير قال : إنما أنزل { خُذِ العفو } من أخلاق الناس ، وفي رواية عن أبي الزبير : { خُذِ العفو } قال : من أخلاق الناس والله لآخذنه منهم ما صحبتهم وهذا أشهر الأقوال ، ويشهد له ما روي عن أبيّ قال : لما أنزل الله عزَّ وجلَّ على نبيه صلى الله عليه وسلم { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما هذا يا جبريل »؟ قال : إن الله أمرك أن تعفو عمن ظلمك ، وتعطي من حرمك ، وتصل من قطعك . وقال الإمام أحمد عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : لقيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فابتدأته ، فأخذت بيده فقلت : يا رسول الله أخبرني بفواضل الأعمال ، فقال : « يا عقبة صل من قطعك ، وأعط من حرمك ، وأعرض عمن ظلمك » .
وقال البخاري قوله : { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } العرف : المعروف . عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قدم ( عيينة بن حصن بن حذيفة ) فنزل على ابن أخيه ( الحر بن قيس ) وكان من النفر الذين يدنيهم عمر ، وكان القراء أصحاب مجالس عمر ومشاوراته كهولاً كانوا أو شباناً ، فقال عيينة لابن أخيه : يا ابن أخي لك وجه عند هذا الأمير ، فاستأذن لي عليه ، قال سأستأذن لك عليه ، قال ابن عباس : فاستأذن الحر لعيينة ، فأذن له عمر ، فلما دخل عليه قال : هي يا ابن الخطاب! فوالله ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم بيننا بالعدل ، فغضب عمر حتى همَّ أن يوقع به ، فقال له الحر : يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم : { خُذِ العفو وَأْمُرْ بالعرف وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } وإن هذا من الجاهلين ، والله ما جاوزوها عمر حين تلاها عليه ، وكان وقّافاً عند كتاب الله عزَّ وجلَّ . وقال ابن أبي حاتم عن عبد الله بن نافع : أن ( سالم بن عبد الله بن عمر ) مرّ على عير لأهل الشام وفيها جرس فقال : إن هذا منهي عنه ، فقالوا : نحن أعلم بهذا منك ، إنما يكره الجلجل الكبير ، فأما مثل هذا فلا بأس به ، فسكت سالم وقال : { وَأَعْرِضْ عَنِ الجاهلين } ، وقال ابن جرير : أمر الله نبيه صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباده بالمعروف ، ويدخل في ذلك جميع الطاعات ، وبالإعراض عن الجاهلين ، وذلك وإن كان أمراً لنبيه صلى الله عليه وسلم فإنه تأديب لخلقه باحتمال من ظلمهم واعتدى عليهم ، لا بالإعراض عمن جهل الحق الواجب من حق الله ولا بالصفح عمن كفر بالله وجهل وحدانيته ، وهو للمسليمن حرب .(1/939)
وقال قتادة في الآية : هذه أخلاق أمر الله بها نبيه صلى الله عليه وسلم ودله عليها . وقد أخذ بعض الحكماء هذا المعنى؛ فسبكه في بيتين فيهما جناس فقال :
خذ العفو وأمر بعرف كما ... أمرت وأعرض عن الجاهلين
ولن في الكلام لكل الأنام ... فمستحسن من ذوي الجاه لين
وقال بعض العلماء : الناس رجلان : فرجل محسن فخذ ما عفا لك من إحسانه ، ولا تكلفه فوق طاقته ولا ما يحرجه ، وإما مسيء فمره بالمعروف فإن تمادى على ضلاله واستعصى عليك واستمر في جهله فأعرض عنه فلعل ذلك أن يرد كيده ، كما قال تعالى : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ السيئة نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَصِفُونَ } [ المؤمنون : 96 ] ، وقال تعالى : { وَلاَ تَسْتَوِي الحسنة وَلاَ السيئة ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] ، وقال في هذه السورة الكريمة أيضاً : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ فاستعذ بالله إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ، فهذه الآيات الثلاث في الأعراف والمؤمنون وحم السجدة لا رابع لهن ، فإنه تعالى يرشد فيهن إلى معاملة العاصي من الإنس بالمعروف بالتي هي أحسن ، فإن ذلك يكفه عما هو فيه من التمرد بإذنه تعالى ، ولهذا قال : { فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] ، ثم يرشد تعالى إلى الاستعاذة به من شيطان الجان ، فإنه لا يكفه عنك الإحسان ، وإنما يريد هلاكك ودمارك بالكلية ، فإنه عدو مبين لك ولأبيك من قبلك . قال ابن جرير في تفسير قوله : { وَإِماَّ يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ } وإما يغضبنك من الشيطان غضب يصدك عن الإعراض عن الجاهل ويحملك على مجازاته { فاستعذ بالله } يقول : فاستجر بالله من نزغه ، { إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } سميع لجهل الجاهل عليك والاستعاذة به من نزغه ولغير ذلك من كلام خلقه لا يخفى عليه منه شيء ، عليمبما يذهب عنك نزغ الشيطان وغير ذلك من أمور خلقه ، وقد تقدم في أول الاستعاذة حديث « الرجلين اللذين تسابا بحضرة النبي صلى الله عليه وسلم ، فغضب أحدهما فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم » إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه ما يجد : أعوذ بالله من الشيطان الرجيم « الحديث . وأصل النزغ : الفساد إما بالغضب أو غيره ، قال الله تعالى : { وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ التي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشيطان يَنزَغُ بَيْنَهُمْ } [ الإسراء : 53 ] ، والعياذ : الالتجاء والاستناد والاستجارة من الشر ، وأما الملاذ ففي طلب الخير ، كما قال الحسن بن هانئ :
يا من ألوذ به فيما أؤمله ... ومن أعوذ به مما أحاذره
لا يجبر الناس عظماً أنت كاسره ... ولا يهيضون عظماً أنت جابره
وقد قدمنا أحاديث الاستعاذة في أول التفسير بما أغنى عن إعادته هاهنا .(1/940)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ (202)
يخبر تعالى عن المتقين من عباده الذين أطاعوه فيما أمر ، وتركوا ما عنه زجر ، أنهم { إِذَا مَسَّهُمْ } أي أصابهم { طَائِفٌ } ، منهم من فسره بالغضب ، ومنهم من فسره بمس الشيطان بالصرع ونحوه ، ومنهم من فسره بالهم بالذنب ، ومنهم من فسره بإصابة الذنب ، وقوله : { تَذَكَّرُواْ } أي عقاب الله وجزيل ثوابه ووعده ووعيده ، فتابوا وأنابوا واستعاذوا بالله ورجعوا إليه من قريب ، { فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } أي قد استقاموا وصحوا مما كانوا فيه ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبها طيف ، فقالت : « يا رسول الله إني أصرع ، وأتكشف ، فادع الله أن يشفيني ، فقال : » إن شئت دعوت الله أن يشفيك ، وإن شئت صبرت ولك الجنة « فقالت : بل اصبر ولي الجنة ، ولكن ادع الله أن لا أتكشف ، فدعا لها فكانت لا تتكشف » وروي أن شاباً كان يتعبد في المسجد فهويته امرأة فدعته إلى نفسها ، فما زالت به حتى كاد يدخل معها المنزل ، فذكر هذه الآية : { إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشيطان تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ } فخر مغشياً عليه ، ثم أفاق ، فأعادها ، فمات ، فجاء عمر فعزى فيه أباه ، وكان قد دفن ليلاً فذهب فصلى على قبره بمن معه ، ثم ناداه عمر فقال : يا فتى { وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ } [ الرحمن : 46 ] فأجابه ألفتى من داخل القبر : يا عمر قد أعطانيهما ربي عزَّ وجلَّ في الجنة مرتين وقوله تعالى : { وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ } أي وإخوانه الشياطين من الإنس ، كقوله : { إِنَّ المبذرين كانوا إِخْوَانَ الشياطين } [ الإسراء : 27 ] وهم أتباعهم والمستمعون لهم ، القابلون لأوامرهم { يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي } أي تساعدهم الشياطين على المعاصي وتسهلها عليهم وتحسنها لهم ، المد : الزيادة ، يعني يزيدونهم في الغي يعني الجهل والسفه ، { ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } قيل : معناه إن الشياطين تمد الإنس لا تقصر في أعمالهم بذلك ، كما قال ابن عباس : لا الإنس يقصرون عما يعملون ولا الشياطين تمسك عنهم ، وقيل : معناه كما رواه العوفي عن ابن عباس في قوله : { يَمُدُّونَهُمْ فِي الغي ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ } ، قال : هم الجن يوحون إلى أوليائهم من الإنس ثم لا يقصرون ، يقول لا يسأمون ، وكذا قال السدي وغيره ، يعني أنّ الشياطين يمدون أولياءهم من الإنس ، ولا تسأم من إمدادهم في الشر ، لأن ذلك طبيعة لهم وسجية ، { لاَ يُقْصِرُونَ } لا تفتر فيه ولا تبطل عنه ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } [ مريم : 83 ] ، قال ابن عباس وغيره : تزعجهم إلى المعاصي إزعاجاً .(1/941)
وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قَالُوا لَوْلَا اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يُوحَى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)
قال ابن عباس في قوله تعالى : { قَالُواْ لَوْلاَ اجتبيتها } يقول : لولا تلقيتها وقال مرة أخرى لولا أحدثتها فأنشأتها ، وقال : لولا اقتضيتَّها ، قالوا : تخرجها عن نفسك ، واختاره ابن جرير . وقال العوفي عن ابن عباس { لَوْلاَ اجتبيتها } يقول : تلقيتها من الله تعالى : وقال الضحاك { لَوْلاَ اجتبيتها } يقول : لولا أخذتها أنت فجئت بها من السماء ، ومعنى قوله تعالى : { وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ } أي معجزة وخارق ، كقوله تعالى : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] ، يقولون للرسول صلى الله عليه وسلم ألا تجهد نفسك في طلب الآيات من الله حتى نراها ونؤمن بها ، قال الله تعالى له : { قُلْ إِنَّمَآ أَتَّبِعُ مَا يوحى إِلَيَّ مِن رَّبِّي } أي أنا لا أتقدم إليه تعالى في شيء ، وإنما أتبع ما أمرني به فأمتثل ما يوحيه إلي ، فإن بعثت آية قبلتها ، وإن منعها لم أسأله ابتداء إياها ، إلا أن يأذن لي في ذلك فإنه حكيم عليم ، ثم أرشدهم إلى أن هذا القرآن هو أعظم المعجزات وأبين الدلالات وأصدق الحجج والبينات ، فقال : { هذا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .(1/942)
وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204)
لما ذكر تعالى أن القرآن بصائر للناس وهدى ورحمة أمر تعالى بالإنصات عند تلاوته إعظاماً له واحتراماً ، لا كما كان يعتمده كفار قريش المشركون في قولهم : { لاَ تَسْمَعُواْ لهذا القرآن والغوا فِيهِ } [ فصلت : 26 ] الآية ، ولكن يتأكد ذلك في الصلاة المكتوبة إذا جهر الإمام بالقراءة ، كما روي عن أبي موسى الأشعري قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنما جعل الإمام ليؤتم به فإذا كبر فكبروا وإذا قرأ فأنصتوا » وعن أبي هريرة قال : كانوا يتكلمون في الصلاة فلما نزلت هذه الآية : { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ } والآية الأخرى أمروا بالإنصات . قال ابن جرير وقال ابن مسعود : كنا يسلم بعضنا على بعض في الصلاة فجاء القرآن : { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ، وقال أيضاً عن بشير بن جابر قال : صلى ابن مسعود فسمع ناساً يقرأون مع الإمام ، فلما انصرف قال : أما آن لكم أن تفهموا أما آن لكم أن تعقلوا : { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ } كما أمركم الله . وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم انصرف من صلاة جهر فيها بالقراءة فقال : » هل قرأ أحد منكم معي آنفاً «؟ قال رجل : نعم يا رسول الله ، قال : » إني أقول ما لي أنازع القرآن « ، قال : فانتهى الناس عن القراءة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جهر فيه بالقراءة من الصلاة حين سمعوا ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال عبد الله بن المبارك : لا يقرأ من وراء الإمام فيما يجهر به الإمام ، تكفيهم قراءة الإمام وإن لم يسمعهم صوته ، ولكنهم يقرأون فيما لا يجهر به سراً في أنفسهم ، ولا يصلح لأحد خلفه أن يقرأ معه فيما يجهر به سراً ولا علانية ، فإن الله تعالى قال : { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } . وهذا مذهب طائفة من العلماء وهو أحد قولي الشافعية ، لما ذكرناه من الأدلة المتقدمة ، وقال الشافعي في الجديد : يقرأ الفاتحة فقط في سكتات الإمام ، وهو قول طائفة من الصحابة والتابعين فمن بعدهم .
وقال أبو حنيفة وأحمد بن حنبل : لا يجب على المأموم قراءة أصلاً في السرية ولا الجهرية بما ورد في الحديث : » من كان له إمام فقراءته قراءة له « وهذا أصح ، وقد أفرد لها الإمام البخاري مصنفاً على حدة ، واختار وجوب القراءة خلف الإمام في السرية والجهرية أيضاً ، والله أعلم ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في الآية ، يعني في الصلاة المفروضة ، وعن مجاهد قال : لا بأس إذا قرأ الرجل في غير الصلاة أن يتكلم .(1/943)
وقال ابن المبارك عن ثابت بن عجلان قال : سمعت ابن جبير يقول في قوله { وَإِذَا قُرِىءَ القرآن فاستمعوا لَهُ وَأَنصِتُواْ } قال : الإنصات يوم الأضحى ويوم الفطر ويوم الجمعة ، وفيما يجهر به الإمام من الصلاة ، وهذا اختيار ابن جرير : أن المراد من ذلك الإنصات في الصلاة وفي الخطبة ، كما جاء في الأحاديث بالإنصات خلف الإمام وحال الخطبة ، وقال الحسن : إذا جلست إلى القرآن فأنصت له . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من استمع إلى آية من كتاب الله كتبت له حسنة مضاعفة ، ومن تلاها كانت له نوراً يوم القيامة » .(1/944)
وَاذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعًا وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ وَلَا تَكُنْ مِنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لَا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206)
يأمر تعالى بذكره أول النهار وآخره كثيراً كما أمر بعبادته في هذين الوقتين في قوله : { وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشمس وَقَبْلَ الغروب } [ ق : 39 ] ، وقد كان هذا قبل أن تفرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء وهذه الآية مكية ، وقال هاهنا الغدو وهو أول النهار ، والآصال جمع أصيل ، وأما قوله : { تَضَرُّعاً وَخِيفَةً } أي اذكر ربك في نفسك رغبة ورهبة وبالقول لا جهراً ، ولهذا قال : { وَدُونَ الجهر مِنَ القول } ، وهكذا يستحب أن يكون الذكر خفياً لا يكون نداء وجهراً بليغاً ، ولهذا لما سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] ، وفي « الصحيحين » عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : رفع الناس أصواتهم بالدعاء في بعض الأسفار فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « يا أيها الناس اربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ، إن الذي تدعونه سميع قريب أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته » ، وقد يكون المراد من هذه الآية كما في قوله تعالى : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } [ الإسراء : 110 ] ، فإن المشركين كانوا إذا سمعوا القرآن سبوه وسبوا من جاء به ، فأمره الله تعالى أن لا يجهر به لئلا ينال منه المشركون ، ولا يخافت به عن أصحابه فلا يسمعهم ، وليتخذ سبيلاً بين الجهر والإسرار ، والمراد الحض على كثرة الذكر من العباد بالغدو والآصال ، لئلا يكونوا من الغافلين ، ولهذا مدح الملائكة الذين يسبحون الليل والنهار لا يفترون ، فقال : { إِنَّ الذين عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ } الآية ، وإنما ذكرهم بهذا ليقتدى بهم في كثرة طاعتهم وعبادتهم ، ولهذا شرع لنا السجود هاهنا لما ذكر سجودهم لله عزَّ وجلَّ كما جاء في الحديث : « ألا تصفون كما تصف الملائكة عند ربها يتمنون الصفوف ، الأول فالأول ، ويتراصون في الصف » وهذه أول سجدة في القرآن مما يشرع لتاليها ومستمعها السجود بالإجماع .(1/945)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفَالِ قُلِ الْأَنْفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)
قال البخاري : الأنفال المغانم ، عن سعيد بن جبير قال ، قلت لابن عباس رضي الله عنهما وسورة الأنفال ، قال : نزلت في بدر ، وروي عن ابن عباس أنه قال : الأنفال الغنائم ، كانت لرسول الله صلى الله عليه وسلم خالصة ليس لأحد منها شيء؛ قال فيها لبيد :
إن تقوى ربنا خير نَقَلْ ... وبإذن الله رَيْثى والعجل
وقال ابن جرير عن القاسم بن محمد قال : سمعت رجلاً يسأل ابن عباس عن الأنفال؟ فقال ابن عباس رضي الله عنهما : الفرس من النفل والسلب من النفل ، ثم عاد لمسألته ، فقال ابن عباس أيضاً ، ثم قال الرجل : الأنفال التي قال الله في كتابه ما هي؟ قال القاسم : فلم يزل يسأله حتى كاد يحرجه ، فقال ابن عباس : أتدرون ما مثل هذا؟ . . مثل صبيغ الذي ضربه عمر بن الخطاب . وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس أنه فسر النفل بما ينفله الإمام لبعض الأشخاص من سلب أو نحوه بعد قسم أصل المغنم ، وهو المتبادر إلى فهم كثير من الفقهاء من لفظ النفل ، والله أعلم . وقال مجاهد : إنهم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الخمس بعد الأربعة من الأخماس ، فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } ، وقال ابن مسعود : لا نفل يوم الزحف ، إنما النفل قبل التقاء الصفوف ، وقال ابن المبارك عن عطاء بن أبي رباح في الآية { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } قال : يسألونك فيما شذ من المشركين إلى المسلمين في غير قتال من دابة أو عبد أو أمة أو متاع ، فهو نفل للنبي صلى الله عليه وسلم صنع به ما يشاء ، قال ابن جرير وقال آخرون : هي أنفال السرايا ، بلغني في قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال } قال : السرايا ، ومعنى هذا ما ينفله الإمام لبعض السرايا زيادة على قسمهم مع بقية الجيش ، وقد صرح بذلك الشعبي ، واختار ابن جرير أنها الزيادة على القم ويشهد بذلك ما ورد في سبب نزول الآية وهو ما روي عن سعد بن أبي وقاص قال : « لما كان يوم بدر قتل أخي ( عمير ) وقتلت ( سعيد بن العاص ) وأخذت سيفه ، وكان يسمى ذا الكتيفة ، فأتيت به النبي صلى الله عليه وسلم فقال : » اذهب فاطرحه في القبض « ، قال : فرجعت وبي ما لا يعلمه الله من قتل أخي وأخذ سلبي ، قال : فما جاوزت إلا يسيراً ، حتى نزلت سورة الأنفال فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : » اذهب فخذ سلبك « .
سبب آخر في نزول الآية
وقال الإمام أحمد عن أبي أمامة قال : سألت ( عبادة ) عن الأنفال ، فقال : فينا أصحاب بدر نزلت ، حين اختلفنا في النفل وساءت فيه أخلاقنا ، فانتزعه الله من أيدينا ، وجعله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقسمه رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين عن بواء ، يقول : عن سواء ، وقال الإمام أحمد أيضاً عن عبادة بن الصامت قال :(1/946)
« خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فشهدت معه بدراً ، فالتقى الناس فهزم الله تعالى العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون ، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله صلى الله عليه وسلم لا يصيب العدو منه غرة حتى إذا كان الليل ، وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق به منا ، نحن منعنا عنه العدو وهزمناهم ، وقال الذين أحدقوا برسول الله صلى الله عليه وسلم : خفنا أن يصيب العدو منه غرة فاشتغلنا به ، فنزلت { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } ، فقسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المسلمين » ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أغار في أرض العدو نفل الربع ، فإذا أقبل راجعاً نفل الثلث ، وكان يكره الأنفال . وروى أبو داود والنسائي وابن مردويه واللفظ له ، عن عكرمة عن ابن عباس قال : « لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من صنع كذا وكذا فله كذا وكذا « فتسارع في ذلك شبان القوم وبقي الشيوخ تحت الرايات ، فلما كانت المغانم جاءوا يطلبون الذي جعل لهم ، فقال الشيوخ لا تستأثروا علينا فإنا كنا ردءاً لكم لو انشكفتم لفئتم إلينا؛ فتنازعوا » ، فأنزل الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال . . . } إلى قوله { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } ، وقال الإمام القاسم بن سلام رحمه الله في كتاب ( الأموال الشرعية ) : أما الأنفال فهي المغانم ، وكل نيل ناله المسلمون من أموال أهل الحرب ، فكانت الأنفال الأولى لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، يقول الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأنفال قُلِ الأنفال للَّهِ والرسول } فقسمها يوم بدر على ما أراه الله من غير أن يخمسها ، ثم نزلت بعد ذلك آية الخمس فنسخت الأولى ، قلت : هكذا روي عن ابن عباس ، وبه قال مجاهد وعكرمة والسدي ، وقال ابن زيد : ليست منسوخة بل هي محكمة ، والأنفال أصلها جماع الغنائم إلا أن الخمس منها مخصوص لأهله على ما نزل به الكتاب وجرت به السنّة . ومعنى الأنفال في كلام العرب : كل إحسان فعله فاعل تفضلاً من غير أن يجب ذلك عليه ، فذلك النفل الذي أحله الله للمؤمنين من أموال عدوهم ، وإنما هو شيء خصهم الله به تفضلاً منه عليهم ، بعد أن كانت الغنائم محرمة على الأمم قبلهم ، فنفلها الله تعالى هذه الأمة فهذا أصل النفل .(1/947)
وشاهد هذا ما في « الصحيحين » « وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي » وذكر تمام الحديث .
وقوله تعالى : { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } أي اتقوا الله في أموركم وأصلحوا فيما بينكم ولا تظالموا ولا تخاصموا ولا تشاجروا ، فما آتاكم الله من الهدى والعلم خير مما تختصمون بسببه ، { وَأَطِيعُواْ الله وَرَسُولَهُ } أي في قسمه بينكم على ما أراده الله ، فإنه إنما يقسمه كما أمره الله من العدل والإنصاف ، وقال ابن عباس : هذا تحريج من الله ورسوله أن يتقوا ويصلحوا ذات بينهم ، وقال السدي { وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } أي لا تستبوا ، ولنذكر هاهنا حديثاً أورده الحافظ أبو يعلى الموصلي رحمه الله في « مسنده » عن أنس رضي الله عنه قال : « بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم جالس إذ رأيناه ضحك حتى بدت ثناياه ، فقال عمر : ما أضحكك يا رسول الله بأبي أنت وأمي؟ فقال : » رجلان من أمتي جثيا بين يدي رب العزة تبارك وتعالى ، فقال أحدهما : يا رب خذ لي مظلمتي من أخي ، قال الله تعالى : أعط أخاك مظلمته ، قال : يا رب لم يبق من حسناتي شيء ، قال : رب فليحمل عني من أوزاري « ، قال : ففاضت عينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبكاء ، ثم قال : » إن ذلك ليوم عظيم ، يوم يحتاج الناس إلى من يتحمل عنهم من أوزارهم ، فقال الله تعالى للطالب : ارفع بصرك وانظر في الجنان فرفع رأسه فقال : يا رب أرى مدائن من فضة وقصوراً من ذهب مكللة باللؤلؤ ، لأي نبي هذا؟ لأي صديق هذا؟ لأي شهيد هذا؟ قال : هذا لمن أعطى ثمنه؟ قال : رب ومن يملك ثمنه؟ قال : أنت تملكه ، قال : ماذا يا رب؟ قال تعفو عن أخيك ، قال : يا رب فإني قد عفوت عنه . قال الله تعالى : خذ بيد أخيك فادخلا الجنة « ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فاتقوا الله وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ } ، فإن الله تعالى يصلح بين المؤمنين يوم القيامة » .(1/948)
إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4)
قال مجاهد : { وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } فرقت أي فزعت وخافت ، وهذه صفة المؤمن حق المؤمن الذي إذا ذكر الله وجل قلبه أي أخاف منه ، ففعل أوامره ، وترك زواجره ، كقوله تعالى : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 135 ] الآية ، وكقوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النفس عَنِ الهوى * فَإِنَّ الجنة هِيَ المأوى } [ النازعات : 40-41 ] ولهذا قال سفيان الثوري ، سمعت السدي يقول في قوله تعالى : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } قال : هو الرجل يريد أن يظلم ، أو قال يهم بمعصية ، فيقال له : اتق الله فيجل قلبه؛ وعن أم الدرداء في قوله : { إِنَّمَا المؤمنون الذين إِذَا ذُكِرَ الله وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ } قالت : الوجل في القلب كاحتراق السَّعْفة . أما تجد له قشعريرة؟ قال : بلى ، قالت : إذا وجدت ذلك فادع الله عند ذلك فإن الدعاء يذهب ذلك ، وقوله : { وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً } ، كقوله : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ } [ التوبة : 124 ] وقد استدل البخاري وغيره من الأئمة بهذه الآية وأشباهها على زيادة الإيمان وتفاضله في القلوب ، كما هو مذهب جمهور الأمة ، بل قد حكى الإجماع عليه غير واحد من الأئمة كالشافعي وأحمد بن حنبل وأبي عبيد كما بينا ذلك مستقصى في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة . { وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي لا يرجون سواه ، ولا يقصدون إلا إياه ، ولا يلوذون إلا بجنابه ، ولا يطلبون الحوائج إلا منه ، ولا يرغبون إلا إليه ، ويعلمون أنه ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، وأنه المتصرف في الملك وحده لا شريك له ، ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ، ولهذا قال سعيد بن جبير : التوكل على الله جماع الإيمان ، وقوله : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } ، ينبه تعالى بذلك على أعمالهم بعدما ذكر اعتقادهم ، وهذه الأعمال تشمل أنواع الخير كلها ، وهو إقامة الصلاة وهو حق الله تعالى ، وقال قتادة : إقامة الصلاة المحافظة على مواقيتها ووضوئها وركوعها وسجودها ، وقال مقاتل : إقامتها المحافظة على مواقيتها ، وإسباغ الطهور فيها ، وتمام ركوعها وسجودها ، وتلاوة القرآن فيها ، والتشهد ، والصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ، هذا إقامتها ، والإنفاق مما رزقهم الله يشمل إخراج الزكاة وسائر الحقوق للعباد من واجب ومستحب ، والخلق كلهم عيال الله فأحبهم إلى الله أنفعهم لخلقه . قال قتادة في قوله : { وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } فأنفقوا مما رزقكم الله ، فإنما هذه الأموال عواري وودائع عندك يا ابن آدم أوشكت أن تفارقها .
وقوله تعالى : { أولائك هُمُ المؤمنون حَقّاً } أي المتصفون بهذه الصفات هم المؤمنون حق الإيمان ، « عن الحارث بن مالك الأنصاري : أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له : » كيف أصبحت يا حارث «؟ قال : أصبحت مؤمناً حقاً ، قال : » انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة فما حقيقة إيمانك «؟ فقال : عزفت نفسي عن الدنيا ، فأسهرت ليلي ، وأظمأت نهاري ، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزاً ، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها ، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها ، فقال : » يا حارث عرفت فالزم « ثلاثاً »(1/949)
كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَمَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنْظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8)
قال الطبري : اختلف المفسرون في السبب الجالب لهذه الكاف في قوله : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } فقال بعضهم شبهبه في الصلاح للمؤمنين؛ والمعنى : أن الله تعالى يقول : كما أنكم لما اختلفتم في المغانم وتشاححتم فيها ، فانتزعها الله منكم ، فكان هذه هو المصلحة التامة لكم ، كذلك لما كرهتم الخروج إلى الأعداء وهم النفير الذين خرجوا لإحراز عيرهم ، فكان عاقبة كراهتكم للقتال بأن قدره لكم على غير ميعاد رشداً وهدى ، ونصراً وفتحاً ، كما قال تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } [ البقرة : 216 ] ، وقال آخرون : معنى ذلك { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق } على كره من فريق من المؤمنين ، كذلم هم كارهون للقتال ، فهم يجادلونك فيه بعدما تبين لهم ، قال مجاهد : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ } كذلك يجادلونك في الحق . وقال بعضهم : يسألونك عن الأنفال مجادلة كما جادلوك يوم بدر ، فقالوا : أخرجتنا للعير ولم تعلمنا قتالاً فنستعد له . قلت : رسول الله صلى الله عليه وسلم إنما خرج من المدينة طالباً لعير أبي سفيان التي بلغه خبرها أنها صادرة من الشام فيها أموال جزيلة لقريش ، فاستنهض رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين ، فخرج في ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً وجمع الله بين المسلمين والكافرين على غير ميعاد ، لما يريد الله تعالى من إعلاء كلمة المسلمين ونصرهم على عدوهم والتفرقة بين الحق والباطل ، والغرض أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بلغه خروج النفير أوحى الله إليه ، يعده إحدى الطائفتين إما العير وإما النفير ، ورغب كثير من المسلمين إلى العير ، لأنه كسب بلا قتال ، كما قال تعالى : { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ } .
روى ابن أبي حاتم قال : « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بدر ، حتى إذا كان بالروحاء خطب الناس فقال : » كيف ترون «؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله بلغنا أنهم بمكان كذا وكذا ، قال : ثم خطب الناس فقال : » كيف ترون «؟ فقال عمر : مثل قول أبي بكر ، ثم خطب الناس فقال : » كيف ترون «؟ فقال سعد بن معاذ : يا رسول الله إيانا تريد؟ فوالذي أكرمك وأنزل عليك الكتاب ما سلكتها قط ولا لي بها علم ، ولئن سرت حتى تأتي برك الغماد من ذي يمن لنسيرن معك ، ولا نكون كالذين قالوا لموسى : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، ولعلك أن تكون خرجت لأمر ، وأحدث الله إليك غيره ، فانظر الذي أحدث الله إليك فامض له ، فصل حبال من شئت ، واقطع حبال من شئت ، وعاد من شئت ، وسالم من شئت ، وخذ من أموالنا ما شئت ، فنزل القرآن على قول سعد : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ } »(1/950)
الآيات ، وقال ابن عباس : لما شاور النبي صلى الله عليه وسلم في لقاء العدو ، وقال له سعد بن عبادة ما قال ، وذلك يوم بدر أمر الناس أن يتهيأو للقتال وأمرهم بالشوكة ، فكره ذلك أهل الإيمان ، فأنزل الله : { كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بالحق وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين لَكَارِهُونَ } ، وقال مجاهد : يجادلونك في الحق : في القتال للقاء المشركين . عن عكرمة عن ابن عباس قال ، قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين فرغ من بدر : عليك بالعير ليس دونها شيء ، فناداه العباس بن عبد المطلب وهو أسير في وثاقه : إنه لا يصلح لك ، قال : ولم؟ قال : لأن الله عزَّ وجلَّ إنما وعدك إحدى الطائفتين وقد أعطاك الله ما وعدك . ومعنى قوله تعالى : { وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشوكة تَكُونُ لَكُمْ } أي يحبون أن الطائفة التي لا منعة ولا قتال تكون لهم وهي العير ، { وَيُرِيدُ الله أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ } أي هو يريد أن يجمع بينكم وبين الطائفة التي لها الشوكة والقتال ليظفركم بهم وينصركم عليهم ، ويظهر دينه ، ويرفع كلمة الإسلام ، ويجعله غالباً على الأديان ، وهو أعلم بعواقب الأمور ، وهو الذي يدبركم بحسن تدبيره ، وإن كان العباد يحبون خلاف ذلك فيما يظهر لهم .
وقال محمد بن إسحاق رحمه الله : « لما سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأبي سفيان مقبلاً من الشام ندب المسلمين إليهم ، وقال : هذه عير قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعل الله أن ينفلكموها ، فانتدب الناس فخف بعضهم ، وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم يلقى حرباً ، وكان أبو سفيان قد استنفر حين دنا من الحجاز ، يتجسس الأخبار ، ويسأل من لقي من الركبان تخوفاً على أمر الناس حتى أصاب خبراً من بعض الركبان أن محمداً قد استنفر أصحابه لك ولعيرك فحذر عند ذلك ، فاستأجر ( ضمضم بن عمرو الغفاري ) فبعثه إلى أهل مكة وأمره أن يأتي قريشاً ، فيستنفرهم إلى أموالهم ، ويخبرهم أن محمداً قد عرض لها في أصحابه ، فخرج ضمضم بن عمرو سريعاً إلى مكة ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم في أصحابه حتى بلغ وادياً يقال له ذفران ، فخرج منه ، حتى إذا كان ببعضه نزل ، وأتاه الخبر عن قريش بمسيرهم ليمنعوا عيرهم ، فاستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس ، وأخبرهم عن قريش ، فقام أبو بكر رضي الله عنه فقال فأحسن ، ثم قام عمر رضي الله عنه ، فقال فأحسن ، ثم قام المقداد بن عمرو فقال : يا رسول الله امض لما أمرك الله به فنحن معك ، والله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى : { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } [ المائدة : 24 ] ، ولكن اذهب أنت وربك فقاتلا إنا معكما مقاتلون ، فوالذي بعثك بالحق لو سرت بنا إلى برك الغماد - يعني مدينة الحبشة - لجالدنا معك من دونه حتى تبلغه ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له بخير ، ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أشيروا علي أيها الناس « وإنما يريد الأنصار ، وذلك أنهم كانوا عدد الناس ، وذلك أنهم حين بايعوه بالعقبة قالوا : يا رسول الله ، إنا برآء من ذمامك حتى تصل إلى دارنا ، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا نمنعك مما نمنع منه أبناءنا ، ونساءنا وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوف أن لا تكون الأنصار ترى عليها نصرته إلا ممن دهمه بالمدينة من عدوه ، وأن ليس عليهم أن يسير بهم إلى عدو قال : » أجل « ، فقال : قد آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق ، وأعطيناك على ذلك عهودنا ومواثيقنا على السمع والطاعة ، فامض يا رسول الله لما أمرك الله ، فوالذي بعثك بالحق إن استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما يتخلف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إنا الصبر عند الحرب ، صدق عند اللقاء ، ولعل الله يريك ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله ، فسر رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد : ونشطه ذلك ، ثم قال : » سيروا على بركة الله وأبشروا فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين ، والله لكأني الآن أنظر إلى مصارع القوم « ، وروى العوفي عن ابن عباس نحو هذا ، وكذلك قال السدي وقتادة وعبد الرحمن بن أسلم وغير واحد من علماء السلف والخلف ، اختصرنا أقوالهم اكتفاء بسياق محمد بن إسحاق » .(1/951)
إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10)
« لما كان يوم بدر نظر النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه وهم ثلثمائة ونيف ، ونظر إلى المشركين ، فإذا هم ألف وزيادة ، فاستقبل النبي صلى الله عليه وسلم القبلة وعليه رداؤه وإزاره ، ثم قال : » اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام فلا تعبد في الأرض أبداً « قال : فما زال يستغيث ربه ويدعوه حتى سقط رداؤه عن منكبيه ، فأتاه أبو بكر فأخذ رداءه فردّاه ثم التزمه من ورائه ثم قال : يا نبي الله كفاك مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ } ، فلما كان يؤمئذ التقوا فهزم الله المشركين ، فقتل منهم سبعون رجلاً ، وأسر منهم سبعون رجلاً ، واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعلياً فقال أبو بكر : يا رسول الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والإخوان وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية فيكون ما أخذناه منهم قوة لنا على الكفار ، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضداً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما ترى يا ابن الخطاب «؟ قلت : والله ما أرى ما رأى أبو بكر ، ولكني أرى أن تمكنني من فلان - قريب لعمر - فأضرب عنقه ، وتمكن علياً من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكن حمزة من فلان - أخيه - فيضرب عنقه ، حتى يعلم الله أن ليس في قلوبنا هوادة للمشركين ، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم ، فهوي رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت ، وأخذ منهم الفداء ، فلما كان من الغد قال عمر : فغدوت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما يبكيان ، فقلت : يا رسول الله ما يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاء بكيت وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : » للذي عرض عليَّ أصحابك من أخذهم الفداء ، لقد عرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة « لشجرة قريبة من النبي صلى الله عليه وسلم ، وأنزل الله عزَّ وجلَّ : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض . . . } [ الأنفال : 67 ] إلى قوله { فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً } [ الأنفال : 69 ] ، فأحل لهم الغنائم ، فلما كان يوم أُحُد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء ، فقتل منهم سبعون ، وفر أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فأنزل الله : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ }(1/952)
[ آل عمران : 165 ] بأخذكم الفداء .
قال البخاري في كتاب « المغازي » باب قول الله تعالى : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ } الآية ، عن طارق بن شهاب قال : سمعت ابن مسعود يقول : شهدت من المقداد بن الأسود مشهداً لأن أكون صاحبه أحب إليَّ مما عدل به ، أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال : لا نقول كما قال قوم موسى { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا } [ المائدة : 24 ] ، ولكنا نقاتل عن يمينك وعن شمالك وبين يديك ومن خلفك ، فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم أشرق وجهه وسره ، يعني قوله ، وعن ابن عباس قال ، « قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم بدر : » اللهم أنشدك عهدم ووعدك ، اللهم إن شئت لم تعبد « فأخذ أبو بكر بيده فقال : حسبك ، فخرج وهو يقول : » سيهزم الجمع ويولون الدبر « وقوله تعالى : { بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ } أي يردف بعضهم بعضاً ، كما قال ابن عباس { مُرْدِفِينَ } : متتابعين ، ويحتمل أن المراد { مُرْدِفِينَ } لكم أي نجدة لكم ، كما قال العوفي عن ابن عباس { مُرْدِفِينَ } يقول : المدد ، كما تقول أنت للرجل زده كذا وكذا . وفي رواية { مُرْدِفِينَ } قال : بعضهم على أثر بعض ، وقال ابن جرير : نزل جبريل في ألف من الملائكة عن ميمنة النبي صلى الله عليه وسلم وفيها أبو بكر ، ونزل ميكائيل في ألف من الملائكة عن مسيرة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا يقتضي - إن صح إسناده - أن الألف مردفة بمثلها ، ولهذا قرأ بعضهم : { مُرْدِفِينَ } بفتح الدال والله أعلم ، والمشهور ما روي عن ابن عباس قال : وأمد الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين بألف من الملائكة ، فكان جبريل في خمسمائة من الملائكة مجنبة ، ومكائيل في خمسمائة مجنبة ، وروي عن ابن عباس قال : بينا رجل من المسلمين يشتد في أثر رجل من المشركين أمامه إذ سمع ضربة بالسوط فوقه ، وصوت الفارس يقول : أقدم حيزوم ، إذ نظر إلى المشرك أمامه فخر مستلقياً ، قال : فنظر إليه ، فإذا هو قد حطم وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع ، فجاء الأنصاري فحدث ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : صدقت ، ذلك من مدد السماء الثالثة ، فقتلوا يومئذ سبعين وأسروا سبعين .
وفي » البخاري « قال : جاء جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال : » من أفضل المسلمين « أو كلمة نحوها قال : وكذلك من شهد بدراً من الملائكة ، وفي الصحيحين » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر لما شاوره في قتل ( حاطب بن أبي بلتعة ) « إنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله قد اطلع على أهل بدر فقال اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم »؟ «(1/953)
، وقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى } الآية ، أي وما جعل الله بعث الملائكة إلا بشرى { وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ } ، وإلا فهو تعالى قادر على نصركم على أعدائكم { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله } أي بدون ذلك ، ولهذا قال : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } [ محمد : 4 ] كما قال تعالى : { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } [ آل عمران : 140 ] ، فهذه حكم شرع الله جهاد الكفار بأيدي المؤمنين لأجلها ، وقد كان تعالى إنما يعاقب الأمم السالفة المكذبة للأنبياء بالقوارع التي تعم تلك الأمم المكذبة ، كما أهلك قوم نوح بالطوفان ، وعادا الأولى بالدبور ، وثمود بالصيحة ، وقوم لوط بالخسف والقلب وحجارة السجيل ، وقوم شعيب بيوم الظلة ، فلما بعث الله تعالى موسى وأهلك عدوه وأنزل على موسى التوراة شرع فيها قتال الكفار واستمر الحكم في بقية الشرائع بعده على ذلك ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى بَصَآئِرَ } [ القصص : 43 ] ، وقتل المؤمنين للكافرين أشد إهانة للكافرين ، وأشفى لصدور المؤمنين ، كما قال تعالى للمؤمنين : { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } [ التوبة : 14 ] ، ولهذا كان قتل صناديد قريش بأيدي أعدائهم ، أنكى لهم وأشفى لصدور حزب الإيمان ، وقتل أبي جهل في معركة القتال أشد إهانة له من موته على فراشه بقارعة أو صاعقة أو نحو ذلك ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الله عَزِيزٌ } أي له العزة ولرسوله وللمؤمنين بهما في الدنيا والآخرة ، { حَكِيمٌ } فيما شرعه من قتال الكفار مع القدرة على دمارهم وإهلاكهم بحوله وقوته سبحانه وتعالى .(1/954)
إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلَائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَمَنْ يُشَاقِقِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14)
يذكرهم الله تعالى بما أنعم به عليهم ، من إلقائه النعاس عليهم أماناً ، أمّنهم به من خوفهم الذي حصل لهم ، من كثرة عدوهم وقلة عددهم ، وكذلك فعل تعالى بهم يوم أُحد ، كما قال تعالى : { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً } [ آل عمران : 154 ] الآية . قال أبو طلحة : كنت ممن أصابه النعاس يوم أحد ، ولقد سقط السيف من يدي مراراً؛ يسقط وآخذه ، ويسقط وآخذه ، ولقد نظرت إليهم يميدون وهم تحت الحَجَف ، وقال الحافظ أبو يعلى عن علي رضي الله عنه قال : ما كان فينا فارس يوم بدر غير المقداد ، ولقد رأيتنا وما فينا إلا نائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي تحت شجرة ويبكي حتى أصبح ، وقال عبد الله بن مسعود : النعاس في القتال أمنة من الله ، وفي الصلاة من الشيطان . وقال قتادة : النعاس في الرأس ، والنوم في القلب . وكأن ذلك كان المؤمنين عند شدة البأس لتكون قلوبهم آمنة مطمئنة بنصر الله ، وهذا من فضل الله ورحمته بهم ونعمته عليهم ، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما كان يوم بدر في العريش مع الصديق رضي الله عنه وهما يدعوان أخذت رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة من النوم ثم استيقظ متبسماً فقال : « أبشر يا أبا بكر هذا جبريل على ثناياه النقع » ، ثم خرج من باب العريش وهو يتلو قوله تعالى : { سَيُهْزَمُ الجمع وَيُوَلُّونَ الدبر } [ القمر : 45 ] .
وقوله تعالى : { وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السمآء مَآءً } ، قال ابن عباس : إن المشركين من قريش لما خرجوا لينصروا العير وليقاتلوا عنها ، نزلوا على الماء يوم بدر ، فغلبوا المؤمنين عليه ، فأصاب المؤمنين الظمأ فجعلوا يصلون مجنبين محدثين ، حتى تعاطوا ذلك في صدورهم ، فأنزل الله من السماء ماء حتى سال الوادي ، فشرب المؤمنون ، وملأوا الأسقية ، وسقوا الركاب واغتسلوا من الجنابة ، فجعل الله في ذلك طهوراً وثبت به الأقدام ، وذلك أنه كانت بينهم وبين القوم رملة فبعث الله المطر عليها ، والمعروف « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما سار إلى بدر نزل على أدنى ماء هناك أي أول ماء وجده ، فتقدم إليه الحباب بن المنذر فقال : يا رسول الله هذا المنزل الذي نزلته منزل أنزلك الله إياه فليس لنا أن نجاوزه أو منزل نزلته للحرب والمكيدة؟ فقال : » بل منزل نزلته للحرب والمكيدة « فقال : يا رسول الله إن هذا ليس بمنزل ، ولكن سر بنا حتى ننزل على أدنى ماء يلي القوم ونغور ما وراءه من القلب ، ونستقي الحياض فيكون لنا ماء وليس لهم ماء ، فسار رسول الله صلى الله عليه وسلم ففعل ذلك »(1/955)
وقال مجاهد : أنزل الله عليهم المطر قبل النعاس فأطفأ بالمطر الغبار وتلبدت به الأرض وطابت نفوسهم وثبتت به أقدامهم ، وقوله : { لِّيُطَهِّرَكُمْ بِهِ } أي من حدث أصغر أو أكبر وهو تطهير الظاهر ، { وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشيطان } أي من وسوسة أو خاطر سيء وهو تطهير الباطن ، كما قال تعالى في حق أهل الجنة { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ } { وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً } [ الإنسان : 21 ] أي مطهراً لما كان من غل أو حسد أو تباغض وهو زينة الباطن وطهارته ، { وَلِيَرْبِطَ على قُلُوبِكُمْ } : أي بالصبر والإقدام على مجالدة الأعداء وهو شجاعة الباطن { وَيُثَبِّتَ بِهِ الأقدام } وهو شجاعة الظاهر والله أعلم .
وقوله تعالى : { إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الملائكة أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ } وهذه نعمة خفية أظهرها الله تعالى لهم ليشكروه عليها ، وهو أنه تعالى لهم ليشكروه عليها ، وهو أنه تعالى وتقدس أوحى إلى الملائكة الذين أنزلهم لنصر نبيه ودينه أن يثبتوا الذين آمنوا ، قال ابن جرير : أي ثبتوا المؤمنين وقووا أنفسهم على أعدائهم سألقي الرعب والذلة والصغار على من خالف أمري وكذب رسولي ، { فاضربوا فَوْقَ الأعناق واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } أي اضربوا الهام فأفلقوها واحتزوا الرقاب فقطعوها ، وقطعوا الأطراف منهم وهي أيديهم وأرجلهم ، وقد اختلف المفسرون في معنى { فَوْقَ الأعناق } فقيل : معناه اضربوا الرؤوس ، قاله عكرمة . وقيل معناه أي على الأعناق وهي الرقاب ، قاله الضحاك . ويشهد لهذا المعنى قوله تعالى : { فَإِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ فَضَرْبَ الرقاب } [ محمد : 4 ] وقال القاسم ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إني لم أبعث لأعذب بعذاب الله ، إنما بعثت لضرب الرقاب وشد الوثاق » ، وقال الربيع بن أنس : كان الناس يوم بدر يعرفون قتلى الملائكة بضرب فوق الأعناق وعلى البنان مثل سمة النار قد أحرق به ، وقوله : { واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } ، قال ابن جرير : معناه واضربوا من عدوكم أيها المؤمنون كل طرف ومفصل من أطراف أيديهم وأرجلهم ، والبنان جمع بنانه كما قال الشاعر :
ألا ليتني قطعت مني بنانة ... ولاقيته في البيت يقظان حاذراً
وقال ابن عباس : { واضربوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ } يعني بالبنان الأطراف ، وقال السدي : البنان الأطراف ، ويقال كل مفصل ، وقال الأوزاعي : اضرب منه الوجه والعين ، وارمه بشهاب من نار فإذا أخذته حرم ذلك كله عليك ، وقال العوفي عن ابن عباس فأوحى الله إلى الملائكة : { فَثَبِّتُواْ الذين آمَنُواْ } الآية ، فقتل أبو جهل لعنه الله في تسعة وستين رجلاً ، وأسر عقبة بن أبي معيط ، فقتل صبراً فوفى ذلك سبعين يعني قتيلاً ، ولهذا قال تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ الله وَرَسُولَهُ } أي خالفوهما ، فساروا في شق ، وتركوا الشرع والإيمان به واتباعه في شق ، ومأخوذ أيضاً من شق العصا وهو جعلها فرقتين { وَمَن يُشَاقِقِ الله وَرَسُولَهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } أي هو الطالب الغالب لمن خالفه وناوأه لا يفوته شيء ، ولا يقوم لغضبه شيء تبارك وتعالى لا إله غيره ولا رب سواه ، { ذلكم فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النار } هذا خطاب للكفار ، أي ذوقوا هذا العذاب والنكال في الدنيا واعلموا أيضاً أن للكافرين عذاب النار في الآخرة .(1/956)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفًا فَلَا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبَارَ (15) وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفًا لِقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزًا إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16)
يقول تعالى متوعداً على الفرار من الزحف بالنار لمن فعل ذلك { يَآأَيُّهَا الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمُ الذين كَفَرُواْ زَحْفاً } أي تقاربتم منهم ودنوتم إليهم { فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأدبار } أي تفروا وتتركوا أصحابكم ، { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ } أي يفر بين يدي قرنه مكيدة ليريه أن خاف منه ، فيتبعه ، ثم يكر عليه فيقتله فلا بأس عليه في ذلك . وقال الضحاك : أن يتقدم عن أصحابه ليرى غرة من العدو فيصيبها { أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ } أي فر من هاهنا إلى فئة أخرى من المسلمين يعاونهم ويعاونوه ، فيجوز له ذلك ، حتى لو كان في سرية ففر إلى أميره أو إلى الإمام الأعظم دخل في هذه الرخصة . قال الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما قال : « كنت في سرية من سرايا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحاص الناس حيصة ، فكنت فيمن حاص ، فقلنا : كيف نصنع وقد فررنا من الزحف وبؤنا بالغضب؟ ثم قلنا : لو دخلنا المدينة ثم بتنا ، ثم قلنا : لو عرضنا أنفسنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا كانت لنا تبوة وإلا ذهبنا ، فأتيناه قبل صلاة الغداة ، فخرج فقال : » مَنْ القوم «؟ فقلنا : نحن الفرارون ، فقال : » لا ، بل أنتم العكّارون أنا فئتكم وأنا فئة المسلمين « قال : فأتيناه حتى قبَّلنا يده . وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ } » قال أهل العلم : معنى قوله « العكارون » : أي العرافون ، وكذلك قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه في أبي عبيدة لما قُتل بأرض فارس لكثرة الجيش من المجوس فقال عمر : لو تحيز إليَّ لكنت له فئة ، ويروى عنه أنا فئة كل مسلم . وقال الضحاك في قوله { أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ } : المتحيز الفار إلى النبي وأصحابه ، وكذلك من فر اليوم إلى أميره أو أصحابه ، فأما إن كان الفرار لا عن سبب من هذه الأسباب فإنه حرام وكبيرة من الكبائر ، لما رواه البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اجتنبوا السبع الموبقات » قيل يا رسول الله وما هن؟ قال : « الشرك بالله ، والسحر ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات » ولهذا قال تعالى : { فَقَدْ بَآءَ } أي رجع { بِغَضَبٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ } أي مصيره ومنقلبه يوم ميعاده { جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } .
وقال الإمام أحمد عن بشير بن معبد قال : « أتيت النبي صلى الله عليه وسلم لأبايعه فاشترط عليَّ شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن أقيم الصلاة ، وأن أؤدي الزكاة ، وأن أحج حجة الإسلام ، وأن أصوم شهر رمضان ، وأن أجاهد في سبيل الله؛ فقلت يا رسول الله أما اثنتان فوالله لا أطيقهما : الجهاد ، فإنهم زعموا أنه من ولى الدبر فقد باء بغضب من الله ، فأخاف إن حضرت ذلك خشعت نفسي وكرهت الموت . والصدقة ، فوالله ما لي إلا غنيمة وعشر ذودهن رسل أهلي وحمولهم ، فقبض رسول الله صلى الله عليه وسلم يده ثم حرك يده ثم قال : » فلا جهاد ولا صدقة فبم تدخل الجنة إذاً «؟ قلت : يا رسول الله أنا أبايعك ، فبايعته عليهن كلهن »(1/957)
وقد ذهب ذاهبون إلى أن الفرار إنما كان حراماً على الصحابة ، لأن الجهاد كان فرض عين عليهم ، وقيل : على الأنصار خاصة لأنهم بايعوا على السمع والطاعة في المنشط والمكره ، وقيل : المراد بهذه الآية أهل بدر خاصة . وحجتهم في هذا أنه لم تكن عصابة لها شوكة يفيئون إليها إلا عصابتهم تلك كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض » ، ولهذا قال الحسن في قوله : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } قال : ذلك يوم بدر ، فأما اليوم فإن انحاز إلى فئة أو مصر فلا بأس عليه ، وقال ابن المبارك عن يزيد بن أبي حبيب : أوجب الله تعالى لمن فر يوم بدر النار ، قال : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إلى فِئَةٍ فَقَدْ بَآءَ بِغَضَبٍ مِّنَ الله } ، فلما كان يوم أُحد بعد ذلك قال : { إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان . . . } [ آل عمران : 155 ] ، إلى قوله : { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } [ آل عمران : 155 ] ، ثم كان يوم حنين بعد ذلك بسبع سنين ، قال : { ثُمَّ وليِتُم مدبرين * ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ } [ التوبة : 27 ] . وعن أبي سعيد أنه قال في هذه الآية : { وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ } إنما أنزلت في أهل بدر ، وهذا كله لا ينفي أن يكون الفرار من الزحف حراماً على غير أهل بدر وإن كان سبب نزول الآية فيهم كما دل عليه حديث أبي هريرة المتقدم من أن الفرار من الزحف من الموبقات كما هو مذهب الجماهير ، والله أعلم .(1/958)
فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلَاءً حَسَنًا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18)
يبين تعالى أنه خالق أفعال العباد ، وأنه المحمود على جميع ما صدر منهم من خير ، لأنه هو الذي وفقهم لذلك وأعانهم عليه ، ولهذا قال : { فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ولكن الله قَتَلَهُمْ } أي ليس بحولكم وقوتكم قتلتم أعداءكم ، مع كثرة عددهم وقلة عددكم ، بل هو الذي أظفركم عليهم كما قال : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } [ آل عمران : 123 ] الآية ، وقال تعالى : { لَقَدْ نَصَرَكُمُ الله فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } [ التوبة : 25 ] يعلم تبارك وتعالى أن النصر ليس بكثرة العَدَد والعُدَد ، وإنما النصر من عنده تعالى ، كما قال تعالى : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين } [ البقرة : 249 ] ، ثم قال تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم أيضاً في شأن القبضة من التراب التي حصب بها وجوه الكافرين يوم بدر { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } أي هو الذي بلغ ذلك إليهم وكبتهم بها لا أنت ، قال ابن عباس : « رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم يديه يعني يوم بدر فقال : » يا رب إن تهلك هذه العصابة فلن تعبد في الأرض أبداً « فقال له جبريل : خذ قبضة من التراب فارم بها في وجوههم ، فأخذ قبضة من التراب فرمى بها في وجوههم ، فما من المشركين أحد إلا أصاب عينيه ومنخريه وفمه تراب من تلك القبضة فولوا مدبرين » وقال محمد بن قيس ومحمد بن كعب القرظي : « لما دنا القوم بعضهم من بعض أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم وقال : » شاهت الوجوه « ، فدخلت في أعينهم كلهم » ، وأقبل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقتلونهم ويأسرونهم وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ولكن الله رمى } . وقال عروة بن الزبير في قوله : { وَلِيُبْلِيَ المؤمنين مِنْهُ بلاء حَسَناً } أي ليعرف المؤمنين نعمته عليهم ، من إظهارهم على عدوهم مع كثرة عدوهم وقلة عددهم ، ليعرفوا بذلك حقه ، ويشكروا بذلك نعمته ، { إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع الدعاء { عَلِيمٌ } بمن يستحق النصر والغلب ، وقوله : { ذلكم وَأَنَّ الله مُوهِنُ كَيْدِ الكافرين } هذه بشارة أخرى مع ما حصل من النصر أنه أعلمهم تعالى بأنه مضعف كيد الكافرين ، فيما يستقبل مصغر أمرهم ، وأنهم كل ما لهم في تبار ودمار .(1/959)
إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جَاءَكُمُ الْفَتْحُ وَإِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئًا وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19)
يقول تعالى للكفار : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ } أي تستنصروا وتستقضوا الله وتستحكموه أن يفصل بينكم وبين أعدائكم المؤمنين فقد جاءكم ما سألتم؛ كما قال أبو جهل ، قال حين التقى القوم : اللهم أقطعنا للرحم وآتانا بما لا نعرف فأحنه الغداة؛ فكان المستفتح؛ وقال السدي : كان المشركون حين خرجوا من مكة إلى بدر أخذوا بأستار الكعبة فاستنصروا الله وقالوا : اللهم انصر أعلى الجندين وأكرم الفئتين وخير القبيلتين ، فقال الله : { إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَآءَكُمُ الفتح } يقول : قد نصرت ما قلتم ، وهو محمد صلى الله عليه وسلم . وقوله : { وَإِن تَنتَهُواْ } أي عما أنتم فيه من الكفر بالله والتكذيب لرسوله { وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ } أي في الدنيا والآخرة ، وقوله تعالى : { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } [ الإسراء : 8 ] ، كقوله : { وَإِن تَعُودُواْ } ، معناه وإن عدتم إلى ما كنتم فيه من الكفر والضلالة نعد لكم بمثل هذه الواقعة ، وقال السدي : { وَإِن تَعُودُواْ } أي إلى الاستفتاح { نَعُدْ } أي إلى الفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم والنصر له وتظفيره على أعدائه ، والأول أقوى . { وَلَن تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ } أي ولو جمعتم من الجموع ما عسى أن تجمعوا ، فإن كان الله معه فلا غالب له ، { وَأَنَّ الله مَعَ المؤمنين } وهم الحزب النبوي والجناب المصطفوي .(1/960)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لَأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23)
يأمر تعالى عباده المؤمنين بطاعته وطاعة رسوله ، ويزجرهم عن مخالفته والتشبه بالكافرين به المعاندين له ، ولهذا قال : { وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ } أي تتركوا طاعته وامتثال أومراه وترك زواجره ، { وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ } أي بعدما علمتم ما دعاكم إليه ، { وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } قيل . المراد المشركون ، واختاره ابن جرير ، وقال ابن إسحاق : هم المنافقون فإنهم يظهرون أنهم قد سمعوا واستجابوا وليسوا كذلك ، ثم أخبر تعالى أن هذا الضرب من بني آدم شر الخلق والخليقة فقال : { إِنَّ شَرَّ الدواب عِندَ الله الصم } أي عن سماع الحق ، { البكم } عن فهمه ، ولهذا قال : { الذين لاَ يَعْقِلُونَ } فهؤلاء شر البرية لأن كل دابة مما سواهم مطيعة لله فيما خلقها له ، وهؤلاء خلقوا للعبادة فكفروا ، ولهذا شبههم بالأنعام في قوله : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } [ الأعراف : 139 ] وقيل : المراد بهؤلاء المذكورين نفر من بني عبد الدار من قريش؛ ثم أخبر تعالى بأنهم لا فهم لهم صحيح ولا قصد لهم صحيح - لو فرض أن لهم فهماً - فقال { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً } أي لأفهمهم وتقدير الكلام ( و ) لكن لا خير فيهم فلم يفهمهم لأنه يعلم أنه { وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ } أي أفهمهم { لَتَوَلَّواْ } عن ذلك قصداً وعناداً بعد فهمهم ذلك { وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } عنه .(1/961)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24)
قال البخاري : { استجيبوا } أجيبوا { لِمَا يُحْيِيكُمْ } لما يصلحكم ، عن أبي سعيد بن المعلى رضي الله عنه قال : كنت أصلي فمر بي النبي صلى الله عليه وسلم فدعاني ، فلم آته حتى صليت ، ثم أتيته فقال : « ما منعك أن تأتيني؟ ألم يقل الله : { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ } ، ثم قال : لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن أخرج » ، فذهب رسول الله صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرت له ، فقال : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] هي السبع المثاني . وقال مجاهد { لِمَا يُحْيِيكُمْ } قال : للحق ، وقال قتادة { لِمَا يُحْيِيكُمْ } هو هذا القرآن فيه النجاة والبقاء والحياة؛ وقال السدي : { لِمَا يُحْيِيكُمْ } ففي الإسلام إحياؤهم بعد موتهم بالكفر ، وقوله تعالى : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } ، قال ابن عباس : يحول بين المؤمن وبين الكفر ، وبين الكافر وبين الإيمان؛ وقال السدي : لا يستطيع أن يؤمن ولا يكفر إلا بإذنه ، وقد وردت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بما يناسب هذه الآية؛ قال الإمام أحمد عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلم يكثر أن يقول : » يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك « قال : فقلنا يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به فهل تخاف علينا؟ قال : » نعم إن القلوب بين إصبعين من أصابع الله تعالى يقلبها « .
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن النواس بن سمعان رضي الله عنه قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : » ما من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن رب العالمين إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه « ، وكان يقول : » يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك « قال : » والميزان بيد الرحمن يخفضه ويرفعه « ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن أم سلمة أن رسول صلى الله عليه وسلم كان يكثر في دعائه يقول : » اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك « قالت ، فقلت : يا رسول الله أو إن القلوب لتقلب؟ قال : » نعم ما خلق الله من بشر من بني آدم إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عزَّ وجلَّ ، فإن شاء أقامه ، وإن شاء أزاغه ، فنسأل الله ربنا أن لا يزيغ قلوبنا بعد إذ هدانا ، ونسأله أن يهب لنا من لدنه رحمة إنه هو الوهاب « قالت : فقلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو بها لنفسي؟ قال : » بلى ، قولي اللهم رب النبي محمد اغفر لي ذنبي ، وأذهب غيظ قلبي ، وأجرني من مضلات الفتن ما أحييتني « .(1/962)
وَاتَّقُوا فِتْنَةً لَا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)
يحذر تعالى عباده المؤمنين { فِتْنَةً } أي اختباراً ومحنة يعم بها المسيء وغيره ، لا يخص بها أهل المعاصي ، ولا من باشر الذنب ، بل يعمهما حيث لم تدفع وترفع ، كما قال الإمام أحمد عن مطرف ، قال : قلنا للزبير يا أبا عبد الله ما جاء بكم؟ ضيّعتم الخليقة الذي قتل ، ثم جئتم تطلبون بدمه؟ فقال الزبير رضي الله عنه : إنا قرأنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } ، لم نكن نحسب أنا أهلها حتى وقعت منا حيث وقعت . وروى ابن جرير عن الحسن قال ، قال الزبير : لقد خوفنا - يعني قوله تعالى : { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } ونحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وما ظننا أنا خصصنا بها خاصة؛ وقال الحسن في هذه الآية : نزلت في ( علي ، وعمار ، وطلحة ، والزبير ) رضي الله عنهم ، وقال الزبير : لقد قرأت هذه الآية زماناً وما أرانا من أهلها فإذا نحن المعنيون بها { واتقوا فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } ، وقال السدي : نزلت في أهل بدر خاصة فأصابتهم يوم الجمل فاقتتلوا ، وقال ابن عباس : { لاَّ تُصِيبَنَّ الذين ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً } يعني أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خاصة ، وقال في رواية له عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : أمر الله المؤمنين أن يقروا المنكر بين ظهرانيهم فيعمهم الله بالعذاب ، وهذا تفسير حسن جداً ، ولهذا قال مجاهد : هي أيضاً لكم ، والقول بأن هذا التحذير يعم الصحابة وغيرهم وإن كان الخطاب معهم هو الصحيح ويدل عليه الأحاديث الواردة في التحذير من الفتن ، عن عدي بن عميرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله عزَّ وجلَّ لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه فلا ينكروه ، فإذا فعلوا ذلك عذّب الله الخاصة والعامة » .
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم » ، وقال حذيفة رضي الله عنه : إن كان الرجل ليتكلم بالكلمة على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيصير منافقاً ، وإني لأسمعها من أحدكم من المقعد الواحد أربع مرات ، لتأمرن بالمعروف ولتنهن عن المنكر ، ولتحاضُنَّ على الخير ، أو ليسحتكم الله جميعاً بعذاب ، أو ليؤمرن عليكم شراركم ثم يدعو خياركم فلا يستجاب لهم . ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد أيضاً عن عامر رضي الله عنه قال : سمعت النعمان بن بشير يخطب يقول - وأومأ بأصبعيه إلى أذنيه - يقول : مثل القائم على حدود الله والواقع فيها والمدهن فيها كمثل قوم ركبوا سفينة فأصاب بعضهم أسفلها وأوعرها وشرها ، وأصاب بعضهم أعلاها ، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا الماء مروا على من فوقهم فآذوهم ، فقالوا : لو خرقنا في نصيبنا خرقاً فاستقينا منه ولم نؤذ من فوقنا! فإن تركوهم وأمرهم هلكوا جميعاً ، وإن أخذوا على أيديهم نجوا جميعاً .(1/963)
( حديث آخر ) : عن أم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا ظهرت المعاصي في أمتي عمهم الله بعذاب من عنده » فقلت؟ يا رسول الله أما فيهم أنا صالحون؟ قال : « بلى » قالت : فكيف يصنع أولئك؟ قال : « يصيبهم ما أصاب الناس ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان » وفي رواية : « ما من قوم يعملون بالمعاصي وفيهم رجل أعز منهم وأمنع لا يغيّره ، إلا عمهم الله بعقاب أو أصابهم العقاب » وفي أخرى عن عائشة ترفعه : « إذا ظهر السوء في الأرض أنزل الله بأهل الأرض بأسه » فقلت : وفيهم أهل طاعة الله؟ قال : « نعم ثم يصيرون إلى رحمة الله » .(1/964)
وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)
ينبه تعالى عباده المؤمنين على نعمه عليهم وإحسانه إليهم ، حيث كانوا قليلين فكثرهم ، ومستضعفين خائفين فقواهم ونصرهم ، وفقراء عالة فرزقهم من الطيبات ، وهذا كان حال المؤمنين حال مقامهم بمكة ، قليلين مستخفين مضطهدين ، يخافون أن يتخطفهم الناس من سائر بلاد الله ، لقلتهم وعدم قوتهم ، فلم يزل ذلك دأبهم حتى أذن الله لهم في الهجرة إلى المدينة فآواهم إليها ، وقيض لهم أهلها آووا ونصروا وواسوا بأموالهم ، وبذلوا مهجهم في طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم ، قال قتادة : كان هذا الحي من العرب أذل الناس ذلاً ، وأشقاه عيشاً ، وأجوعه بطوناً ، وأعراه جلوداً ، وأبينه ضلالاً ، من عاش منهم عاش شقياً ، ومن مات منهم ردي في النار ، يؤكلون ولا يأكلون ، والله ما نعلم قبيلاً من حاضر أهل الأرض يومئذ كانوا أشر منزلاً منهم ، حتى جاء الله بالإسلام فمكن به في البلاد ، ووسع به في الرزق ، وجعلهم به ملوكاً على رقاب الناس ، وبالإسلام أعطى الله ما رأيتم ، فاشكروا الله على نعمه ، فإن ربكم منعم يحب الشكر ، وأهل الشكر في مزيد من الله .(1/965)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَخُونُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُوا أَمَانَاتِكُمْ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)
« أنزلت في أبي لبابة بن عبد المنذر ، حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة لينزلوا على حكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستشاروه في ذلك ، فأشار عليهم بذلك ، وأشار بيده إلى حلقه أي إنه الذبح ، ثم فطن أبو لبابة ، ورأى أنه قد خان الله ورسوله ، فحلف لا يذوق ذواقاً حتى يموت أو يتوب الله عليه ، وانطلق إلى مسجد المدينة ، فربط نفسه في سارية منه ، فمكث كذلك تسعة أيام ، حتى كان يخر مغشياً عليه من الجهد ، حتى أنزل الله توبته على رسوله ، فجاء الناس يبشرونه بتوبة الله عليه ، وأرادوا أن يحلوه من السارية ، فحلف لا يحله منها إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده فحله ، فقال : يا رسول الله إني كنت نذرت أن أنخلع من مالي صدقة ، فقال : » يجزيك الثلث أن تصدق به « وقال ابن جرير : » نزلت هذه الآية في قتل عثمان رضي الله عنه { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ الله والرسول } الآية . وفي « الصحيحين » « قصة ( حاطب بن أبي بلتعة ) أنه كتب إلى قريش يعلمهم بقصد رسول الله صلى الله عليه وسلم إياهم عام الفتح ، فأطلع الله رسوله على ذلك ، فبعث في إثر الكتاب فاسترجعه ، واستحضر حاطباً فأقر بما صنع ، وفيها فقام عمر بن الخطاب فقال : يا رسول الله ، ألا أضرب عنقه فإنه قد خان الله ورسوله والمؤمنين؟ فقال : » دعه فإنه قد شهد بدراً وما يدريك لعل الله اطلع على أهل بدر فقال : « اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم » ، والصحيح أن الآية عامة ، وإن صح أنها وردت على سبيل خاص ، فالأخذ بعموم اللفظ لا بخصوص السبب عند الجماهير من العلماء والخيانة تعم الذنوب الصغار والكبار اللازمة والمتعدية ، وقال ابن عباس : { وتخونوا أَمَانَاتِكُمْ } : الأمانة الأعمال التي ائتمن الله عليها العبد يعني الفريضة ، يقول : لا تخونوا لا تنقضوها ، وقال في رواية : لا تخونوا الله والرسول يقول : بترك سنته وارتكاب معصيته .
وقال السدي : إذا خانوا الله ورسوله فقد خانوا أماناتهم . وقال أيضاً : كانوا يسمعون من النبي صلى الله عليه وسلم الحديث فيفشونه حتى يبلغ المشركين ، وقال ابن زيد : نهاكم أن تخونوا الله والرسول كما صنع المنافقون ، وقوله : { واعلموا أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ } أي اختبار وامتحان منه لكم إذ أعطاكموها ليعلم أتشكرونه عليها وتطيعونه فيها أو تشتغلون بها عنه وتعتاضون بها منه كما قال تعالى : { أَنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } ، وقال : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] ، وقال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ وَلاَ أَوْلاَدُكُمْ عَن ذِكْرِ الله }(1/966)
[ المنافقون : 9 ] ، وقوله : { وَأَنَّ الله عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } أي ثوابه وعطاؤه وجناته خير لكم من الأموال والأولاد ، فإنه قد يوجد منهم عدو ، وأكثرهم لا يغني عنك شيئاً ، والله سبحانه هو المتصرف المالك للدنيا والآخرة ، ولديه الثواب الجزيل يوم القيامة ، وفي الأثر يقول الله تعالى : يا ابن آدم اطلبني تجدني ، فإن وجدتني وجدت كل شيء ، وإ فتُّكَ فاتك كل شيء ، وأنا أحب إليك من كل شيء ، وفي « الصحيح » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان : من كان الله ورسوله أحب إليه مما سواهما ، ومن كان يحب المرء لا يحبه إلا الله ، ومن كان أن يلقى في النار أحب إليه من أن يرجع إلى الكفر بعد إذ أنقذه الله منه » ، بل حب رسول الله صلى الله عليه وسلم مقدم على الأولاد والأموال والنفوس كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : « والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه وأهله وماله والناس أجمعين » .(1/967)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)
قال ابن عباس وغير واحد { فُرْقَاناً } مخرجاً ، زاد مجاهد : في الدنيا والآخرة ، وفي رواية عن ابن عباس : { فُرْقَاناً } عنه : نصراء . وقال محمد بن إسحاق : { فُرْقَاناً } أي فصلاً بين الحق والباطل؛ وهذا التفسير أعم مما تقدم ، وهو يستلزم ذلك كله ، فإن من اتقى الله بفعل أوامره وترك زواجره ، وفّق لمعرفة الحق من الباطل ، فكان ذلك سبب نصره ونجاته ومخرجه من أمور الدنيا وسعادته يوم القيامة وتكفير ذنوبه وهو محوها ، وغفرها : سترها عن الناس ، وسبباً لنيل ثواب الله الجزيل كقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الحديد : 28 ]
.(1/968)
وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30)
قال ابن عباس ومجاده وقتادة : { لِيُثْبِتُوكَ } ليقيدوك؛ وقال عطاء وابن زيد : ليحبسوك ، وقال السدي : الإثبات هو الحبس والوثاق ، وهذا يشمل ما قاله هؤلاء وهؤلاء ، وهو مجمع الأقوال ، وهو الغالب من صنيع من أراد غيره بسوء ، وقال عطاء : سمعت ( عبيد بن عمير ) يقول : « لما ائتمروا بالنبي صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه ، قال له عمه أبو طالب : هل تدري ما ائتمروا بك؟ قال : الرب ربك استوص به خيراً ، قال : » أنا استوصي به؟ بل هو يستوصي بي « ، قال فنزلت : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } الآية . والدليل على صحة ما قلنا ، ما روى محمد بن إسحاق صاحب المغازي عن مجاهد عن ابن عباس : أن نفراً من قريش من أشراف كل قبيلة اجتمعوا ليدخلوا دار الندوة ، فاعترضهم إبليس في صورة شيخ جليل ، فلما رأوه قالوا له من أنت؟ قال شيخ من أهل نجد سمعت أنكم اجتمعتم فأردت أن أحضركم ، ولن يعدمكم رأيي ونصحيي قالوا : أجل أدخل فدخل معهم ، فقال : انطروا في شأن هذا الرجل ، والله ليوشكن أن يواثبكم في أمركم بأمره ، فقال قائل منهم : احبسوه في وثاق ثم تربصوا به ريب المنون حتى يهلك كما هلك من كان قبله من الشعراء زهير والنابغة ، قال : فصرخ عدو الله فقال : والله ما هذا برأي ، والله ليخرجنه ربه من محبسه إلى أصحابه ، فليوشكن أن يثبوا عليه حتى يأخذوه من أيديكم فيمنعوه منكم ، فما آمن عليكم أن يخرجوكم من بلادكم ، قالوا صدق الشيخ فانظروا في غير هذا؛ قال قائل منهم : أخرجوا من بين أظهركم فتستريحوا منه ، فإنه إذا خرج لن يضركم ما نصع إذا غاب عنكم أذاه ، فقال الشيخ النجدي : والله ما هذا لكم برأي ألم تروا حلاوة قوله ، وطلاقة لسانه ، وأخذ القلوب ما تسمع من حديثه؟ والله لئن فعلتم ثم استعرض العرب ليجتمعن عليه ، ثم ليأتين إليكم حتى يخرجكم من بلادكم ويقتل أشرافكم ، قالوا صدق والله ، فانظروا رأياً غير هذا؛ قال : فقال أبو جهل لعنه الله : والله لأشيرن عليكم برأي ما أراكم أبصرتموه بعد ، لا أرى غيره ، قالوا : وما هو؟ قال : تأخذون من كل قبيلة غلاماً شاباً وسيطاً نهداً ، ثم يعطى كل غلام منهم سيفاً صارماً ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرق دمه في القبائل كلها ، فام أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها ، فإنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل ( الدية ) واسترحنا وقطعنا عنا أذاه ، قال : فقال الشيخ النجدي ، هذا والله الرأي ، القول ما قال الفتى ، ولا أرى غيره؛ قال : فتفرقوا على ذلك وهم مجمعون له ، فأتى جبريل النبي صلى الله عليه وسلم فأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي كان يبيت فيه ، وأخبره بمكر القوم ، فلم يبت رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيته تلك الليلة ، وأذن الله له عند ذلك بالخروج ، وأنزل الله عليه بعد قدومه المدينة الأنفال يذكر نعمه عليه وبلاءه عنده : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله والله خَيْرُ الماكرين } ، وأنزل في قولهم تربصوا به ريب المنون :(1/969)
{ أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَّتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ المنون } [ الطور : 30 ] .
قال ابن إسحاق : أتاه جبريل عليه السلام فأمره أن لا يبيت في مكانه الذي كان يبيت فيه ، فدعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ( علي بن أبي طالب ) فأمره أن يبيت على فراشه ويتسجى ببرد له أخضر ، ففعل ثم خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم على القوم ، وهم على بابه ، وخرج معه بحفنة من تراب فجعل يذروها على رؤوسهم ، وأخذ الله بأبصارهم عن نبيه صلى الله عليه وسلم وهو يقرأ : { يس * والقرآن الحكيم } [ يس : 1-2 ] إلى قوله : { فَأغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ } [ يس : 9 ] . وقد روى ابن حبان في « صحيحه » والحاكم في « مستدركه » عن ابن عباس قال : « دخلت فاطمة على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهي تبكي ، فقال : » ما يبكيك يا بنية «؟ قالت : يا أبت ومالي لا أبكي وهؤلاء الملأ من قريش في الحِجْر يتعاهدون باللات والعزى ومناة الثالثة لو قد رأوك لقاموا إليك فيقتلونك ، وليس منهم إلا من قد عرف نصيبه من دمك ، فقال : يا بنية ائتني بوضوء » ، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم خرج إلى المسجد ، فلما رأوه قالوا : ها هو ذا ، فطأطأ رؤوسهم ، وسقطت رقابهم بين أيديهم فلم يرفعوا أبصارهم ، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من تراب فحصبهم بها ، وقال : « شاهت الوجوه » فما أصاب رجلاً منهم حصاة من حصياته إلا قتل يوم بدر كافراً « وعن ابن عباس في قوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ } الآية . قال : » تشاورت قريش ليلة بمكة فقال بعضهم : إذا أصبح فأثبتوه بالوثاق يريدون النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم : بل اقتلوه ، وقال بعضهم : بل اخرجوه ، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ذلك فبات علي رضي الله عنه على فراش رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم حتى لحق بالغار ، وبات المشركون يحرسون علياً يحسبونه النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما أصبحوا ثاروا إليه ، فلما رأوا علياً رد الله تعالى مكرهم ، فقالوا : أين صاحبك هذا؟ قال : لا أدري ، فاقتصوا أثره ، فلما بلغوا الجبل اختلط عليهم ، فصعدوا في الجبل ، فمروا بالغار ، فرأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخل هاهنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاث ليال « وقال عروة بن الزبير في قوله : { وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ الله } أي فمكرت بهم بكيدي المتين حتى خلصتك منهم .(1/970)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُوا قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنْتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33)
يخبر تعالى عن كفر قريش وعتوهم وتمردهم وعنادهم ، ودعواهم الباطل عند سماع آياته ، إذا تتلى عليهم أنهم يقولون : { قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } وهذا منهم قول بلا فعل ، وإلا فقد تحدوا غير ما مرة أن يأتوا بسورة من مثله فلا يجدون إلى ذلك سبيلاً ، وقد قيل : إن القائل لذلك هو ( النضير بن الحارث ) ، فإنه لعنه الله كان قد ذهب إلى بلاد فارس ، وتعلم من أخبار ملوكهم رستم وأسفنديار ، ولما قدم وجد رسول الله صلى الله عليه وسلم قد بعثه الله ، وهو يتلو على الناس القرآن ، فكان عليه الصلاة والسلام إذا قام من مجلس ، جلس فيه النضر فحدثهم من أخبار أولئك ، ثم يقول : بالله أينا أحسن قصصاً أنا أو محمداً؟ ولهذا لما أمكن الله تعالى منه يوم بدر ووقع في الأسارى أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تضرب رقبته صبراً بين يديه ، ففعل ذلك ولله الحمد ، وكان الذي أسره ( المقداد بن الأسود ) رضي الله عنه كما قال ابن جرير . ومعنى { أَسَاطِيرُ الأولين } جمع أسطورة : أي كتبهم ، اقتبسها فهو يتعلم منها ويتلوها على الناس ، وهذا هو الكذب البحث ، كما أخبر الله عنهم في الآية الأخرى : { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] إلى { إِنَّهُ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } [ الفرقان : 6 ] أي لمن تاب إليه وأناب فإنه يتقبل منه ويصفح عنه .
وقوله تعالى : { وَإِذْ قَالُواْ اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } هذا من كثرة جهلهم وشدة تكذيبهم وعنادهم وعتوهم ، وهذا مما عيبوا به ، وكان الأولى لهم أن يقولوا : اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فاهدنا له ووفقنا لاتباعه ، ولكن استفتحوا على أنفسهم واستعجلوا العذاب وتقديم العقوبة ، كقوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب } [ العنكبوت : 53 ] ، { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا قَبْلَ يَوْمِ الحساب } [ ص : 16 ] ، وقوله : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [ المعارج : 1 ] ، وكذلك قال الجهلة من الأمم السالفة كما قال قوم شعيب له : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الشعراء : 187 ] . عن أنس بن مالك قال أبو جهل ابن هشام : { اللهم إِن كَانَ هذا هُوَ الحق مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السمآء أَوِ ائتنا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } ، فنزلت : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } وقال الأعمش عن ابن عباس في قوله { وَإِذْ قَالُواْ اللهم } الآية ، قال : هو النضر بن الحارث بن كلدة قال : فأنزل الله : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ * لِّلْكَافِرِينَ لَيْسَ لَهُ دَافِعٌ } [ المعارج : 1-2 ] .
وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ، قال ابن عباس : كان المشركون يطوفون بالبيت ويقولون : لبيك اللهم لبيك ، لبيك لا شريك لك ، إلا شريك هو لك ، تملكه وما ملك ، ويقولون : غفرانك غفرانك ، فأنزل الله { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } الآية .(1/971)
قال ابن عباس : كان فيهم أمانان النبي صلى الله عليه وسلم والاستغفار ، فذهب النبي صلى الله عليه وسلم وبقي الاستغفار . وعن ابن عباس : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } يقول ما كان الله ليعذب قوماً وأنبياؤهم بين أظهرهم حتى يخرجهم ، ثم قال : { وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } يقول : وفيهم ممن قد سبق له من الله الدخول في الإيمان ، وهو الاستغفار ، يستغفرون يعني يصلون ، يعني بهذا أهل مكة ، وقال الضحاك : { وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } يعني المؤمنين الذين كانوا بمكة ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنزل الله عليّ أمانين لأمتي : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } ، فإذا مضيت تركت فيهم الاستغفار إلى يوم القيامة » ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد عن أبي سعيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الشيطان قال : وعزتك يا رب لا أبرح أغوي عبادك ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الرب وعزتي وجلالي ، لا أزال أغفر لهم ما استغفروني » .(1/972)
وَمَا لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُوا أَوْلِيَاءَهُ إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلَاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلَّا مُكَاءً وَتَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)
يخبر تعالى أنهم أهل لأن يعذبهم ، ولكن لم يوقع ذلك بهم لبركة مقام الرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهرهم ، ولهذا لما خرج من بين أظهرهم أوقع الله بهم بأسه يوم بدر فقتل صناديدهم ، وأسر سراتهم ، وأرشدهم تعالى إلى الاستغفار من الذنوب التي هم متلبسون بها من الشرك والفساد ، قال قتادة والسدي : لم يكن القوم يستغفرون ولو كانوا يستغفرون ما عذبوا . قال ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا ، قال في الأنفال : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] فنسختها الآية التي تليها { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله } إلى قوله : { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } فقاتلوا بمكة فأصابهم فيها الجوع والضر ، وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس : { وَمَا كَانَ الله مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ } [ الأنفال : 33 ] ، ثم استثنى أهل الشرك فقال : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام } ، وقوله : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي وكيف لا يعذبهم وهم يصدون عن المسجد الحرام أي الذي بمكة ، يصدون المؤمنين الذين هم أهله عن الصلاة فيه والطواف به ، ولهذا قال : { وَمَا كانوا أَوْلِيَآءَهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون } أي هم ليسوا أهل المسجد الحرام وإنما أهله النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، كما قال تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ * إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر وَأَقَامَ الصلاة وآتى الزكاة وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } [ التوبة : 17-18 ] ، وقال تعالى : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله } [ البقرة : 217 ] الآية . وقال الحافظ ابن مردويه في تفسير هذه الآية عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال : « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم من أولياؤك؟ قال : » كل تقي « ، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون } . وقال الحاكم في مستدركه . جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قريشاً فقال : » هل فيكم من غيركم « فقالوا : فينا ابن أختنا وفينا حليفنا وفينا مولانا ، فقال : » حليفنا منا وابن أختنا منا ومولانا إن أوليائي منكم المتقون « .
وقال عروة والسدي في قوله تعالى : { أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ المتقون } قال : هم محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم ، وقال مجاهد : هم المجاهدون من كانوا حيث كانوا ، ثم ذكر تعالى ما كانوا يعتمدونه عند المسجد الحرام وما كانوا يعاملونه به ، فقال : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } المكاء هو الصفير ، وزاد مجاهد : وكانوا يدخلون أصابعهم في أفواههم .(1/973)
وقال السدي : المكاء الصفير على نحو طير أبيض يقال له المكاء ويكون بأرض الحجاز . عن ابن عباس قال : كانت قريش تطوف بالبيت عراة تصفر وتصفق ، والمكاء الصفير ، والتصدية التصفيق . وقال ابن جرير عن ابن عمر في قوله : { وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ البيت إِلاَّ مُكَآءً وَتَصْدِيَةً } قال : المكاء الصفير ، والتصدية التصفيق ، وعن ابن عمر أيضاً أنه قال : إنهم كانوا يضعون خدودهم على الأرض ويصفقون ويصفرون ، ويصنعون ذلك ليخلطوا بذلك على النبي صلى الله عليه وسلم صلاته ، وقال الزهري : يستهزئون بالمؤمنين . وعن سعيد بن جبير { وَتَصْدِيَةً } قال : صدهم الناس عن سبيل الله عزَّ وجلَّ ، قوله : { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } قال الضحّاك وابن جريج ومحمد بن إسحاق هو ما أصابهم يوم بدر من القتل والسبي ، واختاره ابن جرير عن مجاهد قال : عذاب أهل الإقرار بالسيف ، وعذاب أهل التكذيب بالصيحة والزلزلة .(1/974)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعًا فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37)
قال محمد بن إسحاق : لما أصيب قريش يوم بدر ورجع فلهم إلى مكة ، ورجع أبو سفيان بعيره ، مشى ( عبد الله بن أبي ربيعة ) و ( عكرمة بن أبي جهل ) و ( صفوان بن أمية ) في رجال من قريش أصيب آباؤهم وأبناؤهم وإخوانهم ببدر ، فكلموا أبا سفيان بن حرب ومن كانت له في تلك العير من قريش تجارة ، فقالوا : يا معشر قريش إن محمداً قد وتركم وقتل خياركم ، فأعينونا بهذا المال على حربه لعلنا أن ندرك منه ثأراً بمن أصيب منا ، ففعلوا ، قال : ففيهم أنزل الله عزَّ وجلَّ : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ } إلى قوله { هُمُ الخاسرون } . وقال الضحاك : نزلت في أهل بدر ، وعلى كل تقدير فهي عامة ، وإن كان سبب نزولها خاصاً ، فقد أخبر تعالى أن الكفار ينفقون أموالهم يصدوا عن اتباع الحق ، فسيفعلون ذلك ، ثم تذهب أموالهم ، ثم تكون عليهم حسرة أي ندامة ، حيث لم تجد شيئاً لأنهم أرادوا إطفاء نور الله وظهور كلمتهم على كلمة الحق ، والله متم نوره ولو كره الكافرون ، فهذا الخزي لهم في الدنيا ، ولهم في الآخرة عذاب النار ، فمن عاش منهم رأى بعينه وسمع بأذنه ما يسوؤه ، ومن قتل منهم أو مات فإلى الخزي الأبدي والعذاب السرمدي ، ولهذا قال : { فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ والذين كفروا إلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ } ، وقوله تعالى : { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب } قال ابن عباس : يميز أهل السعادة من أهل الشقاء ، وقال السدي يميز المؤمن من الكافر؛ وهذا يحتمل أن يكون هذا التميز في الآخرة ، كقوله : { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } [ يونس : 28 ] الآية ، وقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] ، وقال في الآية الأخرى : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] ، وقال تعالى : { وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون } [ يس : 59 ] ، ويحتمل أن يكون هذا التمييز في الدنيا بما يظهر من أعمالهم للمؤمنين ، أي : إنما أقدرناهم على ذلك { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب } أي من يطيعه بقتال أعدائه الكافرين ، أو يعصيه بالنكول عن ذلك ، كقوله : { وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله وَلِيَعْلَمَ المؤمنين * وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ } [ آل عمران : 166-167 ] الآية ، وقال تعالى : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } [ آل عمران : 179 ] الآية ، فمعنى الآية على هذا إنما ابتليناكم بالكفار يقاتلونكم وأقدرناهم على إنفاق الأموال وبذلها في ذلك { لِيَمِيزَ الله الخبيث مِنَ الطيب وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ } أي يجمعه كله ، وهو جمع الشيء بعضه على بعض كما قال تعالى في السحاب { ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكَاماً } [ النور : 43 ] أي متراكماً متراكباً ، { فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أولئك هُمُ الخاسرون } أي هؤلاء هم الخاسرون في الدنيا والآخرة .(1/975)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلَاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40)
يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { قُل لِلَّذِينَ كفروا إِن يَنتَهُواْ } أي عما هم فيه من الكفر والمشاقة والعناد ويدخلوا في الإسلام والطاعة والإنابة يغفر لهم ما قد سلف : أي من كفرهم وذنوبهم وخطاياهم ، كما جاء في « الصحيح » : « من أحسن في الإسلام لم يؤاخذ بما عمل في الجاهلية ، ومن أساء في الإسلام أخذ بالاول والآخر » وفي الصحيح أيضاً ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الإسلام يجبُّ ما قبله والتوبة تجبُّ ما كان قبلها » وقوله : { وَإِنْ يَعُودُواْ } أي يستمروا على ما هم فيه ، { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } : أي فقد مضت سنتنا في الأولين أنهم إذا كذبوا واستمروا على عنادهم أنا نعاجلهم بالعذاب والعقوبة ، قال مجاهد في قوله : { فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ } أي في قريش يوم بدر وغيرها من الأمم ، وقوله تعالى : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله } ، قال البخاري عن ابن عمر : أن رجلاص جاء فقال : يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا } [ المؤمنين : 9 ] الآية ، فما يمنعك أن لا تقاتل كما ذكر الله في كتابه؟ فقال : يا ابن أخي أعيَّر بهذه الآية ولا أقاتل أحب إليّ من أن أعيّر بالآية التي يقول الله ، قال عزَّ وجلَّ : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } [ النساء : 93 ] إلى آخر الآية . قال فإن الله تعالى يقول : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ، قال ابن عمر : قد فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ كان الإسلام قليلاً ، وكان الرجل يفتن في دينه ، إما أن يقتلوه وإما أن يوثقوه ، حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة ، فلما رأى أنه لا يوافقه فيما يريد ، قال : فما قولكم في علي وعثمان؟ قال ابن عمر : أما عثمان فكان الله قد عفا عنه وكرهتم أن يعفو الله عنه ، وأما علي فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه وأشار بيده ، وهذه ابنته أو بنته حيث ترون . وأتى رجلان في فتنة ابن الزبير إلى ابن عمر فقالا : إن الناس قد صنعوا ما ترى وأنت ابن عمر بن الخطاب وأنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ قال : يمنعني الله أن حرم عليَّ دم المسلم ، قالوا : أولم يقل الله : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله } قال : قد قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين كله لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة ، ويكون الدين لغير الله .
وقال الضحاك عن ابن عباس : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } يعني لا يكون شرك .(1/976)
وقال عروة بن الزبير : { حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } حتى لا يفتن مسلم عن دينه ، وقوله : { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله } ، وقال الضحاك عن ابن عباس : يخلص التوحيد لله؛ وقال الحسن وقتادة : أن يقال لا إله إلا الله ، أن يكون التوحيد خالصاً لله فليس فيه شرك ويخلع ما دونه من الأنداد ، وقال عبد الرحمن بن أسلم : { وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لله } لا يكون مع دينكم كفر ، ويشهد لهذا ما ثبت في « الصحيحين » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عزَّ وجلَّ » وقوله : { فَإِنِ انْتَهَوْاْ } عما هم فيه من الكفر فكفوا عنه ، وإن لم تعلموا بواطنهم { فَإِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ، كقوله : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ } [ التوبة : 5 ] الآية . وفي الآية الأخرى : { فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدين } [ التوبة : 11 ] ، وقال : { فَإِنِ انتهوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين } [ البقرة : 193 ] . وفي الصحيح « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأسامة لما علا ذلك الرجل بالسيف ، فقال لا إله إلا الله فضربه فقتله ، فذكر ذلك لرسول الله صلى عليه وسلم ، فقال لأسامة : » أقتلته بعدما قال لا إلا إلا الله؟ وكيف تصنع بلا إلا الله يوم القيامة «؟ فقال : يا رسول الله إنما قالها تعوذاً ، قال : » هلا شققت عن قلبه « ، وجعل يقول ويكرر عليه : » من لك بلا إله إلا الله يوم القيامة «؟ قال أسامة : حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت إلا يومئذ » ، وقوله : { وَإِن تَوَلَّوْاْ فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ نِعْمَ المولى وَنِعْمَ النصير } أي وإن استمروا على خلافكم ومحاربتكم { فاعلموا أَنَّ الله مَوْلاَكُمْ } سيدكم وناصركم على أعدائكم فنعم المولى ونعم النصير .(1/977)
وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41)
يبين تعالى تفصيل ما شرعه مخصصاً لهذه الآمة الشريفة من بين سائر الأمم المتقدمة إحلال الغنائم ، والغنيمة هي المال المأخوذ من الكفار بإيجاف الخيل والركاب ، والفيء ما أخذ منهم بغير ذلك ، كالأموال التي يصالحون عليها أو يتوفون عنها ولا وارث لهم ، والجزية والخراج ونحو ذلك؛ هذا مذهب الإمام الشافعي ، ومن العلماء من يطلق الفيء على ما تطلق عليه الغنيمة والعكس أيضاً ، { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ } توكيد لتخميس كل قليل وكثير حتى الخيط والمخيط ، قال الله تعالى : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } [ آل عمران : 161 ] الآية ، وقوله : { فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } اختلف المفسرون هاهنا ، فقال بعضهم لله نصيب من الخمس يجعل في الكعبة . وقال آخرون : ذكر الله هاهنا استفتاح كلام للتبرك ، وسهم لرسوله صلى الله عليه وسلم . قال ابن عباس : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث سرية فغنموا خمَّس الغنيمة ، فضرب ذلك الخمس في خمسة ، ثم قرأ : { واعلموا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ للَّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ } ، فأن لله خمسة : مفتاح كلام : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } [ آل عمران : 109 ] ، فجعل سهم الله وسهم الرسول صلى الله عليه وسلم واحداً ، ويؤيد هذا ما رواه الحافظ البيهقي بإسناد صحيح عن عبد الله بن شفيق عن رجل قال : « أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بوادي القرى ، وهو يعرض فرساً ، فقلت : يا رسول الله ما تقول في الغنيمة؟ فقال : » لله خمسها وأربعة أخماسها للجيش « قلت فما أحد أولى به من أحد؟ قال : » لا ولا السهم تستخرجه من جيبك ليس أنت أحق من أخيك المسلم « .
وقال ابن جرير عن الحسن قال : أوصى الحسن بالخمس من ماله ، وقال : ألا أرضى من مالي بما رضي الله لنفسه؛ وعن عطاء قال : خمس الله والرسول واحد يحمل منه ويصنع فيه ما شاء ، يعني النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا أعم وأشمل ، وهو أنه صلى الله عليه وسلم يتصرف في الخمس الذي جعله الله له بما شاء ويرده في أمته كيف شاء . ويشهد لهذا ما رواه الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب الكندي : أنه جلس مع عبادة بن الصامت وأبي الدرداء والحارث ابن معاوية الكندي رضي الله عنهم ، فتذكروا حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو الدرداء لعبادة : » يا عبادة كلمات رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة كذا وكذا في شأن الأخماس ، فقال عبادة : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم في غزوة إلى بعير من المغنم ، فلما سلم قام رسول الله صلى الله عليه وسلم فتناول وبرة بين أنملتيه فقال : « إن هذه من غنائمكم ، وإنه ليس لي فيها إلا نصيبي معكم الخمس ، والخمس مردود عليكم ، فأدوا الخيط والمخيط ، وأكبر من ذلك وأصغر ، ولا تغلوا ، فإن الغلول عار ونار على أصحابه في الدنيا والآخرة ، وجاهدوا الناس في الله القريب والبعيد ، ولا تبالوا في الله لومة لائم ، وأقيموا حدود الله في السفر والحضر ، وجاهدوا في الله ، فإن الجهاد باب من أبواب الجنة عظيم ينجي الله به من الهم والغم »(1/978)
وعن عمرو بن عنبسة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم إلى بعير من المغنم ، فلما سلم أخذ وبرة من هذا البعير ثم قال : » ولا يحللي من غنمائمكم مثل هذه إلا الخمس والخمس مردود عليكم « وقد كان للنبي صلى الله عليه وسلم من الغنائم شيء يصطفيه لنفسه عبد أو أمة أو فرس أو سيف أو نحو ذلك ، كما نص عليه محمد بن سيرين وعامر الشعبي ، وتبعهما على ذلك أكثر العلماء . وروى الإمام أحمد والترمذي عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تنقل سيفه ذا الفقار يوم بدر ، وهو الذي رأى فيه الرؤيا يوم أُحد ، وعن عائشة رضي الله عنها قالت : كانت صفية من الصفي ، وعن يزيد بن عبد الله قال : كنا بالمربد إذ دخل رجل معه قطعة أديم فقرأناها فإذا فيها : » من محمد رسول الله إلى بني زهير بن أقيش ، إنكم إن شهدتم أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وأقمتم الصلاة ، وآتيتم الزكاة ، وأديتم الخمس من المغنم ، وسهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وسهم الصفي ، أنتم آمنون بأمان الله ورسوله « ، فقلنا : من كتب لك هذا؟ فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم . فهذه أحاديث تدل على تقرير هذا وثبوته؛ ولهذا جعل ذلك كثيرون من الخصائص له صلوات الله وسلامه عليه ، وقال آخرون : إن الخمس يتصرف فيه الإمام بالمصلحة للمسلمين كما يتصرف في مال الفيء .
وقال شيخنا الإمام العلامة ابن تيمية رحمه الله : وهذا قول مالك وأكثر السلف وهو أصح الأقوال ، فإذا ثبت هذا وعلم فقد اختلف أيضاً في الذي كان يناله عليه السلام من الخمس ماذا يصنع به من بعده؟ فقال قائلون : يكون لمن يلي الأمر من بعده ، وقال آخرون : يصرف في مصالح المسلمين؛ وقال آخرون : بل هو مردود على بقية الأصناف ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ، اختاره ابن جرير . وقال آخرون : بل سهم النبي صلى الله عليه وسلم وسهم ذوي القربى مردودان على اليتامى والمساكين وابن السبيل ، قال ابن جرير : وذلك قول جماعة من أهل العراق ، وقيل : إن الخمس جميعه لذوي القربى ، ثم اختلف الناس في هذين السهمين وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال قائلون : سهم النبي صلى الله عليه وسلم يُسلّم للخليفة من بعده ، وقال آخرون : لقرابة النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال آخرون : سهم القرابة لقرابة الخليفة ، واجتمع رأيهم أن يجعلوا هذين السهمين في الخيل والعدة في سبيل الله ، فكانا على ذلك في خلافة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما .(1/979)
قال الأعمش عن إبراهيم : كان أبو بكر وعمر يجعلان سهم النبي صلى الله عليه وسلم في الكراع والسلاح ، فقلت لإبراهيم : ما كان عليٌّ يقول فيه؟ قال : كان أشدهم فيه ، وهذا قول طائفة كثيرة من العلماء رحمهم الله ، وأما سهم ذوي القربى فإنه يصرف إلى ( بني هاشم ) و ( بني المطلب ) لأن بني المطلب وازروا بني هاشم في الجاهلية وفي أول الإسلام ، ودخلوا معهم في الشعب غضباً لرسول الله صلى الله عليه وسلم وحماية له ، مسلمهم طاعة لله ولرسوله ، وكافرهم حمية للعشيرة وأنفة وطاعة لأبي طالب عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ وأما بنو عبد شمس وبنو نوفل ، وإن كانوا بني عمهم فلم يوافقوهم على ذلك ، بل حاربوهم ونابذوهم ، ومالأوا بطون قريش على حرب الرسول .
وقال جبير بن مطعم : مشيت أنا وعثمان بن عفان ، إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا : « يا رسول الله أعطيت بني المطلب من خمس خيبر وتركتنا ، ونحن وهم منك بمنزلة واحدة؟ فقال : » إنما بنو هاشم وبنو المطلب شيء واحد « وفي بعض روايات هذه الحديث : » إنهم لم يفارقونا في جاهلية ولا إسلام « ؛ وهذا قول جمهور العلماء أنهم بنو هاشم وبنو المطلب . قال ابن جرير : وقال آخرون : هم بنو هاشم ، ثم روى عن مجاهد قال : علم الله أن في بني هاشم فقراء ، فجعل لهم الخمس مكان الصدقة ، وفي رواية عنه قال : هم قرابة رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين لا تحل لهم الصدقة؛ عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » رغبت لكم عن غسالة الأيدي ، لأن لكم من خمس الخمس ما يغنيكم أو يكفيكم « ، وقوله : { واليتامى } أي أيتام المسلمين ، واختلف العلماء هل يختص بالأيتام الفقراء أو يعم الأغنياء والفقراء؟ على قولين ، والمساكين هم المحاويج الذين لا يجدون ما يسد خلتهم ومسكنتهم { وابن السبيل } هو المسافر أو المريد للسفر إلى مسافة تقصر فيها الصلاة وليس له ما ينفقه في سفره ذلك ، وسيأتي تفسير ذلك في آية الصدقات من سورة براءة إن شاء الله تعالى .
وقوله تعالى : { إِن كُنتُمْ آمَنْتُمْ بالله وَمَآ أَنزَلْنَا على عَبْدِنَا } أي امتثلوا ما شرعنا لكم من الخمس في الغنائم إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر وما أنزل على رسوله ، ولهذا جاء في » الصحيحين « من حديث عبد الله بن عباس في وفد عبد القيس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لهم :(1/980)
« وآمركم بأربع وأنهاكم عن أربع : آمركم بالإيمان بالله ، ثم قال : هل تدرون ما الإيمان بالله؟ شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأن تؤدوا الخمس من المغنم » الحديث فجعل أداء الخمس من جملة الإيمان ، وقوله : { يَوْمَ الفرقان يَوْمَ التقى الجمعان } ينبه تعالى على نعمته وإحسانه إلى خلقه بما فرق بين الحق والباطل ببدر ، ويسمى الفرقان ، لأن الله أعلى فيه كلمة الإيمان على كلمة الباطل ، وأظهر دينه ونصر نبيه وحزبه ، قال ابن عباس : يوم الفرقان يوم بدر ، فرق الله فيه بين الحق والباطل . وقال عروة بن الزبير : { يَوْمَ الفرقان } يوم فرق الله بين الحق والباطل ، وهو يوم الجمعان لتسع عشرة أو سبع عشرة مضت من رمضان وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يومئذ ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً ، والمشركون ما بين الألف والتسعمائة ، فهزم الله المشركين ، وقتل منهم زيادة على السبعين وأسر منهم مثل ذلك ، وكانت ليلة الفرقان يوم التقى الجمعان لسبع عشة من رمضان . روى ابن مردويه عن علي قال : كانت ليلة الفرقان ليلة التقى الجمعان في صبحيتها ليلة الجمعة لسبع عشرة مضت من شهر رمضان ، وهو الصحيح عند أهل المغازي والسير .(1/981)
إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدْتُمْ لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42)
يقول تعالى مخبراً عن يوم الفرقان : { إِذْ أَنتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدنيا } أي إذ أنتم نزول بعدوة الوادي الدنيا القريبة إلى المدينة { وَهُم } أي المشركون نزول { بالعدوة القصوى } أي البعيدة من المدينة إلى ناحية مكة { والركب } أي العير الذي فيه أبو سفيان بما معه من التجارة ، { أَسْفَلَ مِنكُمْ } أي مما يلي سيف البحر { وَلَوْ تَوَاعَدتُّمْ } أي أنتم والمشركون إلى مكان { لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الميعاد } ، قال محمد بن إسحاق في هذه الآية : ولو كان ذلك عن ميعاد منكم ومنهم ، ثم بلغكم كثرة عددهم وقلة عددكم ما لقيتموهم { ولكن لِّيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } أي ليقضي الله ما أراد بقدرته من اعزاز الإسلام وأهله وإذلال الشرك وأهله من غير ملأ منكم ، ففعل ما أراد من ذلك بلطفه وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم والمسلمون يريدون عير قريش حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد ، وقال ابن جرير : أقبل أبو سفيان في الركب من الشام ، وخرج أبو جهل ليمنعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فالتقوا ببدر ، ولا يشعر هؤلاء بهؤلاء ولا هؤلاء بهؤلاء ، حتى التقى السقاة ونهد الناس بعضهم لبعض ، وقال محمد بن إسحاق وبعث أبو سفيان إلى قريش فقال : إن الله قد نجى عيركم وأموالكم ورجالكم فارجعوا ، فقال أبو جهل : والله لا نرجع حتى نأتي بدراً - وكانت بدر سوقاً من أسواق العرب - فنقيم بها ثلاثاً فنطعم بها الطعام وننحر بها الجزر ، ونسقي بها الخمر ، وتعزف علينا القيان ، وتسمع بنا العرب وبمسيرنا ، فلا يزالون يهابوننا ، بعدها أبداً . وأقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس فقال : « هذه مكة قد ألقت إليكم أفلاذ كبدها » قال محمد بن إسحاق وحدثني عبد الله بن أبي بكر بن حزم ، أن سعد بن معاذ قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم لما التقى الناس يوم بدر : يا رسول الله ألا نبني لك عريشاً تكون فيه وننيخ إليك ركائبك ، ونلقى عدونا؟ فإن أظفرنا الله عليهم وأعزنا فذاك ما نحب ، وإن تكن الأخرى فتجلس على ركائبك وتلحق بمن وراءنا من قومنا ، فقد والله تخلف عنك أقوام ما نحن بأشد لك حباً منهم ، لو علموا أنك تلقى حرباً ما تخلفوا عنك ويوازرونك وينصرونك ، فأثنى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم خيراً ، ودعا له ، فبني له عريش فكان فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر ما معهما غيرهما ، قال ابن إسحاق : وارتحلت قريش حين أصبحت ، فلما أقبلت ورآها رسول الله صلى الله عليه وسلم : قال : « اللهم هذه قريش قد أقبلت بخيلائها وفخرها تحادك وتكذب رسولك ، اللهم أحنهم الغداة »(1/982)
وقوله : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } أي ليكفر من كفر بعد الحجة لما رأى من الآية والعبرة ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك ، يقول تعالى : إنما جمعكم مع عدوكم في مكان واحد على غير ميعاد لينصركم عليهم ، ويرفع كلمة الحق على الباطل ، ليصير الأمر ظاهراً ، والحجة قاطعة والبراهين ساطعة ، ولا يبقى لأحد حجة ولا شبهة ، فحينئذ يهلك من هلك ، أي يستمر في الكفر من استمر فيه على بصيرة من أمره أنه مبطل لقيام الحجة عليه { ويحيى مَنْ حَيَّ } أي يؤمن من آمن { عَن بَيِّنَةٍ } أي حجة وبصيرة ، والإيمان هو حياة القلوب ، قال الله تعالى : { أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس } [ الأنعام : 122 ] ، وقالت عائشة في قصة الإفك : فهلك فيّ من هلك ، أي قال فيها ما قال من البهتان والإفك ، وقوله : { وَإِنَّ الله لَسَمِيعٌ } أي لدعائكم وتضرعكم واستغاثتكم به { عَلِيمٌ } أي بكم وأنكم تستحقون النصر على أعدائكم الكفرة المعاندين .(1/983)
إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلًا وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيرًا لَفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَلَكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْرًا كَانَ مَفْعُولًا وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)
قال مجاهد : أراهم الله إياه في منامه قليلاً ، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بذلك فكان تثبيتاً لهم ، وقوله : { وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ } أي لجبنتم عنهم واختلفتم فيما بينكم { ولكن الله سَلَّمَ } أي من ذلك بأن رأاكهم قليلاً ، { إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي بما تجنه الضمائر وتنطوي عليه الأحشاء ، { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور } [ غافر : 19 ] ، وقوله : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً } وهذا أيضاً من لطفه تعالى بهم إذ أراهم إياهم قليلاً في رأي العين فيجزؤهم عليهم ويطمعهم فيهم . قال ابن مسعود رضي الله عنه : لقد قللوا في أعيننا يوم بدر حتى قلت لرجل إلى جنبي تراهم سبعين؟ قال : لا ، بل هم مائة ، حتى أخذنا رجلاً منهم ، فسألناه فقال : كنا ألفاً ، وقوله : { وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ } ، قال عكرمة : حضض بعضهم على بعض ، { لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } أي ليلقي بينهم الحرب للنقمة ممن أراد الانتقام منه ، والإنعام على من أراد تمام النعمة عليه من أهل ولايته ، ومعنى هذا أنه تعالى أعزى كلاً من الفريقين بالآخر ، وقلّله في عينه ليطمع فيه ، وذلك عند المواجهة ، فلما التحم القتال وأيد الله المؤمنين بألف من الملائكة مردفين ، بقي حزب الكفار يرى حزب الإيمان ضعيفه ، كما قال تعالى : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } [ آل عمران : 13 ] وهذا هو الجمع بين هاتين الآيتين ، فإن كلاً منها حق وصدق ولله الحمد والمنة .(1/984)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46)
هذا تعليم من الله تعالى لعباده المؤمنين آداب اللقاء وطريق الشجاعة عند مواجهة الأعداء فقال : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا } . وفي « الصحيحين » : « يا أيها الناس لا تتمنوا لقاء العدو واسألوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا ، واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف » ، ثم قام النبي صلى الله عليه وسلم وقال : « اللهم منزل الكتاب ، ومجري السحاب ، وهازم الأحزاب ، اهزمهم وانصرنا عليهم » وفي الحديث : « إن الله يحب الصمت عند ثلاث : عند تلاوة القرآن ، وعند الزحف ، وعند الجنازة » وفي الحديث الآخر المرفوع يقول الله تعالى : « إن عبدي كل عبدي الذي يذكرني وهو مناجزٌ قرنه » أي لا يشغله ذلك الحال عن ذكري ودعائي واستعانتي . وقال قتادة : افترض الله ذكره عند أشغل ما يكون ، عند الضرب بالسيوف . وعن كعب الأحبار قال : ما من شيء أحب إلى الله تعالى من قراءة القرآن والذكر ، ولولا ذلك ما أمر الناس بالصلاة والقتال ، ألا ترون أنه أمر الناس بالذكر عند القتال فقال : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فاثبتوا واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ } . فأمر تعالى بالثبات عند قتال الأعداء والصبر على مبارزتهم ، فلا يفروا ولا ينكلوا ولا يجبنوا ، وأن يذكروا الله في تلك الحال ولا ينسوه . بل يستعينوا به ، ويتوكلوا عليه ، ويسألوه النصر على أعدائهم ، ولا يتنازعوا فيما بينهم أيضاً فيختلفوا ، فيكون سبباً لتخاذلهم وفشلهم . { وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ } أي قوتكم وحدتكم وما كنتم فيه من الإقبال { واصبروا إِنَّ الله مَعَ الصابرين } وقد كان للصحابة رضي الله عنهم في باب الشجاعة والائتمار بما أمرهم الله ورسوله به ، وامتثال ما أرشدهم إليه ما لم يكن لأحد من الأمم والقرون قبلهم ، ولا يكون لأحد ممن بعدهم ، فإنهم ببركة الرسول صلى الله عليه وسلم وطاعته فيما أمرهم فتحوا القلوب والأقاليم شرقاً وغرباً في المدة اليسيرة ، مع قلة عددهم بالنسبة إلى جيوش سائر الأقاليم ، وقهروا الجميع حتى علت كلمة الله وظهر دينه على سائر الأديان ، وامتدت الممالك الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها في أقل من ثلاثين سنة ، فرضي الله عنهم وأرضاهم .(1/985)
وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بَطَرًا وَرِئَاءَ النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لَا غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَرَاءَتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلَاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)
يقول تعالى بعد أمره المؤمنين بالإخلاص في القتال في سبيله وكثرة ذكره ، ناهياً لهم عن التشبه بالمشركين في خروجهم من ديارهم بطراً ، أي دفعاً للحق ، { وَرِئَآءَ الناس } وهو المفاخرة والتكبر عليهم ، كما قال أبو جهل : لا والله ، لا نرجع حتى نرد ماء بدر وننحر الجزر ، ونشرب الخمر وتعزف علينا القيان ، فانعكس ذلك عليه أجمع . لأنهم وردوا به الحمام ، وركموا في أطواء بدر مهانين أذلاء . في عذاب سرمدي أبدي ، ولهذا قال : { والله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي عالم بما جاءوا به ، ولهذا جازاهم عليه شرا الجزاء لهم : قال ابن عباس ومجاهد : هم المشركون الذين قاتلوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم بدر ، وقال محمد بن كعب ، لما خرجت قريش من مكة إلى بدر خرجوا بالقيان والدفوف ، فأنزل الله : { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَآءَ الناس } ، وقوله تعالى : { وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشيطان أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ اليوم مِنَ الناس وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ } الآية؛ حسَّن لهم لعنه الله ما جاءوا له وما هموا به ، وأطمعهم أنه لا غالب لهم اليوم من الناس ، ونفى عنهم الخشية من أن يؤتوا في ديارهم ، كما قال تعالى عنه : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } [ النساء : 120 ] ، قال ابن عباس في هذه الآية : لما كان يوم بدر سار إبليس برايته وجنوده مع المشركين ، وألقى في قلوب المشركين أن أحداً لن يغلبكم ، وإني جار لكم ، فلما التقوا ونظر الشيطان إلى إمداد الملائكة { نَكَصَ على عَقِبَيْهِ } قال : رجع مدبراً ، وقال : { إني أرى مَا لاَ تَرَوْنَ } الآية . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : جاء إبليس يوم بدر في جندٍ من الشياطين معه رأيته ، في صورة رجل من بني مدلج في صورة ( سراقة بن مالك بن جعشيم ) فقال الشيطان للمشركين : لا غالب لكم اليوم من الناس وإني جار لكم ، فلما اصطف الناس أخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم قبضة من التراب فرمى بها في وجوه المشركين ، فولوا مدبرين ، وأقبل جبريل عليه السلام إلى إبليس ، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع يده ثم ولى مدبراً وشيعته ، فقال الرجل يا سراقة أتزعم أنك لنا جاراً؟ فقال : إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله والله شديد العقاب ، وذلك حين رأى الملائكة ، وقال قتادة : وذكر لنا أنه رأى جبريل عليه السلام تنزل معه الملائكة ، فعلم عدو الله أنه لا يدان له بالملائكة فقال : إني أرى لا ترون إني أخاف الله ، وكذب عدو الله ، والله ما به مخافة الله ، ولكن علم أن هلا قوة له ولا منعة ، وتلك عادة عدو الله لمن أطاعه واستقاد له ، حتى إذا التقى الحق والباطل أسلمهم شر مسلم وتبرأ منهم عند ذلك .(1/986)
قال تعالى : { كَمَثَلِ الشيطان إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكفر فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي برياء مِّنكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } [ الحشر : 16 ] ، وقوله تعالى : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } [ إبراهيم : 22 ] الآية .
وقوله تعالى : { إِذْ يَقُولُ المنافقون والذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هؤلاء دِينُهُمْ } ، وقال ابن عباس : لما دنا القوم بعضهم من بعض قلل الله المسلمين في أعين المشركين ، وقلل المشركين في أعين المسلمين ، فقال المشركون : غرَّ هؤلاء دينهم ، وإنما قالوا ذلك من قلتهم في أعينهم ، فظنوا أنهم سيهزمونهم لا يشكون في ذلك ، فقال الله : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَإِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } ، قال قتادة : وذكر لنا أن أبا جهل عدو الله لما أشرف على محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه قال : والله لا يعبد الله بعد اليوم قسوة وعتواً ، وقال ابن جريج : هم قوم كانوا من المنافقين بمكة قالوه يوم بدر ، وقال الشعبي : كان ناس من أهل مكة قد تكلموا بالإسلام فخرجوا مع المشركين يوم بدر ، فلما رأوا قلة المسلمين قالوا : غرَّ هؤلاء دينهم ، وقال مجاهد : هم فئة من قريش خرجوا مع قريش من مكة وهم على الارتياب فحبسهم ارتيابهم ، فلما رأوا قلة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : غرَّ هؤلاء دينهم ، حتى قدموا على ما قدموا عليه مع قلة عددهم وكثرة عدوهم . وهكذا قال محمد بن إسحاق بن يسار سواء . وقال ابن جرير عن الحسن في هذه الآية قال : هم قوم لم يشهدوا القتال يوم بدر فسموا منافقين ، وقوله : { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله } أي يعتمد على جنابه { فَإِنَّ الله عَزِيزٌ } أي لا يضام من التجأ إليه ، فإن الله عزيز منيع الجناب عظيم السلطان { حَكِيمٌ } في أفعاله لا يضعها إلا في مواضعها ، فينصر من يستحق النصر ، ويخذل من هو أهل لذلك .(1/987)
وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلَائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (51)
يقول تعالى : ولو عاينت يا محمد حال توفي الملائكة أرواح الكفار ، لرأيت أمراً عظيماً هائلاً فظيعاً منكراً ، إذ { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الحريق } . قال ابن عباس : إذا أقبل المشركون بوجوههم إلى المسلمين ضربوا وجوههم بالسيوف ، وإذا ولو أدركتهم الملائكة يضربون أدبارهم ، وقال مجاهد في قوله : { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } يوم بدر ، وقال سعيد بن جبير { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } قال : وأستاههم ، ولكنَّ الله يكني؛ والسياق وإن كان سببه وقعة بدر ، ولكنه عام في حق كل كافر ، ولهذا قال تعالى : { وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } وفي سورة القتال مثلها ، وتقدم قوله تعالى : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ أخرجوا أَنْفُسَكُمُ } [ الأنعام : 93 ] أي باسطو أيديهم بالضرب فيهم بأمر ربهم إذا استصعبت أنفسهم ، وامتنعت من الخروج من الأجساد أن تخرج قهراً ، وذلك إذا بشروهم بالعذاب والغضب من الله ، كما في حديث البراء : « أن ملك الموت إذا جاء الكافر عند احتضاره في تلك الصورة المنكرة يقول : اخرجي أيتها النفس الخبيثة إلى سموم وحميم وظل من يحموم ، فتتفرق في بدنه ، فيستخرجونها من جسده كما يخرج السفود من الصفوف المبلول ، فتخرج معها العروق والعصب » ، ولهذا أخبر تعالى أن الملائكة تقول لهم : ذوقوا عذاب الحريق ، وقوله تعالى : { ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ } أي هذا الجزاء بسبب ما عملتم من الأعمال السيئة في حياتكم الدنيا ، جازاكم الله بها هذا الجزاء ، { وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } : أي لا يظلم أحداً من خلقه ، بل هو الحكم العدل الذي لا يجور ، تبارك وتقدس الغني الحميد ، ولهذا جاء في الحديث القدسي الصحيح : « يا عبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا ، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه » .(1/988)
كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52)
يقول تعالى : فعل هؤلاء من المشركين المكذبين بما أرسلت به يا محمد ، كما فعل الأمم المكذبة قبلهم ، ففعلنا بهم ما هو دأبنا ، أي عادتنا وسنتنا في أمثالهم من المكذبين من آل فرعون ، ومن قبلهم من الأمم المكذبة بالرسل ، الكافرين بآيات الله { فَأَخَذَهُمُ الله بِذُنُوبِهِمْ } أي بسبب ذنوبهم أهلهكم ، وأخذهم أخذ عزيز مقتدر { إِنَّ الله قَوِيٌّ شَدِيدُ العقاب } أي لا يغلبه غالب ولا يفوته هارب .(1/989)
ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّرًا نِعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَأَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَكُلٌّ كَانُوا ظَالِمِينَ (54)
يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه بأنه تعالى لا يغير نعمة أنعمها على أحدٍ إلا بسبب ذنب ارتكبه ، كقوله تعالى : { بِأَنَّ الله لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا على قَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } ، وقوله : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } أي كصنعه بآل فرعون وأمثالهم حين كذبوا بآياته ، أهلكهم بسبب ذنوبهم . وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم من جنات وعيون ، ونعمة كانوا فيها فاكهين ، وما ظلمهم الله في ذلك بل كانوا هم الظالمين .(1/990)
إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لَا يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57)
أخبر تعالى أن شر ما دب على وجه الأرض هم الذين كفروا فهم لا يؤمنون ، الذين كلما عاهدوا عهداً نقضوه ، وكلما أكدوه بالأيمان نكثوه ، { وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ } : أي لا يخافون من الله في شيء ارتكبوه من الآثام ، { فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الحرب } أي تغلبهم وتظفر بهم في حرب { فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ } أي نكّل بهم ، ومعناه : غلظ عقوبتهم وأثخنهم قتلاً ليخاف من سواهم من الأعداء من العرب وغيرهم ، ويصيروا لهم عبرة { لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ } لعلهم يحذرون أن ينكثوا فيصنع بهم مثل ذلك .(1/991)
وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيَانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ (58)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ } قد عاهدتهم { خِيَانَةً } أي نقضاً لما بينك وبينهم من المواثيق والعهود { فانبذ إِلَيْهِمْ } أي عهدهم على سواء : أي أعلمهم بأنك قد نقضت عهدم حتى يبقى علمك وعلمهم بأنك حرب لهم وهم حرب لك ، وأنه لا عهد بينك وبينهم على السواء ، أي تستوي أنت وهم في ذلك ، قال الراجز :
فاضرب وجوه الغدر للأعداء ... حتى يجيبوك إلى السواء
{ إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } ولو في حق الكفار لا يحبها أيضاً ، عن سليم بن عامر قال : كان معاوية يسير في أرض الروم ، وكان بينه وبينهم أمد فأراد أن يدنوا منهم ، فإذا انقضى الأمد غزاهم ، فإذا شيخ على دابة يقول : الله أكبر ، الله أكبر ، وفاء لا غدر ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ومن كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلن عقدة ولا يشدها ، حتى ينقضي أمدها ، أو ينبذ إليهم على سواء » ، قال فبلغ ذلك معاوية ، فرجع فإذا بالشيخ عمرو بن عنبسة رضي الله عنه . وقال الإمام أحمد عن سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه انتهى إلى حصن أو مدينة ، فقال لأصحابه : « دعوني أدعوهم كما رأيتُ رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعوهم ، فقال : إنما كنت رجلاً منكم فهداني الله عزَّ وجلَّ للإسلام ، فإن أسلمتم فلكم ما لنا وعليكم ما علينا ، وأن أبيتم فأدوا الجزية وأنتم صاغرون ، وإن أبيتم نابذناكم على سواء » { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الخائنين } يفعل ذلك بهم ثلاثة أيام ، فلما كان اليوم الرابع غدا الناس إليها ففتحوها بعون الله .(1/992)
وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لَا يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لَا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (60)
يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ } يا محمد { الذين كَفَرُواْ سبقوا } أي فاتونا فلا نقدر عليهم ، بل هم تحت قهر قدرتنا وفي قبضة مشيئتنا فلا يعجزوننا ، كقوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الذين يَعْمَلُونَ السيئات أَن يَسْبِقُونَا سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } [ العنكبوت : 4 ] أي يظنون ، وقوله تعالى : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض وَمَأْوَاهُمُ النار وَلَبِئْسَ المصير } [ النور : 57 ] ، وقوله تعالى : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } [ آل عمران : 196-197 ] . ثم أمر تعالى بإعداد آلات الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة فقال : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم } أي مهما أمكنكم { مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل } . عن عقبة بن عامر قال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول وهو على المنبر : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ } ، ألا إن القوة الرمي ، إلا أن القوة الرمي » وروى الإمام أحمد وأهل السنن عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ارموا واركبوا وأن ترموا خير من أن تركبوا » وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الخيل لثلاثة : لرجل أجر ، ولرجل ستر ، وعلى رجل وزر . فأما الذي له أجر فرجل ربطها في سبيل الله فأطال لها في مرج أو روضة ، فما أصابت في طيلها ذلك من المرج أو الروضة كانت له حسنات ، ولو أنها قطعت طيلها فاستنت شرفاً أو شرفين كانت آثارهما ، وأرواها حسنات له ، ولو أنها مرت بنهر فشربت منه ولم يرد أن يسقى به كان ذلك حسنات له ، فهي لذلك الرجل أجر ، ورجل ربطها تغنياً وتعففاً ولم ينس حق الله في رقابها ولا ظهورها فهي له ستر ، ورجل ربطها فخراً ورياء ونواء فهي على ذلك وزر » . وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الحمر؟ فقال : « أما أنزل الله عليّ فيها شيئاً إلا هذه الآية الجامعة الفاذة » { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7-8 ] . وقد ذهب أكثر العلماء إلى أن الرمي أفضل من ركوب الخيل ، وذهب الإمام مالك إلى أن الركوب أفضل من الرمي؛ وقول الجمهور أقوى للحديث والله أعلم .
« الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة ، وأهلها معانون عليها ، ومن ربط فرساً في سبيل الله كانت النفقة عليه كالماد يده بالصدقة لا يقبضها » وفي « صحيح البخاري » قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الخيل معقود في نواصيها الخير إلى يوم القيامة الأجر والمغنم » وقوله : { تُرْهِبُونَ } أي تخوفون { بِهِ عَدْوَّ الله وَعَدُوَّكُمْ } أي من الكفار { وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ } ، قال مجاهد : يعني بني قريظة ، وقال السدي : فارس ، وقال سفيان الثوري : هم الشياطين التي في الدور ، وقال مقاتل : هم المنافقون ، وهذا أشبه الأقوال ، ويشهد له قوله تعالى :(1/993)
{ وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِّنَ الأعراب مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ المدينة مَرَدُواْ عَلَى النفاق لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ } [ التوبة : 101 ] ، وقوله : { وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ الله يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } أي مهما أنفقتم في الجهاد فإنه يوف إليكم على التمام والكمال ، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود أن الدرهم يضاعف ثوابه في سبيلالله إلى سبعمائة ضعف كما تقدم في قوله تعالى : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } [ البقرة : 261 ] .(1/994)
وَإِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مَا أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)
يقول تعالى : إذا خفت من قوم خيانة فانبذ إليهم عهدهم على سواء ، فإن استمروا على حربك ومنابذتك فقاتلهم { وَإِن جَنَحُواْ } أي مالوا { لِلسَّلْمِ } أي المسالمة والمصالحة والمهادنة { فاجنح لَهَا } أي فمل إليها ، واقبل منهم ذلك ، ولهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم تسع سنين ، أجابهم إلى ذلك مع ما اشترطوا من الشروط الآخر . قال ابن عباس ومجاهد : إن هذه الآية منسوخة بآية السيف في براءة { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } [ التوبة : 29 ] الآية ، وفيه نظر ، لأن آية براءة فيها الأمر بقتالهم إذا أمكن ذلك ، فأما إن كان العدو كثيفاً فإنه يجوز مهادنتهم ، كما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، وكما فعل النبي صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية ، فلا منافاة ولا نسخ ولا تخصيص والله أعلم . وقوله : { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله } أي صالحهم وتوكل على الله ، فإن الله كافيك وناصرك ولو كانوا يريدون بالصلح خديعة ليتقووا ويستعدوا { فَإِنَّ حَسْبَكَ الله } أي كافيك وحده ، ثم ذكر نعمته عليه بما أيده من المؤمنين المهاجرين والأنصار ، فقال : { هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي جمعها على الإيمان بك وعلى طاعتك ومناصرتك وموازرتك ، { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } أي لما كان بينهم من العداوة والبغضاء ، فإن الأنصار كانت بينهم حروب كثيرة في الجاهلية بين الأوس والخزرج ، حتى قطع الله ذلك بنور الإيمان ، كما قال تعالى : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } [ آل عمران : 103 ] .
وفي « الصحيحين » « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطب الأنصار في شأن غنائم حينن قال لهم : » يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي ، وعالة فأغناكم الله بي ، وكنتم متفرقين فألفكم الله بي « كلما قال شيئاً قالوا : الله ورسوله أمنّ » ؛ ولهذا قال تعالى : { ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي عزيز الجناب فلا يخيب رجاء من توكل عليه { حَكِيمٌ } في أفعاله وأحكامه ، عن ابن عباس قال : إن الرحم لتقطع ، وإن النعمة لتكفر ، وإن الله إذا قارب بين القلوب لم يزحزحها شيء ، ثم قرأ : { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } ، وعن مجاهد قال : إذا التقى المتحابان في الله فأخذ أحدهما بيد صاحبه وضحك إليه ، تحاتت خطاياهما كما تحات ورق الشجر ، قال عبدة : فقلت له : إن هذا ليسير فقال : لا تقل ذلك ، فإن الله يقول : { لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ } قال عبدة : فعرفت أنه أفقه مني . عن سلمان الفارسي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن المسلم إذا لقي أخاه المسلم فأخذ بيده تحاتت عنهما ذنوبهما كما تحات الورق عن الشجرة اليابسة في يوم ريح عاصف ، وإلا غفر لهما ذنوبهما ولو كانت مثل زبد البحار » .(1/995)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفًا فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66)
يحرض تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين على القتال ، ومناجزة الأعداء ، ومبارزة الأقران ، ويخبرهم أنه حسبهم : أي كافيهم ومؤيدهم على عدوهم ، وإن كثرت أعدادهم وترادفت أمدادهم ، ولو قل عدد المؤمنين . قال ابن أبي حاتم عن الشعبي في قوله : { ياأيها النبي حَسْبُكَ الله وَمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } قال : حسبك الله وحسب من شهد معك ، ولهذا قال : { ياأيها النبي حَرِّضِ المؤمنين عَلَى القتال } أي حثهم وذمرهم عليه ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرض على القتال عند صفهم ومواجهة العدو ، كما قال لأصحابه يوم بدر حين أقبل المشركون في عَدَدهم وعُدَدهم : « قوموا إلى جنة عرضها السماوات والأرض » فقال ( عمير بن الحمام ) عرضها السماوات والأرض؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم « نعم » ، فقال : بخ بخ ، فقال : « ما يحملك على قولك بخ بخ »؟ قال : رجاء أن أكون من أهلها ، قال : « فإنك من أهلها » ، فتقدم الرجل فكسر جفن سيفه ، وأخرج تمرات فجعل يأكل منهن ، ثم ألقى بقيتهن من يده ، وقال : لئن أنا حييت حتى آكلهن إنها لحياة طويلة ، ثم تقدم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه . ثم قال تعالى مبشراً للمؤمنين وآمراً : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُنْ مِّنكُمْ مِّئَةٌ يغلبوا أَلْفاً مِّنَ الذين كَفَرُواْ } كل واحد بعشرة ، ثم نسخ هذا الأمر وبقيت البشارة ، قال عبد الله بن المبارك عن ابن عباس لما نزلت { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } شق ذلك على المسلمين حين فرض الله عليهم أن لا يفر واحد من عشرة ، ثم جاء التخفيف ، فقال : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ } إلى قوله : { يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } قال : خفف الله عنهم من العدة ونقص من الصبر بقدر ما خفف عنهم ، وروى البخاري نحوه ، وعن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية ثقل على المسلمين وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين ، ومائة ألفاً ، فخفف الله عنهم فنسخها بالآية الأخرى فقال : { الآن خَفَّفَ الله عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً } الآية ، فكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوهم لم يسغ لهم أن يفروا من عدوهم ، وإذا كانوا دون ذلك لم يجب عليهم قتالهم وجاز لهم أن يتحرزوا عنهم . وروى الحافظ ابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما في قوله : { إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ } قال : نزلت فينا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم .(1/996)
مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)
« لما كان يوم بدر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما تقولون في هؤلاء الأسارى «؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله قومك وأهلك ، استبقهم واستتبهم لعل الله أن يتوب عليهم ، وقال عمر : يا رسول الله كذبوك وأخرجوك فقدمهم فاضرب أعناقهم ، وقال عبد الله بن رواحة : يا رسول الله أنت في واد كثير الحطب فاضرم الوادي عليهم ناراً ثم ألقهم فيه ، قال : فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يرد عليهم شيئاً ، ثم قام فدخل ، فقال ناس : يأخذ بقول أبي بكر ، وقال ناس : ياخذ بقول عمر ، وقال ناس يأخذ بقول عبد الله بن رواحة ثم خرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » إن الله ليلين قلوب رجال حتى تكون ألين من اللبن ، وإن الله ليشدد قلوب رجال فيه حتى تكون أشد من الحجارة ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل إبراهيم عليه السلام ، قال : { فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ إبراهيم : 36 ] ، وإن مثلك يا أبا بكر كمثل عيسى عليه السلام قال : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } [ المائدة : 118 ] ، وإن مثلك يا عمر كمثل موسى عليه السلام قال : { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 88 ] ، وإن مثلك يا عبد الله كمثل نوح عليه السلام قال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] أنتم عاله فلا ينفكن أحد منهم إلا بفداء أو ضربة عنق « ، قال ابن مسعود : قلت يا رسول الله إلا ( سهل بن بيضاء ) فإنه يذكر الإسلام ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم فما رأيتني في يوم أخوف من أن تقع عليّ حجارة من السماء مني في ذلك اليوم حتى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إلا سهيل بن بيضاء « ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } إلى آخر الآية . » عن ابن عمر قال : لما أسر الأسارى يوم بدر أسر العباس فيمن أسر ، أسره رجل من الأنصار . قال : وقد أوعدته الأنصار أن يقتلوه ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني لم أنم الليلة من أجل عمي العباس ، وقد زعمت الأنصار أنهم قاتلوه » فقال له عمر : أفآتهم؟ فقال : « نعم » . فأتى عمر الأنصار . فقال لهم : أرسلوا العباس ، فقالوا : لا والله لا نرسله ، فقال لهم عمر : فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى ، قالو : فإن كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم رضى فخذه ، فأخذه عمر ، فلما صار في يده قال له : يا عباس أسلم ، فوالله لا تسلم أحب إليّ من أن يسلم الخطاب ، وما ذاك إلا لما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعجبه إسلامك . قال : واستشار رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا بكر فيهم ، فقال أبو بكر : عشيرتك فأرسلهم ، فاستشار عمر فقال : اقتلهم ، ففاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } الآية « .(1/997)
قال ابن عباس : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى } قال : غنائم بدر قبل أن يحلها لهم ، يقول : لولا أني لا أعذب من عصاني حتى أتقدم إليه ، لمسكم فيما أخذتم عذاب عظيم ، وكذا روي عن مجاهد ، وقال الأعمش : سبق منه أن لا يعذب أحداً شهد بدراً ، وقال شعبة عن مجاهد { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } أي لهم بالمغفرة ، وعن ابن عباس في قوله : { لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ الله سَبَقَ } يعني في أم الكتاب الأول أن المغانم والأسارى لكم { لَمَسَّكُمْ فِيمَآ أَخَذْتُمْ } من الأسارى { عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، ويستشهد لهذا القول بما أخرجاه في « الصحيحين » : « أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة » وقد روى الإمام أبو داود في سننه عن ابن عباس : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل فداء أهل الجاهلية يوم بدر أربعمائة ، وقد استمر الحكم في الأسرى عند جمهور العلماء أن الإمام مخير فيهم ، إن شاء قتل كما فعل ببني قريظة ، وإن شاء فادى بمال كما فعل بأسرى بدر ، أو بمن أسر من المسلمين ، كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك الجارية وابنتها اللتين كانتا في سبي سلمة بن الأكوع ، حيث ردهما وأخذ في مقابلتهما من المسلمين الذين كانوا عند المشركين . وإن شاء استرق من أسر ، هذا مذهب الإمام الشافعي وطائفة من العلماء ، وفي المسألة خلاف آخر بين الأئمة مقرر في موضعه من كتب الفقه .(1/998)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرَى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْرًا يُؤْتِكُمْ خَيْرًا مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَإِنْ يُرِيدُوا خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)
قال محمد بن إسحاق عن ابن عباس رضي الله عنهما « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم بدر : » إني قد عرفت أن ناساً من بني هاشم وغيرهم قد أخرجوا كرهاً لا حاجة لهم بقتالنا ، فمن لقي منكم أحداً منهم - أي من بني هاشم - فلا يقتله ، ومن لقي البختري بن هشام فلا يقتله ، ومن لقي العباس بن عبد المطلب فلا يقتله ، فإنه إنما أخرج مستكرهاً « ، فقال أبو حذيفة بن عتبة : أنقتل آباءنا وأبناءنا وإخواننا وعشائرنا ونترك العباس؟ والله لئن لقيته لألجمنه بالسيف ، فبلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال لعمر بن الخطاب : يا أبا حفص - قال عمر : والله إنه لأول يوم كناني فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم أبا حفص - أيضرب وجه عم رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف »؟ فقال عمر : يا رسول الله ائذن لي فأضرب عنقه فوالله لقد نافق ، فكان أبو حذيفة يقول بعد ذلك : والله ما آمن من تلك الكلمة التي قلت ولا أزال منها خائفاً إلا أن يكفرها الله تعالى عني بشهادة ، فقتل يوم اليمامة شهيداً رضي الله عنه « ، قال محمد بن إسحاق : وكان أكثر الأسارى يوم بدر فداء العباس بن عبد المطلب ، وذلك أنه كان رجلاً موسراً فافتدى نفسه بمائة أوقية ذهباً . وفي » صحيح البخاري « عن أنس بن مالك : » أن رجالاً من الأنصار قالوا : يا رسول الله ائذن لنا فلنترك لابن أختنا عباس فداءه . قال : « لا والله لا تذرون منه درهماً » ، وبعثت قريش إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في فداء أسراهم ، ففدى كل قوم أسيرهم بما رضوا ، وقال العباس : يا رسول الله قد كنت مسلماً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الله أعلم بإسلامك ، فإن يكن كما تقول فإن الله يجزيك ، وأما ظاهرك فقد كان علينا ، فافتد نفسك وابني أخيك نوفل وعقيل ، وحليفك عتبة بن عمرو » قال : ما ذاك عندي يا رسول الله ، قال : « فأين المال الذي دفنته أنت وأم الفضل؟ فقلت لها إن أصبت في سفري هذا ، فهذا المال الذي دفنته لبنيّ الفضل وعبد الله وقثم » ، قال : والله يا رسول الله إني لأعلم أنك رسول الله ، إن هذا لشيء ما علمه أحد غيري وغير أم الفضل ، فاحسب لي يا رسول الله ما أصبتم مني عشرين أوقية من مال كان معي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا ، ذاك شيء أعطانا الله تعالى منك » ، ففدى نفسه وابني أخويه وحليفه «(1/999)
، فأنزل الله عزَّ وجلَّ فيه : { ياأيها النبي قُل لِّمَن في أَيْدِيكُمْ مِّنَ الأسرى إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . قال العباس : فأعطاني الله مكان العشرين الأوقية في الإسلام عشرين عبداً كلهم في يده مال يضرب به ، مع ما أرجو من مغفرة الله عزَّ وجلَّ . وقال أبو جعفر بن جرير : قال العباس في نزلت : { مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض } [ الأنفال : 67 ] ، فأخبرت النبي صلى الله عليه وسلم بإسلامي ، وسألته أن يحاسبني بالعشرين الأوقية التي أخذت مني فأبى ، فأبدلني الله بها عشرين عبداً كلهم تاجرٌ مالي في يده .
وقال ابن عباس قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم : آمنا بما جئت به ونشهد أنك رسول الله لننصحن لك على قومنا ، فأنزل الله : { إِن يَعْلَمِ الله فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ } يخلف لكم خيراً مما أخذ منكم { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } الشرك الذي كنتم عليه ، قال فكان العباس يقول : ما أحب أن هذه الآية لم تنزل فينا وإن لي الدنيا ، لقد قال : { يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّآ أُخِذَ مِنكُمْ } ، فقد أعطاني خيراً مما أخذ مني مائة ضعف ، وقال : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ } وأرجو أن يكون قد غفر لي . وقال قتادة : ذكر لنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قدم عليه مال البحرين ثمانون ألفاً ، وقد توضأ لصلاة الظهر ، فما أعطى يومئذ شاكياً ، ولا حرم سائلاً ، وما صلى يومئذ حتى فرقه ، فأمر العباس أن يأخذ منه ويحتثي ، فكان العباس يقول : هذا خير مما أخذ منا وأرجو المغفرة . قال الحافظ أبو بكر البيهقي عن أنس بن مالك قال : « أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين فقال : » انثروه في مسجدي « قال : وكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج إلى الصلاة ولم يلتفت إليه ، فلما قضى الصلاة جاء فجلس إليه ، فما كان يرى أحداً إلا أعطاه ، إذ جاءه العباس ، فقال : يا رسول الله أعطني فإني فاديت نفسي ، وفاديت عقيلاً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » خذ « فحثا في ثوبه ، ثم ذهب يقله فلم يستطع ، فقال : مر بعضهم يرفعه إليّ ، قال : » لا « ، قال : فارفعه أنت عليّ ، قال : » لا « ، فنثر منه ثم احتمله على كاهله ، ثم انطلق ، فما زال رسول الله صلى الله عليه وسلم يتبعه بصره حتى خفي عنه عجباً من حرصه ، فما قام رسول الله صلى الله عليه وسلم وثَمَّ منها درهم » وقوله : { وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ } أي وإن يريدوا خيانتك فيما أظهروا لك من الأقوال { فَقَدْ خَانُواْ الله مِن قَبْلُ } أي من قبل بدر بالكفر به { فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ } أي بالأسارى يوم بدر { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بفعله حكيم فيه ، قال قتادة : نزلت في ( عبد الله بن أبي سرح ) الكاتب حين ارتد ولحق بالمشركين ، وقال عطاء الخراساني : نزلت في عباس وأصحابه حين قالوا : لننصحن لك على قومنا ، وقال السدي بالعموم ، وهو أشمل وأظهر والله أعلم .(1/1000)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يُهَاجِرُوا مَا لَكُمْ مِنْ وَلَايَتِهِمْ مِنْ شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُوا وَإِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلَّا عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72)
ذكر تعالى أصناف المؤمنين ، وقسمهم إلى ( مهاجرين ) خرجوا من ديارهم وأموالهم ، وجاءوا لنصر الله ورسوله وإقامة دينه ، وبذلوا أموالهم وأنفسهم في ذلك ، وإلى ( أنصار ) وهم المسلمون من أهل المدينة إذ ذاك آووا إخوانهم المهاجرين في منازلهم وواسوهم في أموالهم ، ونصروا الله ورسوله بالقتال معهم فهؤلاء { بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } أي كل منهم أحق بالآخر من كل أحد ، ولهذا آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بين المهاجرين والأنصار ، كل اثنين أخوان ، فكانوا يتوارثون بذلك إرثاً مقدماً على القرابة ، حتى نسخ الله تعالى ذلك بالمواريث ، ثبت ذلك في « صحيح البخاري » عن ابن عباس ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « المهاجرون والأنصار بعضهم أولياء بعض ، والطلقاء من قريش والعتقاء من ثقف بعضهم أولياء بعض إلى يوم القيامة » ، وقد الله ورسوله على المهاجرين والأنصار في غير ما آية في كتابه فقال : { والسابقون الأولون مِنَ المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ الله عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ } [ التوبة : 100 ] الآية ، وقال : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّنَ الله وَرِضْوَاناً وَيَنصُرُونَ الله وَرَسُولَهُ أولئك هُمُ الصادقون * والذين تَبَوَّءُوا الدار والإيمان مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ } [ الحشر : 8-9 ] الآية ، وقال تعالى : { وَلاَ يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّآ أُوتُواْ } [ الحشر : 9 ] الآية ، وأحسن ما قيل في قوله : { والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } أي لا يحسدونهم على فضل ما أعطاهم الله على هجرتهم فإن ظاهر الآيات تقديم المهاجرين على الأنصار ، وهذا امر مجمع عليه بين العلماء لا يختلفون في ذلك ، ولهذا قال الإمام البزار عن سعيد بن المسيب عن حذيفة قال : « خيّرني رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الهجرة والنصرة فاخترت الهجرة » ، وقوله تعالى : { والذين آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُمْ مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حتى يُهَاجِرُواْ } ، هذا هو الصنف الثالث من المؤمنين وهم الذين آمنوا ولم يهاجروا بل أقاموا في بواديهم ، فهؤلاء ليس لهم في المغانم نصيب ، ولا في خمسها إلا ما حضروا فيه القتال ، كما روي عن يزيد بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث أميراً على سرية أو جيش أوصاه في خاصة نفسه بتقوى الله وبمن معه من المسلمين خيراً ، وقال : » اغزوا باسم الله في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، إذا لقيت عدوك من المشركين فادعهم إلى إحدى ثلاث خصال - أو خلال - فأيتهن ما أجابوك إليها فأقبل منهم ، وكف عنهم ، ادعهم إلى الإسلام فإن أجابوك فأقبل منهم وكف عنهم ، ثم ادعهم إلى التحول من دارهم إلى دار المهاجرين وأعلمهم إن فعلوا ذلك أن لهم ما للمهاجرين وأن عليهم ما على المهاجرين ، فإن أبوا واختاروا دارهم فأعلمهم أنهم يكونون كأعراب المسلمين يجري عليهم حكم الله الذي يجري على المؤمنين ولا يكون لهم في الفيء والغنيمة نصيب إلا أن يجاهدوا مع المسلمين ، فإن هم أبوا فادعهم إلى إعطاء الجزية ، فإن أجابوا فاقبل منهم وكف عنهم ، فإن أبوا فاستعن بالله وقاتلهم «(1/1001)
، وقوله : { وَإِنِ استنصروكم فِي الدين فَعَلَيْكُمُ النصر } يقول تعالى : وإن استنصركم هؤلاء الأعراب الذين لم يهاجروا في قتال ديني على عدو لهم فانصروهم فإنه واجب عليكم نصرهم لأنهم إخوانكم في الدين إلا أن يستنصروكم على قوم من الكفار بينكم وبينهم ميثاق أي مهادنة إلى مدة فلا تخفروا ذمتكم ولا تنقضوا أيمانكم مع الذين عاهدتم .(1/1002)
وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلَّا تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)
لما ذكر تعالى أن المؤمنين بعضهم أولياء بعض ، قطع الموالاة بينهم وبين الكفار ، كما قال الحاكم عن أسامة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يتوارث أهل ملتين ولا يرث مسلم كافراً ولا كافر مسلماً ، ثم قرأ : { والذين كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِير } » ، وفي « الصحيحين » : « لا يرث المسلم الكافر ولا الكافر المسلم » وفي « المسند » و « السنن » : « لا يتوارث أهل ملتين شتى » . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنا بريء من كل مسلم بين ظهراني المشركين ، لا يتراءى ناراهما » وروى أبو داود عن سمرة بن جندب : أما بعد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله » ومعنى قوله : { إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الأرض وَفَسَادٌ كَبِيرٌ } أي إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين وإلا وقعت فتنة في الناس ، وهو التباس الأمرو اختلاط المؤمنين بالكافرين بين الناس فساد منتشر عريض طويل .(1/1003)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ آوَوْا وَنَصَرُوا أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولَئِكَ مِنْكُمْ وَأُولُو الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75)
لما ذكر تعالى حكم المؤمنين في الدنيا ، عطف بذكر مالهم في الآخرة ، فأخبر عنهم بحقيقة الإيمان ، وأنه سبحانه سيجازيهم بالمغفرة والصفح عن الذنوب إن كانت ، وبالرزق الكريم وهو الحسن الكثير الطيب الشريف الذي لا ينقطع ولا ينقضي ، ولا يسأم ولا يمل لحسنه وتنوعه ، ثم ذكر أن الأتباع لهم في الدنيا على ما كانوا عليه من الإيمان والعمل الصالح فهم معهم في الآخرة كما قال : { والسابقون الأولون } [ التوبة : 100 ] الآية . وقال : { والذين جَآءُوا مِن بَعْدِهِمْ } [ الحشر : 10 ] الآية ، وفي الحديث المتفق عليه : « المرء مع أحب » ، وفي الحديث الآخر : « ومن أحب قوماً فهو منهم » وفي رواية : « حشر معهم » ، وأما قوله تعالى : { وَأْوْلُواْ الأرحام بَعْضُهُمْ أولى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ الله } أي في حكم الله ، وليس المراد بقوله : { وَأْوْلُواْ الأرحام } خصوصية ما يطلقه علماء الفرائض ، على القرابة الذين لا فرض لهم ولا هم عصبة ، بل يدلون بوارث كالخالة والخال والعمة ونحوهم ، كما قد يزعمه بعضهم . بل الحق أن الآية عامة تشمل جميع القرابات . كما نص عليه عليه ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد . على أنها ناسخة للإرث بالحلف والإخاء اللذين كانوا يتوارثون بهما أولاً ، وعلى هذا فتشمل ذوي الأرحام بالاسم الخاص والله أعلم .(1/1004)
بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2)
هذه السورة الكريمة من أواخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما قال البراء بن عازب : آخر آية نزلت { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ } [ النساء : 176 ] ، وآخر سورة نزلت : براءة . وإنما لم يبسمل في أولها لأن الصحابة لم يكتبوا البسملة في أولها في المصحف الأول ، بل اقتدوا في ذلك بأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه وأرضاه . وأول هذه السورة الكريمة نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لما رجع من غزوة تبوك ، وبعث أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميراً على الحج تلك السنة ليقيم للناس مساكنهم ، ويعلم المشركين أن لا يحجوا بعد عامهم هذا ، وأن ينادي في الناس { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } ، فلما قفل أتبعه بعلي بن أبي طالب ليكون مبلغاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، كما سيأتي بيانه ، فقوله تعالى : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } أي هذه براءة أي تبرؤ من الله ورسوله { إِلَى الذين عَاهَدْتُمْ مِّنَ المشركين * فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } . اختلف المفسرون هاهنا اختلافاً كثيراً ، فقال قائلون : هذه الآية لذوي العهود المطلقة غير المؤقتة ، أو من له عهد دون أربعة أشهر فيكمل له أربعة أشهر ، فأما من كان له عهد مؤقت فأجله إلى مدته مهما كان ، لقوله تعالى : { فأتموا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إلى مُدَّتِهِمْ } [ التوبة : 4 ] الآية ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فعهده إلى مدته؛ وهذا أحسن الأقوال وأقواها ، وقد اختاره ابن جرير رحمه الله .
وقال ابن عباس : حدَّ الله للذين عاهدوا رسوله أربعة أشهر ، يسيحون في الأرض حيث شاءوا ، وأجَّل أجل من ليس له عهد انسلاخ الأشهر الحرم ، فأمر الله نبيه إذا انسلخ المحرم أن يضع السيف فيمن لم يكن بينه وبينه عهد ، بقتلهم حتى يدخلوا في الإسلام ، وأمر بمن كان له عهد إذا انسلخ أربعة أشهر من يوم النحر إلى عشر خلون من ربيع الآخر أن يضع فيهم السيف أيضاً حتى يدخلوا في الإسلام . وقال مجاهد : { بَرَآءَةٌ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } إلى أهل العهد خزاعة ومدلج ، ومن كان له عهد أو غيرهم ، فقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من تبوك حين فرع ، فأراد الله رسول الله صلى الله عليه وسلم الحج ثم قال : « إنما يحضر المشركون فيطوفون عراة فلا أحب أن أحج حتى لا يكون ذلك » فأرسل أبا بكر وعلياً رضي الله عنهما ، فطافا بالناس في ذي المجاز وبأمكنتهم التي كانوا يتبايعون بها وبالمواسم كلها ، فآذنوا أصحاب العهد بأن يؤمنوا أربعة أشهر ، فهي الأشهر المتواليات عشرون من ذي الحجة إلى عشر تخلو من ربيع الآخر ، ثم لا عهد لهم ، وآذن الناس كلهم بالقتال إلا أن يؤمنوا .(1/1005)
وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3)
يقول تعالى : وإعلام { مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } وتقدم ، وإنذار إلى الناس { يَوْمَ الحج الأكبر } وهو يوم النحر الذي هو أفضل أيام المناسك وأظهرها وأكبرها جميعاً { أَنَّ الله برياء مِّنَ المشركين وَرَسُولُهُ } أي برئ منهم أيضاً . ثم دعاهم إلى التوبة إليه فقال : { فَإِن تُبْتُمْ } أي مما أنتم فيه من الشرك والضلال ، { فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أي استمررتم على ما أنتم عليه { فاعلموا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي الله } ، بل هو قادر عليكم وأنتم في قبضته وتحت قهره ومشيئته { وَبَشِّرِ الذين كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي في الدنيا بالخزي والنكال ، وفي الآخرة بالمقامع والأغلال . روى البخاري عن أبي هريرة قال : بعثني أبو بكر فيمن يؤذن يوم النحر بمنى ألا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ويوم الحج الأكبر يوم النحر ، وإنما قيل الأكبر ، ومن أجل قول الناس الحج الأصغر ، فنبذ أبو بكر إلى الناس في ذلك العام ، فلم يحج عام حجة الوداع الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم مشرك . وقال الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : كنت مع ( علي بن أبي طالب ) حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل مكة ببراءة فقال : ما كنتم تنادون؟ قال : كنا ننادي أنه لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان بينه وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد فإن أجله أو مدته إلى أربعة أشهر ، فإذا مضت الأربعة الأشهر فإن الله بريء من المشركين ورسوله ، ولا يحج هذا البيت بعد عامنا هذا مشرك ، قال : فكنت أنادي حتى صحل صوتي .
و « عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثه ببراءة مع أبي بكر ، فلما بلغ ذا الحليفة قال : » لا يبلغها إلا أنا أو رجل من أهل بيتي « ، فبعث بها مع علي بن أبي طالب رضي الله عنه » و « عن علي رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين بعثه ببراءة قال : يا نبي الله إني لست باللسن ولا بالخطيب ، قال : » لا بد لي أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت « قال : فإن كان لا بد فسأذهب أنا ، قال : » انطلق فإن الله يثبت لسانك ويهدي قلبك « ، قال : ثم وضع يده على فيه » وقال محمد بن إسحاق : « نزلت براءة على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد كان بعث أبا بكر ليقيم الحج للناس فقيل يا رسول الله : لو بعثت إلى أبي بكر ، فقال : » لا يؤدي عني إلا رجل من أهل بيتي « ، ثم دعا علياً فقال : » اذهب بهذه القصة من سورة براءة وأذن في الناس يوم النحر إذا اجتمعوا بمنى أنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو له إلى مدته فخرج علي رضي الله عنه على ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم العضباء ، حتى أدرك أبا بكر في الطريق ، فلما رآه أبو بكر قال : أمير أو مأمور؟ فقال : بل مأمور ، ثم مضيا ، فأقام أبو بكر للناس الحج إذ ذاك في تلك السنة على منازلهم من الحج التي كانوا عليها في الجاهلية ، حتى إذا كان يوم النحر قام علي بن أبي طالب فأذن بالناس بالذي أمره رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا أيها الناس إنه لا يدخل الجنة كافر ، ولا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، ومن كان له عهد عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو إلى مدته ، فلم يحج بعد ذلك العام مشرك ، ولم يطف بالبيت عريان ثم قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم «(1/1006)
فكان هذا من براءة فيمن كان من أهل الشرك من أهل العهد العام وأهل المدة إلى الأجل المسمى .
عن عطاء قال : يوم الحج الأكبر يوم عرفة ، وقال عمرو بن الوليد السهمي عن عباد البصري قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : هذا يوم عرفة هذا يوم الحج الأكبر فلا يصومنه أحد . قال : فحججت بعد أبي فأتيت المدينة ، فسألت عن أفضل أهلها ، فقالوا ( سعيد بن المسيب ) فأتيته ، فقلت : إني سألت عن أفضل أهل المدينة ، فقال سعيد بن المسيب ، فأخبرني عن صوم يوم عرفة ، فقال : أخبرك عمن هو أفضل مني مائة ضعف ( عمر ) أو ( ابن عمر ) كان ينهى عن صومه ، ويقول هو يوم الحج الأكبر . والقول الثاني : أنه يوم النحر . قال الحارث الأعور : سألت علياً رضي الله عنه عن يوم الحج الأكبر فقال : هو يوم النحر . وقال عبد الرزاق عن عبد الله بن أبي أوفى أنه قال : يوم الحج الأكبر يوم النحر . وقال عبد الله بن سنان خطبنا المغيرة بن شعبة يوم الأضحى على بعير فقال : هذا يوم الأضحى ، وهذا يوم النحر ، وهذا يوم الحج الأكبر ، واختاره ابن جرير ، وروى عن محمد بن سيرين عن عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه قال : « لما كان ذلك اليوم قعد رسول الله صلى الله عليه وسلم على بعير له وأخذ الناس بخطامه أو زمامه فقال : » أي يوم هذا «؟ قال : فسكتنا حتى ظننا أنه سيسميه سوى اسمه ، فقال : » أليس هذا يوم الحج الأكبر «؟ » .(1/1007)
إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)
هذا استثناء من ضرب مدة التأجيل بأربعة أشهر لمن له عهد مطلق ليس بمؤقت ، فأجله أربعة أشهر يسيح في الأرض يذهب فيها لينجو بنفسه حيث شاء ، إلا من له عهد مؤقت فأجله إلى مدته المضروبة التي عوهد عليها ، وقد تقدمت الأحاديث « ومن كان له عهد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فعهده إلى مدته » وذلك بشرط أن لا ينقض المعاهد عهده ولم يظاهر على المسلمين أحداً ، أي يماليء عليهم من سواهم ، فهذا الذي يوفى له بذمته وعهده إلى مدته ، ولهذا حرض تعالى على الوفاء بذلك فقال : { إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } أي الموفين بعهدهم .(1/1008)
فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)
اختلف المفسرون في المراد بالأشهر الحرم هاهنا ما هي؟ فذهب ابن جرير إلى أنها المذكورة في قوله تعالى : { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم } [ التوبة : 36 ] الآية ، ولكن قال ابن جرير : آخر الأشهر الحرم في حقهم المحرم ، وفيه نظر ، والذي يظهر من حيث السياق ما ذهب إليه ابن عباس في رواية العوفي عنه ، أن المراد بها أشهر التسيير الأربعة المنصوص عليها بقوله : { فَسِيحُواْ فِي الأرض أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ } [ التوبة : 2 ] ، ثم قال : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم } أي إذا انقضت الأشهر الأربعة التي حرمنا عليكم فيها قتالهم وأجلناهم فيها فحيثما وجدتموهم فاقتلوهم ، لأن عود العهد على مذكور أولى من مقدر ، ثم إن الأشهر الأربعة المحرمة سيأتي بيان حكمها في آية أخرى بعد في هذه السورة الكريمة . وقوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } أي من الأرض ، وهذا عام ، والمشهور تخصيصه بتحريم القتال في الحرم بقوله : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } [ البقرة : 191 ] ، وقوله : { وَخُذُوهُمْ } أي وأسروهم ، إن شئتم قتلاً وإن شئتم أسراً ، وقوله { واحصروهم واقعدوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ } أي لا تكتفوا بمجرد وجدانكم لهم ، بل اقصدوهم بالحصار في معاقلهم وحصونهم ، والرصد في طرقهم ومسالكهم ، حتى تضيقوا عليهم الواسع وتضطروهم إلى القتل أو الإسلام ، ولهذا قال : { فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، ولهذا اعتمد الصديق رضي الله عنه في قتال مانعي الزكاة على هذه الآية الكريمة ، حيث حرمت قتالهم بشرط الدخول في الإسلام والقيام بأداء واجباته ، ونبه بأعلاها على أدناها ، فإن أشرف أركان الإسلام بعد الشهادتين الصلاة التي هي حق الله عزَّ وجلَّ ، وبعدها أداء الزكاة التي هي نفع متعد إلى الفقراء والمحاويج ، وهي أشرف الأفعال المتعلقة بالمخلوقين ، ولهذا كثيراً ما يقرن الله بين الصلاة والزكاة ، وقد جاء في « الصحيحين » : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة » الحديث ، وقال عبد الله بن مسعود : أمرتم بإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ومن لم يزك فلا صلاة له ، وقال ابن أسلم : أبى الله أن يقبل الصلاة إلا بالزكاة وقال يرحم الله أبا بكر ما كان أفقهه!
وروى الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فإذا شهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، واستقبلوا قبلتنا ، وأكلوا ذبيحتنا ، وصلوا صلاتنا فقد حرمت علينا دماؤهم وأموالهم إلا بحقها ، لهم ما للمسلمين وعليهم ما عليهم » قال أنس : توبتهم خلع الأوثان وعبادة ربهم وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، ثم قال في آية أخرى :(1/1009)
{ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة فَإِخْوَانُكُمْ } [ التوبة : 11 ] . وهذه الآية الكريمة هي آية السيف التي قال فيها الضحاك : إنها نسخت كل عهد بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين أحد من المشركين وكل عقد وكل مدة . وقال ابن عباس في هذه الآية : أمره الله تعالى أن يضع السيف فين عاهد إن لم يدخلوا في الإسلام ، ونقض ما كان سمى لهم من العهد والميثاق ، وأذهب الشرط الأول . ثم اختلف المفسرون في آية السيف هذه ، فقال الضحاك والسدي : هي منسوخة بقوله تعالى : { فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَآءً } [ محمد : 4 ] وقال قتادة بالعكس .(1/1010)
وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ (6)
يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه : { وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ المشركين } الذين أمرتك بقتالهم . وأحللت لك استباحة نفوسهم وأموالهم { استجارك } أي استأمنك فأجبه إلى طلبته حتى يسمع كلام الله ، أي القرآن تقرؤه عليه . وتذكر له شيئاً من أمر الدين تقيم به عليه حجة الله { ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ } أي وهو آمن مستمر الأمان حتى يرجع إلى بلاده وداره ومأمنه { ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ } أي إنما شرعنا أمان مثل هؤلاء ليعلموا دين الله وتنتشر دعوة الله في عباده ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطي الأمان لمن جاءه مسترشداً ، كما جاءه يوم الحديبية جماعة من الرسل من قريش ، فرأوا من إعظام المسلمين رسول الله صلى الله عليه وسلم ما بهرهم . وما لم يشاهدوه عند ملك ولا قيصر . فرجعوا إلى قومهم وأخبروهم بذلك ، وكان ذلك وأمثاله من أكبر أسباب هداية أكثرهم . ولهذا أيضاً لما « قدم رسول مسيلمة الكذاب على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : أتشهد أن مسيلمة رسول الله؟ قال : نعم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لولا أن الرسل لا تقتل لضربت عنقك « ، والغرض أن من قدم من دار الحرب إلى دار الإسلام في أداء رسالة أو تجارة أو طلب صلح أو نحو ذلك من الأسباب وطلب من الإمام أو نائبه أماناً ، أعطي أماناً ما دام متردداً في دار الإسلام وحتى يرجع إلى مأمنه ووطنه ، لكن قال العلماء : لا يجوز أن يمكن من الإقامة في دار الإسلام سنة ، ويجوز أن يمكن من إقامة أربعة أشهر . وفيما بين ذلك فيما زاد على أربعة اشهر ونقص عن سنة قولان عن الإمام الشافعي وغيره من العلماء رحمهم الله .(1/1011)
كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7)
يبين تعالى حكمته في البراءة من المشركين ونظرته إياهم أربعة أشهر ، ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا ، فقال تعالى : { كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ } أي إمان ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون به وبرسوله { إِلاَّ الذين عَاهَدْتُمْ عِندَ المسجد الحرام } يعني يوم الحديبية : { فَمَا استقاموا لَكُمْ فاستقيموا لَهُمْ } أي مهما تمسكوا بما عاقدتموهم عليه وعاهدتموهم من ترك الحرب بينكم وبينهم { فاستقيموا لَهُمْ إِنَّ الله يُحِبُّ المتقين } ، وقد فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك والمسلمون ، استمر العقد والهدنة مع أهل مكة من ذي القعدة في سنة ست إلى أن نقضت قريش العهد وما لأوا حلفاؤهم ، وهم ( بنو بكر ) على خزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقتلوهم معهم في الحرم أيضاً . فعند ذلك غزاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في رمضان سنة ثمان ففتح الله عليه البلد الحرام ومكنه من نواصيهم ولله الحمد والمنة ، فأطلق من أسلم منهم بعد القهر والغلبة عليهم فسموا الطلقاء ، وكانوا قريباً من ألفين ، ومن استمر على كفره وفر من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث إليه بالأمان والتسيير في الأرض أربعة أشهر يذهب حيث شاء ، ومنهم ( صفوان بن أمية ) و ( عكرمة بن أبي جهل ) وغيرهما ثم هداهما الله بعد ذلك إلى الإسلام التام ، والله المحمود على جميع ما يقدره ويفعله .(1/1012)
كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8)
يقول تعالى محرضاً للمؤمنين على معاداتهم والتبري منهم ، ومبيناً أنهم لا يستحقون أن يكون لهم عهد لشركهم بالله تعالى وكفرهم برسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولأنهم لو ظهروا على المسلمين وأديلوا عليهم لم يبقوا ولم يذروا ولا راقبوا فيهم إلا ولا ذمة ، قال ابن عباس : الإل القرابة ، والذمة والعهد ، وقال مجاهد : الإل الله أي لا يرقبون الله ولا غيره ، والقول الأول أظهر وأشهر وعليه الأكثر ، وعن مجاهد أيضاً : الإل العهد ، وقال قتادة : الإل الحلف .(1/1013)
اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (9) لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)
يقول تعالى ذماً للمشركين وحثاً للمؤمنين على قتالهم : { اشتروا بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } يعني أنهم اعتاضوا عن اتباع آيات الله بما التهوا به من أمور الدنيا الخسيسة { فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ } أي منعوا المؤمنين من اتباع الحق { إِنَّهُمْ سَآءَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً } تقدم تفسيرها وكذا الآية التي بعدها .(1/1014)
وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)
يقول تعالى : وإن نكث هؤلاء المشركون الذين عاهدتموهم أيمانهم أي عهودهم ومواثيقهم { وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ } أي عابوه وانتقصوه ، ومن هاهنا أخذ قتل من سب الرسول صلوات الله وسلامه عليه ، أو من طعن في دين الإسلام أو ذكره بنقص ، ولهذا قال : { فقاتلوا أَئِمَّةَ الكفر إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ } أي يرجعون عما هم فيه من الكفر والعناد والضلال ، قال قتادة : أئمة الكفر كأبي جهل وعتبة وشيبة وأمية بن خلف ، قال ابن مردوية : مرَّ ( سعد بن أبي وقاص ) برجل من الخوارج ، فقال الخارجي : هذا من أئمة الكفر ، فقال سعد : كذبت بل أنا قاتلت أئمة الكفر ، والآية عامة وإن كان سبب نزولها في مشركي قريش والله أعلم .(1/1015)
أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)
وهذا أيضاً تهييج وتحضيض وإغراء على قتال المشركين الناكثين بأيمانهم الذين هموا بإخراج الرسول من مكة ، كما قال تعالى : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ } [ الأنفال : 30 ] وقال تعالى : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبِّكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] الآية ، وقال تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا } [ الإسراء : 76 ] الآية ، وقوله : { وَهُم بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } قيل : المراد بذلك يوم بدر حين خرجوا لنصر غيرهم ، وقيل : المراد نقضهم العهد وقتالهم مع حلفائهم بني بكر لخزاعة أحلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى سار إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم عام الفتح وكان ما كان ، وقوله : { أَتَخْشَوْنَهُمْ فالله أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُمْ مُّؤُمِنِينَ } ، يقول تعالى : لا تخشوهم واخشون فأنا أهل أن يخشى العباد من سطوتي وعقوبتي ، ثم قال تعالى بياناً لحكمته فيما شرع لهم من الجهاد ، مع قدرته على إهلاك العدو { قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ الله بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } وهذا عام في المؤمنين كلهم ، وقال مجاهد وعكرمة : { وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ } يعني خزاعة ، { وَيَتُوبُ الله على مَن يَشَآءُ } أي من عباده { والله عَلِيمٌ } أي بما يصلح عباده ، { حَكِيمٌ } في أفعاله وأقواله الكونية والشرعية فيفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، وهو العادل الحاكم الذي لا يجور أبداً .(1/1016)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَا رَسُولِهِ وَلَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)
يقول تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ } أي ظننتم أن نترككم مهملين ، لا نختبركم بأمور يظهر فيها الصادق من الكاذب ، ولهذا قال : { وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ الله وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ المؤمنين وَلِيجَةً } أي بطانة ودخيلة ، بل هم في الظاهر والباطن على النصح لله ولرسوله ، فاكتفى بأحد القسمين عن الآخر ، كما قال الشاعر :
وما أدري إذا يممت أرضاً ... أريد الخير أيهما يليني
وقال تعالى : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } ؟ [ العنكبوت : 2 ] وقال تعالى : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ } [ آل عمران : 179 ] الآية ، والحاصل : أنه تعالى لما شرع لعباده الجهاد بيَّن أن له فيه حكمة وهو اختبار عبيده من يطيعه ممن يعصيه ، وهو تعالى العالم بما كان وما يكون ، فيعلم الشيء قبل كونه ومع كونه على ما هو عليه ، لا إله إلا هو ولا رب سواه .(1/1017)
مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَسَاجِدَ اللَّهِ شَاهِدِينَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ فَعَسَى أُولَئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)
يقول تعالى : ما ينبغي للمشركين بالله أن يعمروا مساجد الله التي بنيت على اسمه وحده لا شريك له ، وهم شاهدون على أنفسهم بالكفر أي بحالهم وقالهم : كما قال السدي : لو سألت النصراني ما دينك؟ لقال : نصراني ، ولو سألت اليهودي ما دينك؟ لقال : يهودي ، { أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي بشركهم { وَفِي النار هُمْ خَالِدُونَ } . ولهذا قال تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر } فشهد تعالى بالإيمان لعمار المساجد . كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا رأيتم الرجل يعتاد المسجد فاشهدوا له بالإيمان ، قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر } » وروى الحافظ أبو بكر البزار عن أنس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنما عمار المساجد هم أهل الله » ، وعن أنس مرفوعاً يقول الله : وعزتي وجلالي إني لأهم بأهل الأرض عذاباً ، فإذا نظرت إلى عمار بيوتي ، وإلى المتحابين فيّ ، وإلى المستغفرين بالإسحار ، صرفت ذلك عنهم . وقال عبد الرزاق عن عمرو بن ميمون الأولادي قال : أدركت أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وهم يقولون : إن المساجد بيوت الله في الأرض ، وإنه حق على الله أن يكرم من زاره فيها ، وقال المسعودي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : من سمع النداء بالصلاة ثم لم يجب ولم يأت المسجد ويصلي ، فلا صلاة له وقد عصى الله ورسوله ، قال الله تعالى : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر } ، وقوله : { وَأَقَامَ الصلاة } أي التي هي أكبر عبادات البدن { وآتى الزكاة } أي التي هي أفضل الأعمال المتعدية إلى بر الخلائق ، وقوله : { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } أي ولم يخف إلا من الله تعالى ولم يخش سواه { فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } ، قال ابن عباس : من وحّد الله وآمن باليوم الآخر { وَأَقَامَ الصلاة } يعني الصلوات الخمس { وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ الله } يقول لم يعبد إلا الله { فعسى أولئك أَن يَكُونُواْ مِنَ المهتدين } ، يقول تعالى إن أولئك هم المفلحون كقوله لنبيه صلى الله عليه وسلم : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } [ الإسراء : 79 ] ، وهي الشفاعة ، وكل « عسى » في القرآن فهي واجبة ، وقال محمد بن إسحاق : وعسى من الله حق .(1/1018)
أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)
قال ابن أبي طلحة عن ابن عباس في تفسير هذه الآية : نزلت في العباس بن عبد المطلب حين أسر ببدر قال : لئن كنتم سبقتمونا بالإسلام والهجرة والجهاد ، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاج ونفك العاني ، قال الله عزَّ وجلَّ : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد } إلى قوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } ، يعني أن ذلك كله كان في الشرك ولا أقبل ما كان في الشرك ، وقال الضحاك : أقبل المسلمون على العباس وأصحابه الذين أسروا يوم بدر يعيرونهم بالشرك ، فقال العباس : أما والله لقد كنا نعمر المسجد الحرام ، ونفك العاني ، ونحجب البيت ، ونسقي الحاج ، فأنزل الله : { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج } الآية . وعن النعمان بن بشير الأنصاري قال : « كنت عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم في نفر من أصحابه ، فقال رجل منهم : ما أبالي أن لا أعمل لله عملاً بعد الإسلام إلا أن أسقي الحاج ، وقال آخر : بل عمارة المسجد الحرام ، وقال آخر : بل الجهاد في سبيل الله خير مما قلتم ، فزجرهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقال : لا ترفعوا أصواتكم عند منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وذلك يوم الجمعة ، ولكن إذا صليت الجمعة دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستفتيته فيما اختلفتم فيه ، قال : ففعل ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ { أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الحاج وَعِمَارَةَ المسجد } إلى قوله : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } » .(1/1019)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا آبَاءَكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمَانِ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24)
أمر تعالى بمباينة الكفار ، وإن كانوا آباء أو أبناء ، ونهى عن موالاتهم إن استحبوا أي اختاروا الكفر على الإيمان ، وتوعد على ذلك ، كقوله تعالى : { لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ } [ المجادلة : 22 ] ، ثم أمر تعالى رسوله أن يتوعد من آثر أهله وقرابته وعشيرته على الله ورسوله وجهاد في سبيله فقال : { قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقترفتموها } أي اكتسبتموها وحصلتموها { وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَآ } أي تحبونها وحسنها أي إن كانت هذه الأشياء { أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ } أي فانتظروا ماذا يحل بكم من عقابه ونكاله بكم ولهذا قال : { حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } . وروى الإمام أحمد عن زهرة بن معبد عن جده قال : « كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب فقال : والله يا رسول الله لأنت أحب إليَّ من كل شيء إلا من نفسي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من نفسه « ، فقال عمر : فأنت الآن والله أحب إليّ من نفسي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » الآن يا عمر « وقد ثبت في » الصحيح « عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : » والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين « وعن ابن عمر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » إذا تبايعتم بالعينة وأخذتم بأذناب البقر ورضيتم بالزرع وتركتم الجهاد سلط الله عليكم ذلاً لا ينزعه حتى ترجعوا إلى دينكم « .(1/1020)
لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنْزَلَ جُنُودًا لَمْ تَرَوْهَا وَعَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)
يذكر تعالى للمؤمنين فضله عليهم وإحسانه لديهم في نصره إياهم في مواطن كثيرة من غزواتهم مع رسوله . وأن ذلك من عنده تعالى وبتأييده وتقديره لا بعددهم ولا بعددهم ، ونبههم على أن النصر من عنده سواء قل الجمع أو كثر ، فإن يوم حنين أعجبتهم كثرتهم . ومع هذا ما أجدى ذلك عنهم شيئاً ، فولوا مدبرين إلا القليل منهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم . ثم أنزل نصره وتأييده على رسوله وعلى المؤمنين الذين معه ، ليعلمهم أن النصر من عنده تعالى وحده ، وبإمداده ، وإن قل الجمع ، { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين } [ البقرة : 249 ] ، وقد كانت وقعة حنين بعد فتح مكة في شوال سنة ثمان من الهجرة ، وذلك « لما فرغ صلى الله عليه وسلم من فتح مكة وتمهدت أمورها . وأسلم عامة أهلها ، وأطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فبلغه أن ( هوازن ) جمعوا له ليقاتلوه ، وأن أميرهم ( مالك بن عوف النضري ) ومعه ثقيف بكمالها وناس من بني عمرو بن عامر وعون بن عامر ، وقد أقبلوا ومعهم النساء والولدان والشاء والنعم ، وجاءوا بقضهم وقضيضهم؛ فخرج إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في جيشه الذي جاء معه للفتح وهو عشرة آلاف من المهاجرين والأنصار وقبائل العرب ، ومعه الذين أسلموا من أهل مكة ، وهم الطلقاء في ألفين ، فسار بهم إلى العدو ، فالتقوا بواد بين مكة والطائف يقال له حنين ، فكانت فيه الوقعة في أول النهار في غلس الصبح . انحدروا في الوادي وقد كمنت فيه هوازن ، فلما تواجهوا لم يشعر المسلمون إلا بهم قد بادروهم ، ورشقوا بالنبال ، وأصلتوا السيوف ، وحملوا حملة رجل واحد ، كما أمرهم وملكهم ، فعند ذلك ولّى المسلمون مدبرين كا قال الله عزَّ وجلَّ ، وثبت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو راكب يومئذ بغلته الشهباء ، يسوقها إلى نحر العدو ، والعباس عمه آخذ بركابها الأيمن ، ويقول في تلك الحال : » أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب « ، وثبت معه من أصحابه قريب من مائة ، ثم أمر صلى الله عليه وسلم عمه العباس وكان جهير الصوت أن ينادي بأعلى صوته : يا أصحاب الشجرة ، يعني شجرة بيعة الرضوان التي بايعه المسلمون من المهاجرين والأنصار تحتها ، على أن لا يفروا عنه ، فجعل ينادي بهم : يا أصحاب السمرة ، ويقول تارة : يا أصحاب سورة البقرة ، فجعلوا يقولون : لبيك لبيك ، وانعطف الناس ، فتراجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى إن الرجل منهم إذا لم يطاوعه بعيره على الرجوع لبس درعه ، ثم انحدر عنه وأرسله ، ورجع بنفسه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما اجتمعت شرذمة منهم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم أمرهم عليه السلام ، أن يصدقوا الحملة ، وأخذ قبضة من تراب بعدما دعا ربه واستنصره ، وقال : » اللهم لي ما وعدتني ، ثم رمى القوم بها ، فما بقي إنسان منهم إلا أصابه منها في عينيه وفمه ما شغله عن القتال ، ثم انهزموا ، فاتبع المسلمون أقفاءهم يقتلون ويأسرون ، وما تراجع بقية الناس إلا والأسرى محندلة بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم « .(1/1021)
وقال الإمام أحمد عن ( يزيد بن أسيد ) قال : « كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة حنين ، فسرنا في يوم قائظ شديد الحر ، فنزلنا تحت ظلال الشجر ، فلما زالت الشمس لبست لأمتي ، وركبت فرسي ، فانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في فسطاطه ، فقلت : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، حان الرواح ، فقال : » أجل « فقال : » يا بلال « ، فثار من تحت سمرة كأن ظلها ظل طائر ، فقال : لبيك وسعديك وأنا فداؤك ، فقال : » أسرج لي فرسي « ، فأخرج سرجاً دفتاه من ليف ليس فيهما أشر ولا بطر ، قال فأسرج فركب وركبنا ، فصاففناهم عشيتنا وليلتنا ، فتشامت الخيلان ، فولى المسلمون مدبرين ، كما قال الله تعالى : { ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا عباد الله أنا عبد الله ورسوله « ، ثم قال : » يا معشر المهاجرين أنا عبد الله ورسوله « قال : ثم اقتحم عن فرسه ، فأخذ كفاً من تراب ، فأخبرني الذي كان أدنى إليه مني أنه ضرب به وجوههم ، وقال » شاهت الوجوه « فهزمهم الله تعالى ، قال يعلى بن عطاء : فحدثني أبناؤهم عن آبائهم أنهم قالوا : لم يبق منا أحد إلا امتلأت عيناه وفمه تراباً ، وسمعنا صلصلة بين السماء والأرض ، كإمرار الحديد على الطست الجديد . وفي » الصحيحين « عن البراء بن عازب رضي الله عنهما أن رجلاً قال له : يا أبا عمارة أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال : لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر ، إن هوازن كانوا قوماً رماة ، فلما لقيناهم وحملنا عليهم انهزموا ، فأقبل الناس على الغنائم ، فاستقبلونا بالسهام ، فانهزم الناس ، فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو سفيان بن الحارث أخذ بلجام بغلته البيضاء ، وهو يقول : » أنا النبي لا كذب ، أنا ابن عبد المطلب « قال تعالى : { ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ } أي طمأنينته وثباته على رسوله { وَعَلَى المؤمنين } أي الذين معه { وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا } وهم الملائكة ، كما قال الإمام أبو جعفر بن جرير عن عبد الرحمن مولى ابن برثن ، حدثني رجل كان معه المشركين يوم حنين قال : لما التقينا نحن وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، لم يقوموا لنا حلب شاة ، قال :(1/1022)
« لما كشفناهم جلعنا نسوقهم في آثارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء ، فإذا هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فتلقانا عنده رجال بيض حسان الوجوه ، فقالوا لنا : شاهت الوجوه ارجعوا ، قال : فانهزمنا وركبوا اكتافنا ، فكانت إياها » .
وقال ابن مسعود رضي الله عنه : « كنت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، فولى عنه الناس وبقيت معه في ثمانين رجلاً من المهاجرين والأنصار قدمنا ولم نولهم الدبر ، وهم الذين أنزل الله عليهم السكينة ، قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء يمضي قدماً ، فحادث بغلته ، فمال عن السرج ، فقلت ارتفع رفعك الله ، قال : » ناولني كفاً من التراب « فناولته قال : فضرب به وجوههم ، فامتلأت أعينهم تراباً قال : » أين المهاجرين والأنصار «؟ قلتك هم هناك ، قال : » اهتف بهم « فهتفت بهم؛ فجاءوا وسيوفهم بأيمانهم كأنها الشهب ، وولى المشركون أدبارهم . وعن شيبة بن عثمان قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين قد عري ، ذكرت أبي وعمي وقتل علي وحمزة إياهما ، فقلت اليوم أدرك ثأري منه قال : فذهبت لأجيئه عن يمينه ، فإذا أنا بالعباس بن عبد المطلب قائماً عليه درع بيضاء كأنها فضة يكشف عنها العجاج ، فقلت : عمه ولن يخذله ، قال : فجئته عن يساره ، فإذا أنا بأبي سفيان ، فقلت : ابن عمه ولن يخذله ، فجئته من خلفه ، فلم يبق إلا ان أسورة سورة بالسيف ، إذ رفع لي شواظ من نار بيني وبينه كأنه برق فخفت أن يخمشني ، فوضعت يدي على بصري ومشيت القهقرى ، فالتفت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : » يا شيبة يا شيبة ادن مني ، اللهم أذهب عنه الشيطان « قال : فرفعت إليه بصري ولهو أحب إليَّ من سمعي وبصري ، فقال : » يا شيبة قاتل الكفار « . قال محمد بن إسحاق عن جبير بن مطعم رضي الله عنه قال : إنا لمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين ، والناس يقتتلون ، إذ نظرت إلى مثل البجاد الأسود يهودي من السماء ، حتى وقع بيننا وبين القوم ، فإذا نمل منثور قد ملأ الوادي ، فلم يكن إلا هزيمة القوم ، فما كنا نشك أنها الملائكة ، وفي » صحيح مسلم « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » نصرت بالرعب وأوتيت جوامع الكلم « ، ولهذا قال تعالى : { ثُمَّ أَنَزلَ الله سَكِينَتَهُ على رَسُولِهِ وَعَلَى المؤمنين وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الذين كَفَرُواْ وذلك جَزَآءُ الكافرين } ، وقوله : { ثُمَّ يَتُوبُ الله مِن بَعْدِ ذلك على مَن يَشَآءُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } قد تاب الله على بقية هوازن فأسلموا وقدموا عليه مسلمين ولحفوه . وقد قارب مكة عند الجعرانة ، وذلك بعد الوقعة بقريب من عشرين يوماً ، فعند ذلك خيَّرهم بين سبيهم وبين أموالهم ، فاختاروا سبيهم ، وكانوا ستة آلاف أسير ما بين صبي وامرأة ، فردَّه عليهم ، وقسم الأموال بين الغانمين ، ونفل أناساً من الطلقاء ، لكي يتألف قلوبهم على الإسلام ، فأعطاهم مائة مائة من الإبل ، وكان من جملة من أعطى مائة ( مالك بن عوف النضري ) واستعمله على قومه كما كان ، فامتدحه بقصيدته التي يقول فيها :
ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ... في الناس كلهم بمثل محمد
فكأنه ليث على أشباله ... وسط المباءة خادر في مرصد(1/1023)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)
أمر تعالى عباده المؤمنين الطاهرين ديناً وذاتاً ، بنفي المشركين الذين هم نجس عن المسجد الحرام ، وأن لا يقربوه بعد نزول هذه الآية ، وكان نزولها في سنة تسع ، ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً صحبة أبي بكر وأمره أن ينادي في المشركين أن لا يحج بعد هذا العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان ، فأتم الله ذلك وحكم به شرعاً وقدراً ، وكتب عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أن امنعوا اليهود والنصارى من دخول مساجد المسلمين ، قال الله تعالى : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ } ، وقال عطاء : الحرم كله مسجد لقوله تعالى : { فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } ودلت هذه الآية الكريمة على نجاسة المشرك ، كما ورد في « الصحيح » : « المؤمن لا ينجس » وأما نجاسة بدنه فالجمهور على أنه ليس بنجس البدن والذات ، لأن الله تعالى أحل طعام أهل الكتاب . وذهب بعض الظاهرية إلى نجاسة أبدانهم ، وقال أشعث عن الحسن من صافحهم فليتوضأ . وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } ، قال محمد بن إسحاق : قال الناس : لتقطعن عنا الأسواق ، ولتهلكن التجارة ، وليذهبن عنا ما كنا نصيب فيها من المرافق ، فأنزل الله : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ } من وجه غير ذلك { إِن شَآءَ } ، إلى قوله : { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي هذا عوض ما تخوفتم من قطع تلك الأسواق ، فعوضهم الله مما قطع أمر الشرك ما أعطاهم من أعناق أهل الكتاب من الجزية ، { إِنَّ الله عَلِيمٌ } أي بما يصلحكم { حَكِيمٌ } أي فيما يأمر به وينهى عنه لأنه الكامل في أفعاله وأقواله ، العادل في خلقه وأمره تبارك وتعالى . ولهذا عوضهم عن تلك المكاسب بأموال الجزية التي يأخذونها من أهل الذمة ، وقوله تعالى : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ الله وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحق مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب حتى يُعْطُواْ الجزية عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ } فهم في نفس الأمر لما كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم لم يبق لهم إيمان صحيح بأحد من الرسل ولا بما جاوءا به ، وإنما يتبعون آراءهم وأهواءهم وآباءهم فيما هم فيه ، لا لأنه شرع الله دينه ، لأنهم لو كانوا مؤمنين بما بأيديهم إيماناً صحيحاً لقادهم ذلك إلى الإيمان بمحمد صلى الله عليه وسلم ، لأن جميع الأنبياء بشروا به وأمروا باتباعه ، فلما جاءوا كفروا به وهو أشرف الرسل علم أنهم ليسوا متمسكين بشرع الأنبياء الأقدمين لأنه من عند الله ، بل لحظوظهم وأهوائهم ، فلهذا لا ينفعهم إيمانهم ببقية الأنبياء ، وقد كفروا بسيدهم وأفضلهم وخاتمهم وأكملهم ، ولهذا قال : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } الآية .(1/1024)
وهذه الآية الكريمة نزلت أول الأمر بقتال أهل الكتاب بعدما تمهدت أمور المشركين ودخل الناس في دين الله أفواجاً واستقامت جزيرة العرب ، أمر الله ورسوله بقتال أهل الكتابين اليهود والنصارى ، وكان ذلك في سنة تسع؛ ولهذا « تجهز رسول الله صلى الله عليه وسلم لقتال الروم ودعا الناس إلى ذلك وأظهره لهم ، وبعث إلى أحياء العرب حول المدينة فندبهم ، واجتمع من المقاتلة نحو من ثلاثين ألفاً ، وتخلف بعض الناس من أهل المدينة ومن حولها من المنافقين وغيرهم ، وكان ذلك في عام جدب ، ووقت قيظ وحر ، وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الشام لقتال الروم فبلغ تبوك فنزل بها وأقام بها قريباً من عشرين يوماً ، ثم استخار الله في الرجوع فرجع عامة ذلك لضيق الحال ، وضعف الناس » ، كما سيأتي بيانه بعد إن شاء الله تعالى . وقوله : { حتى يُعْطُواْ الجزية } أي إن لم يسلموا { عَن يَدٍ } أي عن قهر لهم وغلبة { وَهُمْ صَاغِرُونَ } أي ذليلون حقيرون مهانون ، فلهذا لا يجوز إعزاز أهل الذمة ولا رفعهم على المسلمين بل هم أذلاء صغرة أشقياء ، كما جاء في « صحيح مسلم » : « لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتم أحدهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه » ولهذا اشترط عليهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه تلك الشروط المعروفة في إذلالهم وتصغيرهم وتحقيرهم ، وذلك مما رواه الأئمة الحفاظ من رواية ( عبد الرحمن بن غنم الأشعري ) قال : كتبت لعمر بن الخطاب رضي الله عنه حين صالح نصارى من أهل الشام : « بسم الله الرحمن الرحيم . هذا كتاب لعبد الله عمر أمير المؤمنين من نصارى مدينة كذا وكذا ، إنكم لما قدمتم علينا سألناكم الأمان لأنفسنا وذرارينا وأموالنا وأهل ملتنا ، وشرطنا لكم على أنفسنا أن لا نحدث في مدينتا ولا فيما حولها ديراً ولا كنيسة ولا قلاية ولا صومعة راهب ، ولا نجدد ما خرب منها ، ولا نحيي منها ما كان خططاً للمسلمين ، وأن لا نمنع كنائسنا أن ينزلها أحد من المسلمين في نطعمهم ، ولا نؤوي في كنائسنا ولا منازلنا جاسوساً ، ولا نكتم غشاً للمسلمين ، ولا نعلم أولادنا القرآن ، ولا نظهر شركاً ، ولا ندعو إليه أحداً ولا نمنع أحداً من ذوي قرابتنا الدخول في الإسلام إن أرادوه ، وأن نقوم لهم من مجالسنا إن أرادوا الجلوس ، ولا نتشبه بهم في شيء من ملابسهم في قلنسوة ، ولا عمامة ولا نعلين ولا فرق شعر ، ولا نتكلم بكلامهم ، ولا نكتني بكناهم ، ولا نركب السروج ، ولا نتقلد السيوف ، ولا نتخذ شيئاً من السلاح ، ولا نحمله معنا ، ولا ننقش خواتيمنا بالعربية ، ولا نبيع الخمور ، وأن نجز مقاديم رؤوسنا ، وأن نلزم زينا حيثما كنا ، وأن نشد الزنانير على أوساطنا ، وأن لا نظهر الصليب على كنائسنا ، وأن لا نظهر صلبنا ولا كتبنا في شيء من طريق المسلمين ولا أسواقهم ، ولا نضرب نواقيسنا في كنائسنا إلا ضرباً خفيفاً ، وأن لا نرفع أصواتنا بالقراءة في كنائسنا في شيء من حضرة المسلمين ، ولا نخرج شعانين ، ولا بعوثاً ، ولا نرفع أصواتنا مع موتانا ، ولا نظهر النيران معهم في شيء من طرق المسلمين ، ولا أسواقهم ، ولا نجاورهم بموتانا ، ولا نتخذ من الرقيق ما جرى عليه سهام المسلمين ، وأن نرشد المسلمين ولا نطلع عليهم في منازلهم ، قال : فلما أتيت عمر بالكتاب زاد فيه :(1/1025)
« ولا نضرب أحداً من المسلمين » شرطنا لكم ذلك على أنفسنا وأهل ملتنا ، وقبلنا عليه الأمان ، فإن نحن خالفنا في شيء مما شرطناه لكم ووظفنا على أنفسنا ، فلا ذمة لنا ، وقد حل لكم منا ما يحل من أهل المعاندة والشقاق « .(1/1026)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31)
وهذا إغراء من الله تعالى للمؤمنين على قتال الكفار من ( اليهود والنصارى ) لمقالتهم هذه المقالة الشنيعة والفرية على الله تعالى ، فأما اليهود فقالوا في العزيز إنه ابن الله ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، وأما ضلال النصارى في المسيح فظاهر ، ولهذا كذب الله سبحاه الطائفتين ، فقال : { ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ } أي لا مستند لهم فيما ادعوه سوى افترائهم واختلافهم ، { يُضَاهِئُونَ } أي يشابهون { قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ } أي من قبلهم من الأمم ضلوا كما ضل هؤلاء { قَاتَلَهُمُ الله } قال ابن عباس : لعنهم الله { أنى يُؤْفَكُونَ } ؟ أي كيف يضلون عن الحق وهو ظاهر ويعدلون إلى الباطل؟ وقوله : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ } ، روى الإمام أحمد والترمذي « عن عدي بن حاتم رضي الله عنه : أنه لما بلغته دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم فر إلى الشام ، وكان قد تنصر في الجاهلية ، فأسرت أخته وجماعة من قومه ، ثم مَنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على أخته وأعطاها ، فرجعت إلى أخيها فرغبته في الإسلام وفي القدوم على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد عدي إلى المدينة ، وكان رئيساً في قومه طيئ وأبو حاتم الطائي المشهور بالكرم ، فتحدث الناس بقدومه ، فدخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي عنق عدي صليب من فضة ، وهو يقرأ هذه الآية : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } قال فقلت : إنهم لم يعبدوهم فقال : » بلى إنهم حرموا عليهم الحلال وأحلوا لهم الحرام فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم « وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا عدي ما تقول؟ أيضرك أن يقال الله أكبر؟ فهل تعلم شيئاً أكبر من الله؟ أيضرك أن يقال : لا إله إلا الله ، فهل تعلم إلهاً غير الله «؟ ثم دعاه إلى الإسلام ، فأسلم وشهد شهادة الحق ، قال : فلقد رأيت وجهه استبشر ، ثم قال » إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون « وهكذا قال حذيفة بن اليمان وعبد الله بن عباس وغيرهما في تفسير : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } إنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا ، ولهذا قال تعالى : { وَمَآ أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِداً } أي الذي ما شرعه اتبع ، وما حكم به نفذ { لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ } أي تعالى وتقدس وتنزه عن الشركاء والنظراء والأعوان والأضداد والأولاد لا إله إلا هو ولا رب سواه .(1/1027)
يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)
يقول تعالى : يريد هؤلاء الكفار من المشركين وأهل الكتاب { أَن يُطْفِئُواْ نُورَ الله } : أي ما بعث به رسول الله صلى الله عليه وسلم من الهدى ودين الحق بمجرد جدالهم وافترائهم ، فمثلهم في ذلك كمثل من يريد أن يطفئ شعاع الشمس أو نور القمر بنفخه ، وهذا لا سبيل إليه فكذلك ما أرسل به رسول الله صلى الله عليه وسلم لا بد أن يتم ويظهر ، ولهذا قال تعالى مقابلاً لهم فيما راموه وأرادوه : { ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } والكافر هو الذي يستر الشيء ويغطيه ، ثم قال تعالى : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق } فالهدى هو ما جاء به من الإخبارات الصادقة والإيمان الصحيح والعلم النافع ( ودين الحق ) هو الأعمال الصحيحة النافعة في الدنيا والآخرة { لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدين كُلِّهِ } : أي على سائر الأديان ، كما ثبت في « الصحيح » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله زوي لي الأرض مشارقها ومغاربها وسيبلغ ملك أمتي ما زوي لي منها » وعن تميم الدارمي رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ليبلغن هذا الأمر ما بلغ الليل والنهار ، ولا يترك الله ببيت مدر ولا وبر إلا أدخله هذا الدين يعز عزيزاً ويذل ذليلاً ، عزاً يعز الله به الإسلام ، وذلاً يذل الله به الكفر » ، فكان تميم الدارمي يقول : قد عرفت ذلك في أهل بيتي لقد أصاب من أسلم منهم الخير والشرف والعز ، ولقد أصاب من كان كافراً منهم الذل والصغار والجزية وفي « المسند » أيضاً « عن عدي بن حاتم قال : دخلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » ما عدي أسلم تسلم « فقلت : إني من أهل دين ، قال : » أنا أعلم بدينك منك « ، فقلت أنت أعلم بديني مني؟ قال : » نعم ألست من الركوسية وأنت تأكل مر باع قومك؟ « قلت بلى! قال : فإن هذا لا يحل لك في دينك » قال : فلم يعد أن قالها فتواضعت لها ، قال : أما إني أعلم ما الذي يمنعك من الإسلام ، تقول إنما تبعه ضعفة الناس ومن لا قوة له ، وقد رمتهم العرب ، أتعرف الحيرة «؟ قلت : لم أرها وقد سمعت بها . قال : » فوالذي نفسي بيده ليتمن الله هذا الأمر حتى تخرج الظعينة من الحيرة حتى تطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولتفتحن كنوز كسرى بن هرمز « قلت كسرى بن هرمز؟ قال : نعم كسرى بن هرمز ، وليبذلن المال حتى لا يقبله أحد » قال عدي بن حاتم : فهذه الظعينة تخرج من الحيرة فتطوف بالبيت من غير جوار أحد ، ولقد كنت فيمن فتح كنوز كسرى بن هرمز ، والذي نفسي بيده لتكونن الثالثة ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قالها «(1/1028)
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى » فقلت : يا رسول الله إن كنت لأظن حين أنزل الله عزَّ وجلَّ : { هُوَ الذي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بالهدى وَدِينِ الحق } الآية ، أن ذلك تام ، قال : « إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عزَّ وجلَّ ، ثم يبعث الله ريحاً طيبة ، فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، فيبقى من لا خير فيرجعون إلى دين آبائهم » « .(1/1029)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)
قال السدي : الأحبار من اليهود ، والرهبان من النصارى ، وهو كما قال : فإن الأحبار هم علماء اليهود كما قال تعالى : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت } [ المائدة : 63 ] والرهبان : عباد النصارى ، والقسيسون : علماؤهم ، كما قال تعالى : { ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } [ المائدة : 82 ] والمقصود التحذير من علماء السوء وعباد الضلال ، قال سفيان بن عيينة : من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود ، ومن فسد من عبّادنا كان فيه شبه من النصارى ، وفي الحديث الصحيح : « لتركبن سنن من كان قبلكم حذو القذة بالقذة » قالو : اليهود والنصارى؟ قال : « فمن » ؟ ، وفي رواية فارس والروم؟ قال : « فمن الناس إلا هؤلاء » ؟ والحاصل التحذير من التشبه بهم في أقوالهم وأحوالهم ، ولهذا قال تعالى : { لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الناس بالباطل وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } ، وذلك أنهم يأكلون الدنيا بالدين ، ومناصبهم ورياستهم في الناس يأكلون أموالهم بذلك ، كما كان لأحبار اليهود على أهل الجاهلية خراج وهدايا وضرائب تجيء إليهم ، فلما بعث الله رسوله صلى الله عليه وسلم استمروا على ضلالهم وكفرهم وعنادهم طمعاً منهم أن تبقى لهم تلك الرياسات ، فأطفاها الله بنور النبوة وسلبهم إياها ، وعوضهم الذل والصغار ، وباؤوا بغضب من الله تعالى . وقوله تعالى : { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } أي وهم مع أكلهم الحرام ، يصدون الناس عن اتباع الحق ، ويلبسون الحق بالباطل ، ويظهرون لمن اتبعهم من الجهلة أنهم يدعون إلى الخير وليسوا كما يزعمون ، بل هم دعاة إلى النار ويوم القيامة لا ينصرون ، وقوله : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله } الآية ، هؤلاء هم القسم الثالث من رؤوس الناس ، فإن الناس عالة على العلماء وعلى العبّاد ، وعلى أرباب الأموال ، فإذا فسدت أحوال هؤلاء فسدت أحوال الناس كما قال ابن المبارك
وهل أفسد الدين إلا الملوك ... وأحبار سوء ورهبانها
وأما الكنز ، فقال ابن عمر : هو المال الذي لا تؤدي زكاته ، وعنه قال : ما أُودي زكاته فليس بكنز ، وإن كان تحت سبع أرضين ، وما كان ظاهرا لا تؤدي زكاته فهو كنز ، وقال عمر بن الخطاب : أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفوناً في الأرض ، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه وإن كان على وجه الأرض . وروى البخاري عن خالد بن أسلم قال خرجنا مع عبد الله بن عمر فقال : هذا قبل أن تنزل الزكاة ، فلما نزلت جعلها الله طهرة للأموال ، وكذا قال عمر بن عبد العزيز وعراك بن مالك نسخها قوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] الآية .
قال الإمام أحمد عن ثوبان قال : لما نزل في الذهب والفضة ما نزل قالوا : فأي المال نتخذ؟ قال عمر : فأنا أعلم لكم ذلك ، فأوضع على بعير فأدركه وأنا في أثره ، فقال :(1/1030)
« يا رسول الله أي المال نتخذ؟ قال : » قلباً شاكراً ولساناً ذاكراً وزوجة تعين أحدكم على أمر الآخرة « ( حديث آخر ) : روي ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس قال : » لما نزلت هذه الآية : { والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة } الآية ، كبر ذلك على المسلمين وقالوا : ما يستطيع أحد منا يدع لولده مالاً يبقى بعده ، فقال عمر : أنا أفرّج عنكم ، فانطلق عمر واتبعه فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا نبي الله إنه قد كبر على أصحابك هذه الآية ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم ، وإنما فرض المواريث من أموال تبقى بعدكم » ، قال فكبر عمر ، ثم قال له النبي صلى الله عليه وسلم : « ألا أخبرك بخير ما يكنز المرء؟ المرأة الصالحة التي إذا نظر إليها سرته ، وإذا أمرها أطاعته ، وإذا غاب عنها حفظته » « .
وقوله تعالى : { يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ } أي يقال لهم هذا الكلام تبكيتاً وتقريعاً وتهكماً ، كما في قوله تعالى : { ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم } [ الدخان : 49 ] أي هذا بذاك وهذا الذي كنتم تكنزون لأنفسكم ، ولهذا يقال من أحب شيئاً وقدمه على طاعة الله عُذّب به ، وهؤلاء لما كان جمع هذه الأموال آثر عندهم من رضا الله عنهم عذبوا بها ، وكانت أضر الأشياء عليهم في الدار الآخرة ، فيحمى عليها في نار جهنم ، وناهيك بحرها ، فتكون بها جباههم وجنوبهم وظهورهم ، قال عبد الله بن مسعود : والذي لا إله غيره لا يكون عبد يكنز فيمس دينار ديناراً ولا درهم درهماً ، ولكن يوسع جلده فيوضع كل دينار ودرهم على حدته؛ وقال طاووس : بلغني أن الكنز يتحول يوم القيامة شجاعاً يتبع صاحبه وهو يفر منه ويقول : أنا كنزك لا يدرك منه شيئاً إلا أخذه . وفي » صحيح مسلم « عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » ما من رجل لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له يوم القيامة صفائح من نار ، فيكون بها جنبه وجبهته وظهره ، في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ، حتى يقضى بين العباد ثم يرى سبيله ، إما إلى الجنة وإما إلى النار « .(1/1031)
إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)
عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال : « ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان » « خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال : » أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان ، وذو القعدة وذو الحجة والمحرم « وقال سعيد بن منصور عن ابن عباس في قوله : { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } قال : محرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة ، وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث : » إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض « تقرير منه صلوات الله وسلامه عليه ، وتثبيت للأمر على ما جعله الله في أول الأمر من غير تقديم ولا تأخير ولا زيادة ولا نقص ، ولا نسيء ولا تبديل ، كا قال في تحريم مكة : » إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض فهو حرام بحرمة الله تعالى إلى يوم القيامة « ، وهكذا قال هاهنا : » إن الزمان قد استدار كهيأته يوم خلق الله السماوات والأرض « أي الأمر اليوم شرعاً كما ابتدع الله ذلك في كتابه خلق السماوات والأرض ، وقد قال بعض المفسرين والمتكلمين على هذا الحديث إن المراد بقوله : » قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض « أنه اتفق أن حج رسول الله صلى الله عليه وسلم في تلك السنة في ذي الحجة ، وأن العرب قد كانت نسأت النسيء يحجون في كثير من السنين بل أكثرها في غير ذي الحجة ، وزعموا أن حجة الصدّيق في سنة ستع كانت في ذي القعدة ، وفي هذا نظر ، كما سنبينه إذا تكلمنا على النسيء .
وقوله تعالى : { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ } فهذا مما كانت العرب أيضاً في الجاهلية تحرمه ، وهو الذي كان عليه جمهورهم وأما قوله صلى الله عليه وسلم : » ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان « فإنما أضافه إلى مضر ليبين صحة قولهم في رجب أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان ، لا كما تظنه ربيعة من أن رجب المحرم هو الشهر الذي بين شعبان وشوال وهو رمضان اليوم ، فبين صلى الله عليه وسلم أنه رجب مضر لا رجب ربيعة ، وإنما كانت الأشهر المحرمة أربعة : ثلاثة سرد ، وواحد فرد ، لأجل أداء مناسك الحج والعمرة ، فحرم قبل أشهر الحج شهراً وهو ذو القعدة ، لأنهم يقعدون فيه عن القتال ، وحرم شهر ذي الحجة لأنهم يوقعون فيه الحج ويشتغلون فيه بأداء المناسك ، وحرم بعده شهر آخر وهو المحرم ليرجعوا فيه إلى أقصى بلادهم آمنين ، وحرم رجب في وسط الحول لأجل زيارة البيت والاعتمار به لمن يقدم إليه من أقصى جزيرة العرب فيزوره ثم يعود إلى وطنه فيه آمناً ، وقوله : { ذلك الدين القيم } أي هذا هو الشرع المستقيم من امتثال أمر الله فيما جعل من الأشهر الحرم والحذر بها على ما سبق في كتاب الله الأول ، قال تعالى : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي في هذه الأشهر المحرمة لأنها آكد وأبلغ في الإثم من غيرها ، كما أن المعاصي في البلد الحرام تضاعف ، لقوله تعالى :(1/1032)
{ وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] ، وكذلك الشهر الحرام تغلظ فيه الآثام؛ ولهذا تغلظ فيه الدية في مذهب الشافعي وطائفة كثيرة من العلماء ، وقال ابن عباس في قوله : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } قال في الشهور كلها ، ثم اختص من ذلك أربعة أشهر ، فجعلهن حراماً وعظم حرماتهن ، وجعل الذنب فيهن أعظم والعمل الصالح والأجر أعظم ، وقال قتادة : إن الظلم في الأشهر الحُرُم أعظم خطيئة ووزراً من الظلم فيما سواها ، وإن كان الظلم على كل حال عظيماً ، ولكن الله يعظم من أمره ما يشاء ، وقال : إن الله اصطفى صفايا من خلقه ، اصطفى من الملائكة رسلاً ومن الناس رسلاً واصطفى من الكلام ذكره ، واصطفى من الأرض المساجد ، واصطفى من الشهور رمضان والأشهر الحرم ، واصطفى من الأيام يوم الجمعة ، واصطفى من الليالي ليلة القدر فعظموا ما عظم الله ، فإنما تعظيم الأمور بما عظمها الله به عند أهل الفهم وأهل العقل ، وقال محمد بن إسحاق : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } أي لا تجعلوا حرامها حلالاً ولا حلالها حراماً كما فعل أهل الشرك ، وهذا القول اختيار ابن جرير ، وقوله : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً } أي جميعكم { كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةًْ } أي جميعاً { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } .
وقد اختلف العلماء في تحريم ابتداء القتال في الشهر الحرام هل هو منسوخ أو محكم على قولين : ( أحدهما ) وهو الأشهر أنه منسوخ لأنه تعالى قال : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } وأمر بقتال المشركين ، وظاهر السياق مشعر بأنه أمر بذلك أمراً عاماً ، ولو كان محرماً في الشهر الحرام لأوشك أن يقيده بانسلاخها ، ولأن رسول الله صلى الله عليه وسلم حاصر أهل الطائف في شهر حرام وهو ذو القعدة ، كما ثبت في « الصحيحين » أنه خرج إلى هوازن في شوال فلما كسرهم واستفاء أموالهم ، ورجع فلهم لجأوا إلى الطائف فعمد إلى الطائف ، فحاصرهم أربعين يوماً وانصرف ولم يفتتحها ، فثبت أنه حاصر في الشهر الحرام ( القول الآخر ) : أن ابتداء القتال في الشهر الحرام حرام وأنه لم ينسخ تحريم الشهر الحرام ، لقوله تعالى :(1/1033)
{ يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله وَلاَ الشهر الحرام } [ المائدة : 2 ] ، وقال : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ } [ البقرة : 194 ] ، وقال : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] الآية ، وأما في قوله : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } فيحتمل أنه منقطع عما قبله وأنه حكم مستأنف ويكون من باب التهييج والتحضيض ، أي كما يجتمعون لحربكم إذا حاربوكم فاجتمعوا أنتم أيضاً لهم إذا حاربتموهم وقاتلوهم بنظير ما يفعلون ، ويحتمل أنه أذن للمؤمنين بقتال المشركين في الشهر الحرام إذا كانت البداءة منهم ، كما قال تعالى : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ } [ البقرة : 194 ] ، وقال تعالى : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم } [ البقرة : 191 ] الآية ، وهكذا الجواب عن حصار رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل الطائف واستصحابه الحصار إلى أن دخل الشهر الحرام ، فإنه من تتمة قتال هوازن وأحلافها من ثقيف فإنهم هم الذين ابتدأوا القتال وجمعوا الرجال ودعوا إلى الحرب والنزال ، فعندها قصدهم رسول الله صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، فلما تحصنوا بالطائف ذهب إليهم لينزلهم من حصونهم فنالوا من المسلمين وقتلوا جماعة ، واستمر الحصار بالمجانيق ، وغيرها قريباً من أربعين يوماً وكان ابتداؤه في شهر حلال ، ودخل الشهر الحرام فاستمر فيه أياماً ثم قفل عنهم لأنه يغتفر في الدوام ما لا يغتفر في الابتداء ، وهذا أمر مقرر وله نظائر كثيرة والله أعلم .(1/1034)
إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37)
هذا مما ذم الله تعالى به المشركين من تصرفهم في شرع الله بآرائهم الفاسدة ، وتحليلهم ما حرم الله وتحريمهم ما أحل الله ، فإنهم كان فيه من القوة والعصبية ، ما استطالوا به مدة الأشهر الثلاثة في التحريم ، المانع لهم من قتال أعدائهم ، فكانوا قد احدثوا قبل الإسلام بمدة تحليل المحرم فأخروه إلى صفر ، فيحلون الشهر الحرام ، ويحرمون الشهر الحلال ، ليواطئوا عدة ما حرم الله . قال ابن عباس : النسيء أن جنادة الكناني كان يوافي الموسم في كل عام ، وكان يكنى أبا ثمامة ، فينادي : ألا إن ثمامة لا يجاب ولا يعاب ، ألا وإن صفر العام الأول العام حلال فيحله للناس ، فيحرم صفراً عاماً ويحرم المحرم عاماً ، فذلك قول الله : { إِنَّمَا النسياء زِيَادَةٌ فِي الكفر } يقول : ويتركون عاماً وعاماً - يحرمونه وعن مجاهد : كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام إلى الموسم على حمار له فيقول أيها الناس : إني لا أعاب ولا أجاب ولا مرد لما أقول ، إنا قد حرمنا المحرم وأخرنا صفر؛ ثم يجيء العام المقبل بعده ، فيقول مثل مقالته ، ويقول : إنا قد حرمنا صفر وأخرنا المحرم ، فهو قوله : { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله } قال : يعني الأربعة فيحلوا ما حرم الله بتأخير هذا الشهر الحرام ، فإنهم لما كانوا يحلون شهر الحرام عاماً يحرمون عوضه صفراً وبعده ربيع وربيع إلى آخر السنة بحالها على نظامها وعدتها وأسماء شهورها ، ثم في السنة الثانية يحرمون عاماً { لِّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله } : أي في تحريم أربعة أشهر من السنة ، إلا أنهم تارة يقدمون تحريم الشهر الثالث من الثلاثة المتوالية وهو المحرم ، وتارة ينسئونه إلى صفر أي يؤخرونه ، وقد قدمنا الكلام على قوله صلى الله عليه وسلم : « إن الزمان قد استدار » الحديث : أي إن الأمر في عدة الشهورن وتحريم ما هو محرم منها ، على ما سبق في كتاب الله من العدد والتوالي ، لا كما تعتمده جهلة العرب من فصلهم تحريم بعضها بالنسيء عن بعض والله أعلم . وقال محمد بن إسحاق : كان أول من نسأ الشهور على العرب فأحل منها ما حرم الله وحرم منها ما أحل الله عزّ وجلّ ( القلمس ) ، ثم قام بعده على ذلك ابنه عباد ، ثم من بعد عباد ابنه قلع بن عباد ، ثم ابنه أمية بن فلع ، ثم ابنه عوف بن أمية ، ثم ابنه أبو ثمامة جنادة بن عوف ، وكان آخرهم ، وعليه قام الإسلام ، فكانت العرب إذا فرغت من حجها اجتمعت إليه ، فقام فيهم خطيباً ، فحرم رجباً وذا القعدة وذا الحجة ، ويحل المرحم عاماً ، ويجعل مكانه صفر ، ويحرمه عاماً ليواطئ عدة ما حرم الله فيحل ما حرم الله ويحرم ما أحل الله ، والله أعلم .(1/1035)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38) إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39)
هذا شروع في عتاب من تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك حين طابت الثمار والظلال في شدة الحر وحمارة القيظ ، فقال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله } أي إذا دعيتم إلى الجهاد في سبيل الله { اثاقلتم إِلَى الأرض } أي : تكاسلتم وملتم إلى المقام في الدعة والخفض وطيب الثمار { أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة } ؟ أي ما لكم فعلتم هكذا رضاً منكم بالدنيا بدلاً من الآخرة؛ ثم زهَّد تبارك وتعالى في الدنيا ، ورغب في الآخرة فقال : { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ } ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بما ترجع » ، وأشار بالسبابة . وقال الأعمش { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ } قال : كزاد الراكب ، وقال عبد العزيز بن أبي حازم عن أبيه : لما حضرت عبد العزيز بن مروان الوفاة ، قال : ائتوني بكفني الذي أكفن فيه أنظر إليه ، فلما وضع بين يديه نظر إليه فقال : أما لي من كبير ما أخلف من الدنيا إلا هذا؟ ثم ولى ظهره فبكى ، وهو يقول : أف لك من دار إن كان كثيرك لقليل ، وإن كان قليلك لقصير ، وإن كنا منك لفي غرور . ثم توعد تعالى من ترك الجهاد فقال : { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } قال ابن عباس : استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حياً من العرب فتثاقلوا عنه فأمسك الله عنهم القطر فكان عذابهم { وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ } : أي لنصرة نبيه وإقامة دنيه كما قال تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] { وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً } : أي ولا تضروا الله شيئاً بتوليكم عن الجهاد ، ونكولكم وتثاقلكم عنه { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي قادر على الانصار من الأعداء بدونكم .(1/1036)
إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)
يقول تعالى { إِلاَّ تَنصُرُوهُ } أي تنصروا رسوله فإن الله ناصره ومؤيده وكافية وحافظه كما تولى نصره : { إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين } أي عام الهجرة ، « لما همّ المشركون بقتله ، فخرج منهم هارباً صحبة صديقه وصاحبه أبي بكر ، فلجآ إلى ( غار ثور ) ثلاثة أيام ليرجع الطلب الذين خرجوا في آثارهم ثم يسيروا نحو المدينة ، فجعل أبو بكر رضي الله يجزع أن يطلع عليهم أحد ، فيخلص إلى الرسول عليه الصلاة والسلام منهم أذى ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يسكنه ويثبته ويقول : » يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما « كما قال الإمام أحمد عن أنس أن أبا بكر حدثه قال : قلت للنبي صلى الله عليه وسلم ونحن في الغار : لو أن أحدهم نظر إلى قدميه لأبصرنا تحت قدميه قال ، فقال : » يا أبا بكر ما ظنك باثنين الله ثالثهما « ، ولهذا قال تعالى : { فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ } أي تأييده ونصره عليه ، أي على الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقيل : على أبي بكر ، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم تزل معه سكينة ، { وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا } : أي الملائكة { وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِيَ العليا } قال ابن عباس : يعني بكلمة الذين كفروا - الشرك ، وكلمة الله هي { لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ } [ الصافات : 35 ] . وفي » الصحيحين « : » من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله « ، وقوله : { والله عَزِيزٌ } أي في انتقامه وانتصاره ، منيع الجناب لا يضام من لاذ ببابه ، واحتمى بالتمسك بخطابه ، { حَكِيمٌ } في أقواله وأفعاله .(1/1037)
انْفِرُوا خِفَافًا وَثِقَالًا وَجَاهِدُوا بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41)
أمر الله تعالى بالنفير العام مع رسول الله صلى الله عليه وسلم عام غزوة تبوك لقتال أعداء الله من الروم والكفرة من أهل الكتاب ، وحتم على المؤمنين في الخروج معه على كل حال في المنشط والمكره والعسر واليسر ، فقال : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } وقال أبو طلحة : كهولاً وشباناً ما سمع الله عذر أحد ، ثم خرج إلى الشام ، فقاتل حتى قتل . وفي رواية : قرأ أبو طلحة سورة براءة فأتى على هذه الآية : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله } فقال : أرى ربنا استنفرنا شيوخاً وشباناً ، جهزوني يا بنيَّ ، فقال بنوه : يرحمك الله قد غزوت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مات ، ومع أبي بكر حتى مات ، ومع عمر حتى مات ، فنحن نغزو عنك ، فأبى ، فركب البحر ، فمات ، فلم يجدوا له جزيرة يدفنوه فيها إلا بعد تسعة أيام ، فلم يتغير فدفنوه فيها . وقال مجاهد : شباناً وشيوخاً وأغنياء ومساكين ، وقال الحكم : مشاغيل وغير مشاغيل ، وقال العوفي عن ابن عباس { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } يقول : انفروا نشاطاً وغير نشاط؛ وقال الحسن البصري : في العسر واليسر . وهذا كله من مقتضيات العموم في الآية ، وهذا اختيار ابن جرير . وقال الإمام الأوزاعي : إذا كان النفير إلى دروب الروم نفر الناس إليها خفافاً وركباناً ، وإذا كان النفير إلى هذه السواحل نفروا إليها خفافاً وثقالاً وركباناً ومشاة؛ وهذا تفصيل في المسألة؛ وقال السدي قوله { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } يقول : غنياً وفقيراً وقوياً وضعيفاً فجاءه رجل يومئذ زعموا أنه المقداد وكان عظيماً سميناً ، فشكا إليه ، وسأله أن يأذن له فأبى ، فنزلت يومئذ : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } فلما نزلت هذه الآية اشتد على الناس ، فنسخها الله فقال : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء وَلاَ على المرضى وَلاَ عَلَى الذين لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ للَّهِ وَرَسُولِهِ } [ التوبة : 91 ] .
وقال ابن جرير عن أبي راشد الحراني قال : وافيت ( المقداد بن الأسود ) فارس رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً على تابوت من توابيت الصيارفة وقد فصل عنها من عظمه يريد الغزو ، فقلت له : قد أعذر الله إليك ، فقال : أتت علينا سورة البعوث : { انفروا خِفَافاً وَثِقَالاً } ، وقال ابن جرير عن حبان بن زيد الشرعبي قال : نفرنا مع ( صفوان بن عمرو ) وكان والياً على حمص ، فرأيت شيخاً كبيراً قد سقط حاجباه على عينيه من أهل دمشق على راحلته فيمن أغار فأقبلت إليه فقلت : يا عم لقد أعذر الله إليك ، قال : فرفع حاجبيه ، فقال : يا ابن أخي استنفرنا الله خفافاً وثقالاً ، إلا إنه من يحبه الله يبتليه ثم يعيده الله فيبقيه ، وإنما يبتلي الله من عباده من شكر وصبر وذكر ، ولم يعبد إلا الله عزَّ وجلَّ ، ثم رغب تعالى في النفقة في سبيله وبذل المهج في مرضاته ومرضاة رسوله ، فقال : { وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ الله ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي هذا خير لكم في الدنيا والآخرة ، لأنكم تغرمون في النفقة قليلاً ، فيغنمكم الله أموال عدوكم في الدنيا مع ما يدخر لكم من الكرامة في الآخرة ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم :(1/1038)
« تكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة ، أو يرده إلى منزلة بما نال من أجر أو غنيمة » ، ولهذا قال الله تعالى : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القتال وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } الآية ، ومن هذا القبيل ما رواه الإمام أحمد عن أنس « عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : » أسلم « قال أجدني كارهاً ، قال : » أسلم وإن كنت كارهاً « .(1/1039)
عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)
قال عون : هل سمعتم بمعاتبة أحسن من هذا؟ ناداه العفو قبل المعاتبة ، فقال : { عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ } ، وقال قتادة : عاتبه كما تسمعون ، ثم أنزل التي في سورة النور ، فرخص له في أن يأذن لهم إن شاء ، فقال : { فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لِّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ } [ النور : 62 ] الآية . وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في أناس قالوا : استأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فإن أذن لكم فاقعدوا ، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا ، ولهذا قال تعالى : { حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ } أي في إبداء الأعذار { وَتَعْلَمَ الكاذبين } يقول تعالى : تعالى : لا تركتهم لما استأذنوك فلم تأذن لأحد منهم في القعود ، لتعلم الصادق منهم في إظهار طاعتك من الكاذب ، فإنهم قد كانوا مصرين على القعود عن الغزو وإن لم تأذن لهم فيه ، ولهذا أخبر تعالى أنه لا يستأذنه في القعود عن الغزو أحد يؤمن بالله ورسوله فقال { لاَ يَسْتَأْذِنُكَ } أي في القعود عن الغزو { الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ } لأنهم يرون الجهاد قربة ولما ندبهم إليهم بادروا وامتثلوا { والله عَلِيمٌ بالمتقين * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ } أي في القعود ممن لا عذر له { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } أي لا يرجون ثواب الله في الدار الآخرة على أعمالهم ، { وارتابت قُلُوبُهُمْ } أي شكت في صحة ما جئتهم به ، { فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ } أي يتحيرون يقدمون رجلاً ويؤخرون أخرى وليست لهم قدم ثابتة في شيء ، فهم قوم حيارى هلكى ، لا إلى هؤلاء ، ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلا .(1/1040)
وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47)
يقول تعالى : { وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج } أي معك إلى الغزو { لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً } أي لكانوا تأهبوا له { ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم } أي أبغض أن يخرجوا معك قدراً { فَثَبَّطَهُمْ } أي أخرهم ، { وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين } أي قدراً ، ثم بين تعالى وجه كراهيته لخروجهم مع المؤمنين ، فقال : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } أي لأنهم جبناء مخذولون { ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الفتنة } أي ولأسرعوا السير والمشي بينكم بالنميمة والبغضاء والفتنة ، { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } أي مطيعون لهم ومستحسنون لحديثهم ، وكلامهم يستنصحونهم وإن كانوا لا يعلمون حالهم ، فيؤدي إلى وقوع شر بين المؤمنين وفساد كبير . وقال مجاهد { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } : أي عيون يسمعون لهم الأخبار وينقلونها إليهم ، وهذا لا يبقى له اختصاص بخروجهم معهم ، بل هذا عام في جميع الأحوال ، والمعنى الأول أظهر في المناسبة بالسياق ، وإليه ذهب قتادة وغيره من المفسرين ، وقال محمد بن إسحاق : كان الذين استأذنوا فيما بلغني من ذوي الشرف منهم ( عبد الله بن أبي بن سلول ) و ( الجد بن قيس ) وكانوا أشرافاً في قومهم فثبطهم الله لعلمه بهم أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده ، وكان في جنده قوم أهل محبة لهم وطاعة فيما يدعونهم إليه لشرفهم فيهم ، فقال : { وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ } ، ثم أخبر تعالى عن تمام علمه فقال : { والله عَلِيمٌ بالظالمين } ، فأخبر بأنه يعلم ما كان وما يكون ، ولهذا قال تعالى : { لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً } فأخبر عن حالهم كيف يكون لو خرجوا ومع هذا ما خرجوا ، كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخرجوا مِن دِيَارِكُمْ مَّا فَعَلُوهُ إِلاَّ قَلِيلٌ مِّنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } [ النساء : 66 ] .(1/1041)
لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جَاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48)
يقول تعالى محرضاً لنبيه عليه السلام على المنافقين : { لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور } أي لقد أعملوا فكرهم وأجالوا آراءهم في كيدك وكيد أصحابك وخذلان دينك وإخماده مدة طويلة ، وذلك أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة رمته العرب عن قوس واحدة ، وحاربته يهود المدينة ومنافقوها ، فلما نصره الله يوم بدر وأعلى كلمته ، قال عبد الله بن أبي وأصحابه : هذا أمر قد توجه ، فدخلوا في الإسلام ظاهراً ، ثم كلما أعز الله الإسلام وأهله غاظهم ذلك وساءهم ، ولهذا قال تعالى : { حتى جَآءَ الحق وَظَهَرَ أَمْرُ الله وَهُمْ كَارِهُونَ } .(1/1042)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)
يقول تعالى : ومن المنافقين من يقول لك يا محمد { ائذن لِّي } في القعود ، { وَلاَ تَفْتِنِّي } بالخروج معك بسبب الجواري من نساء الروم ، قال تعالى : { أَلا فِي الفتنة سَقَطُواْ } أي قد سقطوا في الفتنة بقولهم هذا ، كما « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم وهو في جهازه ( للجد بن قيس ) : » هل لك يا جد العام في جلاد بني الأصفر «؟ فقال : يا رسول الله أو تأذن لي ولا تفتني ، فوالله لقد عرف قومي ما رجل أشد عجباً بالنساء مني ، وإني أخشى إن رأيت نساء بني الأصفر أن لا أصبر عنهن ، فأعرض عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : » قد أذنت لك « ، ففي الجد ابن قيس نزلت هذه : { وَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ ائذن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي } الآية : أي إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر ، وليس ذلك به ، فما سقط فيه من الفتنة لتخلفه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم ، { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بالكافرين } أي لا محيد لهم عنها ولا محيص ولا مهرب .(1/1043)
إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)
يعلم تبارك وتعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم بعداوة هؤلاء له لأنه مهما أصابه من حسنة ، أي فتح ونصر وظفر على الأعداء مما يسره ويسر أصحابه ساهم ذلك ، { وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ } أي قد احترزنا من متابعته من قبل هذا ، { وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ } فأرشد الله تعالى رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم في عداوتهم هذه التامة ، فقال { قُل } أي لهم ، { لَّن يُصِيبَنَآ إِلاَّ مَا كَتَبَ الله لَنَا } أي نحن تحت مشيئته وقدره ، { هُوَ مَوْلاَنَا } أي سيدنا ملجؤنا ، { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أي ونحن متوكلون عليه وهو حسبنا ونعم الوكيل .(1/1044)
قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْمًا فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلَا يَأْتُونَ الصَّلَاةَ إِلَّا وَهُمْ كُسَالَى وَلَا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَهُمْ كَارِهُونَ (54)
يقول الله تعالى : { قُلْ } أي تنتظرون بنا { هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَآ } أي ننتظر بكم هذا بسبي أو بقتل ، { إِلاَّ إِحْدَى الحسنيين } ، وقوله تعالى : { وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ } أي مهما أنفقتم من نفقة طائعين أو مكرهين { أَن يُصِيبَكُمُ الله بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا } أي ننتظر بكم هذا بسبي أو بقتل { فتربصوا إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبِّصُونَ } ، وقوله تعالى : { قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً } أي مهما أنفقتم من نفقة طائعين أو مكرهين { لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ } ثم أخبر تعالى عن سبب ذلك وهو أنهم لا يتقبل منهم { إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بالله وَبِرَسُولِهِ } أي والأعمال إنما تصح بالإيمان ، { وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى } أي ليس لهم قدم صحيح ولا همة في العمل ، { وَلاَ يُنفِقُونَ } نفقة { إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ } ، وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم : « ان الله لا يمل حتى تملوا » و « أن الله طيب لا يقبل إلا طيباً » ، فلهذا لا يقبل الله من هؤلاء نفقة ولا عملاً ، لأنه إنما يتقبل من المتقين .(1/1045)
فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ } ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا } [ طه : 116 ] ، وقوله : { إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا } قال الحسن البصري : بزكاتها والنفقة منها في سبيل الله ، وقال قتادة : هذا من المقدم والمؤخر تقديره : فلا تعجبك أموالهم ولا أولادهم في الحياة الدنيا إنما يريد الله ليعذبهم بها في الآخرة ، واختار ابن جرير قول الحسن ، وهو القول القوي الحسن ، وقوله : { وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } أي ويريدون أن يميتهم - حين يميتهم - على الكفر ليكون ذلك أنكى لهم وأشد لعذابهم؛ عياذاً بالله من ذلك ، وهذا يكون من باب الاستدراج لهم فيما هم فيه .(1/1046)
وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)
يخبر تعالى نبيه محمداً عن جزعهم وفزعهم وفرقهم وهلعهم أنهم { وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ } يميناً مؤكدة { وَمَا هُم مِّنكُمْ } أي في نفس الأمر ، { ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ } أي فهو الذي حملهم على الحلف ، { لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً } أي حصناً يتحصنون به وحرزاً يتحرزون به ، { أَوْ مَغَارَاتٍ } وهي التي في الجبال { أَوْ مُدَّخَلاً } وهو السرب في الأرض والنفق ، { لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } أي يسرعون في ذهابهم عنكم ، لأنهم إنما يخالطونكم كرهاًَ ولا محبة ، ولهذا لا يزالون في هم وحزن وغم ، لأن الإسلام وأهله لا يزال في عز ونصر ورفعة .(1/1047)
وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا مَا آتَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ رَاغِبُونَ (59)
يقول تعالى : { وَمِنْهُمْ } أي ومن المنافقين { مَّن يَلْمِزُكَ } أي يعيب عليك { فِي } قسم { الصدقات } إذا فرقتها ، ويتهمك في ذلك ، وهم المتهمون المأبونون ، وهم مع هذا لا ينكرون للدين ، وإنما ينكرون لحظ أنفسهم ، ولهذا { فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ } أي يغضبون لأنفسهم ، قال قتادة : ومنهم من يطعن عليك في الصدقات ، وذكر لنا أن « رجلاً من أهل البادية أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقسم ذهباً وفضة ، فقال : يا محمد! والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : » ويلك فمن ذا الذي يعدل عليك بعدي «؟ » وهذا الذي ذكره قتادة يشبه ما رواه الشيخان عن أبي سعيد في قصة ( ذي الخويصرة ) « لما اعترض على النبي صلى الله عليه وسلم حين قسم غنائم حنين ، فقال له : اعدل ، فإنك لم تعدل ، فقال : » لقد خبت وخسرت إن لم أكن أعدل «؛ ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد رآه مقفياً : » إنه يخرج من ضِئْضِيء هذا قم يحفر أحدكم صلاته مع صلاتهم وصيامه مع صيامهم يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم ، فإنهم شر قتلى تحت أديم السماء « ، وذكر بقية الحديث . ثم قال تعالى منبهاً لهم على ما هو خير لهم من ذلك { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّآ إِلَى الله رَاغِبُونَ } فتضمنت هذه الآية الكريمة أدباً عظيماً وسراً شريفاً ، حيث جعل الرضا بما آتاه الله ورسوله ، والتوكل على الله وحده ، في قوله { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله } ، وكذلك الرغبة إلى الله وحده ، في التوفيق لطاعة الرسول صلى الله عليه وسلم وامتثال أوامره وترك زواجره ، وتصديق أخباره والاقتفاء بآثاره .(1/1048)
إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)
لما ذكر تعالى اعتراض المنافقين الجهلة على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولمزهم إياه في قسم الصدقات ، بيَّن تعالى أنه هو الذي قسمها وبين حكمها وتولى أمرها بنفسه ، ولم يكل قسمها إلى أحد غيره ، فجزأها لهؤلاء المذكورين ، وقد اختلف العلماء في هذه الأصناف الثمانية ، هل يجب استيعاب الدفع لها أو إلى ما أمكن منها؟ على قولين : ( أحدهما ) أنه يجب ذلك ، وهو قول الشافعي وجماعة ، ( والثاني ) أنه لا يجب استيعابها بل يجوز الدفع إلى واحد منها ، وهو قول مالك وجماعة من السلف والخلف . وقال ابن جرير : وهو قول عامة أهل العلم؛ وإنما قدم الفقراء ههنا على البقية لأنهم أحوج من غيرهم على المشهور ، ولشدة فاقتهم وحاجتهم ، وعند أبي حنيفة : أن المسكين أسوأ حالاً من الفقير ، وهو كما قال أحمد ، قال عمر رضي الله عنه : الفقير ليس بالذي لا مال له ، ولكن الفقير الأخلق الكسب؛ قال ابن عليه : الأخلق المحارف عندنا والجمهور على خلافه ، وروي عن ابن عباس ومجاهد والحسن البصري وابن زيد . واختار ابن جرير وغير واحد أن الفقير هو المتعفف الذي لا يسأل الناس شيئاً ، والمسكين هو الذي يسأل ويطوف ويتبع الناس ، وقال قتادة : الفقير من به زمانه ، والمسكين الصحيح الجسم .
ولنذكر أحاديث تتعلق بكل من الأصناف الثمانية . فأما الفقراء فعن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مِرةٍ سويّ » و « عن عبيد الله بن عدي بن الخيار أن رجلين أخبراه أنهما أتيا النبي صلى الله عليه وسلم يسألانه من الصدقة فقلّب فيهما البصر ، فرآهما جلدين ، فقال : » إن شئتما أعطيتكما ولا حظّ فيها لغني ولا لقوي مكتسب « وأما المساكين فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » ليس المسكين بهذا الطوّاف الذي يطوف على الناس فترده اللقمة واللقمتان ، والتمرة والتمرتان « قالوا : فما المسكين يا رسول الله؟ قال : » الذي لا يجد غني يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ولا يسأل الناس شيئاً « وأما العاملون عليها فهم الجباة والسعاة يستحقون منها قسطاً على ذلك ، ولا يجوز أن يكونوا من أقرباء رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين تحرم عليهم الصدقة لما ثبت عن عبد المطلب بن الحارث أنه انطلق هو والفضل بن العباس يسألان رسول الله صلى الله عليه وسلم ليستعملها على الصدقة ، فقال : » إن الصدقة لا تحل لمحمد ولا لآل محمد إنما هي أوساخ الناس « وأما المؤلفة قلوبهم فأقسام : منهم من يعطي ليسلم ، كما أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ( صفوان ابن أمية ) من غنائم حنين ، وقد كان شهدهاً مشركاً ، كما قال الإمام أحمد عن صفوان بن أمية قال : أعطاني رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين وإنه لأبغض الناس إليَّ ، فما زال يعطيني حتى إنه لأحب الناس إلي .(1/1049)
ومنهم من يعطي ليحسن إسلامه ويثبت قلبه ، كما أعطى يوم حنين أيضاً جماعة من صناديد الطلقاء وأشرافهم مائة من الإبل ، مائة من الإبل ، وقال : « إني لأعطي الرجل وغيره أحب إليَّ منه خشية أن يكبه الله على وجهه في نار جهنم » وفي « الصحيحين » عن أبي سعيد : « أن علياً بعث إلى النبي صلى الله عليه وسلم بذهبيه في تربتها من اليمن فقسمها بين أربعة نفر : الأقرع بن حابس ، وعيينة بن بدر ، وعلقمة بن علاثة ، وزيد الخير ، وقال : » أتألفهم « ، ومنهم من يعطى لما يرجى من إسلام نظرائه . ومنهم من يعطى ليجبي الصدقات ممن يليه ، أو ليدفع عن حوزة المسلمين الضرر من أطراف البلاد .
وهل تعطي المؤلفة على الإسلام بعد النبي صلى الله عليه وسلم ؟ فيه خلاف ، فروي عن عمر وعامر والشعبي وجماعة أنهم لا يعطون بعده ، لأن الله قد أعز الإسلام وأهله ومكن لهم في البلاد وأذل لهم رقاب العباد ، وقال آخرون : بل يعطون لأنه عليه الصلاة والسلام قد أعطاهم بعد فتح مكة وكسر هوازن ، وهذا أمر قد يحتاج إليه فيصرف إليهم . وأما الرقاب فروي عن الحسن البصري ومقاتل وسعيد بن جبير أنهم المكاتبون : هو قول الشافعي والليث رضي الله عنهما ، وقال ابن عباس والحسن لا بأس أن تعتق الرقبة من الزكاة ، وهو مذهب أحمد ومالك أي أن الرقاب أعم من أن يعطى المكاتب أو يشتري ربة فيعتقها استقالاً؛ وفي الحديث : » ثلاثة حق على الله عونهم : الغازي في سبيل الله ، والمكاتب الذي يريد الأداء ، والناكح الذي يريد العفاف « وفي » المسند « عن البراء بن عازب قال : » جاء رجل فقال : يا رسول الله دلني على عمل يقربني من الجنة ويباعدني من النار ، فقال : « أعتق النسمة وفك الرقبة » ، فقال : يا رسول الله أو ليسا واحداً؟ قال : « لا ، عتق النسمة أن تفرد بعتقها ، وفك الرقبة أن تعين في ثمنها » . وأما الغارمون فهم أقسام : فمنهم من تحمل حمالة أو ضمن ديناً فلزمه فأجحف بماله أو غرم في أداء دينه أو في معصية ثم تاب فهؤلاء يدفع إليهم ، لما روي عن أبي سعيد قال : « أصيب رجل في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في ثمار ابتاعها فكثر دينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » اتصدّقوا عليه « ، فتصدق الناس عليه فلم يبلغ ذلك وفاء دينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لغرمائه : » خذوا ما وجدتم وليس لكم إلا ذلك «(1/1050)
وأما { وَفِي سَبِيلِ الله } فمنهم الغزاة الذين لا حق لهم في الديوان . وعند الحسن : والحج من سبيل الله وكذلك { وابن السبيل } وهو المسافر المجتاز في بلد ليس معه شيء يستعين به على سفره ، فيعطى من الصدقات ما يكفيه إلى بلده وإن كان له مال ، لحديث أبي سعيد الخدري قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تحل الصدقة لغني إلا في سبيل الله ، وابن السبيل ، أو جار فقير فيهدي لك أو يدعوك » وقوله : { فَرِيضَةً مِّنَ الله } أي حكماً مقدرا بتقدير الله وفرضه وقسمه { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } : أي وعليم بظواهر الأمور وبواطنها وبمصالح عباده ، { حَكِيمٌ } فيما يقوله ويفعله ويشرعه ويحكم به لا إله إلا هو ولا رب سواه .(1/1051)
وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)
يقول تعالى : ومن المنافقين قوم يؤذون رسول الله صلى الله عليه وسلم بالكلام فيه ويقولون { هُوَ أُذُنٌ } أي من قال له شيئاً صدقة فينا ، ومن حدّثه صدقه ، فإذا جئناه وحلفنا له صدقنا ، قال الله تعالى : { قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ } أي هو أذن خير يعرف الصادق من الكاذب ، { يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } أي ويصدق المؤمنين ، { وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ } أي وهو حجة على الكافرين ، ولهذا قال : { والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .(1/1052)
يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحَادِدِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63)
قال قتادة : ذكر لنا « أن رجلاً من المنافقين قال : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ، وإن كان ما يقول محمد حقاً ، لهم شر من الحمير ، قال : فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله إن ما يقول محمد لحق ، ولأنت أشر من الحمار ، قال : فسعى بها الرجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأخبره فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال : » ما حملك على الذي قلت «؟ فجعل يلتعن ويحلف بالله ما قال ذلك ، وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدّق الصادق وكذب الكاذب » ، فأنزل الله الآية ، وقوله تعالى : { أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ } أي ألم يتحققوا ويعلموا أنه من حادّ الله عزَّ وجلَّ أي شاقه وحاربه وخالفه { فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا } أي مهاناً معذباً ، و { ذلك الخزي العظيم } أي وهذا هو الذل العظيم والشقاء الكبير .(1/1053)
يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ (64)
قال مجاهد : يقولون القول بينهم ، ثم يقولون عسى الله أن لا يفشي علينا سرنا هذا ، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { وَإِذَا جَآءُوكَ حَيَّوْكَ بِمَا لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ الله وَيَقُولُونَ في أَنفُسِهِمْ لَوْلاَ يُعَذِّبُنَا الله بِمَا نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَهَا فَبِئْسَ المصير } [ المجادلة : 8 ] ، وقال في هذه الآية : { قُلِ استهزءوا إِنَّ الله مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } أي إن الله سينزل على رسوله ما يفضحكم به ويبين له أمركم ، كقوله تعالى : { أَمْ حَسِبَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ الله أَضْغَانَهُمْ } [ محمد : 29 ] ولهذا قال قتادة : كانت تسمى هذه السورة الفاضحة فضحت المنافقين .(1/1054)
وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (66)
« قال رجل من المنافقين : ما أرى قراءنا هؤلاء إلا أرغبنا بطوناً ، وأكذبنا ألسنة ، وأجبننا عند اللقاء ، فرفع ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد ارتحل وركب ناقته ، فقال : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ، فقال : { أبالله وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِءُونَ } إلى قوله : { كَانُواْ مُجْرِمِينَ } وإن رجليه لتسفعان الحجارة وما يلتفت إليه رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو متعلق بسيف رسول الله صلى الله عليه وسلم » وقال ابن إسحاق : « كان جماعة من المنافقين منهم ( وديعة بن ثابت ) ورجل من أشجع يقال له ( مخشى بن حمير ) يسيرون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو منطلق إلى تبوك ، فقال بعضهم لبعض : أتحسبون جلاد بني الأصفر كقتال العرب بعضهم بعضاً ، والله لكأنا بكم غداً مقرنين في الحبال ، إرجافاً وترهيباً للمؤمنين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمار بن ياسر : » أدرك القوم فإنهم قد احترقوا فاسألهم عما قالوا ، فإن أنكروا فقل بلى قلتم كذا وكذا « فانطلق إليهم عمار فقال لهم ذلك ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ، فقال وديعة بن ثابت يا رسول الله : إنما كنا نخوض ونلعب ، فقال مخشى بن حمير : يا رسول الله قعد بي اسمي واسم أبي » ، فكان الذي عُفي عنه في هذه الآية ( مخشى بن حمير ) فتسمى عبد الرحمن ، وسأل الله أن يقتل شهيداً لا يعلم بمكانه ، فقتل يوم اليمامة . وقال قتادة : « بينما النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك وركبٌ من المنافقين يسيرون بين يديه فقالوا : يظن هذا أن يفتح قصور الروم وحصونها؟ هيهات هيهات ، فأطلع الله نبيه صلى الله عليه وسلم على ما قالوا ، فقال : » عليَّ بهؤلاء النفر « فدعاهم فقال : » قلتم كذا وكذا « ، فحلفوا ما كنا إلا نخوض ونلعب » وقوله : { لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } أي بهذا المقال الذي استهزأتم به ، { إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنْكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً } أي لا يعفى عن جميعكم ولا بد من عذاب بعضكم { بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ } أي مجرمين بهذه المقالة الفاجرة الخاطئة .(1/1055)
الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (68)
يقول تعالى منكراً على المنافقين الذين هم على خلاف صفات المؤمنين ، ولما كان المؤمنون يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر كان هؤلاء { يَأْمُرُونَ بالمنكر وَيَنْهَوْنَ عَنِ المعروف وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ } أي عن الإنفاق في سبيل الله ، { نَسُواْ الله } أي نسوا ذكر الله { فَنَسِيَهُمْ } أي عاملهم معاملة من نسيهم ، كقوله تعالى : { اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } [ الجاثية : 34 ] ، { إِنَّ المنافقين هُمُ الْفَاسِقُونَ } أي الخارجون عن طريق الحق الداخلون في طريق الضلالة ، وقوله : { وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ والمنافقات والكفار نَارَ جَهَنَّمَ } أي على هذا الصنيع الذي ذكر عنهم ، { خَالِدِينَ فِيهَا } أي ماكثين فيها مخلدين هم والكفار { هِيَ حَسْبُهُمْ } أي كفايتهم في العذاب ، { وَلَعَنَهُمُ الله } أي طردهم وأبعدهم { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } .(1/1056)
كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالًا وَأَوْلَادًا فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلَاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلَاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلَاقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُوا أُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69)
يقول تعالى : أصاب هؤلاء من عذاب الله تعالى في الدنيا والآخرة كما أصاب من قبلهم ، { بِخَلاقِهِمْ } قال الحسن : بدينهم ، { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } أي في الكذب والباطل ، { أولئك حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي بطلت مساعيهم فلا ثواب لهم عليها لأنها فاسدة ، { فِي الدنيا والآخرة وَأُوْلَئِكَ هُمُ الخاسرون } لأنهم لم يحصل لهم عليها ثواب . وعن ابن عباس قال : ما أشبه الليلة بالبارحة ، { كالذين مِن قَبْلِكُمْ } هؤلاء بنو إسرائيل شبهنا بهم ، والذي نفسي بيده لتتبعنهم حتى لو دخل الرجل منهم حجر ضب لدخلتموه . وفي الحديث : « والذي نفسي بيده لتتبعنّ سنن الذين من قبلكم شبراً بشبر ، وذراعاً بذراع ، وباعا بباع ، حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه » ، قالوا : ومن هم يا رسول الله؟ أهل الكتاب؟ قال : « فمن »؟ قال أبو هريرة : الخلاق الدين ، { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } قالوا : يا رسول الله كما صنعت فارس والروم؟ قال : « فهل الناس إلا هم؟ »(1/1057)
أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وَأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)
يقول تعالى واعظاً لهؤلاء المنافقين المكذبين للرسل { أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الذين مِن قَبْلِهِمْ } ، أي ألم تخبروا خبر من كان قبلكم من الأمم المكذبة للرسل ، { قَوْمِ نُوحٍ } وما أصابهم من الغرق العام لجميع أهل الأرض إلا من آمن بعبده ورسوله نوح عليه السلام ، { وَعَادٍ } كيف أهلكوا بالريح العقيم لما كذبوا هوداً عليه السلام ، { وَثَمُودَ } كيف أخذتهم الصيحة لما كذبوا صالحاً عليه السلام وعقروا الناقة ، { وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ } كيف نصره الله عليهم وأيده بالمعجزات الظاهرة عليهم وأهكل ملكهم نمروذ لعنه الله ، { وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ } وهم قوم شعيب عليه السلام وكيف أصابتهم الرجفة وعذاب يوم الظلة ، { والمؤتفكات } قوم لوط وقد كانوا يسكنون في مدائن ، وقال : { والمؤتفكة أهوى } [ النجم : 53 ] ، والغرض أن الله تعالى أهلكهم عن آخرهم بتكذيبهم نبي الله لوطاً عليه السلام ، وإتيانهم الفاحشة التي لم يسبقها بها أحد من العالمين ، { أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات } أي بالحجج والدلائل القاطعات { فَمَا كَانَ الله لِيَظْلِمَهُمْ } أي بإهلاكه إياهم لأنه أقام عليهم الحجة بإرسال الرسل وإزاحة العلل ، { ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم الحق ، فصاروا إلى ما صاروا إليه من العذاب والدمار .(1/1058)
وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71)
لما ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة عطف بذكر صفات المؤمنين المحمودة ، فقال : { والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } أي يتناصرون ويتعاضدون ، كما جاء في « الصحيح » : « » المؤمن للمؤمن كالبنيان يشد بعضه بعضاً « وشبك بين أصابعه » وفي « الصحيح » أيضاً : « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم كمثل الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر » وقوله : { يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } ، كقوله تعالى : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر } [ آل عمران : 104 ] الآية ، وقوله : { وَيُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة } أي يطيعون الله ويحسنون إلى خلقه ، { وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ } أي فيما أمر وترك ما عنه زجر ، { أولئك سَيَرْحَمُهُمُ الله } أي سيرحم الله من اتصف بهذه الصفات ، { إِنَّ الله عَزِيزٌ } أي يعز من أطاعه ، فإن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين ، { حَكِيمٌ } في قسمته هذه الصفات لهؤلاء ، وتخصيصه المنافقين بصفاتهم المتقدمة فإنه له الحكمة في جميع ما يفعله تبارك وتعالى .(1/1059)
وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)
يخبر تعالى بما أعده للمؤمنين به والمؤمنات من الخيرات والنعيم والقيم في { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا } أي ماكثين فيها أبداً ، { وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً } أي حنسة البناء طيبة القرار ، كما جاء في « الصحيحين » : « جنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن » ، وقال صلى الله عليه وسلم : « إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض ، فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس ، فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة ، وفوقه عرش الرحمن » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أهل الجنة لتراؤون الغرف في الجنة كما ترون الكواكب في السماء » أخرجاه في الصحيحين « . وفي » مسند الإمام أحمد « عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قلنا يا رسول الله حدثنا عن الجنة ما بناؤها؟ قال : » لبنة ذهب ولبنة فضة ، وملاطها المسك ، وحصباؤها اللؤلؤ والياقوت ، وترابها الزعفران ، ومن يدخلها ينعم لا يبأس ، ويخلد لا يموت ، لا تبلى ثيابه ، ولا يفنى شبابه « ، وعند الترمذي عن علي رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن الجنة لغرفاً يرى ظاهرها من باطنها وباطنها من ظاهرها « فقام أعرابي فقال : يا رسول الله لمن هي؟ فقال : » لمن طيَّب الكلام ، وأطعم الطعام ، وأدام الصيام ، وصلى بالليل والناس نيام « ، وعن أسامة بن زيد قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ألا هل من مشتمر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا حظر لها ، هي ورب الكعبة نور يتلألأ ، وريحانة تهتز ، وقصر مشيد ، ونهر مطرد ، وثمرة نضجة ، وزوجة حسناء جميلة ، وحلل كثيرة ، ومقام في أبد في دار سليمة ، وفاكهة وخضبرة ، وحبرة ونعمة ، في محلة عالية بهية « ، قالوا : نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها ، قال : » قولوا إن شاء الله « ، فقال القوم : إن شاء الله ، وقوله تعالى : { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } أي رضا الله عنهم أكبر وأجمل وأعظم ، ممّا هم فيه من النعيم ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن الله عزَّ وجلَّ يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك والخير في يديك ، فيقول : هل رضيتم؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى يا رب وقد أعطيتنا ما لم تعط أحداً من خلقك؟ فيقول ألا أعطيكم أفضل من ذلك؟ فيقولون : يا رب وأي شيء أفضل من ذلك؟ فيقول : أحل عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبداً « .(1/1060)
يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (74)
أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بجهاد الكفار والمنافقين والغلظة عليهم ، كما أمره بن يخفض جناحه لمن اتبعه من المؤمنين وأخبره أن مصير الكفار والمنافقين إلى النار في الدار الآخرة ، وقد تقدم عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أنه قال : ( بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربعة أسياف : سيف للمشركين { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين } [ التوبة : 5 ] وسيف للكفار أهل الكتاب { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } [ التوبة : 29 ] ، وسيف للمنافقين { جَاهِدِ الكفار والمنافقين } ، وسيف للبغاة { فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله } [ الحجرات : 9 ] ، وهذا يقتضي أنهم يجاهدون بالسيوف إذا أظهروا النفاق ) . قال ابن مسعود { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } قال : بيده فإن لم يستطع فليكفهر في وجهه ، وقال ابن عباس : أمره الله تعالى بجهاد الكفار بالسيف ، والمنافقين باللسان ، وأذهب الرفق عنهم ، وقال الضحاك : جاهد الكفار بالسيف ، واغلظ على المنافقين بالكلام وهو مجاهدتهم ، وقال الحسن وقتادة ومجاهد : مجاهدتهم إقامة الحدود عليهم؛ ولا منافاة بين هذه الأقوال ، لأنه تارة يؤاخذهم بهذا وتارة بهذا بحسب الأحوال والله أعلم . وقوله : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الكفر وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ } قال قتادة : نزلة في ( عبد الله بن أبي ) وذلك أنه اقتتل رجلان ، جهني وأنصاري ، فعلا الجهني على الأنصاري ، فقال عبد الله للأنصار ألا تنصرون أحاكم؟ والله ما مثلنا ومثل محمد إلا كما قال القائل : سمِّن كلبك يأكلك ، وقال : { لَئِن رَّجَعْنَآ إِلَى المدينة لَيُخْرِجَنَّ الأعز مِنْهَا الأذل } [ المنافقون : 8 ] ، فسعى بها رجل من المسلمين إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليه فسأله ، فجعل يحلف بالله ما قاله ، فأنزل الله في هذه الآية .
وقال الإمام أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً في ظل شجرة ، فقال : » إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم - بعيني الشيطان - فإذا جاء فلا تكلموه « فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : » علام تشتمني أنت وأصحابك «؟ فانطلق الرجل ، فجاءه بأصحابه ، فحلفوا بالله ما قالوا حتى تجاوز عنهم ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { يَحْلِفُونَ بالله مَا قَالُواْ } الآية » ، وقوله : { وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ } قيل أنزلت في الجلاس بن سويد ، وذلك أنه همّ بقتل ابن امرأته حين قال لأخبرن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقيل : في ( عبد الله بن أبيّ ) همَّ بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ورد أن نفراً من المنافقين هموا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في غزوة تبوك في بعض تلك الليالي في حال السير ، وكانوا بضعة عشر رجلاً ، قال الضحاك : ففيهم نزلت هذه الآية ، روى الحافظ البيهقي في كتاب « دلائل النبوة »(1/1061)
« عن حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال : كنت آخذاً بخطام ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقود به ، وعمار يسوق الناقة ، حتى إذا كنا بالعقبة ، فإذا أنا باثني عشر راكباً قد اعترضوه فيها ، قال : فانتهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وصرخ بهم ، فولوا مدبرين ، فقال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هل عرفتم القوم «؟ قلنا : يا رسول الله قد كانوا متلثمين ، ولكنا قد عرفنا الركاب ، قال : » هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة وهل تدرون ما أرادوا «؟ قلنا : لا ، قال : » أرادوا أن يزاحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في العقبة فيلقوه منها « ، قلنا يا رسول الله أفلا نبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم؟ قال : » لا ، أكره أن تتحدث العرب بينها أن محمداً قاتل ، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم « وقوله تعالى : { وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } أي وما للرسول عندهم ذنب إلا أن الله أغناهم ببركته ويمن سعادته ، ولو تمت عليهم السعادة لهداهم الله » لما جاء به كما قال صلى الله عليه وسلم للأنصار : « ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي؟ وكنتم متفرقين فألفكم الله بي؟ وعالة فأغناكم الله بي »؟ كلما قال شيئاً ، قالوا : الله ورسوله أمّن « وهذه الصيغة تقال حيث لا ذنب ، كقوله : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله } [ البروج : 8 ] الآية ، ثم دعاهم الله تبارك وتعالى إلى التوبة فقال : { فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ الله عَذَاباً أَلِيماً فِي الدنيا والآخرة } أي وإن يستمروا على طريقهم يعذبهم الله عذاباً أليماً في الدنيا : أي بالقتل والهم والغم ، والآخرة : أي بالعذاب والنكال والهوان والصغار { وَمَا لَهُمْ فِي الأرض مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } أي وليس لهم أحد يسعدهم ولا ينجدهم ، لا يحصِّلُ لهم خيراً ، ولا يدفع عنهم شراً .(1/1062)
وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (78)
يقول تعالى : ومن المنافقين من أعطى الله وميثاقه لئن أغناه من فضله ليصدقن من ماله وليكونن من الصالحين ، فما وفى بما قال ، ولا صدق فيما ادعى ، فأعقبهم هذه الصنيع نفاقاً سكن في قلوبهم إلى يوم يلقون الله عزَّ وجلَّ يوم القيامة عياذاً بالله من ذلك ، وقد ذكر كثير من المفسرين أن سبب نزول هذه الآية الكريمة في ( ثعلبة بن حاطب ) الأنصاري ، وقد ورد فيه حديث رواه ابن جرير عن أبي أمامة الباهلي « عن ثعلبة بن حاطب الأنصاري أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ادع الله أن يرزقني مالاً ، قال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ويحك يا ثعلبة قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه « قال ، ثم قال مرة أخرى ، فقال : » أما ترضى أن تكون مثل نبي الله؟ فوالذي نفسي بيده لو شئت أن تسير الجبال معي ذهباً وفضة لسارت « قال : والذي بعثك بالحق لئن دعوت الله فرزقني مالاً لأعطينَّ كل ذي حق حقه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » اللهم ارزق ثعلبة مالاً « قال : فاتخذ غنماً ، فنمت كما ينمي الدود ، فضاقت عليه المدينة ، فتنحى عنها ، فنزل وادياً من أوديتها ، حتى جعل يصلي الظهر والعصر في جماعة ويترك ما سواهما ، ثم نمت وكثرت ، فتنحى حتى ترك الصلوات إلا الجمعة ، وهي تنمى كما ينمى الدود ، حتى ترك الجمعة ، فطفق يتلقى الركبان يوم الجمعة ليسألهم عن الأخبار ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما فعل ثعلبة «؟ فقالوا يا رسول الله اتخذ غنماً فضاقت عليه المدينة فأخبروه بأمره ، فقال : » يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة يا ويح ثعلبة « ، وأنزل الله عزَّ وجلَّ ثناؤه : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } [ التوبة : 103 ] الآية ، ونزلت فرائض الصدقة ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلين على الصدقة من المسلمين ، وكتب لهما كيف يأخذن الصدقة من المسلمين ، وقال لهما : » مرّا بثعلبة وبفلان - رجل من بني سليم - فخذا صدقاتهما « ، فخرجا حتى أتيا ثعلبة ، فسألاه الصدقة ، وأقرآه كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : ما هذه إلا جزية ، ما هذه إلا أخت الجزية ، ما أدري ما هذا! انطلقا حتى تفرغا ثم عودا إليَّ ، فانطلقا ، وسمع بهما السلمي ، فنظر إلى خيار أسنان إبلة ، فعزلها للصدقة ، ثم استقبلهما بها ، فلما رأوها ، قالوا : ما يجب عليك هذا ، وما نريد أن نأخذ هذا منك ، فقال : بلى فخذوها فإن نفسي بذلك طيبة ، فأخذاها منه ، ومرا على الناس ، فأخذا الصدقات ، ثم رجعا إلى ثعلبة فقال : أروني كتابكما ، فقرأه فقال : ما هذه إلا جزية ما هذه إلا أخت الجزية! انطلقا حتى أرى رأيي ، فانطلقا حتى أتيا النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما رآهما قال : » يا ويح ثعلبة « ، قبل أن يكلمهما ، ودعا للسلمي بالبركة ، فأخبراه بالذي صنع ثعلبة والذي صنع السلمي ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { وَمِنْهُمْ مَّنْ عَاهَدَ الله لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ } الآية . فهلك ثعلبة في خلافة عثمان »(1/1063)
وقوله تعالى : { بِمَآ أَخْلَفُواْ الله مَا وَعَدُوهُ } الآية : أي أعقبهم النفاق في قلوبهم بسبب إخلافهم الوعد وكذبهم ، وقوله : { أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ الله يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ } الآية ، يخبر تعالى أنه يعلم السر وأخفى وأنه أعلم بضمائرهم ، وإن أظهروا أنه إن حصل لهم أموال تصدقوا منها وشكروا عليها ، فإن الله أعلم بهم من أنفسهم ، لأنه تعالى علام الغيوب ، أي يعلم كل غيب وشهادة ، وكل سر ونجوى ، ويعلم ما ظهر وما بطن .(1/1064)
الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79)
وهذا أيضاً من صفات المنافقين لا يسلم أحد من عيبهم ولمزهم في جميع الأحوال ، إن جاء أحد منهم بمال جزيل قالوا؛ هذا مراء ، وإن جاء بشيء يسير قالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا ، كما روى البخاري عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : لما نزلت آية الصدقة كنا نحامل على ظهورنا ، فجاء رجل فتصدق بشيء كثير ، فقالوا : مراء ، وجاء رجل فتصدق بصاع فقالوا : إن الله لغني عن صدقة هذا ، فنزلت : { الذين يَلْمِزُونَ المطوعين } الآية . وقال ابن عباس : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام ، فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء ، وقالوا : إن الله ورسوله لغنيان عن هذا الصاع . وقال ابن إسحاق : كان من المطوعين من المؤمنين في الصدقات ( عبد الرحما ابن عوف ) تصدق بأربعة آلاف درهم ، و ( عاصم بن عدي ) أخو بني العجلان ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رغب في الصدقة وحض عليها ، فقام عبد الرحمن بن عوف فتصدق بأربعة آلاف ، وقام عاصم بن عيد وتصدق بمائة وسق من تمر ، فلمزوهما وقالوا : ما هذا إلا رياء ، وكان الذي تصدق بجهده ( أبو عقيل ) حليف بني عمرو بن عوف ، أتى بصاع من تمر فأفرغه في الصدقة ، فتضاحكوا به ، وقالوا : إن الله لغني عن صاع أبي عقيل . وقال الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة قال ، « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » تصدقوا فإني أريد أن أبعث بعثاً « ، قال : فجاء عبد الرحمن بن عوف فقال : يا رسول الله عندي أربعة آلاف ، ألفين أقرضهما ربي وألفين لعيالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » بارك الله لك فيما أعطيت وبارك لك فيما امسكت « وبات رجل من الأنصار فأصاب صاعين من تمر ، فقال يا رسول الله : أصبت صاعين من تمر ، صاع أقرضه لربي وصاع لعيالي ، قال : فلمزه المنافقون وقالوا : ما أعطى الذي أعطى ابن عوف إلا رياء ، وقالوا : ألم يكن الله ورسوله غنيين عن صاع هذا؟ فأنزل الله : { الذين يَلْمِزُونَ المطوعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ } الآية » وقوله : { فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ الله مِنْهُمْ } هذا من باب المقابلة على سوء صنيعهم واستهزائهم بالمؤمنين ، لأن الجزاء من جنس العمل ، فعاملهم معاملة من سخر منهم انتصاراً للمؤمنين في الدنيا ، وأعد للمنافقين في الآخرة عذاباً أليماً ، لأن الجزاء من جنس العمل .(1/1065)
اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لَا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80)
يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم بأن هؤلاء المنافقين ليسوا أهلاً للاستغفار ، وأنه لو استغفر لهم سبعين مرة فلن يغفر الله لهم؛ وقد قيل : إن السبعين إنما ذكرت حسماً لمادة الاستغفار لهم ، لأن العرب في أساليب كلامها تذكر السبعين في مبالغة كلامها ، ولا تريد التحديد بها ، ولا أن يكون ما زاد عليها بخلافها؛ وقيل : بل لها مفهوم كما روي ، لما نزلت هذه الآية قال صلى الله عليه وسلم : « إن ربي قد رخص لي فيهم ، فوالله لأستغفرن لهم أكثر من سبعين مرة لعل الله أن يغفر لهم » ، وقال الشعبي : « لما ثقل ( عبد الله بن أبي ) انطلق ابنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن أبي يحتضر ، فأحب أن تشهده وتصلي عليه ، فانطلق معه حتى شهده ، وألبسه قميصه . وصلى عليه ، فقيل له : أتصلي عليه؟ فقال : » إن الله قال : { إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً } ، ولأستغفرن لهم سبعين وسبعين وسبعين « .(1/1066)
فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلَافَ رَسُولِ اللَّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَلْيَبْكُوا كَثِيرًا جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (82)
يقول تعالى ذاماً للمناففقين المتخلفين عن صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، وفرحوا بقعودهم بعد خرروجه { وكرهوا أَن يُجَاهِدُواْ } معهه { بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ الله وَقَالُواْ } - أي بعضهم لبعضض - { لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر } ، وذلك أن الخروج في غزوة تبوك كان في شدة الحر ، عند طيب الظلال والثمار ، فلهذا قالوا : { لاَ تَنفِرُواْ فِي الحر } ، قال الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } لهم { نَارُ جَهَنَّمَ } التي تصيرون إليها بمخالفتكم { أَشَدُّ حَرّاً } مما فررتم منه من الحر بل أشد حراً من النار ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نار بني آدم التي توقدونها جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم » ، فقالوا : يا رسول الله إن كانت لكافية ، فقال : « فضّلت عليها بتسعة وستين جزءاً » ، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن ناركم هذه جزء من سبعين جزءاً من نار جهنم وضربت في البحر مرتين ، ولولا ذلك ما جعل الله فيها منفعة لأحد » وروى الترمذي وابن ماجه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أوقد الله على النار ألف سنة حتى احمرت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت ، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت ، فهي سوداء كالليل المظلم » وعن أنس قال : « تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم { نَاراً وَقُودُهَا الناس والحجارة } [ التحريم : 6 ] ، قال : » أوقد عليها ألف عام حتى ابيضت ، وألف عام حتى احمرت ، وألف عام حتى اسودت ، فهي سوداء كالليل لا يضيء لهبها « ، والأحاديث والآثار النبوية في هذا كثيرة . وقال الله تعالى في كتابه العزيز : { كَلاَّ إِنَّهَا لظى * نَزَّاعَةً للشوى } [ المعارج : 15-16 ] ، وقال تعالى : { يُصَبُّ مِن فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الحميم * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ والجلود * وَلَهُمْ مَّقَامِعُ مِنْ حَدِيدٍ } [ الحج : 19-21 ] ، وقال تعالى هنا : { قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ } أي لو أنهم يفقهون لنفروا مع الرسول في سبيل الله في الحر ، ليتقوا به من حر جهنم الذي هو أضعاف أضعاف هذا ، ولكنهم كما قال الشاعر :
كالمستجير من الرمضاء بالنار ... ثم قال تعالى جل جلاله متوعداً هؤلاء المنافقين على صنيعهم هذا : { فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً } الآية ، قال ابن عباس : الدنيا قليل ، فليضحكوا فيها ما شاءوا ، فإذا انقطعت الدنيا وصاروا إلى الله عزَّ وجلَّ استأنفوا بكاء لا ينقطع أبداً ، وقال الحافظ الموصلي عن أنس بن مالك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » يا أيها الناس أبكوا فإن لم تبكوا فتباكوا ، فإن أهل النار يبكون حتى تسيل دموعهم في وجوههم ، كأنها جداول حتى تنقطع الدموع فتسيل الدماء فتقرح العيون ، فلو أن سفناً أزجيت فيها لجرت « .(1/1067)
فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلَى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ (83)
يقول الله تعالى آمراً لرسوله عليه الصلاة والسلام : { فَإِن رَّجَعَكَ الله } أي ردك الله من غزوتك هذه { إلى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ } ، قال قتادة : ذكر لنا أنهم كانوا اثني عشر رجلاً { فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ } : أي معك إلى غزوة أخرى { فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً } ، أي تعزيزاً لهم وعقوبة ، ثم علل ذلك بقوله : { إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بالقعود أَوَّلَ مَرَّةٍ } ، وهذا كقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] الآية ، فإن جزاء السيئة السيئة بعدها ، كما أن ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، وقوله تعالى : { فاقعدوا مَعَ الخالفين } قال ابن عباس : أي الرجال الذين تخلفوا عن الغزاة ، وقال قتادة : { فاقعدوا مَعَ الخالفين } أي مع النساء ، قال ابن جرير : وهذا لا يستقيم ، لأن جميع النساء لا يكون بالياء والنون ، ولو أريد النساء لقال : فاقعدوا مع الخوالف أو الخالفات ، ورجح قول ابن عباس رضي الله عنهما .(1/1068)
وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ (84)
أمر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يبرأ من المنافقين ، وأن لا يصلي على أحد منهم إذا ماتا ، وأن لا يقوم على قبره ليستغفر له أو يدعو له لأنهم كفروا بالله ورسوله وماتو عليه؛ وهذا حكم عام في كل من عرف نفاقه ، وإن كان سبب نزول الآية في ( عبد الله بن أبي سلول ) رأس المنافقين . كما قال البخاري « عن نافع عن ابن عمر قال : لما توفي عبد الله بن أبي ، جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فسأله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ، فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم ليصلي عليه ، فقام عمر ، فأخ بثوب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله تصلي عليه ، وقد نهاك ربك أن تصلي عليه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنما خيرني الله فقال : { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ الله لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] وسأزيده على سبعين « ، قال : إنه منافق ، قال : فصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ آية : { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ على قَبْرِهِ } » وعن عباس قال : سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : « لما توفي ( عبد الله بن أبي ) دعي رسول الله صلى الله عليه وسلم للصلاة عليه ، فقام إليه ، فلما وقف عليه يريد الصلاة عليه تحولت حتى قمت في صدره ، فقلت : يا رسول الله أعلى عدو الله ( عبد الله بن أبي ) القائل يوم كذا وكذا - يعدّد أيامه -؟ قال : ورسول الله صلى الله عليه وسلم يبتسم ، حتى إذا أكثرت عليه قال : » أخّر عني يا عمر ، إني خيرت فاخترت ، قد قيل لي : { استغفر لَهُمْ } الآية ، لو أعلم أني لو زدت على السبعين غفر له لزدت « ، قال : ثم صلى عليه ، ومشى معه ، وقام على قبره حتى فرغ منه ، قال : فعجبتُ من جرأتي على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والله ورسوله أعلم ، قال : فوالله ما كان إلا يسيراً حتى نزلت هاتان الآيتان : { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } الآية ، فما صلى الله عليه وسلم بعده على منافق ، ولا قام على قبره حتى قبضه الله عزَّ وجلَّ » ، وروى الإمام أحمد عن جابر قال : « لما مات عبد الله بن أبي أتى ابنه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إنك إن لم تأته لم نزل نعيّر بهذا ، فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فوجده قد أدخل في حفرته ، فقال : » أفلا قبل أن تدخلوه « ، فأخرج من حفرته ، وتفل عليه من ريقه من قرنه إلى قدمه وألبسه قميصه »(1/1069)
، وقال البخاري : « أتى النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي بعدما أدخل في قبره ، فأمر به فأخرج ، ووضع على ركبتيه ، ونفث عليه من ريقه ، وألبسه قميصه ، والله أعلم » .
وقال قتادة : « أرسل عبد الله بن أبي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مريض ، فلما دخل عليه قال له النبي صلى الله عليه وسلم : » أهلكت حب يهود « قال : يا رسول الله إنما أرسلت إليك لتستغفر لي ولم أرسل إليك لتؤنبني ، ثم سأله عبد الله أن يعطيه قميصه يكفن فيه أباه ، فأعطاه إياه وصلى عليه وقام على قبره » ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { وَلاَ تُصَلِّ على أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً } الآية ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد نزول هذه الآية الكريمة عليه لا يصلي على أحد من المنافقين ، ولا يقوم على قبره ، كما قال قتادة : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا دعي إلى جنازة سأل عنها ، فإن أثني عليها خيراً قام فصلى عليها ، وإن كان غير ذلك قال لأهلها ، » شأنكم بها « ، ولم يصل عليها؛ وكان عمر بن الخطاب لا يصلي على جنازة من جهل حاله حتى يصلي عليها ( حذيفة بن اليمان ) لأنه كان يعلم أعيان المنافقين ، قد أخبره بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا كان يقال له : ( صاحب السر ) الذي لا يعلمه غيره أي من الصحابة ، ولما نهى الله عزَّ وجلَّ عن الصلاة على المنافقين والقيام على قبورهم للاستغفار لهم كان هذا الصنيع من أكبر القربات في حق المؤمنين فشرع ذلك ، وفي فعله الأجر الجزيل ، كما ثبت في » الصحاح « : » من شهد الجنازة حتى يصلي عليها فله قيراط ، ومن شهدها حتى تدفن فله قيراطان « قيل : وما القيراطان؟ قال : » أصغرهما مثل أُحُد « ؛ وأما القيام عند قبر المؤمن إذا مات فروى أبو داود عن عثمان رضي الله عنه قال : » كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الميت وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل « » .(1/1070)
وَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلَادُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85)
تقدم تفسير نظير هذه الآية الكريمة ، ولله الحمد والمنة .(1/1071)
وَإِذَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَجَاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُو الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُوا ذَرْنَا نَكُنْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ (87)
يقول تعالى منكراً وذاماً للمتخلفين عن الجهاد ، الناكلين عنه مع القدرة عليه ، ووجود السعة والطول ، واستأذنوا الرسول في القعود وقالوا : { ذَرْنَا نَكُنْ مَّعَ القاعدين } ورضوا لأنفسهم بالعار والقعود في البلد مع النساء ، وهن الخوالف بعد خروج الجيش ، فإذا وقع الحرب كانوا أجبن الناس ، وإذا كان أمن كانوا أكثر الناس كلاماً كما قال تعالى عنهم : { فَإِذَا جَآءَ الخوف رَأَيْتَهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كالذي يغشى عَلَيْهِ مِنَ الموت فَإِذَا ذَهَبَ الخوف سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدَادٍ } [ الأحزاب : 19 ] أي علت ألسنتهم بالكلام الحاد القوي في الأمن ، كما قال الشاعر :
أفي السلم أعياراً جفاء وغلظة ... وفي الحرب أشباه النساء الفوارك؟
وقال تعالى : { فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال رَأَيْتَ الذين فِي قُلُوبِهِمْ مَّرَضٌ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ المغشي عَلَيْهِ مِنَ الموت فأولى لَهُمْ } [ محمد : 20 ] ، وقوله : { وَطُبِعَ على قُلُوبِهِمْ } أي بسبب نكولهم عن الجهاد والخروج مع الرسول في سبيل الله ، { فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ } أي لا يفقهمون ما فيه صلاح لهم فيفعلوه ، ولا ما فيه مضرة لهم فيجتنبوه .(1/1072)
لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)
لما ذكر تعالى ذنب المنافقين ، بيّّن ثناءه على المؤمنين وما لهم في آخرتهم فقال : { لكن الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ } لبيان حالهم ومآلهم ، وقوله : { وأولئك لَهُمُ الخيرات } أي في الدار الآخرة في جنات الفردوس والدرجات العلي .(1/1073)
وَجَاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90)
ثم بيَّن تعالى حال ذوي الأعذار في ترك الجهاد الذين جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتذرون إليه ، وهم من أحياء العرب من حول المدينة ، قال ابن إسحاق : وبلغني أنهم تفر من بين غفار ، وهذا القول هو الأظهر ، لأنه قال بعد هذا : { وَقَعَدَ الذين كَذَبُواْ الله وَرَسُولَهُ } أي لم يأتوا فيعتذروا ، وقال مجاهد : { وَجَآءَ المعذرون مِنَ الأعراب } قال : نفر من بني غفار ، جاءوا فاعتذروا فلم يعذرهم اللهه؛ وكذلا قال الحسن وقتادة : ثم أأوعدهم بالعذاب الأليم فقال : { سَيُصِيبُ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .(1/1074)
لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (93)
ثم بيَّن تعالى الأعذار التي لا حرج على من قعد معها عن القتال ، فذكر منها ما هو لازم لشخص لا ينفك عنه ، وهو الضعف في التركيب الذي لا يستطيع معه الجلاد في الجهاد ، ومنه العمى والعرج ونحوهما؛ ولهذا بدأ به ، ومنها ما هو عارض بسبب مرض في بدنه شغله عن الخروج في سبيل الله ، أو بسبب فقر لا يقدر على التجهيز للحرب ، فليس على هؤلاء حرج إذا قعدوا ونصحوا في حال قعودهم ، ولم يرجفوا بالناس ، ولم يثبطوهم ، وهم محسنون في حالهم هذا؛ ولهذا قال : { مَا عَلَى المحسنين مِن سَبِيلٍ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . قال قتادة : نزلت هذه الآية في عائذ بن عمرو المزني ، وروي عن زيد بن ثابت قال : كنت أكتب لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكنت أكتب براءة ، فإني لواضع القلم على أذني ، إذ أمرنا بالقتال ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينظر ما ينزل عليه ، إذ جاء أعمى فقال : كيف بي يا رسول الله وأنا أعمى؟ فنزلت : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء } الآية ، وقال ابن عباس في هذه الآية : وذلك « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني ، فقالوا : يا رسول الله احملنا ، فقال لهم : » والله لا أجد ما أحملكم عليه « ، فتولوا وهم يبكون ، وعز عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ولا محملاً ، فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه فقال : { لَّيْسَ عَلَى الضعفآء } إلى قوله : { فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } » ، وقال مجاهد في قوله : { وَلاَ عَلَى الذين إِذَا مَآ أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ } نزلت في بني مقرن من مزينة ، كانوا سبعة نفر ، فاستحملوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وكانوا أهل حاجة ، فقال : { لاَ أَجِدُ مَآ أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنْفِقُونَ } . وفي حديث أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن بالمدينة أقواماً ما قطعتم وادياً ولا سرتم سيراً إلا وهم معكم » قالوا : وهم بالمدينة؟ قال : « نعم حبسهم العذر » وعن جابر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد خلفتم بالمدينة رجالاً ما قطعتم وادياً ولا سلكتم طريقاً إلا شركوكم في الأجر حبسهم المرض » ، ثم رد تعالى الملامة على الذين يستأذنون في القعود وهم أغنياء ، وأنبهم في رضاهم بأن يكونوا مع النساء الخوالف في الرجال : { وَطَبَعَ الله على قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .(1/1075)
يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لَا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96)
أخبر تعالى عن المنافقين بأنهم إذا رجعوا إلى المدينة أنهم يعتذرون إليهم { قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ } أي لن نصدقكم { قَدْ نَبَّأَنَا الله مِنْ أَخْبَارِكُمْ } أي قد أعلمنا الله أحوالكم ، { وَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ } أي سيظهر أعمالكم للناس في الدنيا ، { ثُمَّ تُرَدُّونَ إلى عَالِمِ الغيب والشهادة فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } أي فيخبركم بأعمالكم خيرها وشرها ويجزيكم عليها ، ثم أخبر عنهم أنهم سيحلفون لكم معتذرين لتعرضوا عنهم ، فلا تؤنبوهم ، فأعرضوا عنهم احتقاراً لهم { إِنَّهُمْ رِجْسٌ } أي خبث نجس بواطنهم واعتقاداتهم ، ومأواهم في آخرتهم جهنم . { جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي من الآثام والخطايا ، وأخبر أنهم إن رضوا عنهم بحلفهم لهم ، { فَإِنَّ الله لاَ يرضى عَنِ القوم الفاسقين } أي الخارجين عن طاعة الله وطاعة رسوله .(1/1076)
الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)
أخبر تعالى أن في الأعراب كفاراً ومنافقين ومؤمنين ، وأن كفرهم ونفاقهم أعظم من غيرهم وأشد ، { وَأَجْدَرُ } أي أحرى { أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ } ، كماقال الاعمش : جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم ( نهاوند ) فقال الأعرابي : والله إن حديثك ليعجبني ، وإن يدك لتريبني ، فقال زيد : ما يريبك من يدي إنها الشمال؟ فقال الأعرابي : والله ما أدري اليمين يقطعون أو الشمال ، فقال زيد صدق الله : { الأعراب أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَآ أَنزَلَ الله على رَسُولِهِ } . وفي الحديث : « من سكن البادية جفا ، ومن اتبع الصيد غفل ، ومن أتى السلطان افتتن » ورواه أبو داود والترمذي والنسائي من طرق عن سفيان الثوري به ، وقال الترمذي : حسن غريب لا نعرفه إلا من حديث الثوري . ولما كانت الغلظة والجفاء في أهل البوادي لم يبعث الله منهم رسولاً ، وإنما كانت البعثة من أهل القرى لأن هؤلاء كانوا يسكنون المدن ، فهم ألطف أخلاقاً من الأعراب لما في طباع الأعراب من الجفاء ، وفي « صحيح مسلم » « عن عائشة قالت : قدم ناس من الأعراب على رسوله الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : أتقبلون صبيانكم؟ قالوا : نعم ، قالوا : كنا والله ما نقبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » وأملك إن كان الله نزع منكم الرحمة «؟ ، وقال ابن نميرة : » من قلبك الرحمة « وقوله : { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بمن يستحق أن يعلمه الإيمان والعلم ، { حَكِيمٌ } فيما قسم بين عباده ، لا يسأل عما يفعل لعلمه وحكمته ، وأخبر تعالى أن منهم : { مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ } أي في سبيل الله { مَغْرَماً } أي غرامة وخسارة ، { وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدوائر } أي ينتظر بكم الحوادث والآفات ، { عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السوء } أي هي منعكسة عليهم والسوء دائر عليهم ، { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع لدعاء عباده ، عليم بمن يستحق النصر ممن يستحق الخذلان ، وقوله : { وَمِنَ الأعراب مَن يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ الله وَصَلَوَاتِ الرسول } هذا هو القسم الممدوح من الأعراب ، وهم الذين يتخذون ما ينفقون في سبيل الله قربة يتقربون بها عند الله ويبتغون بذلك دعاء الرسول لهم ، { ألا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ } أي ألا إن ذلك حاصل لهم ، { سَيُدْخِلُهُمُ الله فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .(1/1077)
وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)
يخبر تعالى عن رضاه عن السابقين من المهاجرين والأنصار والتابعين لهم بإحسان ، ورضاهم بما أعده لهم من جنات النعيم ، قال الشعبي : السابقون الأولون من أدرك بيعة الرضوان عام الحديبية ، وقال الحسن وقتادة : هم الذين صلوا إلى القبلتين مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقد أخبر الله العظيم أنه قد رضي عن السابقين الأوليمن من المهاجرين والأنصار ، والذين اتبعوهم بإحسان ، فياويل من أبغضهم أو سبهم أو أبغض أو سب بعضهم ، ولا سيما سيد الصحابة بعد الرسول وخيرهم وأفضلهم أعني الصديق الأكبر ، والخليفة الأعظم أبا بكر رضي الله عنه ، فإن الطائفة المخذولة من الرافضة يعادون أفضل الصحابة ويبغضونهم ويسبونهم ، عياذاً بالله من ذلك ، وهذا يدل على أن عقولهم معكوسة ، وقلوبهم منكوسة ، فأين هؤلاء من الإيمان بالقرآن إذ يسبون من رضي الله عنهم ، وأما أهل السنة فإنهم يترضون عمن رضي الله عنه ، ويسبون من سبه الله ورسوله ، ويوالون من يوالي الله ، ويعادون من يعادي الله ، وهم متبعون لا مبتدعون ، ويقتدون ولا يبتدون ، وهؤلاء هم حزب الله المفلحون .(1/1078)
وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101)
يخبر تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه أن في أحياء العرب ممن حول المدينة منافقون ، وفي أهل المدينة أيضاً منافقون . { مَرَدُواْ عَلَى النفاق } أي مرنوا واستمروا عليه ، ومنه يقال : شيطان مريد ومارد ، ويقال تمرد فلان على الله أي عتا وتجبر ، وقوله : { لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُم } لا ينافي قوله تعالى : { وَلَوْ نَشَآءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ } [ محمد : 30 ] ، لأن هذا من باب التوسم فيهم بصفات يعرفون بها ، لا لأنه يعرف جميع من عنده من أهل النفاق والريب على التعيين؛ قال مجاهد في قوله : { سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ } يعني القتل والسبي ، وقال في رواية : بالجوع وعذاب القبر ، { ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ } ، وقال الحسن البصري : عذاب في الدنيا وعذاب في القبر ، وقال ابن زيد : أما عذاب الدنيا فالأموال والأولاد ، وقرأ قوله تعالى : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا } [ التوبة : 55 ] فهذه المصائب لهم عذاب وهي للمؤمنين أجر ، وعذاب في الآخرة في النار ، { ثُمَّ يُرَدُّونَ إلى عَذَابٍ عَظِيمٍ } قال : النار .(1/1079)
وَآخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا وَآخَرَ سَيِّئًا عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)
لما بين تعالى حال المنافقين المتخلفين عن الغزو تكذيباً وشكاً ، شرع في بيان حال المذنبين الذين لتأخروا عن الجهاد كسلاً مع إيمانهم وتصديقهم بالحق ، فقال : { وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ } أي أقروا بها واعترفوا فيما بينهم وبين ربهم ، ولهم أعمال أخر صالحة خلطوا هذه بتلك ، فهؤلاء تحت عفو الله وغفرانه ، وهذه الآية وإن كانت نزلت في أناس معينين ، إلا أنها عامة في كل المذنبين الخطائين ، وقد قال ابن عباس : « نزلت في أبي لبابة وجماعة من أصحابه تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فلما رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم من غزوته ، ربطوا أنفسهم بسواري المسجد ، وحلفوا ألا يحلهم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما أنزل الله هذه الآية { وَآخَرُونَ اعترفوا بِذُنُوبِهِمْ } أطلقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم » ، وروى البخاري عن سمرة بن جندب قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لنا : « أتاني الليلة آتيان فابتعثاني فانتهيا بي إلى المدينة مبنية بلبن ذهب ، ولبن فضة ، فتلقانا رجال شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء ، وشطر كأقبح ما أنت راء ، قالا لهم : اذهبوا فقعوا في ذلك النهر ، فوقعوا فيه ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم ، فصاروا في أحسن صورة ، قالا لي هذه جنة عدن وهذا منزلك ، قالا : وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن وشطر منهم قبيح فإنهم خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً تجاوز الله عنهم » .(1/1080)
خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104)
أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم بأن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم ويزكيهم بها ، وهذا عام وإن أعاد بعضهم الضمير في { أَمْوَالِهِمْ } إلى الذين اعترفوا بذنوبهم . ولهذا اعتقد بعض مانعي الزكاة أن دفع الزكاة إلى الإمام لا يكون ، وإنما كان خاصاً بالرسول صلى الله عليه وسلم ، واحتجوا بقوله تعالى : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً } الآية ، وقد رد عليهم أبو بكر الصديق وقاتلهم حتى أدوا الزكاة كما كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حتى قال الصديق : والله لو منعوني عناقاً - وفي رواية عقالاً - كانوا يؤدونها إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم لأقاتلنهم على منعه . وقوله : { وَصَلِّ عَلَيْهِمْ } أي ادع لهم واستغفر لهم ، كما رواه مسلم في « صحيحه » عن عبد الله بن أبي أوفى قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أُتي بصدقة قوم صلى عليهم فأتاه ابي بصدقته ، فقال : » اللهم صل على آل أبي أوفى « ، وفي الحديث الآخر : » أن امرأة قالت : يا رسول الله صل عليّ وعلى زوجي ، فقال : « صلى الله عليك وعلى زوجك » وقوله : { إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ } ، قال ابن عباس : رحمة لهم ، وقال قتادة : وقار ، وقوله : { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي لدعائك { عَلِيمٌ } أي بمن يستحق ذلك منك ومن هو أهل له ، { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات } ، هذا تهييج إلى التوبة والصدقة اللتين كل منها يحط الذنوب ويمحصها ويمحقها ، وأخبر تعالى أن كل من تاب إليه تاب عليه ، ومن تصدق بصدقة من كسب حلال فإن الله يتقبلها بيمينه فيربيها لصاحبها ، حتى تصير التمرة مثل أُحد ، كما جاء في الحديث الصحيح : « إن الله يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه ، فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره ، حتى أن اللقمة لتكون مثل أُحد » ، وتصديق ذلك في كتاب الله عزَّ وجلَّ : { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصدقات } .(1/1081)
وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
قال مجاهد : هذا وعيد من الله تعالى للمخالفين أوامره ، بأن أعمالهم ستعرض عليه تبارك وتعالى ، وعلى الرسول عليه الصلاة والسلام وعلى المؤمنين ، ، وهذا كائن لا محالة يوم القيامة ، كما قال : { يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لاَ تخفى مِنكُمْ خَافِيَةٌ } [ الحاقة : 18 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ تبلى السرآئر } [ الطارق : 9 ] ، وقال : { وَحُصِّلَ مَا فِي الصدور } [ العاديات : 10 ] ، وقد يظهر الله تعالى ذلك للناس في الدنيا كما قال الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لو أن أحدكم يعمل في صخرة صماء ليس لها باب ولا كوة ، لأخرج الله عمله للناس كائناً ما كان » ، وقد ورد : أن أعمال الأحياء تعرض على الأموات والأقرباء والعشائر في البرزه ، كما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن أعمالكم تعرض على أقاربكم وعشائركم من الأموات ، فإن كان خيراً استبشروا به ، وإن كان غير ذلك قالوا : اللهم لا تمتهم حتى تهديهم كما هديتنا » وقال البخاري : قالت عائشة رضي الله عنها : إذا أعجبك حسن عمل امرئ مسلم فقل : { اعملوا فَسَيَرَى الله عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ والمؤمنون } ، وفي الحديث الصحيح : « إذا أراد الله بعبده خيراً استعمله قبل موته » ، قالوا : يا رسول الله وكيف يستعمله؟ قال : « يوفقه لعمل صالح ثم يقبضه عليه » .(1/1082)
وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)
قال ابن عباس ومجاهد : هم الثلاثة الذين خلفوا ، أي عن التوبة ، وهم ( مرارة بن الربيع ) و ( كعب بن مالك ) و ( هلال بن أمية ) ، قعدوا عن غزوة تبوك في جملة من قعد كسلاً وميلاً إلى الدعة والحفظ وطيب الثمار والظلال ، لا شكاً ولا نفاقاً ، فكانت منهم طائفة ربطوا أنفسهم بالسواري كما فعل أبو لبابة وأصحابه ، وطائفة لم يفعلوا ذلك ، وهم هؤلاء الثلاثة المذكورون ، فنزلت توبة أولئك قبل هؤلاء ، وأرجي هؤلاء عن التوبة ، حتى نزلت الآية الآتية وهي قوله : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار } [ الآية : 117 ] الآية ، { وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ } [ التوبة : 118 ] الآية ، كما سيأتي بيانه في حديث كعب بن مالك ، وقوله : { إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ } أي هم تحت عفو الله إن شاء فعل بهم هذا ، وإن شاء فعل بهم ذاك ، ولكن رحمته تغلب غضبه ، { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي عليم بمن يستحق العقوبة ممن يستحق العفو ، { حَكِيمٌ } في أفعاله وأقواله لا إله إلا هو ولا رب سواه .(1/1083)
وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108)
سبب نزول هذه الآيات الكريمات أنه كان بالمدينة قبل مقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم إليها رجل من الخزرج يقال له ( أبو عامر الراهب ) وكان قد تنصر في الجاهلية ، وقرأ علم أهل الكتاب ، وله شرف في الخزرج كبير ، فلما « قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم مهاجراً إلى المدينة واجتمع المسلمون عليه ، وصارت للإسلام كلمة عالية ، وأظهرهم الله يوم بدر ، شرق اللعين ( أبو عامر ) بريقه ، وبارز بالعداوة وظاهر بها ، وخرج فاراً إلى كفار مكة من مشركي قريش ، يمالئهم على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاجتمعوا بمن وافقهم من أحياء العرب ، وقدموا عام أحد ، فكان من أمر المسلمين ما كان وامتحنهم الله عزّ وجلّ ، وكانت العافية للمتقين ، وكان هذا الفاسق قد حفر حفائر فيما بين الصفين ، فوقع في إحداهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصيب ذلك اليوم فجرح وجهه وكسرت رباعيته اليمنى السفلى ، وشج رأسه صلوات الله وسلامه عليه ، وتقدم ( أبو عامر ) في أول المبارزة إلى قومه من الأنصار فخاطبهم واستمالهم إلى نصره وموافقته ، فلما عرفوا كلامه قالوا : لا أنعم الله بك عيناً يا فاسق يا عدو الله ، ونالوا منه وسبوه ، فرجع وهو يقول : والله قد أصاب قومي بعدي شر ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد دعاه إلى الله قبل فراره وقرأ عليه من القرآن ، فأبى أن يسلم وتمرد ، فدعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يموت بعيداً طريداً ، فنالته هذه الدعوة . وذلك لما فرغ الناس من أحد ، ورأى أمر الرسول صلى الله عليه وسلم في ارتفاع وظهور ، ذهب إلى ( هرقل ) ملك الروم يستنصره على النبي صلى الله عليه وسلم ، فوعده ومنَّاة وأقام عنده ، وكتب إلى جماعة من قومه من الأنصار من أهل النفاق والريب يعدهم ويمنيهم أنه سيقدم بجيش يقاتل به رسول الله صلى الله عليه وسلم ويغلبه ويرده عما هو فيه ، وأمرهم أن يتخذوا له معقلاً يقدم عليهم فيه من يقدم من عنده لأداء كتبه ، ويكون مرصداً له إذا قدم عليهم بعد ذلك ، فشرعوا في بناء مسجد مجاور لمسجد قباء ، فبنوه وأحكموه وفرغوا منه قبل خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك ، وجاءوا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتي إليهم فيصلي في مسجدهم ليحتجوا بصلاته فيه على تقرير وإثباته ، وذكروا أنهم بنوه للضعفاء منهم وأهل العلة في الليلة الشاتية ، فعصمه الله من الصلاة فيه فقال : » إنا على سفر ، ولكن إذا رجعنا إلى شاء الله « ، فلما قفل عليه السلام راجعاً إلى المدينة من تبوك ولم يبق بينه وبينها إلا يوم أو بعض يوم ، نزل عليه جبريل بخبر مسجد الضرار ، وما اعتمده بانوه من الكفر والتفريق بين جماعة المؤمنين في مسجدهم ( مسجد قباء ) الذي أسس من أول يوم على التقوى ، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى ذلك المسجد من هدمه قبل مقدمه المدينة؛ كما قال ابن عباس في الآية : هم أناس من الأنصار بنوا مسجداً ، فقال لهم أبو عامر : ابنوا مسجداً واستعدوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح ، فإني ذاهب إلى قيصر ملك الروم فآتي بجنود من الروم وأخرج محمداً وأصحابه ، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : قد فرغنا من بناء مسجدنا ، فنحب أن تصلي فيه وتدعو لنا بالبركة ، فأنزل الله عزَّ وجلّ : { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } الآية » .(1/1084)
وقوله تعالى : { وَلَيَحْلِفُنَّ } أي الذين بنوه ، { إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الحسنى } أي ما أردنا بنيانه إلا خيراً ورفقاً بالناس ، قال تعالى : { والله يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي فيما قصدوا وفيما نووا ، وإنما بنوه ضراراً لمسجد قباء ، وكفرا بالله وتفريقاً بين المؤمنين ، وإرصاداً لمن حارب الله ورسوله من قبل ، وهو أبو عامر الفاسق لعنه الله . وقوله : { لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً } نهي له صلى الله عليه وسلم والأمة تبع له في ذلك عن أن تقوم فيه : أي يصلي أبداً ، ثم حثه على الصلاة بمسجد قباء الذي أسس من يوم بنيانه على التقوى ، وهي طاعة الله وطاعة رسوله وجمعاً لكلمة المؤمنين وموئلاً للإسلام وأهله ، ولهذا قال تعالى : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ } ، والسياق إنما هو في معرض مسجد قباء ، ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « صلاة في مسجد قباء كعمرة » ، وفي « الصحيح » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يزور مسجد قباء راكباً وماشياً ، وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما بناه وأسسه أول قدومه ونزوله على بني عمرو بن عوف ، كان جبريل هو الذي عين له جهة القبلة والله أعلم . قال الإمام أحمد ، « عن عويم بن ساعدة الأنصاري أن النبي صلى الله عليه وسلم أتاهم في مسجد قباء فقال : » إن الله تعالى قد أحسن عليكم الثناء في الطهور في قصة مسجدكم فما هذا الطهور الذي تطهرون به «؟ فقالوا : يا رسول الله ما نعلم شيئاً إلا أنه كان لنا جيران من اليهود ، فكانوا يغسلون أدبارهم من الغائط ، فغسلنا كما غسلوا » ، وقد صرح بأنه مسجد قباء جماعة من السلف . وقد ورد في الحديث الصحيح أن مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي في جوف المدينة هو المسجد الذي أسس على التقوى ، وهذا صحيح ، ولا منافاة بين الآية وبين هذا لأنه إذا كان مسجد قباء قد أسس على التقوى من أول يوم ، فمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بطريق الأولى والأحرى؛ ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل في « مسنده » ، عن سهل بن سعد الساعدي قال :(1/1085)
« اختلف رجلان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد الذي أسس على التقوى ، أحدهما قال : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الآخر : هو مسجد قباء ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فسألاه فقال : » هو مسجدي هذا « وفي رواية أخرى عن أبي سعيد الخدري قال : » تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال أحدهما : هو مسجد قباء ، وقال الآخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هو مسجدي هذا » وقال الإمام أحمد ، عن أبي سعيد عن أبيه أنه قال : « تمارى رجلان في المسجد الذي أسس على التقوى من أول يوم ، فقال رجل : هو مسجد قباء ، وقال الآخر : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هو مسجدي « .
طريق آخر : قال الإمام أحمد : حدثنا يحيى عن أنيس بن يحيى ، حدثني أبي ، قال : سمعت أبا سعيد الخدري قال : » اختلف رجلان ، رجل من بني خدرة ، ورجل من بني عمرو بن عوف في المسجد الذي أسس على التقوى ، فقال الخدري : هو مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال العمري : هو مسجد قباء ، فأتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألاه عن ذلك ، فقال : « هو هذا المسجد » ، لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال في ذلك يعني مسجد قباء . وقد قال : بأنه مسجد النبي صلى الله عليه وسلم جماعة من السلف والخلف ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابنه عبد الله ، وزيد بن ثابت ، وسعيد بن المسيب ، واختاره ابن جرير ، وقوله : { لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التقوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ والله يُحِبُّ المطهرين } ، دليل على استحباب الصلاة في المساجد القديمة المؤسسة من أول بنائها على عبادة الله وحده لا شريك له ، وعلى استحباب الصلاة مع الجماعة الصالحين ، والعباد العاملين المحافظين على إسباغ الوضوء ، والتنزه عن ملابسة القاذورات ، وقال الأمام أحمد : « عن رجل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى بهم الصبح ، فقرأ الروم فيها فأوهم ، فلما انصرف قال : » إنه يلبس علينا القرآن ، إن أقواماً منكم يصلون معنا لا يحسنون الوضوء ، فمن شهد الصلاة معنا ، فليسحن الوضوء « ، فدل هذا على أن إكمال الطهارة يسهل القيام في العبادة ويعين على إتمامها وإكمالها والقيام بمشروعاتها ، وقال أبو العالية في قوله تعالى : { والله يُحِبُّ المطهرين } إن الطهور بالماء لحسن ولكنهم المطهرون من الذنوب ، وقال الأعمش : التوبة من الذنوب والتطهر من الشرك .(1/1086)
أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)
يقول تعالى : لا يستوي من أسس بنيانه على تقوى من الله ورضوان ، ومن ببنى مسجداً ضراراً وكفراً وتفريقاً بين المؤمنين فإنما يبني هؤلاء بنيانهم على شفا جرف هار ، أي طرف حفيرة في نار جهنم ، { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } ، أي لا يصلح عمل المفسدين ، قال جابر : رأيت المسجد الذي بني ضراراً يخرج منه الدخان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن جريج : ذكر لنا أن رجالاً حفروا فوجدوا الدخان الذي يخرج منه ، وكذا قال قتادة . وقال خلف الكوفي : رأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله تعالى في القرآن ، وفيه جحر يخرج منه الدخان وهو اليوم مزبلة ، وقوله تعالى : { لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الذي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي شكاً ونفاقاً بسبب إقدامهم على هذا الصنيع الشنيع ، أورثهم نفاقاً في قلوبهم كما أُشرِب عابدوا العجلِ حبَّه ، وقوله : { إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ } أي بموتهم ، قاله ابن عباس ومجاهد وغير واحد من السلف { والله عَلِيمٌ } أي بأعمال خلقه ، { حَكِيمٌ } في مجازاتهم عنها من خير وشر .(1/1087)
إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111)
يخبر تعالى أنه عاوض من عباده المؤمنين عن أنفسهم وأموالهم - إذ بذلوها في سبيله - بالجنة ، هذا من فضله وكرمه وإحسانه ، فإنه قبل العَوْض عما يملكه بما تفضل به على عبيده المطيعين له . ولهذا قال الحسن البصري وقتادة : بايعهم والله فأغلى ثمنهم ، وقال شمر بن عطية : « ما من مسلم إلا والله عزّ وجلّ في عنقه بيعة وفي بها أو مات عليها ، ثم تلا هذه الآية ، وقال ( عبد الله بن رواحة ) رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم يعني ليلة العقبة : اشترط لربك ولنفسك ما شئت فقال : » اشترط لربي أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأشترط لنفسي أن تمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأموالكم « ، قالوا : فما لنا إذا فعلنا ذلك؟ قال : » الجنة « ، قالوا : ربح البيع لا نقبل ولا نستقيل ، فنزلت : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ } الآية » ، وقوله : { يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } أي سواء قَتلوا أو قُتلوا ، أو اجتمع لهم هذا وهذا ، فقد وجبت لهم الجنة ، ولهذا جاء في « الصحيحين » : « تكفل الله لمن خرج في سبيله لا يخرجه إلا جهاد في سبيلي وتصديق برسلي بأن توفاه أن يدخله الجنة ، أو يرجعه إلى منزله الذي خرج منه نائلاً ما نال من أجر أو غنيمة » ، وقوله : { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي } تأكيد لهذا الوعد ، وإخبار بأنه قد كتبه على نفسه الكريمة وأنزله على رسله في كتبه العظيمة وهي { التوراة } المنزلة على موسى ، و { والإنجيل } المنزل على عيسى ، و { والقرآن } المنزل على محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وقوله : { وَمَنْ أوفى بِعَهْدِهِ مِنَ الله } فإنه لا يخلف الميعاد ، وهذا كقوله : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً } [ النساء : 87 ] ، { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً } [ النساء : 122 ] ، ولهذا قال : { فاستبشروا بِبَيْعِكُمُ الذي بَايَعْتُمْ بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الفوز العظيم } أي فليستبشر من قام بمقتضى هذا العقد ، ووفى بهذا العهد ، بالفوز العظيم والنعيم المقيم .(1/1088)
التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)
هذا نعت المؤمنين الذين اشترى الله منهم أنفسهم وأموالهم بهذه الصفات الجميلة والخلال الجليلة ، { التائبون } من الذنوب كلها ، التاركون للفواحش ، { العابدون } أي القائمون بعبادة بهم محافظين عليها ، ومن أخصها الحمدلله ، ولهذا قال : { الحامدون } ، ومن أفضل الأعمال الصيام ، وهو ترك الملاذ من الطعام والشراب والجماع ، وهو المراد بالسياحة هاهنا ، قال : { السائحون } كما وصف أزواج النبي صلى الله عليه وسلم بذلك في قوله تعالى : { سَائِحَاتٍ } [ التحريم : 5 ] أي صائمات ، وكذا الركوع والسجود وهما عبارة عن الصلاة؛ ولهذا قال : { الراكعون الساجدون } ، وهم مع ذلك ينفعون خلق الله ويرشدونهم إلى طاعة الله بأمرهم بالمعروف ونهيهم عن المنكر ، مع العلم بما ينبغي فعله ويجب تركه ، وهو حفظ حدود الله في تحليله وتحريمه علماً وعملاً ، فقاموا بعبادة الحق ونصح الخلق ، ولهذا قال : { وَبَشِّرِ المؤمنين } لأن الإيمان يشمل هذا كله ، والسعادة كل السعادة لمن اتصف به ، والسياحة يراد بها الصيام فقد « سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن السائحين؟ فقال : » هم الصائمون « ، وهذا أصح الأقوال وأشهرها . وجاء ما يدل على أن السياحة الجهاد ، وهو ما رواه أبو داود في سننه من حديث أبي أمامة » أن رجلاً قال : يا رسول الله ائذن لي في السياحة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله » وعن عكرمة أنه قال : هم طلبة العلم ، وقال ابن أسلم : هم المهاجرون ، وليس المراد من السياحة ما قد يفهمه بعض من يتعبد بمجرد السياحة في الأرض ، والتفرد في شواهق الجبال ، والكهوف والبراري ، فإن هذا ليس بمشروع إلا في أيام الفتن والزلازل في الدين ، كما ثبت في « صحيح البخاري » عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن » ، وقال ابن عباس في قوله : { والحافظون لِحُدُودِ الله } قال : القائمون بطاعة الله ، وكذا قال الحسن البصري ، وعنه قال : لفرائض الله ، والقائمون على أمر الله .(1/1089)
مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)
« لما حضرت أبا طالب الوفاة دخل عليه النبي صلى الله عليه وسلم وعنده أبو جهل وعبد الله بنب أبي أمية فقال : » أي عم! قل : لا إله إلا الله ، كلمة أحاجج لك بها عند الله عزّ وجلّ « ، فقال أبو جهل وعبد الله بن أبي أمية : يا أبا طالب أترغب عن ملة عبد المطلب؟ فقال : أنا على ملة عبد المطلب! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » لأستغفرن لك ما لم أنه عنك « ، فنزلت : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كانوا أُوْلِي قربى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الجحيم } » ، قال : ونزلت فيه : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ القصص : 56 ] . وقال الإمام أحمد ، عن ابن بريدة عن أبيه قال : « كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ونحن في سفر ، فنزل بنا ونحن قريب من ألف راكب ، فصلى ركعتين ، ثم أقبل علينا بوجهه وعيناه تذرفان ، فقام إليه عمر بن الخطاب وفداه بالأب والأم وقال : يا رسول الله ما لك؟ قال : » إني سألت ربي عزّ وجلّ في الاستغفار لأمي فلم يأذن لي ، فدمعت عيناي رحمة لها من النار ، وإني كنت نهيتكم عن ثلاث : نهيتكم عن زيارة القبور ، فزوروها لتذكركم زيارتها خيراً ، ونهيتكم عن لحوم الأضاحي بعد ثلاث . فكلوا وامسكوا ما شئتم ، ونهيتكم عن الأشربة في الاوعية فاشربوا في أي وعاء شئتم ولا تشربوا مسكرا
ً « . وقال ابن أبي حاتم ، عن عبد الله بن مسعود قال : » خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً إلى المقابر ، فاتبعناه فجاء حتى جلس إلى قبر منها ، فناجاه طويلاً ثم بكى فبكينا لبكائه ، ثم قال إليه عمر بن الخطاب ، فدعاه ثم دعانا فقال : « ما أبكاكم »؟ فقلنا : بكينا لبكائك ، قال : « إن القبر الذي جلست عنده قبر آمنة ، وإني استأذنت ربي في زيارتها فأذن لي » ، ثم أورده من وجه آخر وفيه : « وإني استأذنت ربي في الدعاء لها فلم يأذن لي وأنزل عليَّ : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا } » الآية ، فأخذني ما يأخذ الولد للولد ، وكنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها فإنها تذكر الآخرة .
وقال ابن عباس في هذه الرواية : كانوا يستغفرون لهم ، حتى نزلت هذه الآية فأمسكوا عن الاستغفار لأمواتهم ولم ينهوا أن يستغفروا للأحياء حتى يموتوا ، ثم أنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ } الآية ، وقال قتادة في الآية : ذكر لنا أن رجالاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : « يا نبي الله إن من آبائنا من كان يحسن الجوار ، ويصل الأرحام ، ويفك العاني ، ويوفي بالذمم ، أفلا نستغفر لهم؟ قال : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » بلى ، والله إني لأستغفر لأبي كما استغفر إبراهيم لأبيه «(1/1090)
، فأنزل الله تعالى : { مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ والذين آمنوا أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ } ، ثم عذر الله تعالى إبراهيم عليه السلام فقال : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ } الآية وقال الثوري عن ابن عباس : مات رجل يهودي وله ابن مسلم فلم يخرج معه ، فذكر ذلك لابن عباس فقال : فكان ينبغي له أن يمشي معه ويدفنه ويدعو له بالصلاح ما دام حياً ، فإذا مات وكله إلى شأنه ثم قال : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ } إلى قوله : { تَبَرَّأَ مِنْهُ } ، ويشهد له بالصحة ما رواه أبو داود وغيره عن علي رضي الله عنه : « لما مات أبو طالب قلت : يا رسول الله إن عمك الشيخ الضال قد مات ، » اذهب فواره ولا تحدثن شيئاً حتى تأتيني « ، فذكر تمام الحديث . وقال ابن عباس : مازال إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات ، فلما تبين له أنه عدو الله تبرأ منه . وفي رواية : لما مات تبين له أنه عدو الله ، وكذا قال مجاهد والضحاك ، وقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } ، قال ابن مسعود : الأواه الدعَّاء؛ وقال ابن جرير : » قال رجل : يا رسول الله ما الأواه؟ قال : « المتضرع » ، وقال الثوري : سئل ابن مسعود عن الأواه ، فقال : هو الرحيم أي بعباد الله ، وقال ابن عباس : الأواه الموقن ، بلسان الحبشة . وعنه : الأواه المؤمن . وقال سعيد بن جبير والشعبي : الأواه المسبّح ، وعن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : لا يحافظ على سبحة الضحى إلا الأواه ، وعن مجاهد : الأواه الحفيظ ، الرجل يذنب الذني سراً ثم يتوب منه سراً ، ذكر ذلك كله ابن أبي حاتم رحمه الله . وقال ابن جرير : « إن رجلاً كان يكثر ذكر الله ويسبح ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : » إنه أواه « ، وقال أيضاً عن ابن عباس » أن النبي صلى الله عليه وسلم دفن ميتاً فقال : « رحمك الله إن كنت لأواها » يعن تلاءً للقرآن ، قال ابن جرير : وأولى الأقوال قول من قال : إنه الدعّاء وهو المناسب للسياق ، وذلك أن الله تعالى لما ذكر أن إبراهيم إنما استغفر لأبيه مع شدة أذاه له في قوله : { قَالَ أَرَاغِبٌ أَنتَ عَنْ آلِهَتِي ياإبراهيم لَئِن لَّمْ تَنتَهِ لأَرْجُمَنَّكَ واهجرني مَلِيّاً * قَالَ سَلاَمٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ ربي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيّاً } [ مريم : 46-47 ] فحلم عنه مع أذاه له ودعا له واستغفر ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } .(1/1091)
وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (116)
يقول تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة وحكمه العادل ، إنه لا يضل قوماً إلا بعد إبلاغ الرسالة إليهم ، حتى يكونوا قد قامت عليهم الحجة ، كما قال تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ } [ فصلت : 17 ] الآية ، قال ابن جرير : يقول تعالى : وما كان الله ليقضي عليكم في استغفاركم لموتاكم المشركين بالضلال بعد إذ رزقكم الهداية ووفقكم للإيمان به وبرسوله ، حتى يتقدم إليكم بالنهي عنه فتتركوا ، فأما قبل أن يبين لكم كراهة ذلك فإنه لا يحكم عليكم بالضلال ، فإن الطاعة والمعصية إنما يكونان من المأمور والمنهي ، وأما من لم يؤمر ولم ينه فغير كائن مطيعاً أو عاصياً فيما لم يؤمر به ولم ينه عنه ، وقوله تعالى : { إِنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } قال ابن جرير : هذا تحريض من الله تعالى لعباده المؤمنين في قتال المشركين وملوك الكفر ، وأنهم يثقوا بنصر الله مالك السماوات والأرض ، ولا يرهبوا من أعدائه ، فإنه لا ولي لهم من دون الله ، ولا نصي لهم سواه . وقال ابن أبي حاتم ، عن حكيم ابن حزام قال : « بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أصحابه إذ قال لهم : » هل تسمعون ما أسمع؟ « ، قالوا : ما نسمع من شيء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إني لأسمع أطيط السماء ، وما تلام أن تئط ، وما فيها من موضع شبر إلا وعليه ملك ساجد أو قائم « .(1/1092)
لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (117)
نزلت هذه الآية في غزوة تبوك ، وذلك لأنهم خرجوا إليها في سنة مجدبة وحر شديد ، وعسر من الزاد والماء ، عن عبد الله بن عباس قال : قيل لعمر بن الخطاب في شأن العسرة ، فقال عمر : « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى تبوك في قيظ شديد ، فنزلنا منزلاً فأصابنا فيه عطش ، حتى ظننا أن رقابنا ستنقطع ، وحتى وإن كان الرجل ليذهب يلتمس الماء فلا يرجع حتى يظن أن رقبته ستنقطع ، وحتى أن الرجل لينحر بعيره فيعصر فرثه فيشربه ويجعل ما بقي على كبده ، فقال : أبو بكر : يا رسول الله! إن الله عزّ وجلّ قد عوّدك في الدعاء خيراً فادع لنا ، فقال : » تحب ذلك؟ « قال : نعم ، فرفع يديه فلم يرجعهما حتى سالت السماء فأهطلت ثم سكنت ، فملؤوا ما معهم ، ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر » ، قال ابن جرير في قوله : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة } أي من النفقة والظهر والزاد والماء ، { مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ } أي عن الحق ، ويشك في دين الرسول صلى الله عليه وسلم ، ويرتاب للذي نالهم من المشقة والشدة في سفرهم وغزوهم ، { ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ } يقول : ثم رزقهم الإنابة إلى ربهم والرجوع إلى الثبات على دينه { إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .(1/1093)
وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)
قال الإمام أحمد عن عبيد الله بن كعب بن مالك ، وكان قائد كعب من بنيه حين عمي قال : سمعت كعب بن مالك يحدث حديثه حين تخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، فقال كعب بن مالك : لم أتخلف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزاة غزاها قط إلا في غزاة تبوك ، غير أني كنت تخلفت في غزاة بدر ولم يعاتب أحد تخلف عنها ، وإنما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير معاد ، ولقد شهدت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة العقبة حين تواثقنا على الإسلام ، وما أحب أن لي بها مشهد بدر ، وإن كانت بدر أذكر في الناس منها وأشهر . وكان من خبري حين تخلفت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك أني لم أكن قط أقوى ولا أيسر مني حين تخلفت عنه في تلك الغزاة ، والله ما جمعت قبلها راحلتين قط حتى جمعتهما في تلك الغزاة .
و « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قلما يريد غزوة يغزوها إلا ورَّى بغيرها ، حتى كانت تلك الغزوة فغزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حر شديد ، واستقبل سفراً بعيداً ومفاوز ، واستقبل عدواً كثيراً فجلى للمسلمين أمرهم ليتأهبوا أهبة عدوهم ، فأخبرهم وجهه الذي يريد ، والمسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم كثير لا يجمعهم كتاب حافظ - يريد الديوان - . قال كعب : فقلَّ رجل يريد أن يتغيب إلا ظن أن ذلك سيخفى عليه ما لم ينزل فيه وحي من الله عزّ وجلّ؛ وغزا رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الغزاة حين طالبت الثمار والظلال ، وأنا إليها أصغر ، فتجهز إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنون معه ، فطفقت أغدو لكي أنجز معهم ، فأرجع ولم أقض من جهازي شيئاً ، فأقول لنفسي : أنا قادر على ذلك إذا أردت ، فلم يزل ذلك يتمادى بي ، حتى استمر بالناس الجد ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم غادياً والمسلمون معه ، ولم أقض من جهازي شيئاً ، وقلت : أتجهز بعد يوم أو يومين ثم ألحقه ، فغدوت بعد ما فصلوا لأتجهز فرجعت ولم أقض من جهازي شيئاً ، ثم غدوت فرجعت ولم أقض شيئاً ، فلم يزل ذلك يتمادى بي حتى أسرعوا وتفارط الغزو ، فهممت أن أرتحل فألحقهم وليت أني فعلت ، ثم لم يقدر ذلك لي ، فطفقت إذا خرجت في الناس بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم يحزنني أني لا أرى إلا رجلاً مغموصاً عليه في النفاق ، أو رجلاً ممن عذره الله عزّ وجلّ ، ولم يذكرني رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى بلغ تبوك ، فقال : وهو جالس في القوم بتبوك : » ما فعل كعب بن مالك «؟ فقال رجل من بني سلمة : حبسه يا رسول الله براده والنظر في عطفيه ، فقال معاذ بن جبل : بئسما قلت : والله يا رسول الله ما علمنا عنه إلا خيراً ، فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم .
قال كعب بن مالك : فلما بلغني أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد توجه قافلاً من تبوك حضرني بثي ، وطفقت أتذكر الكذب ، وأقول : بماذا أخرج من سخطه غداً ، وأستعين على ذلك بل ذي رأي من أهلي ، فلما قيل : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أظل قادماً راح عني الباطل ، وعرفت أني لم أنج منه شيء أبداً ، فأجمعت صدقه ، فأصبح رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان إذا قدم من سفر بدا بالمسجد فصلى ركعتين ، ثم جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المتخلفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً ، فيقبل منهم رسول الله صلى الله عليه وسلم علانيتهم ، ويستغفر لهم ويكل سرائرهم إلى الله تعالى ، حتى جئت فلما سلمت عليه تبسم تبسم المغضب ، ثم قال لي : » تعال « ، فجئت أمشي حتى جلست بين يديه ، فقال لي : » ما خلفك ، ألم تكن قد اشتريت ظهراً؟ « فقلت : يا رسول الله إني لو جلست عند غيرك من الدنيا لرأيت أن أخرج من سخطه بعذر ، لقد أعطيت جدلاً ، ولكني والله لقد علمت لئن حدثتك بحديث كذب ترضى به عني ليوشكن الله أن يسخطك عليّ ، ولئن حدثتك بصدق تجد عليَّ فيه إني لأرجو عقبى ذلك من الله عزّ وجلّ؛ والله ما كان لي عذر ، والله ما كنت قط أفرغ ولا أيسر مني حين تخلفت عنك ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أما هذا فقد صدق ، فقم حتى يقضي الله فيك « ، وقام إلى رجال من بني سلمة واتبعوني ، فقالوا : والله ما علمناك كنت أذنبت ذنباً قبل هذا ، ولقد عجزت أن لا تكون اعتذرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بما اعتذر به المتخلفون ، فقد كان كافيك من ذنبك استغفار رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : والله ما زالوا يؤنبوني حتى أردت أن أرجع فأكذب نفسي ، قال : ثم قلت لهم : هل لقي معي هذا أحد؟ قالوا : نعم لقيه معك رجلان ، قالا مثل ما قلت : وقيل لهما مثل ما قيل لك ، فقلت : فمن هما؟ قالوا : مرارة بن الربيع العامري وهلال بن أمية الواقفي ، فذكروا لي رجلين صالحين قد شهدا بدراً فيهما أسوة ، قال : فمضيت حين ذكروهما لي ، قال : ونهى رسول الله صلى الله عليه وسلم المسلمين عن كلامنا أيها الثلاثة من بين من تخلف عنه ، فاجتنبنا الناس ، وتغيروا لنا ، حتى تنكرت لي في نفسي الأرض ، فما هي بالأرض التي كنت أعرف ، فلبثنا على ذلك خمسين ليلة »(1/1094)
ثم ذكر تتمة الحديث .
قال : وأنزل الله تعالى : { لَقَدْ تَابَ الله على النبي والمهاجرين والأنصار الذين اتبعوه فِي سَاعَةِ العسرة مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ * وَعَلَى الثلاثة الذين خُلِّفُواْ حتى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأرض بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وظنوا أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ الله إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ ليتوبوا إِنَّ الله هُوَ التواب الرحيم * ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } . ولما ذكر تعالى ما فرج به عن هؤلاء الثلاثة من الضيق والكرب من هجر المسلمين إياهم نحواً من خمسين ليلة بأيامها وضاقت عليهم أنفسهم وضاقت عليهم الأرض بما رحبت أي مع سعتها ، فسدت عليها المسالك والمذاهب ، فلا يهتدون ما يصنعون ، فصيروا لأمر الله واستكانوا لأمر الله ، وثبتوا حتى فرج الله عنهم بسبب صدقهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في تخلفهم ، وأنه كان عن غير عذر ، فعوقبوا على ذلك هذه المدة ثم تاب الله عليهم ، فكان عاقبة صدقهم خيراً لهم وتوبة عليهم ، ولهذا قال : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } أي اصدقوا والزموا الصدق تكونوا من أهل وتنجوا من المهالك ، ويجعل لكم فرجاً من أموركم ومخرجاً ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أنه قال : الكذب لا يصلح منه جد ولا هزل ، اقرأوا إن شئتم : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَكُونُواْ مَعَ الصادقين } ، وقال الحسن البصري : إن أردت أن تكون مع الصادقين فعليك بالزهد في الدنيا والكف عن أهل الملة .(1/1095)
مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَلَا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلَا نَصَبٌ وَلَا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَطَئُونَ مَوْطِئًا يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلَا يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)
يعاتب تبارك وتعالى المتخلفين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك من أهل المدينة ومن حولها من أحياء العرب ، ورغبتهم بأنفسهم عن مواساته فيما حصل له من المشقة ، فإنهم نقصوا أنفسهم من الأجر ، لأنهم { لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ } وهو العطش { وَلاَ نَصَبٌ } وهو التعب { وَلاَ مَخْمَصَةٌ } وهي المجاعة { وَلاَ يَطَأُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الكفار } أي ينزلوا منزلاص يرهب عدوهم ، { وَلاَ يَنَالُونَ } منه ظفراً وغلبة عليه ، { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ } بهذه الأعمال التي ليست داخلة تحت قدرهم وإنما هي ناشئة عن أفعالهم أعمالاً صالحة وثواباً جزيلاً ، { إِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } . كقوله : { إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً } [ الكهف : 30 ] .(1/1096)
وَلَا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً وَلَا يَقْطَعُونَ وَادِيًا إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (121)
يقول تعالى : ولا ينفق هؤلاء الغزاة في سبيل الله { نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً } أي قليلاً ولا كثيراً ، { وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً } أي في السير إلى الأعداء ، { إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ } ، ولم يقل هاهنا به لأن هذه أفعال صادرة عنهم ، ولهذا قال : { لِيَجْزِيَهُمُ الله أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، وقد حصل لأمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه من هذه الآية الكريمة حظ وافر ونصيب عظيم؛ وذلك لأنه أنفق في هذه الغزوة النفقات الجليلة والأموال الجزيلة ، كما روي « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب فحث على جيش العسرة ، فقال عثمان بن عفان رضي الله عنه : عليَّ مائة بعير بأحلاسها وأقتابها ، قال : ثم حث فقال عثمان : علي مائة بعير أخرى بأحلاسها وأقتابها قال : ثم نزل مرقاه من المنبر ، ثم حث ، فقال عثمان بن عفان : علي مائة أخرى بأحلاسها وأقتابها ، قال : فرأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال بيده هكذا يحركها ، » ما على عثمان ما عمل بعد هذا « وعن عبد الرحامن بن سمرة قال : » جاء عثمان رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم بألف دينار في ثوبه حين جهز النبي صلى الله عليه وسلم جيش العسرة ، قال : فصبها في حجر النبي صلى الله عليه وسلم فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم يقلبها بيده ، ويقول : « ما ضر ابن عفان ما عمل بعد اليوم » يرددها مراراً « ، وقال قتادة في قوله تعالى : { وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ } الآية ، ما ازداد قوم في سبيل الله بعداً من أهليهم إلا ازدادوا قرباً من الله .(1/1097)
وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)
هذا بيان من الله تعالى لما أراد من نفير الأحياء مع الرسول صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك ، عن ابن عباس في الآية : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } ، يقول : ما كان المؤمنون لينفروا جميعاً ويتركوا النبي صلى الله عليه وسلم وحده : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } يعني عصبة ، يعني السرايا ولا يسيروا إلا بإذنه ، فإذا رجعت السرايا وقد أنزل بعدهم قرآن تعلمه القاعدون من النبي صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : أنزل على نبيكم قرآناً ، وقد تعلمناه فتمكث السرايا يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم بعدهم ، ويبعث سرايا أخرى ، فذلك قوله : { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين } يقول : ليعلموا ما أنزل الله على نبيهم ، وليعلموا السرايا إذا رجعت إليهم { لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } . وقال مجاهد : نزلت هذه الآية في أناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا في البوادي ، فأصابوا من الناس معروفاً ، ومن الخصب ما ينتفعون به ، ودعوا من وجدوا من الناس إلى الهدى ، فقال الناس لهم : ما نراكم إلا وقد تركتم أصحابكم وجئتمونا ، فوجدوا من أنفسهم من ذلك تحرجاً ، وأقبلوا من البادية كلهم حتى دخلوا على النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال الله عزّ وجلّ : { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } يبغون الخير { لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدين } وليستمعوا إلى ما أنزل الله ، { وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ } الناس كلهم { إِذَا رجعوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } ، وقال الضحاك : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا غزا بنفسه لم يحل لأحد من المسلمين أن يتخلف عنه إلا أهل الأعذار ، وكان إذا أقام وأرسل السرايا لم يحل لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه ، وكان الرجل إذا غزا فنزل بعده قرآن وتلاه نبي الله صلى الله عليه وسلم على أصحابه القاعدين معه ، فإذا رجعت السرية قال لهم الذين أقاموا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنا فيقرئونهم ويفقهونهم في الدين ، وهو قوله : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } ، يقول : إذا أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم { فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ } يعني ذلك أنه لا ينبغي للمسلمين أن ينفروا جميعاً ، ونبي الله صلى الله عليه وسلم قاعد ، ولكن إذا قعد نبي الله فسرت السرايا وقعد معه معظم الناس . وقال عكرمة : لما نزلت هذه الآية : { إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً } [ التوبة : 39 ] ، { مَا كَانَ لأَهْلِ المدينة } [ التوبة : 120 ] الآية ، قال المنافقون : هلك أصحاب البدو والذين تخلفوا عن محمد ولم ينفروا معه ، وقد كان ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم خرجوا إلى البدو إلى قومهم يفقهونهم ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَمَا كَانَ المؤمنون لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً } الآية .(1/1098)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123)
أمر الله تعالى المؤمنين أن يقاتلوا الكفار الأقرب فالأقرب إلى حوزة الإسلام ، ولهذا بدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقتال المشركين في جزيرة العرب ، فلما فرغ منهم وقتح الله عليه مكة والمدينة والطائف وغير ذلك من أقاليم جزيرة العرب ، ودخل الناس من سائر أحياء العرب في دين الله أفواجاً شرع في قتال أهل الكتاب ، فتجهز لغزو الروم لأنهم أهل الكتاب ، فبلغ تبوك ، ثم رجع لأجل جهد الناس وجدب البلاد وضيق الحال ، وذلك سنة تسع من هجرته عليه السلام . ثم اشتغل في السنة العاشرة بحجة الوداع ، ثم عاجلته المنية صلوات الله وسلامه عليه بعد حجته بأحد وثمانين يوماً ، فاختاره الله لما عنده ، وقام بالأمر بعده وزيره وخليفته أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فأدى عن الرسول ما حمله ، ثم شرع في تجهيز الجيوش الإسلامية إلى الروم عبدة الصلبان ، وإلى الفُرس عبدة النيران ، ففتح الله ببركة سفارته البلاد ، وأرغم أنف كسرى وقيصر ومن أطاعهما من العباد ، وأنفق كنوزهما في سبيل الله ، كما أخبر بذلك رسول الله ، وكان تمام الأمر على يدي وصيه من بعده ، وولي عهده الفاروق عمر بن الخطاب ، رضي الله عنه ، فأرغم الله بن أنوف الكفرة الملحدين ، واستولى على الممالك شرقاً وغرباً ، ثم لما مات أجمع الصحابة من المهاجرين والأنصار على خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه شهيد الدار ، فكسى الإسلام حلة سابغة ، وأمدت في سائر الأقاليم على رقاب العباد حجة الله البالغة فظهر الإسلام في مشارق الأرض ومغاربها . وعلت كلمة الله وظهر دينه ، وبلغت الملة الحنيفية من أعداء الله غاية مآربها ، وكلما علوا أمة انتقلوا إلى من بعدهم ثم الذين يلونهم من العتاة الفجار امتثالاً لقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار }
وقوله تعالى : { وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً } أي وليجد الكفار منكم غلظة عليهم في قتالكم لهم ، فإن المؤمن الكامل هو الذي يكون رفيقاً بأخيه المؤمن ، غليظاً على عدوه الكافر ، كقوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } [ المائدة : 54 ] ، وقوله تعالى : { أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] ، وقال تعالى : { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73 ] ، وفي الحديث : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أنا الضحوك القتال » ، يعني أنه ضحوك في وجه وليه . قتال لهامة عدوه . وقوله : { واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } أي قاتلوا الكفار ، وتوكلوا على الله ، واعملوا أن الله معكم إذا اتقيتموه وأطعتموه ، وهكذا الأمر لما كانت القرون الثلاثة الذين هم خير هذه الأمة في غاية الاستقامة والقيام بطاعة الله تعالى لم يزالوا ظاهرين على عدوهم ، ولم تزل الفتوحات كثيرة ، ثم لما وقعت الفتن والأهواء والاختلافات بين الملوك طمع الأعداء في البلاد ، ثم لم يزالوا حتى استحوذوا على كثير من بلاد الإسلام ، ولله الأمر من قبل ومن بعد .(1/1099)
وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ (125)
يقول تعالى : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ } ، فمن المنافقين { مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً } أي يقول بعضهم لبعض ، وفي الآية الدلائل على أن الإيمان يزيد وينقص كما هو مذهب أكثر السلف والخلف من أئمة العلماء ، { وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ } أي زادتهم شكاً إلى شكهم وريباً إلى ريبهم ، كما قال تعالى : { والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [ فصلت : 44 ] ، وهذه من جملة شقائهم أن ما يهدي القلوب يكون سبباً لضلالهم ودمارهم ، كما أن سيء المزاج لو غذي بما غذي به لا يزيده إلا خبالاً ونقصاً .(1/1100)
أَوَلَا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لَا يَتُوبُونَ وَلَا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَفْقَهُونَ (127)
يقول تعالى : أولا يرى هؤلاء المنافقون ، { أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ } أي يختبرون ، { فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ } أي لا يتوبون عن ذنوبهم السالفة ، ولا هم يذكرون فيما يستقبل من أحوالهم . قال مجاهد : يخترون بالسنة والجوع ، وقال قتادة : بالغزو في السنة مرة أو مرتين ، وقوله : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } هذا أيضاً إخبار عن المنافقين أنهم إذا أنزلت سورة على رسول الله صلى الله عليه وسلم { نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } أي تلفتوا { هَلْ يَرَاكُمْ مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصرفوا } أي تولوا عن الحق وانصرفوا عنه ، وهذا حالهم في الدنيا لا يثبتون عند الحق ولا يقبلونه ولا يفهمونه كقوله تعالى : { فَمَا لَهُمْ عَنِ التذكرة مُعْرِضِينَ * كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُّسْتَنفِرَةٌ } [ المدثر : 49-50 ] ، وقوله : { ثُمَّ انصرفوا صَرَفَ الله قُلُوبَهُم } ، كقوله : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } [ فصلت : 5 ] ، وقوله : { بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ } أي لا يفهمون عن الله خطابه ، ولا يتصدون لفهمه ولا يريدونه ، بل هم في شغل عنه ونفور منه ، فلهذا صاروا إلى ما صاروا إليه .(1/1101)
لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)
يقول تعالى : ممتناً على المؤمنين بما أرسل إليهم رسولاً من أنفسهم أي من جنسهم وعلى لغتهم ، كما قال إبراهيم عليه السلام : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 129 ] ، وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } [ آل عمران : 164 ] ، قال تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ } أي منكم وبلغتكم ، وقوله تعالى : { عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ } أي يعز عليه الشيء الذي يعنت أمته ويشق عليها ، وشريعته كلها سهلة كاملة يسيرة على من يسرها الله تعالى عليه ، { حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ } أي على هدايتكم ووصول النفع الدنيوي والأخروي إليكم ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله لم يحرم حرمة إلا وقد علم أنه سيطلعها منكم مطلع ، ألا وإني آخذ بحجزكم أن تهافتوا في النار كتهافت الفراش والذباب » . « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه ملكان فيما يرى النائم ، فقعد أحدهما عند رجليه والآخر عند رأسه ، فقال الذي عند رجليه للذي عند رأسه : أضرب مثل هذا ومثل أمته ، فقال : إن مثله ومثل أمته كمثل قوم سفر انتهوا إلى رأس مفازة ولم يكن معهم من الزاد ما يقطعون به المفازة ولا ما يرجعون به ، فبينما هم كذلك إذ أتاهم رجل في حلة حبرة فقال : أرأيتم إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء تتبعوني؟ فقالوا : نعم ، قال : فانطلق بهم فأوردهم رياضاً معشبة وحياضاً رواء ، فأكلوا وشربوا وسمنوا ، فقال لهم : ألم ألقكم على تلك الحال فجعلتم لي إن وردت بكم رياضاً معشبة وحياضاً رواء أن تتبعوني؟ فقالوا : بلى ، فقال : فإن بين أيديكم رياضاً هي أعشب من هذه وحياضاً هي أروى من هذه فاتبعوني ، فقالت طائفة : صدق والله لنتبعنَّه ، وقالت طائفة : قد رضينا بهذا نقيم عليه » وقوله : { بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } كقوله : { واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } [ الشعراء : 215 ] { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي تولوا عما جئتهم به من الشريعة العظيمة المطهرة الكاملة الشاملة { فَقُلْ حَسْبِيَ الله لا إله إِلاَّ هُوَ } أي الله كافي ، لا إله إلا هو عليه توكلت ، كما قال تعالى : { رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً } [ المزمل : 9 ] ، { وَهُوَ رَبُّ العرش العظيم } أي هو مالك كل شيء وخالقه ، لأنه رب العرش العظيم وجميع الخلائق من السماوات والأرضين وما فيهما وما بينهما تحت العرش ، مقهورون بقدرة الله تعالى ، وعلمه محيط بكل شيء ، وقدره نافذ في كل شيء ، وهو على كل شيء وكيل ، وقد روى أبو داود عن أبي الدرداء قال : من قال إذا أصبح وإذا أمسى : حسبي الله ، لا إله إلا هو ، عليه توكلت ، وهو رب العرش العظيم ، سبع مرات إلا كفاه الله ما أهمه .(1/1102)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَبًا أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُبِينٌ (2)
أما الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تقدم الكلام عليها في أوائل سورة البقرة .
وقال ابن عباس { الر } أي أنا الله أرى ، وكذلك قال الضحاك وغيره ، { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب الحكيم } أي هذه آيات القرآن المحكم المبين ، وقال الحسن : التوراة والزبور ، وقال قتادة : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب } قال : الكتب التي كانت قبل القرآن ، وهذا القول لا أعرف وجهه ومعناه ، وقوله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } يقول تعالى منكراً على من تعجب من الكفار ، ومن إرسال المرسلين ن البشر ، كما أخبر تعالى عن القرون الماضين من قولهم : { أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } ؟ [ التغابن : 6 ] وقال هود وصالح لقومهما : { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنْكُمْ } ؟ [ الأعراف : 63 ] وقال تعالى مخبراً عن كفار قريش : { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } ؟! [ ص : 5 ] وقال ابن عباس : لما بعث الله تعالى محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم ، فقالو : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً مثل محمد ، قال : فأنزل الله عزّ وجلّ { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً } الآية ، وقوله : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } اختلفوا فيه ، فقال ابن عباس : سبقت لهم السعادة في الذكر ، وقال العوفي عنه : { أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ } يقول : أجراً حسناً بما قدموا ، وقال مجاهد : الأعمال الصالحة ، صلاتهم وصومهم وصدقتهم وتسبيحهم ، قال : ومحمد صلى الله عليه وسلم يشفع لهم؛ وقال قتادة : سلف صدق عند ربهم؛ واختار ابن جرير قول مجاهد : إنها الأعمال الصالحة التي قدموها ، كما يقال : له قدم في الإسلام ، كقول حسان :
لنا القدز العليا إليك وخلفنا ... لأولنا في طاعة الله تابع
وقول ذي الرمة :
لكم قدم لا ينكر الناس أنها ... مع الحسب العاديِّ طَمَّتْ على البحر
وقوله تعالى : { قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } أي مع أنا بعثنا إليهم رسولاً منهم رجلاً من جنسهم بشيراً ونذيراً ، { قَالَ الكافرون إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ } أي ظاهر ، وهم الكاذبون في ذلك .(1/1103)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3)
يخبر تعالى أنه رب العالم جميعه ، وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، قيل : كهذه الأيام ، وقيل : كل يوم كألف سنة مما تعدون ، كما سيأتي بيانه ، ثم استوى على العرش ، والعرش أعظم المخلوقات وسقفها ، وهو ياقوتة حمراء ، وقوله : { يُدَبِّرُ الأمر } أي يدبر الخلائق { لاَ يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } [ سبأ : 3 ] ولا يشغله شأن عن شأن ، ولا يتبرم بإلحاح الملحين ، ولا يلهيه تدبير الكبير عن الصغير ، في الجبال والبحار والعمران والقفار { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] الآية ، { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] . وقوله : { مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ } ، كقوله تعالى : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ البقرة : 255 ] ، وكقوله تعالى : { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى } [ النجم : 26 ] ، وقوله : { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] ، وقوله : { ذلكم الله رَبُّكُمْ فاعبدوه أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أي أفردوه بالعبادة وحده لا شريك له ، { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أيها المشركون في أمركم تعبدون مع الله إلهاً غيره ، وأنتم تعلمون أنه المتفرد بالخلق ، كقوله تعالى : { وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ الله } [ الإسراء : 87 ] .(1/1104)
إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (4)
يخبر تعالى أن إليه مرجع الخلائق يوم القيامة لا يترك منهم أحداً حتى يعيده كما بدأه ، ثم ذكر تعالى أنه كما بدأ الخلق كذلك يعيده ، { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] ، { لِيَجْزِيَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات بالقسط } أي بالعدل والجزاء الأوفى ، { والذين كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } ، أي بسبب كفرهم يعذبون يوم القيامة بأنواع العذاب من سموم وحميم وظل من يحموم ، { هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَغَسَّاقٌ } [ ص : 57 ] .(1/1105)
هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالْقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللَّهُ ذَلِكَ إِلَّا بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)
يخبر تعالى عما خلق من الآيات الدالة على كمال قدرته وعظيم سلطانه ، وأنه جعل الشعاع الصادر عن جرم الشمس ضياء ، وجعل شعاع القمر نوراً ، هذا فن وهذا فن آخر؛ ففاوت بينهما لئلا يشتبها ، وجعل سلطان الشمس بالنهار ، وسلطان القمر بالليل ، وقدّر القمر منازل ، فأول ما يبدو صغيراً ، ثم يتزايد نوره وجرمه حتى يستوسق ويكمل إبداره ، ثم يشرع في النقص حتى يرجع إلى حالته الأولى في تمام شهر ، كقوله تعالى : { والقمر قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حتى عَادَ كالعرجون القديم } [ يس : 39 ] . وقوله تعالى : { والشمس والقمر حُسْبَاناً } [ الأنعام : 96 ] ، { وَقَدَّرَهُ } أي القمر ، { مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } فبالشمس تعرف الأيام ، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام ، { مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق } أي لم يخلقه عبثاً بل له حكمة عظيمة في ذلك وحجة بالغة ، كقوله تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } [ ص : 27 ] ، وقال تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ } [ المؤمنون : 115 ] ، وقوله : { يُفَصِّلُ الآيات } أي نبين الحجج والأدلة ، { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ، وقوله : { إِنَّ فِي اختلاف اليل والنهار } أي تعاقبهما إذا جاء هذا ذهب هذا ، وإذا ذهب هذا جاء هذا ، لا يتأخر عنه شيئاً كقوله تعالى : { يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } [ الأعراف : 54 ] ، وقال : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر } [ يس : 40 ] الآية ، وقوله : { وَمَا خَلَقَ الله فِي السماوات والأرض } أي من الآيات الدالة على عظمته تعالى ، كما قال : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض } [ يوسف : 105 ] الآية ، وقوله : { قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض } [ يونس : 101 ] ، وقال : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } [ آل عمران : 190 ] أي العقول ، وقال هاهنا { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ } ، أي عقاب الله وسخطه وعذابه .(1/1106)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا وَرَضُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّوا بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمُ النَّارُ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (8)
يقول تعالى مخبراً عن حال الأشقياء الذين كفروا بلقاء الله يوم القيامة ولا يرجون في لقائه شيئاً . ورضوا بهذه الحياة الدنيا واطمأنت إليهم نفوسهم { إِنَّ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا وَرَضُواْ بالحياة الدنيا واطمأنوا بِهَا } الآية ، قال الحسن : والله ما زينوها ولا رفعوها حتى رضوا بها ، وهم غافلون عن آيات الله الكونية ، فلا يتفكرون فيها ، والشرعية فلا يأتمرون بها بأن مأواهم يوم معادهم النار جزاء ما كانوا يكسبون في دنياهم من الآثام والخطايا والإجرام ، مع ما هم فيه من الكفر بالله ورسوله واليوم الآخر .(1/1107)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)
هذا إخبار عن حال السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين ، وامتثلوا ما أمروا به ، فعملوا الصالحات ، بأنه سيهديهم بإيمانهم ، أي بسبب إيمانهم في الدنيا يهديهم الله يوم القيامة على الصراط المستقيم حتى يجوزوه ويخلصوا إلى الجنة ، ويحتمل أن تكون للاستعانة ، كما قال مجاهد في قوله : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } قال : يكون لهم نوراص يمشون به ، وقال ابن جريج : في الآية يمثل له عمله في صورة حسنة إذا قام من قبره يبشره بكل خير ، فيقول له : من أنت؟ فيقول : أن عملك ، فيجعل له نوره من بين يديه حتى يدخله الجنة ، فذلك قوله تعالى : { يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ } والكافر يمثل له عمله في صورة سيئة وريح منتنة ، فيلزم صاحبه حتى يقذفه في النار .
وقوله تعالى : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } أي هذا حال أهل الجنة ، قال ابن جريج : أخبرت أنه إذا مر بهم الطير يشتهونه قالوا : سبحانك اللهم ، وذلك دعواهم فيأتيهم الملك بما يشتهونه ، فيسلم عليهم فيردون عليه ، فذلك قوله : { وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } قال : فإذا أكلوا حمدوا الله ربهم ، فذلك قوله : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } ، وقال مقاتل : إذا أراد أهل الجنة أن يدعوا بالطعام قال أحدهم : { سُبْحَانَكَ اللهم } قال : فيقوم على أحدهم عشرة آلاف خادم مع كل خادم صحفة من ذهب فيها طعام ليس في الأخرى ، قال : فيأكل منهن كلهن ، وهذه الآية فيها شبه من قوله : { تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلاَمٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً } [ الأحزاب : 44 ] ، وقوله : { إِلاَّ قِيلاً سَلاَماً سَلاَماً } [ الواقعة : 26 ] ، وقوله : { سَلاَمٌ قَوْلاً مِّن رَّبٍّ رَّحِيمٍ } [ يس : 58 ] ، وقوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23-24 ] الآية ، وقوله : { وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } فيه دلالة على أنه تعالى هو المحمود أبداً ، المعبود على طول المدى ، ولهذا حمد نفسه عند ابتداء خلقه ، وفي ابتداء كتابه ، وعند ابتداء تنزيله ، حيث يقول تعالى : { الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب } [ الكهف : 1 ] { الحمد للَّهِ الذي خَلَقَ السماوات والأرض } [ الأنعام : 1 ] إلى غير ذلك من الأحوال التي يطول بسطها وأنه المحمود في الأولى والآخرة في جميع الأحوال ، ولهذا جاء في الحديث : « إن أهل الجنة يلهمون التسبيح والتحميد كما يلهمون النفس » ، وإنما يكون ذلك كذلك لما يرون من تزايد نعم الله عليهم ، فتكرر وتعاد وتزداد ، فليس لها انقضاء ولا أمد ، فلا إله إلا هو ولا رب سواه .(1/1108)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)
يخبر تعالى عن حلمه ولطفه بعباده ، أنه لا يستجيب لهم إذا دعوا على أنفسهم أو أولادهم بالشر ، في حال ضجرهم وغضبهم ، وأنه يعلم منهم عدم القصد إلى إرادة ذلك ، فلهاذا لا يستجيب لهم والحالة هذه لطفاً ورحمة ، كما يستجيب لهم إذا دعوا لأنفسهم أو لأولادهم بالخير والبركة ، ولهذا قال : { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر استعجالهم بالخير لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ } الآية : أي لو استجاب لهم كل به في ذلك لأهلكهم ، ولكن لا ينبغي الإكثار من ذلك ، كماء جاء في الحديث الذي رواه جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تدعوا على أنفسكم ، لا تدعوا على أولادكم ، لا تدعوا على أموالكم ، لا توافقوا من الله ساعة فيها إجابة فيستجيب لكم » ، وهذا كقوله تعالى : { وَيَدْعُ الإنسان بالشر دُعَآءَهُ بالخير } [ الإسراء : 11 ] الآية ، وقال مجاهد في تفسير هذه الآية : هو قول الإنسان لولده أو ماله إذا غضب عليه : اللهم لا تبارك فيه والعنه ، فلو يعجل لهم الاستجابة في ذلك كما يستجاب لهم في الخير لأهلكهم .(1/1109)
وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلَائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)
أخبر تعالى عما أحل بالقرون الماضية ، في تكذيبهم الرسل فيما جاءوهم به من البينات ، استخلف الله هؤلاء القوم من بعدهم ، وأرسل إليهم رسولاً لينظر طاعتهم له ، واتباعهم رسوله ، وفي صحيح مسلم : « إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر كيف تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت من النساء » .(1/1110)
وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لَا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (16)
يخبر تعالى عن تعنت من مشركي قريش الجاحدين المعرضين عنه ، أنهم إذا قرأ عليهم الرسول صلى الله عليه وسلم كتاب الله وحججه الواضحة قالوا له : ائت بقرآن غير هذا ، أي رد هذا وجئنا بغيره من نمط آخر أو بدله إلى وضع آخر ، قال الله تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم : { قُلْ مَا يَكُونُ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَآءِ نفسي } أي ليس هذا إليّ إنما أنا عبد مأمور ، ورسول مبلّغ عن الله ، { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } ، ثم قال محتجاً عليهم في صحة ما جاءهم به؛ { قُل لَّوْ شَآءَ الله مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُمْ بِهِ } أي هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته ، والدليل على أني لست أتقوله من عندي ، ولا افتريته أنكم عاجزون عن معارضته ، وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عزّ وجلّ ، لا تنتقدون عليَّ شيئاً تغمصوني به ، ولهذا قال : { فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي أفليس لكم عقول تعرفون بها الحق من الباطل؟ ولهذا لما سأل هرقل ملك الروم ( أبا سفيان ) قال له : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال أبو سفيان : فقلت : لا ، وكان أبو سفيان إذ ذاك رأس الكفرة وزعيم المشركين ، ومع هذا اعترف بالحق ( والفضل ما شهدت به الأعداء ) فقال له هرقل : فقد أعرف أنه لم يكن ليدع الكذب على الناس ثم يذهب ليكذب على الله . وقال جعفر بن أبي طالب للنجاشي ملك الحبشة : بعث الله فينا رسولاً تعرف صدقه ونسبه وأمانته ، وقد كانت مدة مقامه عليه السلام بين أظهرنا قبل النبوة أربعين سنة .(1/1111)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)
يقول تعالى : لا أحد أظلم ولا أعتى ولا أشد إجراماً { مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } ، وتقوّل على الله ، وزعم أن الله أرسله ولم يكن كذلك ، فليس أحد أكبر جرماً ولا أعظم ظلماً من هذا ، ومثل هذا لا يخفى أمره على الأغبياء فكيف يشتبه حال هذا بالأنبياء؟ فإن من قال هذه المقالة صادقاً أو كاذباً فلا بدّ أن الله ينصب عليه من الأدلة على بره أو فجوره ما هو أظهر من الشمس ، فإن الفرق بين محمد صلى الله عليه وسلم وبين مسيلمة الكذاب لمن شاهدهما أظهر من الفرق بين الضحى وبين حندس الظلماء ، قال عبد الله بن سلام : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة انجفل الناس فكنت فيمن انجفل ، فلما رأيته عرفت أن وجهه ليس بوجه كذاب ، قال : فكان أول ما سمعته يقول : « يا أيها الناس أفشوا السلام ، وأطعموا الطعام ، وصلوا الأرحام ، وصلوا الليل والناس نيام ، تدخلوا الجنة بسلام » و « لما وقد ضمام بن ثعلبة على رسول الله صلى الله عليه وسلم في قومه بني سعد بن بكر قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم فيما قاله : من رفع هذه السماء؟ قال : » الله « ، ومن نصب هذه الجبال؟ قال : » الله « ، قال : ومن سطح هذه الأرض؟ قال : » الله « ، قال : فبالذي رفع هذه السماء ونصب هذه الجبال وسطح هذه الأرض الله أرسلك إلى الناس كلهم؟ قال : » اللهم نعم « ، ثم سأله عن الصلاة والزكاة والحج والصيام ويحلف عند كل واحدة هذه اليمين ، ويحلف له رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : صدقت ، والذي بعثك بالحق لا أزيد على ذلك ولا أنقص » ، فقد أيقن بصدقه صلوات الله وسلامه عليه بما رأى وشاهد من الدلائل الدالة عليه ، قال حسان بن ثابت :
لو لم تكن فيه آيات مبينة ... كانت بديهته تأتيك بالخبر
وذكروا أن ( عمرو بن العاص ) وفد على مسيلمة ، وكان صديقاً له في الجاهلية ، وكان عمرو لم يسلم بعد ، فقال له مسيلمة : ويحك يا عمرو ، ماذا أنزل على صاحبكم ، يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم ، في هذه المدة؟ فقال : لقد سمعت أصحابه يقرأون سورة عظيمة قصيرة ، فقال : وما هي؟ فقال : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ } [ العصر : 1-2 ] إلى آخر السورة ، ففكر مسيلمة ساعة ، ثم قال : وأنا قد أنزل عليَّ مثله ، فقال : وما هو؟ فقال : ( ويا وبر ، يا وبر ، إنما أنت أذنان وصدر وسائرك حفر نقر ) ، كيف ترى يا عمرو ، فقال له عمرو : والله إنك لتعلم أني أعلم أنك تكذب . فإذا كان هذا من مشرك في حال شركه لم يشتبه عليه حال محمد صلى الله عليه وسلم وصدقه ، وحال مسيلمة لعنه الله وكذبه ، فكيف بأولي البصائر والنهى ، وأصحاب العقول السليمة المستقيمة والحجى؟ ولهذا قال تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ المجرمون } ، وكذلك من كذب بالحق الذي جاءت به الرسل ، وقامت عليه الحجج ، لا أحد أظلم منه كما في الحديث : « أعتى الناس على الله رجل قتل نبياً أو قتله نبي » .(1/1112)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19)
ينكر تعالى على المشركين الذي عبدوا مع الله غيره ظانين أن تلك الآلهة تنفعهم شفاعتها عند الله ، فأخبر تعالى أنها لا تضر ولا تنفع ولا تملك شيئاً ، ولا يقع شيء مما يزعمون فيها ولا يكون هذا أبداً ، ولهذا قال تعالى : { قُلْ أَتُنَبِّئُونَ الله بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السماوات وَلاَ فِي الأرض } قال ابن جرير : معناه أتخبرون الله بما لا يكون في السماوات ولا في الأرض؟ ثم نزه نفسه الكريمة عن شركهم وكفرهم فقال : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } ، ثم أخبر تعالى أن هذا الشرك حادث في الناس كائن بعد أن لم يكن ، وأن الناس كلهم كانوا على دين واحد وهو الإسلام ، قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ، ثم وقع الاختلاف بين الناس وعبدت الأصنام والأنداد والأوثان ، فبعث الله الرسل بآياته وبيّناته وحججه البالغة وبراهينه الدامغة : { لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ويحيى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ } [ الأنفال : 42 ] ، وقوله : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ } الآية ، أي لولا ما تقدم من الله تعالى أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه ، وأنه أجّل الخلق إلى أجل معدود ، لقضى بينهم فيما اختلفوا فيه ، فأسعد المؤمنين وأعنت الكافرين .(1/1113)
وَيَقُولُونَ لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20)
أي ويقول هؤلاء الكفرة المكذبون المعاندون : لولا أنزل على محمد آية من ربه ، يعنون : كما أعطى الله ثمود الناقة ، أو أن يحول لهم الصفا ذهباً ، أو يزيح عنهم جبال مكة ويجعل مكانها بساتين وأنهاراً ، أو نحو ذلك ، مما الله عليه قادر ، ولكنه حكيم في أفعاله وأقواله ، كما قال تعالى : { تَبَارَكَ الذي إِن شَآءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِّن ذلك جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار وَيَجْعَل لَّكَ قُصُوراً } [ الفرقان : 10 ] ، وكقوله : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } [ الإسراء : 59 ] الآية ، يقول تعالى : إن سنتي في خلقي أني إذا آتيتهم ما سألوا ، فإن آمنوا وإلا عاجلتهم بالعقوبة ، ولهذا لما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين إعطائهم ما سألوا فإن آمنوا وإلا عذبوا ، وبين أنظارهم ، اختار إنظارهم ، كما حمل عنهم غير مرة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال تعالى إرشاداً لنبيّه صلى الله عليه وسلم إلى الجواب عما سألوا : { فَقُلْ إِنَّمَا الغيب للَّهِ } أي الأمر كله لله وهو يعلم العواقب في الأمور ، { فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين } أي إن كنتم لا تؤمنون حتى تشاهدوا ما سألتم فانتظروا حكم الله فيَّ وفيكم ، ولو علم منهم أنهم سألوا ذلك استرشاداً وتثبيتاً لأجابهم ، ولكن علم أنهم إنما يسألون عناداً وتعنتاً فتركهم فيما رابهم ، وعلم أنهم لا يؤمن منهم أحد لما فيهم من المكابرة كقوله تعالى : { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء } [ الحجر : 14 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } [ الأنعام : 7 ] فمثل هؤلاء لا فائدة من جوابهم لأنه دائر على تعنتهم وعنادهم لكثرة فجورهم وفسادهم ، ولهذا قال : { فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين } .(1/1114)
وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْرًا إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُوا بِهَا جَاءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ مَتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)
يخبر تعالى أنه إذا أذاق الناس رحمة من بعد ضراء مستهم كالرخاء بعد الشدة ، والخصب بعد الجدب ، والمطر بعد القحط ، ونحو ذلك { إِذَا لَهُمْ مَّكْرٌ في آيَاتِنَا } قال مجاهد استهزاء وتكذيب ، { قُلِ الله أَسْرَعُ مَكْراً } أي أشد استدراجاً وإمهالاً حتى يظن الظان من المجرمين أنهليس بمعذب ، وإنما هو في مهلة ثم يؤخذ على غرة منه ، والكاتبون الكرام يكتبون عليه جميع ما يفعله ويحصونه عليه ، ثم يعرضونه على عالم الغيب والشهادة فيجازيه على النقير والقطمير ، ثم أخبر تعالى أنه { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر } أي يحفظكم ويكلؤكم بحراسته ، { حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا } أي بسرعة سيرهم رافلين ، فبينما هم كذلك إذ { جَآءَتْهَا } أي تلك السفن { رِيحٌ عَاصِفٌ } أي شديدة ، { وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ } أي اغتلم البحر عليهم ، { وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ } أي هلكوا ، { دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي لا يدعون معه صنماً ولا وثناً يفردونه بالدعاء والابتهال ، كقوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] ، { لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه } أي هذه الحال { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } أي لا نشرك بك أحداً ولنفردنك بالعبادة كما أفردناك بالدعاء هاهنا ، قال الله تعالى : { فَلَمَّآ أَنجَاهُمْ } أي من تلك الورطة ، { إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق } أي كأن لم يكن من ذلك شيء ، { كَأَن لَّمْ يَدْعُنَآ إلى ضُرٍّ مَّسَّهُ } [ يونس : 12 ] ، ثم قال تعالى : { ياأيها الناس إِنَّمَا بَغْيُكُمْ على أَنفُسِكُمْ } أي إنما يذوق وبال هذا البغي أنتم أنفسكم ، ولا تضرون به أحداً غيركم ، كما جاء في الحديث : « ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر الله لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم » ، وقوله : { مَّتَاعَ الحياة الدنيا } أي إنما لكم متاع في الحياة الدنيا الدنيئة الحقيرة ، { ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ } أي مصيركم ومآلكم ، { فَنُنَبِّئُكُمْ } أي فنخبركم بجميع أعمالكم ونوفيكم إياها ، فمن وجد خيراً فليحمد الله ، ومن وجد غير ذلك فلا يلومن إلا نفسه .(1/1115)
إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (25)
ضرب تبارك وتعالى مثلاً لزرهة الحياة الدنيا وزينتها ، وسرعة انقضائها وزوالها ، بالنبات الذي أخرجه الله من الأرض ، مما يأكل الناس من زروع وثمار ، على اختلاف أنواعها وأصنافها ، وما تأكل الأنعام ، { حتى إِذَآ أَخَذَتِ الأرض زُخْرُفَهَا } أي زينتها الفانية؛ { وازينت } أي حسنت بما خرج في رباها من زهور نضرة مختلفة الأشكال والألوان { وَظَنَّ أَهْلُهَآ } الذين زرعوها وغرسوها { أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ } أي على جذاذها وحصادها ، فبينما هم كذلك إذ جاءتها صاعقة أو ريح شديدة باردة ، فأيبست أوراقها وأتلفت ثمارها ، ولهذا قال تعالى : { أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً } أي يابساً بعد الخضرة والنضارة ، { كَأَن لَّمْ تَغْنَ بالأمس } أي كأنها ما كانت حيناً قبل ذلك ، وقال قتادة : { كَأَن لَّمْ تَغْنَ } كأن لم تنعم ، وهكذا الأمور بعد زوالها كأنها لم تكن ، قال تعالى إخباراً عن المهلكين : { فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ * كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } [ هود : 94-95 ] ، ثم قال تعالى : { كذلك نُفَصِّلُ الآيات } أي نبين الحجج والأدلة { لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } فيعتبرون بهذا المثل في زوال الدنيا عن أهلها سريعاً ، مع اغترارهم بها وتلفتها عنهم ، وقد ضرب الله تعالى مثل الدنيا بنبات الأرض من غير ما آية من كتابه العزيز فقال : { واضرب لَهُم مَّثَلَ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرياح وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } [ الكهف : 45 ] ، وكذا في سورة ( الزمر ) و ( الحديد ) يضرب الله بذلك مثل الحياة الدنيا ، وقوله : { والله يدعوا إلى دَارِ السلام } لما ذكر تعالى الدنيا وسرعة زوالها ، رغَّب في الجنة ودعا إليها وسمّاها دار السلام ، أي من الآفات والنقائص والنكبات فقال : { والله يدعوا إلى دَارِ السلام وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
روي عن جابر بن عبد الله رضي الله عنه ، أنه قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال : « إني رأيت في المنام كأن جبريل عند رأسي ، وميكائيل عند رجلي ، يقول أحدهما لصاحبه : اضرب له مثلاً ، فقال : إنما مثلك ومثل أمتك كمثل ملك اتخذ داراً ، ثم بنى فيها بيتاً ثم جعل فيها مأدبة ، ثم بعث رسولاً يدعو الناس إلى طعامه ، فمنهم من أجاب الرسول ، ومنهم من تركه؛ فالله الملك ، والدار الإسلام ، والبيت الجنة ، وأنت يا محمد الرسول ، فمن أجابك دخل الإسلام ، ومن دخل الإسلام دخل الجنة ، ومن دخل الجنة أكل منها » .(1/1116)
لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26)
يخبر تعالى أن لمن أحسن العمل في الدنيا بالإيمان والعمل الصالح ، { الحسنى } في الدار الآخرة { هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان } [ الرحمن : 60 ] ؟ وقوله : { وَزِيَادَةٌ } هي تضعيف ثواب الأعمال ويشمل ما يعطيهم الله في الجنة من القصور والحور والرضا عنهم ، وما أخفاه لهم من قرة أعين ، وأفضل من ذلك وأعلاه ، النظر إلى وجهه الكريم ، فإنه زيادة أعظم من جميع ما أعطوه لا يستحقونها بعملهم بل بفضله ورحمته ، وقد روى تفسير الزيادة بالنظر إلى وجهه الكريم الجمهور من السلف والخلف ، روى الإمام أحمد عن صهيب رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا هذه الآية : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } ، وقال : « إذا دخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار ، نادى منادٍ : يا أهل الجنة إن لكم عند الله موعداً يريد أن ينجزكموه ، فيقولون : وما هو ألم يثقل موازيننا؟ ألم يبيض وجوهنا؟ ويدخلنا الجنة ويجرنا من النار؟ - قال : فيكشف لهم الحجاب فينظرون إليه ، فوالله ما أعطاهم الله شيئاً أحب إليهم من النظر إليه ولا أقر لأعينهم » وعن أبي موسى الأشعري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله يبعث يوم القيامة منادياً ينادي : يا أهل الجنة - بصوت يسمع أولهم وآخرهم - إن الله وعدكم الحسنى وزيادة ، فالحسنى الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الرحمن عزّ وجلّ » وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قول الله عزّ وجلّ . { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } قال : « الحسنى : الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله عزّ وجلّ » ، وقوله تعالى : { وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ } أي قتام وسواد في عرصات المحشر ، كما يعتري وجوه الكفرة الفجرة من القترة والغبرة ، { وَلاَ ذِلَّةٌ } أي هوان وصغار ، بل هو كما قال تعالى في حقهم : { فَوَقَاهُمُ الله شَرَّ ذَلِكَ اليوم وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً } [ الإنسان : 11 ] أي نضرة في وجوههم وسروراً في قلوبهم ، جعلنا الله منهم بفضله ورحمته آمين .(1/1117)
وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27)
لما أخبر تعالى عن حال السعداء الذين يضاعف لهم الحسنات عطف بذكر حال الأشقياء ، فذكر تعالى عدله فيهم وأنه يجازيهم على السيئة بمثلها لا يزيدهم على ذلك ، { وَتَرْهَقُهُمْ } أي تعتريهم وتعلوهم ذلم من معاصيهم وخوفهم منها : كما قال : { وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذل } [ الشورى : 45 ] الآية ، وقال تعالى : { مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } [ إبراهيم : 43 ] الآية ، وقوله : { مَّا لَهُمْ مِّنَ الله مِنْ عَاصِمٍ } أي مانع ولا واقٍ يقيهم العذاب ، كقوله تعالى : { يَقُولُ الإنسان يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المفر * كَلاَّ لاَ وَزَرَ } [ القيامة : 10-11 ] ، وقوله : { كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ } الآية إخبار عن سواد وجوههم في الدار الآخرة ، كقوله تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] ، وقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُّسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُّسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ } [ عبس : 38-40 ] الآية .(1/1118)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (30)
يقول تعالى : { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ } أي أهل الأرض كلهم من جن وإنس وبر وفاجر ، كقوله : { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 47 ] ، { ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ } الآية ، أي الزموا أنتم وهم مكاناً معيناً ، امتازوا فيه عن مقام المؤمنين ، كقوله تعالى : { وامتازوا اليوم أَيُّهَا المجرمون } [ يس : 59 ] ، وقوله : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ } [ الروم : 14 ] . وفي الآية الأخرى : { يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ } [ الروم : 43 ] أي يصيرون صدعين؛ وهذا يكون إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء ، { مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ } أي أنهم أنكروا عبادتهم وتبرؤوا منهم ، كقوله : { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ } [ مريم : 82 ] الآية ، وقوله : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا } [ البقرة : 166 ] ، وقوله : { وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً } [ الأحقاف : 6 ] الآية ، { فكفى بالله شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } الآية ، أي ما كنا نشعر بها ولا نعلم بها ، وإنما كنتم تعبدوننا من حيث لا ندري بكم والله شهيد بيننا وبينكم أنا ما دعوناكم إلى عبادتنا ولا أمرناكم بها ولا رضينا منكم بذلك ، وفي هذا تبكيت عظيم للمشركين الذين عبدوا مع الله غيره وقد تركوا عبادة الحي القيوم القادر على كل شيء ، العليم بكل شيء ، وقد أرسل رسله آمراً بعبادته وحده لا شريك له ناهياً عن عبادة ما سواه ، كما قال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال : { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ } ؟ [ الإسراء : 45 ] وقوله تعالى : { هُنَالِكَ تَبْلُواْ كُلُّ نَفْسٍ مَّآ أَسْلَفَتْ } أي في موقف الحساب يوم القيامة تختبر كل نفس وتعلم ما سلف من عملها من خير وشر ، كقوله تعالى : { يَوْمَ تبلى السرآئر } [ الطلاق : 9 ] ، وقال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] ، وقال تعالى : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً * اقرأ كتابك } [ الإسراء : 13-14 ] ، وقوله : { وردوا إِلَى الله مَوْلاَهُمُ الحق } أي ورجعت الأمور كلها إلى الله الحكم العدل ، ففصلها وأدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، { وَضَلَّ عَنْهُمْ } أي ذهب عن المشركين ، { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي ما كانوا يعبدون من دون الله افتراء عليه .(1/1119)
قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (33)
يحتج تعالى على المشركين باعترافهم بوحدانيته وربوبيته على وحدانية إلاهيته ، فقال تعالى : { قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السمآء والأرض } أي من ذا الذي ينزل من السماء ماء المطر ، فيشق الأرض شقاً بقدرته ومشيئته ، فيخرج منها { فَأَنبَتْنَا فِيهَا حَبّاً * وَعِنَباً وَقَضْباً * وَزَيْتُوناً وَنَخْلاً * وَحَدَآئِقَ غُلْباً * وَفَاكِهَةً وَأَبّاً } [ عبس : 27-31 ] إله مع الله؟ فسيقولون : { أَمَّنْ هذا الذي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ } [ الملك : 21 ] ؟ وقوله : { أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار } أي الذي وهبكم هذه القوة السامعة . والقوة الباصرة ولو شاء لذهب بها ولسلبكم إياها ، كقوله تعالى : { قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار } [ الملك : 23 ] الآية . وقال : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ } [ الأنعام : 46 ] الآية ، وقوله : { وَمَن يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَيُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } أي بقدرته العظيمة ومنته العميمة ، وقوله : { وَمَن يُدَبِّرُ الأمر } أي من بيده ملكوت كل شيء ، وهو المتصرف الحاكم الذي لا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، فالملك كله العلوي والسفلي فقيرون إليه خاضعون لديه ، { فَسَيَقُولُونَ الله } أي وهم يعلمون ذلك ويعترفون به ، { فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ } ؟ أي أفلا تخافون منه أن تعبدوا معه غيره بآرائكم وجهلكم؟ وقوله : { فَذَلِكُمُ الله رَبُّكُمُ الحق } الآية ، أي فهذا الذي اعترفتم بأنه فاعل ذلك كله هو ربكم وإلهكم الحق الذي يستحق أن يفرد بالعبادة ، { فَمَاذَا بَعْدَ الحق إِلاَّ الضلال } ؟ أي : فكل معبود سواه باطل لا إله إلاّ هو واحد ، لا شريك له { فأنى تُصْرَفُونَ } أي فكيف تصرفون عن عبادته إلى عبادة ما سواه؟ وأنتم تعلمون أنه الرب الذي خلق كل شيء والمتصرف في كل شيء وقوله : { كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الذين فسقوا } أي كما كفر هؤلاء المشركون واستمروا على شركهم وعبادتهم مع الله غيره مع أنهم يعترفون بأنه الخالق الرازق المتصرف في الملك وحده ، الذي بعث رسله بتوحيده ، فلهذا حقت عليهم كلمة الله أنهم أشقياء من ساكني النار ، كقوله : { قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } [ الزمر : 71 ] .(1/1120)
قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36)
وهذا إبطال لدعواهم فيما أشركوا بالله غيره ، وعبدوا من الأصنام والأنداد ، { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يَبْدَأُ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } أي من بدأ خلق هذه السماوات والأرض ، ثم ينشئ ما فيهما من الخلائق ، ويفرّق أجرام السماوات والأرض ويبدلهما بفناء ما فيهما ثم يعيد الخلق خلقاً جديداً { قُلِ الله } هو الذي يفعل هذا ويستقل به وحده لا شريك له ، { فأنى تُؤْفَكُونَ } أي فكيف تصرفون عن طريق الرشد إلى الباطل ، { قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُمْ مَّن يهدي إِلَى الحق قُلِ الله يَهْدِي لِلْحَقِّ } ؟ أي أنتم تعلمون أن شركاءكم لا تقدر على هداية ضال ، وإنما يهدي الحيارى والضُلاَّل ، ويقلّب القلوب من الغيّ إلى الرشد الله رب العالمين ، { أَفَمَن يهدي إِلَى الحق أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يهدي إِلاَّ أَن يهدى } أي أفيتبع العبد الذي يهدي إلى الحق ويبصر بعد العمى ، أم الذي لا يهدي إلى شيء إلا أن يهدى لعماه وبكمه ، كما قال تعالى إخباراً عن إبراهيم أنه قال : { ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً } [ مريم : 42 ] .
وقوله تعالى : { فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } أي فما بالكم يذهب بعقولكم ، كيف سويتم بين الله وبين خلقه ، وعدلتم هذا بهذا وعبدتم هذا وهذا؟ وهلا أفردتم الرب جلّ جلاله بالعبادة وحده ، وأخلصتم إليه الدعوة والإنابة؟ ثم بين تعالى أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلاً ولا برهاناً ، وإنما هو ظنٌ منهم أي توهم وتخيل ، وذلك لا يغني عنهم شيئاً ، { إِنَّ الله عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ } تهديد لهم ووعيد شديد لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء .(1/1121)
وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرَى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ لَا يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40)
هذا بيان لإعجاز القرآن ، وأنه لا يستطيع البشر أن يأتوا بمثله ، ولا بعشر سور ، ولا بسورة من مثله ، لأنه بفصاحته وبلاغته ووجازته وحلاوته ، واشتماله على المعاني العزيزة الغزيرة النافعة في الدنيا والآخرة ، لا يكون إلا من عند الله ، الذي لا يشبهه شيء في ذاته ولا في صفاته ولا في أفعاله وأقواله ، فكلامه لا يشبه كلام المخلوقين ، ولهذا قال تعالى : { وَمَا كَانَ هذا القرآن أَن يفترى مِن دُونِ الله } أي مثل هذا القرآن لا يكون إلا من عند الله ولا يشبه هذا كلام البشر ، { ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من الكتب المتقدمة ومهيمناً عليه ، ومبيناً لما وقه فيها من التحريف والتأويل والتبديل ، وقوله : { وَتَفْصِيلَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين } أي وبيان الأحكام يباناً شافياً كافياً لا مرية فيه من الله رب العالمين ، كما تقدم في الحديث : « فيه خبر ما قبلكم ونبأ ما بعدكم وفصل ما بينكم » أي خبر عما سلف وعما سيأتي ، وحكم فيما بين الناس بالشرع الذي يحبه الله ويرضاه . وقوله : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي إن ادعيتم وافتريتم وشككتم في أن هذا من عند الله ، وقلتم كذباً إن هذا من عند محمد ، فمحمد بشر مثلكم وقد جاء فيما زعمتم بهذا القرآن فأتوا أنتم بسورة مثله ، أي من جنس هذا القرآن ، واستعينوا على ذلك بكل من قدرتم عليه من إنس وجان ، وهذا هو المقام الثالث في التحدي ، فإنه تعالى تحداهم ودعاهم إن كانوا صادقين في دعواهم أنه من عند محمد ، فليعارضوه بنظير ما جاء ، وليستعينوا بمن شاءوا ، وأخبر أنهم لا يقدرون على ذلك ولا سبيل لهم إليه ، فقال تعالى : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] ، ثم تقاصر معهم إلى عشر سور منه ، فقال في أول سورة هود : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، ثم تنازل إلى سورة ، فقال في هذه السورة { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } ، وكذا في سورة البقرة ، وهي مدنية تحداهم بسورة منه ، وأخبر أنهم لا يستطيعون ذلك أبداً فقال : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ فاتقوا النار } [ البقرة : 24 ] الآية . هذا وقد كانت الفصاحة من سجاياهم وأشعارهم ومعلقاتهم إليها المنتهى في هذا الباب ، ولكن جاءهم من الله ما لا قبل لأحد به؛ ولهذا آمن من آمن منهم بما عرف من بلاغة هذا الكلام ، وحلاوته وجزالته وطلاوته وإفادته وبراعته ، فكانوا أعلم الناس به وأفهمهم له وأشدهم له انقياداً .(1/1122)
ولهذا جاء في « الصحيح » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أوتي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً » وقوله : { بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } يقول : بل كذب هؤلاء بالقرآن ، ولم يفهموه ولا عرفوه { وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ } أي ولم يحصلوا ما فيه من الهدى ودين الحق إلى حين تكذيبهم به جهلاً وسفهاً ، { كَذَلِكَ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي من الأمم السالفة ، { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظالمين } أي فانظر كيف أهلكناهم بتكذيبهم رسلنا ظلماً وعلواً وكفراً وعناداً ، فاحذروا أيها المكذبون أن يصيبكم ما أصابهم ، وقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يُؤْمِنُ بِهِ } الآية ، أي ومن هؤلاء الذين بعثت إليهم يا محمد من يؤمن بهذا القرآن ويتبعك وينتفع بما أرسلت به ، { وَمِنْهُمْ مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ } بل يموت على ذلك ويبعث عليه ، { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بالمفسدين } أي وهو أعلم بمن يستحق الهداية فيهديه؟ ومن يستحق الضلالة فيضله ، وهو العادل الذي لا يجور ، بل يعطي كلا ما يستحقه تبارك وتعالى وتقدس .(1/1123)
وَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُوا لَا يَعْقِلُونَ (42) وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُوا لَا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئًا وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)
يقول تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : وإن كذبك هؤلاء المشركون فتبرأ منهم ومن عملهم { فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ } ، كقوله تعالى عن إبراهيم الخليل واتباعه لقومه المشركين : { إِنَّا بُرَءآؤُاْ مِّنْكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله } [ الممتحنة : 4 ] ، وقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ } أي يسمعون كلامك الحسن والقرآن العظيم النافع في القلوب والأبدان ، ولكن ليس ذلك إليك ولا إليهم ، فإنك كما لا تقدر على إسماع الأصم ، فكذلك لا تقدر على هداية هؤلاء إلا أن يشاء الله ، { وَمِنهُمْ مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ } أي ينظرون إليك وإلى ما أعطاك الله من الخلق العظيم ، والدلالة الظاهرة على نبوتك ، وهؤلاء ينظرون كما ينظر غيرهم ، ولا يحصل لهم من الهداية شيء كما يحصل لغيرهم ، بل المؤمنون ينظرون إليك بعين الوقار ، وهؤلاء الكفار ينظرون إليك بعين الاحتقار ، { وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً } [ الفرقان : 41 ] الآية ، ثم أخبر تعالى أنه لا يظلم أحداً شيئاً ، وإن كان قد هدى به من هدى وبصر به من العمى ، وفتح به أعيناً عمياء وآذاناً صماء ، وقلوباً غلفاً ، وأضل به عن الإيمان آخرين؛ فهو الحاكم المتصرف في ملكه بما يشاء ، لعلمه وحكمته وعدله ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ الناس شَيْئاً ولكن الناس أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .(1/1124)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (45)
يقول تعالى مذكراً للناس قيام الساعة ، وحشرهم من أجداثهم إلى عرصات القيامة : { وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ } الآية . كقوله : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يلبثوا إِلاَّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ } [ الأحقاف : 35 ] ، وكقوله : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] ، وقال تعالى : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } [ طه : 104 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } [ الروم : 55 ] ، وهذا كله دليل على استقصاء الحياة الدنيا في الدار الآخرة كقوله : { قَالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الأرض عَدَدَ سِنِينَ * قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ العآدين } [ المؤمنون : 112-113 ] ، وقوله : { يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ } أي يعرف الأبناء الآباء والقرابات بعضهم لبعض ، كما كانوا في الدنيا ولكن كل مشغول بنفسه ، { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ } [ المؤمنون : 101 ] الآية ، وقال تعالى : { وَلاَ يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً } [ المعارج : 10 ] ، وقوله : { قَدْ خَسِرَ الذين كَذَّبُواْ بِلِقَآءِ الله وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ، ولا خسارة أعظم من خسارة من فرق بينه وبين أحبته يوم الحسرة والندامة .(1/1125)
وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذَا جَاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (47)
يقول تعالى مخاطباً لرسوله صلى الله عليه وسلم : { وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الذي نَعِدُهُمْ } أي ننتقم منهم في حياتك لتقر عينك منهم { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ } ، أي مصيرهم ومنقلبهم ، والله يشهد على أفعالهم بعدك ، وقوله : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ } قال مجاهد : يعني يوم القيامة { قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط } الآية ، كقوله تعالى : { وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا } [ الزمر : 69 ] الآية ، فكل أمة تعرض على الله بحضرة رسولها ، وكتاب أعمالها من خير وشر شاهد عليها وحفظتهم من الملائكة شهود أيضاً ، وهذه الأمة الشريفة وإن كانت آخر الأمم في الخلق ، إلا أنها أول الأمم يوم القيامة ، يفصل بينهم ويقضى لهم ، كما جاء في « الصحيحين » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، المقضي لهم قبل الخلائق » ، فأمته إنما حازت قصب السبق بشرف رسولها صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين .(1/1126)
وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (48) قُلْ لَا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَلَا نَفْعًا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ فَلَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتًا أَوْ نَهَارًا مَاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَقَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)
يقول تعالى مخبراً في كفر هؤلاء المشركين في استعجالهم العذاب ، وسؤالهم عن وقته قبل التعيين ، مما لا فائدة لهم فيه ، كقوله : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الحق } [ الشورى : 18 ] أي كائنة لا محالة وواقعة وإن لم يعلموا وقتها عيناً ، ولهذا أرشد تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إلى جوابهم فقال : { قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } الآية ، أي لا أقول إلا ما علمني ، ولا أقدر على شيء مما استأثر به ، إلا أن يطلعني الله عليه ، فأنا عبده ورسوله إليكم ، وقد أخبرتكم بمجيء الساعة وأنها كائنة ، ولم يطلعني على وقتها ، ولكن { لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ } أي لكل قرن مدة من العمر مقدرة فإذا انقضى أجلهم { فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } ، كقوله : { وَلَن يُؤَخِّرَ الله نَفْساً إِذَا جَآءَ أَجَلُهَآ } [ المنافقون : 11 ] الآية ، ثم أخبر أن عذاب الله سيأتيهم بغتة ، فقال : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً } ؟ أي ليلاً أو نهاراً ، { مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ المجرمون * أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ الآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ } يعني أنهم إذا جاءهم العذاب قالوا : { رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } [ السجدة : 12 ] الآية ، { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] ، وقوله : { ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الخلد } أي يوم القيامة يقال لهم هذا تبكيتاً وتقريعاً كقوله : { اصلوها فاصبروا أَوْ لاَ تَصْبِرُواْ سَوَآءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّمَا تُجْزَوْنَ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الطور : 16 ] .(1/1127)
وَيَسْتَنْبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الْأَرْضِ لَافْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (54)
يقول تعالى : ويستخبرونك { أَحَقٌّ هُوَ } أي المعاد بعد صيرورة الأجسام تراباً { قُلْ إِي وربي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي ليس صيرورتكم تراباً بمعجز الله عن إعادتكم كما بدأكم من العدم { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] ، وهذه الآية ليس لها نظير في القرآن إلا آيتان أخريان ، يأمر الله تعالى رسوله أن يقسم به على من أنكر المعاد من سورة سبأ ، { وَقَالَ الذين كَفَرُواْ لاَ تَأْتِينَا الساعة قُلْ بلى وَرَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ } [ الآية : 3 ] ، وفي التغابن : { زَعَمَ الذين كفروا أَن لَّن يُبْعَثُواْ قُلْ بلى وَرَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِمَا عَمِلْتُمْ وَذَلِكَ عَلَى الله يَسِيرٌ } [ الآية : 7 ] ، ثم أخبر تعالى أنه إذا قامت القيامة يود الكافر لو افتدى من عذاب الله بملء الأرض ذهباً ، { وَأَسَرُّواْ الندامة لَمَّا رَأَوُاْ العذاب وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط } أي بالحق { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .(1/1128)
أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَلَا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)
يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض ، وأن وعده حق كائن لا محالة ، وأنه يحيى ويميت وإليه مرجعهم ، وأنه القادر على ذلك العليم بما تفرق من الأجسام وتمزق في سائر أقطار الأرض والبحار والقفار .(1/1129)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)
يقول تعالى ممتناً على خلقه بما أنزله من القرآن العظيم على رسوله الكريم : { ياأيها الناس قَدْ جَآءَتْكُمْ مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } أي زاجر عن الفواحش ، { وَشِفَآءٌ لِّمَا فِي الصدور } أي من الشبه والشكوك وهو إزالة ما فيها من رجس ودنس ، { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } أي يحصل به الهداية والرحمة من الله تعالى ، وإنما ذلك للمؤمنين به والمصدقين الموقنين بما فيه كقوله تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] ، وقوله : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } [ فصلت : 44 ] الآية . وقوله تعالى : { قُلْ بِفَضْلِ الله وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ } أي بهذا الذي جاءهم من الله من الهدى ودين الحق فليفرحوا فإنه أولى ما يفرحون به ، { هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } أي من حطام الدنيا وما فيها من الزهرة الفانية الذاهبة لا محالة .(1/1130)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَرَامًا وَحَلَالًا قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَشْكُرُونَ (60)
قال ابن عباس ومجاهد : نزلت إنكاراً على المشركين فيما كانوا يحلون ويحرمون من البحائر والسوائب والوصايل ، كقوله تعالى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً } [ الأنعام : 136 ] الآيات ، وقد أنكر الله تعالى على من حرم ما أحل الله ، أو أحل ما حرم بمجرد الآراء والأهواء التي لا مستند لها ولا دليل عليها ، ثم توعدهم على ذلك يوم القيامة فقال : { وَمَا ظَنُّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب يَوْمَ القيامة } أي ما ظنهم أن يصنع بهم يوم مرجعهم إلينا يوم القيامة؟ وقوله : { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } قال ابن جرير : في تركه معاجلتهم بالعقوبة في الدنيا ، ويحتمل أن يكون المراد { لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } فيما أباح لهم مما خلقه من المنافع ، ولم يحرم عليهم إلا ما هو ضار لهم في دنياهم أو دينهم ، { ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ } بل يحرمون ما أنعم الله به عليهم ، ويضيفون على أنفسهم فيجعلون بعضاً حلالاً وبعضاً حراماً .(1/1131)
وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ وَلَا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (61)
يخبر تعالى نبيه صلى الله عليه وسلم أنه يعلم جميع أحواله وأحوال أمته ، وجميع الخلائق في كل ساعة وأوان ولحظة ، وأنه لا يعزب عن علمه وبصره مثقال ذرة في حقارتها وصغرها من السماوات ولا في الأرض ، ولا أصغر منها ولا أكبر إلا في كتاب مبين ، كقوله : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] ، فأخبر تعالى أنه يعلم حركة الأشجار وغيرها من الجمادات وكذلك الدواب السارحة ، { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا } [ هود : 6 ] الآية ، وإذا كان هذا علمه بحركات هذه الأشياء فكيف علمه بحركات المكلفين المأمورين بالعبادة؟ كما قال تعالى : { الذي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي الساجدين } [ الشعراء : 218-219 ] ، ولهذا قال تعالى : { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } أي إذ تأخذون في ذلك الشيء نحن مشاهدون لكم راءون سامعون ، ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لما سأله جبريل عن الإحسان : « أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك » .(1/1132)
أَلَا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ لَا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)
يخبر تعالى أن أولياءه { الذين آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } كما فسرهم بهم ، فكل من كان تقياً ، كان الله ولياً ف { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي فيما يستقبلونه من أهوال الآخرة ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما وراءهم في الدنيا ، وقال عبد الله بن مسعود : أولياء الله الذين إذا رأوا ذكر الله ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن من عباد الله عباداً يغبطهم الأنبياء والشهداء » ، قيل : من هم يا رسول الله لعلنا نحبهم؟ قال : « هم قوم تحابوا في الله في من غير أموال ولا أنساب ، وجوههم نور على منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس » ثم قرأ : { ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ، وقال الإمام أحمد ، عن أبي الدرداء ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة } ، قال : « الرؤيا الصالحة يراها المسلم أو ترى له » وقال الإمام أحمد ، « عن عبادة بن الصامت ، أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أرأيت قول الله تعالى : { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا } فقال : » لقد سألتني عن شيء ما سألني عنه أحد من أمتي - أو قال أحد قبلك - تلك الرؤيا الصالحة يراها الرجل أو ترى له « » عن أبي ذر الغفاري رضي الله عنه أنه قال : يا رسول الله : الرجل يعمل العمل ويحمده الناس عليه ويثنون عليه به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تلك عاجل بشرى المؤمن » وعن عبد الله بن عمرو « عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : { لَهُمُ البشرى فِي الحياة الدنيا } الرؤيا الصالحة يبشرها المؤمن جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة » وقال ابن جرير ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « لهم البشرى في الحياة الدنيا وفي الآخرة » - قال - في الدنيا الرؤيا الصالحة يراها العبد أو ترى له وهي في الآخرة الجنة « وقال ابن جرير ، عن أم كريز الكعبية : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » ذهبت النبوة وبقيت المبشرات « ؛ وقيل : المراد بذلك بشرى الملائكة للمؤمن عند احتضاره بالجنة والمغفرة ، كقوله تعالى : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [ فصلت : 30 ] ، وفي حديث البراء رضي الله عنه : » أن المؤمن إذا حضره الموت جاءه ملائكة بيض الوجوه بيض الثياب فقالوا : اخرجي أيتها الروح الطيبة إلى روح وريحان ورب غير غضبان ، فتخرج من فمه كما تسيل القطرة من فم السقاء « وأما بشراهم في الآخرة فكما قال تعالى : { لاَ يَحْزُنُهُمُ الفزع الأكبر وَتَتَلَقَّاهُمُ الملائكة هذا يَوْمُكُمُ الذي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [ الأنبياء : 103 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ الحديد : 12 ] ، وقوله : { لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ الله } أي هذا الوعد لا يبدل ولا يخلف ولا يغير بل هو مقرر مثبت كائن لا محالة ، { ذلك هُوَ الفوز العظيم } .(1/1133)
وَلَا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلَا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكَاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِرًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم { وَلاَ يَحْزُنكَ } قول هؤلاء المشركين واستعن بالله عليهم وتوكل عليه فإن { العزة للَّهِ جَمِيعاً } أي جميعاً له ولرسوله وللمؤمنين ، { هُوَ السميع العليم } أي السميع لأقوال عباده العليم بأحوالهم ، ثم أخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض وأن المشركين يعبدون الأصنام وهي لا تملك شيئاً ، لا ضراً ولا نفعاً ولا دليل لهم على عبادتها ، بل إنما يتبعون في ذكل ظنونهم وتخرصهم وكذبهم وإفكهم ، ثم أخبر أنه الذي جعل لعباده الليل ليسكنوا فيه ، أي يستريحون فيه من نصبهم وكلالهم وحركاتهم ، { والنهار مُبْصِراً } أي مضيئاً لمعاشهم وسعهيم وأسفارهم ومصالحهم ، { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي يسمعون هذه الحجج والأدلة فيعتبرون بها ويستدلون على عظمة خالقها ومقدرها ومسيرها .(1/1134)
قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
يقول تعالى منكراً على من ادعى أن له { وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الغني } أي تقدس عن ذلك هو الغني عن كل ما سواه وكل شيء فقير إليه { لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } ، أي فكيف يكون له ولد مما خلق وكل شيء مملوك له عبد له { إِنْ عِندَكُمْ مِّن سُلْطَانٍ بهاذآ } أي ليس عندكم دليل على ما تقولونه من الكذب والبهتان { أَتقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ؟ إنكار ووعيد أكيد وتهديد شديد ، كقوله تعالى : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً } [ مريم : 88-92 ] ، ثم توعد تعالى الكاذبين عليه المفترين ممن زعم أن له ولداً ، بأنهم لا يفلحون في الدنيا ولا في الآخرة ، فأما في الدنيا فإنهم إذا استدرجهم وأملى لهم متعهم قليلاً { ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] ، كما قال تعالى هاهنا : { مَتَاعٌ فِي الدنيا } أي يوم القيامة ، { ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد } أي الموجع المؤلم { بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } أي بسبب كفرهم وافترائهم وكذبهم على الله فيما ادعوه من الإفك والزور .(1/1135)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَلَا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلَائِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73)
يقول تعالى لنبيّه صلوات الله وسلامه عليه : { واتل عَلَيْهِمْ } أي أخبرهم واقصص عليهم ، أي على كفار مكة الذين يكذبونك ويخالفونك ، { نَبَأَ نُوحٍ } أي خبره مع قومه الذين كذبوه كيف أهلكهم الله ودمرهم بالغرق أجمعين عن آخرهم ليحذر هؤلاء أن يصيبهم من الهلاك والدمار ما أصاب أولئك ، { إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ ياقوم إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ } أي عظم عليكم { مَّقَامِي } أي فيكم بين أظهركم ، { وَتَذْكِيرِي } إياكم { بِآيَاتِ الله } أي بحججه وبراهينه ، { فَعَلَى الله تَوَكَّلْتُ } أي فإني لا أبالي ولا أكف عنكم سواء عظم عليكم ولا لا ، { فأجمعوا أَمْرَكُمْ وَشُرَكَآءَكُمْ } أي فاجتمعوا أنتم وشركاؤكم الذين تدعون من دون الله من صنم ووثن ، { ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً } أي ولا تجعلوا أمركم عليكم متلبساً ، بل افصلوا حالكم معي ، فإن كنتم تزعمون أنكم محقون فاقضوا إليَّ ولا تنظرون ، أي ولا تؤخروني ساعة واحدة ، أي مهما قدرتم فافعلوا ، فإني لا أباليكم ولا أخاف منكم لأنكم لستم على شيء ، كما قال هود لقومه : { فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ } [ هود : 55-56 ] الآية . وقوله : { فَإِن تَوَلَّيْتُمْ } أي كذبتم وأدبرتم عن الطاعة { فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ } أي لم أطلب منكم على نصيحتي إياكم شيئاً ، { إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } أي وأنا ممتثل ما أمرت به من الإسلام لله عز وجلّ ، والإسلام هو دين الأنبياء جميعاً من أولهم إلى آخرهم ، وإن تنوعت شرائعهم وتعددت مناهلهم ، وقوله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ } أي على دينه { فِي الفلك } وهي السفينة { وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ } أي في الأرض ، { وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المنذرين } أي فانظر يا محمد كيف أنجينا المؤمنين وأهلكنا المكذبين .(1/1136)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلًا إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَاءُوهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)
يقول تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن } بعد نوح { رُسُلاً إلى قَوْمِهِمْ فَجَآءُوهُمْ بالبينات } أي بالحجج والأدلة والبراهين على صدق ما جاؤوهم به ، { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ } ، أي فما كانت الأمم لتؤمن بما جاءتهم به رسلهم بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم ، كقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ } [ الأنعام : 110 ] الآية ، وقوله : { كَذَلِكَ نَطْبَعُ على قُلوبِ المعتدين } أي كما طبع الله على قلوب هؤلاء ، فما آمنوا بسبب تكذيبهم المتقدم ، هكذا يطبع الله على قلوب من أشبههم ممن بعدهم ، ويختم على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الأليم؛ والمراد أن الله تعالى أهلك الأمم المكذبة وأنجى من آمن بهم وذلك من بعد نوح عليه السلام ، فإن الناس كانوا من قبله من زمان آدم عليه السلام على الإسلام ، إلى أن أحدث الناس عبادة الأصنام ، فبعث الله إليهم نوحاً عليه السلام ، قال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام ، وقال الله تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ القرون مِن بَعْدِ نُوحٍ } [ الإسراء : 17 ] الآية ، وفي هذه إنذار عظيم لمشركي العرب الذين كذبوا سيّد الرسل وخاتم الأنبياء والمرسلين ، فإنه إذا كان قد أصاب من كذب بتلك الرسل ما ذكره الله تعالى من العذاب والنكال ، فماذا ظن هؤلاء وقد ارتكبوا أكبر من أولئك؟(1/1137)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنَا قَالُوا إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78)
يقول تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا } من بعد تلك الرسل { موسى وَهَارُونَ إلى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ } أي قومه { بِآيَاتِنَا } أي حججنا وبراهيننا ، { فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } أي استكبروا عن اتباع الحق والانقياد له وكانوا قوماً مجرمين ، { فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قالوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ } ، كأنهم قبحهم الله أقسموا على ذلك وهم يعلمون أن ما قالوه كذب وبهتان ، كما قال تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] الآية ، { قَالَ } لهم { موسى } منكراً عليهم { أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَآءَكُمْ أَسِحْرٌ هذا وَلاَ يُفْلِحُ الساحرون * قالوا أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا } أي تثنينا { عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا } أي الدين الذي كانوا عليه ، { وَتَكُونَ لَكُمَا } أي لك ولهارون { الكبريآء } أي العظمة والرياسة { فِي الأرض وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ } . وكثيراً ما يذكر الله تعالى قصة موسى عليه السلام مع فرعون في كتابه العزيز ، لأنها من أعجب القصص ، فإن فرعون حذر من موسى كل الحذر ، فسخره القدر : أن ربّي على فراشه بمنزلة الولد ثم ترعرع وعقد الله له سبباً أخرجه من بين أظهرهم ، ورزقه النبوة والرسالة والتكليم ، ولم تزل الآيات تقوم على يدي موسى شيئاً بعد شيء ، ومرة بعد مرة ، مما يبهر العقول ، ويدهش الألباب { وَمَا نُرِيِهِم مِّنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا } [ الزخرف : 48 ] وصمم فرعون وملأه قبحهم الله على . التكذيب بذلك كله والجحد والعناد والمكابرة ، حتى أحلّ الله بهم بأسه الذي لا يرد ، وأغرقهم في صبيحة واحدة أجمعين ، { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الأنعام : 45 ] .(1/1138)
وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاءَ السَّحَرَةُ قَالَ لَهُمْ مُوسَى أَلْقُوا مَا أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لَا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82)
ذكر تعالى قصة السحرة مع موسى عليه السلام ، وما أراده فرعون من معارضة الحق المبين ، { وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائتوني بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ * فَلَمَّا جَآءَ السحرة قَالَ لَهُمْ موسى أَلْقُواْ مَآ أَنتُمْ مُّلْقُونَ } ، وإنما قال لهم ذلك لأنهم لما اصطفوا وقد وعدوا من فرعون بالتقريب والعطاء الجزيل { قَالُواْ ياموسى إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى } [ طه : 65 ] ، فأراد موسى أن تكون البداءة منهم ليرى الناس ما صنعوا ، ثم يأتي بالحق بعده فيدمغ باطلهم ، ولهذا لما ألقوا سحروا أعين الناس واسترهبوهم وجاءوا بسحر عظيم { فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً موسى * قُلْنَا لاَ تَخَفْ إِنَّكَ أَنتَ الأعلى } [ طه : 67-68 ] ، فعند ذلك قال موسى لما ألقوا : { مَا جِئْتُمْ بِهِ السحر إِنَّ الله سَيُبْطِلُهُ إِنَّ الله لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ المفسدين * وَيُحِقُّ الله الحق بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ المجرمون } .(1/1139)
فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83)
يخبر تعالى أنه لم يؤمن بموسى عليه السلام مع ما جاء به من الآيات البينات ، والحجج القاطعات ، والبراهين الساطعات ، إلا قليل من قوم فرعون من الذرية ، وهم الشباب على وجل وخوف منه ومن ملئه يردوهم إلى ما كانوا عليه من الكفر ، لأن فرعون لعنه الله كان جباراً عنيداً مسرفاً في التمرد والعتو ، وكانت له سطوة ومهابة يخاف رعيته منه خوفاً شديداً . قال ابن عباس : الذرية التي آمنت لموسى من غير بني إسرائيل من قوم فرعون يسير « منهم امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وخازن فرعون ، وامرأة خازنه » ، وعنه : { فَمَآ آمَنَ لموسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } يقول : من بني إسرائيل ، وقال مجاهد في قوله : { إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ } هم أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم ، واختار ابن جرير قول مجاهد في الذرية أنها من بني إسرائيل ، لا من قوم فرعون لعود الضمير على أقرب المذكورين ، وفي هذا نظر ، لأنه أراد بالذرية الأحداث والشباب ، وأنهم من بني إسرائيل ، والمعروف أن بني إسرائيل كلهم آمنوا بموسى عليه السلام وقد كانوا يعرفون نعته وصفته والبشارة به من كتبه المتقدمة ، وأن الله تعالى سينقذهم به من أسر فرعون ويظهرهم عليه ، ولما جاء موسى آذاهم فرعون أشد الأذى ، { قالوا أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا } [ الأعراف : 129 ] وإذا تقرر هذا فكيف يكون المراد إلا ذرية من قوم مسى وهم بنو إسرائيل { على خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ } أي وأشراف قومهم أن يفتنهم ، ولم يكن في بني إسرائيل من يخاف منه أن يفتن عن الإيمان ، ومما يدل على أنه لم يكن في بني إسرائيل إلا مؤمن قوله تعالى .(1/1140)
وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84) فَقَالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86)
يقول تعالى مخبراً عن موسى أنه قال لبني إسرائيل : { ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } أي فإن الله كافٍ من توكل عليه ، { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ } [ الزمر : 36 ] ، { وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى الله فَهُوَ حَسْبُهُ } [ الطلاق : 3 ] ، وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين العبادة والتوكل ، كقوله تعالى { على الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين } ، وقد امتثل بنو إسرائيل ذلك فقالوا : { على الله تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظالمين } أي لا تظفرهم وتسلطهم علينا فيظنوا أنهم إنما سلطوا لأنهم على الحق ونحن على الباطل فيفتنوا بذلك ، هكذا روي عن أبي الضحى ، وقال مجاهد : لا تعذبنا بأيدي آل فرعون ولا بعذاب من عندك فيقول قوم فرعون : لو كانوا على حق ما عذبوا ولا سلطنا عليهم فيفتنوا بنا ، وعن مجاهد : لا تسلطهم علينا فيفتنونا ، وقوله : { وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ } أي خلصنا برحمة منك وإحسان { مِنَ القوم الكافرين } أي الذين كفروا الحق ستروه ونحن قد آمنا بك وتوكلنا عليك .(1/1141)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَنْ تَبَوَّآ لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتًا وَاجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87)
يذكر تعالى سبب إنجائه بني إسرائيل من فرعون وقومه وكيفية خلاصهم منهم ، وذلك أن الله تعالى أمر موسى وأخاه هارون عليهما السلام أن يتبوآ ، أي يتخذا لقومهما بمصر بيوتاً ، واختلف المفسرون في معنى قوله تعالى : { واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً } فقال ابن عباس : امروا أن يتخذوها مساجد ، وقال الثوري ، عن إبراهيم : كانوا خائفين فأمروا أن يصلوا في يبوتهم ، وأمروا بكثرة الصلاة كقوله تعالى : { يَآأَيُّهَا الذين آمَنُواْ استعينوا بالصبر والصلاة } [ البقرة : 153 ] ، وفي الحديث : « كان رسول الله إذا حز به أمر صلى » ، ولهذا قال تعالى في هذه الآية : { واجعلوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصلاة وَبَشِّرِ المؤمنين } ، أي بالثواب والنصر القريب ، وقال العوفي عن ابن عباس في تفسير هذه الآية قال : قالت بنو إسرائيل عليه السلام : لا نستطيع أن نظهر صلاتنا مع الفراعنة ، فأذن الله تعالى لهم أن يصلوا في بيوتهم ، وأمروا أن يجعلوا بيوتهم قبل القبلة .(1/1142)
وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالًا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلَا تَتَّبِعَانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ (89)
هذا إخبار من الله تعالى عما دعا به موسى عليه السلام على فرعون وملئه ، لما أبوا قبول الحق واستمروا على ضلالهم وكفرهم معاندين جاحدين ظلماً وعلواً وتكبراً وعتواً ، قال موسى : { رَبَّنَآ إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأَهُ زِينَةً } أي من أثاث الدنيا ومتاعها ، { وَأَمْوَالاً } أي جزيلة كثيرة { فِي } هذه { الحياة الدنيا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ } أي ليفتتن بما أعطيتهم من شئت من خلقك ، وليظن من أغويته أنك إنما أعطيتهم هذه لحبك إياهم واعتنائك بهم { رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ } ، قال ابن عباس : أي أهلكها ، وقال الضحاك : اجعلها حجارة منقوشة كهيئة ما كانت ، وقال قتادة : بلغنا أن زروعهم تحولت حجارة ، وقوله : { واشدد على قُلُوبِهِمْ } قال ابن عباس : أي اطبع عليها { فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } وهذه الدعوة كانت من موسى عليه السلام غضباً لله ولدينه على فرعون وملئه الذين تبين له أنهم لا خير فيهم ولا يجيء منهم شيء ، كما دعا نوح عليه السلام فقال : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ، ولهذا استجاب الله تعالى لموسى عليه السلام فيهم هذه الدعوة التي أمَّن عليها أخوه هارون فقال تعالى : { قَدْ أُجِيبَتْ دَّعْوَتُكُمَا } ، قال أبو العالية وعكرمة : دعا موسى وأمن هارون ، أي قد أجبناكما فيما سألتما من تدمير آل فرعون ، { فاستقيما } أي كما أجيبت دعوتكما فاستقيما على أمري ، قال ابن عباس : فاستقيما : فامضيا لأمري وهي الاستقامة ، قال ابن جريج : يقولون إن فرعون مكث بعد هذه الدعوة أربعين سنة ، وقيل : أربعين يوماً .(1/1143)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْيًا وَعَدْوًا حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92)
يذكر تعالى كيفية إغراقه فرعون وجنوده ، فإن بني إسرائيل لما خرجوا من مصر وهم فيما قبل ستمائة ألف مقاتل سوى الذرية ، اشتد حنق فرعون عليهم ، فأرسل إلى المدائن حاشرين يجمعون له جنوده من أقاليمه ، فركب وراءهم في أبهة عظيمة وجيوش هائلة لما يريده الله تعالى بهم فلحقوهم وقت شروق الشمس ، { فَلَمَّا تَرَاءَى الجمعان قَالَ أَصْحَابُ موسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ } [ الشعراء : 61 ] ، أي كيف المخلص مما نحن فيه؟ فقال : { كَلاَّ إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ } [ الشعراء : 62 ] ، فأمره الله تعالى أن يضرب البحر بعصاه ، فضربه فانفلق البحر ، فكان كل فرق كالطود العظيم ، وجاوزت بنو إسرائيل البحر ، فلما خرج آخرهم منه ، انتهى فرعون وجنوده إلى حافته من الناحية الأخرى ، وهو في مائة ألف ، فلما رأى ذلك هاله ، وأحجم وهاب وهمَّ بالرجوع ، وهيهات ولات حين مناص ، فاقتحموا كلهم عن آخرهم ، وميكائيل في ساقتهم ، لا يترك منهم أحداً إلا ألحقه بهم ، فلما استوثقوا فيه وتكاملوا ، وهمَّ أولهم بالخروج منه أمر الله القدير البحر أن يرتطم عليهم ، فارتطم عليهم ، فلم ينج منهم أحد ، وجعلت الأمواج ترفعهم وتخفضهم ، وتراكمت الأمواج فوق فرعون ، وغشيته سكرات الموت ، فقال وهو كذلك : { آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } ، فآمن حيث لا ينفعه الإيمان { فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 85 ] ، ولهذا قال الله تعالى في جواب فرعون حين قال ما قال : { آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ } أي هذا الوقت تقول ، وقد عصيت الله قبل هذا فيما بينك وبينه؟ { وَكُنتَ مِنَ المفسدين } أي في الأرض ، { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار وَيَوْمَ القيامة لاَ يُنصَرُونَ } [ القصص : 41 ] ، وهذا الذي حكى الله تعالى عن فرعون من قوله هذا في حاله ، ذلك من أسرار الغيب التي أعلم الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال الإمام أحمد بن حنبل ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما قال فرعون آمنت أن هلا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل - قال : قال لي جبريل : لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه مخالفة أن تناله الرحمة » .
وقوله تعالى : { فاليوم نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } ، قال ابن عباس وغيره من السلف : إنَّ بعض بني إسرائيل شكّوا في موت فرعون ، فأمر الله البحر أن يلقيه بجسده سوياً بلا روح ، ليتحققوا موته وهلاكه؛ ولهذا قال تعالى : { فاليوم نُنَجِّيكَ } أي نرفعك على نشز من الأرض { بِبَدَنِكَ } ، قال مجاهد : بجسدك ، وقال الحسن : بجسم لا روح فيه ، وقوله : { لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً } أي لتكون لبني إسرائيل دليلاً على موتك وهلاكك ، وأن الله هو القادر الذي ناصية كل دابة بيده ، وأنه لا يقوم لغضبه شيء . { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ } أي لا يتعظون بها ولا يعتبرون بها ، وقد كان إهلاكهم يوم عاشوراء كما قال ابن عباس : « قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء فقال : » ما هذا اليوم الذي تصومونه «؟ فقالوا : هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم لأصحابه : » وأنتم أحق بموسى منهم فصوموه « .(1/1144)
وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جَاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)
يخبر تعالى عما أنعم به على نبي إسرائيل من النعم الدينية والدنيوية ، وقوله : { مُبَوَّأَ صِدْقٍ } قيل : هو بلاد مصر والشام مما يلي بيت المقدس ونواحيه ، فإن الله تعالى لما أهلك فرعون وجنوده ، استقرت يد الدولة الموسوية على بلاد مصر بكمالها ، كما قال تعالى : { وَأَوْرَثْنَا القوم الذين كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا } [ الأعراف : 137 ] ، وقال في الآية الأخرى : { وَأَوْرَثْنَاهَا بني إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 59 ] ، وقال : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ } [ الدخان : 25 ] الآيات ، ولكن استمروا مع موسى عليه السلام طالبين إلى بلاد بيت المقدس ، وهي بلاد الخليل عليه السلام فاستمر موسى بمن معه طالباً بيت المقدس ، وكان فيه قوم من العمالقة ، فنكل بنو إسرائيل عن قتالهم ، فشردهم الله تعالى في التيه أربعين سنة ، ومات فيه هارون ، ثم موسى عليهما السلام ، وخرجوا بعدهما مع ( يوشع بن نون ) ففتح الله عليهم بيت المقدس ، واستقرت أيديهم عليها إلى أن أخذها منهم بختنصر حيناً من الدهر ، ثم انتزعها الصحابة رضي الله عنهم من يد النصارى ، وكان فتح بيت المقدس على يد أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وقوله : { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات } أي الحلال من الرزق الطيب النافع المستطاب طبعاً وشرعاً ، وقوله : { فَمَا اختلفوا حتى جَآءَهُمُ العلم } أي ما اختلفوا في شيء من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم ، أي ولم يكن لهم أن يختلفوا ، وقد ورد في الحديث : « أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة ، وأن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة ، منها واحدة في الجنة ، وثنتان وسبعون في النار . قيل من هم يا رسول الله؟ قال : » ما أنا عليه وأصحابي « ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ } أي يفصل بينهم { يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } .(1/1145)
فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَءُونَ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذَابَ الْأَلِيمَ (97)
قال قتادة : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا أشك ولا أسأل » ، وهذا فيه تثبيت للأمة وإعلام لهم أن صفة نبيهم صلى الله عليه وسلم موجودة في الكتب المتقدمة التي بأيدي أهل الكتاب ، كما قال تعالى : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] الآية ، ثم مع هذا العلم الذي يعرفونه من كتبهم كما يعرفون أبناءهم ، يلبسون ذلك ويحرفونه ويبدلونه ، ولا يؤمنون به مع قيام الحجة عليهم ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } أي لا يؤمنون إيماناً ينفعهم ، بل حين لا ينفع إيمانها ، ولهذا دعا موسى على فرعون وملئه قال : { فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 88 ] .(1/1146)
فَلَوْلَا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98)
يقول تعالى : فهلا كانت قرية آمنت بكمالها من الأمم السالفة بل ما أرسلنا من قبلك يا محمد من رسول إلا كذبه قومه أو أكثرهم ، كقوله تعالى : { ياحسرة عَلَى العباد مَا يَأْتِيهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ يس : 30 ] ، وقوله : { كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ } [ الذاريات : 52 ] . وفي الحديث الصحيح : « عرض عليَّ الأنبياء فجعل النبي يمر ومعه الفئام من الناس ، والنبي يمر معه الرجل ، والنبي معه الرجلان ، والنبي ليس معه أحد » ثم ذكر كثرة أتباع موسى عليه السلام ، ثم ذكر كثرة أمته صلوات الله وسلامه عليه كثرةً سدَّت الخافقين ، والغرض أنه لم توجد قرية آمنت بكمالها بنبيهم ممن سلف من القرى إلاقوم يونس ، وهم ( أهل نينوى ) وما كان إيمانهم إلا تخوفاً من وصول العذاب الذي أنذرهم به رسولهم ، بعد ما عاينوا أسبابه ، وخرج رسولهم من بين أظهرهم فعندما جأروا إلى الله واستغاثوا به وتضرعوا له ، واستكانوا ، وأحضروا أطفالهم ودوابهم ومواشيهم ، وسألو الله تعالى أن يرفع عنهم العذاب الذي أنذرهم به نبيهم؛ فعندما رحمهم الله ، وكشف عنهم العذاب وأخروا : كما قال تعالى : { إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّآ آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخزي فِي الحياة الدنيا وَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } . وقال قتادة في تفسير هذه الآية : لم ينفع قرية كفرت ثم آمنت حين حضرها العذاب ، إلا قوم يونس لما فقدوا نبيهم ، وظنوا أن العذاب قد دنا منهم قذف الله في قلوبهم التوبة ، ولبسوا المسوح ، وفرقوا بين كل بهيمة وولدها ، ثم عجوا إلى الله أربعين ليلة ، فلما عرف الله الصدق من قلوبهم ، والتوبة والندامة على ما مضى منهم كشف عنهم العذاب .(1/1147)
وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ (100)
يقول تعالى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ } [ هود : 118 ] يا محمد لأذن لأهل الأرض كلهم في الإيمان ، ولكن له حكمة فيما يفعله تعالى ، كقوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } [ هود : 118 ] ، وقال تعالى : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً } [ الرعد : 31 ] ، ولهذا قال تعالى : { أَفَأَنتَ تُكْرِهُ الناس } [ يونس : 99 ] ، أي تلزمهم وتلجئهم ، { حتى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ يونس : 99 ] أي ليس ذلك عليك ولا إليك { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 272 ] ، { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] ، { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } [ الرعد : 40 ] ، { لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } [ الغاشية : 22 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى هو الفعال لما يريد ، الهادي من يشاء المضل لمن يشاء ، لعلمه وحكمته وعدله ، ولهذا قال تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله وَيَجْعَلُ الرجس } وهو الخبال والضلال { عَلَى الذين لاَ يَعْقِلُونَ } أي حج الله وأدلته ، وهو العادل في كل ذلك في هداية من هدى وإضلال من ضل .(1/1148)
قُلِ انْظُرُوا مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الْآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)
يرشد تعالى عباده إلى التفكر في آلائه ، وما خلق الله في السماوات والأرض من الآيات الباهرة لذوي الألباب ، وما أنزل الله منها من مطر فأحيا به الأرض بعد موتها ، وأخرج فيها من أفانين الثمار والزروع والأزاهير وصنوف النبات ، وما ذرأ فيها من دواب مختلفة الأشكال والألوان والمنافع ، وما فيها من جبال وسهول وقفار وعمران وخراب ، وما في البحر من العجائب والأمواج ، وهو مع هذا مسخّر مذلل للسالكين ، بتسخير القدير لا إله إلا هو رب العالمين ، وقوله : { وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } أي : وأي شيء تغني الآيات السماوية والأرضية ، والرسل بآياتها وحججها وبراهينها الدالة على صدقها ، عن قوم لا يؤمنون ، كقوله : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 96 ] الآية ، وقوله : { فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ } ، أي فهل ينتظر هؤلاء المكذبون لك يا محمد من النقمة والعذاب إلا مثل أيام الله في الذين خلوا من قبلهم من الأمم الماضية المكذبة لرسلهم ، { قُلْ فانتظروا إِنِّي مَعَكُمْ مِّنَ المنتظرين * ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ } ، أي ونهلك المكذبين بالرسل ، { كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ المؤمنين } حقاً أوجبه الله تعالى على نفسه الكريمة ، كقوله : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } [ الأنعام : 54 ] ، وكما جاء في « الصحيحين » : « إن الله كتب كتاباً فهو عنده فوق العرش ، إن رحمتي سبقت غضبي » .(1/1149)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلَا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ ياأيها الناس إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ } [ الأنعام : 104 ] من صحة ما جئتكم به من الدين الحنيف الذي أوحاه الله إليَّ ، فأنا لا أبعد الذين تعبدون من دون الله ، ولكن أعبد الله وحده لا شريك له ، وهو الذي يتوفاكم كما أحياكم ، ثم إليه مرجعكم ، فإن كانت آلهتكم التي تدعون من دون الله حقاً فأنا لا أعبدها ، فادعوها فلتضرني فإنها لا تضر ولا تنفع ، وإنما الذي بيده الضر والنفع هو الله وحده لا شريك له ، وأمرت أن أكون من المؤمنين ، وقوله : { وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً } [ يونس : 105 ] أي أخلص العبادة لله وحده حنيفاً أي منحرفاً عن الشرك ، ولهذا قال : { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين } [ يونس : 105 ] ، وهو معطوف على قوله : { وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ يونس : 104 ] ، وقوله : { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ } الآية ، فيه بيان لأن الخير والشر النفع والضر إنما هو راجع إلى الله تعالى وحده ، روى الحافظ ابن عساكر ، عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اطلبوا الخير دهركم كله ، وتعرضوا لنفحات ربكم ، فإن لله نفحات من رحمته يصيب بها من يشاء من عباده ، واسألوه أن يستر عوراتكم ويؤمن روعاتكم » وقوله : { وَهُوَ الغفور الرحيم } أي لمن تاب إليه ولو من أي ذنب كان حتى من الشرك به فإنه يتوب عليه .(1/1150)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109)
يقول تعالى آمراًلرسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر الناس ، أن الذي جاءهم به من عند الله هو الحق الذي لا مرية فيه ، فمن اهتدى به واتبعه فإنما يعود نفعه على نفسه ، ومن ضل عنه فإنما يرجع وبال ذلك عليه ، { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } ، أي وما أنا موكل بكل حتى تكونوا مؤمنين ، وإنما أنا نذير لكم ، والهداية على الله تعالى ، وقوله : { واتبع مَا يوحى إِلَيْكَ واصبر } أي تمسك بما أنزل الله عليك وأوحاه إليك ، واصبر على مخالفة من خالفك من الناس { حتى يَحْكُمَ الله } أي يفتح بينك وبينهم ، { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } أي خير الفاتحين بعدله وحكمته .(1/1151)
الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4)
تقدم الكلام على حروف الهجاء في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هنا وبالله التوفيق ، وأما قوله { الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } أي هي محكمة في لفظها ، مفصلة في معناها فالقرآن كامل صورة ومعنى ، هذا معنى ما روى عن مجاهد وقتادة واختاره ابن جرير ، وقوله : { مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ } أي من عند الله الحكيم في أقواله وأحكامه ، الخبير بعواقب الأمور { أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ الله } أي أنزل هذا القرآن المحكم المفصل لعبادة الله وحده لا شريك له ، وقوله : { إِنَّنِي لَكُمْ مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ } أي إني لكم نذير من العذاب إن خالفتموه ، وبشير الثواب إن أطعتموه؛ كما جاء في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صعد الصفا ، فدعا بطون قريش الأقرب ثم الأقرب ، فاجتمعوا ، فقال : « يا معشر قريش أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً تصبّحكم ألستم مصدقيّ؟ » فقالوا : ما جربنا عليك كذباً ، قال : فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد « ، وقوله : { وَأَنِ استغفروا رَبَّكُمْ ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ } أي وآمركم بالاستغفار من الذنوب السالفة والتوبة منها إلى الله عزّ وجلّ فيما تستقبلونه ، وأن تستمروا على ذلك : { يُمَتِّعْكُمْ مَّتَاعاً حَسَناً } أي في الدنيا ، { إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } أي في الدار الآخرة ، قاله قتادة ، كقوله : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : 97 ] الآية ، وقد جاء في » الصحيح « أن رسول الله صلى الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد : » وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا أجرت بها حتى ما تجعل في فيّ امرأتك « ، عن ابن مسعود في قوله : { وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ } ، قال : من عمل سيئة كتبت عليه سيئة ، ومن عمل حسنة كتبت له عشر حسنات ، فإن عوقب بالسيئة التي كان عملها في الدنيا ، بقيت له عشر حسنات ، وإن لم يعاقب بها في الدنيا أخذ من الحسنات العشر واحدة وبقيت له تسع حسنات ، ثم يقول : هلك من غلب آحاده على أعشاره وقوله : { وَإِن تَوَلَّوْاْ فإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } ، هذا تهديد شديد لمن تولى عن أوامر الله تعالى ، وكذَّب رسله فإن العذاب يناله يوم القيامة لا محالة { إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ } أي معادكم يوم القيامة ، { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي وهو القادر على ما يشاء من إحسانه إلى أوليائه وانتقامه من أعدائه ، وإعادة الخلائق يوم القيامة ، وهذا مقام ترهيب كما أن الأول مقام ترغيب .(1/1152)
أَلَا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلَا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5)
قال ابن عباس : كانوا يكرهون أن يستقبلوا السماء بفروجهم وحال وقاعهم ، فأنزل الله هذه الآية ، وفي لفظ آخر له : أناس كانوا يستحيون أن يتخلوا ، فيفضوا إلى السماء ، وأن يجامعوا نساءهم فيفضوا إلى السماء ، فنزل ذلك فيهم ، قال البخاري : { يَسْتَغْشُونَ } يغطون رؤوسهم ، وقال ابن عباس في رواية أخرى في تفسير هذه الآية : يعني به الشك في الله وعمل السيئات ، أي أنهم كانوا يثنون صدورهم إذا قالوا شيئاً أو عملوه ، فيظنون أنهم يستخفون من الله بذلك ، فأخبرهم الله تعالى أنهم حين يستغشون ثيابهم عند منامهم في ظلمة الليل { يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } من القول ، { وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي يعلم ما تكن صدورهم من النيات والضمائر والسرائر ، وما أحسن ما قال ( زهير بن أبي سلمى ) في معلقته المشهورة :
فلا تكتمن الله ما في قلوبكم ... ليخفى ومهما يكتم الله يعلم
وقال عبد الله بن شداد : كان أحدهم إذا مر برسول الله صلى الله عليه وسلم ثنى عنه صدره وغطى رأسه فأنزل الله ذلك ، وعود الضمير إلى الله أولى ، لقوله : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } .(1/1153)
وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (6)
أخبر تعالى أنه متكفل بأرزاق المخلوقات من سائر دواب الأرض ، صغيرها وكبيرها وأنه يعلم مستقرها ، أي يعلم أين منتهى سيرها في الأرض وأين تأوي إليه من وكرها وهو مستودعها ، عن ابن عباس : { وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا } أي حيث تأوي { وَمُسْتَوْدَعَهَا } حيث تموت ، وعن مجاهد : { مُسْتَقَرَّهَا } في الرحم { وَمُسْتَوْدَعَهَا } في الصلب ، فجميع ذلك مكتوب في كتاب عند الله كقوله : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } [ الأنعام : 38 ] ، وقوله : { وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] .(1/1154)
وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلَا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفًا عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8)
يخبر تعالى عن قدرته على كل شيء وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، وأن عرشه كان على الماء قبل ذلك ، كما روى الإمام أحمد ، « عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » اقبلوا البشرى ما بني تميم « ، قالوا : قد بشرتنا فأعطنا ، قال : » اقبلوا البشرى يا أهل اليمن « ، قالوا : قد قبلنا ، فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال : » كان الله قبل كل شيء ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء « ، قال : فأتاني آتٍ فقال : يا عمران انحلت ناقتك من عقالها ، قال : فخرجت في إثرها ، فلا أدري ما كان بعدي » .
وفي « صحيح مسلم » عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يلخق السماوات والأرض بخسمين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء » ، قال مجاهد : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } قبل أن يخلق شيئاً ، وقال قتادة : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } ينبئكم كيف كان بدء خلقه قبل أن يخلق السماوات والأرض ، وقال ابن عباس : إنما سمي العرش عرشاً لارتفاعه ، وعن سعيد بن جبير ، سئل ابن عباس عن قول الله : { وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى المآء } على أي شيء كان الماء؟ قال : على متن الريح .
وقوله تعالى : { لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } أي خلق السماوات والأرض لنفع عباده الذين خلقهم ليعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ولم يخلق ذلك عبثاً ، كقوله : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً } [ ص : 27 ] ، وقال تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لاَ تُرْجَعُونَ * فَتَعَالَى الله الملك الحق } [ المؤمنون : 115-116 ] ، وقوله : { لِيَبْلُوَكُمْ } أي ليختبركم { أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً } ولم يقل أكثر عملاً ، بل { أَحْسَنُ عَمَلاً } ولم يقل أكثر عملاً ، بل { أَحْسَنُ عَمَلاً } ، ولا يكون العمل حسناً حتى يكون خالصاً لله عزّ وجلّ ، على شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمتى فقد العمل واحداً من هذين الشرطين حبط وبطل ، وقوله : { وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُمْ مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الموت } الآية ، يقول تعالى ولئن أخبرت يا محمد هؤلاء المشركين أن الله سيبعثهم بعد مماتهم كما بدأهم مع أنهم يعلمون أن الله تعالى هو الذي خلق السماوات والأرض ، وهم مع هذا ينكرون البعث والمعاد يوم القيامة ، الذي هو بالنسبة إلى القدرة أهون من البداءة ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ } [ الروم : 27 ] ، وقولهم : { إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي يقولون كفراً وعناداً ما نصدقك على وقوع البعث ، وما يذكر ذلك إلا من سحرته فهو يتبعك على ما تقول ، وقوله : { وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ العذاب إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } الآية ، يقول تعالى : ولئن أخرنا عنهم العذاب والمؤاخذة إلى أجل معدود وأمد محصور ، وأوعدناهم إلى مدة مضروبة ليقولن تكذيباً واستعجالاً { مَا يَحْبِسُهُ } أي يؤخر هذا العذاب عنا ، فإن سجاياهم قد ألفت التكذيب والشك ، فلم يبق لهم محيص عنه ولا محيد؛ والأمة تستعمل القرآن في معان متعددة ، فيراد بها الأمد كقوله في هذه الآية : { إلى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ } ، وقوله في يوسف(1/1155)
{ وادكر بَعْدَ أُمَّةٍ } [ يوسف : 45 ] ، وتستعمل في الإمام المتقدى به ، كقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً } [ النحل : 120 ] ، وتستعمل في الملة والدين ، كقول المشركين : { إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ } [ الزخرف : 22 ] ، وتستعمل في الجماعة كقوله : { وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ } [ القصص : 23 ] ، وتستعمل في الفرقة والطائفة كقوله تعالى : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] .(1/1156)
وَلَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11)
يخبر تعالى عن الإنسان وما فيه من الصفات الذميمة ، إلا من رحم الله ، أنه إذا أصابته شدة بعد نعمة حصل له يأس وقنوط بالنسبة إلى المستقبل ، وكفر وجحود لماضي الحال ، كأنه لم ير خيراً ولم يرج بعد ذلك فرجاً ، وهكذا إن أصابته نعمة بعد نقمة { لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عني } أي يقول ما ينالني بعد هذا ضيم ولا سوء ، { إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } أي فرح بما في يده بطر فخور على غيره ، قال الله تعالى : { إِلاَّ الذين صَبَرُواْ } أي على الشدائد والمكاره ، { وَعَمِلُواْ الصالحات } أي في الرخاء والعافية ، { أولئك لَهُمْ مَّغْفِرَةٌ } أي بما يصيبهم من الضراء { وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } بما أسلفوه في زمن الرخاء كما جاء في الحديث : « والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا غم ولا نصب ولا وصب ولا حزن حتى الشوكة يشوكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه » ، وفي « الصحيحين » : « والذي نفسي بيده لا يقضي الله للمؤمن قضاء إلا كان خيراً له إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له ، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له ، وليس ذلك لأحد غير المؤمن » .(1/1157)
فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جَاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنْتَ نَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)
يقول تعالى مسلياً لرسول الله صلى الله عليه وسلم عما كان يتعنت به المشركون فيما كانوا يقولونه عن الرسول كما أخبر تعالى عنهم في قوله : { وَقَالَ الظالمون إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً } [ الفرقان : 8 ] ، فأمر الله تعالى رسوله صلوات الله وسلامه عليه وأرشده إلى أن لا يضيق بذلك منهم صدره ، ولا يصدنه ذلك ولا يثنيه عن دعائهم إلى الله عزّ وجلّ آناء الليل وأطراف النهار ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ } [ الحجر : 97 ] الآية ، وقال : هاهنا : { فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يوحى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ } أي لقولهم ذلك ، فإنما أنت نذير ولك أسوة بإخوانك من الرسل قبلك فإنهم كُذّبوا وأوذوا فصبروا حتى أتاهم نصر الله عزّ وجلّ ، ثم بين تعالى إعجاز القرآن ، وأنه لا يستطيع أحد أن يأتي بمثله ولا بعشر سور مثله ، ولا بسورة من مثله ، لأن كلام العرب تعالى لا يشبه كلام المخلوقين كما أن صفاته لا تشبه صفات المحدثات ، وذاته لا يشبهها شيء ، تعالى وتقدس وتنزه ، ثم قال تعالى : { فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ } أي فإن لم يأتوا بما دعوتموهم إليه ، فاعلموا أنهم عاجزون عن ذلك ، وأن هذا الكلام منزل من عند الله متضمن علمه وأمره ونهيه { وَأَن لاَّ إله إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُمْ مُّسْلِمُونَ } .(1/1158)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ (15) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (16)
قال ابن عباس : إن أهل الرياء يعطون بحسناتهم في الدنيا ، وذلك أنهم لا يظلمون نقيراً ، يقول : من عمل صالحاً التماس الدنيا صوماً أو صلاة لا يعمله إلا التماس الدنيا ، أوفّيه الذي التمس في الدنيا من المثابة وحبط عمله الذي كان يعمله وهو في الآخرة من الخاسرين ، وقال أنس والحسن : نزلت في اليهود والنصارى ، وقال مجاهد : نزلت في أهل الرياء ، وقال قتادة : من كانت الدنيا همه ونيته وطلبته ، جازاه الله بحسناته في الدنيا ، ثم يفضي إلى الآخرة وليس له حسنة يعطى بها جزاء ، وأما المؤمن فيجازي بحسناته في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة ، كما قال تعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [ الإسراء : 18 ] ، وقال تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ](1/1159)
أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (17)
يخبر تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله تعالى ، التي فطر عليها عباده ، كما قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] الآية . وفي « الصحيحين » : « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه » الحديث ، وفي « صحيح مسلم » : « يقول الله تعالى إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين ، فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم ، وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً » فالمؤمن باق على هذه الفطرة ، وقوله : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } أي جاءه شاهد من الله ، وهو ما أوحاه إلى الأنبياء من الشرائع المطهرة المكملة المعظمة ، المختتمة بشريعة محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، ولهذا قال ابن عباس ومجاهد : { وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } إنه جبريل عليه السلام ، وعن علي والحسن وقتادة : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وكلاهما قريب في المعنى ، لأن كلا من جبريل ومحمد صلوات الله عليهما بلغ رسالة الله تعالى ، ولهذا قال تعالى : { أَفَمَن كَانَ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ } وهو القرآن بلّغه جبريل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وبلّغه النبي إلى أمته ، ثم قال تعالى : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى } أي ومن قبل القرآن كتاب موسى وهو التوراة { إِمَاماً وَرَحْمَةً } أي أنزله الله تعالى إلى تلك الأمة إماماً لهم ، وقدوة يقتدون بها ورحمة من الله بهم ، فمن آمن به حق الإيمان قاده ذلك إلى الإيمان بالقرآن ، ولهذا قال تعالى : { أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ } ثم قال تعالى متوعداً لمن كذب بالقرآن أو بشيء منه ، { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ } أي ومن كفر بالقرآن من سائر أهل الأرض ، مشركهم وكافرهم وأهل الكتاب وغيرهم من سائر طوائف بني آدم ممن بلغه القرآن ، كما قال تعالى : { لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] { فالنار مَوْعِدُهُ } كما ورد في « الصحيح » « والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم لا ؤمن بي إلا دخل النار » ، وقال سعيد بن جبير : كنت لا أسمع بحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت تصديقه في القرآن ، فبلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار » فجعلت أقول : أين مصداقه في كتاب الله؟ حتى وجدت هذه الىية : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُه } ، قال : من الملل كلها ، وقوله : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّكَ } الآية ، أي القرآن حق من الله لا مرية ولا شك فيه ، كما قال تعالى : { تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين } [ السجدة : 2 ] ، وقال تعالى : { الم * ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } [ البقرة : 1-2 ] ، وقوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } ، كقوله تعالى : { وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] وقوله : { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله } [ الأنعام : 116 ] .(1/1160)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُولَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الْأَشْهَادُ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلَا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (21) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)
يبيّن تعالى حال المفترين عليه وفضيحتهم في الدار الآخرة على رؤوس الخلائق ، كما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله عزّ وجلّ يدني المؤمن ، فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ، ويقرره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ أتعرف ذنب كذا؟ حتى إذا قرره بذنوبه ، ورأى في نفسه أنه قد هلك ، قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وإني أغفرها لك اليوم ، ثم يعطى كتاب حسناته ، وأما الكفار والمنافقون فيقول : { الأشهاد هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } » الآية . وقوله : { الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي يردون الناس عن اتباع الحق ، وسلوك طريق الهدى والموصلة إلى الله عزّ وجلّ ، { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي ويريدون أن يكون طريقهم { عِوَجاً } غير معتدلة ، { وَهُمْ بالآخرة هُمْ كَافِرُونَ } أي جاحدون بها مكذبون بوقوعها ، { أولئك لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأرض وَمَا كَانَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ } أي بل كانوا تحت قهره وغلبته ، وفي قبضته وسلطانه ، وهو قادر على الانتقام منهم ، ولكن { يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } [ إبراهيم : 42 ] ، وفي « الصحيحين » : « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته ، » ، ولهذا قال تعالى : { يُضَاعَفُ لَهُمُ العذاب } ، الآية أي يضاعف عليهم العذاب وذلك أن الله تعالى جعل لهم سمعاً وأبصاراً وأفئدة ، فما أغنى عنهم سمعهم ولا أبصارهم ولا أفئدتهم ، بل كانوا صماً عن سماع الحق ، عمياً عن ابتاعه ، كما أخبر تعالى عنهم حين دخولهم النار { وَقَالُواْ لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا في أَصْحَابِ السعير } [ الملك : 10 ] .
وقوله تعالى : { أولئك الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي خسروا أنفسهم لأنهم أدخلوا نار حامية ، فهم معذبون فيها لا يفتر عنهم من عذابها ، كما قال تعالى : { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [ الإسراء : 97 ] ، { وَضَلَّ عَنْهُمْ } أي ذهب عنهم ، { مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } من دون الله من الأنداد والأصنام فلم تجد عنهم شيئاً بل ضرتهم كل الضرر ، كما قال تعالى : { وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 6 ] ، وقال تعالى : { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] وقال الخليل لقومه : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [ العنكبوت : 25 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على خسرهم ودمارهم ، ولهذا قال : { لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الأخسرون } ، يخبر تعالى عن مآلهم بأنهم خسر الناس في الآخرة ، لأنهم اعتاضوا عن نعيم الجنان بحميم آن ، وعن الحور العين بطعام من غسلين ، وعن القصور العالية بالهاوية ، فلا جرم أنهم في الآخرة هم الأخسرون .(1/1161)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُوا إِلَى رَبِّهِمْ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمَى وَالْأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلًا أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (24)
لما ذكر تعالى حال الأشقياء ، ثنَّى بذكر السعداء ، وهم الذين آمنوا وعملوا الصالحات ، وبهذا ورثوا الجنات ، المشتملة ، على الغرف العاليات ، والقطوف الدانيات ، والحسان الخيرات ، والفواكه المتنوعات ، والنظر إلى خالق الأرض والسماوات ، وهم في ذلك خالدون ولا يموتون ولا يهرمون ولا يمرضون ، ولا يبصقون ، ولا يتمخطون ، إن هو إلا رشح مسك يعرقون؛ ثم ضرب تعالى مثل الكافرين والمؤمنين فقال : { مَثَلُ الفريقين } أي الذين وصفهم أولاً بالشقاء ، والمؤمنين بالسعادة ، فأولئك كالأعمى والأصم ، وهؤلاء كالبصير والسميع ، فالكافر أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يعرفه ، أصم عن سماع الحجج فلا يسمع ما ينتفع به ، { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ } [ الأنفال : 23 ] ، وأما المؤمن ففطن ذكي ، بصير الحق يميز بينه وبين الباطل ، فيتبع الخير ويترك الشر ، سميع للحجة فلا يروج عليه باطل ، فهل يستوي هذا وهذا؟ { أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } أفلا يعتبرون فتفرقون بين هؤلاء وهؤلاء كما قال تعالى : { لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون } [ الحشر : 20 ] ، كقوله : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير * وَلاَ الظلمات وَلاَ النور * وَلاَ الظل وَلاَ الحرور * وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور } [ فاطر : 19-22 ] .(1/1162)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27)
يخبر تعالى عن نوح عليه السلام ، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض من المشركين عبدة الأصنام أنه قال لقومه : { إِنَّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي ظاهر النذارة لكم من عذاب الله إن أنتم عبدتم غير الله ، ولهذا قال : { أَن لاَّ تعبدوا إِلاَّ الله } ، وقوله : { إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ } أي إن استمررتم على ما أنتم عليه عذبكم الله عذاباً أليماً ، { فَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ } ، والملأ هم ( السادة والكبراء ) من الكافرين منهم { مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا } ، أي لست بملك ولكنك بشر ، فكيف أوحي إليك من دوننا؟ ثم ما نراك اتبعك إلا الذين هم أراذلنا كالباعة والحاكة وأشباههم ولم يتبعك الأشراف ولا الرؤساء منا ، ثم هؤلاء الذين اتبعوك لم يكن عن فكر ولا نظر ، بل بمجرد ما دعوتهم أجابوك ، ولهذا قالوا : { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي } أي في أول بادئ { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } ، يقولون : ما رأينا لكم علينا فضيلة في خلق ولا خُلُق لما دخلتم في دينكم هذا ، { بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ } أي فيما تدعونه لكم من البر والصلاح والعبادة والسعادة . هذا اعتراض الكافرين على نوح عليه السلام وأتباعه ، وهو دليل على جهلهم وقلة علمهم وعقلهم ، فإنه ليس بعار على الحق رذالة من اتبعه ، سواء اتبعه الأشراف أو الأراذل ، بل الحق الذي لا شك فيه أن أتباع الحق هم الأشراف ولو كانوا فقراء ، والذين يأبونه هم الأراذل ولو كانوا أغنياء . والغالب على الأشراف والكبراء مخالفة الحق ، كما قال تعالى : { قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] ، ولما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان : أشراف الناس اتبعوه أو ضعفاؤهم؟ قال : بل ضعفاؤهم ، فقال هرقل : هم أتباع الرسل ، وقولهم : بادي الرأي ليس بمذمة ولا عيب ، لأن الحق إذا وضح لا يبقى للرأي ولا للفكر مجال ، والرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين إنما جاءوا بأمر جلي واضح ، وفي الحديث : « ما دعوت أحداً إلى الإسلام إلا كانت له كبوة غير ( أبي بكر ) ، فإنه لم يتلعثم » أي ما تردّد ولا تروّى ، لأنه رأى أمراً عظيماً واضحاً فبادر إليه وسارع ، وقوله : { وَمَا نرى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } ، هم لا يرون ذلك لأنهم عمي عن الحق لا يسمعون ولا يبصرون ، بل هم في ريبهم يترددون ، وفي الآخرة هم الأخسرون .(1/1163)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28)
يقول تعالى مخبراً عما رد به نوح على قومه في ذلك : { أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن ربي } أي على يقين وأمر جلي وبنوة صادقة وهي الرحمة العظيمة من الله به وبهم ، { فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ } أي خفيت عليكم فلم تهتدوا إليها ولا عرفتم قدرهابل بادرتم إلى تكذيبها وردها { أَنُلْزِمُكُمُوهَا } أي نغضبكم بقبولها وأنتم لها كارهون .(1/1164)
وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (30)
يقول لقومه : ولا أسألكم على نصحي { مَالاً } أجرة آخذها منكم ، إنما أبتغي الأجر من الله عزّ وجلّ : { وَمَآ أَنَاْ بِطَارِدِ الذين آمنوا } طلبوا منه أن يطرد المؤمنين عنه احتشاماً أن يجلسوا معهم ، كما سأل أمثالهم خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم أن يطرد عنهم جامعة من الضعفاء ويجلس معهم مجلساً خاصاً ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } [ الأنعام : 52 ] .(1/1165)
وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)
يخبرهم أنه رسول من الله يدعو إلى عبادة الله وحده ، ولا يسألهم عن ذلك أجراً ، ثم هو يدعو الشريف والوضيع ، فمن استجاب له فقد نجا ، ويخبرهم أنه لا قدرة له على التصرف في خزائن الله ، ولا يعلم من الغيب إلا ما أطلعه الله عليه ، وليس هو بملك من الملائكة ، بل هو مبشر مرسل مؤيد بالمعجزات ، ولا أقول عن هؤلاء الذين تحتقرونهم وتزدرونهم ، إنهم ليس لهم عند الله ثواب على أعمالهم { الله أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ } ، فإن كانوا مؤمنين ، فلهم جزاء الحسنى .(1/1166)
قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34)
يقول تعالى مخبراً عن استعجال قوم نوح نقمة الله وعذابه - والبلاء موكلٌ بالمنطق - { قَالُواْ يانوح قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا } أي حاججتنا فأكثرت من ذلك ونحن لا نتبعك ، { فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَآ } أي من النقمة والعذاب ادع علينا بما شئت فليأتنا ما تدعو به ، { إِن كُنتَ مِنَ الصادقين * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ الله إِن شَآءَ وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ } أي إنما الذي يعاقبكم ويعجلها لكم الله الذي لا يعجزه شيء ، { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } أي أيُّ شيء يجدي عليكم إبلاغي لكم وإنذاري إياكم ونصحي { إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } أي إغواءكم ودماركم ، { هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي هو مالك أزمة الأمور ، المتصرف الحاكم العادل الذي لا يجور ، له الخلق وله الأمر وهو المبدئ المعيد .(1/1167)
أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)
هذا كلام معترض في وسط هذه القصة ، مؤكد لها مقرر لها ، يقول تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم صلى الله عليه وسلم أم يقول هؤلاء الكافرون الجاحدون افترى هذا وافتعله من عنده ، { قُلْ إِنِ افتريته فَعَلَيَّ إِجْرَامِي } أي قائم ذلك عليّ { وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تُجْرِمُونَ } أي ليس ذلك مفتعلاً ولا مفترى ، لأني أعلم ما عند الله من العقوبة لمن كذب عليه .(1/1168)
وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلَا تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُقِيمٌ (39)
يخبر تعالى أنه أوحى إلى نوح ، لما استعجل قومه نقمة الله بهم وعذابه لهم ، فدعا عليهم نوح دعوته : { رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّاراً } [ نوح : 26 ] ، { فَدَعَا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فانتصر } [ القمر : 10 ] فعند ذلك أوحى الله إليه : { لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ } فلا تحزن عليهم ولا يهمنك أمرهم ، { واصنع الفلك } يعني السفينة ، { بِأَعْيُنِنَا } أي بمرأى منا ، { وَوَحْيِنَا } أي تعليمنا لك ما تصنعه ، { وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الذين ظلموا إِنَّهُمْ مُّغْرَقُونَ } ، قال قتادة : كان طولها ثلثمائة ذراع في عرض خمسين ، وعن الحسن : طولها ستمائة ذراع وعرضها ثلثمائة ، وقيل غير ذلك ، قالوا : وكان ارتفاعها في السماء ثلاثين ذراعاً ، ثلاث طبقات كل طبقة عشرة أذرع ، فالسفلى للدواب والوحوش ، والوسطى للإنس ، والعليا للطيور ، وكان بابها في عرضها ولها غطاء من فوقها مطبق عليها .
وقوله تعالى : { وَيَصْنَعُ الفلك وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ } أي يهزأون به ويكذبون بما يتوعدهم به من الغرق ، { قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ } الآية ، وعيد شديد وتهديد أكيد ، { مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ } أي يهينه في الدنيا ، { وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي دائم مستمر أبداً .(1/1169)
حَتَّى إِذَا جَاءَ أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ (40)
هذه موعدة من الله تعالى لنوح عليه السلام ، إذا جاء أمر الله من المطر الهتَّان ، الذي لا يقلع ولا يفتر ، كما قال تعالى : { فَفَتَحْنَآ أَبْوَابَ السمآء بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الأرض عُيُوناً فَالْتَقَى المآء على أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ } ، وأما قوله : { وَفَارَ التنور } ، فعن ابن عباس : التنور وجه الأرض ، أي صارت الأرض عيوناً تفور ، حتى فار الماء من التنانير التي هي مكان النار صارت تفور ماء ، وهذا قول جمهور السلف وعلماء الخلف ، فحينئذٍ أمر الله نوحاً عليه السلام أن يحمل معه في السفينة { مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثنين } من صنوف المخلوقات ذوات الأرواح ، وغيرها من النباتات اثنين ذكراً وأنثى ، وقوله : { وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } أي واحمل فيها اهلك وهم أهل بيته وقرابته ، { إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول } منهم ممن لم يؤمن بالله ، فكان منهم ابنه ( يام ) الذي انعزل وحده ، وامرأة نوح وكانت كافرة بالله ورسوله ، وقوله : { وَمَنْ آمَنَ } أي من قومك ، { وَمَآ آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ } أي نزر يسير مع طول المدة والمقام بين أظهرهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ، فعن ابن عباس : كانوا ثمانين نفساً منهم نساؤهم ، وعن كعب الأحبار : كانوا اثنين وسبعين نفساً ، وقيل : كانوا عشرة ، والله أعلم .(1/1170)
وَقَالَ ارْكَبُوا فِيهَا بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلَا تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاءِ قَالَ لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)
يقول تعالى إخباراً عن نوح عليه السلام للذين أمر بحملهم معه في السفينة أنه قال : { اركبوا فِيهَا بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا } أي بسم الله يكون جريها على وجه الماء ، وبسم الله يكون منتهى سيرها وهو رسوها . قال تعالى : { فَإِذَا استويت أَنتَ وَمَن مَّعَكَ عَلَى الفلك فَقُلِ الحمد للَّهِ الذي نَجَّانَا مِنَ القوم الظالمين } [ المؤمنون : 28 ] ، ولهذا تستحب التسمية في ابتداء الأمور ، عند الركوب على السفينة وعلى الدابة ، كما روى الطبراني ، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أمان أمتي من الغرق إذا ركبوا في السفن أن يقولوا : بسم الله الملك { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ } [ الأنعام : 91 ] - الآية - { بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } » ، وقوله : { إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } مناسب عند ذكر الانتقام من الكافرين بإغراقهم أجمعين فذكر أنه غفور رحيم كقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأعراف : 167 ] ، وقوله : { وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كالجبال } أي السفينة سائرة بهم على وجه الماء ، الذي قد طبق جميع الأرض ، حتى طغت على رؤوس الجبال ، وارتفع عليها بخمسة عشرة ذراعاً ، وقيل : بثمانين ميلاً ، وهذه السفينة جارية على وجه الماء بإذن الله وكنفه وعنايته ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَمَّا طَغَا المآء حَمَلْنَاكُمْ فِي الجارية * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَآ أُذُنٌ وَاعِيَةٌ } [ الحاقة : 11-12 ] ، وقال تعالى : { تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَآءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ } [ القمر : 14 ] ، وقوله : { ونادى نُوحٌ ابنه } الآية ، هذا هو الابن الرابع واسمه يام وكان كافراً ، دعاه أبو أن يؤمن ويركب معهم ، ولا يغرق مثل ما يغرق الكافرون ، { قَالَ سآوي إلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ المآء } اعتقد بجهله أن الطوفان لا يبلغ إلى رؤوس الجبال ، وأنه لو تعلق في رأس بجل لنجّاه ذلك من الغرق ، فقال لو أبوه نوح عليه السلام { لاَ عَاصِمَ اليوم مِنْ أَمْرِ الله إِلاَّ مَن رَّحِمَ } أي ليس شيء يعصم اليوم من أمر الله ، وقيل إنّ { عَاصِمَ } بمعنى ( معصوم ) كما يقال : طاعم وكاس ، بمعنى مطعوم ومكسو { وَحَالَ بَيْنَهُمَا الموج فَكَانَ مِنَ المغرقين } .(1/1171)
وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءَكِ وَيَا سَمَاءُ أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاءُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْدًا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)
يخبر تعالى أنه لما أغرق أهل الأرض لكهم إلا أصحاب السفينة ، أمر الأرض أن تبلع ماءها الذي نبع منها واجتمع عليها ، وأمر السماء أن تقعل عن المطر { وَغِيضَ المآء } ، أي شرع في النقص ، { وَقُضِيَ الأمر } أي فرغ من أهل الأرض قاطبة ممن كفر بالله لم يبق منهم ديار ، { واستوت } السفينة بمن فيها { عَلَى الجودي } قال مجاهد : وهو جبل بالجزيرة أرست عليه سفينة نوح عليه السلام ، وقال قتادة : استوت عليه شهراً حتى نزلوا منها وأبقى الله السفينة على الجودي عبرة وآية ، حتى رآها أوائل هذه الأمة ، وكم من سفينة قد كانت بعدها فهلكت وصارت رماداً ، وقال الضحاك : الجودي جبل بالموصل ، وقال بعضهم : هو الطور ، وقال كعب الأحبار : إن السفينة طافت ما بين المشرق والمغرب قبل أن تستقر على الجودي ، وقال قتادة وغيره : ركبوا في عاشر شهر رجب فساروا مائة وخمسين يوماً ، واستقرت بهم على الجودي شهراً ، وكان خروجهم من السفينة في يوم عاشوراء من المحرم ، وقد ورد نحو هذا في حديث مرفوع رواه ابن جرير ، وأنهم صاموا يومهم ذلك ، والله أعلم ، وقوله : { وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظالمين } أي هلاكاً وخساراً لهم وبعداً من رحمة الله ، فإنهم قد هلكوا عن آخرهم فلم يبق لهم بقية ، وقد روى ابن جرير عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لو رحم الله من قوم نوح أحداً لرحم أم الصبي » .(1/1172)
وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلَا تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (47)
هذا سؤال استعلام من نوح عليه السلام عن حال ولده الذي غرق : { فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابني مِنْ أَهْلِي } أي وقد وعدتني بنجاة أهلي ووعدك الحق الذي لا يخلف ، فكيف غرق وأنت أحكم الحاكمين ، { قَالَ يانوح إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ } أي الذين وعدت إنجاءهم لأني إنما وعدتك بنجاة من آمن من أهلك ، ولهذا قال : { وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ القول وَمَنْ } [ هود : 40 ] فكان هذا الولد ممن سبق عله القول بالغرق ، لكفره ومخالفته أباه نبي الله نوحاً عليه السلام ، قال ابن عباس : هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية ، وقال عكرمة : إنه عمل عملاً غير صالح ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قرأ بذلك .(1/1173)
قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلَامٍ مِنَّا وَبَرَكَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48)
قال محمد بن إسحاق : لما أراد الله أن يكف الطوفان أرسل ريحاً على وجه الأرض فسكن الماء ، وانسدت ينابيع الأرض وأبواب السماء ، يقول الله تعالى : { وَقِيلَ ياأرض ابلعي مَآءَكِ } [ هود : 44 ] الآية ، فجعل الماء ينقص ويغيض ويدبر ، وكان استواء الفلك على الجودي فيما يزعم أهل التوراة في الشهر السابع لسبع عشرة ليلة مضت منه ، وفي أول يوم من الشهر العاشر رأى رؤوس الجبال ، وظهر البر ، وكشف نوح عطاء الفلك { قِيلَ يانوح اهبط بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وعلى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ } الآية .(1/1174)
تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)
يقول تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم هذه القصة وأشباهها { مِنْ أَنْبَآءِ الغيب } يعني من أخبار الغيوب السالفة نوحيها إليك على وجهها كأنك شاهدها { نُوحِيهَآ إِلَيْكَ } أي نعلمك بها وحياً منا إليك ، { مَا كُنتَ تَعْلَمُهَآ أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هاذ } أي لم يكن عندك ولا عند أحد من قومك علم بها حتى يقول من يكذبك إنك تلعمتها منه ، بل أخبرك الله بها مطابقة لما كان عليه الأمر الصحيح ، كما تشهد به كتب الأنبياء قبلك ، فاصبر على تكذيب من كذبك من قومك وأذاهم لك فإنا سننصرك ونحوطك بعنايتنا ، ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة ، كما فعلنا بالمرسلين حين نصرناهم على أعدائهم { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ } [ غافر : 51 ] الآية ، { فاصبر إِنَّ العاقبة لِلْمُتَّقِينَ } .(1/1175)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52)
يقول تعالى : { وَ } لقد أرسلنا { إلى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً } آمراً لهم بعبادة الله وحده لا شريك له ناهياص لهم عن الأوثان التي افتروها واختلقوا لها أسماء الآلهة ، وأخبرهم أنه لا يريد منهم أجرة على هذا النصح والبلاغ من الله إنما يبغي ثوابه من الله الذي فطره ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } من يدعوكم إلى ما يصلحكم في الدنيا والآخرة من غير أجرة ، ثم أمرهم بالاستغفار الذي فيه تكفير الذنوب السالفة وبالتوبة عما يستقبلون ، ومن اتصف بهذه الصفة يسر الله عليه رزقه وسهل عليه أمره وحفظ شأنه ، ولهذا قال : { يُرْسِلِ السمآء عَلَيْكُمْ مِّدْرَاراً } ، وفي الحديث : « من لزم الاستغفار جعل الله له من كل هم فرجاً ومن كل ضيق مخرجاً ورزقه من حيث لا يحتسب » .(1/1176)
قَالُوا يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَنْ قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَاشْهَدُوا أَنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعًا ثُمَّ لَا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَا مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (56)
يخبر تعالى أنهم قالوا لنبيهم : { مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ } أي بحجة وبرهان على ما تدعيه ، { وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ } أي بمجرد قولك اتركوهم نتركهم { وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } بمصدقين ، { إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء } يقولون ما نظن إلا أن بعض الآلهة أصابك بجنون وخبل في عقلك ، بسبب نهيك عن عبادتها وعيبك لها ، { قَالَ إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ } ، يقول : إني بريء من جميع الأنداد والأصنام ، { فَكِيدُونِي جَمِيعاً } أي أنتم وآلهتكم إن كانت حقاً { ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ } أي طرفة عين . وقوله : { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ } أي تحت قهره وسلطانه ، وهو الحاكم العادل الذي لا يجوز في حكمه ، فإنه على صراط مستقيم ، وقد تضمن هذا المقام حجة بالغة ، ودلالة قاطعة على صدق ما جاءهم به ، وبطلان ما هم عليه من عبادة الأصنام ، التي لا تنفع ولا تضر ، بل هي جماد لا تسمع ولا تبصر ، ولا توالي ولا تعادي ، وإنما يستحق إخلاص العبادة الله وحده ، الذي ما من شيء إلا تحت ملكه وقهره وسلطانه ، فلا إله إلا هو ولا رب سواه .(1/1177)
فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ مَا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا إِنَّ رَبِّي عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُودًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَنَجَّيْنَاهُمْ مِنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْا رُسُلَهُ وَاتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ عَادًا كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)
يقول لهم هود : فإن تولوا عما جئتكم به من عبادة الله ربكم وحده لا شريك له ، فقد قامت عليكم الحجة بإبلاغي إياكم رسالة الله التي بعثني بها ، { وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ } يعبدونه وحده لا يشركون به ولا يبال بكم فإنكم لا تضرونه بكفركم بل يعود وبال ذلك عليكم ، { إِنَّ رَبِّي على كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ } أي شاهد وحافظ لأقوال عباده وأفعالهم ، { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } وهو الريح العقيم أهلكهم الله عن آخرهم ونجى هوداً وأتباعه من عذاب غليظ برحمته تعالى ولطفه { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ } ، كفروا بها وعصوا رسل الله وذلك أن من كفر بنبي فقد كفر بجميع الأنبياء ، فنزّل كفرهم منزلة من كفر بجميع الرسل { واتبعوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ } تركوا اتباع رسولهم الرشيد ، واتبعوا أمر كل جبار عنيد ، فلهذا اتبعوا في هذه الدنيا لعنة كلما ذكروا ، وينادى عليهم يوم القيامة على رؤوس الأشهاد { ألا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ } الآية ، قال السُّدي : ما بعث نبي بعد عاد إلا لعنوا على لسانه .(1/1178)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61)
يقول تعالى : { وَ } لقد أرسلنا { إلى ثَمُودَ } وهم الذين كانوا يسكنون مدائن الحجر بين تبوك والمدينة وكانوا بعد عاد فبعث الله منهم { أَخَاهُمْ صَالِحاً } فأمرهم بعبادة الله وحده ، ولهذا قال : { هُوَ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض } أي ابتدأ خلقكم منها خلق أباكم آدمن { واستعمركم فِيهَا } أي جعلكم عماراً تعمرونها وتستغلونها ، { فاستغفروه } لسالف ذنوبكم { ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ } فيما تستقبلونه ، { إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ } ، كما قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] الآية .(1/1179)
قَالُوا يَا صَالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينَا مَرْجُوًّا قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَنْ نَعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63)
يذكر تعالى ما كان من الكلام بين صالح عليه السلام وبين قومه وما كان عليه قومه من الجهل والعناد من قولهم : { قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هذا } أي كنا نرجوك في عقلك قبل أن تقول ما قلت : { أَتَنْهَانَآ أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا } ، وما كان عليه أسلافنا ، { وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } أي شك كثير ، { قَالَ ياقوم أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ على بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي } فيما أرسلني به إليكم على يقين وبرهان ، { وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ الله إِنْ عَصَيْتُهُ } ، وتركت دعوتكم إلى الحق وعبادة الله وحده ، فلو تركته لما نفعتموني ولما زدتموني { غَيْرَ تَخْسِير } أي خسارة .(1/1180)
وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُوا فِي دَارِكُمْ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلَا بُعْدًا لِثَمُودَ (68)
تقدم الكلام على هذه القصة مستوفى في سورة الأعراف بما أغنى عن إعادته ها هنا وبالله التوفيق .(1/1181)
وَلَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ فَمَا لَبِثَ أَنْ جَاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لَا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُوا لَا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِنْ وَرَاءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَا عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)
يقول تعالى : { وَلَقَدْ جَآءَتْ رُسُلُنَآ } وهم الملائكة إبراهيم بالبشرى ، قيل تبشره بإسحاق ، وقيل بهلاك قوم لوط ، ويشهد للأول قوله تعالى : { فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الروع وَجَآءَتْهُ البشرى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ } [ هود : 74 ] ، { قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ } أي عليكم ، قال : علماء البيان : هذا أحسن مما حيوه به لأن الرفع يدل على الثبوت والدوام { فَمَا لَبِثَ أَن جَآءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ } أي ذهب سريعاً ، فأتاهم بالضيافة وهو عجل فتى البقر ، { حَنِيذٍ } مشوي على الرضف وهي الحجارة المحماة ، هذا معنى ما روي عن ابن عباس وقتادة وغير واحد ، كما قال الآية الأخرى : { فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ * فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ } [ الذاريات : 26-27 ] وقد تضمنت هذه الآية آداب الضيافة من وجوه كثيرة ، وقوله : { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } ينكرهم ، { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } وذلك أن الملائكة لا همة لهم إلى الطعام ولا يشتهونه ولا يأكلونه ، فلهذا رأى حالهم معرضين عما جاء به فارغين عنه بالكلية ، فعند ذلك نكرهم { وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً } قال السدي : لما بعث الله الملائكة لقوم لوط أقبلت تمشي في صورة رجال شبان حتى نزلوا على إبراهيم فتضيفوه ، فلما رآهم أجلَّهم { فَرَاغَ إلى أَهْلِهِ فَجَآءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ } [ الذاريات : 26 ] فذبحه ثم شواه في الرضف وأتاهم به فقعد معهم ، وقامت سارة تخدمهم ، فذلك حين يقول : { وامرأته قَآئِمَةٌ } وهو جالس ، فلما قربه إليهم { قَالَ أَلاَ تَأْكُلُونَ } [ الذاريات : 27 ] ؟ قالوا : يا إبراهيم إنا لا نأكل طعاماً إلا بثمن ، قال : فإن لهذا ثمناً ، قالوا : وما ثمنه؟ قال : تذكرون اسم الله على أوله وتحمدونه على آخره ، فنظر جبريل إلى ميكائيل فقال : حق لهذا أن يتخذه ره خليلاً { فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ } ، يقول فلما رآهم لا يأكلون فزع منهم وأوجس منهم خيفة ، وقالت سارة : عجباً لأضيافنا نخدمهم بأنفسنا كرامة لهم وهم لا يأكلون طعامنا؟! { قَالُواْ لاَ تَخَفْ } أي قالوا : لا تخف منا إنا ملائكة أرسلنا إلى قوم لوط لنهلكهم ، فضحكت سارة استبشاراً بهلاكهم لكثرة فسادهم ، وغلظ كفرهم وعنادهم ، قال ابن عباس : { فَضَحِكَتْ } أي حاضت ، وقول وهب بن منبه : إنما ضحكت لما بشرت بإسحاق ، فمخالف لهذا السياق ، فإن البشارة صريحة مرتبة على ضحكها { فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } أي بولد لها يكون له ولد وعقب ونسل ، فإن يعقوب ولد إسحاق ، ومن هنا استدل من استدل بهذه الآية على أن الذبيح إنما هو ( إسماعيل ) وأنه يمتنع أن يكون هو إسحاق لأنه وقعت البشارة به ، وأنه سيولد له يعقوب ، فكيف يؤمر إبراهيم بذبحه وهو طفل صغير ولم يولد له بعد يعقوب الموعود بوجوده ، ووعد الله حق لاخلف فيه ، فيمتنع أن يؤمر بذبح هذا والحالة هذه ، فتعين أن يكون هو إسماعيل ، وهذا من أحسن الاستدلال وأصحه وأبينه ولله الحمد ، { قَالَتْ ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً } الآية حكى قولها في هذه الآية كما حكى فعلها في الآية الأخرى فإنها { ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ } ، وفي الذاريات(1/1182)
{ فَأَقْبَلَتِ امرأته فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَهَا وَقَالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ } [ الآية : 29 ] ، كما جرت به عادة النساء في أقوالهن وأفعالهن عند التعجب ، { قالوا أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ الله } أي قالت الملائكة لها : لا تعجبي من أمر الله فإنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون ، فلا تعجبي من هذا وإن كنت عجوزاً عقيماً وبعلك شيخاً كبيراً فإن الله على ما يشاء قدير ، { رَحْمَةُ الله وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ البيت إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ } أي هو الحميد في جميع أفعاله وأقواله ، محمود ممجد في صفاته وذاته .(1/1183)
فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءَتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)
يخبر تعالى عن إبراهيم عليه السلام أنه لما ذهب عنه الرو ، وهو ما أوجس من الملائكة خيفة حين لم يأكلوا وبشروه بعد ذلك بالولد وأخبروه بهلاك قوم لوط ، أخذ يقول : أتهلكون قرية فيها ثلثمائة مؤمن؟ قالوأ : لا ، قال : فتهلكون قرية فيها مائتا مؤمن؟ قالوا : لا ، حتى بلغ خمسة ، قالوا : لا ، قال : أرأيتكم أن كان فيها رجل واحد مسلم أتهلكونها؟ قالوا : لا ، فقال إبراهيم عليه السلام عند ذلك : { إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُواْ نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امرأته } [ العنكبوت : 32 ] الآية ، فسكت عنهم واطمأن نفسه ، وقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ } مدحٌ لإبراهيم بهذه الصفات الجميلة ، وقد تقدم تفسيرها . وقوله تعالى : { ياإبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هاذآ إِنَّهُ قَدْ جَآءَ أَمْرُ رَبَّكَ } الآية ، أنه قد نفذ فيهم القضاء وحقت عليهم الكلمة بالهلاك وحلول البأس الذي لا يرد عن القوم المجرمين .(1/1184)
وَلَمَّا جَاءَتْ رُسُلُنَا لُوطًا سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعًا وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِنْ قَبْلُ كَانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قَالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79)
يخبر تعالى عن قدوم الملائكة بعدما أعلموا إبراهيم بهلاكهم وفارقوه ، فانطلقوا من عنده فأتوا لوطاً عليه السلام ، وهم في أجمل صورة تكون على هيئة شبان حسان الوجوه ، ابتلاءً من الله - وله الحكمة والحجة البالغة - فساءه شأنهم وضاقت نفسه بسببهم ، وخشي أن يضيفهم أحد من قومه فينالهم بسوء ، { وَقَالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ } ، قال ابن عباس : شديد بلاؤه ، وذلك أنه علم أنه سيدافع عنهم ويشق عليه ذلك . وذكر قتادة أنهم أتوه وهو في أرض له فتضيفوه فاستحيا منهم ، فانطلق أمامهم وقال لهم في أثناء الطريق كالمعرض لهم بأن ينصرفوا عنه : ما أعلم على وجه الأ { ض أهل بلد أخبث من هؤلاء ، ثم مشى قليلاً ، ثم أعاد ذلك عليهم حتى كرره أربع مرات ، قال قتادة وقد كانوا امروا أن لا يهلكوهم حتى يشهد عليهم نبيهم بذلك ، قال السدي : خرجت الملائكة من عند إبراهيم نحو قرية لوط فبلغوا نهر سدوم نصف النهار ، ولقوا بنت لوط تستقي ، فقالوا : يا جارية هل من منزل؟ فقالت : مكانكم حتى آتيكم وفَرِقت عليهم من قومها فأتت أباها فقالت : يا أبتاه أدرك فتياناً على باب المدينة ما رأيت وجوه قوم أحسن منهم لا يأخذهم قومك وكان قومه نهوه أن يضف رجلاً ، فقالوا : خل عنا فلنضيف الرجال ، فجاء بهم فلم يعلم بهم أحد إلا أهل بيته ، فخرجت امرأته فأخبرت قومها فجاءوا يهرعون إليه ، وقوله : { يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ } أي يسرعون ويهرولون من فرحهم بذلك ، وقوله : { وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السيئات } أي لم يزل هذا من سجيتهم حتى أخذوا وهم على ذلك الحال ، وقوله : { قَالَ ياقوم هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } يرشدهم إلى نسائهم ، فإن النبي للأمة بمنزلة الوالد ، فأرشدهم إلى ما هو أنفع لهم في الدنيا والآخرة ، كما قال في الآية الأخرى ، { وَتَذَرُونَ مَا خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُمْ بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ عَادُونَ } [ الشعراء : 166 ] ، { قَالَ هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [ الحجر : 71 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة : { هؤلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ } قال مجاهد : لم يكن بناته ولكن كن من أمته وكل نبي أبو أمته ، وكذا روي عن قتادة وغير واحد . وقوله : { فَاتَّقُواْ اللًّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي } أي اقبلوا ما آمركم به من الاقتصار على نسائكم ، { أَلَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ } أي فيه خير ، يقبل ما أمره به ويترك ما أنهاه عنه ، { قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ } أي إنك لتعلم أن نساءنا لا أرب لنا فيهن ولا نشتهيهن ، { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } أي ليس لنا غرض إلا في الذكور وأنت تعلم ذلك ، فأي حاجة في تكرار القول علينا في ذلك؟ قال السدي : { وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } إنما نريد الرجال .(1/1185)
قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُوا يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)
يقول تعالى مخبراً عن نبيّه لوط عليه السلام إن لوطاً توعدهم بقوله : { لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً } الآية ، أي لكنت بكم وفعلت بكم الأفاعيل بنفسي وعشيرتي ، ولهذا ورد في الحديث : « رحمة الله على لوط لقد كان يأوي إلى ركن شديد - يعني الله عزّ وجلّ - فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه » ، فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم رسل الله إليه ، وأنهم لا وصول لهم إليه ، { قَالُواْ يالوط إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يصلوا إِلَيْكَ } وأمروه أن يسري بأهله من آخر الليل وأن يتبع أدبارهم ، أي يكون ساقة لأهله ، { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } أي إذا سمعت ما نزل بهم ولا تهولنكم تلك الأصوات المزعجة ، وقوله : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امرأتك } ذكروا أنها خرجت معهم وأنها لما سمعت الوجبة التفتت وقالت : واقوماه ، فجاءها حجر من السماء فقتلها ، ثم قربوا له هلاك قومه تبشيراً له لأنه قال لهم : أهلكوهم الساعة ، فقالوا : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ } ؟ هذا وقوم لوط وقوف على الباب وعكوف ، قد جاءوا يهرعون إليه من كل جانب ، ولوط واقف على الباب يدافعهم ويردعهم وينهاهم عما هم فيه ، وهم لا يقبلون منه ، بل يتوعدونه ويتهددونه ، فعند ذلك خرج عليهم جبريل عليه السلام ، فضرب وجوههم بجناحه فطمس أعينهم ، فرجعوا وهم لا يهتدون الطريق؛ كما قال تعالى : { وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَآ أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُواْ عَذَابِي وَنُذُرِ } [ القمر : 37 ] الآية .(1/1186)
فَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)
يقول تعالى : { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا } وكان ذلك عند طلوع الشمس { جَعَلْنَا عَالِيَهَا } وهي سدوم { سَافِلَهَا } ، كقوله : { فَغَشَّاهَا مَا غشى } [ النجم : 54 ] ، { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } أي حجارة من طين ، قاله ابن عباس وغيره . وقد قاله في الآية الأخرى : { حِجَارَةً مِّن طِينٍ } [ الذاريات : 33 ] أي مستحجرة قوية شديدة ، وقال بعضهم : مشوية ، وقال البخاري : { سِجِّيلٍ } : الشديد الكبير ، سجيل وسجين اللام والنون أختان ، وقوله : { مَّنْضُودٍ } قال بعضهم : منضودة في السماء أي معدة لذلك . وقال آخرون : { مَّنْضُودٍ } أي يتبع بعضهم بعضاً في نزولها عليهم ، وقوله : { مُّسَوَّمَةً } أي معلمة كل حجر مكتوب عليه اسم الذي ينزل عليه ، فبينا أحدهم يكون عند الناس يتحدث ، إذ جاءه حجر من السماء فسقط عليه من بين الناس فدمره ، فتتبعهم الحجارة من سائر البلاد حتى أهلكتهم عن آخرهم ، فلم يبق منهم أحد ، وقال مجاهد : أخذ جبريل قوم لوط من سرحهم ودورهم ، حملهم بمواشيهم وأمتعتهم ورفعهم حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ، ثم كفأها؛ وكان حملهم على خوافي جناحه الأيمن؛ ولما قلبها كان أول ما سقط منها شرفاتها . وقال قتادة وغيره . بلغنا أن جبريل عليه السلام لما أصبح نشر جناحه فانتسف بها أرضهم بما فيها من قصورها ودوابها وحجارتها وشجرها وجيمع ما فيها ، فضمها ، في جناحه فحواها وطواها في جوف جناحه ، ثم صعد بها إلى السماء الدنيا حتى سمع سكان السماء أصوات الناس والكلاب ، وكانوا أربعة آلاف ألف ، ثم قلبها ، فأرسلها إلى الأرض منكوسة ، ودمدم بعضها على بعض ، فجعل عاليها سافلها ، ثم أتبعها حجارة من سجيل ، قال تعالى : { جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ } فأهلكها الله وما حولها من المؤتفكات . وقال السدي : لما أصبح قوم لوط نزيل جبريل فاقتلع الأرض من سبع أرضين فحملها حتى بلغ بها السماء ، حتى سمع أهل السماء الدنيا نباح كلابهم وأصوات ديوكهم ثم قلبها فقتلهم فذلك قوله : { والمؤتفكة أهوى } [ النجم : 53 ] ، ومن لم يمت حتى سقط للأرض أمر الله عليه وهو تحت الأرض الحجارة ، ومن كان منهم شاذاً في الأرض يتبعهم في القرى ، فكان الرجل يتحدث فيأتيه الحجر فيقتله؛ فذلك قوله عزّ وجلّ : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ } [ الأعراف : 84 ] أي في القرى حجارة من سجيل ، وقوله : { وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ } أي وما هذه النقمة ممن تشبه بهم في ظلمهم ببعيد عنه .(1/1187)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84)
يقول تعالى : ولقد أرسلنا إلى مدين وهم قبيلة من العرب كانوا يسكنون بين الحجاز والشام قريباً من معان ، بلاداً تعرف بهم يقال لها ( مدين ) ، فأرسل الله إليهم شعيباً وكان من أشرفهم نسباً ، ولهذا قال : { أَخَاهُمْ شُعَيْباً } يأمرهم بعبادة الله تعالى وحده لا شريك له وينهاهم عن التطفيف في المكيال والميزان ، { إني أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ } أي في معيشتكم ورزقكم ، وإني أخاف أن تسلبوا ما أنتم فيه بانتهاككم محارم الله ، { وإني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ } أي في الدار الآخرة .(1/1188)
وَيَا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86)
نهاهم أولاً عن نقص المكيال والميزان إذا أعطوا الناس ، ثم أمرهم بوفاء الكيل والوزن ، ونهاهم عن العثو في الأرض بالفساد وقد كانوا يقطعون الطريق ، وقوله : { بَقِيَّةُ الله خَيْرٌ لَّكُمْ } ، قال ابن عباس : رزق الله خير لكم ، وقال الحسن : رزق الله خير لكم من بخسكم الناس ، وقال الربيع : وصية الله خير لكم ، وقال مجاهد : طاعة الله ، وقال قتادة : حظكم من الله خير لكم ، وقال ابن جرير : أي ما يفضل لكم من الربج بعد وفاء الكيل والميزان خير لكم من أخذ أموال الناس ، قلت ويشبه قوله قوله تعالى : { قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث } [ المائدة : 100 ] الآية ، وقوله : { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي برقيب ولا حفيظ ، أي افعلوا ذلك لله عزّ وجلّ ، لا تفعلوا ليراكم الناس بل الله عزّ وجلّ .(1/1189)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ أَصَلَاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87)
يقولون له على سبيل التهكم - قبحهم الله - { أصلاوتك } أي قراءتك ، { تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ ءابَاؤُنَآ } أي الأوثان والأصنام ، { أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } فنترك التطفيف عن قولك ، وهي أموالنا نُفعل فيها ما نريد ، قال الحسن في الآية : أي والله إن صلاته لتأمرهم أن يتركوا ما كان يعبد آباؤهم ، وقال الثوري في قوله : { أَوْ أَن نَّفْعَلَ في أَمْوَالِنَا مَا نَشَاءُ } ؟ يعنون الزكاة ، { إِنَّكَ لأَنتَ الحليم الرشيد } ؟! يقول ذلك أعداء الله على سبيل الاستهزاء قبحهم الله ولعنهم وقد فعل .(1/1190)
قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقًا حَسَنًا وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88)
يقول لهم أرأيتم يا قوم { إِن كُنتُ على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } أي على بصيرة فيما أدعو إليه ، { وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً } قيل : أراد النبوة ، وقيل : أراد الرزق الحلال ويحتمل الأمرين ، قال الثوري : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } أي لا أهاكم عن الشيء وأخالف أنا في السر فأفعله خفية عنكم ، وقال قتادة : لم أكن أنهاكم عن أمر وأرتكبه ، { إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت } أي فيما آمركم وأنهاكم إنما أريد إصلاحكم جهدي وطاقتي ، { وَمَا توفيقي } في إصابة الحق فيما أريده { إِلاَّ بالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } في جميع أموري { وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } أي أرجع ، قاله مجاهد . روى الإمام أحمد عن ربيعة بن أبي عبد الرحمن الانصاري قال : سمعت أبا حميد ، أو أبا أسيد يقول عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إذا سمعتم الحديث عني تعرفة قلوبكم ، وتلين له أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تعرفه قلوبكم ، وتلين له أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم قريب فأنا أولاكم به ، وإذا سمعتم الحديث عني تنكره قلوبكم وتنفر منه أشعاركم وأبشاركم ، وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه » ، ومعناه والله أعلم : مهما بلغكم عني من خير فأنا أولاكم به ، ومهما يكن من مكروه فأنا أبعدكم منه { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } ، قال أبو سليمان الضبي : كانت تجيئنا كتب ( عمر بن عبد العزيز ) فيها الأمر والنهي ، فيكتب في آخرها : وما كانت من ذلك إلا كما قال العبد الصالح { وَمَا توفيقي إِلاَّ بالله عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ } .(1/1191)
وَيَا قَوْمِ لَا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90)
يقول لهم : { وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي } أي لا تحملنكم عداوتي وبغضي على الإصرار على ما أنتم عليه من الكفر والفساد ، فيصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح وقوم هود وقوم صالح وقوم لوط من النقمة والعذاب ، وقال قتادة : { وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي } يقول : لا يحملنكم فراقي ، وقال السدي : عداوتي ، على أن تمادوا في الضلال والكفر فيصيبكم من العذاب ما أصابهم ، ولما أحاط الناس بعثمان بن عفان أشرف عليهم من داره فقال : { وياقوم لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شقاقي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَآ أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ } ، يا قوم لا تقتلوني ، إنكم إن قتلتموني كنتم هكذا ، وشبك بين أصابعه ، وقوله : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } قيل : المراد في الزمان ، قال قتادة : يعني إنما هلكوا بين أيديكم بالأمس ، وقيل : في المكان ، ويحتمل الأمران ، { واستغفروا رَبَّكُمْ } من سالف الذنوب ، { ثُمَّ توبوا إِلَيْهِ } فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة { إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ } لمن تاب .(1/1192)
قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفًا وَلَوْلَا رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92)
يقولون : { ياشعيب مَا نَفْقَهُ } ما نفهم { كَثِيراً } من قولك ، { وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً } ، قال السدي : أنت واحد ، وقال أبو روق : يعنون ذليلاً ، لأن عشيرتك ليسوا على دينك ، { وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ } أي قومك { لَرَجَمْنَاكَ } قيل : بالحجارة ، وقيل : لسببناك ، { وَمَآ أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ } أي ليس عندنا لك معزة ، { قَالَ ياقوم أرهطي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ الله } ، يقول : أتتركوني لأجل قومي ، ولا تتركوني إعظاماً لجناب الرب تبارك وتعالى أن تنالوا نبيّه بمساءة وقد اتخذتم جانب الله { وَرَآءَكُمْ ظِهْرِيّاً } أي نبذتموه خلفكم لا تطيعونه وال تعظمونه ، { إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ } أي هو يعلم جميع أعمالكم وسيجزيكم عليها .(1/1193)
وَيَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْبًا وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أَلَا بُعْدًا لِمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)
لما يئس نبي الله شعيب من استجابتهم له قال : يا قوم { اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } أي طريقتكم ، وهذا تهديد شديد { سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ } على طريقتي ، { وارتقبوا } ، أي مني ومنكم ، { إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } أي انتظروا ، { إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ } ، قال الله تعالى : { وَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً والذين آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَأَخَذَتِ الذين ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ، وقوله : { جَاثِمِينَ } أي هامدين لا حراك بهم وذكر هاهنا أنه أتتهم صيحة ، وفي الأعراف رجفة ، وفي الشعراء { عَذَابُ يَوْمِ الظلة } [ الشعراء : 189 ] ، وهم أمة واحدة اجتمع عليهم يوم عذابهم هذه النقم كلها ، وإنما ذكر في كل سياق ما يناسبه ، وقوله : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَآ } أي يعيشوا في دارهم قبل ذلك { أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ } وكانوا جيرانهم قريباً منهم في الدار وشبيهاً بهم في الكفر وكانوا عرباً مثلهم .(1/1194)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُوا فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)
يقول تعالى مخبراً عن إرسال موسى بآياته ودلالاته الباهرة إلى فرعون ملك القبط وملئه { فاتبعوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ } أي منهجه ومسلكه وطريقته في الغي ، { وَمَآ أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ } أي ليس فيه رشد ولا هدى ، وإنما هو جهل وضلال وكفر وعناد؛ وكما أنهم اتبعوه في الدنيا وكان مقدمهم ورئيسهم ، كذلك هو يقدمهم يوم القيامة إلى نار جهنم ، { يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ القيامة فَأَوْرَدَهُمُ النار وَبِئْسَ الورد المورود } ، وكذلك شأن المتبوعين يكونون موفرين في العذاب يوم القيامة ، كما قال تعالى؛ { لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ] ، وقال تعالى : { رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب } [ الأحزاب : 68 ] الآية ، وقوله : { وَأُتْبِعُواْ فِي هذه لَعْنَةً وَيَوْمَ القيامة } الآية ، أي أتبعناهم زيادة على عذاب النار لعنة في الدنيا ، { وَيَوْمَ القيامة بِئْسَ الرفد المرفود } . قال مجاهد : زيد لعنة يوم القيامة لعنتان ، وقال ابن عباس : لعنة الدنيا والآخرة ، وهو كقوله : { وَأَتْبَعْنَاهُم فِي هَذِهِ الدنيا لَعْنَةً وَيَوْمَ القِيَامَةِ هُمْ مِّنَ المقبوحين } [ القصص : 42 ] .(1/1195)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَائِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ لَمَّا جَاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101)
لما ذكر تعالى خبر الأنبياء وما جرى لهم مع أممهم وكيف أهلك الكافرين ونجى المؤمنين ، قال : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى } أي أخبارهم ، { نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ } أي عامر ، { وَحَصِيدٌ } أي هالك ، { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } أي إذا أهلكناهم { ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ } بتكذيبهم رسلنا وكفرهم بهم ، { فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ } أوثانهم التي يعبدونها ويدعونها { مِن دُونِ الله مِن شَيْءٍ } ما نفعوهم ولا أنقذوهم بإهلاكهم ، { وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ } . قال مجاهد وقتادة : أي غير تخسير ، وذلك أن سبب هلاكهم ودمارهم إنما كان باتباعهم تلك الآلهة ، فلهذا خسروا في الدنيا والآخرة .(1/1196)
وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102)
يقول تعالى : وكما أهلكنا أولئك القرون الظالمة المكذبة لرسلنا كذلك نفعل بأشباههم ، { إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } . وفي « الصحيحين » عن أبي موسى رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » ، ثم قرأ صلى الله عليه وسلم : { وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ } الآية .(1/1197)
إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خَافَ عَذَابَ الْآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105)
يقول تعالى : إن في إهلاكنا الكافرين وإنجائنا المؤمنين { لآيَةً } أي عظة واعتباراً على صدق موعودنا في الآخرة ، كما قال تعالى : { فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين } [ إبراهيم : 13 ] الآية . وقوله : { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس } أي أولهم وآخرهم ، كقوله : { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 47 ] ، { وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } أي عظيم تحضره الملائكة ، ويجتمع فيه الرسل وتحشر الخلائق بأسرهم ، من الإنس والجن والطير والوحوش والدواب ، ويحكم فيه العادل الذي لا يظلم مثقال ذرة ، وقوله : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } أي ما نؤخر إقامة القيامة إلا لأنه قد سبقت كلمة الله في وجود أناس معدودين من ذرية آدم ، ضرب مدة معينة إذا انقطعت وتكامل وجود أولئك المقدر خروجهم قامت الساعة ، ولهذا قال : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } أي لمدة مؤقتة لا يزاد عليها ولا ينتقص منها ، { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } أي يوم يأتي يوم القيامة لا يتكلم أحد إلا بإذن الله ، كقوله : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 37 ] ، وفي « الصحيحين » في حديث الشفاعة : « ولا يتكلم يومئذٍ إلا الرسل ودعوى الرسل يومئذٍ اللهم سلّمْ سلّمْ » ، وقوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } أي فمن أهل الجمع شقي ومنهم سعيد ، كما قال : { فَرِيقٌ فِي الجنة وَفَرِيقٌ فِي السعير } [ الشورى : 7 ] ، ثم بيّن تعالى حال الأشقياء وحال السعداء فقال :(1/1198)
فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (107)
يقول تعالى : { لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ } ، قال ابن عباس : الزفير في الحلق ، والشهيق في الصدر ، أي تنفسهم زفير وأخذهم النفسق شهيق ، لما هم فيه من العذاب ، { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض } قال ابن جرير : من عادة العرب إذا أرادت أن تصف الشيء بالدوام أبداً قالت : هذا دائم ، دوام السماوات والأرض ، وكذلك يقولون : هو باق ما اختلف الليل والنهار ، يعنون بذلك كله أبداً ، فخاطبهم جل ثناؤه بما يتعارفونه بينهم ، فقال : { خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السماوات والأرض } قلت : ويحتمل أن المراد بما دامت السماوات والأرض الجنس ، لأنه لا بد في عالم الآخرة من سماوات والأرض ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } [ إبراهيم : 48 ] ، ولهذا قال الحسن البصري في قوله : { مَا دَامَتِ السماوات والأرض } قال : يقول سماء غير هذه السماء وأرض غير هذه ، فما دامت تلك السماء وتلك الأرض ، وعن ابن عباس قال : لكل جنة سماء وأرض ، وقال ابن أسلم : ما دامت الأرض أرضاً والسماء سماء ، وقوله : { إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } ، كقوله : { النار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ الله إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } [ الأنعام : 128 ] ، وقد اختلف المفسرون في المراد من هذا الاستثناء على أقوال كثيرة نقل كثيراً منها ابن جرير رحمه الله ، واختار أن الاستثناء عائد على ( العصاة ) من أهل التوحيد ، ممن يخرجهم الله من النار بشفاعة الشافعين ، ثم تأتي رحمة أرحم الراحمين ، فتخرج من لم يعمل خيراً قط ، وقال يوماً من الدهر { لاَ إله إِلاَّ الله يَسْتَكْبِرُونَ } [ الصافات : 35 ] ، كما وردت بذلك الأخبار الصحيحة المستفيضة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولا يبقى بعد ذلك في النار إلا من وجب عليه الخلود فيها ، وهذا الذي عليه كثير العلماء قديماً وحديثاً ، وقال السدي : هي منسوخة بقوله : { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } [ النساء : 75 ] .(1/1199)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)
يقول تعالى : { وَأَمَّا الذين سُعِدُواْ } وهم أتباع الرسل { فَفِي الجنة } أي فمأواهم الجنة ، { خَالِدِينَ فِيهَا } أي ماكثين فيها أبداً ، { مَا دَامَتِ السماوات والأرض إِلاَّ مَا شَآءَ رَبُّكَ } معنى الاستثناء هاهنا أن دوامهم فيما هم فيه من النعيم ليس أمراً واجباً بذاته ، بل هو موكول إلى مشيئة الله تعالى ، فله المنة عليهم دائماً ، وعقّب ذلك بقوله : { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ أي غير مقطوع ، لئلا يتوهم متوهم بعد ذكره المشيئة ثم انقطاع أو لبس أو شيء ، بل حتم له بالدوام وعدم الانقطاع ، { إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ } [ هود : 107 ] ، كقوله : { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] ، وهنا طيَّب القلوب وثبَّت المقصود بقوله : { عَطَآءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ } . وقد جاء في « الصحيحين » : « يؤتى بالموت في صورة كبش أملح فيذبح بين الجنة والنار ، ثم يقال يا أهل الجنة خلود فلا موت ، ويا أهل النار خلود فلا موت » ، وفي « الصحيح » أيضاً : « فيقال : يا أهل الجنة إن لكم أن تعيشوا فلا تموتوا أبداً ، وإن لكم أن تشبوا فلا تهرموا أبداً ، وإن لكم أن تصحوا فلا تسقموا أبداً ، وإن لكم أن تنعموا فلا تبأسوا أبداً » .(1/1200)
فَلَا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هَؤُلَاءِ مَا يَعْبُدُونَ إِلَّا كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلًّا لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)
يقول تعالى : { فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هؤلاء } المشركون إنه باطلوجهل وضلال ، فإنهم إنما يعبدون ما يعبد آباؤهم من قبل ، أي ليس لهم مستند فيما هم فيه إلا اتباع الآباء في الجهالات وسيجزيهم الله على ذلك أتم الجزاء ، قال سفيان الثوري ، عن ابن عباس : { وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ } ، قال : ما وعدوا من خير أو شر ، وقال ابن أسلم : لموفوهم من العذاب نصيبهم غير منقوص ، ثم ذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب فاختلف الناس فيه فمن مؤمن به ومن كافر به ، فلك بمن سلف من الأنبياء قبلك يا محمد أسوة ، فلا يغيظنك تكذيبهم لك ، وقوله تعالى : { وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ } . قال ابن جرير : لولا ما تقدم من تأجيله العذاب إلى أجل معلوم لقضى الله نبيهم ، ويحتمل أن يكون المراد بالكلمة أنه لا يعذب أحداً إلا بعد قيام الحجة عليه وإرسال الرسول إليه كما قال : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } ، ثم أخبر تعالى أنه سيجمع الأولين والآخرين من الأمم ويجزيهم بأعمالهم فقال : { وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي عليم بأعمالهم جميعاً ، جليلها وحقيرها وصغيرها وكبيرها ، وقوله : { وَلاَ تركنوا إِلَى الذين ظَلَمُواْ } [ هود : 113 ] قال ابن عباس : هو الركون إلى الشرك ، وقال أبو العالية : لا ترضوا بأعمالهم؛ وقال ابن جرير عن ابن عباس : ولا تميلوا إلى الذين ظلموا؛ وهذا القول حسن ، أي لا تستعينوا بالظلمة فتكونوا كأنكم قد رضيتم بأعمالهم ، { فَتَمَسَّكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِنْ أَوْلِيَآءَ ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ } [ هود : 113 ] أي ليس لكم من دونه من ولي ينقذكم ، ولا ناصر يخلصكم من عذابه .(1/1201)
فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلَا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (113)
يأمر تعالى رسوله وعباده المؤمنين بالثبات والدوام على الاستقامة ، وذلك من أكبر العون على النصر على الأعداء ومخالفة الأضداد ، وينهى عن الطغيان ، وهو البغي ، فإنه مصرعة حتى ولو كان على مشرك ، وأعلم تعالى أنه بصير بأعمال العباد لا يغفل عن شيء ولا يخفى عليه شيء .(1/1202)
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)
قال ابن عباس : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار } قال : يعنى الصبح والمغرب ، وقال الحسن : هي الصبح والعصر . وقال مجاهد : هي الصبح في أول النهار والظهر والعصر مرة أخرى ، { وَزُلَفاً مِّنَ اليل } يعني صلاة العشاء . وقال مجاهد والضحاك : إنها صلاة المغرب والعشاء؛ وقد يحتمل أن تكون هذه الآية نزلت قبل فرض الصلوات الخمس ليلة الإسراء ، فإنه إنما كان يجب من الصلاة صلاتان : صلاة قبل طلوع الشمس ، وصلاة قبل غروبها ، وفي أثناء الليل قيام عليه وعلى الأمة ، ثم نسخ في حق الأمة ، وثبت وجوبه عليه ، ثم نسخ عنه أيضاً ، والله أعلم .
وقوله : { إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } يقول : إن فعل الخيرات يكفر الذنوب السالفة ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء إن ينفعني منه ، وإذا حدثني عنه أحد استحلفته فإذا حلف لي صدقته ، وحدثني أبو بكر - وصدق أبو بكر - أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من مسلم يذنب ذنباً فيتوضأ ويصلي ركعتين إلا غفر له » وفي « الصحيحين » عن أمير المؤمنين عثمان بن عفان : أنه توضأ لهم كوضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ وقال : من توضأ وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيها نفسه ، غفر له ما تقدم من ذنبه وفي « صحيح مسلم » عن أبي هريرة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الصلوات الخمس والجمعة إلى الجمعة ، ورمضان إلى رمضان مكفرات لما بينهن ما اجتنبت الكبائر » وقال البخاري ، عن أبي مسعود ، « أن رجلاً أصاب من امرأة قبله ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات } ، فقال الرجل : يا رسول الله ألي هذا؟ قال : » لجميع أمتي كلهم « .
وروى الإمام أحمد ، عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا من أحب ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده لا يسلم عبد حتى يسلم قلبه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه « ، قال : قلنا : وما بوائقه يا نبي الله؟ قال : غشه وظلمه ، ولا يكسب عبد مالاً حراماً فينفق منه فيبارك له فيه ، ولا يتصدق فيقبل منه ، ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيء بالسيء ، ولكن يمحو السيء بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث »(1/1203)
، وروى الإمام أبو جعفر بن جرير « عن أبي اليسر ( كعب بن عمرو الأنصاري ) قال : أتتني امرأة تبتاع مني بدرهم تمراً ، فقلت : إن في البيت مراً أجود من هذا ، فدخلت فأهويت إليها فقبلتها ، فأتيت عمر فسألته فقال : اتق الله واستر على نفسك ، ولا تخبرنّ أحداً ، فلم أصبر حتى أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال : » أخلفتَ رجلاً غازياً في سبيل الله في أهله بمثل هذا؟ « حتى ظننت أني من أهل النار ، حتى تمنيت أني أسلمت ساعتئذٍ » ، فأطرق رسول الله صلى الله عليه وسلم ساعة ، فنزل جبريل ، فقال أبو اليسر : فجئت فقرأ عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَأَقِمِ الصلاة طَرَفَيِ النهار وَزُلَفاً مِّنَ اليل إِنَّ الحسنات يُذْهِبْنَ السيئات ذلك ذكرى لِلذَّاكِرِينَ } فقال إنسان : يا رسول الله أله خاصة أم للناس عامة؟ قال : « للناس عامة » . وعن أبي ذر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اتق الله حيثما كنت وأتبع السيئة الحسنة تمحها ، وخالق الناس بخلق حسن » وفي رواية عنه قال ، قلت : يا رسول الله أوصني ، قال : « إذا عملت سيئة فأتبعها حسنة تمحها » ، قال : قلت : يا رسول الله أمن الحسنات ( لا إله إلا الله ) ؟ قال : « هي أفضل الحسنات » رواه أحمد .(1/1204)
فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117)
يقول تعالى : فهلا وجد من القرون الماضية بقايا من أهل الخير ، ينهون عما كان يقع بينهم من الشرور والمنكرات والفساد في الأرض ، وقوله : { إِلاَّ قَلِيلاً } أي قد وجد منهم من هذا الضرب قليل لم يكونوا كثيراً وهم الذين أنجاهم الله عند حلول غضبه وفجأة نقمته ، ولهذا أمر الله تعالى هذه الأمة الشريفة أن يكون فيها من يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ، كما قال تعالى : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وأولئك هُمُ المفلحون } [ آل عمران : 104 ] ، وفي الحديث : « إن الناس إذا رأوا المنكر فلم يغيروه أوشك أن يعمهم الله بعقاب » ، وقوله : { واتبع الذين ظَلَمُواْ مَآ أُتْرِفُواْ فِيهِ } أي استمروا على ما هم عليه من المعاصي والمنكرات ، ولم يلتفتوا إلى إنكار أولئك حتى فجأهم العذاب ، { وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ } ، ثم أخبر تعالى أنه لم يهلك قرية إلا وهي ظالمة لنفسها ، ولم يأت قرية مصلحة نقمته وعذابه قط حتى يكونوا هم الظالمين ، كما قال تعالى : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ } [ هود : 101 ] ، وقال : { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] .(1/1205)
وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119)
يخبر تعالى أنه قادر على جعل الناس كلهم أمة واحدة من إيمان وكفر ، كما قال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً } [ يونس : 99 ] ، وقوله : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } أي لا يزال الخلف بين الناس في أديانهم واعتقادات مللهم ونحلهم ومذاهبهم وآرائهم ، قال عكرمة : مختلفين في الهدى ، وقوله : { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } أي إلا المرحومين من أتباع الرسل الذين تمسكوا بما أمروا به من الدين ، أخبرتهم به رسل الله إليهم ولم يزل ذلك دأبهم ، حتى كان النبي وخاتم الرسل والأنبياء فاتبعوه وصدقوه ووازروه ، ففاز بسعادة الدنيا والآخرة ، لأنهم الفرقة الناجية ، وقال عطاء : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } يعني اليهود والنصارى والمجوس { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } يعني الحنيفية ، وقال قتادة : أهل رحمة الله : أهل الجماعة وإن تفرقت ديارهم وأبدانهم ، وأهل معصيته أهل الفرقة ، وإن اجتمعت ديارهم وأبدانهم ، وقوله : { ولذلك خَلَقَهُمْ } ، قال الحسن البصري : وللاختلاف خلقهم . وقال ابن عباس : خلقهم فريقين كقوله : { فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ } [ هود : 105 ] وعن ابن عباس قال : للرحمة خلقهم ولم يخلقهم للعذاب . ويرجع معنى هذا القول إلى قوله تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] ، وقيل : بل المراد وللرحمة وللاختلاف خلقهم ، كما قال الحسن البصري في رواية عنه في قوله : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ } قال : الناس مختلفون على أديان شتى { إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ } ، فمن رحم ربك غير مختلف ، فقيل له لذلك خلقهم ، قال : خلق هؤلاء لجنته ، وخلق هؤلاء لناره ، وخلق هؤلاء لعذابه ، وقال ابن وهب : سألت مالكاً عن قوله تعالى : { وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ولذلك خَلَقَهُمْ } قال : فريق في الجنة وفريق من السعير ، وقد اختار هذا القول ابن جرير ، وقوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ } يخبر تعالى أنه قد سبق في قضائه وقدره لعلمه التام وحكمته النافذة أن ممن خلقه من يستحق الجنة ، ومنهم من يستحق النار ، وأنه لا بد أن يملأ جهنم من هذين الثقلين ( الجن والإنس ) وله الحجة البالغة والحكمة التامة ، وفي « الصحيحين » عن أبي هريرة ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اختصمت الجنة والنار ، فقالت الجنة : مالي لا يدخلني إلا ضعفاء الناس وسقطهم ، وقالت النار : أوثرت بالمتكبرين والمتجبرين ، فقال الله عزّ وجلّ للجنة : أنت رحمتي أرحم بك من أشاء ، وقال للنار . أنت عذابي أنتقم بك ممن أشاء ، ولكل واحدة منكما ملؤها ، فأما الجنة فلا يزال فيها فضل حتى ينشئ الله لها خلقاً يسكن فضل الجنة ، وأما النار فلا تزال تقولك { هَلْ مِن مَّزِيدٍ } [ ق : 30 ] حتى يضع عليها رب العزة قدمه فتقول : قط قط وعزتك » .(1/1206)
وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120)
يقول تعالى : وكل أخبار نقصها عليك من أنباء الرسل المتقدمين من قبلك مع أممهم ، وكيف جرى لهم من المحاجات والخصومات ، وما احتمله الأنبياء من التكذيب والأذى ، وكيف نصر الله حزبه المؤمنين وخذل أعداءه الكافرين ، كل هذا مما { نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ } أي قلبك يا محمد ليكون لك بمن مضى من إخوانك من المرسلين أسوة ، وقوله : { وَجَآءَكَ فِي هذه الحق } أي في هذه السورة ، قاله ابن عباس ومجاهد وجماعة من السلف ، وعن الحسن وقتادة : في هذه الدنيا ، والصحيح في هذه السورة المشتملة على قصص الأنبياء ، وكيف أنجاهم الله والمؤمنين بهم ، وأهلك الكافرين ، جاءك فيها قصص حق ونبأ صدق وموعظة يرتدع بها الكافرون ، وذكرى يتذكر بها المؤمنون .(1/1207)
وَقُلْ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)
يقول تعالى آمراً رسوله أن يقول للذين لا يؤمنون بما جاء به من ربه على وجه التهديد { اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } أي على طريقتكم ومنهجكم ، { إِنَّا عَامِلُونَ } أي على طريقتنا ومنهجنا ، { وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ } أي { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } [ الأنعام : 135 ] ، وقد أنجز الله لرسوله وعده ونصره وأيده ، وجعل كلمته هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى والله عزيز حكيم .(1/1208)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)
يخبر تعالى أنه عالم غيب السماوات والأرض وأنه إليه المرجع والمآب ، وسيؤتي كل عامل عمله يوم الحساب ، فله الخلق والأمر ، فأمر تعالى بعبادته والتوكل عليه ، فإنه كاف من توكل عليه وأناب إليه ، وقوله : { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } أي ليس يخفى عليه ما عليه مكذبوك يا محمد بل هو عليم بأحوالهم وأقوالهم ، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء في الدنيا والآخرة وسينصرك وحزبك عليهم في الدارين .(1/1209)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3)
أما الكلام على الحروف المقطعة فقد تقدم في أول سورة البقرة ، وقوله : { الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب } أي هذه آيات الكتاب ، وهو القرآن المبين أي الواضح الجلي الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسرها ويبينها { إِنَّآ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } ، وذلك لأن لغة العرب أفصح اللغات وأبينها وأوسعها ، وأكثرها تأدية للمعاني التي تقوم بالنفوس ، فلهذا أنزل أشرف الكتب ، بأشرف اللغات ، على أشرف الرسل بسفارة أشرف الملائكة ، وكان ذلك في أشرف بقاع الأرض ، وابتدئ إنزاله في أشرف شهور السنة وهو ( رمضان ) فكمل من كل الوجوه؛ ولهذا قال تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص بِمَآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ هذا القرآن } بسبب إيحائنا إليك هذا القرآن ، وقد ورد في سبب نزول هذه الآية ما رواه ابن جرير عن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله صلى الله عليك وسلم لو قصصت علينا؟ فنزلت : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ القصص } ، فأرادوا القصص فدلهم على أحسن القصص ، وممّا يناسب ذكره عند هذه الآية الكريمة المشتملة على مدح القرآن ، وأنه كاف عن كل ما سواه من الكتب ما رواه الإمام أحمد « عن جابر بن عبد الله أن عمر بن الخطاب أتى النبي صلى الله عليه وسلم بكتاب أصابه من بعض أهل الكتاب ، فقرأه على النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : فغضب ، وقال » أمتهوّكون فيها يا ابن الخطاب؟ والذي نفسي بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية ، لا تسألوهم عن شيء فيخبروكم بحق فتكذبونه ، أو بباطل فتصدقونه ، والذي نفسي بيده لو أن موسى كان حياً ما وسعه إلا أن يتبعني « . وعن عبد الله بن ثابت قال : جاء عمر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني مررت بأخ لي من قريظة ، فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال : فتغيّر وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عبد الله بن ثابت : فقلت له : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقال عمر : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد رسولاً . قال : فسري عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : » والذي نفس محمد بيده لو أصبح فيكم موسى ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، إنكم حظي من الأمم وأنا حظكم من النبيين « .(1/1210)
إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4)
يقول تعالى : اذكر لقومك يا محمد في قصصك عليهم من قصة يوسف ، إذ قال لأبيه - وأبوه هو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليه السلام - كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم » « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أكرم؟ قال : » أكرمهم عند الله أتقاهم « ، قالوا : ليس على هذا نسألك ، قال » فأكرم الناس يوسف نبي الله ابن نبي الله ابن نبي الله ابن خليل الله « ، قالوا : ليس عن هذا نسألك ، قال : » فعن معادن العرب تسألوني «؟ قالوا : نعم ، قال : » فخياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام إذا فقهوا « وقال ابن عباس : رؤيا الأنبياء وحي ، وقد تكلم المفسرون على تعبير هذا المنام أن الأحد عشر كوكباً عبارة عن إخوته ، وكانوا أحد عشر رجلاً سواه ، والشمس والقمرعبارة عن أمه وأبيه . ولما رآها يوسف قصها على أبيه يعقوب ، فقال له أبوه : وهذا أمر مشتت يجمعه الله من بعد .(1/1211)
قَالَ يَا بُنَيَّ لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5)
يقول تعالى مخبراً عن قول يعقوب لابنه يوسف حين قص عليه ما رأى من هذه الرؤيا التبي تعبيرها خضوع إخوته له وتعظيمهم إياه تعظيماً زائداً ، بحيث يخرون له ساجدين إجلالاً واحتراماً وإكراماً ، فخشي يعقوب عليه السلام أن يحدث بهذا المنام أحداً من إخوته ، فيحسدونه على ذلك ، فيبغون له الغوائل حسداً منهم له ، ولهذا قال له : { لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ على إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً } أي يحتالوا لك حيلة يردونك فيها ، ولهذا ثبتت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا رأى أحدكم ما يحب فليحدث به ، وإذا رأى ما يكره فليتحول إلى جنبه الآخر ، وليتفل عن يساره ثلاثاً وليستعذ بالله من شرها ، ولا يحدث بها أحداً فإنها لن تضره » ، وفي الحديث الآخر : « الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر ، فإذا عبرت وقعت » ومن هذا يؤخذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر ، كما ورد في حديث : « استعينوا على قضاء الحوائج بكتمانها ، فإن كل ذي نعمة محسود » .(1/1212)
وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)
يقول تعالى مخبراً عن قول يعقوب لولده يوسف : إنه كما اختارك ربك وأراك هذه الكواكب مع الشمس والقمر ساجدة لك { وكذلك يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ } أي يختارك ويصطفيك لنبوته ، { وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ } قال مجاهد : يعني تعبير الرؤيا ، { وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } أي بإرسالك والإيحاء إليك ، ولهذا قال : { كَمَآ أَتَمَّهَآ على أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ } وهو الخليل ، { وَإِسْحَاقَ } ولده وهو الذبيح في قول ، وليس بالرجيح { إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي هو أعلم حيث يجعل رسالته .(1/1213)
لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ (9) قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (10)
يقول تعالى : لقد كان في قصة يوسف وخبره مع إخوته { آيَاتٌ } أي عبرة ومواعظ { لِّلسَّائِلِينَ } عن ذلك ، فإنه خبر عجيب يستحق أن يخبر عنه ، { إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا } أي حلفوا فيما يظنون الله ليوسف وأخوه ، يعنون ينيامين ، وكان شقيقه لأمه { أَحَبُّ إلى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ } أي جماعة ، فكيف أحب ذينك الاثنين أكثر من الجماعة؟ { إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } يعنون في تقديمهما علينا ، ومحبته إياهما أكثر منا ، واعلم أنه لم يقم دليل على نبوة إخوة يوسف ، وظاهر هذا السياق يدل على خلاف ذلك ، ومن الناس من يزعم أنهم أوحي إليهم بعد ذلك ، وفي هذا نظر ويحتاج مدعي ذلك إلى دليل ، ولم يذكروا سوى قوله تعالى : { قولوا آمَنَّا بالله وَمَآ أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ والأسباط } [ البقرة : 136 ] ، وهذا فيه احتمال ، لأ نبطون بني إسرائيل يقال لهم الأسباط ، كما يقال للعرب قبائل وللعجم شعوب ، يذكر تعالى أنه أوحى إلى الأنبياء من أسباط بني إسرائيل ، فذكرهم إجمالاً لأنهم كثيرون ، ولكن كل سبط م ننسل رجل من إخوة يوف ، ولم يقم دليل على أعيان هؤلاء أنهم أوحي إليهم والله أعلم ، { اقتلوا يُوسُفَ أَوِ اطرحوه أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ } يقولون : هذا الذي يزاحمكم في محبة أبيكم لكم ، أعدموه من وجه أبيكم ، ليخلو لكم وحدكم ، إما بأن تقتلوه ، أو أن تلقوه في أرض من الأراضي تستريحوا منه وتخلوا أنتم بأبيكم ، { وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ } ، فأضمروا التوبة قبل الذنب { قَالَ قَآئِلٌ مِّنْهُمْ } ، قال قتادة : وكان أكبرهم واسمه روبيل ، وقال السدي ، الذي قال ذلك يهوذا ، وقال مجاهد : هو شمعون { لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ } أي لا تصلوا في عداوته وبغضه إلى قتله ، ولم يكن لهم سبيل إلى قتله ، لأن الله تعالى كان يريد منه أمراً لا بد من إمضائه وإتمامه ، من الإيحاء إليه بالنبوة ، ومن التمكين له ببلاد مصر والحكم بها ، فصرفهم الله عنه بمقالة روبيل فيه ، وإشارته عليهم بأن يلقوه { غيابت الجب } وهو أسفله ، قال قتادة : وهي بئر بيت المقدس ، { يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السيارة } أي المارة من المسافرين فتسريحوا منه بهذا ، ولا حاجة إلى قتله ، { إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ } أي كنتم عازمين على ما تقولون ، قال محمد بن إسحاق : لقد اجتمعوا على أمر عظيم من قطيعة الرحم ، وعقوق الوالد ، وقلة الرأفة بالصغير الذي لا ذنب له ، وليفرقوا بينه وبين أبيه وحبيبه على كبر سنه ورقة عظمه ، مع مكانه من الله من أحبه طفلاً صغيراً ، وبين ابنه على ضعف قوته وصغر نه وحاجته إلى لطف والده وسكونه إليه ، يغفر الله لهم وهو أرحم الراحمين ، فقد احتملوا أمراً عظيماً .(1/1214)
قَالُوا يَا أَبَانَا مَا لَكَ لَا تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12)
لما تواطأوا على أخذه وطرحه في البئر كما أشار به عليهم أخوهم الكبير ( روبيل ) جاءوا أباهم يعقوب عليه السلام فقالوا : ما بالك { لاَ تَأْمَنَّا على يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ } ؟ وهذه توطئة ودعوى وهم يريدون خلاف ذلك لما له في قلوبهم من الحسد لحب أبيه له ، { أَرْسِلْهُ مَعَنَا } أي ابعثه معنا { غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، وقرأ بعضهم بالياء ، { يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ } ، قال ابن عباس : يسعى وينشط ، { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } يقولون : ونحن نحفظه ونحوطه من أجلك .(1/1215)
قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَأَخَافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذًا لَخَاسِرُونَ (14)
يقول تعالى مخبراً عن نبيّه يعقوب أنه قال لبنيه في جواب ما سألوا من إرسال يوسف معهم إلى الرعي في الصحراء : { إِنِّي ليحزنني أَن تَذْهَبُواْ بِهِ } أي يشق عليَّ مفارقته مدة ذهابكم به إلى أن يرجع ، وذلك لفرط محبته له لما يتوسم فيه من الخير العظيم ، وشمائل النبوة ، والكمال في الخلق والخلق صلوات الله وسلامه عليه ، وقوله : { وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذئب وَأَنْتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ } ، يقول : وأخشى أن تشتغلوا عنه برميكم ورعيكم ، فيأتيه ذئب فيأكله وأنتم لا تشعرون ، فأخذوا من فمه هذه الكلمة وجعلوها عذرهم فيما فعلوه ، وقالوا مجيبين له عنها في الساعة الراهنة { لَئِنْ أَكَلَهُ الذئب وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّآ إِذَاً لَّخَاسِرُونَ } يقولون : لئن عدا عليه الذئب فأكله من بيننا ونحن جماعة ، إنا إذاً لهالكون عاجزون .(1/1216)
فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (15)
يقول تعالى : فلما ذهب به إخوته من عند أبيه بعد مراجعتهم له في ذلك ، { وأجمعوا أَن يَجْعَلُوهُ فِي غيابت الجب } هذا فيه تعظيم لما فعلوه ، أنهم اتفقوا كليهم على إلقائه في أسفل ذلك الجب ، وقد أخذوه من عند أبيه فيما يظهرونه له إكراماً له وبسطاً وشرحاً لصدره ، وإدخالاً للسرور عليه ، فقال : إن يعقوب عليه السلام لما بعثه معهم ضمه إليه وقلبه ودعا له ، فذكر السدي وغيره أنه لم يكن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له إلا أن غابوا عن عين أبيه ، وتواروا عنه ، ثم شرعوا يؤذونه بالقول من شتم ونحوه ، والفعل من ضرب ونحوه ، ثم جاءوا به إلى ذلك الجب الذي اتفقوا على رميه فيه فربطوه بحبل ودلوه فيه ، فسقط في الماء ، فغمره ، فصعد إلى صخرة تكون في وسطه فقام فوقها ، وقوله : { وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } ، يقول تعالى ذاكراً لطفه ورحمته ، وإنزاله اليسر في حال العسر ، إنه أوحى إلى يوسف في ذلك الحال الضيق تطييباً لقلبه ، وتثبيتاً له : إنك لا تحزن مما أنت فيه ، فإن لك من ذلك فرجاً ومخرجاً حسناً ، وسينصرك الله عليهم ويعليك ويرفع درجتك ، وستخبرهم بما فعلوا معك من هذا التصنيع ، وقوله : { وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } قال مجاهد وقتادة : بإيحاء الله إليه ، وقال ابن عباس : ستنبئهم بصنيعهم هذا في حقك وهم لا يعرفونك ولا يشعرون بك .(1/1217)
وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ (16) قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18)
يقول تعالى مخبراً عن الذي اعتمده إخوة يوسف بعد ما ألقوه في غيابة الجب أنهم رجعوا إلى أبيهم في ظلمة الليل يبكون ويظهرون الأسف والجزع على يوسف ، ويتغممون لأبيهم ، وقالوا معتذرين عما وقع فيما زعموا : { إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ } أي نترامى ، { وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا } أي ثيابنا وأمتعتنا ، { فَأَكَلَهُ الذئب } وهو الذي قد جزع منه وحذر عليه ، وقوله : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } تلطف عظيم في تقرير ما يحاولونه ، يقولون : ونحن نعلم أنك لا تصدّقنا والحالة هذه لو كنا عندك صادقين ، فكيف وأنت تتهمنا في ذلك لأنك خشيت أن يأكله الذئب فأكله الذئب؟ فأنت معذور في تكذيبك لنا ، لغرابة ما وقع ، وعجيب ما اتفق لنا في أمرنا هذا ، { وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } أي مكذوب مفترى ، وهذا من الأفعال التي يؤكدون بها ما تمالأوا عليه من المكيدة ، وهو أنهم عدوا إلى سخلة ، فذبحوها ولطخوا ثوب يوسف بدمها؛ موهمين أن هذا قميصه الذي أكله فيه الذئب ، وقد أصابه من دمه ، ولكنهم نسوا أن يخرقوه ، فلهذا لم يرج هذا الصنيع على نبي الله يعقوب ، بل قال لهم معرضاً عن كلامهم إلى ما وقع في نفسه من لبسهم عليه : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } ، أي فسأصبر صبراً جميلاً على هذا الأمر الذي اتفقتم عليه حتى يفرجه الله بعونه ولطفه ، { والله المستعان على مَا تَصِفُونَ } أي على ما تذكرون من الكذب والمحال ، قال ابن عباس : { وَجَآءُوا على قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ } قال : لو أكله السبع لخرق القميص ، وقال مجاهد : الصير الجميل الذي لا جزع فيه ، وقد روي مرفوعاً عن ( حبان بن أبي حبلة ) قال سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } فقال : صبر لا شكوى فيه . وقال الثوري : ثلاث من الصبر : أن لا تحدث بوجعك ، ولا بمصيبتك ، ولا تزكي نفسك ، وذكر البخاري هاهنا حديث عائشة في الإفك حتى ذكر قولها : والله لا أجد لي ولكم مثلاً إلا كما قال أبو يوسف : { فَصَبْرٌ جَمِيلٌ والله المستعان على مَا تَصِفُونَ } .(1/1218)
وَجَاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20)
يقول تعالى مخبراً عما جرى ليوسف عليه السلام في الجب حين ألقاه إخوته ، وتركوه في ذلك الجب وحيداً فريداً ، عليه السلام في البئر ثلاثة أيام ، وقال محمد بن إسحاق : لما ألقاه إخوته في البئر جلسوا حول البئر يومهم ذلك ينظرون ماذا يصنع وما يصنع به ، فساق الله له سيارة ، فنزلوا قريباً من تلك البئر وأرسلوا واردهم ، وهو الذي يتطلب لهم الماء ، فلما جاء ذلك البئر وأدلى دلوه فيها تشبث يوسف عليه السلام فيها ، فأخرجه واستبشر به ، وقال : { يابشرى هذا غُلاَمٌ } أي يا بشراي ، { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } أي وأسره الواردون من بقية السيارة ، وقالوا : اشتريناه من أصحاب الماء مخافة أن يشاركوهم فيه إذا علموا خبره ، وقال ابن عباس : { وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً } : يعني إخوة يوسف أسروا شأنه ، وكتموا أن يكون أخاهم ، وكتم يوسف شأنه مخافة أن يقتله إخوته ، واختار البيع ، فذكره إخوته لوارد القوم ، فنادى أصحابه : { يابشرى هذا غُلاَمٌ } يباع ، فباع إخوته ، وقوله : { والله عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي عليم يفعله إخوة يوسف ومشتروه ، وهو قادر على تغيير ذلك ودفعه ، ولكن له حكمة وقدر سابق ، فترك ذلك ليمضي ما قدره وقضاه { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } [ الأعراف : 54 ] ، وقوله : { وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } يقول تعالى : وباعه إخوته بثمن قليل ، قاله مجاهد وعكرمة ، والبخس : هو النقص ، كما قال تعالى : { فَلاَ يَخَافُ بَخْساً وَلاَ رَهَقاً } [ الجن : 13 ] أي اعتاض عنه إخوته بثمن قليل ، ومع ذلك كانوا فيه من الزاهدين ، أي ليس لهم رغبة فيه بل لو سئلوه بلا شيء لأجابوا ، والضمير في قوله : { وَشَرَوْهُ } عائد على إخوة يوسف ، وقال قتادة : بل هو عائد على السيارة ، والأول أقوى ، لأن قوله : { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } إنما أراد إخوته لا أولئك السيارة ، لأن السيارة استبشروا به وأسروه بضاعة ، ولو كانوا فيه زاهدين لما اشتروه ، فترجح من هذا الضمير في { شَرَوْهُ } إنما هو لإخوته ، وقوله : { دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ } عن ابن مسعود رضي الله عنه : باعوه بعشرين درهماً وقال عكرمة : أربعون درهماً ، وقال الضحاك في قوله : { وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزاهدين } ذلك أنهم لم يعلموا نبوته ومنزلته عند الله عزّ وجلّ .(1/1219)
وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِنْ مِصْرَ لِامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَنْ يَنْفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (21) وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)
يخبر تعالى بألطافه بيوسف عليه السلام ، أنه قيض له الذي اشتراه من مصر ، حتى اعتنى به وأكرمه ، وأوصى أهله به وتوسم فيه الخير والصلاح ، فقال لامرأته : { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عسى أَن يَنفَعَنَآ أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً } ، وكان الذي اشتراه من مصر عزيزها وهو الوزير بها ، عن ابن عباس : وكان اسمه ( قطفير ) وكان على خزائن مصر ، وكان الملك يومئذٍ ( الريان بن الوليد ) رجل من العماليق ، قال واسم امرأته ( راعيل ) ، وقال غيره : اسمها ( زليخا ) ، وقال عبد الله بن مسعود : أفرس الناس ثلاثة : عزيز مصر حين قال لامرأته : { أَكْرِمِي مَثْوَاهُ } ، والمرأة التي قالت لأبيها : { ياأبت استأجره } [ القصص : 26 ] الآية ، وأبو بكر الصديق حين استخلف عمر بن الخطاب رضي الله عنهما . يقول تعالى : كما أنقذنا يوسف من إخوته { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض } يعني بلاد مصر { وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأحاديث } قال مجاهد والسدي هو تعبير الرؤيا ، { والله غَالِبٌ على أَمْرِهِ } أي إذا أراد شيئاً فلا يرد ، ولا يمانع ، ولا يخالف بل هو الغالب لما سواه ، قال سعيد بن جبير ، أي فعال لما يشاء ، وقوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } يقول : لا يدرون حكمته في خلقه وتلطفه وفعله لما يريد . وقوله : { وَلَمَّا بَلَغَ } أي يوسف عليه السلام { أَشُدَّهُ } أي استكمل عقله وتم خلقه ، { آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً } يعني النبوة ، حباه بها بين أولئك الأقوام ، { وكذلك نَجْزِي المحسنين } أي إنه كان محسناً في عمله عاملاً بطاعة الله تعالى ، وقد اختلف في مقدار المدة التي بلغ فيها أشده ، فقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : ثلاث وثلاثون سنة ، وعن ابن عباس : بضع وثلاثون ، وقال الضحاك : عشرون : وقال الحسن : أربعون سنة ، وقيل غير ذلك ، والله أعلم .(1/1220)
وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَنْ نَفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23)
يخبر تعالى عن امرأة العزيز التي كان يوسف في بيتها بمصر ، وقد أوصاها « زوجها بإكرامه ، فراودته عن نفسه أي حاولته عن نفسه ودعته إليها ، وذلك أنها أحبته حباً شديداً لجماله وحسنه وبهائه ، فحملها ذلك على أن تجملت له وغلَّقت عليه الأبواب ودعته إلى نفسها { وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ } ، فامتنع من ذلك أشد الامتناع ، { قَالَ مَعَاذَ الله إِنَّهُ ربي أَحْسَنَ مَثْوَايَ } ، وكانوا يطلقون الرب على السيد والكبير ، أي إن بعلك ربي أحسن مثواي أي منزلي ، وأحسن إليّ فلا أقابله بالفاحشة في أهله ، { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } ، وقد اختلف القرّاء في قوله : { هَيْتَ لَكَ } ، فقرأه كثيرون بفتح الهاء وإسكان الياء وفتح التاء ، قال ابن عباس ومجاهد : معناه أنها تدعوه إلى نفسها ، وقال البخاري ، قال عكرمة : { هَيْتَ لَكَ } ، أي هلم لك بالحورانية ، هكذا ذكره معلقاً ، وكان الكسائي يحكي هذه القراءة يعني : { هَيْتَ لَكَ } ويقول : هي لغة لأهل حوران ، وقعت إلى أهل الحجاز ، ومعناها : تعال ، وقال أبو عبيدة : سألت شيخاً عالماً من أهل حوران ، فذكر أنها لغتهم يعرفها ، واستشهد الإمام ابن جرير على هذه القراءة بقول الشاعر :
أبلغ أمير المؤمن ... ين أذى العراق إذا أتينا
إن العراق وأهله ... عنق إليك فهيت هيتا
يقول : فتعال واقترب ، وقرأ آخرون : { هَيْتَ لَكَ } بكسر الهاء والهمزة وضم التاء ، بمعنى تهيأت لك ، من قول القائل : هئت بالأمر بمعنى تهيأت لك . قال ابن جرير : وكان أبو عمرو والكسائي ينكران هذه القراءة ، وقال آخرون : { هَيْتَ لَكَ } بكسر الهاء وإسكان الياء وضم التاء .(1/1221)
وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24)
اختلفت أقوال الناس وعباراتهم في هذا المقام ، فقيل : المراد بهمه بها خطرات حديث النفسن حكاه البغوي عن بعض أهل التحقيق ، ثم أورد البغوي هاهنا حديث أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يقول الله تعالى : إذا همّ عبدي بحسنة فاكتبوها له حسنة ، فإن عملها فاكتبوها له بعشر أمثالها » ، وقيل : همَّ بضربها ، وقيل : تمناها زوجة؛ وقيل : هم بها لولا أن رأى برهان ربه ، أي فلم يهم بها ، وأما البرهان الذي رآه ففيه أقوال أيضاً ، قيل : رأى صورة أبيه يعقوب عاضاً على إصبعه بفمه؛ وقيل : رأى خيال الملك يعني سيده ، وقال ابن جرير عن محمد ابن كعب القرظي قال : رفع يوسف رأسه إلى سقف البيت ، فإذا كتاب في حائط البيت : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى } [ الإسراء : 32 ] { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ النساء : 22 ] ؛ وقيل : ثلاث آيات من كتاب الله : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } [ الانفطار : 10 ] الآية ، وقوله : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ } [ يونس : 61 ] الآية ، وقوله : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } [ الرعد : 33 ] ، قال ابن جرير : والصواب أن يقال : إنه أي آية من آيات الله تزجره عما كان همَّ به ، وجائز أن يكون صورة يعقوب ، وجائز أن يكون صورة الملك ، وجائز أن يكون ما رآه مكتوباً من الزجر عن ذلك ، ولا حجة قاطعة على تعيين شيء من ذلك ، فالصواب أن يطلق ، كما قال الله تعالى ، وقوله : { كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السواء والفحشآء } أي كما أريناه برهاناً صرفه عما كان فيه كذلك نقيه السوء والفحشاء في جميع أموره ، { إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا المخلصين } أي من المجتبين المطهرين المختارين المصطفين الأخيار ، صلوات الله وسلامه عليه .(1/1222)
وَاسْتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ أَهْلِهَا إِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29)
يخبر تعالى عن حالهما حين خرجا يستبقان إلى الباب ، يوسف هارب ، والمرأة تطلبه ليرجع إلى البيت ، فلحقته في أثناء ذلك ، فأمسكت بقميصه من ورائه ، فقدته قداً فظيعاً ، يقال : إنه سقط عنه ، واستمر يوسف هارباً ذاهباً ، وهي في إثره ، فألفيا سيدها وهو زوجها عند الباب ، فعند ذلك خرجت مما هي فيه بمكرها وكيدها ، وقالت لزوجها متنصلة وقاذفة يوسف بدائها : { مَا جَزَآءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سواءا } أي فاحشة ، { إِلاَّ أَن يُسْجَنَ } أي يحبس ، { أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي يضرب ضرباً شديدا موجعاً ، فعند ذلك انتصر يوسف عليه السلام بالحق ، وتبرأ مما رمته به من الخيانة ، و { قَالَ } باراً صادقاً . { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } ، وذكر أنها اتبعته تجذبه إليها حتى قدت قميصه ، { وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَآ إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ } أي من قدامه { فَصَدَقَتْ } أي في قولها إنه راودها على نفسها لأنه يكون لما دعاها وأبت عليه دفعته في صدره فقدت قميصه فيصح ما قالت ، { وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ } وذلك يكون كما وقع لما هرب منها ، وطلبته ، أمسكت بقميصه من ورائه لترده إليها فقدت قميصه من ورائه ، وقد اختلفوا في هذا الشاهد : هل هو صغير أو كبير؟ على قولين لعلماء السلف ، فقال ابن عباس : كان من خاصة الملك وكان رجلاً ذا لحية ، وقال زيد بن أسلم والسدي : كان ابن عمها ، وقال العوفي عن ابن عباس : كان صبياً في المهد ، وكذا روي عن الحسن وسعيد بن جبير والضحاك : أنه كان صبياً في الدار ، واختاره ابن جرير ، وقد ورد فيه حديث مرفوع ، رواه ابن جرير ، عن ابن عباس أنه قال : « تكلم أربعة وهم صغار : ابن ماشطة بنت فرعون ، وشاهد يوسف ، وصاحب جريج ، وعيسى ابن مريم » وقوله : { فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ } أي لما تحقق زوجها صدق يوسف وكذبها فيما قذفته ورمته به { قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ } أي إن هذا البهت واللطخ الذي لطخت عرض هذا الشاب به من جملة كيدكن { إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ } ، ثم قال آمرا ليوسف عليه السلام بكتمان ما وقع : { يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا } أي اضرب عن هذا صفحاً أي فلا تذكره لأحد ، { واستغفري لِذَنبِكِ } يقول لامرأته وقد كان لين العريكة سهلاً أو أنه عذرها لأنها رأت ما لا صبر لها عنه فقال لها : استغفري لذنبك أي الذي وقع منك من إرادة السوء بهذا الشاب ثم قذفه بما هو بريء منه { إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الخاطئين } .(1/1223)
وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبًّا إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّينًا وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا هَذَا بَشَرًا إِنْ هَذَا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)
يخبر تعالى أن خبر يوسف وامرأة العزيز شاع في المدينة ، وهي مصر حتى تحدث به الناس ، { وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي المدينة } نساء الكبراء والأمراء ينكرن على { امرأة العزيز } وهو الوزير ويعبن ذلك عليها ، { امرأة العزيز تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ } : أي تدعوه إلى نفسها ، { قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً } أي قد وصل حبه إلى شغاف قلبها وهو غلافه ، قال الضحاك عن ابن عباس : الشغف الحب القاتل ، والشغف دون ذلك ، والشغاف حجاب القلب ، { إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي في صنيعها هذا من حبها فتاها ومراودتها إياه عن نفسه ، { فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ } ، قال بعضهم : بقولهن ذهب الحب بها ، وقال محمد بن إسحاق : بلغهن حُسن يوسف بأحببن أن يرينه ، فقلن ذلك ليتوصلن إلى رؤيته ومشاهدته ، فعند ذلك { أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ } أي دعتهن إلى منزلها لتضيفهن { وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَئاً } ، قال ابن عباس : هو المجلس المعد فيه مفارش ومخاد وطعام فيه ما يقطع بالسكاكين من أترج ونحوه؛ ولهذا قال تعالى : { وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً } ، وكان هذا مكيدة منها ومقابلة لهن في احتيالهن على رؤيته ، { وَقَالَتِ اخرج عَلَيْهِنَّ } وذلك أنها كانت قد خبأته في مكان آخر ، { فَلَمَّا } خرج و { رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ } أي أعظمن شأنه وأجللن قدره ، وجعلن يقطعن أيديهن دهشاً برؤيته ، وهن يظنن أنهن يقطعن الأترج بالسكاكين ، والمراد أنهن حززن أيديهن بها ، قاله غير واحد؛ وقد ذكر غير واحد أنها قالت لهن بعدما أكلن وطابت أنفسهن ثم وضعت بين أيديهن أترجاً وآتت كل واحدة منهن سكيناً : هل لكنَّ في النظر إلى يوسف؟ قلن : نعم ، فبعثت إليه تأمره أن أخرج إليهن ، فلما رأينه جعلن يقطعن أيديهن ، ثم أمرته أن يرجع ليرينه مقبلاً ومدبراً ، فرجعوهن يحززن في أيديهن ، فلما أحسسن بالألم ، جعلن يولولن ، فقالت : أنتن من نظرةٍ واحدة فعلتن هذا ، فكيف ألام أنا؟ { وَقُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا هذا بَشَراً إِنْ هاذآ إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ } ، ثم قلن لها : وما نرى عليك من لوم بعد هذا الذي رأينا ، لأنهن لم يرين في البشر شبيهه ولا قريباً منه ، فإنه عليه السلام كان قد أعطي شطر الحسن ، كما ثبت ذلك في الحديث الصحيح في حديث الإسراء « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بيوسف عليه السلام في السماء الثالثة قال : » فإذا هو قد أعطي شطر الحسن « ، { قَالَتْ فذلكن الذي لُمْتُنَّنِي فِيهِ } تقول : هذا معتذرة إليهن بأن هذا حقيق أن يحب لجماله وكماله { وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فاستعصم } أي فامتنع ، قال بعضهم : لما رأين جماله الظاهر أخبرتهن بصفاته الحسنة التي تخفى عنهن وهي العفة مع هذا الجمال ، ثم قالت تتوعده : { وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَآ آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّن الصاغرين } ، فعند ذلك استعاذ يوسف عليه السلام من شرهن وكيدهن ، و { قَالَ رَبِّ السجن أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يدعونني إِلَيْهِ } أي من الفاحشة ، { وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ } أي إن وكلتني إلى نفسي فليس لي منها قدرة ولا أملك لها ضراً ولا نفعاً إلا بحولك وقوتك ، أنت المستعان وعليك التكلان ، فلا تكلني إلى نفسي { أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الجاهلين * فاستجاب لَهُ رَبُّهُ } الآية ، وذلك أن يوسف عليه السلام عصمه الله عصمة عظيمة وحماه ، فامتنع منها أشد الامتناع ، واختار السجن على ذلك ، وهذا في غاية مقامات الكمال ، أنه من شبابه وجماله وكماله تدعوه سيدته وهي امرأة عزيز مصر ، وهي مع هذا في غاية الجمال والمال والرياسة ، ويمتنع من ذلك ، ويختار السجين على ذلك خوفاً من الله ورجاء ثوابه .(1/1224)
ولهذا ثبت في « الصحيحين » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله » ، وعدَّ منها « ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال أني أخاف الله » ، الحديث .(1/1225)
ثُمَّ بَدَا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا رَأَوُا الْآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)
يقول تعالى : ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رآوه أنهم يسجنونه إلى حين أي إلى مدة ، وذلك بعدما عرفوا براءته وظهرت الآيات ، وهي الأدلة على صدقه في عفته ونزاهته ، وكأنهم - والله أعلم - إنما سجنوه لما شاع الحديث إيهاماً أنه راودها عن نفسها وأنهم سجنوه على ذلك ، ولهذا لما طلبه الملك الكبير في آخر المدة امتنع من الخروج ، حتى تتبين براءته مما نسب إليه من الخيانة ، فلما تقرر ذلك خرج وهو نقي العرض صلوات الله عليه وسلامه . وذكر السدي : أنهم إنما سجنوه لئلا يشيع ما كان منها في حقه ويبرأ عرضه فيفضحها .(1/1226)
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْرًا وَقَالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزًا تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36)
قال قتادة : كان أحدهما ساقي الملك والآخر خبازه ، قال السدي : كان سبب حبس الملك إياهما أنه توهم أنهما تمالآ على سمه في طعامه وشرابه ، وكان يوسف عليه السلام قد اشتهر في السجن بالجود والأمانة ، وصدق الحديث ، وكثرة العبادة ، ومعرفة التعبير ، والإحسان إلى أهل السجن ، ولما دخل هذان الفتيان إلى السجن تآلفا به وأحباه حباً شديداًَ ، وقالا له : والله لقد أحببناك حباً زائداً . قال : بارك الله فيكما ، إنه ما أحبني أحد إلا دخل عليَّ من محبته ضرر ، أحبتني عمتي فدخل عليَّ الضرر بسببها ، وأحبني أبي فأُوذيت بسببه ، وأحبتني امرأة العزيز فكذلك ، فقالا : والله ما نستطيع إلا ذلك ، ثم إنهما رأيا مناماً ، فرأى الساقي أنه يعصر خمراً ، يعني عنباً ، قال الضحاك في قوله : { إني أراني أَعْصِرُ خَمْراً } يعني عنباً ، قال : وأهل عمان يسمون العنب خمراً ، وقال عكرمة : قال له إني رأيت فيما يرى النائم أني غرست حبة من عنب فنبتت ، فخرج فيها عناقيد ، فعصرتهن ثم سقيتهن الملك فقال : تمكث في السجن ثلاثة أيام ثم تخرج فتسقيه خمراً ، وقال الآخر وهو الخباز : { إِنِّي أراني أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطير مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } الآية ، والمشهور عند الأكثرين ما ذكرناه أنهما رأيا مناماً وطلباً تعبيره ، وقال ابن جرير عن عبد الله بن مسعود قال : ما رأى صاحبا يوسف شيئاً إنما كانا تحالما ليجربا عليه .(1/1227)
قَالَ لَا يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَائِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْءٍ ذَلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (38)
يخبرهما يوسف عليه السلام أنهما مهما رأيا في منامهما من حلم ، فإنه عارف بتفسيره ، ويخبرهما بتأويله قبل وقوعه ولهذا قال : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ } ، وقال مجاهد ، يقول : { لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ } في يومكما { إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا } ، وكذا قال السدي ، وهذا إنما هو من تعليم الله إياي ، لأني اجتنبت ملة الكافرين بالله واليوم الآخر ، فلا يرجون ثواباً ولا عقاباً في المعاد ، { واتبعت مِلَّةَ آبآئي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } الآية ، ويقول : هجرت طريق الكفر والشرك ، وسلكت طريق هؤلاء المرسلين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، وهكذا يكون حال من سلك طريق الهدى واتبع طريق المرسلين وأعر عن طريق الضالين ، فإن الله يهدي قلبه ويعلمه ما لم يكن يعلم ، ويجعله إماماً يقتدى به في الخير وداعياً إلى سبيل الرشاد ، { مَا كَانَ لَنَآ أَن نُّشْرِكَ بالله مِن شَيْءٍ ذلك مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا وَعَلَى الناس } ، هذا التوحيد وهو الإقرار بإنه لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، { مِن فَضْلِ الله عَلَيْنَا } أي أوحاه إلينا وأمرنا به ، { وَعَلَى الناس } إذ جعلنا دعاة لهم إلى ذلك ، { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } أي لا يعرفون نعمة الله عليهم بإرسال الرسل إليهم ، بل { بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار } [ إبراهيم : 28 ] .(1/1228)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْمَاءً سَمَّيْتُمُوهَا أَنْتُمْ وَآبَاؤُكُمْ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ بِهَا مِنْ سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (40)
ثم إن يوسف عليه السلام أقبل على الفتيين بالمخاطبة والدعاء لهما إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، وخلع ما سواه من الأوثان التي يعبدها قومهما ، فقال : { ءَأَرْبَابٌ مُّتَّفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ الله الواحد القهار } أي الذي ذل كل شيء لعز جلاله وعظمة سلطانه ، ثم بين لهما أن التي يعبدونها ويسمونها آلهة إنما هو تسمية من تلقاء أنفسهم ، تلقاها خلفهم عن سلفهم ، وليس لذلك مستند من عند الله ، ولهذا قال : { مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } أي حجة ولا برهان ثم أخبرهم أن الحكم والتصرف والمشيئة والملك كله لله ، وقد أمر عبادة قاطبة أن لا يعبدوا إلا إياه ، ثم قال تعالى : { ذلك الدين القيم } أي هذا الذي أدعوكم إليه من توحيد الله وإخلاص العمل له ، هو الدين المستقيم الذي أمر الله به ، وأنزل به الحجة والبرهان الذي يحبه ويرضاه ، { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أي فلهذا كان أكثرهم مشركين ، { وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] جعل سؤالهما له سبباً إلى دعائهما إلى التوحيد والإسلام ، لما رأى في سجيتهما من قبول الخير ، والإقبال عليه والإنصات إليه ، ولهذا لما فرغ من دعوتهما شرع في تعبير رؤياهما من غير تكرار سؤال فقال : { ياصاحبي السجن . . . } .(1/1229)
يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41)
يقول لهما : { ياصاحبي السجن أَمَّآ أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً } وهو الذي أنه يعصر خمراً ولكنه لم يعينه لئلا يحزن ذاك ، ولهذا أبهمه في قوله : { وَأَمَّا الآخر فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطير مِن رَّأْسِهِ } وهوالذي رأى أنه يحمل فوق رأسه خبزاً ، ثم أعلمها أن هذا قد فرغ منه ، وهو واقع لا محالة لأن الرؤيا على رجل طائر ما لم تعبر ، فإذا عبرت وقعت . قال الثوري : لما قالا ما قالا ، وأخبرهما قالا : ما رأينا شيئاً ، فقال : { قُضِيَ الأمر الذي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ } .(1/1230)
وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)
ولما ظن يوسف عليه السلام أن الساقي ناج ، قال له يوسف خفية عن الآخر : { اذكرني عِندَ رَبِّكَ } يقول : اذكر قصتي عند ربك وهو الملك فنسي ذلك الموصى أن يذكر مولاه الملك بذلك وكان من جملة مكايد الشيطان لئلا يطلع نبي الله من السجن ، هذا هو الصواب أن الضمير في قوله : { فَأَنْسَاهُ الشيطان ذِكْرَ رَبِّهِ } عائد على الناجي ، كما قاله مجاهد وغير واحد؛ ويقال إن الضمير عائد على يوسف عليه السلام ، رواه ابن جرير عن ابن عباس ومجاهد أيضاً ، وأما البضع فقال مجاهد وقتادة : هو ما بين الثلاث إلى التسع ، وقال وهب بن منبه : مكث أيوب في البلاء سبعاً ، ويوسف في السجن سبعاً .(1/1231)
وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلَامِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلَاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49)
هذه الرؤيا من ملك مصر مما قدر الله تعالى أنها كانت سبباً لخروج يوسف عليه السلام من السجن معززاً مكرماً وذلك أن الملك رأى هذه الرؤيا فهالته ، وتعجب من أمرها ، وما يكون تفسيرها ، فجمع الكهنة وكبار دولته وأمراءه ، فقص عليهم ما رأى وسألهم عن تأويلها ، فلم يعرفوا ذلك ، واعتذروا إليه بأنها { أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ } أي أخلاط أحلام اقتضته رؤياك هذه ، { وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأحلام بِعَالِمِينَ } أي لو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط لما كان لنا معرفة بتأويلها وهو تعبيرها؛ وعند ذلك تذكر الذي نجا من ذينك الفتيين اللذين كانا في السجن مع يوسف ، وكان الشيطان قد أنساه ما وصاه به يوسف من ذكر أمره للملك ، فعند ذلك تذكر { بَعْدَ أُمَّةٍ } أي مدة ، فقال للملك : { أَنَاْ أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ } أي بتأويل هذا المنام { فَأَرْسِلُونِ } فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن ، ومعنى الكلام فبعثوه فجاء فقال : { يُوسُفُ أَيُّهَا الصديق أَفْتِنَا } وذكر المنام الذي رآه الملك ، فعند ذلك ذكر له يوسف عليه السلام تعبيرها من غير تعنيف للفتى في نسيانه ما أوصاه به ومن غير اشتراط للخروج قبل ذلك ، بل قال : { تَزْرَعُونَ سَبْعُ سِنِينَ دَأَباً } أي يأتيكم الخصب والمطر سبع سنين متواليات ، { فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ } : أي مهما استغللتم وهذه السبع السنين الخصب فادخروه في سنبله ليكون أبقى له وأبعد عن إسراع الفساد إليه إلا المقدار الذي تأكلونه ، وليكن قليلاً قليلاً لا تسرفوا فيه ، لتنتفعوا في السبع الشداد ، وهن السبع السنين المحل التي تعقب هذه السبع المتواليات ، وهن البقرات العجاف اللاتي تأكل السمان ، لأن سني الجدب يؤكل فيها ما جمعوه في سني الخصب ، وهن السنبلات اليابسات ، وأخبرهم أنهن لا ينبتن شيئاً ولا بذروه فلا يرجعون منه إلى شيء ، ولهذا قال : { يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ } ثم بشَّرهم بعد الجدب العام المتوالي بأنه يعقبهم بعد ذلك { عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ الناس } أي يأتيهم الغيث وهو المطر ، وتغل البلاد ، ويعصر الناس ما كانوا يعصرون على عادتهم من زيت وسكر ونحوه .(1/1232)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)
يقول تعالى إخباراً على الملك بتعبير رؤياه التي كان رآها بما أعجبه وأيقنه ، فعرف فضل يوسف عليه السلام وعلمه وحسن اطلاعه على رؤياه فقال : { ائتوني بِهِ } أي أخرجوه من السجن وأحضروه ، فلما جاءه الرسول امتنع من الخروج حتى يتحقق الملك ورعيته براءة ساحته ، ونزاهة عرضه مما نسب إليه من جهة امرأة العزيز ، وأن هذا السجن كان ظلماً وعدواناً ، فقال : { ارجع إلى رَبِّكَ } الآية ، وقد وردت السنة بمدحه على ذلك والتنبيه على فضله وشرفه وعلو قدره ، ففي « المسند » و « الصحيحين » عنه صلى الله عليه وسلم : « نحن أحق بالشك من إبراهيم إذ قال : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى } [ البقرة : 260 ] ، ويرحم الله لوطاً لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، ولو لبثت في السجن ما لبث يوسف لأجبت الداعي » وفي لفظ لأحمد عنه صلى الله عليه وسلم في قوله : { فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النسوة اللاتي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو كنت أنا لأسرعت الإجابة وما ابتغيت العذر » ، وعن عكرمة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه ، والله يغفر له ، حين سئل عن البقرات العجاف والسمان ، ولو كنت مكانه ما أجبتهم حتى أشتراط أن يخرجوني ولقد عجبت من يوسف وصبره وكرمه والله يغفر له حين أتاه الرسول ولو كنت مكانه لبادرتهم الباب ، ولكنه أراد أن يكون له العذر » .
وقوله تعالى : { قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } إخبار عن الملك حين جمع النسوة الاتي قطعن أيديهن عند امرأة العزيز ، فقال مخاطباً لهن كلهن وهو يريد امرأة وزيره وهو العزيز ، قال الملك : { مَا خَطْبُكُنَّ } أي ما شأنكن وخبركن { إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ } يعني يوم الضيافة { قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء } أي قالت النسوة جواباً للملك : حاش لله أن يكون يوسف متهماً والله ما علمنا عليه من سوء ، فعند ذلك { قَالَتِ امرأت العزيز الآن حَصْحَصَ الحق } ، قال ابن عباس : الآن تبين الحق وظهر وبرز ، { أَنَاْ رَاوَدْتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصادقين } أي في قوله : { هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي } [ يوسف : 26 ] ، { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } تقول : إنما اعترفت بهذا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر ، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع ، فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة { وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين * وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي } ، تقول المرأة : ولست أبرئ نفسي ، فإن النفس تتحدث وتتمنى ، ولهذا راودته ، { إِنَّ النفس لأَمَّارَةٌ بالسواء إِلاَّ مَا رَحِمَ ربي } أي إلا من عصمه الله تعالى : { إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام ، وقد قيل : إن ذلك من كلام يوسف عليه السلام يقول : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ } في زوجته { بالغيب } الآيتين ، أي إنما رددت الرسول ليعلم الملك براءتي ، وليعلم العزيز { أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ } في زوجته ، { بالغيب وَأَنَّ الله لاَ يَهْدِي كَيْدَ الخائنين } الآية ، وهذا القول هو الذي لم يحك ابن جرير ولا ابن أبي حاتم سواه .(1/1233)
قال ابن جرير ، عن ابن عباس قال : لما جمع الملك النسوة فسألهن هل راودتن يوسف عن نفسه؟ { قُلْنَ حَاشَ للَّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سواء قَالَتِ امرأت العزيز الآن حَصْحَصَ الحق } الآية ، قال يوسف : { ذلك لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بالغيب } فقال له جبريل عليه السلام : ولا يوم هممت بما هممت به؟ فقال : { وَمَآ أُبَرِّىءُ نفسي } الآية ، وهكذا قال مجاهد والحسن وقتادة والسدي ، والقول الأول أقوى وأظهر ، لأن سياق الكلام كله من كلام امرأة العزيز بحضرة الملك ولم يكن يوسف عليه السلام عندهم بل بعد ذلك أحضره الملك .(1/1234)
وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55)
يقول تعالى إخباراً عن الملك حين تحقق براءة يوسف عليه السلام ونزاهة عرضه مما نسب إليه قال : { ائتوني بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي } أي أجعله من خاصتي وأهل مشورتي ، { فَلَمَّا كَلَّمَهُ } أي خاطبه الملك وعرفه ورأى فضله وبراعته وعلم ما هو عليه من خلق وخلق وكمال قال له الملك : { إِنَّكَ اليوم لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ } أي إنك عندنا ذا مكانة وأمانة ، فقال يوسف عليه السلام : { اجعلني على خَزَآئِنِ الأرض إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ } مدح نفسه ، ويجوز للرجل ذلك إذا جُهل أمره للحاجة ، وذكر أنه { حَفِيظٌ } أي خازن أمين ، { عَلِيمٌ } ذو علم وبصيرة بما يتولاه ، وقال شيبة بن نعامة : حفيظ لما استودعتني ، عليم بسني الجدب ، وسأل العمل لعلمه بقدرته عليه ، ولما فيه من المصالح للناس ، وإنما سأله أن يجعله على خزائن الأرض ، ليتصرف لهم على الوجه الأحوط والأصلح والأرشد ، فأجيب إلى ذلك رغبة فيه وتكرمة له ، ولهذا قال تعالى : { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض . . . } .(1/1235)
وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَنْ نَشَاءُ وَلَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ (57)
يقول تعالى : { وكذلك مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأرض } أي أرض مصر ، { يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَآءُ } قال السدي : يتصرف فيها كيف يشاء ، وقال ابن جرير : يتخذ منها منزلاً حيث يشاء بعد الضيق والحبس ، { نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَشَآءُ وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ المحسنين } ، أي وما أضعنا صبر يوسف على أذى أخوته وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز ، فلهذا أعقبه الله عزّ وجلّ النصر والتأييد ، { وَلأَجْرُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ } ، يخبر تعالى أن ما ادخره الله تعالى لنبيّه يوسف عليه السلام في الدار الآخرة ، أعظم وأكثر مما خوله من التصرف والنفوذ في الدنيا ، والغرض أن يوسف عليه السلام ولاه ملك مصر ( الريان بن الوليد ) الوزارة في بلاد مصر ، وأسلم الملك على يدي يوسف عليه السلام قاله مجاهد .(1/1236)
وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَلَا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلَا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَلَا تَقْرَبُونِ (60) قَالُوا سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُوا بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)
ذكر السدي ومحمد بن إسحاق وغيرهما من المفسرين ، أن السبب الذي أقدم إخوة يوسف بلاد مصر أن يوسف عليه السلام لما باشر الوزارة بمصر ، ومضت السنين المخصبة ، ثم تلتها السبع السنين المجدبة ، وعم القحط بلاد مصر بكمالها ووصل إلى بلاد كنعان ، وهي التي فيها يعقوب عليه السلام وأولاده ، وحينئذٍ احتاط يوسف عليه السلام للناس في غلاتهم ، وجمعها أحسن جمع ، فحصل من ذلك مبلغ عظيم ، وورد عليه الناس من سائر الأقاليم ، يمتارون لأنفسهم وعيالهم ، فكان لا يعطي الرجل أكثر من حمل بعير في السنة ، وكان عليه السلام لا يشبع نفسه ، ولا يأكل هو والملك وجنودهما إلا أكلة واحدة في وسط النهار ، حتى يتكفأ الناس بما في أيديهم مدة السبع سنين ، وكان رحمة من الله على أهل مصر ، والغرض أنه كان في جملة من ورد للميرة إخوة يوسف ، فإنه بلغهم أن عزيز مصر يعطي الناس الطعام بثمنه ، فأخذوا معهم بضاعة ، يعتاضون بها طعاماً ، وركبوا عشرة نفر ، واحتبس يعقوب عليه السلام عنده ابنه ( بنيامين ) شقيق يوسف عليه السلام وكان أحب ولده إليه بعد يوسف ، فلما دخلوا على يوسف ، وهو جالس في أبهته ورياسته ، وسيادته عرفهم حين نظر إليهم { وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ } أي لا يعرفونه ، لأنهم فارقوه وهو صغير حدث وباعوه للسيارة ولم يردوا أين يذهبون به ، ولا كانوا يستشعرون في أنفسهم أن يصير إلى ما صار إليه ، فلهذا لم يعرفوه ، وأما هو فعرفهم ، فذكر السدي وغيره ، أنه شرع يخاطبهم ، فقال لهم كالمنكر عليهم : ما أقدمكم بلادي؟ فقالوا : أيها العزيز قدمنا للميرة ، قال : فلعلكم عيون؟ قالوا : معاذ الله ، قال : فمن أين أنتم؟ قالوا : من بلاد كنعان وأبونا يعقوب نبي الله ، قال : وله أولاد غيركم؟ قالوا : نعم كنا اثني عشر ، فذهب أصغرنا هلك في البرية ، وكان أحبنا إلى أبيه ، وبقي شقيقه فاحتبسه أبوه ليتسلى به عنه ، فأمر بأنزالهم وإكرامهم ، { وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ } أي أوفى لهم كيلهم وحمل لهم أحمالهم قال : ائتوني بأخيكم هذا الذي ذكرتم لأعلم صدقكم فيما ذكرتم ، { أَلاَ تَرَوْنَ أني أُوفِي الكيل وَأَنَاْ خَيْرُ المنزلين } ؟ يرغبهم في الرجوع إليه ، ثم رهّبهم فقال : { فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي } أي إن لم تقدموا به معكم في المرة الثانية فليس لكم عندي ميرة ، { وَلاَ تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ } أي سنحرص على مجيئه إليك بكل ممكن ولا نبقي مجهوداً لتعلم صدقنا فيما قلناه { وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ } أي غلمانه ، { اجعلوا بِضَاعَتَهُمْ } أي التي قدموا بها ليمتاروا عوضاً عنها { فِي رِحَالِهِمْ } أي في أمتعتهم من حيث لا يشعرون { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } بها قبل خشي أن لا يكون عندهم بضاعة أخرى يرجعون للميرة بها ، وقيل : أراد أن يردهم إذا وجدوها في متاعهم تحرجاً وتورعاً ، لأنه يعلم ذلك منهم ، والله أعلم .(1/1237)
فَلَمَّا رَجَعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)
يقول تعالى عنهم إنهم رجعوا إلى أبيهم : { قَالُواْ ياأبانا مُنِعَ مِنَّا الكيل } يعنون بعد هذه المرة إن لم ترسل معنا أخانا ( بنيامين ) ، فأرسله معنا نكتل { وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } أي لا تخف عليه فإنه سيرجع إليك ، وهذا كما قالوا له في يوسف { أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ يوسف : 12 ] ولهذا قال لهم : { هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَآ أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ } أي هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل ، تغيبونه عني وتحولين بيني وبينه؟ { فالله خَيْرٌ حَافِظاً } ، { وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين } أي هو أرحم الراحمين بي وسيرحم كبري وضعفي ووجدي بولدي وأرجو من الله أن يرده عليَّ ويجمع شملي به ، إنه أرحم الراحمين .(1/1238)
وَلَمَّا فَتَحُوا مَتَاعَهُمْ وَجَدُوا بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُوا يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلَّا أَنْ يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللَّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66)
يقول تعالى : ولما فتح إخوة يوسف متاعهم وجدوا بضاعتهم ردت إليهم ، هي التي كان أمر يوسف فتيانه بوضعها في رحالهم ، ولام وجدوها في متاعهم { قَالُواْ ياأبانا مَا نَبْغِي } أي ماذا نريد ، { هذه بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا } ، كما قال قتادة : ما نبغي وراء هذا إن بضاعتنا ردت إلينا وقد أوفى لنا الكيل ، { وَنَمِيرُ أَهْلَنَا } أي إذا أرسلت أخانا معنا نأتي بالميرة إلى أهلنا ، { وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ } ، وذلك أن يوسف عليه السلام كان يعطي كل رجل حمل بعير ، { ذلك كَيْلٌ يَسِيرٌ } هذا من تمام الكلام وتحسينه ، أي إن هذا يسير في مقابلة أخذ أخيهم ما يعدل هذا ، { قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حتى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ الله } أي تحلفون بالعهود والمواثيق ، { لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ } ، إلا أن تغلبوا كلكم ولا تقدرون على تخليصه ، { فَلَمَّآ آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ } أكده عليهم ، { قَالَ الله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } قال ابن إسحاق : وإنما فعل ذلك لأنه لم يجد بداً من بعثهم لأجل الميرة التي لا غنى لهم عنها فبعثه معهم .(1/1239)
وَقَالَ يَا بَنِيَّ لَا تَدْخُلُوا مِنْ بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُوا مِنْ أَبْوَابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ مَا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (68)
يقول تعالى إخباراً عن يعقوب عليه السلام : أنه أمر بنيه لما جهزهم مع أخيهم ( بينامين ) إلى مصر أن لا يدخلوا من باب واحد ، وليدخلوا من أبواب متفرقة ، فإنه - كما قال ابن عباس والسدي وغير واحد - خشي عليهم العين ، وذلك أنهم كانوا ذوي جمال وهيئة حسنة ومنظر وبهاء ، فخشي عليهم أن يصيبهم الناس بعيونهم ، فإن العين حق تستنزل الفارس عن فرسه ، وقوله : { وَمَآ أُغْنِي عَنكُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ } أي أن هذا الاحتراز لا يرد قدر الله وقضاءه ، فإن الله إذا أراد شيئاً لا يخالف ولا يمانع ، { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون * وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِّنَ الله مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا } ، قالوا : هي دفع إصابة العين لهم { وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ } ، قال قتادة : لذو علم بعلمه ، وقال ابن جرير : لذو علم لتعليمنا إياه { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } .(1/1240)
وَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلَا تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (69)
يخبر تعالى عن إخوة يوسف لما قدموا على يوسف ومعهم أخوه ( بنيامين ) وأدخلهم دار كرامته ومنزل ضيافته ، وأفاض عليهم الصلة والإلطاف والإحسان ، واختلى بأخيه ، فأطلعه على شأنه وما جرى له وعرفه أنه أخوه وقال له : { لاَ تَبْتَئِسْ } ، أي لا تأسف على ما صنعوا بي ، وأمره يكتمان ذلك عنهم ، وأن لا يطلعهم على ما أطلعه عليه من أنه أخوه ، وتواطأ معه أنه سيحتال على أن يبقيه عنده معززاً مكرماً معظماً .(1/1241)
فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُوا وَأَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ مَاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُوا نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَنْ جَاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)
لما جهزهم وحمل معهم أبعرتهم طعاماً أمر بعض فتيانه أن يضع { السقاية } وهي إناء من فضة من قول الأكثرين ، وقيل : من ذهب ، ويكيل للناس به من عزة الطعام إذ ذاك ، قاله ابن عباس ومجاهد ، وعن ابن عباس : { صُوَاعَ الملك } قال : كان من فضة يشربون فيه ، وكان للعباس مثله في الجاهلية ، فوضعها في متاع ( بنيامين ) من حيث لا يشعر أحد ، ثم نادى منادٍ بينهم : { أَيَّتُهَا العير إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ } ، فالتفتوا إلى المنادي ، وقالوا : { مَّاذَا تَفْقِدُونَ * قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الملك } أي صاعه الذي يكيل به ، { وَلِمَن جَآءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ } وهذا من باب الجُعَالة ، { وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ } وهذا من باب الضمان والكفالة .(1/1242)
قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُوا فَمَا جَزَاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُوا جَزَاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِنْ وِعَاءِ أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)
لما اتهمهم أولئك الفتيان بالسرقة قال لهم إخوة يوسف : { تالله لَقَدْ عَلِمْتُمْ مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } أي لقد تحققتم وعلمتم منذ عرفتمونا ، لأنهم شاهدوا منهم سيرة حسنة ، إنا { مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأرض وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ } أي ليست سجايانا تقتضي هذه الصفة ، فقال لهم الفتيان : { فَمَا جَزَآؤُهُ } أي السارق إن كان فيكم { إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ } أي : أيُّ شيء يكون عقوبته إن وجدنا فيكم من أخذه؟ { قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ * قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كذلك نَجْزِي الظالمين } ، وهكذا كانت شريعة إبراهيم عليه السلام أن السارق يدفع إلى المسروق منه ، وهذا هو الذي أراد يوسف عليه السلام ، ولهذا بدأ بأوعيتهم قبل وعاء أخيه ، أي فتشها قبله تورية ، { ثُمَّ استخرجها مِن وِعَآءِ أَخِيهِ } فأخذه منهم بحكم اعترافهم وإلزامهم بما يعتقدونه ، ولهذا قال تعالى : { كذلك كِدْنَا لِيُوسُفَ } وهذا من الكيد المحبوب المراد الذي يحبه ويرضاه لما فيه من الحكمة والمصلحة والمطلوبة ، وقوله : { مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الملك } أي لم يكن له أخذه في حكم ملك مصر ، وإنما كان يعلم ذلك من شريعتهم ، ولهذا مدحه الله تعالى فقال : { نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } ، كما قال تعالى : { يَرْفَعِ الله الذين آمَنُواْ مِنكُمْ } [ المجادلة : 11 ] الآية ، { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } . قال الحسن البصري : ليس عالم إلا فوقه عالم حتى ينتهي إلى الله عزّ وجلّ . عن سعيد بن جبير قال : كنا عند ابن عباس فحدّث بحديث عجيب ، فتعجب رجل فقال : الحمد لله ، فوق كل ذي علم عليم ، فقال ابن عباس : بئس ما قلت ، الله العليم فوق كل عالم ، يكون هذا أعلم من هذا وهذا أعلم من هذا ، والله فوق كل عالم ، وقال قتادة : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } حتى ينتهي العلم إلى الله ، منه بدئ وتعلمت العلماء وإليه يعود .(1/1243)
قَالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكَانًا وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا تَصِفُونَ (77)
وقال إخوة يوسف لما رأوا الصواع قد اخرج من متاع بنيامين { إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ } يتنصلون إلى العزيز من التشبه به ، ويذكرون أن هذا فعل كما فعل أخ له من قبل ، يعنون به يوسف عليه السلام . قال قتادة : كان يوسف عليه السلام قد سرق صنماً لجده أبي أمه فكسره ، وقوله : { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ } يعني الكلمة التي بعدها ، وهي قوله : { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } أي تذكرون ، قال هذا في نفسه ولم يبدها لهم ، وهذا من باب الإضمار قبل الذكر ، وله شواهد كثيرة في القرآن والحديث واللغة ، قال ابن عباس : { فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ } قال : أسرَّ في نفسه { أَنْتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً والله أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ } .(1/1244)
قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَبًا شَيْخًا كَبِيرًا فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلَّا مَنْ وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِنْدَهُ إِنَّا إِذًا لَظَالِمُونَ (79)
لما تعين أخذ بنيامين وتقرر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم ، شرعوا يترققون له ويعطفونه عليهم { قَالُواْ ياأيها العزيز إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً } يعنون وهو يحبه حباً شديداً ويتسلى به عن ولده الذي فقده ، { فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ } أي بدله يكون عندك عوضاً عنه ، { إِنَّا نَرَاكَ مِنَ المحسنين } أي العادلين المنصفين القابلين للخير ، { قَالَ مَعَاذَ الله أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ } أي كما قلتم واعترفتم ، { إِنَّآ إِذاً لَّظَالِمُونَ } أي إن أخذنا بريئاً بمذنب .(1/1245)
فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقًا مِنَ اللَّهِ وَمِنْ قَبْلُ مَا فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82)
يخبر تعالى عن إخوة يوسف أنهم لما يئسوا من تخليص أخيهم بنيامين الذي قد التزموا لأبيهم برده إليه وعاهدوه على ذلك فامتنع عليهم ذلك { خَلَصُواْ } أي انفردوا عن الناس { نَجِيّاً } يتناجون فيما بينهم ، { قَالَ كَبِيرُهُمْ } وهو الذي أشار عليهم بإلقائه في البئر عندما همو بقتله قال لهم : { أَلَمْ تعلموا أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَّوْثِقاً مِّنَ الله } لتردنه إليه ، فقد رأيتم كيف تعذر عليكم ذلك مع ما تقدم لكم من إضاعة يوسف عنه ، { فَلَنْ أَبْرَحَ الأرض } أي لن أفارق هذه البلدة { حتى يَأْذَنَ لي أبي } في الرجوع إليه راضياً عني { أَوْ يَحْكُمَ الله لِي } بأن يمكنني من أخذ أخي { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } ، ثم أمرهم أن يخبروا أباهم بصورة ما وقع حتى يكون عذراً لهم عنده ، ويتنصلوا إليه ويبرأوا مما وقع بقولهم ، وقوله : { وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ } قال قتادة : ما علمنا أن ابنك سرق ، { وَسْئَلِ القرية التي كُنَّا فِيهَا } قيل المراد مصر ، وقيل غيرها : { والعير التي أَقْبَلْنَا فِيهَا } أي التي رافقناها عن صدقنا وأمانتنا وحفظنا وحراستنا ، { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } فيما أخبرناك به من أنه سرق وأخذوه بسرقته .(1/1246)
قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (86)
قال لهم ، كما قال لهم حين جاءوا على قميص يوسف بدم كذب : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } ، قال محمد بن إسحاق : لما جاءوا يعقوب وأخبروه بما جرى اتهمهم ، فظن أنه كفعلتهم بيوسف ، قال : { بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ } ، ثم ترجى من الله أن يرد عليه أولاده الثلاثة يوسف وأخاه بنيامين وروبيل الذي أقام بديار مصر ينتظر أمر الله فيه ، إما أن يرضى عنه أبوه ، فيأمره بالرجوع إليه ، وإما أن يأخذ أخاه خفية ، ولهذا قال : { عَسَى الله أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ العليم } أي العليم بحالي ، { الحكيم } في أفعاله وقضائه وقدره ، { وتولى عَنْهُمْ وَقَالَ ياأسفى عَلَى يُوسُفَ } أي أعرض عن بنيه ، وقال متذكراً حزن يوسف القديم الأول { ياأسفى عَلَى يُوسُفَ } جدد له حزن الإبنين الحزن الدفين ، قال سعيد بن جبير : لم يعط أحد غير هذه الأمة الاسترجاع ، ألا تسمعون إلى قول يعقوب عليه السلام : { ياأسفى عَلَى يُوسُفَ وابيضت عَيْنَاهُ مِنَ الحزن فَهُوَ كَظِيمٌ } أي ساكت لا يشكو أمره إلى مخلوق ، قاله قتادة وغيره ، وقال الضحاك { فَهُوَ كَظِيمٌ } كئيب حزين ، فعند ذلك رق له بنوه ، وقالوا له على سبيل الرفق به والشفقة عليه ، { تَالله تَفْتَؤُاْ تَذْكُرُ يُوسُفَ } أي لا تفارق { حتى تَكُونَ حَرَضاً } أي ضعيف القوة ، { أَوْ تَكُونَ مِنَ الهالكين } ، يقولون : إن استمر بك هذا الحال خشينا عليك الهلاك والتلف ، { إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله } أي أجابهم عما قالوا بقوله : { قَالَ إِنَّمَآ أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى الله } أي همي وما أنا فيه { إِلَى الله } وحده ، { وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي أرجو منه كل خير . وعن ابن عباس في الآية يعني رؤيا يوسف أنها صدق وأن الله لا بد أن يظهرها ، وقال العوفي عنه : أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني سوف أسجد له .(1/1247)
يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قَالُوا يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)
يقول تعالى مخبراً عن يعقوب عليه السلام إنه ندب بنيه على الذهاب في الأرض يستعلمون أخبار يوسف وأخيه بنيامين ، و ( التحسس ) يكون في الخير ، و ( التجسس ) يكون في البشر ، ونهضهم وبشرهم وأمرهم أن لا ييأسوا { مِن رَّوْحِ الله } أي لا يقطعوا رجاءهم وأملهم من الله فيما يرومونه ويقصدونه فإنه لا يقطع الرجاء ولا ييأس من روح الله إلا القوم الكافرون ، وقوله : { فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ } تقدير الكلام : فذهبوا فدخلوا مصر ودخلوا على يوسف ، { ياأيها العزيز مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضر } يعنون الجدب والقحط وقلة الطعام ، { وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ } أي ومعنا ثمن الطعام الذي نمتاره وهو ثمن قليل ، قاله مجاهد والحسن ، وقال ابن عباس : الرديء لا ينفق ، وفي رواية عنه : الدراهم الرديئة التي لا يجوز إلا بنقصان ، وقال الضحاك : كاسدة لا تنفق ، وأصل الإزجاء الدفع لضعف الشيء ، وقوله إخباراً عنهم : { فَأَوْفِ لَنَا الكيل } أي أعطنا بهذا الثمن القليل ما كنت تعطينا قبل ذلك ، قال ابن جريج : { وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَآ } برد اخينا إلينا ، وقال سعيد بن جبير والسدي : يقولون : تصدق علينا بقبض هذه البضاعة المزجاة وتجوز فيها .(1/1248)
قَالَ هَلْ عَلِمْتُمْ مَا فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُوا أَإِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَا يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ وَيَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنَا وَإِنْ كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)
يقول تعالى مخبراً عن يوسف عليه السلام أنه لما ذكر له إخوته ما أصابهم من الجهد والضيق وقلة الطعام وعموم الجدب ، وتذكر أباه ، وما هو فيه من الحزن لفقد ولديه مع ما هو فيه من الملك والتصرف والسعة ، فعند ذلك أخذته رقة ورأفة ورحمة وشفقة على أبيه وأخوته ، وبدره البكاء ، فتعرف إليه ، والظاهر - والله أعلم - أن يوسف عليه السلام إنما تعرف إليهم بنفسه بإذن الله تعالى له في ذلك ، كما إنه إنما أخفى منهم نفسه في المرتين الأوليين بأمر الله تعالى له في ذلك ، والله أعلم ، ولكن لما ضاق الحال واشتد الأمر فرج الله تعالى من ذلك الضيق فعند ذلك قالوا : { أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ } ؟ والاستفهام يدل على الاستعظام ، أي أنهم تعجبوا من ذلك أنهم يترددون إليه من سنتين وأكثر ، وهم لا يعرفونه ، وهو مع هذا يعرفهم ويكتم نفسه ، فلهذا قالوا على سبيل الاستفهام : { أَءِنَّكَ لأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وهذا أَخِي } ، وقوله : { قَدْ مَنَّ الله عَلَيْنَآ } أي بجمعه بيننا بعد التفرقة وبعد المدة { إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيَِصْبِرْ فَإِنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المحسنين * قَالُواْ تالله لَقَدْ آثَرَكَ الله عَلَيْنَا } الآية ، يقولون معترفون له بالفضل والأثرة عليهم في الخلق والخلق والسعة والملك وأقروا له بأنهم أساءوا إليه وأخطأوا في حقه ، { قَالَ لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم } يقول أي لا تأنيب عليكم ولا عتب عليكم اليوم ، ثم زادهم الدعاء لهم بالمغفرة ، فقال : { يَغْفِرُ الله لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين } قال السدي : اعتذروا إلى يوسف فقال : { لاَ تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ اليوم } يقول : لا أذكر لكم ذنبكم ، وقال ابن إسحاق والثوري : أي لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم ، { يَغْفِرُ الله لَكُمْ } أي يستر الله عليكم فيما فعلتم { وَهُوَ أَرْحَمُ الراحمين } .(1/1249)
اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قَالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلَالِكَ الْقَدِيمِ (95)
يقول : اذهبوا بهذا القميص { فَأَلْقُوهُ على وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً } وكان قد عمي من كثرة البكاء ، { وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ } أي بجميع بني يعقوب ، { وَلَمَّا فَصَلَتِ العير } أي خرجت من مصر ، { قَالَ أَبُوهُمْ } يعني يعقوب عليه السلام لمن بقي عنده من بنيه : { إِنِّي لأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ } تنسبوني إلى الفند والكبر ، قال ابن عباس ومجاهد : تسفهون ، وقال مجاهد أيضاً والحسن : تهرّمون ، وقولهم : { إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ القديم } قال ابن عباس : لفي خطئك القديم ، وقال قتادة : أي من حب يوسف لا تنساه ولا تسلاه ، قالوا لوالدهم كلمة غليظة لم يكن ينبغي لهم أن يقولوها لوالدهم ولا لنبي الله صلى الله عليه وسلم ، وكذا قال السدي وغيره .(1/1250)
فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (96) قَالُوا يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)
قال ابن عباس : { البشير } البريد ، وقال السدي : هو يهوذا بن يعقوب وإنما جاء به لأنه هو الذي جاء بالقميص وهو ملطخ بدم كذب ، فأحب أن يغسل ذلك بهذا ، فجاء بالقميص فألقاه على وجه أبيه فرجع بصيراً ، وقال لبنيه عند ذلك : { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي أعلم أن الله سيرده إليَّ ، فعند ذلك قالوا لأبيهم مترفقين له : { ياأبانا استغفر لَنَا ذُنُوبَنَآ إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } أي من تاب إليه تاب عليه ، قال ابن مسعود : أرجأهم إلى وقت السحر ، وقال ابن جرير : كان عمر رضي الله عنه يأتي المسجد فيسمع إنساناًَ يقول : اللهم دعوتني فأجبت ، وأمرتني فأطعت ، وهذا السحر فاغفر لي ، قال : فاستمع الصوت فإذا هو من دار ( عبد الله بن مسعود ) فسأل عبد الله عن ذلك ، فقال : إن يعقوب أخّر بنيه إلى السحر بقوله : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي } .(1/1251)
فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّدًا وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)
يخبر تعالى عن ورود يعقوب عليه السلام وقدومه بلاد مصر ، لما كان يوسف قد تقدم لإخوته أن يأتوه بأهلهم أجمعين ، فتحملوا عن آخرهم ، وترحلوا من بلاد كنعان قاصدين بلاد مصر ، فما أخبر يوسف عليه السلام باقترابهم خرج لتلقيهم ، وأمر الملك أمراءه وأكابر الناس بالخروج مع يوسف لتلقي نبي الله ( يعقوب عليه السلام ) ، ويقال إن الملك خرج أيضاً لتلقيه وهو الأشبه ، وقوله : { آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ } قال السدي : إنما كان أباه وخالته وكانت أمه قد ماتت قديماً ، قال ابن جرير : ولم يقم دليل على موت أمه ، وظاهر القرآن يدل على حياتها ، وقوله : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش } ، قال ابن عباس : يعني السرير أي أجلسهما معه على سريره ، { وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } أي سجد له أبواه وإخوته الباقون ، وكانوا أحد عشر رجلاً ، { وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } أي التي كان قصها على أبيه من قبل ، وقد كان هذا سائغاً في شرائعهم إذا سلموا على الكبير يسجدون له ، ولم يزل هذا جائزاً من لدن آدم إلى شريعة عيسى عليه السلام ، فحرم هذا في هذه الملة ، وجعل السجود مختصاً بجناب الرب سبحانه وتعالى ، هذا مضمون قول قتادة وغيره ، وفي الحديث : « لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها لعظم حقه عليها » ، وفي حديث آخر : إن سلان لقي النبي صلى الله عليه وسلم في بعض المدينة ، وكان سلمان حديث عهد بالإسلام ، فسجد للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : « لا تسجد لي يا سلمان واسجد للحي الذي لا يموت » والغرض أن هذا كان جائزاً في شريعتهم ، ولهذا خروا له سجداً فعندها قال يوسف : { ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } أي هذا ما آل إليه الأمر ، فإن التأويل يطلق على ما يصير إليه الأمر ، كما قال تعالى : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } [ الأعراف : 53 ] أي يوم القيامة يأتيهم ما وعدوا به من خير وشر ، وقوله : { قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً } أي صحيحة صدقاً ، يذكر نعم الله عليه ، { وَقَدْ أَحْسَنَ بي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السجن وَجَآءَ بِكُمْ مِّنَ البدو } أي البادية ، قال ابن جريج وغيره : كانوا أهل بادية وماشية ، { مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشيطان بَيْنِي وَبَيْنَ إخوتي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَآءُ } ، أي إذا أراد أمراً قيض له أسباباً وقدره ويسره { إِنَّهُ هُوَ العليم } بمصالح عباده { الحكيم } في أقواله وأفعاله وقضائه وقدره وما يختاره ويريده . قال محمد بن إسحاق : ذكروا - والله أعلم - أن غيبة يوسف عن يعقوب كانت ثماني عشرة سنة ، وأهل الكتاب يزعمون أنها كانت أربعين سنة ، وأن يعقوب عليه السلام بقي مع يوسف بعد أن قدم عليه مصر سبع عشرة سنة ثم قبضه الله إليه ، وقال عبد الله بن شداد : اجتمع آل يعقوب إلى يوسف بمصر وهم ستة وثمانون إنساناً صغيرهم وكبيرهم ، وذكرهم وأنثاهم ، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف ونيف .(1/1252)
رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)
هذا دعاء من يوسف الصديق ، دعا به ربه عزّ وجلّ لما تمت نعمة الله عليه باجتماعه بأبويه وإخوته ، وما منَّ الله به عليه من النبوة والملك ، سأل ربه عزّ وجلّ أن يتوفاه مسلماً حين يتوفاه وأن يلحقه بالصالحين ، وهم إخوانه من النبيين والمرسلين صلوات الله عليه وسلامه عليهم أجمعين؛ وهذا الدعاء يحتمل أن يوسف عليه السلام قاله عند احتضاره ، كما ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يرفع أصبعه عند الموت ويقول : « اللهم في الرفيق الأعلى ثلاثاً » ؛ ويحتمل أنه سأل الوفاة على الإسلام واللحاق بالصالحين إذا جاء أجله وانقضى عمره ، لا أنه سأله ذلك منجزاً كما يقول الداعي لغيره أماتك الله على الإسلام ، ويقول الداعي : اللهم أحينا مسلمين وتوفنا مسلمين وألحقنا بالصالحين؛ ويحتمل أنه سأل ذلك منجزاً وكان ذلك سائغاً في ملتهم ، كما قال قتادة : لما جمع الله شمله وأقر عينه وهو يومئذٍ مغمور في الدنيا وملكها ونضارتها اشتاق إلى الصالحين قبله ، وكان ابن عباس يقول : ما تمنى نبي قط الموت قبل يوسف عليه السلام ، ولكن هذا لا يجوز في شريعتنا لما في « الصحيحين » : « لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به إما محسناً فيزداد ، وإما مسيئاً فلعله يستعتب ، ولكن ليقل : اللهم أحيني ما كانت الحياة خيراً لي ، وتوفني إذا كان الوفاة خيراً لي » .
وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يتمنين أحدكم الموت لضر نزل به ولا يدع به من قبل أن يأتيه إلا أن يكون قد وثق بعمله فإنه إذا مات أحدكم انقطع عنه عمله وإنه لا يزيد المؤمن عمله إلا خيراً » وهذا فيما إذا كان الضر خاصاً به ، وأما إذا كان فتنة في الدين فيجوز سؤال الموت ، كما قال تعالى إخباراً عن السحرة لا أرادهم فرعون عن دينهم وتهددهم بالقتل قالوا : { رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ } [ الأعراف : 126 ] . وقالت مريم عليها السلام : { ياليتني مِتُّ قَبْلَ هذا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً } [ مريم : 23 ] لما علمت من أن الناس يقذفونها بالفاحشة لأنها لم تكن ذات زوج وقد حملت ووضعت ، وفي حديث معاذ الذي رواه الإمام أحمد والترمذي : « وإذا أردت بقوم فتنة فاقبضني إليك غير مفتون » ، فعند حلول الفتن في الدين يجوز سؤال الموت ، ولهذا قال علي بن أبي طالب رضي الله عنه في آخر خلافته لما رأى الأمور لا تجتمع له ، ولا يزداد الأمر إلا شدة فقال : اللهم خذني إليك فقد سئمتهم وسئموني ، وقال البخاري رحمه الله : لما وقعت له تلك الفتنة وجرى له مع أمير خراسان ما جرى قال : اللهم توفني إليك ، وفي الحديث : « إن الرجل ليمر بالقبر - أي في زمان الدجال - فيقول يا ليتني مكانك » لما يرى من الفتن والزلازل والأمور الهائلة التي هي فتنة لكل مفتون .(1/1253)
ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعَالَمِينَ (104)
يقول تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم لما قص عليه نبأ إخوة يوسف ، وكيف رفعه الله عليهم وجعل له العاقبة والنصر والملك والحكم ، مع ما أرادوا به من السوء والهلاك والإعدام : هذا وأمثاله يا محمد من أخبار الغيوب السابقة { نُوحِيهِ إِلَيْكَ } ونعلمك به يا محمد لما فيه من العبرة لك والاتعاظ لمن خالفك ، { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } حاضراً عندهم ولا مشاهداً لهم { إِذْ أجمعوا أَمْرَهُمْ } أي على إلقائه في الجب ، { وَهُمْ يَمْكُرُونَ } به ، ولكنا أعلمناك به وحياً إليك وإنزالاً عليك كقوله : { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ } [ آل عمران : 44 ] الآية ، وقال تعالى : { وَمَا كُنتَ بِجَانِبِ الغربي إِذْ قَضَيْنَآ إلى مُوسَى الأمر } [ القصص : 44 ] الآية ، إلى قوله : { وَمَا كُنْتَ بِجَانِبِ الطور إِذْ نَادَيْنَا } [ القصص : 46 ] الآية ، يقول تعالى : إنه رسوله وإنه قد أطلعه على أنباء ما قد سبق مما فيه عبرة للناس ونجاة لهم في دينهم ودنياهم ، ومع هذا ما آمن أكثر الناس ، ولهذا قال : { وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } ، وقال : { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله } [ الأنعام : 116 ] ، وقوله : { وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ } أي ما تسألهم يا محمد على هذا النصح والرشد من أجر أي من جعالة ولا أجرة ، بل تفعله ابتغاء وجه الله ونصحاً لخلقه ، { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ } أي يتذكرون به ويهتدون وينجون به في الدنيا والآخرة .(1/1254)
وَكَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (107)
يخبر تعالى عن غفلة أكثر الناس عن التفكر في آيات الله ، ودلائل توحيده ، بما خلقه الله في السماوات والأرض من كواكب زاهرات وأفلاك دائرات؛ وحدائق جنات ، وجبال راسيات ، وبحار زاخرات ، وحيوان ونبات ، فسبحان الواحد الأحد خالق أنواع المخلوقات ، المنفرد بالدوام والبقاء والمصدية للأسماء والصفات ، وقوله : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } قال ابن عباس : من إيمانهم أنهم إذا قيل لهم : من خلق السماوات ومن خلق الأرض ومن خلق الجبال؟ قالوا : الله وهم مشركون به . وفي « الصحيحين » : أن المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، إلا شريك هو لك ، تملكه وما ملك . وفي « صحيح مسلم » : « أنهم كانوا إذا قالوا : لبيك لا شريك لك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » قد قد « » أي حسب حسب لا تزيدوا على هذا ، وقال الله تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] . وقال الحسن البصري في قوله : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } قال : ذلك المنافق يعمل إذا عمل رياء الناس ، وهو مشرك بعمله ذلك ، يعني في قوله تعالى : { يُرَآءُونَ الناس وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 142 ] ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يقول الله أنا أغنى الشركاء عن الشرك ، من عمل عملاً أشرك فيه معي غيري تركته وشركه » ، وعن أبي سعيد بن أبي فضالة قال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : إذا جمع الأولين والآخرين ليوم لا ريب فيه ، ينادي منادٍ من كان أشرك في عمل عمله الله فليطلبْ ثوابه من عند غير الله ، فإن الله أغنى الشركاء عن الشرك » وقال : « إن أخوف ما أخاف عليكم الشرك الأصغر » ، قالوا : وما الشرك الأصغر يا رسول الله؟ قال : « الرياء ، يقول الله تعالى يوم القيامة إذا جاز الناس بأعمالهم : اذهبوا إلى الذين كنتم تراؤون في الدنيا ، فانظروا هل تجدون عندهم جزاء؟ » وقد روى الإمام أحمد وأبو داود والترمذي قال : قال أبو بكر الصديق : « يا رسول الله علمني شيئاً أقوله إذا أصبحت وإذا أمسيت وإذا أخذت مضجعي ، قال : » قل اللهم فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة ، رب كل شيء ومليكه ، أشهد أن لا إله إلا أنت ، أعوذ بك من شر نفسي ، ومن شر الشيطان وشركه « ، وقوله : { أفأمنوا أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ الله } الآية ، أي افأمن هؤلاء المشركون بالله أن يأتيهم أمر يغشاهم من حيث لا يشعرون ، كقوله تعالى : { أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النحل : 45 ] ؟ وقوله : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ * أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } [ الأعراف : 97-99 ] ؟(1/1255)
قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم إلى الثقلين الإنس والجن آمراً له أن يخبر الناس أن هذه سبيله ، أي طريقته ومسلكه وسنته ، وهي الدعوة إلى شهادة أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له « يدعو إلى الله بها لى بصيرة من ذلك ويقين وبرهان ، هو وكل من اتبعه ، وقوله : { وَسُبْحَانَ الله } أي وأنزه الله وأجله وأعظمه وأقدسه عن أن يكون له شريك أو نظير أو عديل أو نديد أو ولد أو والد أو صاحبه أو وزير أو مشير ، تبارك وتقدس وتنزه وتعالى عن ذلك كله علواً كبيراً { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [ الإسراء : 44 ] .(1/1256)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَفَلَا تَعْقِلُونَ (109)
يخبر تعالى أنه إنما أرسل رسله من ( الرجال ) لا من ( النساء ) وهذا قول جمهور العلماء ، وزعم بعضهم أن ( سارة ) امرأة الخليل ، وأم موسى ، ومريم بنت عمران ، أم عيسى نبيات ، واحتجوا بأن الملائكة بشرت سارة بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، وبقوله : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ } [ القصص : 7 ] الآية ، وبأن الملك جاء إلى مريم فبشرها بعيسى عليه السلام ، وبقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ واصطفاك على نِسَآءِ العالمين } [ آل عمران : 42 ] ، وهذا القدر حاصل لهن ، ولكن لا يلزم من هذا أن يكن نبيات بذلك ويبقى الكلام في أن هذا هل يكفي في الانتظام في سلك النبوة بمجرده أم لا؟ الذي عليه أهل السنة والجماعة - وهو الذي نقله الشيخ أبو الحسن الأشعري عنهم - أنه ليس في النساء نبية ، وإنما فيهن ( صدّيقات ) ، كما قال تعالى مخبراً عن ( مريم بنت عمران ) : { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } [ المائدة : 75 ] ، فوصفها في أشرف مقاماتها بالصديقية ، فلو كانت نبية لذلك ذكل في مقام التشريف والإعظام فهي صديقة بنص القرآن وقال الضحاك عن ابن عباس في الآية : أي ليسوا من أهل السماء كما قلتم ، وهذا القول من ابن عباس يعتضد بقوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق } [ الفرقان : 20 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَاهُمْ جَسَداً لاَّ يَأْكُلُونَ الطعام وَمَا كَانُواْ خَالِدِينَ } [ الأنبياء : 8 ] ، وقوله : { مِّنْ أَهْلِ القرى } المراد بالقرى المدن لا أنهم من أهل البوادي الذين هم من أجفى الناس طباعاً وأخلاقاً ، وقوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض } يعني هؤلاء المكذبين لك يا محمد في الأرض { فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي من الأمم المكذبة للرسل كيف دمر الله عليهم وللكافرين أمثالها ، كقوله : { أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأرض فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَآ } [ العنكبوت : 46 ] الآية ، فإذا استمعوا خبر ذلك رأوا أن الله قد أهلك الكافرين ونجّى المؤمنين ، وهذه كانت سنته تعالى في خلقه ولهذا قال تعالى : { وَلَدَارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتقوا } أي وكما نجينا المؤمنين في الدنيا كذلك كتبنا لهم النجاة في الدار الآخرة ، وهي خير لهم من الدنيا بكثير ، وأضاف الدار إلى الآخرة فقال : { وَلَدَارُ الآخرة } كما يقال : صلاة الأولى ومسجد الجامع .(1/1257)
حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جَاءَهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَنْ نَشَاءُ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110)
يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عند ضيق الحال وانتظار الفرج من الله في أحوج الأوقات إليه ، كقوله تعالى : { وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله } [ البقرة : 142 ] الآية . وفي قوله : { كُذِبُواْ } قراءتان إحداهما بالتشديد { قَدْ كُذِبُواْ } ، وكذلك كانت عائشة رضي الله عنها تقرؤها ، قال البخاري عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير عن عائشة أنها قالت له وهو يسألها عن قول الله تعالى : { حتى إِذَا استيأس الرسل } قال ، قلت : أكذبوا أم كذّبوا؟ قالت عائشة : كذّبوا ، قلت : فقد استيقنوا أن قومهم كذبوهم فماهو بالظن؟ قالت : أجل لعمري لقد استيقنوا بذلك ، فقلت لها : { وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } ؟ قالت : معاذ الله لم تكن الرسل تظن ذلك بربها ، قلت فما هذه الآية؟ قالت : هم أتباع الرسل الذين آمنوا بربهم وصدقوهم فطال عليهم البلاء ، واستأخر عنهم النصر { حتى إِذَا استيأس الرسل } ممن كذبهم من قومهم ، وظنت الرسل أن أتباعهم قد كذبوهم ، جاءهم نصر الله عند ذلك . والقراءة الثانية بالتخفيف واختلفوا في تفسيرها ، فقال ابن عباس في قوله : { حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } قال : لما أيست الرسل أن يستجيب لهم قومهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كذبوهم جاءهم النصر على ذلك ، { فَنُجِّيَ مَن نَّشَآءُ } ، وقال ابن جرير ، عن إبراهيم بن أبي حمزة الجزري قال : سأل فتى من قريش سعيد بن جبير قال : أخبرنا أبا عبد الله كيف هذا الحرف؟ فإني إذا أتيت عليه تمنيت أن لا أقرأ هذه السورة { حتى إِذَا استيأس الرسل وظنوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ } قال : نعم ، حتى استيأس الرسل من قومهم أن يصدقوهم ، وظن المرسل إليهم أن الرسل قد كذبوا ، فقال الضحاك بن مزاحم : ما رأيت كاليوم قط رجلاً يدعى إلى علم فيتلكاً ، لو رحلت إلى اليمن في هذه كان قليلاً . ثم روى ابن جرير أيضاً من وجه آخر أن مسلم بن يسار سأل سعيد بن جبير عن ذلك فأجابه بهذا الجواب ، فقام إلى سعيد فأعتنقه ، وقال : فرج الله عنك كما فرجت عني . وأما ابن مسعود فقال ابن جرير ، عن تميم بن حزم ، قال : سمعت عبد الله بن مسعود يقول في هذه الآية : { حتى إِذَا استيأس الرسل } من إيمان قومهم أن يؤمنوا بهم ، وظن قومهم حين أبطأ الأمر أنهم قد كذبوا بالتخفيف ، فهاتان الروايتان عن كل من ابن مسعود وابن عباس والله أعلم .(1/1258)
لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثًا يُفْتَرَى وَلَكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)
يقول تعالى : لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم وكيف نجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين { عِبْرَةٌ لأُوْلِي الألباب } وهي العقول ، { مَا كَانَ حَدِيثاً يفترى } أي وما كان لهذا القرآن أن يفترى من دون الله ، أي يكذب ويختلق ، { ولكن تَصْدِيقَ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من الكتب المنزلة من السماء هو يصدق ما فيها من الصحيح وينفي ما وقع فيها من تحريف وتبديل وتغيير ، { وَتَفْصِيلَ كُلِّ شَيْءٍ } من تحليل وتحريم وغير ذلك من الأمر بالطاعات والواجبات والمستحبات ، والنهي عن المحرمات وما شاكلها من المكروهات ، والإخبار عن الأمور الجلية ، وعن الغيوب المستقبلة المجملة والتفصيلية ، والإخبار عن الرب تبارك وتعالى بالأسماء والصفات ، وتنزهه عن مماثلة المخلوقات ، فلهذا كان : { وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } تهتدي به قلوبهم من الغي إلى الرشاد ، ومن الضلال إلى السداد ، ويبتغون به الرحمة من رب العباد ، في هذه الحياة الدنيا ويوم المعاد ، فنسأل الله العظيم أن يجعلنا منهم في الدنيا والآخرة .(1/1259)
المر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يُؤْمِنُونَ (1)
أما الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور فقد تقدم في أول سورة البقرة ، وقدمنا : أن كل سورة ابتدئت بهذه الحروف ففيها الانتصار للقرآن ، وتبيان أن نزوله من عند الله حق لا شك فيه ولا مرية ولا ريب ، ولهذا قال : { تِلْكَ آيَاتُ الكتاب } أي هذه آيات الكتاب وهو القرآن ، ثم عطف على ذلك عطف صفات فقال : { والذي أُنزِلَ إِلَيْكَ } أي يا محمد { مِن رَّبِّكَ الحق } ، وقوله : { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يُؤْمِنُونَ } كقوله : { وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] أي مع هذا البيان والجلاء والوضوح لا يؤمن أكثرهم لما فيهم من الشقاق ، والعناد ، والنفاق .(1/1260)
اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2)
يخبر تعالى عن كمال قدرته وعظيم سلطانه ، أنه الذي بإذنه وأمره رفع السماوات بغير عمد ، بل بإذنه وأمره وتسخيره رفعها عن الأرض بعداً لا تنال ولا يدرك مداها ، فالسماء الدنيا محيطة بجميع الأرض وما حولها من الماء والهواء ، من جميع نواحيها وجهاتها وأرجائها ، مرتفعة عليها من كل جانب على السواء ، وبعد ما بينها وبين الأرض من كل ناحية مسيرة خمسمائة عام ، ثم السماء الثانية محيطة بالسماء الدنيا وما حوت ، وهكذا إلى السابعة ، وفي الحديث : ما السماوات السبع وما فيهن وما بينهن في الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، والكرسي في العرش المجيد كتلك الحلقة في تلك الفلاة « . وفي رواية : » العرش لا يقدر قدره إلا الله عزّ وجلّ « وجاء عن بعض السلف : أن بعد ما بين العرش إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة وبعد ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة ، وهو من ياقوتة حمراء ، وقوله : { بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا } السماء على الأرض مثل القبة ، يعني بلا عمد ، وهذا هو اللائق بالسياق ، والظاهر من قوله تعالى : { وَيُمْسِكُ السمآء أَن تَقَعَ عَلَى الأرض إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ الحج : 65 ] فعلى هذا يكون قوله : { تَرَوْنَهَا } تأكيداً لنفي ذلك ، أي هي مرفوعة بغير عمد كما ترونها ، وهذا هو الأكمل في القدرة ، وقوله تعالى : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } تقدم تفسيره في سورة الأعراف ، وأنه يمر كما جاء من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ، ولا تمثيل تعالى الله علواً كبيراً ، وقوله : { وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } قيل : المراد أنهما يجريان إلى انقطاعهما بقيام الساعة ، كقوله تعالى : { والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا } [ يس : 38 ] ، وقيل : المراد إلى مستقرهما وو تحت العرش ، وذكر الشمس والقمر لأنهما أظهر الكواكب السيارة السبعة التي هي أشرف وأعظم من الثوابت ، فإذا كان قد سخر هذه فلأن يدخل في التسخير سائر الكواكب بطريق الأولى والأخرى ، كما نبه بقوله تعالى : { لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } [ فصلت : 37 ] ، مع أنه قد صرح بذلك بقوله : { والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } [ الأعراف : 54 ] ، وقوله : { يُفَصِّلُ الآيات لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ } أي يوضح الآيات والدلالات الدالة على أنه لا إله إلا هو وأنه يعيد الخلق إذا شاء كما بدأه .(1/1261)
وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)
لما ذكر تعالى العالم العلوي ، شرع في ذكر قدرته وحكمته وإحكامه للعالم السفلي ، فقال : { وَهُوَ الذي مَدَّ الأرض } أي جعلها متسعة ممتدة في الطول والعرض ، وأرساها بجبال راسيات شامخات ، وأجرى فيها الأنهار والجداول والعيون ، ليسقى ما جعل فيها من الثمرات المختلفة الألوان والأشكال والطعوم { وَمِن كُلِّ الثمرات جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثنين } اي من كل شكل صنفان { يُغْشِي اليل النهار } أي جعل كلاً منهما يطلب الآخر طلباً حثيثاً ، فإذا ذهب هذا غشيه هذا ، وإذا انقضى هذا جاء الآخر فيتصرف أيضاً في الزمان كما يتصرف في المكان والسكان { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي في آلاء الله وحكمه ودلائله ، قوله : { وَفِي الأرض قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ } أي أراض يجاور بعضها بعضاً ، مع أن هذه طيبة تنبت ما ينفع الناس وهذه سبخة مالحة لا تنبت شيئاً ، ويدخل في هذه الآية اختلاف ألوان بقاع الأرض ، فهذه تربة حمراء ، وهذه بيضاء ، وهذه صفراء ، وهذه سوداء ، وهذه محجرة ، وهذه سهلة ، وهذه سميكة وهذه رقيقة ، والكل متجاورات ، فهذا كله مما يدل على الفاعل المختار لا إله إلا هو ، وقوله : { وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } يحتمل أن تكون عاطفة على جنات ، فيكون { وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ } مرفوعين ، ويحتمل أن يكون معطوفاً على أعناب فيكون مجروراً ، ولهذا قرأ بكل منهما طائفة من الأئمة ، وقوله : { صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ } الصنوان هو الأصول في منبت واحد كالرمان والتين وبعض النخيل ونحو ذلك ، وغير الصنوان ما كان على أصل واحد كسائر الأشجار ، وفي « الصحيح » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعمر : « أما شعرت أن عم الرجل صنو أبيه » ، وقال شعبان الثوري عن البراء رضي الله عنه : الصنوان هي النخلات في أصل واحد ، وغير الصنوان المتفرقات ، وقوله : { يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل } قال الأعمش ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : { وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل } قال : « الدقل والفارسي والحلو والحامض » ، أي هذا الاختلاف في أجناس الثمرات والزروع في أشكالها وألوانها وطعومها وروائحها وأوراقها وأزهارها ، فهذا في غاية الحلاوة ، وهذا في غاية الحموضة ، وذا في غاية المرارة ، وذا عفص ، وهذا عذب ، وهذا أصفر ، وهذا أحمر ، وهذا أبيض ، وكذلك الزهورات مع أنها كانت تستمد من طبيعة واحدة وهو الماء مع هذا الاختلاف الكثير الذي لا ينحصر ولا ينضبط ، ففي ذلك آيات لمن كان واعياً ، وهذا من أعظم الدلالات على الفاعل المختار الذي بقدرته فاوت بين الأشياء وخلقها على ما تريد ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } .(1/1262)
وَإِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَإِذَا كُنَّا تُرَابًا أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (5)
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { وَإِن تَعْجَبْ } من تكذيب هؤلاء المشركين بالمعاد ، مع ما يشاهدونه من آيات الله سبحانه ودلائله في خلقه ، ومع ما يعترفون به من أنه ابتدأ خلق الأشياء بعد أن لم تكن شيئاً مذكوراً ، ثم هم هذا يكذبون في أنه سيعيد العالم خلقاً جديداً ، فالعجب من قولهم : { أَإِذَا كُنَّا تُرَاباً أَإِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ } وقد علم كل عالم وعاقل أن خلق السماوات والأرض أكبر من خلق الناس ، وأن من بدأ الخلق فالإعادة عليه أسهل ، كما قال تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف : 33 ] ، ثم نعت المكذبين ، بهذا ، فقال : { أولئك الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأغلال في أَعْنَاقِهِمْ } أي يسحبون بها في النار ، { وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدونَ } أي ماكثون فيها أبداً لا يحولون عنها ولا يزولون .(1/1263)
وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلَاتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6)
يقول تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ } أي هؤلاء المكذبون ، { بالسيئة قَبْلَ الحسنة } أي بالعقوبة ، كما أخبر عنهم في قوله : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب } [ الحج : 47 ] الآية ، وقال تعالى : { سَأَلَ سَآئِلٌ بِعَذَابٍ وَاقِعٍ } [ المعارج : 1 ] ، وقال : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } [ الشورى : 18 ] ، وقال : { وَقَالُواْ رَبَّنَا عَجِّل لَّنَا قِطَّنَا } [ ص : 16 ] الآية ، أي عقابنا وحسابنا ، فكانوا من شدة تكذيبهم وعنادهم وكفرهم ، يطلبون أن يأتيهم بعذاب الله ، قال الله تعالى : { وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ المثلات } أي قد أوقعنا نقمنا بالأمم الخالية ، وجعلناهم عبرة وعظة لمن اتعظ بهم؛ ثم أخبر تعالى أنه لولا حلمه وعفوه لعاجلهم بالعقوبة كما قال : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس بِمَا كَسَبُواْ مَا تَرَكَ على ظَهْرِهَا مِن دَآبَّةٍ } [ فاطر : 45 ] ، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } أي إنه تعالى ذو عفو وصفح وستر للناس ، مع أنهم يظلمون ويخطئون بالليل والنهار ، ثم قرن هذا الحكم بأنه شديد العقاب ليعتدل الرجاء والخوف ، كما قال تعالى : { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين } [ الأنعام : 146 ] ، وقال : { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 167 ] إلى أمثال ذلك من الآيات التي تجمع الرجاء والخوف ، عن سعيد بن المسيب قال : لما نزلت هذه الآية : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لولا عفو الله وتجاوزه ما هنأ أحداً العيش ، ولولا وعيده وعقابه لا تكل كل أحد » .(1/1264)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّمَا أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7)
يقول تعالى إخباراً عن المشركين إنهم يقولون كفراً وعناداً : لولا يأتينا بآية من ربه كما أرسل الأولون ، كما تعنتوا عليه أن يجعل لهم الصفا ذهباً ، وأن يزيح عنهم الجبال ويجعل مكانها مروجاً وأنهاراً ، قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } [ الإسراء : 59 ] الآية ، قال الله تعالى : { إِنَّمَآ أَنتَ مُنذِرٌ } أي إنما عليك أن تبلغ رسالة الله التي أمرك بها ، { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 272 ] ، وقوله : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } قال ابن عباس : أي ولكل قوم داع ، وقال العوفي عن ابن عباس في الآية : أنت يا محمد منذر وأنا هادي كل قوم . عن مجاهد { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } أي نبي كقوله : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] ، وقال يحيى بن رافع : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } أي قائد ، وعن عكرمة : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } : هو محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال مالك { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } : يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ .(1/1265)
اللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثَى وَمَا تَغِيضُ الْأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9)
يخبر تعالى عن تمام علمه الذي لا يخفى عليه شيء ، وأنه محيط بما تحمله الحوامل من كل الإناث ، كما قال تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام } [ لقمان : 34 ] أي ما حملت من ذكر وأنثى ، أو حسن أو قبيح ، أو شقي أو سعيد ، أو طويل العمر أو قصيره ، كقوله تعالى : { هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنشَأَكُمْ مِّنَ الأرض وَإِذْ أَنتُمْ أَجِنَّةٌ } [ النجم : 32 ] الآية ، وقال تعالى : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } [ الزمر : 6 ] أي خلقكم طوراً من بعد طور ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ * ثُمَّ جَعَلْنَاهُ نُطْفَةً فِي قَرَارٍ مَّكِينٍ } [ المؤمنون : 12-13 ] . وفي « الصحيحين » عن ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث الله إليه ملكاً فيؤمر بأربع كلمات ، بكتب رزقه وعمره وعمله وشقي أو سعيد » ، وفي الحديث الآخر : « فيقول الملك أي رب! أذكر أم أنثى! أشقي أم سعيد؟ فما الرزق؟ فما الأجل؟ فيقول الله ويكتب الملك » .
وقوله تعالى : { وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ } ، قال البخاري ، عن ابن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مفاتيح الغيب خمس لا يعلمهن إلا الله ، لا يعلم ما في غد إلا الله ، ولا يعلم ما تغيض الأرحام إلا الله ، ولا يعلم متى يأتي المطر أحد إلا الله ، ولا تدري نفس بأي أرض تموت ، ولا يعلم متى تقوم الساعة إلا الله » ، وقال ابن عباس : { وَمَا تَغِيضُ الأرحام } يعني السقط { وَمَا تَزْدَادُ } ، يقول : ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تماماً ، وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ، ومن تحمل تسعة أشهر ، ومنهن من تزيد من الحمل ، ومنهم من تنقص ، فلذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله تعالى وكل ذلك بعلمه تعالى ، وعنه : ما نقصت من تسعة وما زاد عليها ، وقال الضحاك : وضعتني أمي وقد حملتني في بطنها سنتين ، وولدتني وقد نبتت ثنيتي ، وقال ابن جريج ، عن عائشة قالت : لا يكون الحمل أكثر من سنتين قدر ما يتحرك ظل مغزل ، وقال مجاهد : { وَمَا تَغِيضُ الأرحام وَمَا تَزْدَادُ } قال : ما ترى من الدم في حملها وما تزاد على تسعة أشهر ، وقال مجاهد أيضاً { وَمَا تَغِيضُ الأرحام } : إراقة الدم حتى يخس الولد ، { وَمَا تَزْدَادُ } إن لم تهرق الدم تم الولد وعظم ، وقال مكحول : الجنين في بطن أمه لا يحزن ولا يغتم ، وإنما يأتيه رزقه في بطن أمه من دم حيضتها فمن ثم لا تحيض الحامل ، فإذا وقع إلى الأرض استهل ، واستهلاله استنكاره لمكانه ، فإذا قطعت سرته حوّل الله رزقه إلى ثديي أمه ، حتى لا يحزن ولا يطلب ولا يغتم ، ثم يصير طفلاً يتناول الشيء بكفه فيأكله ، فإذا هو بلغ قال : هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق؟ فيقول مكحول : يا ويحك ، غذاك وأنت في بطن أمك ، وأنت طفل صغير ، حتى إذا اشتددت وعقلت قلت : هو الموت أو القتل أنى لي بالرزق؟ ثم قرأ مكحول : { الله يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أنثى } الآية ، وقال قتادة : { وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ } أي بأجل ، حفظ أرزاق خلقه وآجالهم وجعل لذلك أجلاً معلوماً ، وفي الحديث الصحيح :(1/1266)
« إن إحدى بنات النبي صلى الله عليه وسلم بعثت إليه أن ابناً لها في الموت ، وأنها لا تحب أن يحضره ، فبعث إليها يقول : » إن لله ما أخذ وله ما أعطى ، وكل شيء عنده بأجل مسمى ، فمروها فلتصبر ولتحتسب « الحديث بتمامه ، وقوله : { عَالِمُ الغيب والشهادة } أي يعلم كل شيء مما يشاهده العباد ومما يغيب عنهم ولا يخفى عليه منه شيء { الكبير } الذي هو أكبر من كل شيء { المتعال } أي على كل شيء ، { قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْماً } [ الطلاق : 12 ] وقهر كل شيء فخضعت له الرقاب ودان له العباد طوعاً وكرهاً .(1/1267)
سَوَاءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوءًا فَلَا مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَالٍ (11)
يخبر تعالى عن إحاطة علمه بجميع خلقه ، وأنه سواء منهم من أسر قوله أو جهر به ، فإنه يسمعه لا يخفى عليه شيء كقوله : { وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] ، وقال : { وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [ النمل : 25 ] ، وقوله : { وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل } أي مختلف في قعر بيته في ظلام الليل ، { وَسَارِبٌ بالنهار } أي ظاهر ماش في بياض النهار وضيائه ، فإن كلاهما في علم الله على السواء ، كقوله تعالى : { أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ } [ هود : 5 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُواْ مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } [ يونس : 61 ] ، وقوله : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } أي للعبد ملائكة يتعاقبون عليه ، حرس بالليل ، وحرس بالنهار ، يحفظونه من الأسواء والحادثات ، كما يتعاقب ملائكة آخرون لحفظ الأعمال من خير أو شر ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، فاثنان عن اليمين والشمال ، يكتبان الأعمال صاحب اليمين يكتب الحسنات ، وصاحب الشمال يكتب السيئات ، وملكان آخران يحفظانه ويحرسانه ، واحد من ورائه وآخر من قدامه ، فهو بين أربعة املاك بالنهار ، وأربعة آخرين بالليل بدلاً ، حافظان وكاتبان ، كما جاء في « الصحيح » : « يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل وملائكة بالنهار » الحديث ، وفي الحديث الآخر : « إن معكم من لا يفارقكم إلا عند الخلاء وعند الجماع فاستحيوهم وأكرموهم » ، وقال ابن عباس : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } قال : ملائكة يحفظونه من بين يديه ومن خلفه ، فإذا جاء قدر الله خلوا عنه ، وقال مجاهد : ما من عبد إلا له ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام ، فما منها شيء يأتيه يريده إلا قال له الملك : وراءك إلا شيء أذن الله فيه فيصيبه .
وقال الإمام أحمد رحمه الله ، عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الجن ، وقرينه من الملائكة » قالوا : وإياك يا رسول الله ، قال : « وإياي ، ولكن الله أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير » وقوله : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } قيل : المراد حفظهم له من أمر الله ، قاله ابن عباس ، وإليه ذهب مجاهد وسعيد بن جبير ، وقال قتادة : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } يحفظونه بأمر الله ، وقال كعب الأحبار : لو تجلى لابن آدم كل سهل وكل حزن لرأى كل شيء من ذلك شيئاً يقيه ، ولولا أن الله وكل بكم ملائكة يذبون عنكم في مطعمكم ومشربكم وعوراتكم إذاً لتُخُطفتم ، قال أبو أمامة : ما من آدمي إلا ومعه ملك يذود عنه حتى يسلمه للذي قدر له . وقال أبو مجلز : جاء رجل إلى علي رضي الله عنه وهو يصلي ، فقال : احترس ، فإن ناساً يريدون قتلك ، فقال : إن مع كل رجل ملكين يحفظانه مما لم يقدر ، فإذا جاء القدر خليا بينه وبينه ، إن الأجل جنة حصينة .(1/1268)
وقال بعضهم : { يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } بأمر الله ، كما جاء في الحديث أنهم قالوا : « يا رسول الله أرأيت رقيا تسترقي بها ، هل ترد من قدر الله شيئاً؟ فقال : » هي من قدر الله « ، وقال ابن أبي حاتم : » أوحى الله إلى نبي من أنبياء بني إسرائيل أن قل لقومك : إنهليس من أهل قرية ولا أهل بيت يكونون على طاعة الله فيتحولون منها إلى معصية الله إلا حوّل الله عنهم ما يحبون إلى ما يكرهون « ، ثم قال : إن تصديق ذلك في كتاب الله : { إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حتى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ } .(1/1269)
هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلَائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَنْ يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللَّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13)
يخبر تعالى أنه هو الذي يسخر البرق ، وهو ما يرى من النور اللامع ساطعاً من خلل السحاب ، { خَوْفاً وَطَمَعاً } ، قال قتادة : خوفاً للمسافر يخالف أذاه ومشقته ، وطمعاً للمقيم يرجو بركته ومنفعته ويطمع في رزق الله . { وَيُنْشِىءُ السحاب الثقال } أي ويخلقها منشأة جديدة ، وهي لكثرة مائها ثقيلة قريبة إلى الأرض ، قال مجاهد : السحاب الثقال : الذي فيه الماء ، { وَيُسَبِّحُ الرعد بِحَمْدِهِ } ، كقوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } [ الإسراء : 44 ] ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا سمع الرعد والصواعق قال : « اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك » وعن أبي هريرة رفعه ، أنه كان إذا سمع الرعد قال : « سبحان من يسبح الرعد بحمده » ، وعن عبد الله بن الزبير أنه كان إذا سمع الرعد ترك الحديث ، وقال : سبحان الذي يسبّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ، ويقول : إن هذا لوعيد شديد لأهل الأرض ، وروى الطبراني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله ، فإنه لا يصيب ذاكراً » ، وقوله تعالى : { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ } أي يرسلها نقمة ينتقم بها ممن يشاء ، ولهذا تكثر في آخر الزمان؛ كما قال الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة ، حتى يأتي الرجل القوم فيقول : من صعق قبلكم الغداة؟ فيقولون : صعق فلان وفلان وفلان » .
وقد روي في سبب نزولها « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رجلاً مرة إلى رجل من فراعنة العرب ، فقال : » اذهب فادعه لي « ، قال : فذهب إليه فقال : يدعوك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له : من رسول الله؟ وما الله؟ أمن ذهب هو ، أم من فضة هو ، أم من نحاس هو؟ قال : فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأخبره ، فقال : يا رسول الله قد خبرتك أنه أعتى من ذلك ، قال لي : كذا وكذا . فقال لي : » ارجع إليه ثانية « ، فذهب فقال له مثلها ، فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله قد أخبرتك أنه أعتى من ذلك؛ فقال : » ارجع إليه فادعه « ، فرجع إليه الثالثة قال : فأعاد عليه ذلك الكلام ، فبينما هو يكلمه إذ بعث الله عزّ وجلّ سحابة حيال رأسه فرعدت ، فوقعت منها صاعقة فذهبت بقحف رأسه ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَيُرْسِلُ الصواعق } » الآية . وعن مجاهد قال : جاء يهودي فقال : يا محمد أخبرني عن ربك من أي شيء هو؟ من نحاس هو؟ أم من لؤلؤ ، أو ياقوت؟ قال : فجاءت صاعقة فأخذته ، وأنزل الله .(1/1270)
{ وَيُرْسِلُ الصواعق } الآية ، وقال قتادة : ذكر لنا أن رجلاً أنكر القرآن ، وكذّب النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل الله صاعقة فأهلكته ، وأنزل الله : { وَيُرْسِلُ الصواعق } الآية ، وذكروا في سبب نزولها قصة ( عامر بن الطفيل ) و ( أربد بن ربيعة ) لما قدما على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة ، فسألاه أن يجعل لهما نصف الأمر ، فأبى عليهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له عامر بن الطفيل لعنه اله : أما والله لأملأنها عليك خيلاً جرداً ، ورجلاً مرداً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يأبى الله عليك ذلك وأبناء قيلة » يعني الأنصار ، ثم أنهما همّا بالفلك برسول الله صلى الله عليه وسلم فجعل أحدهما يخاطبه ، والآخر يستل سيفه ليقتله من ورائه ، فحماه الله تعالى منهما وعصمه ، فخرجا من المدينة ، فانطلقا في أحياء العرب يجمعان الناس لحربه عليه الصلاة والسلام ، فأرسل الله على ( أربد ) سحابة فيها صاعقة فأحرقته ، وأما ( عامر بن الطفيل ) فأرسل الله عليه الطاعون ، فخرجت فيه غدة عظيمة ، فجعل يقول : يا أهل عارم غدةٌ كغدة البكر ، وموتٌ في بيت سلولية ، حتى ماتا لعنهما الله ، وأنزل الله في مثل ذلك : { وَيُرْسِلُ الصواعق فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَآءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله } . وقوله : { وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي الله } أي يشكون في عظمته وأنه لا إله إلا هو { وَهُوَ شَدِيدُ المحال } . قال ابن جرير : شديدة مماحلته في عقوبة من طغى عليه ، وعتا وتمادى في كفره ، وهذه الآية شبيهة بقوله : { وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ * فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْنَاهُمْ وَقَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ } [ النمل : 50-51 ] ، وعن علي رضي الله عنه : { وَهُوَ شَدِيدُ المحال } أي شديد الأخذ؛ وقال مجاهد : شديد القوة .(1/1271)
لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لَا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْءٍ إِلَّا كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاءِ لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاءُ الْكَافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلَالٍ (14)
{ لَهُ دَعْوَةُ الحق } التوحيد لا إله إلا الله { والذين يَدْعُونَ مِن دُونِهِ } أي ومثل الذين يعبدون آلهة غير الله { كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى المآء لِيَبْلُغَ فَاهُ } ، قال علي بن أبي طالب : كمثل الذي يتناول الماء من طرف البئر بيده ، وهو لا يناله أبداً بيده ، فكيف يبلغ فاه؟ وقال مجاهد : { كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ } يدعو الماء بلسانه ويشير إليه فلا يأتيه أبداً ، وقيل : المراد كقابض يده على الماء ، فإنه لا يحكم منه على شيء ، كما قال الشاعر :
فأصبحت مما كان بيني وبينها ... من الود مثل القابض الماء باليد
ومعنى هذا الكلام أن الذي يبسط يده إلى الماء إما قابضاً ، وإما متناولاً له من بعد ، كما أنه لا ينتفع بالماء الذي لم يصل إلى فيه الذي جعله محلاً للشرب ، فكذلك هؤلاء المشركون الذين يعبدون مع الله إلهاً غيره لا ينتفعون بهم أبداً في الدنيا ولا في الآخرة ، ولهذا قال : { وَمَا دُعَآءُ الكافرين إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ } .(1/1272)
وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَظِلَالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ (15)
يخبر تعالى عن عظمته وسلطانه الذي قهر كل شيء ودان له كل شيء . ولهذا يسجد له كل شيء طوعاً من المؤمنين وكرهاً من الكافرين ، { وَظِلالُهُم بالغدو } أي البكور ، { والآصال } وهو آخر النهار ، كقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا خَلَقَ الله مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّؤُاْ ظِلاَلُهُ } [ النمل : 48 ] الآية .(1/1273)
قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16)
يقرر تعالى أنه لا إله إلا هو لأنهم معترفون بأنه هو الذي خلق السماوات والأرض وهو ربها ومدبرها ، وهم مع هذا قد اتخذوا من دونه أولياء يعبدونهم ، وأولئك الآلهة لا تملك لا لنفسها إلا لعابديها بطريق الأولى نفعاً ولا ضراً ، أي لا تحصل لهم منفعة ولا تدفع عنهم مضرة ، فهل يستوي من عبد هذه الآلهة مع الله ومن عبد الله وحده لا شريك له فهو على نور من ربه؟ ولهذا قال : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظلمات والنور أَمْ جَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الخلق عَلَيْهِمْ } أي أجعل هؤلاء المشركون مع الله آلهة تناظر الرب وتماثله في الخلق ، فخلقوا كخلقه فتشابه الخلق عليهم ، فلا يدرون أنها مخلوقة من مخلوق غيره ، أي ليس الأمر كذلك ، فإنه لا يشابهه شيء ولا يماثله ، ولا ندّ له ولا عدل؛ ولا وزير له ولا ولد ولا صاحبة ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، فأنكر تعالى عليهم ذلك ، حيث اعتقدوا ذلك وهو تعالى لا يشفع أحد عنده إلا بإذنه ، { وَلاَ تَنفَعُ الشفاعة عِندَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ } [ سبأ : 23 ] ، { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات } [ النجم : 26 ] الآية ، وقال : { إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً } [ مريم : 93 ] ، فإذا كان الجميع عبيداً فلم يعبد بعضهم بعضاً بلا دليل ولا برهان؟ بل بمجرد الرأي والاختراع والابتداع فحقت عليهم كلمة العذاب لا محالة ، { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] .(1/1274)
أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَدًا رَابِيًا وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ (17)
اشتملت هذه الآية الكريمة على مثلين مضروبين للحق في ثباته وبقائه ، والباطل في اضمحلاله وفنائه ، فقال تعالى : { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } أي مطراً ، { فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا } أي أخذ كل وادٍ بحسبه ، فهذا كبير وسع كثيراً من الماء ، وهذا صغير وسع بقدره ، وهو إِشارة إلى القلوب وتفاوتها ، فمنها ما يسع علماً كثيراً ، ومنها من لا يتسع لكثير من العلوم بل يضيق عنها ، { فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً } ، أي فجاء على وجه الماء الذي سال في هذه الأودية زدب عالٍ عليه؛ هذا مثل ، وقوله : { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار ابتغآء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ } الآية؛ هذا هو المثل الثاني وهو ما يسبك في النار من ذهب أو فضة { ابتغآء حِلْيَةٍ } أي ليجعل حلية أو نحاساً أو حديداً فيجعل متاعاً ، فإنه يعلوه زبد منه ، كما يعلو ذلك زبد منه ، { كذلك يَضْرِبُ الله الحق والباطل } ، أي إذا اجتمعا لا ثبات للباطل ويضمحل ، ولهذا قال : { فَأَمَّا الزبد فَيَذْهَبُ جُفَآءً } أي لا ينتفع به بل يتفرق ويتمزق ويذهب في جانبي الوادي ، ويعلق بالشجر وتنسفه الرياح ، وكذلك خبث الذهب والفضة والحديد والنحاس يذهب ولا يرجع منه شيء ولا يبقى إلا الماء ، وذلك الذهب ونحوه ينتفع به ، ولهذا قال : { وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض كذلك يَضْرِبُ الله الأمثال } ، كقوله تعالى : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] . وقال بعض السلف : كنت إذا قراتُ مثلاً من القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن الله تعالى يقول : { وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] ، قال ابن عباس : هذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكلها ، فأما الشك فلا ينفع معه العمل ، وأما اليقين فينفع الله به أهله ، وهو قوله : { فَأَمَّا الزبد } وهو الشك { فَيَذْهَبُ جُفَآءً وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ فِي الأرض } وهو اليقين ، وكما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ويترك خبثه في النار ، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشك . وقال العوفي عن ابن عباس قوله : { أَنَزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فاحتمل السيل زَبَداً رَّابِياً } يقول : احتمل السيل ما في الوادي من عود ودمنة ، { وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النار } فهو الذهب والفضة والحلية والمتاع والنحاس والحديد ، فللنحاس والحديد خبث ، فجعل الله مثل خبثه كزبد الماء ، فأما ما ينفع الناس فالذهب والفضة ، وأما ما ينفع الأرض فما شربت من الماء فأنبتت فجعل ذاك مثل العمل الصالح يبقى لأهله ، والعمل السيء يضمحل عن أهله ، كما يذهب هذا الزبد ، وكذلك الهدي والحق ، جاءا من عند الله فمن عمل بالحق كان له وبقي كما بقي ما ينفع الناس في الأرض ، وكذلك الحديد لا يستطاع أن يعمل منه سكين ولا سيف حتى يدخل في النار فتأكل خبثه ويخرج جيده فينتفع به ، فكذلك يضمحل الباطل ، فإذا كان يوم القيامة وأقيم الناس وعرضت الأعمال فيزيغ الباطل ويهلك ، وينتفع أهل الحق بالحق .(1/1275)
وفي « الصحيحين » عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن مثل ما بعثني الله به الهدى والعلم كمثل غيث أصاب أرضاً فكان منها طائفة قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا ورعوا وسقوا وزرعوا » ، وأصابت طائفة منها أخرى ، إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ونفعه الله بما بعثني ونفع به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به .(1/1276)
لِلَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18)
يخبر تعالى عن مآل السعداء والأشقياء : { لِلَّذِينَ استجابوا لِرَبِّهِمُ } أي أطاعوا الله ورسوله وانقادوا لأوامره وصدّقوا أخباره الماضية والآتية ، فلهم { الحسنى } وهو الجزاء الحسن كقوله تعالى : { وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَآءً الحسنى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً } [ الكهف : 88 ] ، وقال تعالى : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الحسنى وَزِيَادَةٌ } [ يونس : 26 ] ، وقوله : { والذين لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ } أي لم يطيعوا الله ، { لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } أي في الدارا الآخرة ، لو أنه يمكنهم أن يفتدوا من عذاب الله بملء الأرض ذهباً ومثله معه لافتدوا به ، ولكن لا يتقبل منهم ، لأنه تعالى لا يقبل منهم يوم القيامة صرفاً ولا عدلاً { أولئك لَهُمْ سواء الحساب } أي في الدار الآخرة ، أي يناقشون على النقير والقطمير ، والجليل والحقير ، ومن نوقش الحساب عذب ، ولهذا قال : { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } .(1/1277)
أَفَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ (19)
يقول تعالى : لا يستوي من يعلم من الناس أن الذي { أُنزِلَ إِلَيْكَ } يا محمد { مِن رَبِّكَ } هو الحق الذيلا شك فيه ولا مرية ، بل هو كله حق يصدق بعضه بعضاً ، فأخباره كلها حق ، وأوامره ونواهيه عدل ، فلا يستوي من تحقق صدق ما جئت به يا محمد ، ومن هو أعمى لا يهتدي إلى خير ولا يفهمه ، ولو فهمه ما انقاد له ولا صدّقه ولا اتبعه ، كقوله تعالى : { لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة } [ الحشر : 20 ] ، وقال هنا : { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى } أي أفهذا كهذا؟ لا استواء . وقوله : { إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } أي إنما يتعظ ويعتبر أولو العقول السليمة الصحيحة؛ جعلنا الله منهم .(1/1278)
الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الْحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ (23) سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)
يقول تعالى مخبراً عمن اتصف بهذه الصفات الحميدة بأن لهم عقبى الدار ، وهي العاقبة والنصرة في الدنيا والآخرة { الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق } وليسوا كالمنافقين الذين إذا عاهد أحدهم غدر ، وإذا خاصم فجر ، وإذا ائتمن خان { والذين يَصِلُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } من صلة الأرحام والإحسان إليهم وإلى الفقراء والمحاويج وبذل المعروف ، { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ } أي فيما يأتون وما يذرون من الأعمال ، يراقبون الله في ذلك ويخافون سوء الحساب في الدار الآخرة ، فلهذا أمرهم على السداد والاستقامة في جميع حركاتهم وسكناتهم ، { وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابتغاء وَجْهِ رَبِّهِمْ } أي عن المحارم والمآثم ففطموا أنفسهم عنها لله عزّ وجلّ ابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ، { وَأَقَامُواْ الصلاة } بحدودها ومواقيتها وركوعها وسجودها وخشوعها على الوجه الشرعي المرضي ، { وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ } أي على الذين يجب عليهم الإنفاق لهم ، من زوجات وقرابات وأجانب ، من فقراء ومحاويج ومساكين ، { سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } أي في السر والجهر ، لم يمنعهم من ذلك حال من الأحوال آناء الليل وأطراف النهار ، { وَيَدْرَءُونَ بالحسنة السيئة } أي يدفعون القبيح بالحسن ، فإذا آذاهم أحد قابلوه بالجميل صبراً واحتمالاً وصفحاً وعفواً ، كقوله تعالى : { ادفع بالتي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ } [ فصلت : 34 ] ، ولهذا قال مخبراً عن هؤلاء السعداء المتصفين بهؤلاء الصفات الحسنة بأن لهم عقبى الدار ، ثم فسر ذلك بقوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ } والعدن : الإقامة ، أي جنات إقامة يخلدون فيها ، وقال الضحاك في قوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ } مدينة الجنة فيها الرسل والأنبياء والشهداء ، وأئمة الهدى والناس حولهم بعد والجنات حولها ، وقوله : { وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ } أي يجمع بينهم وبين أحبابهم فيها من الآباء والأهلين والأبناء ممن هو صالح لدخول الجنة من المؤمنين لتقر أعينهم بهم ، حتى إنه ترفع درجة الأدنى إلى درجة الأعلى امتناناً من الله ، وإحساناًمن غير تنقيص للأعلى عن درجته ، كما قال تعالى : { والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم } [ الطور : 21 ] الآية ، وقوله : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عقبى الدار } أي وتدخل عليهم الملائكة من ههنا ومن ههنا للتهنئة بدخول الجنة ، فعند دخولهم إياها تفد عليهم الملائكة مسلّمين مهنئين لهم بما حصل لهم من الله من التقريب والإنعام ، والإقامة في دار السلام ، في جوار الصديقين والأنبياء والرسل والكرام .(1/1279)
وَالَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25)
هذا حال الأشقياء وصفاتهم وذكر مآلهم في الآخرة ، ومصيرهم إلى خلاف ما صار إليه المؤمنون ، كما أنهم اتصفوا بخلاف صفاتهم في الدنيا فأولئك كانوا يوفون بعهد الله ويصلون ما أمر الله به أن يوصل ، وهؤلاء { يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض } كما ثبت في الحديث : « آية المنافق ثلاث إذا حدث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان » ، ولهذا قال : { أولئك لَهُمُ اللعنة } وهي الإبعاد عن الرحمة { وَلَهُمْ سواء الدار } ، وهي سوء العاقبة والمآل { وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } [ الرعد : 18 ] . وقال أبو العالية : هي ست خصال في المنافقين ، وإذا كان فيهم الظهرة على الناس أظهروا هذه الخصال : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا ائتمنوا خانوا ، ونقضوا عهد الله بعد ميثاقه ، وقطعوا ما أمر الله به أن يوصل ، وأفسدوا في الأرض ، وإذا كانت الظهرة عليهم أظهروا الثلاث والخصال : إذا حدثوا كذبوا ، وإذا وعدوا أخلفوا ، وإذا ائتمنوا خانوا .(1/1280)
اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ (26)
يذكر تعالى أنه هو الذي يوسع الرزق على من يشاء ويقتر على من يشاء ، لماله في ذلك من الحكمة والعدل ، وفرح هؤلاء الكفار بما أوتوا من الحياة الدنيا استدراجاً لهم وإمهالاً كما قال : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55-56 ] ، ثم حقر الحياة الدنيا بالنسبة إلى ما ادخر تعالى لعباده المؤمنين في الدار الآخرة فقال : { وَمَا الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ مَتَاعٌ } ، كما قال : { قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } [ النساء : 77 ] ، وقال : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا * والآخرة خَيْرٌ وأبقى } [ الأعلى : 16-17 ] ، وقال الإمام أحمد ، عن المستورد أخي بني فهر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما الدنيا في الآخرة إلا كما يجعل أحدكم أصبعه هذه في اليم فلينظر بم ترجع » ، وأشار بالسبابة ، وفي الحديث الآخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مر بجدي أسك ميت ، والأسك الصغير الأذنين ، فقال : « والله للدنيا أهون على الله من هذا على أهله حين ألقوه » .(1/1281)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29)
يخبر تعالى عن المشركين قولهم { لَوْلاَ } أي هلا ، { أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ } ، كقولهم : { فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَآ أُرْسِلَ الأولون } [ الأنبياء : 5 ] وقد تقدم الكلام على هذا غير مرة ، وأن الله قادر على إجابة ما سألوا؛ { قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } أي هو المضل والهادي ، سواء بعث الرسول بآية على وفق ما اقترحوا ، أو لم يجبهم إلى سؤالهم ، فإن الهداية والإضلال ليس منوطاً بذلك ، كما قال : { وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ] ، قال : { وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَآ إِلَيْهِمُ الملائكة وَكَلَّمَهُمُ الموتى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } [ الأنعام : 111 ] ، ولهذا قال : { قُلْ إِنَّ الله يُضِلُّ مَن يَشَآءُ ويهدي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ } أي ويهدي إليه من أناب إلى الله ، ورجع إليه واستعان به وتضرع لديه ، { الذين آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ الله } أي تطيب وتركن إلى جانب الله وتسكن عند ذكره وترضى به مولى ونصيراً ولهذا قال : { أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } أي هو حقيقي بذلك ، وقوله : { الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات طوبى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ } ، قال ابن عباس : فرجٌ وقرة عين ، وقال عكرمة : نعم ما لهم ، وقال الضحاك : غبطة لهم . وقال إبراهيم النخعي : خير لهم ، وقال قتادة : يقول الرجل : طوبى لك ، أي أصبت خيراً ، وقيل : حسنى لهم ، { وَحُسْنُ مَآبٍ } أي مرجع ، وهذه الأقوال لا منافاة بينها ، وروى السدي عن عكرمة : طوبى لهم هي الجنة ، وبه قال مجاهد .
وروى ابن جرير ، عن شهر بن حوشب قال : طوبى شجرة في الجنة كل شجر الجنة منها أغصانها ، وهكذا روى غير واحد من السلف أن طوبى شجرة في الجنة في كل دار منها غصن منها ، وذكر بعضهم أن الرحمن تبارك وتعالى غرسها بيده من جبة لؤلؤة وأمرها أن تمتد ، فامتدت إلى حيث يشاء الله تبارك وتعالى ، وخرجت من أصلها ينابيع أنهار الجنة من عسل وخمر وماء ولبن ، وروى البخاري ومسلم عن سهل بن سعد رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها » ، قال : فحدثت بها النعمان بن أبي عياش الزرقي فقال : حدثني أبو سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن في الجنة شجرة يسير الراكب الجواد المضمر السريع مائة عام ما يقطعها » وفي « صحيح البخاري » عن أنس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى : { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } [ الواقعة : 30 ] قال : « في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها » .(1/1282)
كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30)
يقول تعالى وكما أرسلناك يا محمد في هذه الأمة { لِّتَتْلُوَاْ عَلَيْهِمُ الذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } أي تبلغهم رسالة الله إليهم كذلك أرسلنا في الأمم الماضية الكافرة بالله ، وقد كذب الرسل من قبلك فلك بهم أسوة ، وكما أوقعنا بأسنا ونقمتنا بأولئك فليحذر هؤلاء من حلول النقم بهم ، قال الله تعالى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } [ الأنعام : 34 ] أي كف تصرناهم وجلعنا العاقبة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة ، وقوله : { وَهُمْ يَكْفُرُونَ بالرحمن } أي هذه الأمة التي بعثناك فيهم يكفرون بالرحمن لا يقرون به ، لأنهم كانوا يأنفون من وصف الله ب { الرحمن الرحيم } [ الفاتحة : 3 ] ولهذا أنفوا يوم الحديبية أن يكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم ، وقالوا : ما ندري ما الرحمن الرحيم . وفي « صحيح مسلم » : « إن أحب الأسماء إلى الله عبد الله وعبد الرحمن » { قُلْ هُوَ رَبِّي لا إله إِلاَّ هُوَ } أي هذا الذي تكفرون به أنا مؤمن به معترف مقر له بالربوبية والإلهية ، هو ربي لا إله إلا هو { عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ } أي في جميع أموري ، { وَإِلَيْهِ مَتَابِ } أي إليه أرجع وأنيب فإنه لا يستحق ذلك أحد سواه .(1/1283)
وَلَوْ أَنَّ قُرْآنًا سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعًا أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعًا وَلَا يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِمَا صَنَعُوا قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيبًا مِنْ دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31)
يقول تعالى مادحاً للقرآن الذي أنزله على محمد صلى الله عليه وسلم ومفضلاً له على سائر الكتب المنزلة قبله : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال } أي لو كان في الكتب الماضية كتاب تسير به الجبال عن أماكنها ، أو تقطع به الأرض وتنشق ، أو تكلم به الموتى في قبورها ، لكان هذا القرآن هو المتصف بذلك دون غيره ، أو بطريق الأولى أن يكون كذلك لما فيه من الإعجاز الذي لا يستطيع الإنسان والجن عن آخرهم إذا اجتمعوا أن يأتوا بمثله ولا بسورة من مثله ، ومع هذا فهؤلاء المشركون كافرون به جاحدون له ، { بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً } أي مرجع الأمور كلها إلى الله عزّ وجل ما شاء كان ، ما لم يشأ لم يكن ، وقد يطلق اسم القرآن على كل من الكتب المتقدمة لأنه مشتق من الجمع ، وفي الحديث الصحيح ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خفف على داود القرآن ، فكان يأمر بدابته أن تسرج ، فكان يقرأ القرآن من قبل أن تسرج دابته ، وكان لا يأكل إلا من عمل يديه » ، والمراد بالقرآن هو الزبور ، وقوله : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } أي من إيمان جميع الخلق ويعلموا أن يتبينوا { أَن لَّوْ يَشَآءُ الله لَهَدَى الناس جَمِيعاً } فإنه ليس ثمّ حجة ولا معجزة ، أبلغ ولا أنجع في العقول والنفوس ، من هذا القرآن الذي لو أنزله الله عزّ وجلّ على جبل لرأيته خاشعاً متصدعاً من خشية الله ، وثبت في « الصحيح » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من نبي إلا وقد أوتي ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليَّ ، فأرجو أن أكون أكثرهم تابعاً يوم القيامة » معناه أن معجزة كل نبي انقرضت بموته وهذا القرآن حجة باقية على الآباد لا تنقضي عجائبه ، ولا يخلق عن كثرة الرد ، ولا يشبع منه العلماء .
وروي أن المشركين قالوا لمحمد محمد صلى الله عليه وسلم : لو سيرت لنا جبال مكة حتى تتسع فنحرث فيها ، أو قطعت لنا الأرض كما كان سليمان يقطع لقومه بالريح ، أو أحييت لنا الموتى كما كان عيسى يحيى الموتى لقومه ، فأنزل الله هذه الآية : { وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الجبال } . وقال قتادة : لو فعل هذا بقرآن غير قرآنكم لفعل بقرآنكم ، وقوله : { بَل للَّهِ الأمر جَمِيعاً } قال ابن عباس : أي لا يصنع من ذلك إلا ما شاء ولم يكن ليفعل . وقال غير واحد من السلف في قوله : { أَفَلَمْ يَيْأَسِ الذين آمنوا } أفلم يعلم الذين آمنوا ، وقوله : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ } أي بسبب تكذيبهم لا تزال القوارع تصيبهم في الدنيا أو تصيب من حولهم ليتعظوا ويعتبروا ، كما قال تعالى :(1/1284)
{ أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ أَفَهُمُ الغالبون } [ الأنبياء : 44 ] ، قال الحسن : { أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ } : أي القارعة ، وهذا هو الظاهر من السياق ، وقال العوفي عن ابن عباس { تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ } قال : عذاب من السماء ينزل عليهم ، { أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ } يعني نزول رسول الله صلى الله عليه وسلم بهم وقتاله إياهم؛ وقال عكرمة في رواية عنه { قَارِعَةٌ } : أي نكبة ، { حتى يَأْتِيَ وَعْدُ الله } يعني فتح مكة ، وقال الحسن البصري : يوم القيامة ، وقوله : { إِنَّ الله لاَ يُخْلِفُ الميعاد } أي لا ينقض وعده لرسله بالنصرة لهم ولأتباعهم في الدنيا والآخرة : { فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ الله عَزِيزٌ ذُو انتقام } [ إبراهيم : 47 ] .(1/1285)
وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32)
يقول تعالى مسلياً لرسوله صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه : { وَلَقَدِ استهزئ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ } أي فلك فيهم أسوة ، { فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ } أي أنظرتهم وأجلتهم ، { ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ } أخذة رابية فكيف بلغك ما صنعت بهم وكيف كان عقابي لهم؟ كما قال تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير } [ الحج : 48 ] . وفي « الصحيحين » : « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] .(1/1286)
أَفَمَنْ هُوَ قَائِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظَاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33)
يقول تعالى : { أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ على كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ } أي حفيظ عليم رقيب على كل نفس منفوسة يعلم ما يعمل العاملون من خير وشر ولا يخفى عليه خافية { وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ } [ يونس : 61 ] ، وقال تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } [ الأنعام : 59 ] ، وقال : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار } [ الرعد : 10 ] ، وقال : { وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } [ الحديد : 4 ] ، أفمن هو كذلك كالأصنام التي يعبدونها لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل ولا تكشف ضراً عنها ولا عن عابديها؟ وحذف هذا الجواب اكتفاء بدلالة السياق عليه ، وهو قوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ } أي عبدوها معه من أصنام وانداد وأوثان ، { قُلْ سَمُّوهُمْ } أي أعلمونا بهم واكشفوا عنهم حتى يعرفوا فإنهم لا حقيقة لهم ، ولهذا قال : { أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأرض } أي لا وجود له ، لأنه لو كان لها وجود في الأرض لعلمها ، لأنه لا تخفى عليه خافية { أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ القول } ، قال مجاهد : بظنِّ من القول ، وقال الضحاك وقتادة : بباطل من القول ، أي إنما عبدتم هذه الأصنام بظن منكم أنها تنفع وتضر وسميتموها آلهة ، { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [ النجم : 23 ] ، { بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ } قال مجاهد : قولهم أي ما هم عليه من الضلال والدعوة إلأيه آناء الليل وأطراف النهار ، كقوله تعالى : { وَقَيَّضْنَا لَهُمْ قُرَنَآءَ فَزَيَّنُواْ لَهُم } [ فصلت : 25 ] أي بما زين لهم من صحة ما هم عليه صدوا به عن سبيل الله ، ولهذا قال : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ } ، كما قال : { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } [ المائدة : 41 ] ، وقال : { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [ النحل : 37 ] .(1/1287)
لَهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَاقٍ (34) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَائِمٌ وَظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35)
ذكر تعالى عقاب الكفار وثواب الأبرار ، فقال بعد إخباره عن حال المشركين وما هم عليه من الكفر والشرك : { لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الحياة الدنيا } أي بأيدي المؤمنين قتلاً وأسراً ، { وَلَعَذَابُ الآخرة } أي المدخر مع هذا الخزي في الدنيا { أَشَقُّ } أي من هذا بكثير كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمتلاعنين : « إن عذاب الدنيا أهون من عذاب الآخرة » ، وهو كما قال صلوات الله وسلامه عليه : فإن عذاب الدنيا له انقضاء ، وذاك دائم أبداً في نار هي بالنسبة إلى هذه سبعون ضعفاً ، ووثاق لا يتصور كثافته وشدته ، كما قال تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } [ الفجر : 2-3 ] ، وقال تعالى : { بَلْ كَذَّبُواْ بالساعة وَأَعْتَدْنَا لِمَن كَذَّبَ بالساعة سَعِيراً * إِذَا رَأَتْهُمْ مِّن مَّكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُواْ لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً } [ الفرقان : 11-12 ] ولهذا قرن هذا بقوله : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون } أي صفتها ونعتها { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أي سارحة في أرجائها وجوانبها ، وحيث شاء أهلها يفجرونها تفجيراً ، أي يصرفونها كيف شاءوا وأين شاءوا ، كقوله : { مَّثَلُ الجنة التي وُعِدَ المتقون فِيهَآ أَنْهَارٌ مِّن مَّآءٍ غَيْرِ آسِنٍ } [ محمد : 15 ] الآية ، وقوله : { أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا } أي فيها الفواكه والمطاعم والمشارب لا انقطاع ولا فناء . وفي « الصحيحين » من حيث ابن عباس في صلاة الكسوف ، وفيه قالوا : « يا رسول الله رأيناك تناولت شيئاً في مقامك هذا ثم رأيناك تكعكعت ، فقال : » إني رأيت الجنة - أو أريت الجنة - فتناولت منها عنقوداً ، ولو أخذته لأكلتم منه ما بقيت الدنيا « وقال الحافظ أبو يعلى ، عن جابر قال : بينما نحن في صلاة الظهر ، إذ تقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتقدمنا ، ثم تناول شيئاً ليأخذه ثم تأخر ، فلما قضى الصلاة قال له أبي بن كعب : يا رسول الله نصعت اليوم في الصلاة شيئاً ما رأيناك كنت تصنعه ، فقال : » إني عرضت عليّ الجنة وما فيها من الزهرة والنضرة فتناولت منها قطفاً من عنب لآتيكم به فحيل بيني وبينه ولو أتيتكم به لأكل منه من بين السماء والأرض لا ينقصونه « .
وروى الإمام أحمد والنسائي عن زيد بن أرقم قال : جاء رجل من أهل الكتاب فقال : » يا أبا القاسم ، تزعم أن أهل الجنة يأكلون ويشربون؟ قال : « نعم ، والذي نفس محمد بيده إن الرجل منهم ليعطي قوة مائة رجل في الأكل والشرب والجماع والشهوة » ، قال : « إن الذي يأكل ويشرب تكون له الحاجة وليس في الجنة الأذى ، قال : » تكون حاجة أحدهم رشحاً يفيض من جلودهم كريح المسك فيضمر بطنه « ، وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/1288)
« إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فيخر بين يديك مشوياً » وجاء في بعض الأحاديث أنه إذا فرغ منه عاد طائراً كما كان بإذن الله تعالى ، وقد قال الله تعالى : { وَفَاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ * لاَّ مَقْطُوعَةٍ وَلاَ مَمْنُوعَةٍ } [ الواقعة : 32-33 ] ، وقال : { وَدَانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلاَلُهَا وَذُلِّلَتْ قُطُوفُهَا تَذْلِيلاً } [ الإنسان : 14 ] ، وكذلك ظلها لا يزول ولا يقلص كما قال تعالى : { لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً } [ النساء : 57 ] . وقد تقدم في « الصحيحين » من غير وجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن في الجنة شجرة يسير الراكب المجد الجواد المضمر السريع في ظلها مائة عام لا يقطعها » ثم قرأ : { وَظِلٍّ مَّمْدُودٍ } [ الواقعة : 30 ] وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين صفة الجنة وصفة النار ليرغب في الجنة ويحذر من النار؛ ولهذا لما ذكر صفة الجنة بما ذكر قال بعده : { تِلْكَ عقبى الذين اتقوا وَّعُقْبَى الكافرين النار } ، كما قال تعالى : { لاَ يستوي أَصْحَابُ النار وَأَصْحَابُ الجنة أَصْحَابُ الجنة هُمُ الفآئزون } [ الحشر : 20 ] .(1/1289)
وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الْأَحْزَابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَلَا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ حُكْمًا عَرَبِيًّا وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَمَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا وَاقٍ (37)
يقول تعالى : { والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب } وهم قائمون بمقتضاه { يَفْرَحُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ } أي من القرآن لما في كتبهم من الشواهد على صدقه والبشارة ، كما قال الله تعالى : { قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا . . . } [ الإسراء : 107 ] إلى قوله { إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء : 108 ] أي إن كان ما وعدنا الله به في كتبنا من إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لحقاً وصدقاً مفعولاً لا محالة ، وكائناً وقوله : { وَمِنَ الأحزاب مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } أي ومن الطوائف من يكذب بعض ما أنزل إليك ، وقال مجاهد { وَمِنَ الأحزاب } : أي اليهود والنصارى { مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ } أي بعض ما جاءك من الحق ، وهذا كما قال تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله } [ آل عمران : 199 ] الآية ، { قُلْ إِنَّمَآ أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ الله ولا أُشْرِكَ بِهِ } أي إنما بعثت بعبادة الله وحده لا شريك له ، كما أرسل الأنبياء من قبلي ، { إِلَيْهِ أَدْعُو } أي إلى سبيله أدعو الناس ، { وَإِلَيْهِ مَآبِ } أي مرجعي ومصيري ، وقوله : { وكذلك أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً } أي وكما أرسلنا قبلك المرسلين وأنزلنا عليهم الكتب من السماء ، كذلك أنزلنا عليك القرآن محكماً معرباً شرفناك به وفضلناك على من سواك بهذا الكتاب المبين الواضح الجلي ، الذي { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] . وقوله : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم } أي آراءهم { بَعْدَ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم } أي من الله سبحانه ، { مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ } ، وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة بعدما صاروا إليه من سلوك السنة النبوية ، والمحجة المحمدية على من جاء بها أفضل الصلاة والسلام .(1/1290)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجًا وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللَّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39)
يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد رسولاً بشرياً ، كذلك قد بعثنا المرسلين قبلك بشراً يأكلون الطعام ، ويمشون في الأسواق ، ويأتون الزوجات ، ويولد لهم ، وجعلنا لهم أزواجاً وذرية ، وقد قال تعالى لأشرف الرسل وخاتمهم : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ } [ الكهف : 110 ] ، وفي « الصحيحين » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أما أنا فأصوم وأفطر وأقوم وأنام ، وآكل اللحم ، وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني » وقوله : { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } أي لم يكن يأتي قومه بخارق ، إلا إذا أذن له فيه ، ليس ذلك إليه بل إلى الله عزّ وجلّ ، يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } أي لكل مدة مضروبة كتاب مكتوب بها وكل شيء عند بمقدار ، { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا فِي السمآء والأرض إِنَّ ذلك فِي كِتَابٍ إِنَّ ذلك عَلَى الله يَسِيرٌ } [ الحج : 70 ] . وكان الضحاك يقول : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } : أي كتاب أجل ، يعني لكل كتاب أنزل من السماء مدة مضروبة عند الله ومقدار معين ، فلهذا { يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ } منها { وَيُثْبِتُ } يعني حتى نسخت كلها بالقرآن الذي أنزله الله على رسوله صلوات الله وسلامه عليه ، وقوله : { يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } اختلف المفسرون في ذلك : فقال الثوري ، عن ابن عباس : يدبر أمر السنة ، فيمحو الله ما يشاء ، إلا الشقاء والسعادة والحياة والموت . وفي رواية { يَمْحُواْ الله وَيُثْبِتُ } قال : كل شيء إلا الموت والحياة والشقاء والسعادة ، فإنه قد فرغ منهما ، وقال منصور : سألت مجاهداً فقلت : أرأيت دعاء أحدنا ، يقول : اللهم إن كان إسمي في السعداء فأثبته فيهم ، وإن كان في الأشقياء فامحه عنهم ، واجعله في السعداء ، فقال : حسن؛ ثم لقيته بعد ذلك بحول أو أكثر فسألته عن ذلك ، فقال : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ } [ الدخان : 3 ] الآيتين ، قال : يقضى في ليلة القدر ما يكون في السنة من رزق أو معصية ، ثم يقدم ما يشاء ويؤخر ما يشاء ، فأما كتاب السعادة والشقاوة فهو ثابت لا يغير ، وقال الأعمش عن أبي وائل : إنه كان كثيراً يدعو بهذا الدعاء : اللهم إن كنت كتبتنا أشقياء فامحه ، واكتبنا سعداء ، وإن كنت كتبتنا سعداء فأثبتنا ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب . وقال ابن جرير : عن أبي عثمان النهدي أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال وهو يطوف بالبيت ويبكي : اللهم إن كنت كتبت عليَّ شقوة أو ذنباً فامحه ، فإنك تمحو ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب ، فاجعله سعادة ومغفرة .
ومعنى هذه الأقوال أن الأقدار ينسخ الله ما يشاء منها ويثبت منها ما يشاء ، وقد يستأنس لهذا القول بما رواه الإمام أحمد ، عن ثوبان قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/1291)
« إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ، ولا يرد القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البر » وثبت في « الصحيح » أن صلة الرحم يزيد في العمر ، وفي حديث آخر : « إن الدعاء والقضاء ليعتلجان بين السماء والأرض » وقال الكلبي : يمحو في الرزق ويزيد فيه ، ويمحو من الأجل ويزيد فيه ، وقال العوفي عن ابن عباس : هو الرجل يعمل الزمان بطاعة الله ، ثم يعود لمعصية الله فيموت على ضلالة ، فهو الذي يمحو ، والذي يثبت الرجل يعمل بمعصية الله وقد كان سبق له خير حتى يموت وهو في طاعة الله وهو الذي يثبت . وقال علي بن أبي طلحة ، عن ابن عباس : { يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } يقول : يبدل ما يشاء فينسخه ، ويثبت ما يشاء فلا يبدله { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } ، وجملة ذلك عنده في أم الكتاب الناسخ وما يبدل وما يثبت كل ذلك في الكتاب ، وقال مجاهد : قالت كفار قريش لما نزلت { وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } : ما نرى محمداً يملك شيئاً وقد فرغ من الأمر ، فأنزلت هذه الآية تخويفاً ووعيداً لهم : إنا إن شئنا أحدثنا له من أمرنا ما شئنا ، وتحدث في كل رمضان ، فيمحو ما يشاء ويثبت ما يشاء من أرزاق الناس ومصائبهم وما يعطيهم وما يقسم لهم . وقال الحسن البصري { يَمْحُواْ الله مَا يَشَآءُ وَيُثْبِتُ } قال : من جاء أجله يذهب ويثبت الذي هو حي يجري إلى أجله ، وقد اختار هذا القول أبو جعفر بن جرير رحمه الله ، وقوله : { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } قال : الحلال والحرام ، وقال قتادة : أي جملة الكتاب وأصله ، وقال ابن جريج عن ابن عباس : { وَعِندَهُ أُمُّ الكتاب } قال : الذكر .(1/1292)
وَإِنْ مَا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللَّهُ يَحْكُمُ لَا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41)
يقول تعالى لرسوله : { وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ } يا محمد بعض الذي نعد أعداءك من الخزي والنكال في الدنيا ، { أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ } أي قبل ذلك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } أي إنما أرسلناك لتبلغهم رسالة الله وقد الدنيا ، { وَعَلَيْنَا الحساب } أي حسابهم وجزاؤهم كقوله تعالى : { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } [ الغاشية : 25-26 ] . وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } قال ابن عباس : أولم يروا أنا نفتح لمحمد صلى الله عليه وسلم الأرض بعد الأرض ، وقال مجاهد وعكرمة : { نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا } قال : خرابها ، وقال الحسن والضحاك : هو ظهور المسلمين على المشركين ، قال : نقصان الأنفس والثمرات وخراب الأرض ، وقال الشعبي : لو كانت الأرض تنقص لضاق عليك حشك ، ولكن تنقص الأنفس والثمرات ، وقال ابن عباس في رواية : خرابها بموت علمائها وفقهائها وأهل الخير منها . وكذا قال مجاهد أيضاً : هو موت العلماء ، وأنشد أحمد بن غزال .
الأرض تحيا إذا ما عاش عالمها ... متى يمت عالم منها يمت طرف
كالأرض تحيا إذا ما الغيت حلَّ بها ... وإن أبي عاد في أكنافها التلف
والقول الأول أولى ، وهو ظهور الإسلام على الشرك قرية بعد قرية ، كقوله : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى } [ الأحقاف : 27 ] الآية ، وهذا اختيار ابن جرير .(1/1293)
وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعًا يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42)
يقول تعالى : { وَقَدْ مَكَرَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } برسلهم وأرادوا إخراجهم من بلادهم فمكر الله بهم وجعل العاقبة للمتقين كقوله : { وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الذين كَفَرُواْ } [ الأنفال : 30 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَمَكَرُواْ مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ النمل : 50 ] وقوله : { يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ } أي أنه تعالى عالم بجميع السرائر والضمائر وسيجزي كل عامل بعمله ، { وَسَيَعْلَمُ الكفار لِمَنْ عُقْبَى الدار } أي لمن تكون الدائرة والعاقبة لهم أو لأتباع الرسل ، كلا ، بل لأتباع الرسل في الدنيا والآخرة ولله الحمد والمنة .(1/1294)
وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43)
يقول تعالى : يكذبك هؤلاء الكفار ويقولون : { لَسْتَ مُرْسَلاً } أي ما أرسلك الله ، { قُلْ كفى بالله شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي حسبي الله هو الشاهد عليّ وعليكم ، شاهد علي فيما بلغت عنه من الرسالة ، وشاهد عليكم أيها المكذبون فيما تفترونه من البهتان ، وقوله : { وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الكتاب } قيل : نزلت في عبد الله بن سلام ، وهذا القول غريب ، لأن هذه الآية مكية ، وعبد الله بن سلام إنما أسلم في أول مقدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة ، والأظهر في هذا ما قاله ابن عباس : هم من اليهود والنصارى ، وهو يشمل علماء أهل الكتاب الذين يجدون صفة محمد صلى الله عليه وسلم ونعته في كتبهم المتقدمة من بشارات الأنبياء به ، كما قال تعالى : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] الآية ، وقال تعالى : { أَوَ لَمْ يَكُن لَّهُمْ آيَةً أَن يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بني إِسْرَائِيلَ } [ الشعراء : 197 ] ، وأمثال ذلك مما فيه الإخبار عن علماء بني إسرائيل أنهم يعلمون ذلك من كتبهم المنزلة .(1/1295)
الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَوَيْلٌ لِلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا أُولَئِكَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (3)
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور . { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ } أي هذا كتاب أنزلناه إليك يا محمد ، وهو ( القرآن العظيم ) الذي هو أشرف كتاب أنزله الله من السماء على أشرف رسول بعثه الله في الأرض ، إلى جميع أهلها عربهم وعجمهم ، { لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } أي إنما بعثناك يا محمد بهذا الكتاب لتخرج الناس مما هم فيه من الضلال والغي ، إلى الهديوالرشد ، كما قال تعالى : { هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور } [ النور : 9 ] الآية ، وقال تعالى : { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ } أي هو الهادي لمن قدر له الهداية على يدي رسوله المبعوث عن أمره ، يهديهم { إلى صِرَاطِ العزيز } أي العزيز الذي لا يمانع ولا يغالب بل هو القاهر لكل ما سواه ، { الحميد } أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعته وأمره ونهيه ، الصادق في خبره ، { الله الذي لَهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } بالجر على الاتباع صفة للجلالة ، كقوله تعالى : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } [ الأعراف : 157 ] الآية ، وقوله : { وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } أي ويل لهم يوم القيامة إذ خالفوك يا محمد وكذبوك ، ثم وصفهم بأنهم يستحبون الحياة الدنيا على الآخرة ، أي يقدمونها ويؤثرونها عليها ويعملون للدنيا ، ونسوا الآخرة وتركوها وراء ظهورهم . { وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله } وهي اتباع الرسل ، { وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي ويحبون أن تكون سبيل الله عوجاً مائلة عائلة ، وهي مستقيمة في نفسها ، لا يضرها من خالفها ولا من خذلها ، فهم في ابتغائهم ذلك في جهل وضلال بعيد من الحق لا يرجى لهم والحالة هذه صلاح .(1/1296)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4)
هذا من لطفه تعالى بخلقه أنه يرسل إليهم رسلاً منهم بلغاتهم ، ليفهموا عنهم ما يريدون وما أرسلوا به إليهم ، كما روى الإمام أحمد عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لم يبعث الله عزّ وجلّ نبياً إلا بلغه قومه » . وقوله : { فَيُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } أي بعد البيان وإقامة الحجة عليه ، يضل الله من يشاء عن وجه الهدى ، ويهدي من يشاء إلى الحق { وَهُوَ العزيز } الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، { الحكيم } في أفعاله فيضل من يستحق الإضلال ، ويهدي من هو أهل لذلك .(1/1297)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5)
يقول تعالى : وكما أرسلناك يا محمد وأنزلنا عليك الكتاب ، لتخرج الناس من الظلمات إلى النور ، كذلك أرسلنا موسى إلى بني إسرائيل بآياتنا . قال مجاهد : هي التسع الآيات ، { أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ } أي أمرناه قائلين له : { أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور } أي ادعهم إلى الخير ليخرجوا من ظلمات ما كانوا فيه من الجهل والضلال ، إلى نور الهدى وبصيرة الإيمان ، { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } أي بأياديه ونعمه عليهم ، في إخراجه إياهم من أسر فرعون وقهره وظلمه وغشمه ، وإنجائه إياهم من عدوهم ، وفلقه لهم البحر ، وتظليله إياهم الغمام ، وإنزاله عليهم المن والسلوى ، إلى غير ذلك من النعم . قال ذلك مجاهد وقتادة وغير واحد . وقوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ } أي إن فيما صنعنا بأوليائنا بني إسرائيل حين أنقذناهم من يد فرعون ، وأنجيناهم مما كانوا فيه من العذاب المهين ، لعبرة لكل { صَبَّارٍ } أي في الضراء ، { شَكُورٍ } أي في السراء ، كما قال قتادة : نعم العبد عبد إذا ابتلى صبر ، وإذا أعطى شكر . وكذا جاء في « الصحيح » عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن أمر المؤمن كله عجب ، لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له » .(1/1298)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8)
يقول تعالى مخبراً عن موسى حين ذكّر قومه بأيام الله عندهم ونعمه عليهم ، إذ أنجاهم من آل فرعون وما كانوا يسومونهم به من العذاب والإذلال ، حيث كانوا يذبحون من وجد من أبنائهم ، ويتركون إناثهم فأنقذهم الله من ذلك ، وهذه نعمة عظيمة ، ولهذا قال : { وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ } أي نعمة عظيمة منه عليكم في ذلك أنتم عاجزون عن القيام بشكرها . وقيل : { بلاء } أي اختبار عظيم ، ويحتمل أن يكون المراد هذا ، وهذا - والله أعلم - كقوله تعالى : { وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } [ الأعراف : 168 ] ، وقوله : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ } أي آذنكم وأعلمكم بوعده لكم؛ ويحتمل أن يكون المعنى : وإذ أقسم ربكم وآلى بعزته وجلاله وكبريائه ، كقوله تعالى : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إلى يَوْمِ القيامة } [ الأعراف : 167 ] . وقوله : { لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ } أي لئن شكرتم نعمتي عليكم لأزيدنكم منها ، { وَلَئِن كَفَرْتُمْ } أي كفرتم النعم وسترتموها وجحدتموها ، { إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } وذلك بسلبها عنهم وعقابه إياهم على كفرها ، وقد جاء الحديث : « إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه » وقوله تعالى : { وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي هو غني عن شكر عباده ، وهو الحميد المحمود وإن كفره من كفره .(1/1299)
أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)
قص الله علينا خبر قوم نوح وعاد وثمود وغيرهم من الأمم المكذبة للرسل مما لا يحصي عددهم إلا الله عزّ وجلّ ، { جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بالبينات } أي بالحجج والدلائل الواضحات الباهرات القاطعات ، وقوله : { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ } اختلف المفسرون في معناه ، قيل : معناه أنهم أشاروا إلى أفواه الرسل يأمرونهم بالسكوت عنهم لمّا دعوهم إلى الله عزّ وجلّ ، وقيل : بل وضعوا أيديهم على أفواههم تكذيباً لهم ، وقال مجاهد وقتادة : معناه أنهم كذبوهم وردوا عليهم قولهم بأفواههم ، ويؤيد قول مجاهد : تفسير ذلك بتمام الكلام { وقالوا إِنَّا كَفَرْنَا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَآ إِلَيْهِ مُرِيبٍ } فكان هذا والله أعلم - تفسير لمعنى : { فردوا أَيْدِيَهُمْ في أَفْوَاهِهِمْ } ، وقال العوفي عن ابن عباس : لما سمعوا كلام الله عجبوا ورجعوا بأيديهم إلى أفواههم ، وقالوا : إنا كفرنا بما أرسلتم به الآية ، يقولون : لا نصدقكم فيما جئتم به فإن عندنا فيه شكاً قوياً .(1/1300)
قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللَّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى قَالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنَا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)
يخبر تعالى عما دار بين الكفار وبين رسلهم من المجادلة ، وذلك أن أممهم لما واجهوهم بالشك فيما جاؤوهم به من عبادة الله وحده لا شريك له ، قالت الرسل : { أَفِي الله شَكٌّ } ، أفي وجوده شك؟ فإن الفطر شاهدة بوجوده ومجبولة على الإقرار به ، فإن الاعتراف به ضروري في الفطر السليمة ، ولكن قد يعرض لبعضها شك واضطرار ، فتحتاج إلى النظر في الدليل الموصل إلى وجوده ، ولهذا قالت الرسل ترشدهم إلى طريق معرفته بأنه : { فَاطِرِ السماوات والأرض } الذي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق ، فإن شواهد الحدوث والخلق والتسخير ظاهر عليهما فلا بد لهما من صانع ، وهو الله لا إله إلا هو خالق كل شيء ، وإلاهه ومليكه ، وقالت لهم رسلهم : { يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِّن ذُنُوبِكُمْ } أي في الدار الآخرة ، { وَيُؤَخِّرَكُمْ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } أي في الدنيا ، فقالت لهم الأمم : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا } أي كيف نتبعكم بمجرد قولكم ولما نر منكم معجزة ، { فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } أي خارق نقترحه عليكم ، { قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ } أي صحيح إنا بشر مثلكم في البشرية ، { ولكن الله يَمُنُّ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي بالرسالة والنبوة ، { وَمَا كَانَ لَنَآ أَن نَّأْتِيَكُمْ بِسُلْطَانٍ } على وفق ما سألتم { إِلاَّ بِإِذْنِ الله } ، أي بعد سؤالنا إياه وإذنه لنا في ذلك ، { وَعلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } أي في جميع أمورهم . ثم قالت الرسل : { وَمَا لَنَآ أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى الله } أي وما يمنعنا من التوكل عليه؟ وقد هدانا لأقوم الطرق وأوضحها وأبينها ، { وَلَنَصْبِرَنَّ على مَآ آذَيْتُمُونَا } أي من الكلام السيء والأفعال السخيفة ، { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المتوكلون } .(1/1301)
مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لَا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلَالُ الْبَعِيدُ (18)
مثل هذا ضربه الله تعالى لأعمال الكفار ، الذين عبدوا معه غيره ، وكذبوا رسله وبنو أعمالهم على غير أساس صحيح ، فانهارت فقال تعالى : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ } أي مثل أعمالهم يوم القيامة إذا طلبوا ثوابها من الله تعالى ، لأنهم كانوا يحسبون أنهم كانوا على شيء ، فلم يجدوا شيئاً إلا كما يتحصل من الرماد إذا اشتدت به الريح العاصفة { يَوْمٍ عَاصِفٍ } أي ذي ريح شديدة عاصفة قوية ، فلم يقدروا على شيء من أعمالهم التي كسبوا في الدنيا ، كقوله تعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] ، وقوله تعالى : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } [ آل عمران : 117 ] ، وقوله تعالى : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ } [ البقرة : 264 ] ، { ذلك هُوَ الضلال البعيد } أي سعيهم وعملهم على غير أساس ولا استقامة ، حتى فقدوا ثوابهم أحوج ما كانوا إليه .(1/1302)
أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20)
يقول تعالى مخبراً عن قدرته على معاد الأبدان يوم القيامة ، بأنه خلق السماوات والأرض التي هي أكبر من خلق الناس ، أفليس الذي قدر على خلق هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وعظمتها ، وما فيها من الكواكب الثوابت والسيارات والآيات الباهرات ، وهذه الأرض بما فيها من مهاد ووهاد ، وأوتاد وبراري وصحارى وقفار وبحار وأشجار ، ونبات وحيوان { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى بلى إِنَّهُ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الأحقاف : 33 ] ، وقوله : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ } أي بعظيم ولا ممتنع ، بل هو سهل عليه إذا خالفتم أمره أن يذهبكم ويأت بآخرين على غير صفتكم .(1/1303)
وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعًا فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ (21)
يقول تعالى : { وَبَرَزُواْ } أي برزت الخلائق كلها ، برها وفاجرها لله الواحد القهار ، أي اجتمعوا له في براز من الأرض ، وهو المكان الذي ليس فيه شيء يستر أحداً ، { فَقَالَ الضعفاء } وهم الأتباع لقادتهم وسادتهم وكبرائهم { لِلَّذِينَ استكبروا } عن عبادة الله وحده لا شريك له ، وعن موافقة الرسل ، قالوا لهم : { إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعًا } أي مهما أمرتمونا ائتمرنا وفعلنا ، { فَهَلْ أَنتُمْ مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ الله مِن شَيْءٍ } أي فهل تدفعون عنا شيئاً من عذاب الله كما كنتم تعدوننا وتمنوننا ، فقالت القادة لهم : { لَوْ هَدَانَا الله لَهَدَيْنَاكُمْ } ولكن حقت كلمة العذاب على الكافرين ، { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ } أي ليس لنا خلاص مما نحن فيه إن صبرنا عليه أو جزعنا منه . قال عبد الرحمن بن أسلم : إن أهل النار قالوا : تعالوا فإنما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرعهم إلى الله عزّ وجلّ ، تعالوا نبك ونتضرع إلى الله ، فبكوا وتضرعوا ، فلما رأوا أنه لا ينفعهم ، قالوا : إنما أدرك أهل الجنة الجنة بالصبر ، تعالوا حتى نصبر فصبروا وصبراً لم ير مثله ، فلم ينفعهم ذلك ، فعند ذلك قالوا : { سَوَآءٌ عَلَيْنَآ أَجَزِعْنَآ أَمْ صَبَرْنَا } الآية . قلت : والظاهر أن هذه المراجعة في النار بعد دخولهم إليها ، كما قال تعالى : { وَإِذْ يَتَحَآجُّونَ فِي النار فَيَقُولُ الضعفاء لِلَّذِينَ استكبروا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النار } [ غافر : 47 ] ، وقال { حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ] ، وقال تعالى : { رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا } [ الأحزاب : 67 ] ، وأما تخاصمهم في المحشر فقال تعالى : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ * قَالَ الذين استكبروا لِلَّذِينَ استضعفوا أَنَحْنُ صَدَدنَاكُمْ عَنِ الهدى بَعْدَ إِذْ جَآءَكُمْ بَلْ كُنتُمْ مُّجْرِمِينَ } [ سبأ : 31-32 ] .(1/1304)
وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ (23)
يخبر تعالى عما خاطب به إبليس أتباعه بعد ما قضى الله بين عباده فأدخل المؤمنين الجنات ، واسكن الكافرين الدركات ، فقام فيهم إبليس لعنه الله يومئذ خطيباً ليزيدهم حزناً إلى حزنهم وغبناً إلى غبنهم وحسرة إلى حسرتهم فقال : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق } أي على ألسنة رسله ووعدكم في اتباعهم النجاة والسلامة ، وكان وعداً حقاً وخبراً صادقاً وأما أنا فوعدتكم فأخلفتكم ، كما قال الله تعالى : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } [ النساء : 120 ] ثم قال : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } أي ما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه دليل ولا حجة فيما وعدتكم به ، { إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي } بمجرد ذلك ، هذا وقد أقامت عليكم الرسل الحجج والأدلة الصحيحة على صدق ما جاؤوكم به ، فخالفتموهم فصرتم إلى ما أنتم فيه { فَلاَ تَلُومُونِي } اليوم ، { ولوموا أَنفُسَكُمْ } فإن الذنب لكم لكونكم خالفتم الحجج ، واتبعتموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل ، { مَّآ أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ } أي بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم مما أنتم فيه ، { وَمَآ أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ } أي بنافعي بإنقاذي مما أنا فيه من العذاب والنكال ، { إِنِّي كَفَرْتُ بِمَآ أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ } قال قتادة ، أي بسبب ما أشركتموني من قبل قال ابن جرير : يقول إني جحدت أن أكون شريكاً لله عزّ وجلّ ، وهذا الذي قاله هو الراجح ، كما قال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 5-6 ] ، وقال : { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] وقوله : { إِنَّ الظالمين } أي في إعراضهم عن الحق واتباعهم الباطل لهم عذاب أليم ، والظاهر من سياق الآية أن هذه الخطبة تكون من إبليس بعد دخولهم النار كما قدمنا ، قال الشعبي : يقوم خطيبان يوم القيامة على رؤوس الناس ، يقول تعالى لعيسى بن مريم : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } [ المائدة : 116 ] ؟ قال : ويقوم إبليس لعنه الله فيقول : { وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فاستجبتم لِي } الآية ، ثم لما ذكر تعالى مآل الأشقياء وما صاروا إليه من الخزي والنكال ، وإن خطيبهم إبليس عطف بمآل السعداء ، فقال { وَأُدْخِلَ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } سارحة فيها حيث ساروا وأين ساروا ، { خَالِدِينَ فِيهَ } ماكثين أبداً لا يحولون ولا يزولون { بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ } ، كما قال تعالى : { حتى إِذَا جَآءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فادخلوها خَالِدِينَ } [ الزمر : 73 ] ، وقال تعالى : { وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِّن كُلِّ بَابٍ * سَلاَمٌ عَلَيْكُم } [ الرعد : 23-24 ] ، وقال تعالى : { وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلاَماً } [ الفرقان : 75 ] ، وقال تعالى : { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللهم وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ يونس : 10 ] .(1/1305)
أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ مَا لَهَا مِنْ قَرَارٍ (26)
قال ابن عباس : قوله : { مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً } : شهادة أن لا إله إلا الله { كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ } وهو المؤمن { أَصْلُهَا ثَابِتٌ } يقول : لا إله إلا الله في قلب المؤمن ، { وَفَرْعُهَا فِي السمآء } يقول : يرفع بها عمل المؤمن إلى السماء ، وقال البخاري « عن ابن عمر قال : كنا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » أخبروني عن شجرة تشبه - أو - كالرجل المسلم ، لا يتحات ورقها صيفاً ولا شتاء ، وتؤتي أكلها كل حين بإذن بها ، قال ابن عمر : فوقع في نفسي أنها النخلة ، ورأيت أبا بكر وعمر لا يتكلمان ، فكرهت أن أتكلم ، فلما لم يقولوا شيئاً قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هي النخلة » ، فلما قمنا قلت لعمر : يا أبتاه والله لقد كان وقع في نفسي أنها النخلة ، قال : ما منعك أن تتكلم؟ قلت : لم أركم تتكلمون ، فكرهت أن أتكلم أو أقول شيئاً ، قال عمر : لأن تكون قلتها أحب إليَّ من كذا وكذا « وعن ابن عباس : { كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ } قال : هي شجرة في الجنة . وقوله : { تؤتي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ } قيل : غدوة وعشياً ، وقيل : كل شهر ، وقيل : كل شهرين ، وقيل غير ذلك . والظاهر من السياق أن المؤمن مثله كمثل شجرة ، لا يزال يوجد منها ثمرة في كل وقت ، من صيف أو شتاء أو ليل أو نهار ، كذلك المؤمن لا يزال يرفع له عمل صالح آناء الليل وأطراف النهار في كل وقت وحين { بِإِذْنِ رَبِّهَا } أي كاملاً حسناً كثيراً طيباً مباركاً { وَيَضْرِبُ الله الأمثال لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } . وقوله تعالى : { وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ } هذا مثل كفر الكافر لا أصل له ولا ثبات ، مشبه بشجرة الحنظل ، وقوله : { اجتثت } أي استؤصلت { مِن فَوْقِ الأرض مَا لَهَا مِن قَرَارٍ } أي لا أصل لها ولا ثبات ، كذلك الكفر لا أصل له ولا فرع ، ولا يصعد للكافر عمل ولا يتقبل منه شيء .(1/1306)
يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ (27)
روى البخاري ، عن البراء بن عازب رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « المسلم إذا سئل في القبر شهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله ، فذلك قوله : { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة } » وقال الإمام أحمد ، عن البراء بن عازب قال : « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير ، وفي يده عود ينكت به الأرض فرفع رأسه فقال : » استعيذوا بالله من عذاب القبر « مرتين أو ثلاثاً ، ثم قال : » إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع في الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة حتى يجلسوا منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول أيتها النفس الطيبة أخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان - قال فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها ، فلا يمرون بها يعني على ملأ من الملائكة إلا قالوا ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون : فلان بن فلان بأحسن أسمائه اليت كانوا يسمونه بها في الدنيا حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له ، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها ، حتى ينتهي بها إلى السماء السابعة ، فيقول الله : اكتبوا كتاب عبدي في عليين ، وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى ، قال : فتعاد روحه في جسده ، فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك؟ فيقول : « ربي الله ، فيقولان له : ما دينك؟ فيقول : ديني الإسلام ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول : هو رسول الله ، فيقولان له : وما علمك؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت ، فينادي منادٍ من السماء أن صدق عبدي فأفرشوه من الجنة ، وألبسوه من الجنة ، وافتحوا له باباً إلى الجنة ، قال : فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفسح له في قبره مد بصره ، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول : أبشر بالذي كنت يسرك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول له : من أنت فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقول : رب أقم الساعة ، رب أقم الساعة ، حتى أرجع إلى أهلي ومالي .
قال : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة ، نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجه معهم المسرح فجلسوا منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت ، فيجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة ، اخرجي إلى سخط من الله وغضب - قال - فتفرق في جسده فينتزعه كما ينتزع السفود من الصوف المبلول ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفه عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ، فيخرج منها كانتن ريح جيفة وجدت في وجه الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون : فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا ، حتى ينتهي بها إلى السماء الدنيا فيستفتح له فلا يفتح له ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط } ، فيقول : الله : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى ، فتطرح روحه طرحاً - ثم قرأ : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيق } ، فتعاد روحه في جسده ، ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له من ربك؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيقولان له : ما دينك؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول : هاه هاه لا أدري . فينادي منادٍ من السماء : أن كذب عبدي ، فأفرشوه من النار افتحوا له باباً إلى النار ، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول : أبشر بالذي يسوؤك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : ومن أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول : أنا عملك الخبيث ، فيقول : رب لا تقم الساعة » .(1/1307)
وفي « صحيح مسلم » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : إذا خرجت روح العبد المؤمن تلقاها ملكان يصعدان بها قال حماد : فذكر من طيب ريحها وذكر المسك - قال - ويقول أهل السماء : روح طيبة جاءة من قبل الأرض ، صلى الله عليك وعلى جسد كنت تعمرينه ، فينطلق به إلى ربه عزّ وجلّ فيقول : انطلقوا به إلى آخر الأجل . وإن كان الكافر إذا خرجت روحه - قال حماد - وذكر من نتنها وذكر مقتاً ويقول أهل السماء روح خبيثة جاءت من قبل الأرض ، فيقال : انطلقوا به إلى آخر الأجل . قال أبو هريرة : فرد رسول الله صلى الله عليه وسلم ريطة كانت عليه على أنفه هكذا . وقال ابن حبان في « صحيحه » ، عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :(1/1308)
« إن المؤمن إذا قبض أتته ملائكة الرحمة بحريرة بيضاء فيقولون : اخرجي إلى روح الله ، فتخرج كأطيب ريح مسك ، حتى أنه ليتناوله بعضهم بعضاً يشمونه حتى يأتوا به باب السماء فيقولون : ما هذه الريح الطيبة التي جاءت من قبل الأرض؟ ولا يأتون سماء إلا قالوا مثل ذلك حتى يأتوا به أرواح المؤمنين ، فلهم أشد فرحاً به من أهل الغائب بغائبهم ، فيقولون : ما فعل فلان ، فيقولون : دعوه حتى يستريح ، فإنه كان في غم ، فيقول : قد مات أما أتاكم ، فيقولون : ذهب إلى أمه الهاوية ، وأما الكافر فيأتيه ملائكة العذاب بمسح فيقولون : اخرجي إلى غضب الله ، فتخرج كأنتن ريح جيفة ، فيذهب به إلى الأرض »
وروى العوفي ، عن ابن عباس رضي الله عنهما في هذه الآية قال : إن المؤمن إذا حضره الموت شهدته الملائكة فسلموا عليه وبشروه بالجنة ، فإذا مات مشوا مع جنازته ، ثم صلوا عليه مع الناس ، فإذا دفن أجلس في قبره فيقال له : من ربك؟ فيقول : ربي الله ، فيقال له : من رسولك؟ فيقول : محمد صلى الله عليه وسلم فيقال له : ما شهادتك؟ فيقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله فيوسع له في قبره مد بصره . وأما الكافر فتنزل عليه الملائكة فيبسطون أيديهم ، والبسط هو الضرب { يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [ الأنفال : 50 ] عند الموت ، فإذا أدخل قبره أقعد ، فقيل له : من ربك؟ فلم يرجع إليهم شيئاً ، وأنساه الله ذكر ذلك ، وإذا قيل : من الرسول الذي بعث إليك؟ لم يهتد له ولم يرجع إليهم شيئاً { وَيُضِلُّ الله الظالمين } . وقال ابن أبي حاتم ، عن أبي قتادة الأنصاري في قوله تعالى : { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة } الآية ، قال : إن المؤمن إذا مات أجلس في قبره ، فيقال له : من ربك؟ فيقول : الله ، فيقال له : من نبيك؟ فيقول : محمد بن عبد الله ، فيقال له : ذلك مرات ثم يفتح له باب إلى النار ، فيقال له : أنظر إلى منزلك من النار لو زغت ، ثم يفتح له باب إلى الحنة فيقال له : انظر إلى منزلك من الجنة إذا ثبت . وإذا مات الكافر أجلس في قبره فيقال له : من ربك؟ من نبيك؟ فيقول : لا أدري ، كنت أسمع الناس يقولون ، فيقال له : لا دريت ، ثم يفتح له باب إلى الجنة ، فيقال له : انظر إلى منزلك إذا ثبت ، ثم يفتح له باب إلى النار ، فيقال له : انظر إلى منزلك إذ زغت ، فذل كقوله تعالى : { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة } . وقال عبد الرزاق : عن معمر عن ابن طاووس عن أبيه : { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا } قال : لا إله إلا الله { وَفِي الآخرة } : المسألة في القبر ، وقال قتادة أما الحياة الدنيا فيثبتهم بالخير والعمل الصالح { وَفِي الآخرة } : في القبر . وكذا روي عن غير واحد من السلف ، وعن عثمان رضي الله عنه قال : « كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا فرغ من دفن الرجل وقف عليه وقال : استغفروا لأخيكم واسألوا له التثبيت ، فإنه الآن يسأل » .(1/1309)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30)
قال البخاري : قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } ، ألم تعلم ، كقوله : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ } [ إبراهيم : 24 ] ، { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ } [ البقرة : 243 ] . البوار : الهلاك ، بار يبور بوراً ، { قَوْماً بُوراً } [ الفرقان : 18 ] هالكين . حدثنا علي بن عبد الله ، حدثنا سفيان عن عمرو عن عطاء سمع ابن عباس : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } قال : هم كفار أهل مكة . والمعنى جميع الكفار ، فإن الله تعالى بعث محمداً صلى الله عليه وسلم رحمة للعالمين ونعمة للناس ، فمن قبلها وقام بشكرها دخل الجنة ، ومن ردها وكفرها دخل النار . قال ابن أبي حاتم : قام عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقال : ألا أحد يسألني عن القرآن؟ فوالله لو أعلم اليوم أحداً أعلم به مني وإن كان من وراء البحار لأتيته ، فقام عبد الله بن الكواء ، فقال : مَنْ { الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار } ؟ قال : مشركو قريش أتتهم نعمة الله الإيمان ، فبدلوا نعمة الله كفراً وأحلوا قومهم دار البوار . وقال سفيان الثوري ، عن عمر بن الخطاب في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً } قال : هم الأفجران من قريش : بنو المغيرة وبنو أُميَّة ، فأما بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر ، وأما بنو أمية فمتعوا إلى حين . وكذا رواه حمزة الزيات عن عمرو بن مرة قال : قال ابن عباس لعمر بن الخطاب : يا أمير المؤمنين هذه الآية : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار } قال : هم الأفجران من قريش أخوالي وأعمامك ، فأما أخوالي فأستاصلهم الله يوم بدر ، وأما أعمامك فأملى الله لهم إلى حين . وقال مجاهد وسعيد بن جبير والضحاك وقتادة وابن زيد : هم كفار قريش الذين قتلوا يوم بدر؛ وكذا رواه مالك في تفسيره عن نافع عن ابن عمر . وقوله : { وَجَعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ } ، أي جعلوا له شركاء عبدوهم معه ودعوا الناس إلى ذلك ، ثم قال تعالى : مهدداً لهم ومتوعداً لهم على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } أي مهما قدرتم عليه في الدنيا فافعلوا فمهما يكن من شيء { فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } أي مرجعكم وموئلكم إليها ، كما قال تعالى : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] . وقال تعالى : { مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ يونس : 70 ] .(1/1310)
قُلْ لِعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرًّا وَعَلَانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خِلَالٌ (31)
يقول تعالى آمراً عباده بطاعته ، والقيام بحقه والإحسان إلى خلقه ، بأن يقيموا الصلاة ، وأن ينفقوا مما رزقهم الله ، بأداء الزكوات والنفقة على القرابات والإحسان إلى الأجانب ، والمراد بإقامتها هو المحافظة على وقتها وحدودها وركوعها وخشوعها وسجودها ، وأمر تعالى بالإنفاق مما رزق في السر ، أي في الخفية والعلانية وهي الجهر ، وليبادروا إلى ذلك لخلاص أنفسهم { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ } وهو يوم القيامة ، { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } أي ولا يقبل من أحد فدية بأن تابع نفسه ، كما قال تعالى : { فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } [ الحديد : 15 ] . وقوله : { وَلاَ خِلاَلٌ } قال ابن جرير : يقول : ليس هنك مخالة خليل فيصبح عمن استوجب العقوبة عن العقاب لمخالفته ، بل هناك العدل والقسط ، يخبر تعالى أنه لا ينفع أحداً بيع ولا فدية ، ولو افتدى بملء الأرض ذهباً لو وجده ، ولا تنفعه صداقة أحد ولا شفاعة أحد ، إذا لقي الله كافراً ، قال الله تعالى : { واتقوا يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } [ البقرة : 48 ] ، وقال تعالى : { ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ والكافرون هُمُ الظالمون } [ البقرة : 254 ] .(1/1311)
اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهَارَ (32) وَسَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَائِبَيْنِ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُمْ مِنْ كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)
يعدد تعالى نعمه على خلقه بأن خلق لهم السماوات سقفاً محفوظاً والأرض فراشاً ، { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثمرات رِزْقاً لَّكُمْ } ما بين ثمار وزروع مختلفة الألوان والأشكال والطعوم والروائح والمنافع ، وسخر الفلك بأن جعلها طافية على تيار ماء البحر ، تجري عليه بأمر الله تعالى ، وسخر البحر لحملها ليقطع المسافرون بها من إقليم إلى إقليم آخر لجلب ما هنا إلى هناك ، وما هناك إلى هنا ، وسخر الأنهار تشق الأرض من قطر إلى قطر ، رزقاً للعباد ، { وَسَخَّر لَكُمُ الشمس والقمر دَآئِبَينَ } أي يسيران لا يفتران ليلاً ولا نهاراً { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] ، { يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } [ الأعراف : 54 ] فالشمس والقمر يتعاقبان ، والليل والنهار يتعارضان ، فتارة يأخذ هذا من هذا فيطول ، ثم يأخذ الآخر من هذا فيقصر ، { يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل وَسَخَّرَ الشمس والقمر كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى } [ فاطر : 13 ] { أَلا هُوَ العزيز الغفار } [ الزمر : 5 ] ، وقوله : { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } يقول : هيأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألونه بحالكم وقالكم . وقال بعض السلف : من كل ما سألتموه وما لم تسألوه ، وقوله : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا } ، يخبر تعالى عن عجز العباد عن تعداد النعم فضلاً عن القيام بشكرها ، كما قال طلق بن حبيب رحمه الله : إن حق الله أثقل من أن يقوم به العباد ، وإن نعم الله أكثر من أن يحصيها العباد ، ولكن أصبحوا تائبين ، وأمسوا تائبين . وفي « صحيح البخاري » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : « اللهم لك الحمد غير مكفي ولا مودع ولا مستغنى عنه ربنا » وقد روي في الأثر أن داود عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك وشكري لك نعمة منك عليّ؟ فقال الله تعالى : الآن شكرتني يا داود ، أي حين اعترفت بالتقصير عن أداء شكر المنعم . وقال الإمام الشافعي رحمه الله : الحمد لله الذي لا يؤدي شكر نعمة من نعمه ، إلا بنعمة حادثة توجب على مؤديها شكره بها ، وقال القائل في ذلك :
لو كل جارحة مني لها لغة ... تثني عليك بما أوليتَ من حسن
لكان ما زاد شكري إذ شكرت به ... إليك أبلغ في الإحسان والمنن(1/1312)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِنًا وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36)
يذكر تعالى في هذا المقام محتجاً على مشركي العرب بأن البلد الحرام مكة ، إنما وضعت أول ما وضعت علىعبادة الله وحده لا شريك له ، وأن إبراهيم الذي كانت عامرة بسببه آهلة تبرأ ممّن عبد غير الله ، وأنه دعا لمكة بالأمن فقال : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً } ، وقد استجاب الله له فقال تعالى : { رَبِّ اجعل هذا البلد آمِناً } الآية . وقال في هذه القصة : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً } [ العنكبوت : 67 ] فعرفه لأنه دعا به بعد بنائها ، ولهذا قال : { الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } [ إبراهيم : 39 ] ، ومعلوم أن إسماعيل أكبر من إسحاق بثلاث عشرة سنة ، وقوله : { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } ينبغي لكل داع أن يدعو لنفسه ولوالديه ولذريته ، ثم ذكر أنه افتتن بالأصنام خلائق من الناس ، وأنه تبرأ ممن عبدها ورد أمرهم إلى الله إن شاء عذبهم وإن شار غفر لهم ، كقول عيسى عليه السلام : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } [ المائدة : 118 ] وليس فيه أكثر من الرد إلى مشيئة الله تعالى لا تجويز وقوع ذلك . قال عبد الله بن وهب ، « عن عبد الله بن عمر وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلا قول إبراهيم عليه السلام : { رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ الناس } الآية ، وقول عيسى عليه السلام : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } [ المائدة : 118 ] الآية ، ثم رفع يديه ، ثم قال : » أللهم أمتي ، اللهم أمتي ، اللهم أمتي « وبكى ، فقال الله : اذهب يا جبريل إلى محمد ، وربك أعلم؛ وسله ما يبكيك؟ فأتاه جبريل عليه السلام ، فسأله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال : فقال الله : اذهب يا محمد فقل له : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسؤوك » .(1/1313)
رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37)
وهذا يدل على أن هذا دعاء ثان بعد الدعاء الأول الذي دعا به عندما ولى عن هاجر وولدها ، وذلك قبل بناء البيت ، وهذا كان بعد بنائه تأكيداً ورغبة إلى الله عزّ وجلّ ، ولهذا قال : { عِندَ بَيْتِكَ المحرم } . وقوله : { رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصلاة } أي إنما جعلته محرماً ليتمكن أهله من إقامة الصلاة عنده { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ } ، قال ابن عباس : لو قال أفئدة الناس لازدحم عليه فارس والروم واليهود والنصارى والناس كلهم ، ولكن قال : { مِّنَ الناس } فاختُص به المسلمون . وقوله : { وارزقهم مِّنَ الثمرات } أي ليكون ذلك عوناً لهم على طاعتك ، وكما أنه وادٍ غير ذي زرع فاجعل لهم ثماراً يأكلونها ، وقد استجاب الله ذلك ، كما قال : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا } [ القصص : 57 ] وهذا من لطفه تعالى وكرمه ورحمته وبركته أنه ليس في البلد الحرام ( مكة ) شجرة مثمرة ، وهي تجبى إليها ثمرات ما حولها استجابة لدعاء الخليل عليه السلام .(1/1314)
رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاءِ (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41)
قال ابن جرير : يقول تعالى مخبراً عن إبراهيم : خليله أنه قال : { رَبَّنَآ إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ } أي أنت تعلم قصدي في دعائي وماأردت بدعائي لأهل هذا البلد ، وإنما هو القصد إلى رضاك والإخلاص لك ، فإنك تعلم الأشياء كلها ظاهرها وباطنها لا يخفى عليك منها شيء في الأرض ولا في السماء ، ثم حمد ربه عزّ وجلّ على ما رزقه من الولد بعد الكبر فقال : { الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء } أي أنه يستجيب لمن دعاه ، وقد استجاب لي فيما سألته من الولد ، ثم قال : { رَبِّ اجعلني مُقِيمَ الصلاة } أي محافظاً مقيماً لحدودها { وَمِن ذُرِّيَتِي } أي واجعلهم كذلك مقيمين لها ، { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ } أي فيما سألتك فيه { رَبَّنَا اغفر لِي وَلِوَالِدَيَّ } ، وكان هذا قبل أن يتبرأ من أبيه لما تبين له عداوته لله عزّ وجلّ { وَلِلْمُؤْمِنِينَ } أي كلهم { يَوْمَ يَقُومُ الحساب } أي يوم تحاسب عبادك فتجازيهم بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر .(1/1315)
وَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43)
يقول تعالى : ولا تحسبن الله - يا محمد - غافلاً عما يعمل الظالمون ، أي لا تحسبنه إذا أنظرهم وأجلهم أنه غافل عنهم ، مهمل لهم لا يعاقبهم على صنعهم ، بل هو يحصي ذلك عليهم ويعده عليهم عداً ، { إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبصار } أي من شدة الأهوال يوم القيام’ : ثم ذكر تعالى كيفية قيامهم من قبورهم وعجلتهم إلى قيام المحشر ، فقال : { مُهْطِعِينَ } أي مسرعين ، كما قال تعالى : { مُّهْطِعِينَ إِلَى الداع } [ القمر : 8 ] الآية ، وقال تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الداعي لاَ عِوَجَ لَهُ } [ طه : 108 ] وقال تعالى : { يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الأجداث سِرَاعاً } [ المعارج : 43 ] الآية . وقوله : { مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ } قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : رافعي رؤسهم ، { لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ } أي أبصارهم ظاهرة شاخصة مديمون النظر ، لا يطرفون لحظة لكثرة ما هم فيه من الهول والفكرة والمخافة لما يحل بهم عياذاً بالله العظيم من ذلك؛ ولهذا قال : { وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَآءٌ } أي وقلوبهم خاوية خالية ليس فيها شيء لكثرة الوجل والخوف ، ولهذا قال قتادة وجماعة : إن أمكنه أفئدتهم خالية ، لأن القلوب لدى الحناجر قد خرجت من أماكنها من شدة الخوف . وقال بعضهم : هي خراب لا تعي شيئاً لشدة ما أخبر به تعالى عنهم ، ثم قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم .(1/1316)
وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الْأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46)
يقول تعالى مخبراً عن قيل الذين ظلموا أنفسهم عند معاينة العذاب : { رَبَّنَآ أَخِّرْنَآ إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرسل } ، كقوله : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ رَبِّ ارجعون } [ المؤمنون : 99 ] الآية . وقال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُلْهِكُمْ أَمْوَالُكُمْ } [ المنافقون : 9 ] الآيتين ، وقال تعالى مخبراً عنهم في حال محشرهم : { وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ } [ السجدة : 12 ] الآية ، وقال : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا } [ الأنعام : 27 ] الآية ، وقال تعالى : { وَهُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيهَا } [ فاطر : 37 ] الآية ، قال تعالى راداً عليهم في قولهم هذا : { أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } أي أو لم تكونوا تحلفون من قبل هذه الحالة أنه لا زوال لكم عما أنتم فيه ، وأنه لا معاد ولا جزاء فذوقوا هذا بذلك ، قال مجاهد وغيره { مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } : أي ما لكم من انتقال من الدنيا إلى الآخرة ، كقوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] الآية { وَسَكَنتُمْ فِي مساكن الذين ظلموا أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمثال } أي قد رأيتم وبلغكم ما أحللنا بالأمم المكذبة قبلكم ومع هذا لم يكن لكم فيهم معتبر ولم يكن فيما أوقعنا بهم لكم مزدجر { حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النذر } [ القمر : 5 ] . وروى العوفي عن ابن عباس في قوله : { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } يقول : ما كان مكرهم لتزول منه الجبال ، وكذا قال الحسن البصري ، ووجهه ابن جرير بأن هذا الذي فعلوه بأنفسهم من شركهم بالله وكفرهم به ما ضر ذلك شيئاً من الجبال ولا غيرها ، وإنما عاد وبال ذلك عليهم ، ويشبه هذا قول الله تعالى : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً } [ الإسراء : 37 ] ، والقول الثاني في تفسيرها ما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس { وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الجبال } يقول : شركهم كقوله : { تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ } [ مريم : 90 ] الآية ، وهكذا قال الضحاك وقتادة .(1/1317)
فَلَا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48)
يقول تعالى مقرراً لوعده ومؤكداً { فَلاَ تَحْسَبَنَّ الله مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ } أي من نصرتهم في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد ، ثم أخبر تعالى أنه ذو عزة لا يمتنع عليه شيء أراده ولا يغالب ، وذو انتقام ممن كفر به وجحده ، { فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ } [ الطور : 11 ] ، ولهذا قال : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } أي وعده هذا حاصل يوم تبدل الأرض غير الأرض ، كما جاء في الصحيحين ، عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ليس فيها معلم لأحد » ، وقال الإمام أحمد ، « عن عائشة أنها قالت : أنا أول الناس سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن هذه الآية : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } قالت : قلت : أين الناس يومئذٍ يا رسول الله؟ قال : » على الصراط « وقال الإمام مسلم بن الحجاج في » صحيحيه « » عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : كنت قائماً عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فجاءه حبر من أحبار يهود فقال : السلام عليك يا محمد ، فدفعته دفعة كاد يصرع منها ، فقال : لم تدفعني؟ فقلت : ألا تقول يا رسول الله؟ فقال اليهودي : إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي » ، فقال اليهودي : جئت أسألك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أينفعك شيئاً إن حدثتك »؟ فقال : أسمع بأذني ، فنكت رسول الله صلى الله عليه وسلم بعود معه ، فقال : « سل » ، فقال اليهودي : إن يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسماوات؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هم في الظلمة دون الجسر » ، قال : فمن أول الناس إجازة؟ فقال : فقراء المهاجرين « ، فقال اليهودي : فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال : » زيادة كبد النون « ، قال : فما غذاؤهم في أثرها؟ قال : » ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها « ، قال : فما شرابهم عليه؟ قال : » من عين فيها تسمى سلسبيلاً « ، قال صدقت . قال : وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان ، قال : أينفعك إن حدثتك »؟ قال : أسمع بأذني ، قال جئت أسألك عن الولد ، قال : « ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر ، فإذا اجتمعنا فعلا منيّ الرجل مني المرأة كان ذكراً بإن الله تعالى ، وإذا علا منيّ المرأة منيّ الرجل كان أنثى بإذن الله » ، قال اليهودي : لقد صدقت ، وإنك لنبي ، ثم انصرف ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به » .(1/1318)
وروى أبو جعفر بن جرير الطبري ، عن عمرو بن ميمون يقول : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } قال : أرض كالفضة البيضاء نقية ، لم يسفك فيها دم ، ولم يعمل عليها خطيئة ، ينفذهم البصر ، ويسمعهم الداعي حفاة عراة كما خلقوا ، قال ، أراه قال قياماً حتى يلجمهم العرق ، وعن عمرو بن ميمون عن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله عزّ وجلّ { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } قال : « أرض بيضاء لم يسفك عليها دم ، ولم يعمل عليها خطيئة » وقال الربيع عن أُبي بن كعب قال : تصير السماوات جناناً . وقال الأعمش ، عن عبد الله بن معسود : الأرض كلها نار يوم القيامة ، والجنة من ورائها ترى أكوابها وكواعبها ، والذي نفس عبد الله بيده إن الرجل ليفيض عرقاً حتى ترشح في الأرض قدمه ، ثم يرتفع حتى يبلغ أنفه ، وما مسه الحساب ، قالوا : ممَ ذلك يا أبا عبد الرحمن؟ قال مما يرى الناس ويلقون . وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أَنس عن كعب في قوله : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } قال : تصير السماوات جناناً ويصير مكان البحر ناراً وتبدل الأرض غيرها . وقوله : { وَبَرَزُواْ للَّهِ } أي خرجت الخلائق جميعها من قبورهم لله { الواحد الْقَهَّارِ } أي الذي قهر كل شيء وغلبه ، ودانت له الرقاب وخضعت له الألباب .(1/1319)
وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51)
يقول تعالى : { يَوْمَ تُبَدَّلُ الأرض غَيْرَ الأرض والسماوات } [ إبراهيم : 48 ] وتبرز الخلائق لديَّانها ترى يا محمد يومئذٍ المجرمين وهم الذين أجرموا بكفرهم وفسادهم ، { مُّقَرَّنِينَ } أي بعضهم إلى بعض قد جمع بين النظراء أو الأشكال منهم كل صنف إلى صنف ، كما قال تعالى : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] ، وقال : { وَإِذَا النفوس زُوِّجَتْ } [ التكوير : 7 ] ، وقال : { وَإَذَآ أُلْقُواْ مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُّقَرَّنِينَ دَعَوْاْ هُنَالِكَ ثُبُوراً } [ الفرقان : 13 ] ، وقال : { والشياطين كُلَّ بَنَّآءٍ وَغَوَّاصٍ * وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأصفاد } [ ص : 37-38 ] والأصفاد هي القيود ، قال عمرو بن كلثوم .
فآبوا ، بالثياب وبالسبايا ... وأبنا بالملوك مصفدينا
وقوله تعالى : { سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ } أي ثيابهم التي يلبسونها من قطران ، وهو الذي تهنأ به الإبل ، أي تطلى ، قال قتادة : وهو ألصق شيء بالنار ، وكان ابن عباس يقول : القطران هو النحاس المذاب ، أي من نحاس حار قد انتهى حره ، وقوله : { وتغشى وُجُوهَهُمُ النار } ، كقوله : { تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النار وَهُمْ فِيهَا كَالِحُونَ } [ المؤمنون : 104 ] ، وقال الإمام أحمد ، عن أبي مالك الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أربع في أمتي من أمر الجاهلية لا يتركونهن : الفخر بالأحساب ، والطعن في الأنساب ، والاستسقاء بالنجوم ، والنياحة على الميت ، والنائحة إذا لم تتب قبل موتها؛ تقام يوم القيامة وعليها سربال من قطران ودرع من جرب » ، وقوله : { لِيَجْزِيَ الله كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ } أي يوم القيامة { لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ } [ النجم : 31 ] الآية ، { إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } يحتمل أن يكون كقوله تعالى : { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] ويحتمل أنه في حال محاسبته لعبده سريع النجاز ، لأنه يعلم كل شيء ولا يخفى عليه خافية ، وإن جميع الخلق بالنسبة إلى قدرته كالواحد منهم ، كقوله تعالى : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] ، وهذا معنى قول مجاهد : { سَرِيعُ الحساب } إحصاءً ، ويحتمل أن يكون المعنيان مرادين والله أعلم .(1/1320)
هَذَا بَلَاغٌ لِلنَّاسِ وَلِيُنْذَرُوا بِهِ وَلِيَعْلَمُوا أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ (52)
يقول تعالى : هذا القرآن بلاغ للناس ، كقوله : { لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] أي هو بلاغ لجميع الخلق من إنس وجن كما قال تعالى في أول السورة : { كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ الناس مِنَ الظلمات إِلَى النور } [ إبراهيم : 1 ] الآية ، { وَلِيُنذَرُواْ بِهِ } أي ليتعظوا به ، { وليعلموا أَنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ } أي يستدلوا بما فيه من الحجج والدلالات على أنه لا إله إلا هو ، { وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الألباب } أي ذوو العقول .(1/1321)
الر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كَانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3)
قد تقدم الكلام على الحروف المقطعة في أوائل السور ، وقوله تعالى : { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ } إخبار عنهم أنهم سيندمون على ما كانوا فيه من الكفر ، ويتمنون لو كانوا في الدنيا مسلمين ، ونقل السدي عن ابن عباس ، أن كفار قريش لما عرضوا على النار تمنوا أن لو كانوا مسلمين ، وقيل : المراد أن كل كافر يود عند احتضاره أن لو كان مؤمناً ، وقيل : هذا إخبار عن يوم القيامة ، كقوله تعالى : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } [ الأنعام : 27 ] ، وقال بعضهم : يحبس الله أهل الخطايا من المسلمين مع المشركين في النار ، قال : فيقول لهم المشركون : ما أغنى عنكم ما كنتم تعبدون في الدنيا ، قال : فيغضب الله لهم بفضل رحمته ، فيخرجهم ، فذلك حين يقول : { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } . وقال مجاهد : يقول أهل النار للموحدين : ما أغنى عنكم إيمانكم؟ فإذا قالوا ذلك قال الله : أخرجوا من كان في قلبه مثقال ذرة من إيمان ، فعند ذلك قوله : { رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } ، وقد ورد في ذلك أحاديث مرفوعة ، فقال الحافظ الطبراني ، عن أنَس بن مالك رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن ناساً من أهل لا إله إلا الله يدخلون النار بذنوبهم ، فيقول لهم أهل اللات والعزى : ما أغنى عنكم قولكم : { لاَ إله إِلاَّ الله } [ الصافات : 35 ] وأنتم معنا في النار؟ فيغضب الله لهم ، فيخرجهم فيلقيهم في نهر الحياة فيبرؤون من حرقهم ، كما يبرأ القمر من خسوفه ، ويدخلون الجنة ويسمون فيها الجهنميين » .
الحديث الثاني : عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » إذا اجتمع أهل النار في النار ومعهم من شاء الله من أهل القبلة ، قال الكفار للمسلمين : ألم تكونوا مسلمين؟ قالوا : بلى ، قالوا : فما أغنى عنكم الإسلام وقد صرتم معنا في النار؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأخذنا بها ، فسمع الله ما قالوا ، فأمر بمن كان في النار من أهل القبلة فأخرجوا ، فلما رأى ذلك من بقي من الكفار قالوا : يا ليتنا كنا مسلمين فنخرج كما خرجوا - قال : ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم - أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : { الر تِلْكَ آيَاتُ الكتاب وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ * رُّبَمَا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ } « وقوله : { ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ } تهديد شديد لهم ووعيد أكيد ، كقوله تعالى : { قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النار } [ إبراهيم : 30 ] ، وقوله : { كُلُواْ وَتَمَتَّعُواْ قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُّجْرِمُونَ } [ المرسلات : 46 ] ، ولهذا قال : { وَيُلْهِهِمُ الأمل } أي عن التوبة والإنابة { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } أي عاقبة أمرهم .(1/1322)
وَمَا أَهْلَكْنَا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَلَهَا كِتَابٌ مَعْلُومٌ (4) مَا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5)
يخبر تعالى أنه ما أهلك قرية إلا بعد قيام الحجة عليها وانتهاء أجلها ، وأنه لا يؤخر أمة حان هلاكهم عن ميقاتهم ولا يتقدمون عن مدتهمن وهذا تنبيه لأهل مكة وإرشاد لهم ، إلى الإقلاع عما هم عليه من الشرك والعناد والإلحاد الذي يستحقون به الهلاك .(1/1323)
وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلَائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَا كَانُوا إِذًا مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9)
يخبر تعالى عن كفرهم وعنادهم في قولهم : { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر } أي الذي تدعي ذلك ، { إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } أي في دعائك إيانا إلى اتباعك وترك ما وجدنا عليه آباءنا ، { لَّوْ مَا } أي هلا ، { تَأْتِينَا بالملائكة } أي هلا ، { تَأْتِينَا بالملائكة } أي يشهدون لك بصحة ما جئت به كما قال فرعون : { فَلَوْلاَ أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَآءَ مَعَهُ الملائكة مُقْتَرِنِينَ } [ الزخرف : 53 ] ، { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } [ الفرقان : 21 ] ، وكذا قال في هذه الآية { مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } . وقال مجاهد في قوله : { مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق } : بالرسالة والعذاب ، ثم قرر تعالى أنه هو الذي أنزل عليه الذكر وهو القرآن وهو الحافظ له من التغيير والتبديل .(1/1324)
وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لَا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13)
يقول تعالى مسلياً لرسوله صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من كفار قريش ، إنه أرسل من قبله من الأمم الماضية ، وإنه ما أتى أمة من رسول إلا كذبوه واستهزؤوا به ، ثم أخبر أنه سلك التكذيب في قلوب المجرمين الذين عاندوا واستكبروا عن اتباع الهدى ، قال أَنَس والحسن البصري : { كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ المجرمين } : يعني الشرك ، وقوله : { وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأولين } : أي قد علم ما فعل تعالى بمن كذب رسله من الهلاك والدمار ، وكيف أنجى الله الأنبياء وأتباعهم في الدنيا والآخرة .(1/1325)
وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُوا إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)
يخبر تعالى عن قوة كفرهم وعنادهم ومكابرتهم للحق أنه لو فتح لهم باباً من السماء فجعلوا يصعدون فيه لما صدقوا بذلك بل قالوا : { إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا } قال مجاهد والضحاك : سدت أبصارنا ، وقال قتادة عن ابن عباس : أخذت أبصارنا . وقال العوفي عن ابن عباس : شبّه علينا وإنما سحرنا ، وقال الكلبي : عميت أبصارنا .(1/1326)
وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِنْ كُلِّ شَيْطَانٍ رَجِيمٍ (17) إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُبِينٌ (18) وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20)
يذكر تعالى خلقه السماء في ارتفاعها ، وما زينها به من الكواكب الثوابت والسيارات . لمن تأمل وكرر النظر فيما يرى من العجائب والآيات الباهرات ، ما يحار نظره فيه ، ولهذا قال مجاهد وقتادة : البروج هاهنا هي الكواكب وهذا كقوله تعالى : { تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً } [ الفرقان : 61 ] الآية . ومنهم من قال : البروج هي منازل الشمس والقمر ، ثم ذكر تعالى خلقه الأرض ومده إياها وتوسيعها وبسطها ، وما جعل فيها من الجبال الرواسي والأودية والأراضي والرمال ، وما أنبت فيها من الزروع والثمار المتناسبة ، وقال ابن عباس : { مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ } : أي معلوم ، ومنهم من يقول : مقدر بقدر ، وقال ابن زيد : من كل شيء يوزن ويقدر بقدر ، وقوله : { وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ } المعايش وهي جمع معيشة ، وقوله : { وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ } ، قال مجاهد : هي الدواب والأنعام . وقال ابن جرير : هم العبيد والإماء والدواب والأنعام ، والقصد أنه تعالى يمتن عليهم بما يسرّ لهم من أسباب المكاسب ووجوه الأسباب وصنوف المعايش ، وبما سخر لهم من الدواب التي يركبونها ، والأنعام التي يأكلونها ، والعبيد والإماء التي يستخدمونها ، ورزقهم على خالقهم لا عليهم ، فلهم هم المنفعة ، والرزق على الله تعالى .(1/1327)
وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)
يخبر تعالى أنه مالك كل شيء ، وأن كل شيء سهل عليه يسير لديه ، وأن عند خزائن الأشياء من جميع الصنوف { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } كما يشاء وكما يريد ، لما له في ذلك من الحكمة البالغة والرحمة بعباده ، لا على جهة الوجوب بل هو كتب على نفسه الرحمة . قال ابن مسعود في قوله : { وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ } ما عام بأكثر مطراً من عام ، ولا أقل ، ولكنه يمطر قوم ، ويحرم آخرون بما كان في البحر ، قال : وبلغنا أنه ينزل مع المطر من الملائكة أكثر من عدد ولد إبليس وولد آدم ، يحصون كل قطرة حيث تقع وما تنبت ، وقوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } أي تلقح السحاب فتدر ماء وتلقح الشجر ، فتفتح عن أوراقها وأكمامها ، وذكرها بصيغة الجميع ليكون منها الإنتاج بخلاف الريح العقيم ، فإنه أفردها ووصفها بالعقيم ، وهو عدم الإنتاج ، وق أعمش ، عن عبد الله بن مسعود في قوله : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } قال : ترسل الريح فتحمل الماء من السماء ، ثثم تمر مر السحاب حتى تدر كما تدر اللقحة ، وقال الضحاك : يبعثها الله على السحاب فتلقحه فيمتلئ ماء ، وقال عبيد بن عمير الليثي : يبعث الله المبشرة فتقم الأرض قماً ، ثم يبعث الله المؤلفة فتؤلف السحاب ، ثم يبعث الله اللواقح فتلقح الشجر ، ثم تلا : { وَأَرْسَلْنَا الرياح لَوَاقِحَ } .
وقوله تعالى : { فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ } أي أنزلناه لكم عذباً يمكنكم أن تشربوا منه { لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً } [ الواقعة : 70 ] كما نبّه على ذلك في قوله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ المآء الذي تَشْرَبُونَ * أَأَنتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنَ المزن أَمْ نَحْنُ المنزلون * لَوْ نَشَآءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلاَ تَشْكُرُونَ } [ الواقعة : 68-70 ] ، وقوله : { وَمَآ أَنْتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ } ، قال سفيان الثوري : بمانعين؛ ويحتمل أن المراد : وما أنتم له بحافظين ، بل نحن ننزله ونحفظه عليكم ونجعله معيناً وينابيع في الأرض ، ولو شاء تعالى لأغاره وذهب به ، ولكن من رحمته أنزله وجعله عذباً وحفظه في العيون والآبار والأنهار ، ليبقى لهم في طول السنة يشربون ويسقون أنعامهم وزروعهم وثمارهم . وقوله : { وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ } إخبار عن قدرته تعالى على بدء الخلق وإعادته ، وأنه هو الذي أحيى الخلق من العدم ، ثم يميتهم ، ثم يبعثهم كلهم ليوم الجمع ، وأخبر تعالى بأنه يرث الأرض ومن عليها وإليه يرجعون . ثم أخبر تعالى عن تمام علمه بهم أولهم وآخرهم فقال : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ } الآية . قال ابن عباس رضي الله عنهما : المستقدمون كل من هلك من لدن آدم عليه السلام ، والمستأخرون من هو حي ومن سيأتي إلى يوم القيامة ، وهو اختيار ابن جرير رحمه الله . وقال ابن جرير ، عن مروان بن الحكم أنه قال : كان أناس يستأخرون في الصفوف من أجل النساء ، فأنزل الله : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين } .
وروي ابن جرير عن محمد بن أبي معشر عن أبيه أنه سمع عون بن عبد الله يذكر محمد بن كعب في قوله : { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستأخرين } وأنها في صفوف الصلاة ، فقال محمد بن كعب : ليس هكذا { وَلَقَدْ عَلِمْنَا المستقدمين مِنكُمْ } : الميت والمقتول ، { المستأخرين } من يخلق بعد ، { وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } ، فقال عون بن عبد الله : وفقك الله وجزاك خيراً .(1/1328)
وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَالْجَانَّ خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نَارِ السَّمُومِ (27)
قال ابن عباس : المراد بالصلصال التراب اليابس ، كقوله تعالى : { خَلَقَ الإنسان مِن صَلْصَالٍ كالفخار } [ الرحمن : 14 ] . وعن مجاهد : ( الصلصال ) المنتن ، وتفسير الآية بالآية أولى ، وقوله : { مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } أي الصلصال من حمأ وهو الطين ، والمسنون الأملس ، وروي عن ابن عباس أنه قال : هو التراب الرطب ، وعن ابن عباس ومجاهد : أن الحمأ المسنون هو المنتن ، وقيل : المراد بالمسنون هاهنا المصبوب . وقوله : { والجآن خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ } أي من قبل الإنسان ، { مِن نَّارِ السموم } قال ابن عباس : هي السموم التي تقتل ، وعن ابن عباس : أن الجان خلق من لهب النار ، وقد ورد في « الصحيح » : « خلقت الملائكة من نور ، وخلقت الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم » ، والمقصود من الآية التنبيه على شرف آدم عليه السلام ، وطيب عنصره وطهارة محتده .(1/1329)
فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلَائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلَّا تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33)
يذكر تعالى تنويهه بذكر آدم في ملائكته ، قبل خلقه له وتشريفه إياه بأمر الملائكة بالسجود له ، ويذكر تخلف إبليس عدوه عن السجود له حسداً وكفراً ، وعناداً واستكباراً وافتخاراً بالباطل ، ولهذا قال : { لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } ، كقوله : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ ص : 76 ] .(1/1330)
قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلَى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38)
يذكر تعالى أنه أمر إبليس بالخروج من المنزلة التي كان فيها من الملأ الأعلى ، وأنه رجيم أي مرجوم ، وأنه قد أتبعه لعنة لا تزال متصلة به لاحقة له متواترة عليه إلى يوم القيامة ، وعن سعيد بن جبير أنه قال : لما لعن الله إبليس تغيرت صورته عن صور الملائكة ، ورن رنة ، فكل رنة في الدنيا إلى يوم القيامة منها . وأنه لما تحقق الغضب الذي لا مرد له سأل من تمام حسده لآدم وذريته النظرة إلى اليوم القيامة ، وهو يوم البعث ، وأنه أجيب إلى ذلك استدراجاً له وإمهالاً ، فلما تحقق النظرة قبحه الله قال ما قصّه الله تعالى :(1/1331)
قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)
يقول تعالى مخبراً عن إبليس وتمرده وعتوه أنه قال للرب : { بِمَآ أَغْوَيْتَنِي } أي بسبب ما أغويتني وأضللتني { لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ } أي لذرية آدم عليه السلام ، { فِي الأرض } أي أحبب إليهم المعاصي وأرعيهم فيها ، { وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ } أي كما أغويتني وقدّرت علي ذلك ، { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } ، كقوله : { لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إلى يَوْمِ القيامة لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً } [ الإسراء : 62 ] ، { قَالَ } الله تعالى له متهدداً ومتوعداً ، { هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } أي مرجعكم إليَّ فأجاريكم بأعمالكم ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، وقيل : طريق الحق مرجعها إلى الله تعالى وإليه تنتهي ، كقوله : { وعلى الله قَصْدُ السبيل } [ النحل : 9 ] ، وقوله : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } أي الذين قدرت لهم الهداية فلا سبيل لك عليهم ، ولا وصول لك إليهم { إِلاَّ مَنِ اتبعك مِنَ الغاوين } استثناء منقطع ، { وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ } أي جهنم موعد جميع من اتبع إبليس كما قال عن القرآن ، { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] ، ثم أخبر أن لجهنم سبعة أبواب { لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } أي قد كتب لكل باب منها جزء من أتباع إبليس يدخلونه لا محيد لهم عنه أجارنا الله منها ، وكل يدخل من باب بحسب عمله ويستقر في درك بقدر عمله ، وعن علي بن أبي طالب أنه قال : إن أبواب جهنم هكذا أطباقٌ بعضها فوق بعض ، وعن هبيرة بن أبي مريم عن علي رضي الله عنه قال : أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض ، فيمتلئ الأول ثم الثاني ثم الثالث ، حتى تمتلئ كلها . وقال عكرمة : سبعة أبواب سبعة أطباق ، وقال ابن جريج : سبعة أبواب أولها جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ثم الجحيم ، ثم الهاوية ، وقال قتادة : { لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } : وهي والله منازل بأعمالهم ، وقال الترمذي ، عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لجهنم سبعة أبواب باب منها لمن سل السيف على أمتي - أو قال على أمة محمد- » وقال ابن أبي حاتم ، عن سمرة بن جندب عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } قال : « إن من أهل النار من تأخذه النار إلى كعبيه ، وإن منهم من تأخذه النار إلى حِجزته ، ومنهم من تأخذه النار إلى تراقيه ، منازلهم بأعمالهم » ، فذلك قوله : { لِكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ } .(1/1332)
ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْوَانًا عَلَى سُرُرٍ مُتَقَابِلِينَ (47) لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)
لما ذكر تعالى حال أهل النار ، عطف على ذكر أهل الجنة وأنهم في جنات وعيون . وقوله : { آمِنِينَ } أي سالمين من الآفات مسلم عليكم ، { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } أي من كل خوف وفزع ، ولا تشخوا من إخراج ولا انقطاع ولا فناء . وقوله : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } . عن أبي أمامة قال : لا يدخل الجنة مؤمن حتى ينزع الله ما في صدره من غل حتى ينزع الله ما في صدره من غل حتى ينزع منه مثل السبع الضاري ، وهذا موافق لما في « الصحيح » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ويخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة » وقال ابن جرير : دخل عمران بن طلحة على عليّ رضي الله عنه بعدما فرغ من أصحاب الجمل فرحّب به وقال : إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك من الذين قال الله : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } . وعن أبي حبيبة مولى لطلحة قال : دخل عمران بن طلحة على عليّ رضي الله عنه بعدما فرغ من أصحاب الجمل فرحب به وقال : إني لأرجو أن يجعلني الله وإياك من الذين قال الله : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } قال : ورجلان جالسان إلى ناحية البساط ، فقالا : الله أعدل من ذلك تقتلهم بالأمس وتكونون إخواناً ، فقال علي رضي الله عنه : قُوما أبعد أرض وأسحقها ، فمن هم إذاً إن لم أكن أنا وطلحة؟ وفي رواية : فقام رجل من همدان فقال : الله أعدل من ذلك يا أمير المؤمنين ، قال : فصاح به علي صيحة ، فظننت أن القصر تدهده لها ، ثم قال : إذا لم نكن نحن فمن هم؟ وقال سفيان الثوري : جاء ( ابن جرموز ) ، قاتل الزبير ، يستأذن على علي رضي الله عنه فحجبه طويلاً ، ثم أذن له : فقال له : أما أهل البلاء فتجفوهم ، فقال عليّ : بفيك التراب ، إني لأرجو أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } . وقال الحسن البصري ، قال عليّ : فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } . وقال الثوري في قوله : { إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } قال : هم عشرة أبو بكر وعمر وعثمان وطلحة والزبير وعبد الرحمن بن عوف وسعد بن أبي وقاص وسعيد بن زيد وعبد الله بن مسعود رضي الله عنهم أجمعين ، وقوله : { مُّتَقَابِلِينَ } قال مجاهد : لا ينظر بعضهم ثم قفا بعض ، وفيه حديث مرفوع .(1/1333)
قال ابن أبي حاتم ، عن زيد بن أبي أوفى قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فتلا هذه الآية : { إِخْوَاناً على سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ } في الله ينظر بعضهم إلى بعض ، وقوله : { لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ } يعني المشقة والأذى ، كما جاء في « الصحيحين » : « إن الله أمرني أن أبشر خديجة ببيت في الجنة من قصب ، لا صخب فيه ولا نصب » وقوله : { وَمَا هُمْ مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ } ، كقوله تعالى : { خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يَبْغُونَ عَنْهَا حِوَلاً } [ الكهف : 108 ] ، وقوله : { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم } أي أخبر يا محمد عبادي أني ذو رحمة وذو عذاب أليم ، وقد تقدم ذكر نظير هذه الآية الكريمة وهي دالة على مقامي الرجاء والخوف ، وذكر في سبب نزولها ما رواه ابن جرير عن ابن أبي رباح عن رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قال : « طلع علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من الباب الذي يدخل منه بنو شيبة فقال : لا أراكم تضحكون » ثم أدبر ، حتى إذا كان عند الحجر رجع علينا القهقرى فقال : « إني لما خرجت جاء جبريل عليه السلام فقال : يا محمد إن الله يقول : لم تقنط عبادي؟ { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم } » وقال قتادة : بلغنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لو يعلم العبد قدر عفو الله لما تورع من حرام ، ولو يعلم العبد قدر عذاب الله لبخع نفسه » .(1/1334)
وَنَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلَامًا قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُوا لَا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلَامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُوا بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ (56)
يقول تعالى : وخبرهم يا محمد عن قصة { ضَيْفِ إِبْرَاهِيمَ } ، والضيف يطلق على الواحد والجمع كالزور والسفر ، وكيف { دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ } أي خائفون ، وقد ذكر سبب خوفه منهم لما رأى أيديهم لا تصل إلى ما قربه إليهم من الضيافة وهو العجل السمين الحنيذ ، { قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ } أي لا تخف ، { نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ } أي إسحاق عليه السلام كما تقدم في سورة هود ، ثم { قَالَ } متعجباً من كبره وكبر زوجته ومتحققاً للوعد { أَبَشَّرْتُمُونِي على أَن مَّسَّنِيَ الكبر فَبِمَ تُبَشِّرُونَ } فأجابوه لما بشروه به تحقيقاً وبشارة بعد بشارة ، { قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بالحق فَلاَ تَكُن مِّنَ القانطين } ، فأجابهم بأنه ليس يقنط ولكن يرجو من الله الولد ، وإن كان قد كبر وأسنت امرأته ، فإنه يعلم من قدرة الله ورحمته ما هو أبلغ من ذلك .(1/1335)
قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُوا إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلَّا آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60)
يقول تعالى إخباراً عن إبراهيم عليه السلام لما ذهب عنه الروع وجاءته البشرى ، إنه شرع يسألهم عما جاءوا له فقالوا : { إِنَّآ أُرْسِلْنَآ إلى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ } يعنون قوم لوط ، وأخبروه أنهم سينجون آل لوط من بينهم إلا امرأته فإنها من الهالكين ، ولهذا قالوا : { إِلاَّ امرأته قَدَّرْنَآ إِنَّهَا لَمِنَ الغابرين } أي الباقين المهلكين .(1/1336)
فَلَمَّا جَاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قَالُوا بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64)
يخبر تعالى عن لوط لما جاءته الملائكة في صورة شباب حسان الوجوه فدخلوا عليه داره قال : { إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ * قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ } يعنون بعذابهم وهلاكهم ودمارهم الذي كانوا يشكن في وقوعه بهم وحلوله بساحتهم ، { وَآتَيْنَاكَ بالحق } كقوله تعالى : { مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق } [ الحجر : 8 ] ، وقوله : { وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } تأكيد لخبرهم إياه بما أخبروه به من نجاته وإهلاك قومه .(1/1337)
فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلَا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَامْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلَاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)
يذكر تعالى عن الملائكة أنهم أمروه أن يسري بأهله بعد مضي جانب من الليل ، وأن يكون لوط عليه السلام يمشي وراءهم ليكون أحفظ لهم؛ وهكذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يمشي في الغزو يزجي الضعيف ويحمل المنقطع ، وقوله : { وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ } أي إذا سمعتم الصيحة بالقوم فلا تلتفتوا إليهم وذروهم فيما حل بهم من العذاب والنكال ، { وامضوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ } كأنه كان معهم من يهديهم السبيل ، { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر } أي تقدمنا إليه في هذا { أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } أي وقت الصباح ، كقوله في الآية الأخرى : { إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصبح أَلَيْسَ الصبح بِقَرِيبٍ } [ هود : 81 ] .(1/1338)
وَجَاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلَاءِ ضَيْفِي فَلَا تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللَّهَ وَلَا تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلَاءِ بَنَاتِي إِنْ كُنْتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)
يخبر تعالى عن مجيء قوم لوط لما علموا بأضيافه وصباحه وجوههم ، وأنهم جاءوا مستبشرين بهم فرحين { قَالَ إِنَّ هَؤُلآءِ ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ * واتقوا الله وَلاَ تُخْزُونِ } وهذا إنما قاله لهم قبل أن يعلم أنهم رسل الله ، كما قال في سورة هود ، وأما هاهنا فتقدم ذكر أنهم رسل الله وعطف بذكر مجيء قومه ومحاجته لهم ، ولكن الواو لا تقتضي الترتيب ، ولا سيما ، إذا دل دليل على خلافه ، فقالوا له مجيبين : { أَوَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ العالمين } أي أو ما نهيناك أن تضيف أحداً؟ فأرشدهم إلى نسائهم وما خلق لهم ربهم منهن من الفروج المباحة ، هذا كله وهم غافلون عما يراد بهم وما قد أحاط بهم من البلاء ، وماذا بصبحهم من العذاب المستقر . ولهذا قال تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } ، أقسم تعالى بحياة نبيّه صلوات الله وسلامه عليه ، وفي هذا تشريف عظيم ومقام رفيع وجاه عريض . قال ابن عباس : ما خلق الله وما ذرأ وما برأ نفساً أكرم عليه من محمد صلى الله عليه وسلم ، وما سمعت الله أقسم بحياة أحد غيره ، قال الله تعالى : { لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } يقول : وحياتك وعمرك وبقائك في الدنيا { إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } ، وقال قتادة : { فِي سَكْرَتِهِمْ } أي ضلالتهم ، { يَعْمَهُونَ } أي يلعبون ، وقال ابن عباس : { لَعَمْرُكَ } لعيشك ، { إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال : يترددون .(1/1339)
فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)
يقول تعالى : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة } وهي ما جاءهم من الصوت القاصف عند شروق الشمس وهو طلوعها ، وذلك مع رفع بلادهم إلى عنان السماء ، ثم قلبها ، وجعل عاليها سافلها ، وإرسال حجارة السجيل عليهم . وقد تقدم الكلام على السجيل في هود بما فيه كفاية ، وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } أي إن آثار هذه النقم الظاهرة على تلك البلاد لمن تأمل ذلك وتوسمه بعين بصره وبصيرته ، كما قال مجاهد في قوله : { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } قال : المتفرسين . وعن ابن عباس والضحّاك : للناظرين ، وقال قتادة : للمعتبرين ، وقال مالك عن بعض أهل المدينة : { لِلْمُتَوَسِّمِينَ } للمتأملين . وقال ابن أبي حاتم ، عن أبي سعيد مرفوعاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اتقوا فِراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله » ، ثم قرأ النبي صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } . وفي رواية عن ابن عمر : « اتقوا فراسة المؤمن فإن المؤمن ينظر بنور الله » وروى الحافظ البزار عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن لله عباداً يعرفون الناس بالتوسم » وقوله : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } أي وإن قرية سدوم التي أصابها ما أصابها من القلب والقذف للحجارة حتى صارت بحيرة منتنة خبيثة ، بطريق مهيع مسالكه مستعمرة إلى اليوم ، كقوله : { وَإِنَّكُمْ لَّتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُّصْبِحِينَ * وباليل أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } [ الصافات : 137-138 ] ، وقال مجاهد والضحّاك : { وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقِيمٍ } قال : معلم ، وقال قتادة : بطريق واضح . وقال قتادة أيضاً : بصقع من الأرض واحد . وقوله : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ } أي إن الذي صنعنا بقوم لوط من الهلاك والدمار ، وإنجائنا لوطاً وأهله لدلالة واضحة جلية للمؤمنين بالله ورسله .(1/1340)
وَإِنْ كَانَ أَصْحَابُ الْأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُبِينٍ (79)
أصحاب الأيكة هم قوم شعيب ، قال الضحاك : الأيكة : الشجر الملتف ، وكان ظلمهم بشركهم بالله وقطعهم الطريق ، ونقصهم المكيال والميزان ، فانتقم الله منهم بالصيحة والرجفة وعذاب يوم الظلمة ، وقد كانوا قريباً من قوم لوط بعدهم في الزمان ومسامتين لهم في المكان ، ولهذا قال تعالى : { وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ } أي طريق مبين . قال ابن عباس : طريق ظاهر ، ولهذا لما أنذر شعيب قومه قال في إنذاره إياهم : { وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ } [ هود : 89 ] .(1/1341)
وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (84)
أصحاب الحجر هم ثمود الذين كذبوا صالحاً نبيّهم عليه السلام ، ومن كذب برسول فقد كذب بجميع المرسلين ، ولهذا أطلق عليهم تكذيب المرسلين ، وذكر تعالى أنه أتاهم من الآيات ما يدلهم على صدق ما جاءهم به صالح ، كالناقة التي أخرجها الله لهم بدعاء صالح من صخرة صماء ، وكانت تسرح في بلادهم لها شرب ولهم شرب يوم معلوم ، فلما عتوا وعقروها قال لهم : { تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ] ، وقال تعالى : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } [ فصلت : 17 ] ، وذكر تعالى أنهم : { وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الجبال بُيُوتاً آمِنِينَ } أي من غير خوف ولا احتياج إليها بل أشراً وبطراً وعبثاً ، كما هو المشاهد من صنيعهم في بيوتهم بوادي الحجر الذي مر به رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو ذاهب إلى تبوك فقنع رأسه وأسرع دابته ، وقال لأصحابه : « لا تدخلوا بيوت القوم المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تبكوا فتباكوا خشية أن يصيبكم ما أصابهم » وقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الصيحة مُصْبِحِينَ } أي وقت الصباح من اليوم الرابع ، { فَمَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي ما كانوا يستغلونه من زروعهم وثمارهم التي ضنوا بمائها عن الناقة حتى عقروها لئلا تضيق عليهم في المياه ، فما دفعت عنهم تلك الأموال ولا نفعتهم لما جاء أمر ربك .(1/1342)
وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ (86)
يقول تعالى : { وَمَا خَلَقْنَا السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِلاَّ بالحق وَإِنَّ الساعة لآتِيَةٌ } أي بالعدل { لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ } [ النجم : 31 ] ، ثم أخبر نبيّه بقيام الساعة وأنها كائنة لا محالة ، ثم أمره بالصفح الجميل عن المشركين في أذاهم له وتكذيبهم ما جاءهم به ، كقوله : { وَمَا خَلَقْنَا السمآء والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا بَاطِلاً ذَلِكَ ظَنُّ الذين كَفَرُواْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ مِنَ النار } [ ص : 27 ] ، وقال مجاهد وقتادة : كان هذا قبل القتال ، وقوله : { فاصفح عَنْهُمْ وَقُلْ سَلاَمٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } [ الزخرف : 89 ] تقرير للمعاد وأنه تعالى قادر على إقامة الساعة ، فإنه الخلاق الذي لا يعجزه خلق شيء { العليم } بما تمزق من الأجساد وتفرق في سائر أقطار الأرض كقوله : { أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى وَهُوَ الخلاق العليم } [ يس : 81 ] .(1/1343)
وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعًا مِنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لَا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِنْهُمْ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88)
يقول تعالى لنبيّه صلى الله عليه وسلم : كما آتيناك القرآن العظيم فلا تنظرن إلى الدنيا وزينتها ، وما متعنا به أهلها من الزهرة الفانية لنفتنهم فيه ، فلا تغبطهم بما هم فيه ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات حزناً عليهم في تكذيبهم لك ومخالفتهم دينك ، { واخفض جَنَاحَكَ لِمَنِ اتبعك مِنَ المؤمنين } [ الشعراء : 215 ] أي ألن لهم جانبك ، كقوله : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] ، وقد اختلف في السبع المثاني ما هي؟ فقال ابن مسعود وابن عباس : هي السبع الطوال ، يعنون « البقرة وآل عمران والنساء والمائدة والأنعام والأعراف ويونس » ، وقال سعيد : بين فيهن الفرائض والحدود والقصص والأحكام ، وقال ابن عباس : بيَّن الأمثال والخبر والعبر ، ولم يعطهن أحد إلا النبي صلى الله عليه وسلم ، وأعطي موسى منهن ثنتين ، ( والقول الثاني ) : إنها الفاتحة وهي سبع آيات . قال ابن عباس : والبسملة هي الآية السابعة ، وقد خصكم الله بها ، وقال قتادة : ذكر لنا أنهن فاتحة الكتاب وأنهن يثنين في كل ركعة مكتوبة أو تطوع؛ واختاره ابن جرير ، واحتج بالأحاديث الواردة في ذلك ، وقد أورد البخاري رحمه الله هاهنا حديثين ( أحدهما ) عن أبي سعيد بن المعلى قال : مرّ بي النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أصلي فدعاني ، فلم آته حتى صليت فأتيته ، فقال : « ما منعك أن تأتيني »؟ فقلت : كنت أصلي ، فقال : « ألم يقل الله : { ياأيها الذين آمَنُواْ استجيبوا للَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم } [ الأنفال : 24 ] ألا أعلمك أعظم صورة في القرآن قبل أن أخرج من المسجد »؟ فذهب النبي صلى الله عليه وسلم ليخرج فذكرت فقال : { الحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } [ الفاتحة : 2 ] هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته « ( الثاني ) عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أم القرآن هي السبع المثاني والقرآن العظيم « ، فهذا نص في الفاتحة هي ( السبع المثاني ) والقرآن العظيم ، ولكن لا ينافي وصف غيرها من السبع الطوال بذلك لما فيها من هذه الصفة ، كما لا ينافي وصف القرآن بكماله بذلك أيضاً ، كما قال تعالى : { الله نَزَّلَ أَحْسَنَ الحديث كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] فهو مثاني من وجه ومتشابه من وجه وهو القرآن العظيم أيضاً ، كما أنه عليه الصلاة والسلام لما سئل عن المسجد الذي أسس على التقوى ، فأشار إلى مسجده والآية نزلت في مسجد قباء ، فلا تنافي ، فإذن ذكر الشيء لا ينفي ذكر ما عداه إذا اشتركا في تلك الصفة والله أعلم . وقوله : { لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } أي استغن بما آتاك الله من القرآن العظيم عما هم فيه من المتاع والزهرة الفانية .(1/1344)
ومن هاهنا ابن عيينة إلى تفسير الحديث الصحيح : « ليس منا من لم يتغن بالقرآن » إلى أنه يستغنى به عما عداه ، وهو تفسير صحيح ولكن ليس هو المقصود من الحديث كما تقدم في أول التفسير ، وقال ابن أبي حاتم عن أبي رافع صاحب النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ضاف النبي صلى الله عليه وسلم ضيف ، ولم يكن عند النبي صلى الله عليه وسلم شيء يصلحه ، فأرسل إلى رجل من اليهمد : » يقول لك محمد رسول الله أسلفني دقيقاً إلا هلال رجب « ، قال : لا ، إلا برهن ، فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فأخبرته فقال : » أما والله إني لأمين من في السماء ، وأمين من في الأرض ، ولئن أسلفني أو باعني لأؤدين إليه « ، فلما خرجت من عنده نزلت هذه الآية { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى } [ طه : 131 ] إلى آخر الآية ، كأنه يعزيه عن الدنيا . قال ابن عباس { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ } قال : نهى الرجل أن يتمنى ما لصاحبه . وقال مجاهد : { إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ } هم الأغنياء .(1/1345)
وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93)
يأمر تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يقول للناس : { إني أَنَا النذير المبين } البين النذارة ، نذير للناس من عذاب أليم ، كما حل بمن تقدمهم من الأمم المكذبة لرسلها ، وما أنزل الله عليهم من العذاب والانتقام ، وقوله : { المقتسمين } أي المتحالفين ، أي تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم ، كقوله تعالى إخباراً عن قوم صالح إنهم : { قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ } [ النمل : 49 ] الآية ، أي نقتلهم ليلاً ، قال مجاهد : تقاسموا وتحالفوا { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ الله مَن يَمُوتُ } [ النحل : 38 ] ، { أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ } [ الأعراف : 49 ] فكأنهم لا يكذبون بشيء من الدنيا إلا أقسموا عليه فسموا مقتسمين . قال عبد الرحمن بن زيد : « المقتسمون أصحاب صالح الذين تقاسموا بالله لنبيتنه وأهله ، وفي » الصحيحين « عن أبي موسى عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » إنما مثلي ومثل ما بعثني الله به كمثل رجل أتى قومه فقال : يا قوم إني رأيت الجيش بعيني ، وإني أنا النذير العريان فالنجاء النجاء ، فأطاعه طائفة من قومه فأدلجوا وانطلقوا على مهلهم فنجوا ، وكذبه طائفة منهم فأصبحوا مكانهم فصبّحهم الجيش فأهلكهم واجتاحهم ، فذلك مثل من أطاعني واتبع ما جئت به ، ومثل من عصاني وكذب ما جئت به من الحق « ، وقوله : { الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } أي جزأوا كتبهم المنزلة عليهم ، فأمنوا ببعض وكفروا ببعض ، قال البخاري عن ابن عباس : { جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } قال : هم أهل الكتاب جزأوه أجزاء فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه . وقال عكرمة : العضة ، السحر بلسان قريش ، تقول للساحرة : إنها العاضهة ، وقال مجاهد : عضوه إعضاء قالوا : سحر ، وقالوا : كهانة ، وقالوا : أساطير الأولين ، وقال عطاء : قال بعضهم : ساحر ، وقالوا : مجنون ، وقالوا : كاهن ، فذلك العضين .
وقال محمد بن إسحاق ، عن ابن عباس : إن الوليد بن المغيرة اجتمع إليه نفر من قريش ، وكان ذا شرف فيهم ، وقد حضر الموسم ، فقا لهم يا معشر قريش إنه قد حضر هذا الموسم ، وإن وفود العرب ستقدم عليكم فيه ، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا ، فأجمعوا فيه رأياً واحداً ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً ، ويرد قولكم بعضه بعضاً ، فقالوا : وأنت يا أبا عبد شمس فقل وأقم لنا رأياً نقول به ، قال : بل أنتم قولوا لأسمع ، قالوا : نقول كاهن ، قال : ما هو بكاهن ، قالوا : فنقول مجنون ، قال : ما هو بمجنون ، قالوا : فتقول شاعر ، قال : ما هو بشاعر ، قالوا : فنقول ساحر ، قال : ما هو بساحر ، قالوا : فماذا تقول؟ قال : والله إن لقوله لحلاوة فما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل ، وإن أقرب القول أن تقولوا : هو ساحر ، فتفرقوا عنه بذلك ، وأنزل الله فيهم . { الذين جَعَلُواْ القرآن عِضِينَ } أصنافاً : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أولئك النفر الذين قالوا لرسول الله .(1/1346)
وقال ابن عمر في قوله : { لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قال : عن { لاَ إله إِلاَّ الله } [ الصافات : 35 ] ، وقال ابن مسعود : والذي لا إله غيره ما منكم من أحد إلا سيخلو الله به يوم القيامة ، فيقول : ابن آدم ماذا غرك مني بي؟ ابن آدم ماذا عملت فيما علمت؟ ابن آدم ماذا أجبت المرسلين؟ وقال أبو جعفر ، عن أبي العالية في قوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قال : يسأل العباد كلهم عن خلتين يوم القيامة : عما كانوا يعبدون ، وعماذا أجابوا المرسلين ، وقال ابن عيينة : عن عملك وعن مالك ، وقال ابن أبي حاتم ، عن معاذ بن جبل قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا معاذ إن المرء يسأل يوم القيامة عن جميع سعيه حتى كحل عينيه ، وعن فتات الطينة بأصبعه ، فلا ألفينك يوم القيامة وأحد غيرك أسعد بما آتاك الله منك » وقال ابن عباس في قوله : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، ثم قال : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُسْأَلُ عَن ذَنبِهِ إِنسٌ وَلاَ جَآنٌّ } [ الرحمن : 39 ] قال : لا يسألهم هل عملتم كذا؟ لأنه أعلم بذلك منهم ، ولكن يقول لم عملتم كذا وكذا؟(1/1347)
فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بإبلاغ ما بعثه وبإنفاذه والصدع به ، وهو مواجهة المشركين به ، كما قال ابن عباس في قوله : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } : أي أمضه؛ وفي رواية ( افعل ما تؤمر ) . وقال مجاهد : هو الجهر بالقرآن في الصلاة . وعن عبد الله بن مسعود : ما زال النبي صلى الله عليه وسلم مستخفياً حتى نزلت : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ } فخرج هو وأصحابه ، وقوله : { وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين * إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين } أي بلغ ما أنزل إليك من ربك ، ولا تلتفت إلى المشركين الذين يريدون أن يصدوك عن آيات الله { وَدُّواْ لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ } [ القلم : 9 ] ولا تخفهم ، فإن الله كافيك إياهم ، وحافظك منهم ، كقوله تعالى : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } [ المائدة : 67 ] . وعن أنس مرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فغمزه بعضهم ، فجاء جبريل - أحسبه قال : فغمزهم - فوقع في أجسادهم كهيئة الطعنة فماتوا . وقال محمد بن إسحاق : كان عظماء المستهزئين خمسة نفر ، وكانوا ذوي أسنان وشرف في قومهم ، من بني أسد بن عبد العزى ( أبو زمعة ) كان رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما بلغني قد دعا عليه لما كان يبلغه من أذاه واستهزائه ، فقال : « اللهم أعم بصره وأثكله ولده » ، ومن بني زهرة ( الأسود بن عبد يغوث ) ، ومن بني مخزوم ( الوليد بن المغيرة ) ، ومن بني سهم ( العاص بن وائل* ، ومن خزاعة ( الحارث بن الطلاطلة ) ، فلما تمادوا في الشر وأكثروا برسول الله صلى الله عليه وسلم الاستهزاء أنزل الله تعالى : { فاصدع بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين * إِنَّا كَفَيْنَاكَ المستهزئين } إلى قوله : { فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ } .
وقوله تعالى : { الذين يَجْعَلُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُون } تهديد شديد ووعيد أكيد لمن جعل مع الله معبوداً آخر . وقوله : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين } أي وإنا لنعلم يا محمد أنك يحصل لك من أذاهم لك ضيق صدر وانقباض ، فلا يضيقنك ذلك ، ولا يثنينّك عن إبلاغك رسالة الله وتوكل عليه ، فإنه كافيك وناصرك عليهم ، فاشتغل بذكر الله وتحميده وتسبيحه وعبادته التي هي الصلاة . ولهذا قال : { فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِّنَ الساجدين } ، ولهذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حز به أمر صلى ، وقوله : { واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين } ، قال البخاري عن سالم بن عبد الله { واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين } قال : الموت . والدليل على ذلك قوله تعالى إخباراً عن أهل النار أنهم قالوا : { وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدين * حتى أَتَانَا اليقين } [ المدثر : 46-47 ] . وفي « الصحيح » :(1/1348)
« أما هو فقد جاءه اليقين وإني لأرجو له الخير » ويستدل بهذه الآية الكريمة وهي قوله : { واعبد رَبَّكَ حتى يَأْتِيَكَ اليقين } على أن العبادة كالصلاة ونحوها واجبة على الإنسان ما دام عقله ثابتاً فيصلي بحسب حاله ، كما ثبت في « صحيح البخاري » عن عمران بن حصين رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنب » ، ويستدل بها على تخطئة من ذهب من الملاحدة إلى أن المراد باليقين المعرفة ، فمتى وصل أحدهم إلى المعرفة سقط عنه التكليف عندهم ، وهذا كفر وضلال وجهل ، فإن الأنبياء عليهم السلام كانوا - هم وأصحابهم - أعلم الناس بالله وأعرفهم بحقوقه وصفاته ، وما يستحق من التعظيم ، وكانوا مع هذا أكثر الناس عبادة ومواظبة على فعل الخيرات إلى حين الوفاة؛ وإنما المراد باليقين هاهنا المو ، كما قدمناه ، ولله الحمد والمنة .(1/1349)
أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلَا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1)
يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوها ، معبّراً بصيغة الماضي الدال على التحقق والوقوع لا محالة ، كقوله : { اقترب لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُّعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 1 ] ، وقال : { اقتربت الساعة وانشق القمر } [ القمر : 1 ] ، وقوله : { فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ } أي قرب ما تباعد فلا تستعجلوه ، والضمير يعود على العذاب ، كقوله تعالى : { وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بالعذاب وَلَوْلاَ أَجَلٌ مُّسَمًّى لَّجَآءَهُمُ العذاب وَلَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } [ الشعراء : 53 ] ، فإنهم استعجلوا العذاب قبل كونه استبعاداً وتكذيباً ، ثم إنه تعالى نزه نفسه عن شركهم به غيره ، وعبادتهم معه ما سواه من الأوثان والأنداد ، تعالى وتقدس علواً كبيراً ، وهؤلاء هم المكذبون بالساعة ، فقال : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ } .(1/1350)
يُنَزِّلُ الْمَلَائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ (2)
يقول تعالى : { يُنَزِّلُ الملائكة بالروح } أي الوحي كقوله : { وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] ، وقوله : { على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } وهم الأنبياء ، كما قال تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] ، وقال : { الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس } [ الحج : 75 ] ، وقال : { يُلْقِي الروح مِنْ أَمْرِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } [ غافر : 15 ] ، وقوله : { أَنْ أنذروا } أي لينذروا { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ أَنَاْ فاتقون } أي فاتقوا عقوبتي لمن خالف أمري وعبد غيري .(1/1351)
خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4)
يخبر تعالى عن خلقه العالَم العلوي وهو السماوات والعالَم السفلي وهو الأرض بما حوت ، وأن ذلك مخلوق بالحق لا للعبث به بل { لِيَجْزِيَ الذين أَسَاءُواْ بِمَا عَمِلُواْ وَيِجْزِيَ الذين أَحْسَنُواْ بالحسنى } [ النجم : 31 ] ، ثم نزه نفسه عن شرك من عبد معه غيره وهو المستقل بالخلق وحده لا شريك له ، فلهذا يستحق أن يعبد وحده لا شريك له ثم نبّه على خلق جنس الإنسان { مِن نُّطْفَةٍ } أي مهينة ضعيفة ، فلما استقل ودرج إذا هو يخاصم ربه تعالى ويكذبه ويحارب رسله ، وهو إنما خلق ليكون عبداً لا ضداً كقوله تعالى : { وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُهُمْ وَلاَ يَضُرُّهُمْ وَكَانَ الكافر على رَبِّهِ ظَهِيراً } [ الفرقان : 55 ] ، وقوله : { أَوَلَمْ يَرَ الإنسان أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ } [ يس : 77 ] . وفي الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن بشر بن جحاش قال : بصق رسول الله صلى الله عليه وسلم في كفه ، ثم قال : « يقول الله تعالى : ابن آدم! أنَّى تعجزني وقد خلقتك من مثل هذه ، حتى إذا سويتك فعدلتك مشيت بين برديك وللأرض منك وئيد ، فجمعت ومنعت ، حتى إذا بلغت الحلقوم ، قلت : أتصدق ، وأنَّى أوان الصدقة؟ »(1/1352)
وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)
يمتن تعالى على عباده بما خلق لهم من الأنعام وهي ( الإبل والبقر والغنم ) وبما جعل لهم فيها من المصالح والمنافع من أصوافها وأوبارها وأشعارها يلبسون ويفترشون ، ومن ألبانها يشربون ، ويأكلون من أولادها وما لهم فيها من الجمال وهو الزينة ، ولهذا قال : { وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ } ، وهو وقت رجوعها عشياً من المرعي ، فإنها تكون أمده خواصر وأعظمه ضروعاً ، وأعلاه أسنمة ، { وَحِينَ تَسْرَحُونَ } أي غدوة حين تبعثونها المرعى ، { وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ } وهي الأحمال الثقيلة التي تعجزون عن نقلها وحملها ، { إلى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأنفس } وذلك في الحج والعمرة والغزو والتجارة وما جرى ذلك ، تستعملونها في أنواع الاستعمال من ركوب وتحميل كقوله تعالى : { الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ * وَلَكُمْ فِيهَا مَنَافِعُ وَلِتَبْلُغُواْ عَلَيْهَا حَاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَعَلَيْهَا وَعَلَى الفلك تُحْمَلُونَ } [ غافر : 79-80 ] ، ولهذا قال هاهنا بعد تعداد هذه النعم : { إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ } أي ربكم الذي قيض لكم هذه الأنعام وسخرها لكم كقوله : { وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 72 ] ، وقال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الفلك والأنعام مَا تَرْكَبُونَ } [ الزخرف : 12 ] ، قال ابن عباس : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } أي ثياب ، { وَمَنَافِعُ } ما تنفعون به من الأطعمة والأشربة ، ومنافع نسل كل دابة . وقال مجاهد : { لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ } أي لباس ينسج { وَمَنَافِعُ } مركبٌ ولحم ولبن . وقال قتادة : دفء ومنافع يقول : لكم فيها لباس ومنفعة وبُلغة ، وكذا قال غير واحد من المفسرين بألفاظ متقاربة .(1/1353)
وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (8)
هذا صنف آخر مما خلق تبارك وتعالى لعباده ، يمتن به عليهم وهو { والخيل والبغال والحمير } التي جعلها للركوب والزينة بها وذلك أكبر المقاصد منها ، ولما فصلها من الأنعام وأفردها بالذكر ، استدل من استدل من العلماء ممن ذهب إلى تحريم لحوم الخيل بذل على ما ذهب إليه فيها ، كالإمام أبي حنيفة رحمه الله ومن وافقه من الفقهاء بأنه تعالى قرنها بالبغال والحمير ، وهي حرام ، كما ثبتت به السنّة النبوية ، وذهب إليه أكثر العلماء . وقد روى الإمام أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس : أنه كان يكره لحوم الخيل والبغال والحمير ، وكان يقول : قال الله تعالى : { والأنعام خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [ النحل : 5 ] فهذه للأكل ، { والخيل والبغال والحمير لِتَرْكَبُوهَ } فهذه للركوب ، ويستأنس لهذا بحديث رواه الإمام أحمد عن خالد بن الوليد رضي الله عنه قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أكل لحوم الخيل والبغال والحمير ، ولكن لا يقاوم ما ثبت في « الصحيحين » عن جابر بن عبد الله قال : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن لحوم الحمر الأهلية وأذن في لحوم الخيل » ، وعن جابر قال : « ذبحنا يوم خيبر الخيل والبغال والحمير ، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن البغال والحمير ، ولم ينهنا عن الخيل » وفي « صحيح مسلم » عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما قالت : نحرنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرساً فأكلناه ونحن بالمدينة فهذه أدل وأقوى وأثبت ، وإلى ذلك صار جمهور العلماء مالك والشافعي وأحمد وأصحابهم وأكثر السلف والخلف والله أعلم .(1/1354)
وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ وَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9)
لما ذكر تعالى في هذه السورة الحيوانات من الأنعام وغيرها التي يركبونها ويبلغون عليها حاجة في صدورهم ، وتحمل أثقالهم إلى البلاد والأماكن البعيدة والأسفار الشاقة ، شرع في ذكر الطرق التي يسلكها الناس إليه ، فبيَّن أن الحق منها ما هي موصلة إليه فقال : { وعلى الله قَصْدُ السبيل } ، كقوله : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] وقال : { قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ } [ الحجر : 41 ] ، قال مجاهد في قوله : { وعلى الله قَصْدُ السبيل } ، قال : طريق الحق على الله . وقال السدي : { وعلى الله قَصْدُ السبيل } الإسلام ، وقال ابن عباس : وعلى الله البيان أي يبين الهدى والضلالة . وقول مجاهد هاهنا أقوى من حيث السياق ، لأنه تعالى أخبر أن ثم طرقاً تسلك إليه ، فليس يصل إليها منها إلا طريق الحق ، وهي الطريق التي شرعها ورضيها ، وما عداها مسدودة والأعمال فيها مردودة ، ولهذا قال تعالى : { وَمِنْهَا جَآئِرٌ } أي حائد مائل زائل عن الحق . قال ابن عباس وغيره : هي الطرق المختلفة والآراء والأهواء المتفرقة كاليهودية والنصرانية والمجوسية ، وقرأ ابن مسعود : { منكم جائر } ؛ ثم أخبر تعالى أن ذلك كله كائن عن قدرته ومشيئته فقال : { وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } ، كما قال تعالى : « وَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } ، وقال : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً » [ هود : 118 ] الآية .(1/1355)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنَابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11)
لما ذكر تعالى ما أنعم به عليهم من الأنعام والدواب ، وشرع في ذكر نعمته عليهم في إنزال المطر من السماء - وهو العلو - مما لهم فيه بلغة ومتاع لهم ولأنعامهم فقال : { لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ } أي جعله عذباً زلالاً يسوغ لكم شرابه ولم يجعله ملحاً أجاجاً ، { وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ } أي وأخرج لكم منه شجراً ترعون فيه أنعامكم ، كما قال ابن عباس : { تُسِيمُونَ } أي ترعون ومنه الإبل السائمة ، والسوم : الرعي . روى ابن ماجه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن السوم قبل طلوع الشمس . وقوله : { يُنبِتُ لَكُمْ بِهِ الزرع والزيتون والنخيل والأعناب وَمِن كُلِّ الثمرات } أي يخرجها من الأرض بهذا الماء الواحد على اختلاف صنوفها وطعومها وألوانها وروائحها وأشكالها ، ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي دلالة وحجة على أنه لا إله إلا الله ، كما قال تعالى : { أَمَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ السمآء مَآءً فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَآئِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُواْ شَجَرَهَا أإله مَّعَ الله بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ } [ النمل : 60 ] ، ثم قال تعالى .(1/1356)
وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفًا أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)
ينبّه تعالى عباده على آياته العظام ، ومننه الجسام في تسخيره الليل والنهار يتعاقبان ، والشمس والقمر يدوران ، والنجوم الثوابت والسيارات في أرجاء السماوات ، نوراً وضياء ليهتدي بها في الظلمات ، وكل منها يسير في فلكه الذي جعله الله تعالى فيه ، يسير بحركة مقدرة لا يزيد عليها ولا ينقص عنها ، والجميع تحت قهره وسلطانه وتسخيره وتقديره وتسهيله كقوله : { والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } [ الأعراف : 54 ] ولهذا قال : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي دلالات على قدرته تعالى الباهرة وسلطانه العظيم ، لقوم يعقلون عن الله ويفهمون حججه . وقوله : { وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأرض مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ } لما نبه تعالى على معالم السماء نبه على ما خلق في الأرض من الأمور العجيبة والأشياء المختلفة ، من الحيوانات والمعادن والنباتات والجمادات ، على اختلاف ألوانها وأشكالها وما فيها من المنافع والخواص { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } أي آلاء الله ونعمه فيشكرونها .(1/1357)
وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْمًا طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الْأَرْضِ رَوَاسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَارًا وَسُبُلًا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلَامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لَا يَخْلُقُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)
يخبر تعالى عن تسخيره البحر المتلاطم الأمواج ، ويمتن على عباده بتذليله لهم وتيسيرهم للركوب فيه ، وما يخلقه فيه من اللآلئ والجواهر النفيسة ، وتسهيله للعباد استخراجهم من قراره حلية يلبسونها ، وتسخيره البحر لحمل السفن التي تمخره أي تشقه ، وقيل : تمخر الرياح وكلاهما صحيح ، الذي أرشد العباد إلى صنعتها ، وهداهم إلى ذلك إرثاً عن نوح عليه السلام ، فإنه أول من ركب السفن ، وله كان تعليم صنعتها ، ثم أخذها الناس عنه قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل ، يسيرون من قطر إلى قطر ، ومن بلد إلى بلد ، لجلب ما هناك من الأرزاق ، ولهذا قال تعالى : { وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي نعمه وإحسانه؛ ثم ذكر تعالى الأرض وما ألقى فيها من الرواسي الشامخات والجبال الراسيات لتقر الأرض ولا تميد ، أي تضطرب بما عليها من الحيوانات ، فلا يهنأ لهم عيش بسبب ذلك ، ولهذا قال : { والجبال أَرْسَاهَا } [ النازعات : 32 ] وقال الحسن : لما خلقت الأرض كانت تميد فقالوا : ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً ، فأصبحوا وقد خلقت الجبال ، فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال؟ وقال سعيد ، عن قيس بن عبادة : إن الله لما خلق الأرض جعلت تمور فقالت الملائكة : ما هذه بمقرة على ظهرها أحداً ، فأصبحت صبحاً وفيها رواسيها . وقوله : { وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً } أي جعل فيها أنهاراً تجري من مكان إلى مكان آخر رزقاً للعباد ينبع في موضع ، وهو رزق لأهل موضع آخر ، فيقطع البقاع والبراري والقفار ، ويخترق الجبال والآكام ، فيصل إلى البلد الذي سخر لأهله ، وهي سائرة في الأرض يمنة ويسرة وجنوباً وشمالاً وشرقاً وغرباً ، ما بين صغار وكبار ، وأودية تجري حيناً وتنقطع في وقت ، وما بين نبع وجمع ، وقوي السير وبطيئه بحسب ما أراد وقدّر وسخّر ويسر ، فلا إله إلا هو ولا رب سواه ، وكذلك جعل فيها { سُبُلاً } أي طرقاً يسلك فيها من بلاد إلى بلاد حتى إنه تعالى ليقطع الجبل حتى يكون ما بينهما ممراً ومسلكاً ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا فِجَاجاً سُبُلاً } [ الأنبياء : 31 ] الآية . وقوله : { وَعَلامَاتٍ } أي دلائل من جبال كبار وآكام وصغار ونحو ذلك يستدل بها المسافرون وبحراً إذا ضلوا الطرق . وقوله : { وبالنجم هُمْ يَهْتَدُونَ } أي في ظلام الليل ، قاله ابن عباس ، ثم نبّه تعالى على عظمته وأنه لا تنبغي العبادة إلا له دون ما سواه من الأوثان التي لا تخلق شيئاً بل هم يخلقون ، ولهذا قال : { أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ } ثم نبههم على كثرة نعمة عليهم وإسحانه إليهم فقال : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ الله لاَ تُحْصُوهَآ إِنَّ الله لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي يتجاوز عنكم ولو طالبكم بشكر جميع نعمه لعجزتم عن القيام بذلك ، ولو أمركم به لضعفتم وتركتم ، ولو عذبكم وهو غير ظالم لكم ، ولكنه غفور رحيم يغفر الكثير ويجازي على اليسير . وقال ابن جرير : يقول : إن الله لغفور لما كان منكم من تقصير في شكر بعض ذلك إذا تبتم وأنبتم إلى طاعته واتباع مرضاته ، رحيم بكم لا يعذبكم بعد الإنابة والتوبة .(1/1358)
وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْوَاتٌ غَيْرُ أَحْيَاءٍ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)
يخبر تعالى أنه يعلم الضمائر والسرائر كما يعلم الظواهر ، وسيجزي كل عامل بعمله يوم القيامة إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، ثم أخبر أن الأصنام التي يدعونها من دون الله لا يخلقون شيئاً وهم يخلقون ، كما قال الخليل : { قَالَ أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ * والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95-96 ] ، وقوله : { أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَآءٍ } أي هي جمادات لا أرواح فيها لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل { وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ } أي لا يدرون متى تكون الساعة فكيف يرتجى عند هذه نفع أو ثواب أو جزاء؟ إنما يرجى ذلك من الذي يعلم كل شيء وهو خالق كل شيء .(1/1359)
إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَهُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لَا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)
يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو الواحد الأحد الفرد الصمد ، وأخبر أن الكافرين تنكر قلوبهم ذلك كما أخبر عنهم متعجبين من ذلك : { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجَابٌ } [ ص : 5 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } [ الزمر : 54 ] ، وقوله : { وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ } أي عن { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] ، ولهذا قال هاهنا { لاَ جَرَمَ } أي حقاً ، { أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } أي وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المستكبرين } .(1/1360)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (25)
يقول تعالى : وإذا قيل لهؤلاء المكذبين : { مَّاذَآ أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ } معرضين عن الجواب { أَسَاطِيرُ الأولين } أي لم ينزل شيئاً إنما هذا الذي يتلى علينا أساطير الأولين ، أي مأخوذ من كتب المتقدمين ، كما قال تعالى : { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها فَهِيَ تملى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } [ الفرقان : 5 ] أي يفترون على الرسول ويقولون أقوالاً متضادة مختلفة كلها باطلة ، كما قال تعالى : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 48 ] وذلك أن كل من خرج عن الحق فمهما قال أخطأ ، وكانوا يقولون : ساحر وشاعر وكاهن ومجنون ، ثم استقر أمرهم إلى ما اختلقه لهم شيخهم المسمى بالوليد بن المغيرة لما { فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ واستكبر * فَقَالَ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ } [ المدثر : 24 ] أي ينقل ، ويحكى : فتفرقوا عن قوله ورأيه قبحهم الله ، قال الله تعالى : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، أي إنما قدرنا عليهم أن يقولوا ذلك ليتحملوا أوزارهم ومن أوزار الذين يتبعونهم ويوافقونهم ، أي يصير عليهم خطيئة ضلالهم في أنفسهم ، وخطيئة إغوائهم لغيرهم واقتداء أولئك بهم ، كما جاء في الحديث : « من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً » ، روى العوفي عن ابن عباس في الآية : { لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ القيامة وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } إنها كقوله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] ، وقال مجاهد : يحملون أثقالهم ، ذنوبهم وذنوب من أطاعهم ، ولا يخفف عمن أطاعهم من العذاب شيئاً .(1/1361)
قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27)
قال ابن عباس في قوله تعالى : { قَدْ مَكَرَ الذين مِنْ قَبْلِهِمْ } قال : هو النمروذ الذي بنى الصرح؛ وقال زيد بن أسلم : أول جبار كان في الأرض النمروذ ، وقال آخرون ، بل هو بختنصر ، وقال آخرون : هذا من المثل لإبطال ما صنعه هؤلاء الذين كفروا بالله وأشركوا في عبادته غيره ، كما قال نوح عليه السلام : { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } [ نوح : 22 ] أي احتالوا في إضلال الناس بكل حيلة وأمالوهم إلى شركهم بكل وسيلة كما يقول لهم أتباعهم يوم القيامة ، { بَلْ مَكْرُ اليل والنهار إِذْ تَأْمُرُونَنَآ أَن نَّكْفُرَ بالله وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً } [ سبأ : 33 ] الآية . وقوله : { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد } أي اجتثه من أصله وأبطل عملهم ، كقوله تعالى : { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } [ المائدة : 64 ] ، وقوله : { فَأَتَاهُمُ الله مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُواْ وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرعب } [ الحشر : 2 ] ، وقال الله هاهنا : { فَأَتَى الله بُنْيَانَهُمْ مِّنَ القواعد فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السقف مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * ثُمَّ يَوْمَ القيامة يُخْزِيهِمْ } أي يظهر فضائحهم وما كانت تجنه ضمائرهم فيجعله علانية كقوله تعالى : { يَوْمَ تبلى السرآئر } [ الطارق : 9 ] أي تظهر وتشتهر ، كما في « الصحيحين » عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته ، فيقال : هذه غدرة فلان بن فلان » وهكذا هؤلاء يظهر للناس ما كانوا يسرونه من المكر ويخزيهم الله على رؤوس الخلائق ، ويقول لهم الرب تبارك وتعالى مقرعاً لهم وموبخاً : { أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ } ؟ تحاربون وتعادون في سبيلهم أين هم عن نصركم وخلاصكم هاهنا؟ { يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ } [ الشعراء : 93 ] ، { فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ } [ الطارق : 10 ] ، فإذا توجهت عليهم الحجة وقامت عليهم الدلالة : وحقت عليهم الكلمة وسكتوا عن الاعتذار حين لا فرار ، { قَالَ الذين أُوتُواْ العلم } وهم السادة في الدنيا والآخرة : { إِنَّ الخزي اليوم والسواء عَلَى الكافرين } أي الفضيحة والعذاب محيط اليوم بمن كفر بالله ، وأشرك به ما لا يضره وما لا ينفعه .(1/1362)
الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)
يخبر تعالى عن حال المشركين الظالمي أنفسهم عند احتضارهم ومجيء الملائكة إليهم القبض أرواحهم الخبيثة { فَأَلْقَوُاْ السلم } أي أظهروا السمع والطاعة والانقياد قائلين : { مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سواء } ، كما يقولون يوم المعاد : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، قال الله مكذباً لهم في قيلهم ذلك : { بلى إِنَّ الله عَلِيمٌ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ * فادخلوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى المتكبرين } أي بئس المقبل والمقام ، والمكان ، من دار هوان لمن كان متكبراً عن آيات الله واتباع رسله ، وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم ، وينال أجسادهم في قبورها من حرها وسمومها ، فإذا كان يوم القيامة سلكت أرواحهم في أجسادهم ، وخلدت في نار جهنم { لاَ يقضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُواْ وَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِّنْ عَذَابِهَا } [ فاطر : 36 ] ، كما قال الله تعالى : { النار يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا غُدُوّاً وَعَشِيّاً وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } [ غافر : 46 ] .(1/1363)
وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قَالُوا خَيْرًا لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلَامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)
هذا خبر عن السعداء بخلاف ما أخبر به عن الأشقياء ، فإن أولئك قيل لهم : { مَاذَا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ } قالوا : معرضين عن الجواب ، لم ينزل شيئاً إنما ها أساطير الأولين ، وهؤلاء قالوا : خيراً أي أنزل خيراً ، أي رحمة وبركة لمن اتبعه وآمن به ، ثم أخبر عما وعد الله عباده فيما أنزله على رسله ، فقال : { لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هذه الدنيا حَسَنَةٌ } الآية ، كقوله تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً } [ النحل : 97 ] أي من أحسن عمله في الدنيا أحسن الله إليه عمله في الدنيا والآخرة ، ثم أخبر بأن دار الآخرة خير ، أي من الحياة الدنيا والجزاء فيها أتم من الجزاء في الدنيا ، كقوله : { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } [ آل عمران : 198 ] ، وقال تعالى : { والآخرة خَيْرٌ وأبقى } [ الأعلى : 17 ] ، وقال لرسوله صلى الله عليه وسلم : { وَلَلآخِرَةُ خَيْرٌ لَّكَ مِنَ الأولى } [ الضحى : 4 ] ، ثم وصف الدار الآخرة فقال : { وَلَنِعْمَ دَارُ المتقين } ، وقوله : { جَنَّاتُ عَدْنٍ } بدل من دار المتقين ، أي لهم في الآخرة جنات عدن أي مقام يدخلونها ، { تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أي بين أشجارها وقصورها ، { لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤونَ } ، كقوله تعالى : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الزخرف : 71 ] ، وفي الحديث : « إن السحابة لتمر بالملأ من أهل الجنة وهم جلوس على شرابهم ، فلا يشتهي أحد منهم شيئاً إلا أمطرته عليه ، حتى إن منهم لمن يقول : أمطرينا كواعب أتراباً فيكون ذلك » ، { كَذَلِكَ يَجْزِي الله المتقين } ، أي كذلك يجزي الله كل من آمن به واتقاه وأحسن عمله ، ثم أخبر تعالى عن حالهم عند الاحتضار أنهم طيبون ، أي مخلصون من الشرك والدنس وكل سوء ، وأن الملائكة تسلم عليهم وتبشرهم بالجنة ، كقوله تعالى : { إِنَّ الذين قَالُواْ رَبُّنَا الله ثُمَّ استقاموا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الملائكة أَلاَّ تَخَافُواْ وَلاَ تَحْزَنُواْ وَأَبْشِرُواْ بالجنة التي كُنتُمْ تُوعَدُونَ } [ فصلت : 30 ] . وقد قدمنا الأحاديث الواردة في قبض روح المؤمن وروح الكافر عند قوله تعالى : { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت } [ إبراهيم : 27 ] الآية .(1/1364)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُوا وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34)
يقول تعالى مهدداً للمشركين على تماديهم في الباطل واغترارهم بالدنيا : هل ينتظر هؤلاء إلا الملائكة أن تأتيهم لقبض أرواحهم ، قاله قتادة { أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ } أي يوم القيامة وما يعاينونه من الأهوال . وقوله : { كَذَلِكَ فَعَلَ الذين مِن قَبْلِهِمْ } أي هكذا تمادى في شركهم أسلافهم ونظراؤهم وأشباههم من المشركين ، حتى ذاوا بأس الله ، وحلوا فيما هم فيه من العذاب والنكال ، { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله } لأنه تعالى أعذر إليهم وأقام حججه عليهم بإرسال رسله ، وإنزال كتبه ، { ولكن كَانُواْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي بمخالفة الرسل والتكذيب بما جاءوا به؛ فلهذا أصابتهم عقوبة الله على ذلك ، { وَحَاقَ بِهِم } أي أحاط بهم من العذاب الأليم ، { مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } أي يسخرون من الرسل إذا توعدوهم بعقاب الله فلهذا يقال لهم يوم القيامة { هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ } [ الطور : 14 ] .(1/1365)
وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا عَبَدْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ نَحْنُ وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِنْ تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (37)
يخبر تعالى عن اغترار المشركين بما هم فيه من الإشراك واعتذارهم محتجين بالقدر بقولهم : { لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ ولا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } أي من البحائر والسوائب والوصائل وغير ذلك ممّا كانوا ابتدعوه واخترعوه من تلقاء أنفسهم ما لم ينزل به سلطاناً ، ومضمون كلامهم أنه لو كان تعالى كارهاً لما فعلنا لأنكره علينا بالعقوبة ولما أمكننا منه؛ قال تعالى راداً عليهم شبهتهم : { فَهَلْ عَلَى الرسل إِلاَّ البلاغ المبين } أي ليس الأمر كما تزعمون أنه لم ينكره عليكم ، بل قد أنكره عليكم أشد الإنكار ونهاكم عنه آكد النهي ، وبعث في كل أمة أي في كل قرن وطائفة من الناس رسولاً ، فلم يزل تعالى يرسل إلى الناس الرسل بذلك منذ حدث الشرك في بني آدم في قوم نوح الذين أرسل إليهم نوح ، وكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، إلى أن ختمهم بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي طبقت دعوته لإنس والجن في المشارق والمغارب . { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } فكيف يسوغ لأحد من المشركين بعد هذا أن يقول : { لَوْ شَآءَ الله مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ } ؟ فمشيئته تعالى الشرعية عنهم منتفية لأنه نهاهم عن ذلك على ألسنة رسله؛ وأما مشيئته الكونية وهي تمكينهم من ذلك قدراً فلا حجة لهم فيها ، لأنه تعالى خلق النار وأهلها من الشياطين والكفرة وهو لا يرضى لعباده الكفر ، وله في ذلك حجة بالغة وحكمة قاطعة ، ثم إنه تعالى قد أخبر أنه أنكر عليهم بالعقوبة في الدنيا بعد إنذار الرسل ، فلهذا قال : { فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى الله وَمِنْهُمْ مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضلالة فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ } أي أسألوا عما كان من أمر من خالف الرسل وكذب الحق ، كيف { دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [ محمد : 10 ] ، فقال : { وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } [ الملك : 18 ] ، ثم أخبر الله تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن حرصه على هدايتهم لا ينفعهم ، إذا كان الله قد أراد إضلالهم ، كقوله تعالى : { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } [ المائدة : 41 ] ، وقال نوح لقومه : { وَلاَ يَنفَعُكُمْ نصحي إِنْ أَرَدْتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ الله يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ } [ هود : 34 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة : { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ } . كما قال تعالى : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأعراف : 186 ] ، وقوله : { فَإِنَّ الله } أي شأنه وأمره ، { لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ } أي من أضله ، فمن ذا الذي يهديه من بعد الله؟ أي لا أحد { وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } أي ينقذونه من عذابه ووثاقه { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } [ الأعراف : 54 ] .(1/1366)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلَى وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كَانُوا كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)
يقول تعالى مخبراً عن المشركين أنهم حلفوا فأقسموا بالله { جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي اجتهدوا في الحلف وغلظوا الأيمان أنه لا يبعث الله من يموت ، أي استبعدوا ذلك وكذبوا الرسل في إخبارهم لهم بذلك ، وحلفوا على نقيضه . فقال تعالى مكذباً لهم وراداً عليهم : { بلى } أي بلى سيكون ذلك ، { وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً } أي لا بد منه ، { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَعْلَمُونَ } أي فلجهلهم يخالفون الرسل ويقعون في الكفر . ثم ذكر تعالى حكمته في المعاد وقيام الأجساد يوم التناد فقال : { لِيُبَيِّنَ لَهُمُ } أي للناس ، { الذي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ } أي من كل شيء ، { وَلِيَعْلَمَ الذين كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ } أي في أيمانهم وأقسامهم لا يبعث الله من يموت . ثم أخبر تعالى عن قدتره على ما يشاء وأنه لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء ، والمعاد من ذلك إذا أراد كونه فإنما يأمر به مرة واحدة ، فيكون كما يشاء كقوله : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } [ القمر : 50 ] ، وقال : { مَّا خَلْقُكُمْ وَلاَ بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ } [ لقمان : 28 ] ، وقال في هذه الآية الكريمة : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي أنه تعالى لا يحتاج إلى تأكيد فيما يأمر به فإنه تعالى لا يمانع ، ولا يخالف ، لأنه الواحد القهار ، العظيم الذي قهر سلطانه وجبروته وعزته كل شيء فلا إله إلا هو ولا رب سواه .(1/1367)
وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)
يخبر تعالى عن جزائه للمهاجرين في سبيله ابتغاء مرضاته ، الذين فارقوا الدار والإخوان والخلان رجاء ثواب الله وجزائه ، وقد وعدهم تعالى بالمجازاة الحسنة في الدنيا والآخرة فقال : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً } ، قال ابن عباس : المدينة ، وقيل : الرزق الطيب ، قاله مجاهد ، ولا منافاة بين القولين ، فإنهم تركوا مساكنهم وأموالهم فعوضهم الله خيراً منها في الدنيا ، فإن من ترك شيئاً لله عوضه الله بما هو خير له منه ، وكذلك وقع ، فإن الله مكن لهم في البلاد ، وحكمهم على رقاب العباد ، وصاروا أمراء حكاماً وكل منهم للمتقين إماماً ، وأخبر أن ثوابه للمهاجرين في الدار الآخرة أعظم مما أعطاهم في الدنيا فقال : { وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ } أي مما أعطيناهم في الدنيا { لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } أي لو كان المتخلفون عن الهجرة معهم يعلمون ما ادخر الله لمن أطاعه واتبع رسوله ، ولهذا كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه إذا أعطى الرجل من المهاجرين عطاءه يقول : خذ بارك الله لك فيه ، هذا ما وعدك الله في الدنيا ، وما ادخر لك في الآخرة أفضل ، ثم قرأ هذه الآية : { لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدنيا حَسَنَةً وَلأَجْرُ الآخرة أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } ، ثم وصفهم تعالى فقال : { الذين صَبَرُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } أي صبروا على الأذى من قومهم متوكلين على الله الذي أحسن لهم العاقبة في الدنيا والآخرة .(1/1368)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجَالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44)
قال ابن عباس : لما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم رسولاً أنكرت العرب ذلك أو من أنكر منهم وقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشراً فأنزل الله : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس } [ يونس : 2 ] الآية ، وقال : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } يعني أهل الكتب الماضية أبشراً كانت الرسل إليهم أم ملائكة؟ فإن كانوا ملائكة أنكرتم ، وإن كانوا بشراً فلا تنكروا أن يكون محمد صلى الله عليه وسلم رسولاً ، والغرض أن هذه الآية الكريمة أخبرت بأن الرسل الماضين قبل محمد صلى الله عليه وسلم كانوا بشراً كما هو بشر ، كما قال تعالى : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 93 ] ، وقال : { قُلْ مَا كُنتُ بِدْعاً مِّنَ الرسل } [ الأحقاف : 9 ] ، وقال تعالى : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ } [ فصلت : 6 ] ، ثم أرشد الله تعالى من شك في كون الرسل كانوا بشراً إلى سؤال أصحاب الكتب المتقدمة عن الأنبياء الذي سلفوا ، هل كان أنبياؤهم بشراً أو ملائكة ، ثم ذكر تعالى أنه أرسلهم { بالبينات } أي بالحجج والدلائل { والزبر } وهي الكتب ، قاله ابن عباس ومجاهد : والزبر : جمع زبور ، تقول العرب : زبرت الكتاب إذا كتبته . وقال تعالى : { وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزبر } [ القمر : 52 ] ، وقال : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] ، ثم قال تعالى : { وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذكر } يعني القرآن { لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ } أي من ربهم لعلمك بمعنى ما أنزل الله عليك ، وحرصك عليه واتباعك له ، ولعلمنا بأنك أفضل الخلائق وسيد ولد آدم فتفصل لهم ما أجمل وتبين لهم ما أشكل والمراد بأهل الذكر أهل الكتاب ، { وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي ينظرون لأنفسهم فيهتدون فيفوزون بالنجاة في الدارين .(1/1369)
أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)
يخبر تعالى عن حلمه وإنظاره العصاة الذين يعملون السيئات ويدعون إليها ، ويمكرون بالناس في دعائهم إياهم وحملهم عليها مع قدرته على أن يخسف بهم الأرض ، أو يأتيهم العذاب من حيث لا يشعرون ، أي من حيث لا يعلمون مجيئه إليهم ، كقوله تعالى : { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِيَ تَمُورُ } [ الملك : 16 ] ، وقوله : { أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ } أي في تقلبهم في المعايش واشتغالهم بها في أسفار ونحوها من الأشغال الملهية ، قال قتادة والسدي : تقلبهم أي أسفارهم؛ وقال مجاهد والضحّاك : { فِي تَقَلُّبِهِمْ } في الليل والنهار ، كقوله : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ } [ الأعراف : 97 ] ، وقوله : { فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } أي لا يعجزون الله على أي حال كانوا عليه ، وقوله : { أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ } أي أو يأخذهم الله في حال خوفهم من أخذه لهم ، فإنه يكون أبلغ وأشد ، فإن حصول ما يتوقع مع الخوف شديد ، ولهذا قال ابن عباس : { أَوْ يَأْخُذَهُمْ على تَخَوُّفٍ } يقول : إن شئت أخذت على أثر موت صاحبه وتخوفه بذلك ، ثم قال تعالى : { فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيم } أي حيث لم يعاجلكم بالعقوبة ، كما ثبت في « الصحيحين » : « لا أجد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم » ، وقال تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير } [ الحج : 48 ] .(1/1370)
أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى مَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلَالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالشَّمَائِلِ سُجَّدًا لِلَّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ دَابَّةٍ وَالْمَلَائِكَةُ وَهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50)
يخبر تعالى عن عظمته وجلاله وكبريائه الذي خضع له كل شيء ، ودانت له الأشياء والمخلوقات بأسرها ، جماداتها وحيواناتها ومكلفوها من الإنس والجن والملائكة ، فأخبر أن كل ما له ظل يتفيأ ذات اليمين وذات الشمال ، أي بكرة وعشياً فإنه ساجد بظله لله تعالى . قال مجاهد : إذا زالت الشمس سجد كل شيء لله عزّ وجلّ ، وقوله : { وَهُمْ دَاخِرُونَ } أي صاغرون . وقال مجاهد أيضاً : سجود كل شيء فيؤه ، وأمواج البحر صلاته ، ونزلهم منزلة من يعقل إذ أسند السجود إليهم ، فقال : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ } ، كما قال : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال } [ الرعد : 15 ] ، وقوله : { يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ } أي تسجد لله أي غير مستكبرين عن عبادته ، { والملائكة وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي يسجدون خائفين وجلين من الرب جل جلاله ، { وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } أي مثابرين على طاعته تعالى وامتثال أوامره ، وترك زواجره .(1/1371)
وَقَالَ اللَّهُ لَا تَتَّخِذُوا إِلَهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِبًا أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)
يخبر تعالى أنه لا إله إلا هو ، وأنه لا ينبغي العبادة إلا له وحده لا شريك له ، فإنه مالك كل شيء وخالقه وربه { وَلَهُ الدين وَاصِباً } ، قال ابن عباس ومجاهد : أي دائماً ، وعن ابن عباس أيضاً : أي واجباً ، وقال مجاهد : أي خالصاً له ، أي له العبادة وحده ممن في السماوات والأرض ، كقوله : { أَلاَ لِلَّهِ الدين الخالص } [ الزمر : 3 ] ، ثم أخبر أنه مالك النفع والضر ، وأن ما بالعباد من رزق ونعمة وعافية ونصر فمن فضله عليهم ، وإحسانه إليهم ، { ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضر فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ } أي لعلمكم أنه لا يقدر على إزالته إلا هو ، فإنكم عند الضرورات تلجأون إليه ، وتسألونه وتلحون في الرغبة إليه مستغيثين به ، كقوله تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] ، وقال هاهنا : { ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضر عَنْكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنْكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ * لِيَكْفُرُواْ بِمَآ آتَيْنَاهُمْ } قيل : اللام هاهنا لام العاقبة ، وقيل : لام التعليل بمعنى قيضنا لهم ذلك ليكفروا أي يستروا ويجحدوا نعم الله عليهم ، مع أنه المسدي إليهم النعم ، الكاشف عنهم النقم ، ثم توعدهم قائلاً : { فَتَمَتَّعُواْ } أي اعملوا ما شئتم وتمتعوا بما أنتم فيه قليلاً { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } أي عاقبة ذلك .(1/1372)
وَيَجْعَلُونَ لِمَا لَا يَعْلَمُونَ نَصِيبًا مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلَا سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)
يخبر تعالى عن قبائح المشركين الذين عبدوا مع الله غيره من الأصنام والأوثان والأنداد بغير علم وجعلوا للأوثان نصيباً مما رزقهم الله ، فقالوا : { هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا } [ الأنعام : 136 ] أي جعلوا لآلهتهم نصيباً مع الله وفضلوها على جانبه ، فأقسم الله تعالى بنفسه الكريمة ليسألنهم عن ذلك الذي افتروه وائتفكوه ، وليقابلنهم عليه وليجازينهم أوفر الجزاء في نار جهنم فقال : { تالله لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ } ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم جعلوا الملائكة إناثاً وجعلوها بنات الله ، فعبدوها معه ، فنسبوا إليه تعالى الولد ولا ولد له ، ثم أعطوه أخس القسمين من الأولاد وهو البنات وهم لا يرضونها لأنفسهم ، كما قال : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } [ النجم : 21-22 ] ، وقوله هاهنا : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ } أي عن قولهم وإفكهم ، { أَلاَ إِنَّهُم مِّنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ * وَلَدَ الله وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * أَصْطَفَى البنات على البنين * مَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ } [ الصافات : 151-154 ] ، وقوله : { وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } أي يختارون لأنفسهم الذكور ويأنفون لأنفسهم من البنات التي نسبوها إلى الله ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً . فإنه { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً } أي كئيباً من الهم { وَهُوَ كَظِيمٌ } ساكت من شدة ما هو فيه من الحزن ، { يتوارى مِنَ القوم } أي يكره أن يراه الناس ، { مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ على هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب } أي إن أبقاها أبقاها مهانة لا يورثها ولا يعتني بها ، ويفضل أولاده الذكور عليها ، { أَمْ يَدُسُّهُ فِي التراب } أي يئدها وهو أن يدفنها فيه حية كما كانوا يصنعون في الجاهلية ، أفمن يكرهونه هذه الكراهة ويأنفون لأنفسهم عنه يجعلونه لله؟ { أَلاَ سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي بئس ما قالوا ، وبئس ما قسموا ، وبئس ما نسبوه إليه ، كقوله تعالى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ للرحمن مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [ الزخرف : 17 ] ، وقوله : هاهنا : { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء } أي النقص إنما ينسب إليهم { وَلِلَّهِ المثل الأعلى } أي الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه { وَهُوَ العزيز الحكيم } .(1/1373)
وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ مَا تَرَكَ عَلَيْهَا مِنْ دَابَّةٍ وَلَكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لَا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَأَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62)
يخبر تعالى عن حلمه بخلقه مع ظلمهم ، وأنه لو يؤاخذهم بما كسبوا ما ترك على ظهر الأرض من دابة ، أي لأهلك دواب الأرض ومعهم بنو آدم ، ولكن الرب جل جلاله يحلم ويستر ، وينظر إلى أجل مسمى أي لا يعاجلهم بالعقوبة إذ لو فعل ذلك بهم لما أبقى أحداً . وفي الحديث : « إن الله لا يؤخر شيئاً إذا جاء أجله ، وإنما زيادة العمر بالذرية الصالحة يرزقها الله العبد فيدعون له من بعده ، فيلحقه دعاؤهم في قبره ، فذلك زيادة العمر » وقوله : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ مَا يَكْرَهُونَ } أي من البنات ومن الشركاء الذين هم عبيده وهم يأنفون أن يكون عند أحدهم شريك له في ماله ، وقوله : { وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الكذب أَنَّ لَهُمُ الحسنى } إنكار عليهم في دعواهم مع ذلك أن لهم الحسنى في الدنيا ، كقوله : { وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ رَحْمَةً مِّنَّا مِن بَعْدِ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَآئِمَةً وَلَئِن رُّجِعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] ، وقوله : { أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } [ مريم : 77 ] فجمع هؤلاء بين عمل السوء ، وتمني الباطل بأن يجازوا على ذلك حسناً وهذا مستحيل ، يعملون السيئات ويجزون الحسنات؟ أيجتنى من الشوك العنب؟ ولهذا قال تعالى رداً عليهم في تمنيهم ذلك : { لاَ جَرَمَ } أي حقاً لا بد منه ، { أَنَّ لَهُمُ النار } أي يوم القيامة ، { وَأَنَّهُمْ مُّفْرَطُونَ } ، قال مجاهد وسعيد بن جبير وقتادة وغيرهم : منسيون فيها مضيعون ، وهذا كقوله تعالى : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } [ الأعراف : 51 ] وعن قتادة أيضاً { مُّفْرَطُونَ } : أي معجلون إلى النار من الفرط وهو السابق إلى الورد ، ولا منافاة لأنهم يعجل بهم يوم القيامة إلى النار وينسون فيها أي يخلدون .(1/1374)
تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَاللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)
يذكر تعالى أنه أرسل إلى الأمم الخالية رسلاً فكذبت الرسل ، فلك يا محمد في إخوتك من المرسلين أسوة فلا يُهمنَّك تكذيب قومك لك ، وأما المشركون الذين كذبوا الرسل فإنما حملهم على ذلك تزيين الشيطان لهم ما فعلوه { فَهُوَ وَلِيُّهُمُ اليوم } أي هم تحت العقوبة والنكال ، والشيطان وليهم ولا يملك خلاصاً ، ولا صريخ لهم ولهم عذاب أليم ، ثم قال تعالى لرسوله إنه إنما أنزل عليه الكتاب ليبين للناس الذي يختلفون فيه ، فالقرآن فاصل بين الناس في كل ما يتنازعون فيه ، { وَهُدًى } أي للقلوب ، { وَرَحْمَةً } أي لمن تمسك به ، { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } ، وكما جعل سبحانه القرآن حياة للقلوب الميتة بكفرها كذلك يحيي الأرض بعد موتها بما أنزله عليها من السماء من ماء { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ } أي يفهمون الكلام ومعناه .(1/1375)
وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)
يقول تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ } أيها الناس { فِي الأنعام } وهي الإبل والبقر والغنم ، { لَعِبْرَةً } أي لآية ودلالة على حكمة خالقها وقدرته ورحمته ولطفه ، { نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ } الضمير عائد على الحيوان ، فإن الأنعام حيوانات ، أي نسقيكم مما في بطن هذا الحيوان ، وفي الآية الأخرى { مِّمَّا فِي بُطُونِهَا } [ المؤمنون : 21 ] ويجوز هذا وهذا ، كما في قوله : { كَلاَّ إِنَّهَا تَذْكِرَةٌ * فَمَن شَآءَ ذَكَرَهُ } [ عبس : 11-12 ] ، وقوله : { مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً } أي يتخلص الدم بياضه وطعمه وحلاوته ، من بين فرث ودم في باطن الحيوان ، فيسري كل إلى موطنه إذا نضج الغذاء في معدته ، فيصرف منه دم إلى العروق ، ولبن إلى الضرع ، وبول إلى المثانة ، وروث إلى المخرج ، وكل منها لا يشوب الآخر ، ولا يمازجه بعد انفصاله عنه ولا يتغير به . وقوله : { لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } أي لا يغص به أحد ، ولما ذكر اللبن وأنه تعالى جعله شراباً للناس سائغاً ثنى بذكر ما يتخذه الناس من الأشربة من ثمرات النخيل والأعناب ، وما كانوا يصنعون من النبيذ المسكر قبل تحريمه ، ولهذا امتن به عليهم فقال : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً } ، قال ابن عباس : السكر ما حرم من ثمرتيهما ، والرزق الحسن ما أحل من ثمرتيهما ، وفي رواية : السكر حرامه ، والرزق الحسن حلاله ، يعني ما يبس منهام من تمر وزبيب ، وما عمل منهما من طلاء وهو الدبس وخل ونبيذ حلال يشرب قبل أن يشتد ، كما وردت السنة بذلك { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } ناسب ذكر العقل هاهنا فإنه أشرف ما في الإنسان ، ولهذا حرم الله على هذه الأمة الأشربة المسكرة صيانة لعقولها وقال الله تعالى : { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ وَفَجَّرْنَا فِيهَا مِنَ العيون * لِيَأْكُلُواْ مِن ثَمَرِهِ وَمَا عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَفَلاَ يَشْكُرُونَ } [ يس : 34-35 ] ؟ .(1/1376)
وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)
المراد بالوحي هنا ( الإلهام ) والهداية والإرشاد للنحل ، أن تتخذ من الجبال بيوتاً تأوي إليها ، ومن الشجر ومما يعرشون ، ثم أذن لها تعالى إذناً قدرياً تسخيرياً أن تأكل من كل الثمرات ، وأن تسلك الطرق التي جعلها الله تعالى مذللة لها أي مسهلة عليها حيث شاءت من هذا الجو العظيم والبراري الشاسعة والأودية والجبال الشاهقة ، ثم تعود كل واحدة منها إلى بيتها وما لها فيه من فراخ وعسل ، فتبني الشمع من أجنحتها ، وتقيء العسل من فيها ، ثم تصبح إلى مراعيها . وقوله تعالى : { فاسلكي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً } أي فاسلكيها مذللة لك ، نص عليه مجاهد ، وقوله تعالى : { يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } ما بين أبيض وأصفر وأحمر ، وغير ذلك من الألوان الحسنة على اختلاف مراعيها ومأكلها منها ، وقوله : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } أي في العسل شفاء الناس ، أي من أدواء تعرض لهم . قال بعض من تكل من عن الطب النبوي : لو قال فيه الشفاء للناس لكن دواء كل داء؛ ولكن قال : فيه شفاء للناس ، أي يصلح لكل أحد من أدواء باردة ، فإنه حار ، والشيء يداوى بضده عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه « أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن أخي استطلق بطنه ، فقال : » اسقه عسلاً « فذهب فسقاه عسلاً ، ثم جاء فقال : يا رسول الله سقيته عسلاً فما زاده إلا استطلاقاً . قال : » اذهب فاسقه عسلاً « ، فذهب فسقاه عسلاً ، ثم جاء فقال : يا رسول ما زاده إلا استطلاقاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » صدق الله وكذب بطن أخيك ، اذهب فاسقه عسلاً « ، فذهب فسقاه عسلاً فبرئ » وقال بعض العلماء بالطب : كان هذا الرجل عنده فضلات ، فلما سقاه عسلاً وهو حار تحللت فأسرعت في الاندفاع ، فزاده إسهالاً ، فاعتقد الأعرابي أن هذا يضره وهو مصلحة لأخيه ، ثم سقاه فازداد التحليل والدفع ، ثم سقاه فكذلك ، فلما اندفعت الفضلات الفاسدة المضدة بالبدن استمسك بطنه وصلح مزاجه واندفعت الأسقام والآلام ببركة إشارته عليه من ربه أفضل الصلاة والسلام . وفي « الصحيحين » « عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يعجبه الحلواء والعسل » وفي « صحيح البخاري » عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الشفاء في ثلاثة : في شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو كية بنار ، وأنهى أمتي عن الكي » .
وقال البخاري ، عن جابر بن عبد الله قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن كان في شيء من أدويتكم خير : ففي شرطة محجم ، أو شربة عسل ، أو لذعة بنار توافق الداء ، وما أحب أن أكتوي »(1/1377)
وفي الحديث : « عليكم بالشفاءين : العسل والقرآن » ، وعن علي بن أبي طالب أنه قال : « إذا أراد أحدكم الشفاء فليكتب آية من كتاب الله في صحفة ، وليغسلها بماء السماء ، وليأخذ من امرأته درهماً عن طيب نفس منها ، فليشتر به عسلاً فليشربه كذلك فإنه شفاء » ، أي من وجوه : قال الله تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 82 ] ، وقال : { وَنَزَّلْنَا مِنَ السمآء مَآءً مُّبَارَكاً } [ ق : 9 ] وقال : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] ، وقال في العسل : { فِيهِ شِفَآءٌ لِلنَّاسِ } ، وقوله : { إِنَّ فِي ذلك لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } أي إن في إلهام الله لهذه الدواب الضعيفة الخلقة إلى السلوك في هذه المهامة والاجتناء من سائر الثمار ، ثم جمعها للشمع والعسل وهو أطيب الأشياء لآية لقوم يتفكرون في عظمة خالقها ومقدرها ومسخرها وميسرها فيستدلون بذلك على أنه الفاعل القادر الحكيم العليم الكريم الرحيم .(1/1378)
وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)
يخبر تعالى عن تصرفه في عباده ، وأنه هو الذي أنشأهم من العدم ، ثم بعد ذلك يتوفاهم ، ومنهم من يتركه حتى يدركه الهرم . وقد روي عن علي رضي الله عنه { أَرْذَلِ العمر } : خمس وسبعون سنة . وفي هذا السن يحصل له ضعف القوى والخرف وسوء الحفظ وقلة العلم ، ولهذا قال : { لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً } أي بعد ما كان عالماً أصبح لا يدري شيئاً من الفند والخرف ، ولهذا روى البخاري عند تفسير هذه الآية عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يدعو : « أعوذ بك من البخل والكسل والهرم وأرذل العمر وعذاب القبر وفتنة الدجال وفتنة المحيا والممات » .(1/1379)
وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)
يبين تعالى للمشركين جهلهم وكفرهم فيما زعموه لله من الشركاء ، وهم يعترفون أنها عبيد له ، كما كانوا يقولون في تلبيتهم في حجهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك ، فقال تعالى منكراً عليهم : أنتم لا ترضون أن تساووا عبيدكم فيما رزقناكم فكيف يرضى هو تعالى بمساواة عبيد له في الإلهية والتعظيم؟ قال ابن عباس في هذه الآية : لم يكونوا ليشروكوا عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون عبيدي مععي في سلطاني؟ فذلك قوله : { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } . وقال في الرواية الأخرى عنه : فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم؟ وقال مجاهد : هذا مثل الآلهة الباطلة . وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله فهل منكم من أحد يشاركه مملوكه في زوجته وفي فراشه فتعدلون بالله خلقه وعباده؟ فإن لم ترض لنفسك هذا فالله أحق أن ينزه منك ، وقوله : { أَفَبِنِعْمَةِ الله يَجْحَدُونَ } أي كيف جحدوا نعمته وأشركوا معه غيره . وعن الحسن البصري قال : كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أبي موسى الأشعري : ( واقنع برزقك من الدنيا فإن الرحمن فضل بعض عباده على بعض في الرزق ، بلاء يبتلي به كلا ، فيبتلي من بسط له كيف شكره لله وأداؤه الحق الذي افترض عليه فيما رزقه وخوله ) .(1/1380)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72)
يذكر تعالى نعمه على عبيده بأن جعل لهم من أنفسهم أزواجاً من جنسهم وشكلهم ، ولو جعل الأزواج من نوع آخر ما حصل الائتلاف والمودة والرحمة ، ولكن من رحمته خلق من بني آدم ذكوراً وإناثاً ، وجعل الإناث أزواجاً للذكور ، ثم ذكر تعالى أنه جعل من الأزواج البنين والحفدة وهم أولاد البنين ، عن ابن عباس : { بَنِينَ وَحَفَدَةً } هم الولد وولد والولد ، وقال مجاهد : { بَنِينَ وَحَفَدَةً } ابنه وخادمه ، وقال طاووس وغير واحد : الحفدة الخدم . وعن عكرمة أنه قال : الحفدة من خَدَمك من ولدك وولد ولدك ، قال الضحّاك : إنما كانت العرب تخدمها بنوها . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : هم الأصهار ، قال ابن جرير : وهذه الأقوال كلها داخلة في معنى الحفدة وهو الخدمة ، ومنه قوله في القنوت : ( وإليك نسعى ونحفد ) ولما كانت الخدمة قد تكون من الأولاد والخدم والأصهار فالنعمة حاصلة بهذا كله ، ولهذا قال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً } ، قلت : فمن جعل { وَحَفَدَةً } متعلقاً بأزواجكم فلا بد أن يكون المراد الأولاد وأولاد الأولاد أو الأصهار ، لأنهم أزواج البنات أو أولاد الزوجة ، فإنهم يكونون غالباً تحت كنف الرجل وفي حجره وفي خدمته ، وأما من جعل الحفدة الخدم فعنده أنه معطوف على قوله : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً } أي جعل لكم الأزواج والأولاد خدماء ، وقوله : { وَرَزَقَكُم مِّنَ الطيبات } أي من المطاعم والمشارب ، ثم قال تعالى منكراً على من أشرك في عباده المنعم غيره : { أفبالباطل يُؤْمِنُونَ } ؟ وهم الأنداد والأصنام { وَبِنِعْمَتِ الله هُمْ يَكْفُرُونَ } ؟ أي يسترون نعم الله عليهم ويضيفونها إلى غيره .(1/1381)
وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (74)
يقول تعالى إخباراً عن المشركين الذين عبدوا معه غيره مع أنه هو المنعم المتفضل الخالق الرازق وحده لا شريك له ، ومع هذا يعبدون من دونه من الأصنام والأنداد والأوثان { مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السماوات والأرض شَيْئاً } أي لا يقدر على إنزال مطر ولا إنبات زرع ولا شجر ، ولا يملكون ذلك لأنفسهم ، أي ليس لهم ذلك ولا يقدرون عليه لو أرادوه ، ولهذا قال تعالى : { فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلَّهِ الأمثال } أي لا تجعلوا له أنداداً وأشباهاً وأمثالاً { إِنَّ الله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أي أنه يعلم ويشهد أنه لا إله إلا هو وأنتم بجهلكم تشركون به غيره .(1/1382)
ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا عَبْدًا مَمْلُوكًا لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَنْ رَزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقًا حَسَنًا فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَجَهْرًا هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (75)
قال ابن عباس : هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن . وكذا قال قتادة ، واختاره ابن جرير ، فالعبد المملوك الذي لا يقدر على شيء مثل الكافر ، والمرزوق الرزق الحسن فهو ينفق منه سراً وجهراً هو المؤمن ، وقال مجاهد : هو مثل مضربو للوثن وللحق تعالى ، فهل يستوي هذا وهذا؟ ولما كان الفرق بينهما ظاهراً واضحاً بيناً لا يجهله إلا كل غبي قال الله تعالى : { الحمد لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } .(1/1383)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلَاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّهْهُ لَا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)
قال مجاهد : وهذا أيضاً المراد به الوثن والحق تعالى ، يعني أن الوثن أبكم لا يتكلم ولا ينطق بخير ولا بشيء ولا يقدر على شيء بالكلية ، فلا مقال ولا فعال ، وهو مع هذا { كَلٌّ } أي عيال وكلفة على مولاه { أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ } أي يبعثه { لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ } ولا يجح مسعاه { هَلْ يَسْتَوِي } من هذه صفاته { وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } أي بالقسط فمقاله حق وفعاله مستقيمة { وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، وقال ابن عباس : هو مثل للكافر والمؤمن أيضاً كما تقدم : وقال ابن جرير : نزلت في رجل من قرليش وعبده يعني قوله : { عَبْداً مَّمْلُوكاً } [ النحل : 75 ] الآية ، وفي قوله : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ } إلى قوله { وَهُوَ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } قال : هو عثمان بن عفان ، قال : والأبكم الذي أينما يوجه لا يأت بخير قال : هو مولى لعثمان بن عفان ، كان عثمان ينفق عليه ويكفله ويكفيه المؤونة ، وكان الآخر يكره الإسلام ويأباه وينهاه عن الصدقة والمعروف ، فنزلت فيهما .(1/1384)
وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاءِ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)
يخبر تعالى عن كمال علمه وقدرته على الأشياء في علمه غيب السماوات والأرض واختصاصه بعلم الغيب ، فلا اطلاع لأحد على ذلك إلا أن يطلعه تعالى على ما يشاء ، وفي قدرته التامة التي لا تخالف ولا تمانع ، وأنه إذا أراد شيئاً فإنما يقول له كن فيكون كما قال : { وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر } أي فيكون ما يريد كطرف العين ، وهكذا قال هاهنا : { وَمَآ أَمْرُ الساعة إِلاَّ كَلَمْحِ البصر أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } ، ثم ذكر تعالى منته على عباده في إخراجه إياهم من بطون أمهاتهم لا يعلمون شيئاً ، ثم بعد هذا يرزقهم السمع الذي به يدركون الأصوات ، والأبصار التي بها يحسون المرئيات ، والأفئدة وهي العقول ، وهذه القوى والحواس تحصل للإنسان على التدريج قليلاً ، كلما كبر زيد في سمعه وبصره وعقله حتى يبلغ أشده ، وإنما جعل تعالى هذه في الإنسان ليتمكن بها من عباده ربه تعالى ، فيستعين بكل جارحة وعضو وقوة على طاعة مولاه ، كما جاء في « صحيح البخاري » عن أبي هريرة ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يقول تعالى من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب ، وما تقرّب إليَّ عبدي بشيء أفضل من أداء ما افترضت عليه ، ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه ، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به ، وبصره الذي يبصر به ويده التي يبطش بها ، ورجله التي يمشي بها ، ولئن سألني لأعطينه ، ولئن دعاني لأجيبنه ، ولئن استعاذ بي لأعيذنه ، وما ترددت في شيء أنا فاعله ترددي في قبض نفس عبدي المؤمن ، يكره الموت وأكره مساءته ، ولا بد له منه » فمعنى الحديث أن العبد إذا أخلص الطاعة صارت أفعاله كلها لله عزَّ وجلَّ ، فلا يسمع إلا الله ، ولا يبصر إلا الله أي ما شرعه الله له ، ولا يبطش ولا يمشي إلاّ في طاعة الله عزَّ وجلَّ مستعيناً بالله في ذلك كله . ولهذا جاء في بعض رواية الحديث في غير الصحيح : « فبي يسمع وبي يبصر وبي يبطش وبي يمشي » ، ولهذا قال تعالى : { وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، كقوله تعالى في الآية الأخرى : { قُلْ هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ } [ الملك : 23 ] ، ثم نبّه تعالى عباده إلى النظر إلى الطير المسخر بين السماء والأرض كيف جعله يطير بجناحين بين السماء والأرض في جو السماء ما يملكه هناك إلا الله بقدرته تعالى التي جعل فيها قوى تفعل ذلك ، وسخر الهواء يحملها ، وبسير الطير كذلك كما قال تعالى في سورة الملك : { أَوَلَمْ يَرَوْا إِلَى الطير فَوْقَهُمْ صَافَّاتٍ وَيَقْبِضْنَ مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرحمن إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ بَصِيرٌ } [ الملك : 19 ] ، وقال هاهنا : { إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } .(1/1385)
وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعَامِ بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثًا وَمَتَاعًا إِلَى حِينٍ (80) وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلَالًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبَالِ أَكْنَانًا وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83)
يذكر تبارك وتعالى تمام نعمه على عبيده بما جعل لهم من البيوت التي هي سكن لهم يأوون إليها ، ويستترون بها وينتفعون بها بسائر وجوه الانتفاع . وجعل لهم أيضاً من جلود الأنعام بيوتاً ، أي من الأدم يستخفون حملها في أسفارهم ليضربوها لهم في إقامتهم في السفر والحضر . ولهذا قال : { تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا } أي الغنم ، { وَأَوْبَارِهَا } أي الإبل ، { وَأَشْعَارِهَآ } أي المعز ، والضمير عائد على الأنعام { أَثَاثاً } أي تتخذون منه أثاثاً ، وهو المال وقيل : المتاع ، وقيل : الثياب ، والصحيح أعم من هذا كله فإنه يتخذ من الأثاث البسط والثياب وغير ذلك ، ويتخذ مالاً وتجارة . وقوله : { إلى حِينٍ } أي إلى أجل مسمى ووقت معلوم . وقوله : { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً } . قال قتادة ، يعني الشجر { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّنَ الجبال أَكْنَاناً } أي حصوناً ومعاقل كما { وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الحر } وهي الثياب من القطن والكتان والصوف { وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ } كالدروع من الحديد المصفح والزرد وغير ذلك ، { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ } أي هكذا يجعل لكم ما تستعينون به على أمركم وما تحتاجون إليه ليكون عوناً لكم على طاعته وعبادته ، { لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } أي من الإسلام ، وقوله : { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي أبعد هذا البيان وهذا الامتنان فلا عليك منهم ، { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ المبين } وقد أديته إليهم ، { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } أي يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك وهو المتفضل به عليهم ، ومع هذا ينكرون ذلك ويعبدون معه غيره ويسندون النصر والرزق إلى غيره { وَأَكْثَرُهُمُ الكافرون } ، عن مجاهد أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله فقرأ عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم { والله جَعَلَ لَكُمْ مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً } فقال الأعرابي : نعم ، قال : { وَجَعَلَ لَكُمْ مِّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتاً } الآية ، قال الأعرابي : نعم ، ثم قرأ عليه كل ذلك ، يقول الأعرابي : نعم ، حتى بلغ : { كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ } فولَّى الأعرابي ، فأنزل الله : { يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ الله ثُمَّ يُنكِرُونَهَا } الآية .(1/1386)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا ثُمَّ لَا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَلَا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذَابَ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكَاءَهُمْ قَالُوا رَبَّنَا هَؤُلَاءِ شُرَكَاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُو مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَابًا فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يُفْسِدُونَ (88)
يخبر تعالى عن شأن المشركين يوم معادهم في الدار الآخرة ، وأنه يبعث من كل أمة شهيداً وهو نبيها ، يشهد عليها بما أجابته فيما بلغها عن الله تعالى : { ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ } أي في الاعتذار لأنهم يعلمون بطلانه وكذبه كقوله : { هذا يَوْمُ لاَ يَنطِقُونَ * وَلاَ يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ } [ المرسلات : 35-36 ] فلهذا قال : { وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ * وَإِذَا رَأى الذين ظَلَمُواْ } أي الذين أشركوا { العذاب فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ } أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة { وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي لا يؤخر عنهم ، بل يأخذهم سريعاً من الموقف بلا حساب ، ثم أخبر تعالى عن تبري آلهتهم منهم أحوج ما يكونون إليها فقال : { وَإِذَا رَأى الذين أَشْرَكُواْ شُرَكَآءَهُمْ } أي الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا { قَالُواْ رَبَّنَا هؤلاءآء شُرَكَآؤُنَا الذين كُنَّا نَدْعُوْا مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ القول إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ } أي قالت لهم الآلهة كذبتم ما نحن أمرناكم بعبادتنا كما قال تعالى : { وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَن لاَّ يَسْتَجِيبُ لَهُ إلى يَوْمِ القيامة وَهُمْ عَن دُعَآئِهِمْ غَافِلُونَ } [ الأحقاف : 5 ] وقوله : { وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم } قال : قتادة وعكرمة : ذلوا واستسلموا يومئذٍ ، أي استسلموا لله جميعهم ، فلا أحد إلاّ سامع مطيع . وكقوله : { أَسْمِعْ بِهِمْ وَأَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنَا } [ مريم : 38 ] أي ما أسمعهم وما أبصرهم يومئذٍ ، وقال : { وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءُوسِهِمْ عِندَ رَبِّهِمْ رَبَّنَآ أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا } [ السجدة : 12 ] الآية ، وقال : { وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً } [ طه : 111 ] أي خضعت وذلت واستكانت وأنابت واستسلمت . وقوله : { وَأَلْقَوْاْ إلى الله يَوْمَئِذٍ السلم وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي ذهب واضمحل ما كانوا يعبدونه افتراء على الله فلا ناصر لهم ولا معين ولا مجير ، ثم قال تعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً } الآية ، أي عذاباً على كفرهم وعذاباً على صدهم الناس عن اتباع الحق ، وهذا دليل على تفاوت الكفار في عذابهم كما يتفاوت المؤمنون في منازلهم في الجنة ودرجاتهم ، كما قال تعالى : { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ } [ الأعراف : 38 ] .(1/1387)
وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيدًا عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيدًا عَلَى هَؤُلَاءِ وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَانًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89)
يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً على هؤلاءآء } يعني أمتك ، أي اذكر ذلك اليوم وهوله وما منحك الله فيه من الشرف العظيم والمقام الرفيع ، وهذه الآية شبيهة بقوله : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] ، وقوله : { وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الكتاب تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ } قال ابن مسعود : قد بين لنا في هذا القرآن كل علم وكل شيء ، وقال مجاهد : كل حلال وكل حرام . وقول ابن مسعود أعم وأشمل ، فإن القرآن اشتمل على كل علم نافع من خبر ما سبق ، وعلم ما سيأتي ، وكل حلال وحرام ، وما الناس إليه محتاجون في أمر دنياهم ودينهم ومعاشهم ومعادهم ، { وَهُدًى } أي للقلوب ، { وَرَحْمَةً وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } .(1/1388)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)
يخبر تعالى أنه يأمر عباده بالعدل وهو القسط ، ويندب إلى الإحسان كقوله تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ } [ الشورى : 40 ] ، وقال : { والجروح قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ } [ المائدة : 45 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على شرعية العدل والندب إلى الفضل . وقال ابن عباس { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل } قال : شهادة أن لا إله إلاّ الله ، وقال سفيان بن عيينة : العدل في هذا الموضع هو استواء السريرة والعلانية من كل عامل لله عملاً ، والإحسان أن تكون سريرته أحسن من علانيته ، وقوله : { وَإِيتَآءِ ذِي القربى } أي يأمر بصلة الأرحام ، كما قال : { وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } [ الإسراء : 26 ] ، وقوله : { وينهى عَنِ الفحشاء والمنكر } ، فالفواحش المحرمات والمنكرات ما ظهر منها من فاعلها ، ولهذا قال في الموضع الآخر : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأعراف : 33 ] ، وما البغي فهو العدوان على الناس . وقد جاء في الحديث : « ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم » ، وقوله : { يَعِظُكُمْ } أي يأمركم بما يأمركم به من الخير وينهاكم عما ينهاكم عنه من الشر { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } . وقال الشعبي : عن ابن مسعود يقول : إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } الآية ، وقال قتادة : ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به ، وليس من خلق سيء كانوا يتعايرونه بينهم إلاّ نهى الله عنه وقدم فيه ، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامها ، وفي الحديث : « إن الله يحب معالي الأخلاق ويكره سَفْسَافها » وقال الحافظ أبو يعلى عن علي بن عبد الملك بن عمير عن أبيه قال : « بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي صلى الله عليه وسلم فأراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه وقالوا : أنت كبيرنا لم تكن لتخف إليه ، قال : فليأته من يبلغه عني ويبلغني عنه ، فانتدب رجلان ، فأتيا النبي صلى الله عليه وسلم فقالا : نحن رسل أكثم بن صيفي ، وهو يسألك من أنت وما أنت؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أما من أنا فأنا محمد بن عبد الله ، وأما ما أنا فأنا عبد الله ورسوله « ، قال : ثم تلا عليهم هذه الآية : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } الآية ، قالوا : ردد علينا هذا القول ، فردد عليهم حتى حفظوه ، فأتيا أكثم فقالا : أبى أن يرفع نسبه ، فسألنا عن نسبه فوجدناه زاكي النسب وسطاً في مضر - أي شريفاً - وقد رمى إلينا بكلمات قد سمعناها ، فلما سمعهن أكثم قال : إني أراه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها ، فكونوا في هذا الأمر رؤوساً ولا تكونوا فيه أذناباً » ، وعن عثمان بن أبي العاص قال : « كنت عند رسول الله صلى الله عليه وسلم جالساً إذ شخص بصره فقال : أتاني جبريل فأمرني أن أضع هذه الآية بهذا الموضع من هذه السورة : { إِنَّ الله يَأْمُرُ بالعدل والإحسان } » الآية .(1/1389)
وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92)
هذا مما يأمر الله تعالى به وهو الوفاء بالعهود والمواثيق والمحافظة على الأيمان المؤكدة ، ولهذا قال : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، ولا تعارض بين هذا وبين قوله : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } [ البقرة : 223 ] الآية ، وبين قوله تعالى : { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ واحفظوا أَيْمَانَكُمْ } [ المائدة : 89 ] أي لا تتركوها بلا كفارة ، وبين قوله عليه السلام فيما ثبت عنه في « الصحيحين » أنه عليه الصلاة والسلام قال : « إني والله - إن شاء الله - لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها ، وفي رواية : وكفرت عن يميني » « لا تعارض بين هذا كله ولا بين الآية المذكورة هاهنا وهي قوله : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } ، لأن هذه الأيمان المراد بها الداخلة في العهود والمواثيق ، لا الأيمان التي هي واردة على حث أو منع؛ ولهذا قال مجاهد في قوله : { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } يعني الحلف ، أي حلف الجاهلية . ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن جبير بن مطعم قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا حلف في الإسلام ، وأيما حلف كان في الجاهلية فإنه لا يزيده الإسلام إلاّ شدة « ، ومعناه أن الإسلام لا يحتاج معه إلى الحلف الذي كان أهل الجاهلية يفعلونه ، فإن في التمسك بالإسلام كفاية عما كانوا فيه . وقال ابن جرير ، عن بريدة في قوله : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ } قال : نزلت في بيعة النبي ص صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، فقال : { وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ الله إِذَا عَاهَدتُّمْ } هذه البيعة التي بايعتم على الإسلام ، { وَلاَ تَنقُضُواْ الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِهَا } لا يحملنكم قلة محمد وكثرة المشركين أن تنقضوا البيعة التي بايعتم على الإسلام . وقوله : { إِنَّ الله يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ } تهديد ووعيد لمن نقض الأيمان بعد توكيدها وقوله : { وَلاَ تَكُونُواْ كالتي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً } . قال السدي : هذه امرأة خرقاء كانت بمكة كلما غزلت شيئاً نقضته بعد إبرامه ، وقال مجاهد وقتادة : هذا مثل لمن نقض عهده بعد توكيده ، وهذا القول أرجح وأظهر ، ساء كان بمكة امرأة تنقض غزلها أم لا ، وقوله : { أَنكَاثاً } أي انقاضاً ، { تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ } أي خديعة ومكراً { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } أي تحلفون للناس إذا كانوا أكثر منكم ليطمئنوا إليكم ، فإذا أمكنكم الغدر بهم غدرتم ، فنهى الله عن ذلك لينبه بالأدنى على الأعلى ، قال ابن عباس : { أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ } : أي أكثر ، وقال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعز ، فينقضون حلف هؤلاء ويحالفون أولئك الذين هم أكثر وأعز فنهوا عن ذلك ، وقوله : { إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ الله بِهِ } قال ابن جرير : أي بأمره إياكم بالوفاء بالعهد { وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ القيامة مَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } فيجازي كل عامل بعمله من خير وشر .(1/1390)
وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلَا تَتَّخِذُوا أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُوا السُّوءَ بِمَا صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلَا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا إِنَّمَا عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (96)
يقول الله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ } أيها الناس { أُمَّةً وَاحِدَةً } أي لوفق بينكم ولما جعل اختلافاً ولا تباغض ولا شحناء ، { ولكن يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ } ثم يسألكم يوم القيامة عن جميع أعمالكم فيجازيكم عليها على الفتيل والنقير والقطمير ، ثم حذر تعالى عباده عن اتخاذ الأيمان دخلاً : أي خديعة ومكراً لئلا تزل قدم { بَعْدَ ثُبُوتِهَا } مثلٌ لمن كان على الاستقامة فحاد عنها ، وزل عن طريق الهدى بسبب الأيمان الحانثة ، المشتملة على الصد عن سبيل الله ، لأن الكافر إذا رأى أن المؤمن قد عاهده ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين ، فيصد بسببه عن الدخول في الإسلام ، ولهذا قال : { وَتَذُوقُواْ السواء بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ الله وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } ، ثم قال تعالى : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } أي لا تعتاضوا عن الأيمان بالله عرض الحياة الدنيا وزينتها ، فإنها قليلة ولو حيزت لابن آدم الدنيا فحذافيرها لكان ما عند الله هو خير له ، أي جزاء الله وثوابه خير لمن رجاه وآمن به ، وطلبه وحفظ عهده رجاء موعوده ، ولهذا قال : { إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ } أي يفرغ وينقضي فإنه إلى أجل معدود ، { وَمَا عِندَ الله بَاقٍ } أي وثوابه لكم في الجنة باق ولا انقطاع ولا نفاد له ، فإنه دائم لا يحول ولا يزول { وَلَنَجْزِيَنَّ الذين صبروا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } قسم من الرب تعالى مؤكد باللام أنه يجازي الصابرين بأحسن أعمالهم أي ويتجاوز عن سيئها .(1/1391)
مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (97)
هذا وعد من الله تعالى لمن عمل صالحاً ، وهو العمل المتابع لكتاب الله تعالى وسنة نبيّه صلى الله عليه وسلم من ذكر أو أنثى من بني آدم وقلبه مؤمن بالله ورسوله ، بأن يحييه الله حياة طيبة في الدنيا ، وأن يجزيه بأحسن ما عمله في الدار الآخرة . والحياة الطيبة تشمل وجوه الراحة من أي جهة كانت ، وقد روي عن ابن عباس وجماعة أنهم فسروها بالرزق الحلال الطيب وعن علي بن أبي طالب يطيب لأحد حياة إلاّ في الجنة . وقال الضحاك : هي الرزق الحلال والعبادة في الدنيا . والصحيح أن الحياة الطيبة تشمل هذا كله ، كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قد أفلح من أسلم ، ورزق كفافاً ، وقنعه الله بما آتاه » وفي رواية : « قد أفلح من هدي للإسلام وكان عيشه كفافاً وقنع به » وقال الإمام أحمد : حدثنا يزيد ، حدثنا همام عن يحيى عن قتادة عن أنس بن مالك قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يعطي بها في الدنيا ويثاب عليها في الآخرة ، وأما الكافر فيطعم بحسناته في الدنيا ، حتى إذا أفضى إلى الآخرة لم تكن له حسنة يعطى بها خيراً » .(1/1392)
فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)
هذا أمر من الله تعالى لعباده على لسان نبيّه صلى الله عليه وسلم ، إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم ، وهذا أمر ندب ليس بواجب ، حكى الإجماع على ذلك أبو جعفر بن جرير وغيره من الأئمة . وقد قدمنا الأحاديث الواردة في الاستعاذة مبسوطة في أول التفسير ولله الحمد والمنة . وقوله : { إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ على الذين آمَنُواْ وعلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ } قال الثوري : ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منن وقال آخرون : معناه لا حجة له عليهم ، وقال آخرون كقوله : { إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ المخلصين } [ الحجر : 40 ] ، { إِنَّمَا سُلْطَانُهُ على الذين يَتَوَلَّوْنَهُ } . قال مجاهد : يطيعونه ، وقال آخرون : اتخذوه ولياً من دون الله { هُم بِهِ مُشْرِكُونَ } ، أي أشركوه في عبادة الله ، ويحتمل أن تكون الباء سببية أي صاروا بسبب طاعتهم للشيطان مشركين بالله تعالى .(1/1393)
وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَكَانَ آيَةٍ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُوا إِنَّمَا أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102)
يخبر تعالى عن ضعف عقول المشركين وقلة ثباتهم وإيقانهم وأنه لا يتصور منهم الإيمان . وقد كتب عليهم الشقاوة وذلك أنهم إذا رأوا تغير الأحكام ناسخها بمنسوخها قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّمَآ أَنتَ مُفْتَرٍ } أي كذاب ، وإنما هو الرب تعالى يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد . وقال مجاهد : { بَدَّلْنَآ آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ } : أي وفعناها وأثبتنا غيرها . وقال قتادة : هو كقوله تعالى : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } [ البقرة : 106 ] الآية ، فقال تعالى مجيباً لهم : { قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ القدس } أي جبريل { مِن رَّبِّكَ بالحق } أي بالصدق والعدل ، { لِيُثَبِّتَ الذين آمَنُواْ } فيصدقوا بما أنزل أولاً وثانياً وتخبت له قلوبهم ، { وَهُدًى وبشرى لِلْمُسْلِمِينَ } أي وجعله هادياً وبشارة للمسلمين الذين آمنوا بالله ورسله .(1/1394)
وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)
يقول تعالى مخبراً عن المشركين ما كانوا يقولونه من الكذب والافتراء والبهت أن محمداً إنما يعلمه هذا الذي يتلوه علينا من القرآن بشر ، ويشيرون إلى رجل أعجمي كان بين أظهرهم ، غلام لبعض بطون قريش ، وكان بياعاً يبيع عند الصفا ، وربما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلس إليه ويكلمه بعض الشيء ، وذاك كان أعجمي اللسان لا يعرف العربية ، فلهذا قال الله تعالى راداً عليهم في افترائهم ذلك : { لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } أي القرآن ، أي فكيف يتعلم من جاء بهذا القرآن في فصاحته وبلاغته ومعانيه التامة الشاملة التي هي أكمل من معاني كل كتاب نزل على بني إسرائيل ، كيف يتعلم من رجل أعجمي؟ لا يقول هذا من له أدنى مسكه من العقل . قال محمد بن إسحاق : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم - فيما بلغني - كثيراً ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني يقال له ( جبر ) عبد لبعض بني الحضرمي ، فأنزل الله : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } . وعن عكرمة وقتادة كان اسمه ( يعيش ) ، وقال ابن جرير ، عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلم قيناً بمكة ، وكان امسه بلعام ، وكان أعجمي اللسان ، وكان المشركون يرون رسول الله صلى الله عليه وسلم يدخل عليه ويخرج من عنده ، فقالوا : إنما يعلمه بلعام فأنزل الله هذه الآية : { وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ } .(1/1395)
إِنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ لَا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105)
يخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض عن ذكره ، وتغافل عما أنزله على رسوله صلى الله عليه وسلم ولم يكن له قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله ، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الإيمان بآياته ، وما أرسل به رسله في الدنيا ولهم عذاب أليم موجع في الآخرة ، ثم أخبر تعالى أن رسوله صلى الله عليه وسلم ليس بمفتر ولا كذاب لأنه إنما يفتري الكذب على الله وعلى رسوله صلى الله عليه وسلم شرار الخلق { الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ الله } من الكفرة والملحدين المعروفين بالكذب عند الناس ، والرسول محمد صلى الله عليه وسلم كان أصدق الناس ، وأبرهم وأكملهم علماً وعملاً ، وإيماناً وإيقاناً ، معروفاً بالصدق في قومه لا يشك في ذلك أحد منهم ، بحيث لا يدعى بينهم إلاّ بالأمين محمد؛ ولهذا قال هرقل ملك الروم ، لأبي سفيان : ( فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عزَّ وجلَّ ) .(1/1396)
مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِهِ إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ وَلَكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْرًا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الْآخِرَةِ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لَا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرُونَ (109)
أخبر تعالى عمن كفر به بعد الإيمان والتبصر وشرح صدره بالكفر ، واطمأن به ، أنه قد غضب عليه لعلمهم بالإيمان ثم عدولهم عنه ، وأن لهم عذاباً عظيماً في الدار الآخرة ، لأنهم استحبوا الحياة الدنيا على الآخرة ، فأقدموا على ما أقدموا عليه من الردة لأجل الدنيا ، ولم يهد الله قلوبهم ويثبتهم على الدين الحق ، فطبع على قلوبهم ، فهم لا يعقلون بها شيئاً ينفعهم ، وختم على سمعهم وأبصارهم فلا ينتفعون بها ، فهم غافلون عما يراد بهم ، { لاَ جَرَمَ } أي لا بد ولا عجب أن من هذه صفته ، { أَنَّهُمْ فِي الآخرة هُمُ الخاسرون } أي الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة - وأما قوله : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } فهو استثناء ممن كفر بلسانه ووافق المشركين بلفظه مكرها لما ناله من ضرب وأذى وقلبه يأبى ما يقول ، وهو مطمئن بالإيمان بالله ورسوله . وقد روي عن ابن عباس أن هذه الآية نزلت في ( عمار بن ياسر ) حين عذبه المشركون حتى يكفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، فوافقهم على ذلك مكرهاً ، وجاء معتذراً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله هذه الآية . وقال ابن جرير : « أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذبوه ، حتى قاربهم في بعض ما أرادوا ، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » كيف تجد قلبك؟ « قال : مطمئناً بالإيمان ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : » إن عادو فعد « ، وفيه أنه سب النبي صلى الله عليه وسلم ، وذكر آلهتهم بخير ، فشكا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : » كيف تجد قلبك؟ « قال : مطمئناً بالإيمان ، فقال : » إن عادوا فعد « وفي ذلك أنزل الله : { إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } ، ولهذا اتفق العلماء على أن المكره على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاء لمهجته ، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك وهم يفعلون به الأفاعيل ، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه بالشرك بالله فيأبى عليهم وهو يقول : أحد ، أحد ، ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها ، رضي الله عنه وأرضاه . وكذلك حبيب بن زيد الأنصاري لما قال له مسليمة الكذاب : أتشهد أن محمداً رسول الله؟ فيقول : نعم ، فيقول : أتشهد أني رسول الله؟ فيقول : لا أسمع ، فلم يزل يقطعه إرباً إرباً وهو ثابت على ذلك .
والأفضل والأولى أن يثبت المسلم على دينه ولو أفضى إلى قتله ، كما ذكر الحافظ ابن عساكر في ترجمة ( عبد الله بن حذافة السهمي ) أحد الصحابة أنه أسرته الروم فجاءوا به إلى ملكهم فقال له : تنصر وأنا أشركك في ملكي وأزوجك ابنتي ، فقال له : لو أعطيتني جميع ما تملك وجميع ما تملكه العرب على أن أرجع عن دين محمد صلى الله عليه وسلم طرفة عين ما فعلت ، فقال : إذاً اقتلك ، فقال أنت وذاك ، قال : فأمر به فصلب ، وأمر الرماة فرموه قريباً من يديه ورجليه ، وهو يعرض عليه دين النصرانية فيأبى ، ثم أمر به فأنزل ، ثم أمر بقدر من نحاس ، فأحميت وجاء بأسير من المسلمين ، فألقاه وهو ينظر ، فإذا هو عظام تلوح ، وعرض عليه فأبى ، فأمر به أن يلقى فيها ففع في البكرة ليلقى فيها ، فبكى ، فطمع فيه ودعاه ، فقال : إني إنما بكيت لأن نفسي إنما هي نفس واحدة تلقى في هذه القدر الساعة في الله ، فأحببت أن يكون لي بعدد كل شعرة في جسدي نفس تعذب هذا العذاب في الله .(1/1397)
وفي بعض الروايات : أنه سجنه ومنع منه الطعام والشراب أياماً ، ثم أرسل إليه بخمر ولحم خنزير . فلم يقربه ، ثم استدعاه فقال : ما منعك أن تأكل؟ فقال : أما إنه قد حل لي ، ولكن لم أكن لأشمتك بي ، فقال له الملك : فقبلْ رأسي ، وأنا أطلقك ، فقال : وتطلق معي جميع أسارى المسلمين ، قال : نعم ، فقبّل رأسه فأطلقه ، وأطلق معه جميع أسارى المسلمين عنده ، فلما رجع قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : حق على كل مسلم أن يقبّل رأس عبد بن حذافة ، وأنا أبدأ ، فقام فقبل رأسه رضي الله عنهما .(1/1398)
ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُوا مِنْ بَعْدِ مَا فُتِنُوا ثُمَّ جَاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَنْ نَفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (111)
هؤلاء صنف آخر كانوا مستضعفين بمكة مهانين في قومهم فوافقوهم على الفتنة ، إنهم أمكنهم الخلاص بالهجرة فتركوا بلادهم وأهليهم وأموالهم ابتغاء رضوان الله وغفرانه ، وانتظموا في سلك المؤمنين ، وجاهدوا معهم الكافرين وصبروا ، فأخبر تعالى أنه من بعدها أي تلك الفعلة وهي الإجابة إلى الفتنة لغفور لهم رحيم بهم يوم معادهم { يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ } أي تحاج { عَن نَّفْسِهَا } ليس أحد يحاج عنها لا أب ولا ابن ولا أخ ولا زوجة { وتوفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ } أي من خير وشر { وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } أي لا ينقص من ثواب الخير ، ولا يزاد على ثواب الشر ولا يظلمون نقيراً .(1/1399)
وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَدًا مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذَاقَهَا اللَّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113)
هذا مثل أريد به أهل مكة؟ فإنها كانت آمنة مطمئنة مستقرة يتخطف الناس من حولها ، ومن دخلها كان آمناً لا يخاف ، كما قال تعالى : { أَوَلَمْ نُمَكِّن لَّهُمْ حَرَماً آمِناً يجبى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِّزْقاً مِّن لَّدُنَّا } [ القصص : 57 ] ، وهكذا قال هاهنا { يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً } ، أي هنيئاً سهلاً ، { مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ الله } أي جحدت آلاء الله عليها وأعظمها بعثة محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، كما قال تعالى { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار } [ إبراهيم : 28-29 ] ولهذا بدلهم الله بحاليهم الأولين خلافهما فقال : { فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف } أي ألبسها وأذاقها الجوع بعد أن كان يجبى إليها ثمرات كل شيء ويأتيها رزقها رغداً من كل مكان ، وذلك أنهم استعصوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو إلا خلافه ، فدعا عليهم بسبع كسبع يوسف ، فأصابتهم سنة أذهبت كل شيء لهم ، فأكلوا العلهز ، وهو وبر يخلط بدمه إذا نحروه . وقوله : { والخوف } وذلك أنهم بدلوا بأمنهم خوفاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، حين هاجروا إلى المدينة من سطوته وسراياه وجيوشه ، وجعل كل ما لهم في دمار وسفال ، حتى فتحها الله على رسوله ، صلى الله عليه وسلم وذلك بسبب صنيعهم وبغيهم وتكذيبهم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله فيهم منهم وامتن به عليهم في قوله : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } [ آل عمران : 164 ] الآية . وهذا الذي قلناه من أن هذا المثل ضرب لأهل مكة قاله ابن عباس ، وإليه ذهب مجاهد وقتادة والزهري رحمهم الله .(1/1400)
فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115) وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117)
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بأكل رزقه الحلال الطيب وبشكره على ذلك ، فإنه المنعم المتفضل به ابتداء ، ثم ذكر تعالى ما حرمه عليهم مما فيه مضرة لهم في دينهم ودنياهم من الميتة والدم ولحم الخنزير ، { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } أي ذبح على غير اسم الله ومع هذا ، { فَمَنِ اضطر } إليه أي احتاج من غير بغي ولا عدوان ، { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } وقد تقدم الكلام على مثل هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية عن إعادته ولله الحمد . ثم نهى تعالى عن سلوك سبيل المشركين الذين حللوا وحرموا ، بمجرد ما وصفوه واصطلحوا عليه وابتدعوه في جاهليتهم ، فقال : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب } ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس فيها مستند شرعي ، أو حلل شيئاً مما حرم الله أو حرم شيئاً مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهيه ، ثم توعد على ذلك فقال : { إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ على الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ } أي في الدنيا ولا في الآخرة ، أما في الدنيا فمتاع قليل ، وأما في الآخرة فلهم عذاب أليم ، كما قال : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] ، وقال : { إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69-70 ] .(1/1401)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)
لما ذكر تعالى أنه إنما حرم علينا الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به ، ذكر سبحانه وتعالى ما كان حرمه على اليهود في شريعتهم قبل أن ينسخها ، وما كانو فيه من الآصار والتضييق والأغلال والحرج فقال : { وعلى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ } أي في سورة الأنعام { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ } أي فيما ضيقنا عليهم { ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي فاستحقوا ذلك ، كقوله : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً } [ النساء : 160 ] ، ثم أخبر تعالى تكرماً وامتناناً في حق العصاة المؤمنين أن من تاب منهم إليه تاب عليه فقال : { ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السواء بِجَهَالَةٍ } قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو حاجل { ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وأصلحوا } ، أي أقلعوا عما كانوا فيه من المعاصي وأقبلوا على فعل الطاعات ، { إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا } أي تلك الفعلة والزلة { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } .(1/1402)
إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتًا لِلَّهِ حَنِيفًا وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِرًا لِأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)
يمدح تعالى عبده ورسوله وخليله إبراهيم ، إمام الحنفاء ووالد الأنبياء ، ويبرئه من المشركين ومن اليهودية والنصرانية فقال : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً } ، فأما الأمة : فهو الإمام الذي يقتدى به ، والقانت : هو الخاشع والمطيع ، والحنيف المنحرف قصداً عن الشرك إلى التوحيد ، ولهذا قال : { وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } ، قال عبد الله بن مسعود : الأمة معلم الخير ، والقانت المطيع لله ورسوله . وقال ابن عمر : الأمة الذي يعلم الناس دينهم . وقال مجاهد { أُمَّةً } أي أمة وحده ، والقانت : المطيع . وعنه كان مؤمناً وحده الناس كلهم إ ذاك كفار . وقال قتادة كان إمام هدى ، والقانت : المطيع لله ، وقوله : { شَاكِراً لأَنْعُمِهِ } أي قائماً بشكر نعم الله عليه ، كقوله تعالى : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } [ النجم : 37 ] أي قام بجميع ما أمره الله تعالى به . وقوله : { اجتباه } أي اختاره واصطفاه كقوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } [ الأنبياء : 51 ] ، ثم قال : { وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } وهو عباده الله وحده لا شريك له على شرع مرضي . وقوله : { وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً } أي جمعنا له خير الدنيا من جميع ما يحتاج المؤمن إليه في إكمال حياته الطيبة ، { وَإِنَّهُ فِي الآخرة لَمِنَ &
1649;لصَّالِحِينَ } وقال مجاهد في قوله : { وَآتَيْنَاهُ فِي الدنيا حَسَنَةً } أي لسان صدق وقوله : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } أي ومن كماله وعظمته وصحة توحيده وطريقه أنا أوحينا إليك يا خاتم الرسل وسيد الأنبياء { أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } ، كقوله في الأنعام : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } [ الآية : 161 ] ، ثم قال تعالى منكراً على اليهود .(1/1403)
إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)
لا شك أن الله تعالى شرع في كل ملة يوماً من الأسبوع يجتمع الناس فيه للعبادة ، فشرع تعالى لهذه الأمة يوم الجمعة لأنه اليوم السادس الذي أكمل الله فيه الخليقة واجتمعت فيه ، وتمت النعمة على عباده ، ويقال إن الله تعالى شرع ذلك لبني إسرائيل على لسان موىس ، فعدلو عنه ، واختاروا السبت لأنه اليوم الذي لم يخلق فيه الرب شيئاً من المخلوقات الذي كمل خلقها يوم الجمعة ، فألزمهم تعالى به في شريعة التوراة ، ووصاهم أن يتمسكوا به ، وأن يحافظوا عليه مع أمره إياهم بمتابعة محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعثه وأخذ مواثيقهم وعهودهم على ذلك ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّمَا جُعِلَ السبت على الذين اختلفوا فِيهِ } ، قال مجاهد : اتبعوه وتركوا الجمعة ، وقد ثبت في « الصحيحين » عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم هذا يومهم الذي فرض الله عليهم فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع اليهود غداً والنصارى بعد غد » .(1/1404)
ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)
يقول تعالى آمراً رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم أن يدعو الخلق إلى الله بالحكمة . قال ابن جرير : وهو ما أنزله عليه من الكتاب والسنة والموعظة الحسنة ، أي بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ذكرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى ، وقوله { وَجَادِلْهُم بالتي هِيَ أَحْسَنُ } ، أي من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال ، فليكن بالوجه الحسن برفق ولين وحسن خطاب كقوله تعالى : { وَلاَ تجادلوا أَهْلَ الكتاب إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } [ العنكبوت : 46 ] الآية ، فأمره تعالى بلين الجانب ، كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله : { فَقُولاَ لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يخشى } [ طه : 44 ] . وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ } الآية ، أي قد علم الشقي منهم والسعيد ، وكتب ذلك عنده وفرغ منه فادعهم إلى الله ، ولا تذهب نفسك على من ضل منهم حسرات ، فإنه ليس عليك هداهم إنما أنت نذير ، عليك البلاغ وعلينا الحساب ، { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] ، { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 272 ] .(1/1405)
وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ وَلَا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلَا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)
يأمر تعالى بالعدل في القصاص والمماثلة في استيفاء الحق ، قال ابن سيرين : إن أخذ منكم رجل شيئاً فخذوا مثله ، وكذا قال مجاهد والحسن البصري واختاره ابن جرير ، وقال ابن زيد : كانوا قد أمروا بالصفح عن المشركين فأسلم رجال ذوو منعة ، فقالوا : يا رسول الله ، لو أذن الله لنا لانتصرنا من هؤلاء الكلاب ، فنزلت هذه الآية ثم نسخ ذلك بالجهاد ، قال عطاء بن يسار : نزلت سورة النحل كلها بمكة ، وهي مكية إلا ثلاث آيات من آخرها ، نزلت بالمدينة ، بعد أحد حين قتل حمزة رضي الله عنه ومثل به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لئن أظهرني الله عليهم لأمثلن بثلاثين رجلاً منهم ، فلما سمع المسلمون ذلك قالوا : والله لئن ظهرنا عليهم لنمثلن بهم مثلة لم يمثلها أحد من العرب بأحد قط فأنزل الله : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } إلى آخر السورة ، وقال الحافظ أبو بكر البزار ، عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه حين استشهد ، فنظر إلى منظر لم ينظر إلى منظر أوجع للقلب منه ، أو قال لقلبه ، فنظر إليه وقد مُثل به ، فقال : » رحمة الله عليك ، إن كنت ما علمتك إلا وصولاً للرحم ، فعولاً للخيرات . والله لولا حزن من بعدك عليك لسرني أن أتركك حتى يحشرك الله من بطون السباع - أو كلمة نحوها - أما والله على ذلك لأمثلن بسبعين كمثلتك « ، فنزل جبريل على محمد صلى الله عليه وسلم بهذه السورة وقرأ : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } إلى آخر الآية ، فكفر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعني عن يمينه وأمسك عن ذلك . وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن ، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل ، كما في قوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، ثم قال : { فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى الله } [ الشورى : 40 ] الآية . وقال : { والجروح قِصَاصٌ } [ المائدة : 45 ] ، ثم قال : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } [ المائدة : 45 ] ، وقال في هذه الآية : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } ، ثم قال : { وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ } ، وقوله تعالى : { واصبر وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بالله } تأكيد للأمر بالصبر ، وإخبار بأن ذلك لا ينال إلاّ بمشيئة الله وإعانته ، وحوله وقوته ، ثم قال تعالى : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } ، أي على من خالفك فإن الله قدر ذلك ، { وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ } أي غم ، { مِّمَّا يَمْكُرُونَ } أي مما يجهدون أنفسهم في عداوتك وإيصال الشر إليك ، فإن الله كافيك وناصرك ومؤيدك ومظهرك ومظفرك بهم ، وقوله { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ } ، أي معهم بتأييده ونصره ومعونته وهديه وسعيه .(1/1406)
سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)
يمجد تعالى نفسه ، ويعظم شأنه ، لقدرته على ما لا يقدر عليه أحد سواه ، فلا إله غيره ولا رب سواه ، { الذي أسرى بِعَبْدِهِ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، { لَيْلاً } : أي في جنح الليل ، { مِّنَ المسجد الحرام } : وهو مسجد مكة { إلى المسجد الأقصى } وهو بيت المقدس الذي بإيلياء معدن الأنبياء من لدن إبراهيم الخليل عليه السلام ، ولهذا جمعوا له هناك كلهم فأمهم في محلتهم ودارهم ، فدل على أنه هو الإمام الأعظم ، والرئيس المقدم ، صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين . وقوله تعالى : { الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } : أي في الزروع والثمار ، { لِنُرِيَهُ } : أي محمداً { مِنْ آيَاتِنَآ } : أي العظام ، كما قال تعالى : { لَقَدْ رأى مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الكبرى } [ النجم : 18 ] ، { إِنَّهُ هُوَ السميع البصير } أي السميع لأقوال عباده البصير بهم ، فيعطي كلا منهم ما يستحقه في الدنيا والآخرة .
« ذكر الأحاديث الواردة في الإسراء »
قال الإمام البخاري ، عن أنس بن مالك ، يقول : « ليلة أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم من مسجد الكعبة ، إنه جاءه ثلاثة نفر قبل أن يوحى إليه وهو نائم في المسجد الحرام ، فقال أولهم : أيهم هو؟ فقال أوسطهم : هو خيرهم ، فقال آخرهم : خذوا خيرهم ، فكانت تلك الليلة فلم يرهم ، حتى أتوه ليلة أخرى فيما يرى قلبه وتنام عينه ولا ينام قلبه - وكذلك الأنبياء تنام أعينهم ولا تنام قلوبهم - فلم يكلموه حتى احتملوه ، فوضعوه عند بئر زمزم ، فتولاه منهم جبريل ، فشق جبريل ما بين نحره إلى لبته حتى فرغ من صدره وجوفه ، فغسله من ماء زمزم بيده حتى أنقى جوفه ، ثم أتى بطست من ذهب فيه تور من ذهب محشو إيماناً وحكمة فحشا به صدره ولغاديده - يعني عروق حلقه - ثم أطبقه ، ثم عرج به إلى السماء الدنيا فضرب باباً من أبوابها فناداه أهل السماء من هذا؟ فقال : جبريل ، قالوا : ومن معك؟ قال : معي محمد ، قالوا : وقد بعث إليه؟ قال : نعم . قالوا : فمرحباً به وأهلاً . يستبشر به أهل السماء لا يعلم أهل السماء بما يريد الله به في الأرض حتى يعلمهم ، فوجد في السماء الدنيا آدم ، فقال له جبريل هذا أبوك آدم فسلم عليه ، فسلم عليه ورد عليه ، آدم ، فقال : مرحباً وأهلاً بابني ، نعم الابن أنت ، فإذا هو في السماء الدنيا بنهرين يطردان ، فقال : » ما هذان النهران يا جبريل؟ قال : هذان النيل والفرا عنصرهما ، ثم مضى به في السماء فإذا هو بنهر آخر عليه قصر من لؤلؤل وزبرجد ، فضرب بيده فإذا هو مسك أذفر ، فقال : ما هذا يا جبريل؟ قال : هذا الكوثر الذي خبأ لك ربك ، ثم عرج به إلى السماء الثانية ، فقالت الملائكة له مثل ما قالت له الملائكة الأولى من هذا؟ قال جبريل ، قالوا : ومن معك؟ قال : محمد صلى الله عليه وسلم ، قالوا : وقد بعث إليه؟ قال : نعم ، قالوا : مرحباً به وأهلاً ، ثم عرج به إلى السماء الثالثة فقالوا له مثل ما قالت الأولى والثانية . ثم عرج به إلى السماء الرابعة ، فقالوا له مثل ذلك ، ثم عرج به إلى السماء الخامسة ، فقالوا له مثل ذلك . ثم عرج به إلى السماء السادسة ، فقالوا له مثل ذلك ثم عرج به إلى السماء السابعة ، فقالوا له مثل ذلك ، كل سماء فيها أنبياء قد سماهم فوعيت منهم إدريس في الثانية ، وهارون في الرابعة ، وآخر في الخامسة لم أحفظ اسمه ، وإبراهيم في السادسة ، وموسى في السابعة بتفضيل كلام الله تعالى ، فقال موسى : رب لم أظن أن ترفع علي أحداً .
ثم علا به فوق ذلك بما لا يعلمه إلا الله عزَّ وجلَّ ، حتى جاء سدرة المنتهى ، ودنا الجبار رب العزة فتدلى ، حتى كان منه قاب قوسين أو أدنى ، فأوحى الله إليه فيما يوحي خمسين صلاة على أمتك كل يوم وليلة ، ثم هب به حتى بلغ موسى ، فاحتبسه موسى فقال : يا محمد ، ماذا عهد إليك ربك؟ قال : « عهد إلي خمسين صلاة كل يوم وليلة » . قال إن أمتك لا تستطيع ذلك ، فارجع فليخفف عنك ربك وعنهم ، فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل كأنه يستشيره في ذلك ، فأشار إليه جبريل أن نعم إن شئت ، فعلا ربه إلى الجبار تعالى وتقدس ، فقال وهو في مكانه : « يا رب خفف عنا فإن أمتي لا تستطيع هذا » ، فوضع عنه عشر صلوات ، ثم رجع موسى فاحتبسه ، فلم يزل يردده موسى إلى ربه حتى صارت إلى خمس صلوات ، ثم احتبسه موسى عند الخمس ، فقال : يا محمد والله لقد راودت بني إسرائيل قومي على أدنى من هذا فضعفوا فتركوه ، فأمتك أضعف أجساداً وقلوباً وأبداناً وأبصاراً وأسماعاً ، فارجع فليخفف عنك ربك ، كل ذلك يلتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى جبريل ليشير عليه ولا يكره ذلك جبريل ، فرفعه عند الخامسة فقال : « يا رب إن أمتي ضعفاء ، أجسادهم وقلوبهم وأسماعهم وأبصارهم وأبدانهم ، فخفف عنا ، فقال البجار تبارك وتعالى : يا محمد! قال : » لبيك وسعديك « ، قال : إنه لا يبدل القول لدي كما فرضت عليك في أم الكتاب ، فكل حسنة بعشر أمثالها ، فهي خمسون في أم الكتاب ، وهي خمس عليك ، فرجع إلى موسى ، فقال : كيف فعلت؟ فقال : » خفف عنا أعطانا بكل حسنة عشر أمثالها « ، قال موسى : قد والله راودت بني إسرائيل على أدنى من ذلك فتركوه ، فارجع إلى ربك فليخفف عنك أيضاً ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا موسى قد والله استحييت من ربي عزَّ وجلَّ مما اختلف إليه « . قال فاهبط باسم الله . قال واستيقظ وهو في المسجد الحرام »(1/1407)
، هكذا ساقه البخاري في كتاب التوحيد .
وقال قال الحافظ البيهقي : في حديث شريك زيادة تفرد بها على مذهب من زعم أنه صلى الله عليه وسلم رأى الله عزَّ وجلَّ ، يعني قوله : ثم دنا الجبار رب العزة فتدلى فكان قاب قوسين أو أدنى . قال : وقول عائشة وابن مسعود وأبي هريرة في حملهم هذه الآيات على رؤيته جبريل أصح . وهذا الذي قاله البيهقي رحمه الله في هذه المسألة هو الحق ، فإن أبا ذر قال : « يا رسول الله هل رأيت ربك؟ قال : » نور أنى أراه « وفي رواية : » رأيت نوراً « أخرجه مسلم ، وقوله : { ثُمَّ دَنَا فتدلى } [ النجم : 8 ] إنما هو جبريل عليه السلام كما ثبت ذلك في » الصحيحين « عن عائشة أم المؤمنين ، وعن ابن مسعود ، وكذلك هو في » صحيح مسلم « عن أبي هريرة ، ولا يعرف لهم مخالف من الصحابة في تفسير هذه الآية بهذا .
وقال الإمام أحمد ، عن أنس بن مالك » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أتيت بالبراق وهو دابة ، أبيض ، فوق الحبمار ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه ، فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس ، فربطت الدابة بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء ، ثم دخلت فصليت فيه ركعتين ، ثم خرجت فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن ، فاخترت اللبن ، فقال جبريل : أصبت الفطرة ، قال : ثم عرج بي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل ، فقيل له من أنت؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : قد أرسل إليه ، ففتح لنا فإذا أنا بآدم فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : قد أرسل إليه ، ففتح لنا ، فإذا أنا بابني الخالة يحيى وعيسى ، فرحبا بي ودعوا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء الثالثة ، فاستفتح جبريل ، فقيل له : من أنت؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : وقد أرسل إليه؟ قال : قد أرسل إليه ، ففتح لنا ، فإذا أنا بيوسف عليه السلام وإذا هو قد أعطي شطر الحسن ، فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء الرابعة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت؟ قال : جبريل ، فقيل : ومن معك؟ قال : محد ، فقيل : وقد أرسل إليه؟ قال : قد بعث إليه . ففتح لنا ، فإذا أنا بإدريس ، فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم يقول تعالى { وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً } [ مريم : 57 ] ، ثم عرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت؟ قال : جبريل ، فقيل : ومن معك؟ قال : محمد ، فقيل : قد أرسل إليه؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا ، فإذا أنا بهارون ، فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، فقيل : وقد بعث إليه؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا ، فإذا أنا بموسى عليه السلام ، فرحب بي ودعا لي بخير ، ثم عرج بنا إلى السماء السابعة ، فاستفتح جبريل ، فقيل : من أنت؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، فقيل : وقد بعث إليه؟ قال : قد بعث إليه ، ففتح لنا ، فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام ، وإذا هو مستند إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ، ثم لا يعودون إليه .
ثم ذهب بي إلى سدرة المنتهى ، فإذا ورقها كآذان الفيلة وإذا ثمرها كالقلال ، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيرت فما أحد من خلق الله تعالى يستطيع أن يصفها من حسنها ، قال : فأوحى الله إليّ ما أوحى ، وقد فرض عليّ في كل يوم وليلة ، خمسين صلاة ، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى ، قال : ما فرض ربك على أمتك؟ قلت : خمسين صلاة في كل يوم وليلة ، قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك ، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم ، قال فرجعت إلى ربي فقلت : أي رب خفف عن أمتي ، فحط عني خمساً ، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى ، فقال : ما فعلت ، فقلت : قد حط عني خمساً ، فقال : إن أمتك لا تطيق ذلك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، قال : فلم أزل أرجع إلى ربي وبين موسى ، ويحط عني خمساً خمساً حتى قال : يا محمد هن خمس صلوات في كل يوم وليلة ، بكل صلاة عشر ، فتلك خمسون صلاة ، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حنسة فإن عملها كتبت عشراً ، ومن همّ بسيئة فلم يعملها لم تكتب فإن عملها كتبت سيئة واحدة ، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته ، فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت « .(1/1408)
عن أنس بن مالك قال : « لما جاء جبريل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالبراق فكأنها حركت ذنبها ، فقال لها جبريل : مه يا براق فوالله ما ركبك مثله ، وسار رسول الله صلى الله عليه وسلم فإذا هو بعجوز على جانب الطريق ، فقال : » ما هذه يا جبريل؟ « سر يا محمد . قال : فسار ما شاء الله أن يسير فإذا شيء يدعوه متخياً عن الطريق ، فقال : هلم يا محمد ، فقال له جبريل : سر يا محمد ، فسار ما شاء الله أن يسير ، قال فلقيه خلق من خلق الله ، فقالوا : السلام عليك يا أول ، السلام عليك يا آخر ، السلام عليك يا حاشر ، فقال له جبريل : اردد السلام يا محمد ، فرد السلام ، ثم لقيه الثانية ، فقال له مثل مقالته الأولى ، ثم الثالثة كذلك حتى انتهى إلى بيت المقدس ، فعرض عليه الخمر والماء واللبن ، فتناول رسول الله صلى الله عليه وسلم اللبن ، فقال له جبريل : أصبت الفطرة ، ولو شربت الماء لغرقت وغرقت أمتك ، ولو شربت الخمر لغويت ولغوت أمتك ، ثم بعث له آدم فمن دونه من الأنبياء عليهم السلام ، فأمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك الليلة . ثم قال له جبريل : أما العجوز التي رأيت على جانب الطريق فلم يبق من الدنيا إلاّ كما بقي من عمر تلك العجوز ، وأما الذي أراد أن تميل إليه فذاك عدو الله إبليس أراد أن تميل إليه ، وأما الذين سلموا عليك فإبراهيم وموسى وعيسى عليهم السلام » .(1/1409)
( رواية عن أنس بن مالك بن صعصعة )
قال الإمام أحمد ، عن أنَس بن مالك : إن مالك بن صعصعة حدثه ، أن نبي الله صلى الله عليه وسلم حدثهم عن ليلة أسري به قال : « » بينما أنا في الحطيم - وربما قال قتادة في الحجر - مضطجعاً إذ أتاني آت ، فجعل يقول لصاحبه : الأوسط بين الثلاثة ، قال : فأتاني فشقّ ما بين هذه إلى هذه « ، أي من ثغرة نحره إلى شعرته ، » فاستخرج قلبي ، قال : فأتيت بطست من ذهب مملوء إيماناً وحكمة ، فغسل قلبي ثم حشا ثم أعيد ، ثم أتيت بدابة دون البغل وفوق الحمار أبيض « . قال ، فقال الجارود : هو البراق يا أبا حمزة؟ قال : نعم يقع خطوه عند أقصى طرفه ، قال : » فحملت عليه فانطلق بي جبريل عليه السلام حتى أتى بي إلى السماء الدنيا فاستفتح ، فقيل : ما هذا ، قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم ، فقيل : مرحباً به ولنعم المجيء جاء ، قال : ففتح لنا ، فلما خلصت فإذا فيها آدم عليه السلام . قال : هذا أبوك آدم فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد السلام ، ثم قال : مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد حتى أتى السماء الثانية فاستفتح ، فقيل : من هذا؟ فقال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ولنعم المجيء جاء ، قال : ففتح لنا ، فلما خلصت فإذا عيسى ويحيى وهما ابنا الخالة ، قال : هذان يحيى وعيسى فسلم عليهما ، قال : فسلمت فردا السلام ، ثم قالا : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ثم صعد حتى أتى السماء الثالثة فاستفتح ، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ولنعم المجيء جاء ، قال : ففتح لنا ، فلما خلصت إذ يوسف عليه السلام ، قال : هذا يوسف ، قال : فسلمت عليه فرد السلام ، ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ، ثم صعد حتى أتى السماء الرابعة فاستفتح ، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : قد أو قد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ولنعم المجيء جاء ، قال : ففتح لنا ، فلما خلصت فإذا إدريس عليه السلام ، قال : هذا إدريس ، قال : فسلمت عليه فرد السلام ، ثم قال مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ، قال : ثم صعد حتى أتى السماء الخامسة فاستفتح ، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قال : مرحباً بك ولنعم المجيء جاء ، ففتح لنا ، فلما خلصت فإذا هارون عليه السلام ، قال : هذا هارون فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد السلام ، ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ، قال : ثم صعد حتى أتى السماء السادسة فاستفتح ، فقيل : من هذا؟ قال : جبريل ، فقيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : أوقد أرسل إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ولنعم المجيء جاء ، ففتح لنا ، فلما خلصت فإذا أنا بموسى عليه السلام ، قال : هذا موسى عليه السلام فسلم عليه ، فسلمت عليه فرد السلام ، ثم قال : مرحباً بالأخ الصالح والنبي الصالح ، قال : فلما تجاوزته بكى ، قيل : ما يبكيك؟ قال : أبكي لأن غلاماً بعث بعدي يدخل الجنة من أمته أكثر مما يدخلها من أمتي ، قال : ثم صعد حتى أتى السماء السابعة فاستفتح ، قيل : من هذا؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك؟ قال : محمد ، قيل : أو قد بعث إليه؟ قال : نعم ، قيل : مرحباً به ولنعم المجيء ، جاء ، قال : ففتح لنا ، فلما خلصت فإذا إبراهيم عليه السلام ، فقال : هذا إبراهيم فسلم عليه ، قال : فسلمت عليه فرد السلام ، ثم قال : مرحباً بالابن الصالح والنبي الصالح ، قال : ثم رفعت إلى سدرة انتهى فإذا نبقها مثل قلال هجر ، وإذا ورقها مثل آذان الفيلة ، فقال : هذه سدرة المنتهى ، قال : وإذا أربعة أنهار نهران باطنان ونهران ظاهران ، فقلت : ما هذا يا جبريل؟ قال : أما الباطنان فنهران في الجنة ، وأما الظاهران فالنيل والفرات ، قال : ثم رفع إليّ البيت المعمور « .(1/1410)
قال قتادة : وحدثنا الحسن ، عن أبي هريرة ، « عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى البيت المعمور ، يدخله كل يوم سبعون ألفاً ثم لا يعودون فيه ، ثم رجع إلى حديث أنس ، قال : » ثم أتيت بإناء من خمر وإناء من لبن وإناء من عسل قال : فأخذت اللبن ، قال : هذه الفطرة أنت عليها وأمتك ، قال : ثم فرضت عليّ الصلاة خمسين صلاة كل يوم ، قال : فنزلت حتى أتيت موسى ، فقال : ما فرض ربك على أمتك؟ قال . قلت : خمسين صلاة كل يوم ، قال : إن أمتك لا تستطيع يخمسين صلاة وإني قد خبرت الناس قبلك ، وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك . قال : فرجعت فوضع عني عشراً ، قال : فرجعت إلى موسى . فقال : بم أمرت؟ قلت بأربعين صلاة كل يوم ، قال : إن أمتك لا تستطيع أربعين صلاة كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، قال : فرجعت فوضع عني عشراً أُخر . فرجعت إلى موسى ، فقال : بم أمرت ، فقلت : أمرت بثلاثين صلاة . قال : إن أمتك لا تستطيع ثلاثين صلاة كل يوم وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة . فارجع لى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، قال : فرجعت فوضع عني عشراً أُخر ، فرجعت إلى موسى فقال : بم أمرت ، قلت : بعشرين صلاة كل يوم . فقال : إن أمتك لا تستعيط العشرين صلاة كل يوم ، وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، قال : فرجعت فوضع عني عشراً أخر . فرجعت إلى موسى فقال : بم أمرت؟ فقلت : أمرت بعشر صلوات كل يوم ، فقال : إن أمتك لا تستطيع العشر صلوات كل يوم ، وإني خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، قال : فرجعت فأمرت بخمس صلوات كل يوم . فرجعت إلى موسى فقال : بم أمرت . فقلت : أمرت بخمس صلوات كل يوم . فقال : إن أمتك لا تستطيع الخمس صلوات كل يوم ، وإني قد خبرت الناس قبلك وعالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، قال : قلت : قد سألت ربي حتى استحييت ولكن أرضى وأسلم . فنفذت ، فنادى مناد قد أمضيت فريضتي وخففت عن عبادي « » .(1/1411)
( رواية أنس عن أبي ذر )
قال البخاري ، عن أنس بن مالك قال : كان أبو ذر يحدث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « فرج عن سقف بيتي وأنا بمكة ، فنزل جبريل ففرج صدري ثم غسله بماء زمزم ، ثم جاء بطست من ذهب ممتلئ حكمة وإيماناً فأفرغه في صدري ، ثم أطبقه ، ثم أخذ بيدي فعرج بي إلى السماء الدنيا ، فلما جئت إلى السماء قال جبريل لخازن السماء : افتح ، قال : من هذا؟ قال : جبريل ، قال : هل معك أحد؟ قال : نعم معي محمد صلى الله عليه وسلم ، فقال : أرسل إليه؟ قال : نعم ، فلما فتح علونا السماء الدنيا فإذا رحل قاعد على يمينه أسودة وعلى يساره أسودة إذا نظر قبل يمينه ضحك ، وإذا نظر قبل شماله بكى ، فقال : مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح . قال : قلت لجبريل : من هذا؟ قال : هذا آدم وهذه الأسودة عن يمينه وعن شماله نسم بنيه . فأهل اليمين منهم أهل الجنة والأسودة التي عن شماله أهل النار ، فإذا نظر عن يمينه ضك ، وإذا نظر عن شماله بكى ، ثم عرج بي إلى السماء الثانية ، فقال لخازنها : افتح ، فقال له خازنها مثل ما قاله له لالأول ففتح » ، قال أنس : فذكر أنه قد وجد في السماوات آدم وإدريس وموسى وعيسى وإبراهيم ولم يثبت كيف منازلهم ، غير أنه ذكر أنه وجد آدم في السماء الدنيا ، وإبراهيم في السماء السادسة . قال أنس : فلما مر جبريل والنبي صلى الله عليه وسلم بإدريس ، قال : مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح ، فقلت من هذا؟ قال : إدريس ، ثم مر بموسى فقال : مرحباً : بالنبي الصالح والأخ الصالح ، فقلت : من هذا ، قال : هذا موسى ، ثم مررت بعيسى ، فقال : مرحباً بالنبي الصالح والأخ الصالح ، قلت : من هذا؟ قال : هذا عيسى ، ثم مررت بإبراهيم ، فقال : مرحباً بالنبي الصالح والابن الصالح ، قلت : من هذا؟ قال : هذا إبراهيم ، قال الزهري : فأخبرني ابن حزم أن ابن عباس وأبا حية الأنصاري كانا يقولان ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « ثم عرج بي حتى ظهرت لمستوى أسمع فيه صريف الأقلام » . قال ابن حزم وأنس بن مالك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ففرض الله على أمتي خمسين صلاة ، فرجعت بذلك حتى مررت على موسى عليه السلام ، فقال : ما فرض الله على أمتك؟ قلت : فرض خمسين صلاة ، قال موسى : فارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فرجعت فوضع شطرها فرجعت إلى موسى قلت : وضع شطرها ، فقال أرجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فرجعت فوضع شطرها فرجعت إليه ، فقال : ارجع إلى ربك فإن أمتك لا تطيق ذلك فراجعته فقال : هي خمس وهي خمسون لا يبدل القول لدي ، فرجعت إلى موسى فقال : ارجع إلى ربك ، قلت قد استحييت من ربي ، ثم انطلق بي حتى انتهى إلى سدرة المنتهى فغشيها ألوان لا أدري ما هي ، ثم أدخلت الجنة فإذا فيها حبائل اللؤلؤ وإذا ترابها المسك » .(1/1412)
عن جابر بن عبد الله ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس ، قمت في الحجر فجلَّى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر بيت المقدس لقي فيه إبراهيم وموسى وعيسى ، وإنه أتي بقدحين من لبن وقدح من خمر ، فنظر إليهما ثم أخذ قدح اللبن ، فقال جبريل : أصبت هديت للفطرة ، لو أخذت الخمر لغوت أمتك ، ثم رجع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مكة فأخبر أنه أسري به فافتتن ناس كثير كانوا قد صلوا معه » . وقال ابن شهاب : قال أبو سلمة بن عبد الرحمن : فتجهز - أو كلمة نحوها - ناس من قريش إلى أبي بكر فقالوا : هل لك في صاحبك؟ يزعم أنه جاء إلى بيت المقدس ، ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة . فقال أبو بكر : أو قال ذلك؟ قالوا : نعم ، قال : فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق ، قالوا : فتصدقه في أن يأتي الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح؟ قال : نعم أنا أصدقه بأبعد من ذلك ، أصدقه بخير السماء ، قال أبو سلمة : فبها سمي أبو بكر الصديق : قال أبو سلمة : فسمعت جابر بن عبد الله رضي الله عنهما يحدث ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لما كذبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس ، قمت في الحجر فجلى الله لي بيت المقدس فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه » .(1/1413)
( رواية شداد بن أوس )
روى الإمام الترمذي ، عن جبير بن نفير ، عن شداد بن أوس قال ، يا رسول الله ، كيف أسري بك؟ قال : « صليت لأصحابي صلاة العتمة بمكة معتماً ، فأتاني جبريل عليه السلام بدابة أبيض - أو قال بيضاء - فوق الحمار ودون البغل ، فقال : اركب ، فاستصعب علي ، فرازها بأذنها . ثم حملني عليها . فانطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث انتهى طرفها حتى بلغنا أرضاً ذات نخل فأنزلني . فقال : صلِّ ، فصليت ، ثم ركبت ، فقال : أتدري أين صليت؟ قلت : الله أعلم ، قال : صليت بيثرب ، وصليت بطيبة ، فانطلقت تهوي بنا ، يقع حافرها عند منتهى طرفها ، ثم بلغنا أرضاً ، قال : انزل ، ثم قال : صلِّ ، فصلَّيت ، ثم ركبنا ، فقال : أتدري أين صليت؟ قلت : الله أعلم ، قال : صليت بمدين عند شجرة موسى ، ثم انطلقت تهوي بنا يقع حافرها حيث أدرك طرفها ، ثم بلغنا أرضاً بدت لنا قصور ، فقال : انزل فنزلت ، فقال : صلِّ ، فصلَّيت ، ثم ركبنا ، فقال : أتدري أين صليت؟ قلت : الله أعلم ، قال : صليت ببيت لحم ، حيث ولد عيسى ابن مريم ، ثم انطلق بي حتى دخلنا المدينة من بابها اليماني ، فأتى قبلة المسجد فربط فيه دابته ودخلنا المسجد من باب تميل فيه الشمس والقمر ، فصليت من المسجد حيث شاء الله ، وأخذني من العطش أشد ما أخذني ، فأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر عسل أرسل إليّ بهما جميعاً ، فعدلت بينهما ثم هداني الله عزَّ وجلَّ فأخذت اللبن فشربت حتى عرقت به جبيني ، وبين يدي شيخُ متكئ على مثوات له ، فقال : أخذ صاحبك الفطرة إنه ليهدى ، ثم انطلق بي حتى أتينا الوادي الذي فيه المدينة فإذا جهنم تنكشف عن مثل الروابي ، قلت : يا رسول الله كيف وجدتها؟ قال : وجدتها مثل الحمة السنخة ، ثم انصرف بين فمررنا بعير لقريش بمكان كذا وكذا قد أضلوا بعيراً لهم قد جمه فلان فسلمت عليهم ، فقال بعضهم : هذا صوت محمد ، ثم أتيت أصحابي قبل الصبح بمكة ، فأتاني أبو بكر رضي الله عنه ، فقال : يا رسول الله أي كنت الليلة فقد التمستك في منامك ، فقد علمت أنك أتيت بيت المقدس الليلة ، فقال يا رسول الله إنه مسيرة شهر فصفه لي . قال : ففتح لي صراط كأني أنظر إليه لا يسألني عن شيء إلاّ أنبأته . فقال أبو بكر : أشهد أنك لرسول الله ، وقال المشركون : انظروا إلى ابن أبي كبشه يزعم أنه أتى بيت المقدس الليلة! قال : فقال : إن من آية ما أقول لكم أني مررت بعير لكم في مكان كذا وكذا ، وقد أضلوا بعيراً لهم فجمعه لهم فلان ، وإن مسيرهم ينزلون بكذا ثم بكذا ، ويأتونكم يوك كذا وكذا ، يقدمهم جمل آدم عليه مسح أسود وغرارتان سوداوان ، فلما كان ذلك اليوم أشرف الناس ينظرون حين كان قريباً من نصف النهار ، حتى أقبلت العير يقدمهم ذلك الجمل الذي وصفه رسول الله صلى الله عليه وسلم » .(1/1414)
قال البيهقي ، عن قتادة عن أبي العالية ، قال : حدثنا ابن عم نبيكم صلى الله عليه وسلم ابن عباس رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رأيت ليلة أسرى بي موسى بن عمران رجلاً طوالاً جعداً كأنه من رجال شنوءة ، ورأيت عيسى ابن مريم عليه السلام مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس » . وأري مالكاً خازن جهنم ، والدجال في في آيات أراهن الله إياه ، قال : { فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَآئِهِ } [ السجدة : 23 ] ، فكان قتادة يفسرها أن نبي الله صلى الله عليه وسلم قد لقي موسى عليه السلام ، { وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ } [ الإسراء : 2 ] قال : جعل موسى هدى لبني إسرائيل عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما كان ليلة أسري بي فأصبحت بمكة ، عرفت أن الناس مكذبي ، فقعد معتزلاً حزيناً ، فمرّ به عدّو الله أبو جهل ، فجاء حتى جلس إليه فقال له كالمستهزئ : هل كان من شيء؟ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » نعم « ، قال : وما هو؟ قال : » إني أسري بي الليلة « ، قال : إلى أين؟ قال : » إلى بيت المقدس « . قال : ثم أصبحت بين ظهرانينا؟! قال : » نعم « ، قال : فلم ير أن يكذبه مخافة أن يجحد الحديث إن دعا قومه إليه ، قال : أرأيتا إن دعوت قومك أتحدثهم بما حدثني؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » نعم « ، فقال : يا معشر بني كعب بن لؤي ، قال : فانفضت إليه المجالس وجاءوا حتى جلسوا إليهما ، قال : حدّث قومك بما حدثتني . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إني أسري بي الليلة « ، فقالوا : إلى أين؟ قال : » إلى بيت المقدس « ، قالوا : ثم أصبحت بين ظهرانينا؟ قال : » نعم « . قال ، فمن بين مصفق ومن بين واضع يده على رأسه متعجباً للكذب ، قالوا : وتستطيع أن تنعت لنا المسجد؟ وفيهم من قد سافر إلى ذلك البلد ورأى المسجد ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فما زلت أنعت حتى التبس علي بعض النعت ، قال : فجيء بالمسجد وأنا أنظر إليه حتى وضع دون دار عقيل ، فنعته وأنا أنظر إليه ، قال : وكان مع هذا نعت لم أحفظه ، قال ، فقال القوم : أما النعت فوالله لقد أصاب فيه « .(1/1415)
وقد روي البخاري ومسلم في « الصحيحين » ، عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « حين أسري بي لقيت موسى عليه السلام -فنعته فإذا رجل حسبته قال : مضطرب . رجلُ الرأس ، كأنه من رجال شنوءة ، قال : ولقيت عيسى - فنعته النبي صلى الله عليه وسلم قال : ربعة أحمر كأنما خرج من ديماس - يعني حمام ، قال : ولقيت إبراهيم وأنا أشبه ولده به ، قال : وأتيت بإناءين في أحدهما لبن وفي الآخر خمر ، قيل لي : خذ أيهما شئت ، فأخذت اللبن فشربت ، فقيل لي : هديت الفطرة ، - أو أصبت الفطرة - أما أنك لو أخذت الخمر غوت أمتك » ، وفي « صحيح مسلم » ، عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد رأيتني في الحجر وقريش تسألني مسراي ، فسألوني عن أشياء من بيت المقدس لم أثبتها فكربت كرباً ما كربت مثله قط ، فرفعه الله إلي أنظر إليه ، ما سألوني عن شيء إلاّ أنبأتهم به ، وقد رأيتني في جماعة من الأنبياء ، وإذا موسى قائم يصلي وإذا هو رجل جعد كأنه من رجال شنوءة ، وإذا عيسى ابن مريم قائم يصلي أقرب الناس شبهاً به عروة بن مسعود الثقفي ، وإذا إبراهيم قائم يصلي أقرب الناس شبهاً به صاحبكم - يعني نفسه - فحانت الصلاة فأممتهم ، فلما فرغت قال قائل : يا محمد هذا مالك خازن جهنم ، فالتفت إليه فبدأني بالسلام » .
« رأيت ليلة أسري بي لما انتهيت إلى السماء السابعة ، فنظرت فوق ، فإذا رعد وبرق وصواعق ، قال : وأتيت على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات ترى من خارج بطونهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء آكلوا الربا ، فلما نزلت إلى السماء الدنيا نظرت أسفل مني فذا أنا برهج ودخان وأصوات ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هذه الشياطين يحومون على أعين بني آدم لا يتفكرون في ملكوت السماوات والأرض ، ولولا ذلك لرأوا العجائب »(1/1416)
فصل
وإذا حصل الوقوف على مجموع هذه الأحاديث يحصل مضمون ما اتفقت عليه من مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى بيت المقدس ، وأنه مرة واحدة ، قال الزهري : كان الإسراء قبل الهجرة والحق أنه عليه السلام أسري به ( يقظة ) لا ( مناماً ) من مكة إلى بيت المقدس راكباً على البراق ، فلما انتهى إلى باب المسجد ربط الدابة عند الباب ودخله فصلى في قبلته تحية المسجد ركعتين ، ثم أتي بالمعراج وهو كالسلم ذو درج يرقى فيها فصعد فيه إلى السماء الدنيا ، ثم إلى بقية السماوات السبع ، فتلقاه من كل سماء مقربوها ، وسلم على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم ، حتى مرّ بموسى الكليم في السادسة ، وإبراهيم الخليل في السابعة ، ثم جاوز منزلتيهما صلى الله عليه وسلم وعليهما وعلى سائر الأنبياء ، حتى انتهى إلى مستوى يسمع فيه صريف الأقلام . أي أقلام القدر ، بما هو كائن ، ورأى سدرة المنتهى وغشيها من أمر الله تعالى عظمة عظيمة من فراش من ذهب وألوان متعددة . وغشيتها الملائكة ، ورأى هناك جبريل على صورته وله ستمائة جناح ، ورأى رفرفاً أخضر قد سد الأفق . ورأى البيت المعمور وإبراهيم الخليل باني الكعبة الأرضية مسنداً ظهره إليه لأنه الكعبة السماوية ، يدخله كل يوم سبعون ألفاً من الملائكة يتعبدون فيه ثم لا يعودون إليه إلى يوم القيامة . ورأى الجنة والنار وفرض الله عليه هنالك الصلوات خمسين ، ثم خففها إلى خمس رحمة منه ولطفاً بعباده ، وفي هذا اعتناء عظيم بشرف الصلاة وعظمتها ، ثم هبط إلى بيت المقدس وهبط معه الأنبياء فصلى بهم فيه لما حانت الصلاة ، ويحتمل أنها الصبح يومئذٍ ، ومن الناس من يزعم أنه أمهم في السماء ، والذي تظاهرت به الروايات أنه ببيت المقدس ولكن في بعضها أنه كان أول دخوله إليه ، والظاهر أنه بعد رجوعه إليه لأنه لما مرّ بهم في منازلهم جعل يسأل عنهم جبريل واحداً واحداً وهو يخبره بهم . وهذا هو اللائق ، لأنه كان أولاً مطلوباً إلى الجناب العلوي ليفرض عليه وعلى أمته ما يشاء الله تعالى ، ثم لما فرغ من الذي أريد به اجتمع به هو وإخوته من النبيين ، ثم أظهر شرفه وفضله عليهم بتقديمه في الإمامة ، وذلك عن إشارة جبريل عليه السلام له في ذلك . ثم خرج من بيت المقدس فركب البراق وعاد إلى مكة بغلس والله سبحانه وتعالى أعلم .
ثم اختلف الناس هل كان الإسراء ببدنه عليه السلام وروحه أو بروحه فقط؟ على قولين ، فالأكثرون من العلماء على أنه أسري ببدنه وروحه يقظه لا مناماً . ولا ينكرون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى قبل ذلك مناماً ثم رآه بعد ذلك يقظه لأنه كان عليه السلام لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح ، والدليل على هذا قوله تعالى : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى الذي بَارَكْنَا حَوْلَهُ } .(1/1417)
فالتسبيح إنما يكون عند الأمور العظام ، فلو كان مناماً لم يكن فيه كبير شيء ولم يكن مستعظماً ، ولما بادرت كفار قريش إلى تكذيبه . ولما ارتدت جماعة مما كان قد أسلم . وأيضاً فإن العبد عبارة عن مجموع الروح والجسد وقد قال : { أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } وقال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } [ الإسراء : 60 ] قال ابن عباس : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به ، والشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم . وقال تعالى : { مَا زَاغَ البصر وَمَا طغى } [ النجم : 17 ] . والبصر من آلات الذات لا الروح ، وأيضاً فإنه حمل على البراق وهو دابة بيضاء براقة لا لمعان وإنما يكون هذا للبدن لا للروح لأنها لا تحتاج في حركتها إلى مركب تركب عليه والله أعلم . وقال آخرون : بل أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم بروجه ولا بجسده وقد تعقبه أبو جعفر بن جرير في تفسير بالرد والإنكار والتشنيع بأن هذا خلاف ظاهر سياق القرآن .
فائدة :
وقد ذكر حديث الإسراء ، من طريق أنس ، وقد تواترت الروايات في حديث الإسراء ، عن عمر بن الخطاب ، وعلي ، وابن مسعود ، وأبي ذر ، ومالك بن صعصعة ، وأبي هريرة ، وأبي سعيد ، وابن عباس ، وشداد بن أوس ، وأُبي بن كعب وعبد الله بن عمرو ، وجابر ، وحذيفة ، وأبي أيوب ، وأبي أمامة ، وسمرة بن جندب ، وصهيب الرومي ، وأم هانئ ، وعائشة ، وأسماء رضي الله عنهم أجمعين ، منهم من ساقه بطوله ومنهم من اختصره على ما وقع في المسانيد . وإن لم تكن الرواية بعضهم على شرط الصحة ، فحديث الإسراء أجمع عليه المسلمون وأعرض عن الزنادقة والملحدون { يُرِيدُونَ لِيُطْفِئُواْ نُورَ الله بِأَفْوَاهِهِمْ والله مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون } [ الصف : 8 ] .(1/1418)
وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلًا (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْدًا شَكُورًا (3)
لما ذكر تعالى أنه أسري بعبده محمد صلى الله عليه وسلم ، عطف بذكر موسى عبده ورسوله وكليمه أيضاً ، فإنه تعالى كثيراً ما يقرن بين ذكر موسى ومحمد عليهما من الله الصلاة والسلام ، وبين ذكر التوراة والقرآن ، ولهذا قال بعد ذكر الإسراء : { وَآتَيْنَآ مُوسَى الكتاب } يعني التوراة ، { وَجَعَلْنَاهُ } أي الكتاب { هُدًى } أي هادياً { لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ } أي لئلا تتخذوا ، { مِن دُونِي وَكِيلاً } أي ولياً ولا نصيراً ولا معبوداً دوني ، لأن الله تعالى أنزل على كل نبي أرسله أن يعبده وحده لا شريك له ، ثم قال : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ } تقديره : يا ذرية من حملنا مع نوح! فيه تهييج وتنبيه على المنة ، أي يا سلالة من تجينا فحملنا مع نوح في السفينة تشبهوا بأبيكم { إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } فاذكروا نعمتي عليكم بإرسالي إليكم محمداً صلى الله عليه وسلم ، وقد ورد في الأثر : أن نوحاً عليه السلام كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله ، فلهذا سمي عبداً شكوراً . قال الطبراني ، عن سعد بن مسعود الثقفي قال : إنما سمي نوح عبداً شكوراً لأنه كان إذا أكل أو شرب حمد الله . وفي الحديث : « إن الله ليرضى عن العبد أن يأكل الأكلة أو يشرب الشربة فيحمد الله عليها » وفي حديث الشفاعة ، عن أبي هريرة مرفوعاً ، قال : « فيأتون نوحاً ، يا نوح إنك أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وقد سماك الله عبداً شكوراً فاشفع لنا إلى ربك » .(1/1419)
وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ أُولَاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَنَا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُوا خِلَالَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَفْعُولًا (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوءُوا وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُوا مَا عَلَوْا تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدْتُمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8)
يخبر تعالى أنه قضى إلى بني إسرائيل في الكتاب ، أي تقدم إليهم وأخبرهم في الكتاب الذي أنزله عليهم أنهم سيفسدون في الأرض مرتين ويعلون علواً كبيراً ، أي يتجبرون ويطغون ويفجرون على الناس ، كقوله تعالى : { وَقَضَيْنَآ إِلَيْهِ ذَلِكَ الأمر أَنَّ دَابِرَ هَؤُلآءِ مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ } [ الحجر : 66 ] أي تقدمنا إليه وأخبرناه بذلك وأعلمناه به . وقوله : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا } أي أولى الإفسادتين { بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَآ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ } أي سلطنا عليكم جنداً من خلقنا أولي بأس شديد ، أي قوة وعدة وسلطنة شديدة ، { فَجَاسُواْ خِلاَلَ الديار } أي تملكوا بلادكم وسلكوا خلال بيوتكم ، أي بينها ووسطها ذاهبين وجائين لا يخافون أحداً ، { وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً } . وقد اختلف المفسرون في هؤلاء المسلطين عليهم من هم؟ فعن ابن عباس وقتادة : أنه ( جالوت ) وجنوده سلط عليهم أولاً ثم أديلوا عليه بعد ذلك ، وقتل داود جالوت ، ولهذا قال : { ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الكرة عَلَيْهِمْ } الآية ، وعن سعيد بن جبير وعن غيره أو ( بختنصر ) ملك بابل . وقد أخبر الله عنهم أنهم لما طغوا وبغوا وسلط الله عليهم عدوّهم فاستباح بيضتهم ، وسلك خلال بيوتهم ، وأذلهم وقهرهم ، جزاء وفاقاً { وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } [ فصلت : 46 ] ، فإنهم كانوا قد تمردوا ، وقتلوا خلقاً من الأنبياء والعلماء وقد روى ابن جرير ، عن يحيى ابن سعيد قال : سمعت سعيد بن المسيب يقول : ظهر بختنصر على الشام فخرب بيت المقدس وقتلهم ، ثم أتى دمشق فوجد بها دماً يغلي على كبا ، فسأله ما هذا الدم؟ فقالوا : أدركنا آباءنا على هذا ، قال : فقتل على ذلك الدم سبعين ألفاً من المسلمين وغيرهم ، فسكن . وهذا صحيح إلى سعيد ابن المسيب وهذا هو المشهور . وأنه قتل أشرافهم وعلماءهم ، حتى إنه لم يبق من يحفظ التوراة ، وأخذ معه منهم خلقاً كثيراً أسرى من بناء الأنبياء وغيرهم ، وجرت أمور وكوائن يطول ذكرها ، ولو وجدنا ما هو صحيح أو ما يقاربه لجاز كتابته وروايته والله أعلم . ثم قال تعالى : { إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا } أي فعليها ، كما قال تعالى : { مَنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ أَسَآءَ فَعَلَيْهَا } [ الجاثية : 15 ] ، وقوله : { فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة } أي الكرة الآخرة ، أي إذا أفسدتم الكرة الثانية وجاء أعداؤكم { لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ } : أي يهينوكم ويقهروكم ، { وَلِيَدْخُلُواْ المسجد } أي بيت المقدس { كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ } : أي في التي جاسوا فيها خلال الديار ، { وَلِيُتَبِّرُواْ } : أي يدمروا ويخربوا { مَا عَلَوْاْ } أي ما ظهروا عليه { تَتْبِيراً * عسى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ } : أي فيصرفهم عنكم { وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا } أي متى عدتم إلى الإفساد عدنا إلى الإدلة عليكم في الدنيا مع ما ندخره لكم في الآخرة من العذاب والنكال ، ولهذا قال : { وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً } أي مستقراً ومحصراً وسجناً لا محيد عنه . قال ابن عباس { حَصِيراً } أي سجناً . وقال الحسن : فراشاً ومهاداً ، وقال قتادة : قد عاد بنو إسرائيل فسلط الله عليهم هذا الحي محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه يأخذون منهم الجزية عن يد وهم صاغرون .(1/1420)
إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا (9) وَأَنَّ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (10)
يمدح تعالى كتابه العزيز الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم وهو القرآن ، بأنه يهدي لأقوم الطرق وأوضح السبل ، ويبشر المؤمنين به الذين يعملون الصالحات على مقتضاه أن لهم أجراً كبيراً أي يوم القيامة ، وأن الذين لا يؤمنون بالآخرة : أي ويبشر الذين ا يؤمنون بالآخرة ، أن لهم عذاباً أليماً ، أي يوم القيامة ، كما قال تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } [ آل عمران : 21 ] .(1/1421)
وَيَدْعُ الْإِنْسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءَهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ عَجُولًا (11)
يخبر تعالى عن عجلة الإنسان ودعائه في بعض الأحيان على نفسه أو ولده أو ماله بالشر ، أي بالموت أو الهلاك والدمار واللعنة ونحو ذلك ، فلو استجاب له ربه لهلك بدعائه ، كما قال تعالى : { وَلَوْ يُعَجِّلُ الله لِلنَّاسِ الشر } [ يونس : 11 ] الآية . وكذا فسره ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وقد تقدم في الحديث : « لا تدعوا على أنفسكم ولا على أموالكم أن توافقوا من الله ساعة إجابة يستجيب فيها » وإنما يحمل ابن آدم على ذلك قلقه وعجلته ، ولهذا قال تعالى : { وَكَانَ الإنسان عَجُولاً } .(1/1422)
وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا (12)
يمتن تعالى على خلقه بآياته العظام ، فمنها مخالفته بين الليل والنهار ليسكنوا في الليل وينتشروا في النهار للمعايش والصنائع والأعمال والأسفار ، وليعلموا عدد الأيام والجمع والشهور والأعوام ، ويعرفوا مضي الآجال المضروبة للديون والعبادات والمعاملات والإجازات وغير ذلك ، ولهذا قال { لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } : أي في معايشكم وأسفاركم ونحو ذلك ، { وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب } ، فإنه لو كان الزمان كله نسقاً واحداً وأسلوباً متساوياً لما عرف شيء من ذلك ، كما قال تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِن جَعَلَ الله عَلَيْكُمُ الليل سَرْمَداً إلى يَوْمِ القيامة مَنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِضِيَآءٍ أَفَلاَ تَسْمَعُونَ } [ القصص : 71 ] ، وقال تعالى : { وَهُوَ الذي جَعَلَ اليل والنهار خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً } [ الفرقان : 62 ] ، وقال تعالى : { وَلَهُ اختلاف الليل والنهار } [ المؤمنون : 80 ] ، وقال { يُكَوِّرُ الليل عَلَى النهار وَيُكَوِّرُ النهار عَلَى الليل } [ الزمر : 5 ] الآية ، وقال تعالى : { فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً والشمس والقمر حُسْبَاناً ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم } [ الأنعام : 96 ] ، ثم إنه تعالى جعل لليل آية ، أي علامة يعرف بها ، وهي الظلام وظهور القمر فيه ، وللنهار علامة ، وهي النور وطلوع الشمس النيرة فيه ، وفاوت بين نور القمر وضياء الشمس ليعرف هذا من هذا ، كما قال تعالى : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السنين والحساب مَا خَلَقَ الله ذلك إِلاَّ بالحق } [ يونس : 5 ] ، وقال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } [ البقرة : 189 ] الآية . قال ابن جريج عن عبد الله بن كثير في قوله : { فَمَحَوْنَآ آيَةَ اليل وَجَعَلْنَآ آيَةَ النهار مُبْصِرَةً } قال : ظلمة الليل وسدف النهار ، وعن مجاهد : الشمس آية النهار ، والقمر آية الليل . وقال ابن عباس : كان القمر يضيء كما تضيء الشمس ، والقمر آية الليل ، والشمس آية النهار ، فمحونا آية الليل السواد الذي في القمر . وقال قتادة : كنا نتحدث أن محو آية الليل سواد القمر الذي فيه ، وجعلنا آية النهار مبصرة أي منيرة ، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم ، وقال ابن عباس { وَجَعَلْنَا اليل والنهار آيَتَيْنِ } قال : ليلاً ونهاراً ، كذلك خلقهما الله عزَّ وجلَّ .(1/1423)
وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنْشُورًا (13) اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا (14)
يقول تعالى بعد ذكر الزمان وذكر ما يقع فيه من أعمال بني آدم { وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } ، وطائرة : هو ما طار عنه من عمله ، كما قال ابن عباس ومجاهد وغيرهما : من خير وشر ، ويلزم به ويجازى عليه ، { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7-8 ] ، وقال تعالى : { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ * مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 17-18 ] ، وقال : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ * كِرَاماً كَاتِبِينَ * يَعْلَمُونَ مَا تَفْعَلُونَ } [ الانفطار : 10-12 ] ، والمقصود أن عمل ابن آدم محفوظ عليه قليله وكثيره ، ويكتب عليه ليلاً ونهاراً صباحاً ومساء ، وقال الإمام أحمد عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « الطائر كل إنسان في عنقه » وقوله : { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } أي نجمع له عمله كله في كتاب ، يعطاه يوم القيامة ، إما بيمينه إن كان سعيداً ، أو بشماله إن كان شقياً { مَنْشُوراً } أي مفتوحاً يقرؤه هو وغيره ، فيه جميع عمله من أول عمره إلى آخره { يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] ، ولهذا قال تعالى : { اقرأ كتابك كفى بِنَفْسِكَ اليوم عَلَيْكَ حَسِيباً } أي إنك تعلم أنك لم تظلم ولم يكتب عليك إلاّ ما عملت ، لأنك ذكرت جميع ما كان منك ، ولا ينسى أحد شيئاً مما كان منه ، وكل أحد يقرأ كتابه من كاتب وأمي ، وقوله : { أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } إنما ذكر العنق لأنه عضو لا نظير له في الجسد ، ومن ألزم بشيء فيه فلا محيد له عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ليس من عمل يوم إلاّ وهو يختم عليه ، فإذا مرض المؤمن قالت الملائكة : يا ربنا عبدك فلان قد حبسته ، فيقول الرب جل جلاله : اختموا له على مثل عمله حتى يبرأ أو يموت » ، وقال معمر عن قتادة { أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ } قال : عمله ، { وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ القيامة } قال : نخرج ذلك العمل { كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنْشُوراً } قال معمر : وتلا الحسن البصري { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال قَعِيدٌ } [ ق : 17 ] يا ابن آدم بسطت لك صحيفتك ، ووكل بك ملكان كريمان أحدهما عن يمينك والآخر عن شمالك ، فأما الذي عن يمينك فيحفظ حسناتك ، وأما الذي عن شمالك فيحفظ سيئاتك ، فاعمل ما شئت ، أقلل أو أكثر ، حتى إذا مت طويت صحيفتك فجعلت في عنقك معك في قبرك ، حتى تخرج يوم القيامة كتاباً تلقاه منشوراً { اقرأ كتابك } الآية . فقد عدل والله من جعلك حسيب نفسك ، هذا من أحسن كلام الحسن رحمه الله .(1/1424)
مَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَنْ ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا (15)
يختبر تعالى أن من اهتدى واتبع الحق واقتفى أثر النبوة ، فإنما يحصل عاقبة ذلك الحميدة لنفسه ، { وَمَن ضَلَّ } أي عن الحق وزاغ عن سبيل الرشاد ، فإنما يجني على نفسه ، وإنما يعود وبال ذلك عليه ، ثم قال : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } أي لا يحمل أحد ذنب أحد؟ ولا يجني جان إلاّ على نفسه . ؟ كما قال تعالى : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ } [ فاطر : 18 ] ، ولا منافاة بين هذا وبين قوله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] وقوله : { وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 25 ] فإن الدعاة عليهم إثم ضلالتهم في أنفسهم ، وإثم آخر بسبب ما أضلوا من أضلوا ، وهذا من عدل الله ورحمته بعباده ، وكذا قوله تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } إخبار عن عدله تعالى؛ وأنه لا يعذب أحداً إلاّ بعد قيام الحجة عليه ، بإرسال الرسول إيه كقوله تعالى : { فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ * قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا } [ الملك : 8-9 ] الآية ، وقوله : { وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا قَالُواْ بلى ولكن حَقَّتْ كَلِمَةُ العذاب عَلَى الكافرين } [ الزمر : 71 ] ، وقال تعالى : { أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَّا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَن تَذَكَّرَ وَجَآءَكُمُ النذير فَذُوقُواْ فَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ } [ فاطر : 37 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أن الله تعالى لا يدخل أحداً النار إلاّ بعد إرسال الرسول إليه .
مسألة
بقي هاهنا قد اختلف الأئمة رحمهم الله تعالى فيها قديماً وحديثاً ، هي الولدان الذين ماتوا وهم صغار وآباؤهم كفار ماذا حكمهم! وكذا المجنون والأصم والشيخ الخرف ، ومن مات في الفترة ولم تبلغه دعوته . وقد ورد في شأنهم أحاديث أنا أذكرها لك بعون الله وتوفيقه ، ثم نذكر فصلاً ملخصاً من كلام الأئمة في ذلك والله المستعان . ( فالحديث الأول ) : رواه الإمام أحمد عن الأسود بن سريع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أربعة يحتجون يوم القيامة : رجل أصم لا يسمع شيئاً ، ورجل أحمق ، ورجل هرم ، ورجل مات في فترة ، فأما الأصم فيقول رب قد جاء الإسلام وما أسمع شيئاً ، وأما الأحمق فيقول : رب قد جاء الإسلام والصبيان يحذفوني بالبعر . وأما الهرم فيقول لقد جاء الإسلام وما أعقل شيئاً ، وأما الذي مات في الفترة فيقول : رب ما أتاني لك رسول . فيأخذ مواثيقهم ليطيعنه فيرسل إليهم أن ادخلوا النار ، فوالذي نفس محمد بيده لو دخلوها لكانت عليهم برداً وسلاماً » .
( الحديث الثاني ) : عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المسلمين ، قال : » هم مع أبائهم « ، وسئل عن أولاد المشركين . فقال : » هم مع آبائهم « ، فقيل : يا رسول الله ما يعملون؟ قال : » الله أعلم بهم « .(1/1425)
( الحديث الثالث ) : عن ثوبان أن النبي صلى الله عليه وسلم عظَّم شأن المسألة قال : « إذا كان يوم القيامة جاء أهل الجاهلية يحملون أوزارهم على ظهورهم فيسألهم ربهم فيقولون : ربنا لم ترسل إلينا رسولاً ، ولم يأتنا لك أمر ، ولو أرسلت إلينا رسولاً لكنا أطوع عبادك ، فيقول لهم ربهم : أرأيتم إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيقولون : نعم ، فيأمرهم أن يعمدوا إلى جهنم فيدخلوها ، فينطلقون حتى إذا دنوا منها وجدوا لها تغيظاً وزفيراً ، فرجعوا إلى ربهم ، فيقولون : ربنا أخرجنا أو أجرنا منها ، فيقول لهم : ألم تزعموا أني إن أمرتكم بأمر تطيعوني؟ فيأخذ على ذلك مواثيقهم ، فيقول : اعمدوا إليها فادخلوها ، فينطلقون ، حتى إذا رأوها فرقوا منها ورجعوا ، وقالوا : ربنا فرقنا منها ولا نستطيع أن ندخلها ، فيقول : ادخلوها داخرين » ، فقال نبي الله صلى الله عليه وسلم : « لو دخلوها أول مرة كانت عليهم برداً وسلاماً » ( الحديث الرابع ) : عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كل مولود يولد على الفطرة ، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه ، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء ، هل تحسون فيها من جدعاء » ، وفي رواية قالوا : « يا رسول الله أفرأيت من يموت صغيراً ، قال : » الله أعلم بما كانوا عاملين « ، وروى الإمام أحمد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » ذراري المسلمين في الجنة يكفلهم إبراهيم عليه السلام « وفي » صحيح مسلم « عن عياض بن حمار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الله عزَّ وجلَّ أنه قال : » إني خلقت عبادي حنفاء « ( الحديث الخامس ) : عن سمرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » كل مولود يولد على الفطرة « ، فناداه الناس : يا رسول الله وأولاد المشركين . قال : » وأولاد المشركين « وقال الطبراني عن أبي رجاء عن سمرة قال : » سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أطفال المشركين فقال : « هم خدم أهل الجنة » ( الحديث السادس ) : عن خنساء بنت معاوية ، من بني صريم قالت : حدّثني عمي قال ، قلت : « يا رسول الله من في الجنة؟ قال : » النبي في الجنة ، والشهيد في الجنة ، والمولود في الجنة ، والوئيد في الجنة « فمن العلماء من ذهب إلى الوقوف فيهم لهذا الحديث ، ومنهم من جزم لهم بالجنة لحديث سمرة بن جندب في » صحيح البخاري « » أنه عليه الصلاة والسلام قال في جملة ذلك المنام حين مرّ على ذلك الشيخ تحت الشجرة وحوله ولدان ، فقال له جبريل : هذا إبراهيم عليه السلام وهؤلاء أولاد المسلمين وأولاد المشركين ، قالوا : يا رسول الله وأولاد المشركين؟ قال : نعم ، وأولاد المشركين «(1/1426)
ومنهم من جزم لهم بالنار ، لقوله عليه السلام : « هم مع آبائهم » ومنهم من ذهب إلى أنهم يمتحنون يوم القيامة في العرصات ، فمن أطاع دخل الجنة وانكشف علم الله فيهم بسابق السعادة ، ومن عصى دخل النار داخراً وانكشف علم الله فيه بسابق الشقاوة . وهذا القول يجمع بين الأدلة كلها . وقد صرحت به الأحاديث المتقدمة المتعاضدة الشاهد بعضها لبعض . وهذا القول الذي حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن أهل السنّة والجماعة ، وهو الذي نصره الحافظ أبو بكر البيهقي في « كتاب الاعتقاد » . وكذلك غيره من محققي العلماء والحفاظ والنقاد . وقد ذكر الشيخ ابن عبد البر أن أحاديث هذا الباب ليست قوية ولا تقوم بها حجة ، وأهل العلم ينكرونها لأن الآخرة دار جزاء وليست بدار عمل ولا ابتلاء ، فكيف يكلفون دخول النار ، وليس ذلك في وسع المخلوقين ، والله لا يكلف نفساً إلا وسعها .
( والجواب ) عما قال : إن أحاديث هذا الباب منها ما هو صحيح كما قد نص على ذلك كثيرر من أئمة العلماء ، ومنها ما هو حسن ، ومنها ما هو ضعيف يتقوى بالصحيح والحسن ، وإذا كانت أحاديث الباب الواحد متصلة متعاضدة على هذا النمط أفادت الحجة عند الناظر فيها . وأما قوله : إن الدار الآخرة دار جزاء فلا شك أنها دار جزاء ولا ينافي التكليف في عرصاتها قبل دخول الجنة أو النار كما حكاه الشيخ أبو الحسن الأشعري عن مذهب أهل السنّة والجماعة من أمتحان الأطفال . وقد قال تعالى : { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ وَيُدْعَوْنَ إِلَى السجود } [ القلم : 42 ] الآية . وقد ثبت في الصحاح وغيرها أن المؤمنين يسجدون لله يوم القيامة ، وأن المنافق لا يستطيع ذلك ويعود ظهره كالصفيحة الواحدة طبقاً واحداً ، كلما أراد السجود خر لقفاه . وفي « الصحيحين » في الرجل الذي يكون آخر أهل النار خروجاً منها ، أن الله يأخذ عهوده ومواثيقه أن لا يسأل غير ما هو فيه ، ويتكرر ذلك مراراً ، ويقول الله تعالى : يا ابن آدم ما أغدرك! ثم يأذن له في دخول الجنة ، وأما قوله : فكيف يكلفهم الله دخول النار وليس ذلك في وسعهم ، فليس هذا بمانع من صحة الحديث ، فإن الله يأمر العباد يوم القيامة بالجواز على الصراط ، وهو جسر على جهنم أحد من السيف وأدق من الشعرة ، ويمر المؤمنون عليه بحسب أعمالهم كالبرق وكالريح ، وكأجاويد الخيل ، والركاب ، ومنهم الساعي ومنهم الماشي ، ومنهم من يحبو حبواً ، ومنهم المكدوش على وجهه في النار ، وليس ما ورد في أولئك بأعظ ممن هذا بل هذا أطم وأعظم . وأيضاً فقد ثبتت السنّة بأن الدجال يكون معه جنة ونار ، وقد أمر الشارع المؤمنين الذين يدركونه أن يشرب أحدهم من الذي يرى أنه نار فإنه يكون عليه برداً وسلاماً ، فهذا نظير ذاك ، وأيضاً فإن الله تعالى أمر بني إسرائيل أن يقتلوا أنفسهم ، فقتل بعضهم بعضاً حتى قتلوا فيما قيل في غداة واحدة سبعين ألفاً ، يقتل الرجل أباه وأخاه وهم في عماية غمامة أرسلها الله عليهم ، وذلك عقوبة لهم على عبادتهم العجل ، وهذا أيضاً شاق على النفوس جداً لا يتقاصر عما ورد في الحديث المذكور ، والله أعلم .(1/1427)
فصل
إذا تقرر هذا ، فقد اختلف الناس في ولدان المشركين على أقوال ، ( أحدها ) : أنهم في الجنة ، واحتجوا بحديث سمرة أنه عليه السلام رأى مع إبراهيم عليه السلام أولاد المسلمين وأولاد المشركين ، ( والقول الثاني ) : أنهم مع آبائهم في النار : واستدل عليه بما روي « عن عبد الله بن أبي قيس ، أنه أتى عائشة فسألها عن ذراري الكفار فقالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هم تبع لآبائهم « . فقلت : يا رسول الله بلا أعمال؟ فقال : » الله أعلم بما كانوا عاملين « ( والقول الثالث ) : التوقف فيهم ، واعتمدوا على قوله صلى الله عليه وسلم : » الله أعلم بما كانوا عاملين « وهو في » الصحيحين « ، ومنهم من جعلهم من أهل الأعراف ، وهذا القول يرجع إلى من ذهب إلى أنهم من أهل الجنة ، لأن الأعراف ليس دار قرار ، ومآل أهلها إلى الجنة ، كما تقدم تقرير ذلك في سورة الأعراف ، والله أعلم ، وليعلم أن هذا الخلاف مخصوص بأطفال المشركين ، فأما ولدان المؤمنين فلا خلاف بين العلماء أنهم من أهل الجنة ، وهذا هو المشهور بين الناس وهو الذي يقطع به إن شاء الله عزَّ وجلَّ .(1/1428)
وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا (16)
اختلف القرّاء في قراءة قوله : { أَمَرْنَا } ، فالمشهور قراءة التخفيف ، واختلف المفسرون في معناها ، فقيل معناه : أمرنا مترفيها ففسقوا فيها أمراً قدرياً ، كقوله تعالى : { أَتَاهَآ أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً } [ يونس : 24 ] قالوا معناه أنه سخرهم إلى فعل الفواحش فاستحقوا العذاب ، وقيل معناه : أمرهم بالطاعات ففعلوا الفواحش ، فاستحقوا العقوبة . وقال ابن جرير : يحتمل أن يكون معناه جعلناهم أمراء ، قلت : إنما يجيء هذا على قراءة من قرأ { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا } ، قال ابن عباس قوله { أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا } يقول : سلطنا أشرارها فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكهم الله بالعذاب ، وهو قوله : { وكذلك جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا } [ الأنعام : 123 ] الآية ، وعنه قال : أكثرنا عددهم .(1/1429)
وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (17)
يقول تعالى منذراً كفار قريش في تكذيبهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم ، بأنه قد أهلك أمماً من المكذبين للرسل بعد نوح ، ودل هذا على أن القرون التي كانت بين آدم ونوح على الإسلام ، كما قاله ابن عباس . كان بين آدم ونوح عشرة قرون كلهم على الإسلام . ومعناه أنكم أيها المكذبون لستم أكرم على الله منهم ، وقد كذبتم أشرف الرسل وأكرم الخلائق فعبوبتكم أولى وأحرى . وقوله : { وكفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً } أي هو عالم بجميع أعمالهم خيرها وشرها ، لا يخفى عليه منها خافية سبحانه وتعالى .(1/1430)
مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا (18) وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا (19)
يخبر تعالى أنه ما كل من طلب الدنيا وما فيها من النعم يحصل له ، بل إنما يحصل لمن أراد الله وما يشاء ، وهذه مقيدة لإطلاق ما سواها في الآيات ، فإنه قال : { عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ } أي في الدار الآخرة { يَصْلاهَا } أي يدخلها حتى تغمره من جميع جوانبه ، { مَذْمُوماً } أي في حال كونه مذموماً على سوء تصرفه وصنيعه ، إذ اختار الفاني على الباقي ، { مَّدْحُوراً } مبعداً مقصياً حقيراً ذليلاً مهاناً . وفي الحديث : « الدنيا دار من لا دار له ، وما لمن لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له » وقوله : { وَمَنْ أَرَادَ الآخرة } وما فيها من النعم والسرور { وسعى لَهَا سَعْيَهَا } أي طلب ذلك من طريقه ، وهو متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم { وَهُوَ مُؤْمِنٌ } أي قلبه مؤمن ، أي مصدق بالثواب والجزاء { فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } .(1/1431)
كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلًا (21)
يقول تعالى { كُلاًّ } أي كل واحد من الفريقين الذين أرادوا الدنيا والذين أرادوا الآخرة ، نمدهم فيما فيه { مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ } أي هو المتصرف الحاكم الذي لا يجور فيعطي كلاً ما يستحقه من السعادة والشقاوة ، ولهذا قال : { وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } أي لا يمنعه أحد ولا يرده راد ، قال قتادة { مَحْظُوراً } أي منقوصاً ، وقال الحسن وغيره : أي ممنوعاً ، ثم قال تعالى : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } أي في الدنيا ، فمنهم الغني والفقير وبين ذلك ، والحسن والقبيح وبين ذلك ، ومن يموت صغيراً ، ومن يعمر حتى يبقى شيخاً كبيراً ، وبين ذلك { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } : أي ولتفاوتهم في الدار الآخرة أكبر من الدنيا ، فإن منهم من يكون في الدركات في جهنم وسلاسلها وأغلالها ، ومنهم من يكون في الدرجات العلى ونعيمها وسرورها ، ثم أهل الدركات يتفاوتون فيما هم فيه ، كما أن أهل الدرجات يتفاوتون ، فإن الجنة مائة درجة ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض وفي « الصحيحين » : « إن أهل الدرجات العلى ليرون أهل عليين ، كما ترون الكوكب الغابر في أفق السماء » ، ولهذا قال تعالى : { وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } .(1/1432)
لَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُومًا مَخْذُولًا (22)
يقول تعالى والمراد المكلفون من الأمة ، لا تجعل أيها المكلف في عبادتك ربك له شريكاً { فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً } أي على إشراكك به { مَّخْذُولاً } لأن الرب تعالى لا ينصرك ، بل يكلك إلى الذي عبدت مه ، وهو لا يملك ضراً ولا نفعاً ، عن عبد الله بن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أصابته فاقة فأنزلها بالناس لم تسد فاقته ، ومن أنزلها بالله ، فيوشك الله له برزق عاجل . أو آجل » .(1/1433)
وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا (24)
يقول تعالى آمراً بعبادته وحده لا شريك له ، فإن القضاء هاهنا بمعنى الأمر . قال مجاهد { وقضى } يعنى وصّى ، ولهذا قرن بعبادته بر الوالدين فقال : { وبالوالدين إِحْسَاناً } أي وأمر بالوالدين إحساناً ، كقوله في الآية الأخرى : { أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير } [ لقمان : 14 ] . وقوله : { إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الكبر أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ } أي لا تسمعهما قولاً شيئاً حتى ولا التأفف الذي هو أدنى مراتب القول السيء ، { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } أي ولا يصدر منك إليهما فعل قبيح ، كما قال عطاء { وَلاَ تَنْهَرْهُمَا } أي لا تنفض يدك عليهما ، ولما نهاه عن القول القبيح والفعل القبيح ، أمره بالقول الحسن والفعل الحسن . فقال : { وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً } أي ليناً طيباً حسناً بتأدب وتوقير وتعظيم . { واخفض لَهُمَا جَنَاحَ الذل مِنَ الرحمة } أي تواضع لهما بفعلك ، { وَقُل رَّبِّ ارحمهما كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً } أي في كبرهما وعند وفاتهما . وقد جاء في بر الوالدين أحاديث كثيرة ، ( منها ) الحديث المروي من طرق عن أنس وغيره « أن النبي صلى الله عليه وسلم صعد المنبر ثم قال : » آمين آمين آمين « ، قيل : يا رسول الله علام أمنت؟ قال : » أتاني جبريل . فقال : يا محمد زعم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل عليك ، قل آمين ، فقلت آمين ، ثم قال رغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم خرج فلم يغفر له ، قل آمين فقلت آمين ، ثم قال : رغم أنف رجل أدرك والديه أو أحدهما فلم يدخلاه الجنة . قل آمين ، فقلت آمين « ( حديث آخر ) : روى الإمام أحمد عن أبي مالك القشيري قال ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : » من أدرك والديه أو أحدهما ثم دخل النار من بعد ذلك فأبعده الله وأسحقه « ( حديث آخر ) : روى الإمام أحمد . عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » رغم أنف ثم رغم أنف ثم رغم أنف : رجل أدرك أحد أبويه أو كلاهما عنده الكبر ولم يدخل الجنة « ( حديث آخر ) : عن مالك بن ربيعة الساعدي قال : » بينما أنا جالس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ جاءه من الأنصار ، فقال : يا رسول الله هل بقي علي من بر أبويّ شيء بعد موتهما أبرهما به؟ قال : « نعم ، خصال أربع : الصلاة عليهما والاستغفار لهما وإنفاذ عهدهما وإكرام صديقهما . وصلة الرحم التي لا رحم لك إلاّ من قبلهما ، فهو الذي بقي عليك من برهما بعد موتهما » ( حديث آخر ) : عن معاوية بن جاهمة السلمي أن جاهمة جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « يا رسول الله أردت الغزو . وجئتك أستشيرك . فقال : » فهل لك من أم؟ « قال : نعم ، قال : » فالزمها فإن الجنة عند رجليها « ( حديث آخر ) : قال الحافظ البزار في » مسنده « عن سليمان بن بريدة ، عن أبيه » أن رجلاً كان في الطواف حاملاً أمه يطوف بها . فسأل صلى الله عليه وسلم هل أديت حقها؟ قال : « لا ، ولا بزفرة واحدة » « .(1/1434)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُورًا (25)
قال سعيد بن جبير : هو الرجل تكون منه البادرة إلى أبويه وفي نيته وقلبه أنه لا يؤخذ به ، وفي رواية لا يريد إلاّ الخير بذلك ، فقال : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ } ، وقوله : { فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً } قال قتادة : للمطيعين أهل الصلاة ، وعن ابن عباس : المطيعين المحسنين . وعن ابن المسيب : الذين يصيبون الذنب ثم يتوبون ، وعن عطاء بن يسار ، وسعيد بن جبير ، ومجاهد : هم الراجعون إلى الخير . وعن عبيد بن عمير قال : كنا نعد الأوَّاب من يقول : اللهم اغفر لي ما أصبت في مجلسي هذا . وقال ابن جرير : والأولى في ذلك قول من قال هو التائب من الذنب ، الرجّاع من المعصية إلى الطاعة ، مما يكره الله إلى ما يحبه ويرضاه ، وهذا الذي قاله هو الصواب ، لأن الأواب مشتق من الأوب وهو الرجوع ، يقال : آب فلان إذا رجع ، قال تعالى : { إِنَّ إِلَيْنَآ إِيَابَهُمْ } [ الغاشية : 25 ] . وفي الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا رجع من سفر قال : « آيبون تائبون عابدون لربنا حامدون » .(1/1435)
وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (30)
يقول تعالى آمراً بالاقتصاد في العيش ، ذاماً للبخل ، ناهياً عن السرف : { وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إلى عُنُقِكَ } أي لا تكن بخيلاً منوعاً لا تعطي أحداً شيئاً ، كما قالت اليهود عليهم لعائن الله ( يد الله مغلولة ) أي نسبوه إلى البخل ، تعالى وتقدس الكريم الوهاب ، وقوله : { وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ البسط } أي ولا تسرف في الإنفاق فتعطي فوق طاقتك ، وتخرج أكثر من دخلك { فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً } ، وهذا من باب اللف والنشر ، أي فتقعد إن بخلت ملوماً يلومك الناس ويذمونك ، ومتى بسطت يدك فوق طاقتك قعدت بلا شيء تنفقه فتكون كالحسير ، وهو الدابة التي قد عجزت عن السير فوقفت ضعفاً وعجزاً ، فإنها تسمى الحسير . وهو مأخوذ من الكلال ، كما قال تعالى : { ثُمَّ ارجِعِ البَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ البَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ } [ الملك : 4 ] أي كليل عن أن يرى عيباً ، وقد جاء في « الصحيحين » عن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مثل البخيل والمنفق كمثل رجلين عليهما جبتان من حديد من ثديهما إلى تراقيهما ، فأما المنفق فلا ينفق إلا سبغت ، أو وفرت على جلده حتى تخفى بنانة وتعفو أثره ، وأما البخيل فلا يريد أن ينفق شيئاً إلا لزقت كل حلقة مكانها فهو يوسعها فلا تتسع » وفي « الصحيحين » عن أسماء بنت أبي بكر قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنفقي هكذا وهكذا وهكذا ، ولا توعي فيوعي الله عليك ، ولا توكي فيوكي الله عليك » ، وفي لفظ : « ولا تحصي فيحصي الله عليك » وفي « صحيح مسلم » ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله قال لي : أنفق أنفق عليك » وفي « الصحيحين » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من يوم يصبح العباد فيه إلا وملكان ينزلان من السماء يقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً » ، وروى مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً : « ما نقص مالٌ من صدقة ، وما زاد الله عبداً أنفق إلاّ عزاً ، ومن تواضع لله رفعه الله » وفي حديث عبد الله بن عمر مرفوعاً : « إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم أمرهم بالبخل فبخلوا ، وأمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم بالفجور ففجروا » وروى البيهقي عن الأعمش ، عن أبيه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما يخرج رجل صدقة حتى يفك لحي سبعين شيطاناً » وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/1436)
« ما عال من اقتصد » ، وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرزق لِمَن يَشَآءُ وَيَقْدِرُ } إخبار أنه تعالى هو الرزاق ، القابض الباسط ، المتصرف في خلقه بما يشاء . فيغني من يشاء ويفقر من يشاء ، لما له في ذلك من الحكمة ، ولهذا قال : { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } أي خبيراً بصيراً بمن يستحق الغنى ويستحق الفقر . كما جاء في الحديث : « إن من عبادي لمن لا يصلحه إلاّ الفقر ولو أغنيته لأفسدت عليه دينه . وإن من عبادي لمن لا يصلحه إلاّ الغنى ولو أفقرته لأفسدت عليه دينه » وقد يكون الغنى في حق بعض الناس استدراجاً ، والفقر عقوبة عياذاً بالله من هذا وهذا .(1/1437)
وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئًا كَبِيرًا (31)
هذه الآية الكريمة دالة على أن الله تعالى أرحم بعباده من الولد بولده ، لأنه نهى عن قتل الأولاد ، كما أوصى الآباء بالأولاد في الميراث ، وكان أهل الجاهلية لا يورثون البنات ، بل كان أحدهم ربما قتل ابنته لئلا تكثر عيلته . فنهى الله تعالى عن ذلك وقال : { وَلاَ تقتلوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ } أي خوف أن تفتقروا في ثاني الحال ، ولهذا قدم الاهتمام برزقهم فقال : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } . وفي الأنعام : { وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ } [ الآية : 151 ] : أي من فقر { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } [ الآية : 151 ] : { إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْئاً كَبِيراً } : أي ذنباً عظيماً ، وفي « الصحيحين » عن عبد الله بن مسعود ، قلت : « يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ قال : » أن تجعل لله نداً وهو خلقك « ، قلت : ثم أي؟ قال : » أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك « ، قلت : ثم أي؟ قال : » أن تزاني بحليلة جارك « » .(1/1438)
وَلَا تَقْرَبُوا الزِّنَا إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاءَ سَبِيلًا (32)
يقول تعالى ناهياً عباده عن الزنا ، وعن مقاربته ، ومخالطة أسبابه ودواعيه { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً } أي ذنباً عظيماً ، { وَسَآءَ سَبِيلاً } أي وبئس طريقاً ومسلكاً ، روى الإمام أحمد ، عن أبي أمامة ، « أن فتى شاباً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله ائذن لي بالزنا ، فأقبل القوم عليه فزجروه ، وقالوا : مه مه . فقال : » ادنه « ، فدنا منه قريباً ، فقال : » اجلس « فجلس ، فقال : » أتحبه لأمك؟ « قال : لا والله ، جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لأمهاتهم قال : » أفتحبه لابنتك؟ « قال : لا والله يا رسول الله جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لبناتهم ، قال : أفتحبه لأختك؟ » قال : لا والله ، جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لأخواتهم ، قال : « أفتحبه لعمتك؟ » قال : لا والله ، جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لعماتهم ، قال : « أفتحبه لخالتك؟ » قال : لا والله جعلني الله فداك ، قال : ولا الناس يحبونه لخالاتهم ، قال : فوضع يده عليه وقال : « اللهم اغفر ذنبه وطهر قلبه وأحصن فرجه » ، قال : فلم يكن بعد ذلك الفتى يلتفت إلى شيء « وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » ما من ذنب بعد الشرك أعظم عند الله من نطفة وضعها رجل في رحم لا يحل له « .(1/1439)
وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَمَنْ قُتِلَ مَظْلُومًا فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَانًا فَلَا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُورًا (33)
يقول تعالى ناهياً عن قتل النفس بغير حق شرعي ، كما ثبت في « الصحيحين » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحل دم امرئ مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والزاني المحصن ، والتارك لدينه المفارق للجماعة » وفي السنن : « لزوال الدنيا عند الله أهون من قتل مسلم » وقوله : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } : أي سلطة على القاتل ، فإنه بالخيار فيه ، إن شاء قتله قوداً ، وإن شاء عفا عنه على الدية ، وإن شاء عفا عنه مجاناً ، كما ثبتت السنة بذلك ، وقوله : { فَلاَ يُسْرِف فِّي القتل } أي فلا يسرف الولي في قتل القاتل بأن يمثل به أو يقتص من غير القاتل ، وقوله : { إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً } : أي إن الولي منصور على القاتل شرعاً وقدراً .(1/1440)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْئُولًا (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذَا كِلْتُمْ وَزِنُوا بِالْقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (35)
يقول تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } أي لا تتصرفوا في مال اليتيم إلاّ بالغبطة ، { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } [ النساء : 6 ] . وقد جاء في « صحيح مسلم » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر : « يا أبا ذر إني أراك ضعيفاً ، وأني أحب لك ما أحب لنفسي ، لا تأمرن على اثنين ولا تولين مال يتيم » وقوله : { وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ } أي الذي تعاهدون عليه الناس ، والعقود التي تعاملونهم بها ، فإن العهد والعقد كل منهما يسأل صاحبه عنه ، { إِنَّ العهد كَانَ مَسْؤُولاً } أي عنه . وقوله : { وَأَوْفُوا الكيل إِذا كِلْتُمْ } أي من غير تطفيف ، ولا تبخسوا الناس أشياءهم ، { وَزِنُواْ بالقسطاس } وهو الميزان ، قال مجاهد هو العدل بالرومية ، وقوله : { المستقيم } أي الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف ولا اضطراب : { ذلك خَيْرٌ } أي لكم في معاشكم ومعادكم ، ولهذا قال : { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } أي مآلاً ومنقلباً في آخرتكم ، قال قتادة : أي خير ثواباً وأحسن عاقبة ، وكان ابن عباس يقول : يا معشر الموالي إنكم وليتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم : هذا المكيال . وهذا الميزان .(1/1441)
وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا (36)
قال ابن عباس : لا تقل ، وقال العوفي : لا ترم أحداً بما ليس لك به علم . وقال قتادة : لا تقل رأيت ولم تر . وسمعت ولم تسمع ، وعلمت ولم تعلم ، فإن الله تعالى سائلك عن ذلك كله ومضمون ما ذكروه أن الله تعالى نهى عن القول بلا علم ، بل بالظن الذي هو التوهم والخيال ، كما قال تعالى : { اجتنبوا كَثِيراً مِّنَ الظن إِنَّ بَعْضَ الظن إِثْمٌ } [ الحجرات : 12 ] . وفي الحديث : « إياكم والظن ، فإن الظن أكذب الحديث » وفي « سنن أبي داود » : « بئس مطية الرجل زعموا » وفي الحديث الآخر : « إن أفرى الفري أن يُري الرجل عينيه ما لم تريا » وفي « الصحيح » : « من تحلم حلماً كلف يوم القيامة أن يعقد بين شعيرتين وليس بفاعل » وقوله : { كُلُّ أولئك } أي هذه الصفات من السمع والبصر والفؤاد { كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً } أي سيسأل البد عنها يوم القيامة ، وتسأل عنه .(1/1442)
وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا (38)
يقول تعالى ناهياً عباده عن التجبر والتبختر في المشية : { وَلاَ تَمْشِ فِي الأرض مَرَحاً } أي متبختراً متمايلاً مشي الجبارين ، { إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأرض } أي لن تقطع الأرض بمشيك ، { وَلَن تَبْلُغَ الجبال طُولاً } : أي بتمايلك وفخرك وإعجابك بنفسك ، بل قد يجازى فاعل ذلك بنقيض قصده ، كما ثبت في « الصحيح » : « بينما رجل يمشي فيمن كان قبلكم وعليه بردان يتبختر فيهما إذ خسف به الأرض فهو يتجلجل فيها إلى يوم القيامة » وكذلك أخبر الله تعالى عن قارون أنه خرج على قومه في زينته ، وأن الله تعالى خسف به وبداره الأرض ، وفي الحديث : « من تواضع لله رفعه الله فهو في نفسه حقير وعند الناس كبير » ، ورأى البختري العابد رجلاً من آل ( علي ) يمشي وهو يخطر في مشيته ، فقال له : يا هذا! إن الذي أكرمك به لم تكن هذه مشيته ، قال : فتركها الرجل بعد . ورأى ابن عمر رجلاً يخطر في مشيته ، فقال : إن للشياطين إخواناً ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا مشت أمتي المطيطاء وخدمتهم فارس والروم سلط بعضهم على بعض » وقوله : { كُلُّ ذلك كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً } ، أي كل هذا الذي ذكرناه من قوله : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 23 ] إلى هنا ، ( فسيئه ) أي فقبيحه مكروه عند الله .(1/1443)
ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلَا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُومًا مَدْحُورًا (39)
يقول تعالى هذا الذي أمرناك به من الأخلاق الجميلة ، ونهيناك عنه من الصفات الرذيلة ، مما أوحينا إليك يا محمد لتأمر به الناس ، { وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ الله إلها آخَرَ فتلقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً } أي تلومك نفسك ، ويلومك الله والخلق { مَّدْحُوراً } : أي مبعداً من كل خير ، قال ابن عباس وقتادة : مطروداً ، والمراد من هذا الخطاب الأمة بواسطة رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنه صلوات الله وسلامه عليه معصوم .(1/1444)
أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ إِنَاثًا إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيمًا (40)
يقول تعالى راداً على المشركين الكاذبين الزاعمين - عليهم لعائن الله - أن الملائكة بنات الله ، فجعلوا الملائكة الذين عم عباد الرحمن إناثاً ، ثم ادعوا أنهم بنات الله ، ثم عبدوهم فأخطأوا في كل من المقامات الثلاث خطأ عظيماً ، فقال تعالى منكراً عليهم : { أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بالبنين } أي خصصكم بالذكور { واتخذ مِنَ الملائكة إِنَاثاً } أي واختار لنفسه على زعمكم البنات ، ثم شدد الإنكار عليهم فقال : { إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً } أي في زعمكم أن لله ولداً ثم جعلكم ولده الإناث التي تأنفون أن يكون لكم وربما قتلتموهن بالوأد ، فتلك إذاً قسمة ضيزى ، وقال تعالى : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً * لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً * تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً * وَمَا يَنبَغِي للرحمن أَن يَتَّخِذَ وَلَداً * إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدّاً } [ مريم : 88-96 ] .(1/1445)
وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا نُفُورًا (41)
يقول تعالى : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هذا القرآن مِن كُلِّ مَثَلٍ } [ الإسراء : 89 ] : أي صرفنا فيه من الوعيد لعلهم يذكرون ما فيه من الحجج والبينات والمواعظ ، فينزجرون عما هم فيه من الشرك والظلم والإفك { وَمَا يَزِيدُهُمْ } أي الظالمين منهم { إِلاَّ نُفُوراً } أي عن الحق وبعداً عنه .(1/1446)
قُلْ لَوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذًا لَابْتَغَوْا إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيرًا (43)
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المشركين الزاعمين أن لله شريكاً من خلقه ، العابدين معه غيره ليقربهم إليه زلفاً : لو كان الأمر كما وأن معه آلهة تعبد لتقرب إليه وتشفع لديه ، لكان أولئك المعبودون يعبدونه ويتقربون إليه ويبتغون إليه الوسيلة والقربة ، فاعبدوه أنتم وحده كما يعبده من تدعونه من دونه ، ولا حاجة لكم إلى معبود يكون واسطة بينكم وبينه ، فإنه لا يحب ذلك ولا يرضاه بل يكرهه ويأباه . وقد نهى عن ذلك على ألسنة جميع رسله وأنبيائه ، ثم نزه نفسه الكريمة وقدسها ، فقال : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ } : أي هؤلاء المشركون المعتدون الظالمون في زعمهم أن معه آلهة أخرى { عُلُوّاً كَبِيراً } أي تعالياً كبيراً ، بل هو الأحد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .(1/1447)
تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالْأَرْضُ وَمَنْ فِيهِنَّ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَكِنْ لَا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا (44)
يقول تعالى تقدسه السماوات السبع والأرض ومن فيهن ، أي من المخلوقات ، وتنزهه وتعظمه وتبجله وتكبره عما يقول هؤلاء المشركون ، وتشهد له بالوحدانية في ربوبيته وإلهيته :
ففي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
{ تَكَادُ السماوات يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَتَنشَقُّ الأرض وَتَخِرُّ الجبال هَدّاً * أَن دَعَوْا للرحمن وَلَداً } [ مريم : 90-91 ] . وقوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } أي وما من شيء من المخلوقات إلاّ يسبح بحمد الله { ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ } أي لا تفهمون تسبيحهم لأنها بخلاف لغاتكم ، وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات ، كما ثبت في « صحيح البخاري » عن ابن مسعود أنه قال : كنا نسمع تسبيح الطعام وهو يؤكل ، وفي حديث أبي ذر « أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ في يده حصيات فسمع لهن تسبيح كحنين النحل » ، وكذا في يد أبي بكر وعمر وعثمان رضي الله عنهم . وقال الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه دخل على قوم وهم وقوف على دواب لهم ورواحل ، فقال لهم : « اركبوها سالمة ودعوها سالمة ، ولا تتخذوها كراسي لأحاديثكم في الطرق والأسواق ، فرب مركوبة خير من راكبها ، وأكثر ذكراً لله منه » وفي « سنن النسائي » عن عبد الله بن عمرو قال : « نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع ، وقال : نقيقها تسبيح » وعن جابر بن عبد الله رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا أخبركم بشيء أمر به نوح ابنه؟ إن نوحاً عليه السلام قال لابنه : يا بني آمرك أن تقول سبحان الله فإنها صلاة الخلق ، وتسبيح الخلق ، وبها يرزق الخلق » ، قال الله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } . وقال عكرمة في قوله تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } قال : الأسطوانة تسبح . والشجرة تسبح . وقال بعض السلف : صرير الباب تسبيحه ، وخرير الماء تسبيحه .
وقال آخرون : إنما يسبح من كان فيه روح من حيوان ونبات . قال قتادة في قوله : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ } قال : كل شيء فيه روح يسبح من شجر أو شيء فيه ، وقال الحسن والضحّاك : كل شيء فيه الروح وقد يستأنس لهذا القول بحديث ابن عباس . أن رسول الله صلى الله عليه وسلم مرّ بقبرين فقال : « إنهما ليعذبان وما يعذبان في كبير . أما أحدهما فكان لا يستنزه من البول ، وأما الآخر فكان يمشي بالنميمة » ، ثم أخذ جريدة رطبة فشقها نصفين . ثم غرز في كل قبر واحدة ثم قال « لعله يخفف عنهما ما لم ييبسا »(1/1448)
، قال بعض من تكلم عن هذا الحديث من العلماء ، إنما قال ما لم ييبسا : لأنهما يسبحان ما دام فيهما خضرة فإذا يبسا انقطع تسبيحهما ، والله أعلم . وقوله : { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } أي أنه لا يعاجل من عصاه بالعقوبة ، بل يؤجله وينظره ، فإن استمر على كفره وعناده أخذه عزيز مقتدر كما جاء في « الصحيحين » : « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » ، ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ } [ هود : 102 ] : الآية وقال تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ } [ الحج : 48 ] الآية وقال : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ } [ الحج : 45 ] الآيتين ، ومن أقلع عما هو فيه من كفر أو عصيان ورجع إلى الله وتاب إليه ، تاب عليه كما قال تعالى : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله } [ النساء : 110 ] الآية . وقال هاهنا . { إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } كما قال في آخر فاطر : { إِنَّ الله يُمْسِكُ السماوات والأرض أَن تَزُولاَ وَلَئِن زَالَتَآ إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [ فاطر : 41 ] إلى أن قال : { وَلَوْ يُؤَاخِذُ الله الناس } [ النحل : 61 ] إلى آخر السورة .(1/1449)
وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجَابًا مَسْتُورًا (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُورًا (46)
يقول تعالى لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : وإذا قرأت يا محمد على هؤلاء المشركين القرآن . جعلنا بينك وبينهم حجاباً مستوراً قال قتادة وابن زيد : هو الأكنة على قلوبهم ، كما قال تعالى : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ } [ فصلت : 5 ] : أي مانع حائل أن يصل إلينا مما تقول شيء وقوله : { حِجَاباً مَّسْتُوراً } بمعنى ساتر ، وقيل مستوراً عن الأبصار فلا تراه ، وهو مع ذلك حجاب بينهم وبين الهدى . عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله تعالى عنها قالت : لما نزلت { تَبَّتْ يَدَآ أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ } [ المسد : 1 ] « جاءت العوراء أم جميل ، لها ولولة وفي يدها فهر . وهي تقول : مذمماً أبينا ، ودينه قلينا ، وأمره عصينا . ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس وأبو بكر إلى جنبه ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : لقد أقبلت هذه وأنا أخاف أن تراك ، فقال : » إنها لن تراني « ، وقرأ قرآناً اعتصم به منها » { وَإِذَا قَرَأْتَ القرآن جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة حِجَاباً مَّسْتُوراً } ، قال ، فجاءت حتى قامت على أبي بكر ، فلم تر النبي صلى الله عليه وسلم ، فقلت يا أبا بكر : بلغني أن صاحبك هجاني ، فقال أبو بكر : لا ورب هذا البيت ، ما هجاك ، قال فانصرفت وهي تقول : لقد علمت قريش أني بنت سيدها . وقوله { وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } وهي جمع كنان : الذي يغشى القلب { أَن يَفْقَهُوهُ } : أي لئلا يفهموا القرآن { وفي آذَانِهِمْ وَقْراً } وهو الثقل الذي يمنعهم من سماع القرىن سماعاً ينفعهم ويهتدون به . وقوله تعالى : { وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي القرآن وَحْدَهُ } أي إذا وحدت الله في تلاوتك وقلت : لا إله إلاّ الله { وَلَّوْاْ } أي أدبروا راجعين { على أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً } ، كما قال تعالى : { وَإِذَا ذُكِرَ الله وَحْدَهُ اشمأزت قُلُوبُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } [ الزمر : 45 ] الآية . قال قتادة : إن المسلمين لما قالوا : لا إله إلاّ الله ، أنكر ذلك المشركون وكبرت عليهم فضاقها إبليس وجنوده ، فأبى الله إلاّ أن يمضيها وبعليها وينصرها ويظهرها على من ناوأها ، إنها كلمة من خاصم بها فلج ، ومن قاتل بها نصر . إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين التي يقطعها الراكب في ليال قلائل ، ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرون بها .(1/1450)
نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (47) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثَالَ فَضَلُّوا فَلَا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا (48)
يخبر تعالى نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم بما يتناجى به رؤساء كفار قريش ، حين جاءوا يستمعون قراءته صلى الله عليه وسلم سراً من قومهم بما قالوا : من أنه رجل مسحور له رئي يأتيه بما استمعوه من الكلام الذي يتلوه . ولهذا قال تعالى : { انظر كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأمثال فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً } أي فلا يهتدون إلى الحق ولا يجدون إليه مخلصاً ، قال محمد بن إسحاق في السيرة : إن أبا سفيان بن حرب ، وأبا جهل بن هشام ، والأخنس بن شريق خرجوا ليلة ليستمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يصلي بالليل في بيته ، فأخذ كل واحد منهم مجلساً يستمع فيه ، وكل لا يعلم بمكان صاحبه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا ، حتى إذا جمعتهم الطريق تلاوموا ، وقال بعضهم لبعض : لا تعودوا فلو رآكم بعض سفهائكم لأوقعتكم في نفسه شيئاً ، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثانية عاد كل رجل منهم إلى مجلسه ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا وجمعتهم الطريق ، فقال بعضهم لبعض مثل ما قال أول مرة ، ثم انصرفوا حتى إذا كانت الليلة الثالثة أخذ كل رجل مجلسة ، فباتوا يستمعون له حتى إذا طلع الفجر تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال بعضهم لبعض : لا نبرح حتى نتعاهد لا نعود . فتعاهدوا على ذلك ثم تفرقوا . فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد ، قال : يا أبا ثعلبة ، والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها ولا ما يراد بها ، قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به ، قال : ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته ، فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : ماذا سمعت؟ قال : تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان ، قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء ، فمتى ندرك هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه ، قال : فقام عنه الأخنس وتركه .(1/1451)
وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (49) قُلْ كُونُوا حِجَارَةً أَوْ حَدِيدًا (50) أَوْ خَلْقًا مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُءُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَرِيبًا (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا (52)
يقول تعالى مخبراً عن الكفار المستبعدين وقوع المعاد ، القائلين استفهام إنكار منهم لذلك : { أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً } أي تراباً ، { أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } أي يوم القيامة بعد ما بلينا وصرنا عدماً لا نذكر ، كما أخبر عنهم في الموضع الآخر : { يَقُولُونَ أَإِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الحافرة * أَإِذَا كُنَّا عِظَاماً نَّخِرَةً * قَالُواْ تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خَاسِرَةٌ } [ النازعات : 10-12 ] ، وقوله تعالى : { وَضَرَبَ لَنَا مَثَلاً وَنَسِيَ خَلْقَهُ } [ يس : 87 ] الآية ، فأمر الله سبحانه رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبهم ، فقال : { قُلْ كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً } إذ هما أشد امتناعاً من العظام والرفات ، { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } : عن مجاهد : سألت ابن عباس عن ذلك فقال : هو الموت ، وعن ابن عمر أنه قال في تفسير هذه الآية لو كنتم موتى لأحييتكم ومعنى ذلك أنكم لو فرضتم أنكم لو صرتم إلى الموت الذي هو ضد الحياة لأحياكم الله إذا شاء فإنه لا يمتنع عليه شيء إذا أراده وقال مجاهد : { أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ } يعني السماء والأرض والجبال ، وفي رواية : ما شئتم فكونوا فسيعيدكم الله بعد موتكم ، وقوله تعالى : { فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا } : أي من يعيدنا إذا كنا حجارة أو حديداً ، أو خلقاً آخر شديداً { قُلِ الذي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } أي الذي خلقكم ولم تكونوا شيئاً مذكوراً ، ثم صرتم بشراً تنتشرون ، فإنه قادر على إعادتكم ولو صرتم إلى أي حال : { وَهُوَ الذي يَبْدَؤُاْ الخلق ثُمَّ يُعِيدُهُ } [ الروم : 27 ] الآية ، وقوله تعالى : { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ } . قال ابن عباس وقتادة : يحركونها استهزاءً ، والإنغاض هو التحرك من أسفل إلى أعلى ، أو من أعلى إلى أسفل ، يقال نغضت سنه : إذا تحركت وارتفعت من منبتها . وقال الزاجر : ونغضت من هرم أسنانها .
وقوله : { وَيَقُولُونَ متى هُو } إخبار عنهم بالاستبعاد منهم لوقوع ذلك كما قال تعالى : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 48 ] ، وقال تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا } [ الشورى : 18 ] ، وقوله : { قُلْ عسى أَن يَكُونَ قَرِيباً } أي احذروا ذلك فإنه قريب إليكم سيأتيكم لا محالة ، فكل ما هو آت قريب ، وقوله تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ } أي الرب تبارك وتعالى ، { إِذَا دَعَاكُمْ دَعْوَةً مِّنَ الأرض إِذَآ أَنتُمْ تَخْرُجُونَ } [ الروم : 25 ] : أي إذا أمركم بالخروج منها فإنه لا يخالف ولا يمانع ، بل كما قال تعالى : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } [ القمر : 50 ] { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] . وقوله : { فَإِذَا هُم بالساهرة } [ النازعات : 14 ] : أي إنما هو أمر واحد بانتهار ، فإذا الناس قد خرجوا من باطن الأرض إلى ظاهرها ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } : أي تقومون كلكم إجابة لأمره وطاعة لإرادته ، قال ابن عباس { فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } : أي بأمره ، وقال قتادة : بمعرفته وطاعته ، وقال بعضهم { يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ } : أي وله الحمد في كل حال ، وقد جاء في الحديث :(1/1452)
« ليس على أهل لا إله إلا الله وحشة في قبورهم » ، كأني بأهل لا إله إلا الله يقومون من قبورهم ينفضون التراب عن رؤوسهم يقولون لا إله إلا الله « . وفي رواية يقولون : » الحمدلله الذي أذهب عنا الحزن « ، وقوله تعالى : { وَتَظُنُّونَ } أي يوم تقومون من قبوركم ، { إِن لَّبِثْتُمْ } أي في الدار الدنيا ، { إِلاَّ قَلِيلاً } كقوله تعالى : { كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يلبثوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا } [ النازعات : 46 ] . وقال تعالى : { نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً } [ طه : 104 ] ، وقال تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة يُقْسِمُ المجرمون مَا لَبِثُواْ غَيْرَ سَاعَةٍ } [ الروم : 55 ] .(1/1453)
وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوًّا مُبِينًا (53)
يأمر تبارك وتعالى رسوله صلى الله عليه وسلم أن يأمر عباد الله المؤمنين ، أن يقولوا في مخاطباتهم ومحاوراتهم الكلام الأحسن ، والكلمة الطيبة ، فإنهم إن لم يفعلوا ذلك نزغ الشيطان بينهم ، وأخرج الكلام إلى الفعال ، ووقع الشر والمخاصمة والمقاتلة ، فإنه عدوّ لآدم وذريته من حين امتنع من السجود لآدم ، وعداوته ظاهرة بينة ، ولهذا نهى أن يشير الرجل إلى أخيه المسلم بحديدة فإن الشيطان ينزغ في يده فربما أصابه بها ، ففي الحديث : « لا يشيرن أحدكم إلى أخيه بالسلاح فإنه لا يدري أحدكم لعل الشيطان أن ينزغ في يده فيقع في حفرة من النار » وفي الحديث : « المسلم أخو المسلم لا يظلمه ولا يخذله ، التقوى ها هنا » ، قال حماد : وقال بيده إلى صدره : « وما تواد رجلان في الله ففرق بينهما إلاّ حدث يحدثه أحدهما ، والمحدث شر ، والمحدث شر ، والمحدث شر » .(1/1454)
رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (55)
يقول تعالى : { رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ } أيها الناس ، أي أعلم بمن يستحق منكم الهداية ومن لا يستحق ، { إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ } بأن يوفقكم لطاعته والإنابة إليه ، { أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ } يا محمد { عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } أي إنما أرسلناك نذيراً ، فمن أطاعك دخل الجنة ، ومن عصاك دخل النار ، وقوله : { وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السماوات والأرض } أي بمراتبهم في الطاعة والمعصية ، { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ } ، كما قال تعالى : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } [ البقرة : 253 ] ، وهذا لا ينافي ما ثبت في « الصحيحين » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تفضلوا بين الأنبياء » ، فإن المراد من ذلك هو التفضيل بمجرد التشهي والعصبية ، لا بمقتضى الدليل ، فإذا دل الدليل على شيء وجب اتباعه ، ولا خلاف أن الرسل أفضل من بقية الأنبياء ، وأن أولي العزم منهم فضلهم ، وهم الخمسة المذكورون نصاً في آيتين من القرآن في سورة الأحزاب { وَإِذْ أَخَذْنَا مِنَ النبيين مِيثَاقَهُمْ وَمِنْكَ وَمِن نُّوحٍ وَإِبْرَاهِيمَ وموسى وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } [ الآية : 7 ] . وفي الشورى في قوله : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وموسى وعيسى أَنْ أَقِيمُواْ الدين وَلاَ تَتَفَرَّقُواْ فِيهِ } [ الآية : 13 ] ، ولا خلاف أن محمداً صلى الله عليه وسلم أفضلهم ، ثم بعده إبراهيم ، ثم موسى ، ثم عيسى عليهم السلام على المشهور ، وقد بسطناه بدلائله في غير هذا الموضع والله الموفق . وقوله تعالى : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } تنبيه على فضله وشرفه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « خفف على داود القرآن فكان يأمر بدوابه فتسرج فكان يقرؤه قبل أن يفرغ » يعني القرآن .(1/1455)
قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلَا يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَلَا تَحْوِيلًا (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُورًا (57)
يقول تعالى : { قُلِ } يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله { ادعوا الذين زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ } من الأصنام والأنداد فارغبوا إليهم ، فإنهم { فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضر عَنْكُمْ } أي بالكلية ، { وَلاَ تَحْوِيلاً } أي بأن يحولوه إلى غيركم ، والمعنى أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له الذي له الخلق والأمر ، قال ابن عباس : كان أهل الشرك يقولون : نعبد الملائكة والمسيح وعزيراً ، وهم الذين يدعون ، يعني الملائكة ، والمسيح وعزيراً ، وروى البخاري عن عبد الله بن مسعود في قوله : { أولئك الذين يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة } قال ناس من الجن كانوا يعبدون فأسلموا ، وفي رواية قال : كان ناس من الإنس يعبدون ناساً من الجن فأسلم الجن وتمسك هؤلاء بدينهم ، وقال قتادة ، عن ابن مسعود في قوله : { أولئك الذين يَدْعُونَ } الآية قال : نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفراً من الجن فأسلم الجنيون . والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم ، فنزلت هذه الآية ، وفي رواية عن ابن مسعود : كانوا يعبدون صنفاً من الملائكة يقال لهم الجن فذكره ، وقال ابن عباس : هم عيسى وعزير والشمس والقمر ، وقال مجاهد : عيسى والعزير والملائكة ، واختار ابن جرير قول ابن مسعود لقوله : { يَبْتَغُونَ إلى رَبِّهِمُ الوسيلة } وهذا لا يعبر به عن الماضي ، فلا يدخل فيه عيسى والعزير والملائكة ، وقال : والوسيلة هي القربة ، كما قال قتادة ، ولهذا قال : { أَيُّهُمْ أَقْرَبُ } ، وقوله تعالى : { وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ } لا تتم العبادة إلاّ بالخوف والرجاء ، فبالخوف ينكف عن المناهي ، وبالرجاء يكثر من الطاعات ، وقوله تعالى : { إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً } أي ينبغي أن يحذر منه ويخاف من وقوعه وحصوله عياذاً بالله منه .(1/1456)
وَإِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَابًا شَدِيدًا كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُورًا (58)
هذا إخبار من الله عزَّ وجلَّ بأنه قد حتم وقضى بما قد كتب عنده في اللوح المحفوظ ، أنه ما من قرية إلاّ سيهلكها ، بأن يبيد أهلها جميعهم أو يعذبهم { عَذَاباً شَدِيداً } إما بقتل أو ابتلاء بما يشاء ، وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم ، كما قال تعالى عن الأمم الماضين : { وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ولكن ظلموا أَنفُسَهُمْ } [ هود : 101 ] ، وقال تعالى : { فَذَاقَتْ وَبَالَ أَمْرِهَا وَكَانَ عَاقِبَةُ أَمْرِهَا خُسْراً } [ الطلاق : 9 ] ، وقال : { وَكَأِيِّن مِّن قَرْيَةٍ عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهَا وَرُسُلِهِ } [ الطلاق : 8 ] الآيات .(1/1457)
وَمَا مَنَعَنَا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآيَاتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا (59)
عن ابن عباس قال : « سأل أهل مكة النبي صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً ، وأن ينحي الجبال عنهم فيزرعوا ، فقيل له : إن شئت أن نستأني بهم ، وإن شئت أن يأتيهم الذي سألوا ، فإن كفروا هلكوا . كما هلكت من كان قبلهم من الأمم . قال : » الإبل استأن بهم « ، وأنزل الله تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } الآية . وعن ابن عباس قال ، » قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ، ونؤمن بك ، قال : « وتفعلون؟ » قالوا : نعم ، قال ، فدعا فأتاه جبريلن فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ، ويقول لك : إن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً ، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ، وإن شئت فتحت لهم أبواب التوبة والرحمة ، فقال : « بل باب التوبة والرحمة » « .
وقال الحافظ أبو يعلى في » مسنده « : » لما نزلت { وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الأقربين } [ الشعراء : 214 ] صاح رسول الله صلى الله عليه وسلم على أبي قبيس : « يا آل عبد مناف إني نذير » فجاءته قريش فحذرهم وأنذرهم ، فقالوا : تزعم أنك نبي يوحى إليك وإن سليمان سخر له الريح والجبال ، وإن موسى سخر له البحر ، وإن عيسى كان يحيى الموتى ، فادع الله أن يسير عنا هذه الجبال ، ويفجر لنا الأرض أنهاراً فتتخذ محارث فنزرع ونأكل ، وإلاّ فادع الله أن يحيي لنا موتانا لنكلمهم ويكلمونا ، وإلاّ فادع الله أن يصير لنا هذه الصخرة التي تحتك ذهباً فننحت منها وتغنينا عن رحلة الشتاء والصيف ، فإنك تزعم أنك كهيئتهم . قال : فبينا نحن حوله إذ نزل عليه الوحي فلما سري عنه قال : « والذي نفسي بيده لقد أعطاني ما سألتم ، ولو شئت لكان ، ولكنه خيرني بين أن تدخلوا باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم ، وبين أن يكلكم إلى ما اخترتم لأنفسكم فتضلوا عن باب الرحمة فلا يؤمن منكم أحد . فاخترت باب الرحمة فيؤمن مؤمنكم ، وأخبرني أنه إن أعطاكم ذلك ثم كفرتم أنه يعذبكم عذاباً لا يعذبه أحداً من العالمين » ، ونزلت : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } ، وقرأ ثلاث آيات ، ولهذا قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات } أي نبعث الآيات ونأتي بها على ما سأل قومك منك ، فإنه سهل علينا يسير لدينا ، إلاّ أنه قد كذب بها الأولون بعد ما سألوها ، وجرت سنتنا فيهم وفي أمثالهم أنهم لا يؤخرون إن كذبوا بها بعد نزولها ، كما قال تعالى في المائدة : { قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين }(1/1458)
[ الآية : 115 ] ، وقال تعالى عن ثمود حين سألوا الناقة : { فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذلك وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ } [ هود : 65 ] ، ولهذا قال تعالى : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا } : أي دالة على وحدانية من خلقها وصدق رسوله { فَظَلَمُواْ بِهَا } أي كفروا بها ومنعوها شربها وقتلوها ، فأبادهم الله عن آخرهم ، وانتقم منهم وأخذهم أخذ عزيز مقتدر .
وقوله تعالى : { وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً } قال قتادة : إن الله تعالى يخوف الناس بما شاء من الآيات لعلهم يعتبرون ، ويذكرون ويرجعون ، ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود رضي الله عنه ، فقال : يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه ، وهكذا روي أن المدينة زلزلت على عهد عمر بن الخطاب رضي الله عنه مرات ، فقال عمر أحدثتم والله لئن عادت لأفعلن ولأفعلن ، وفي الحديث المتفق عليه : « إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته ، ولكن الله عزَّ وجلَّ يخوف بهما عباده؛ فإذا رأيتم ذلك فافزعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره - ثم قال - يا أمة محمد والله ما أحد أغيرَ من الله أن يزني عبده أو تزني أمته ، يا أمة محمد والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً » .(1/1459)
وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْيَانًا كَبِيرًا (60)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم محرضاً له على إبلاغ رسالته ، ومخبراً له بأنه قد صعمه من الناس فإنه القادر عليهم وهم في قبضته وتحت قهرة وغلبته . قال مجاهد والحسن وقتادة في قوله : { إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بالناس } أي عصمك منهم . قال البخاري ، عن ابن عباس : { وَمَا جَعَلْنَا الرؤيا التي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ } قال : هي رؤيا عين أريها رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به ، { والشجرة الملعونة فِي القرآن } شجرة الزقوم . { إِلاَّ فِتْنَةً } : أي اختباراً وامتحاناً . وأما الشجرة الملعونة فهي شجرة الزقوم . لما أخبرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه رأى الجنة والنار ، ورأى شجرة الزقوم فكذبوا بذلك ، حتى قال أبو جهل عليه لعائن الله : هاتوا لنا تمراً وزبداً ، وجعل يأكل من هذا بهذا ويقول : تزقموا فلا نعلم الزقوم غير هذا . وكل من قال إنها ليلة الإسراء فسره كذلك بشجرة الزقوم ، واختار ابن جرير أن المراد بذلك ليلة الإسراء ، وأن الشجرة الملعونة هي شجرة الزقوم ، قال لإجماع الحجة من أهل التأويل على ذلك ، أي في الرؤيا والشجرة ، وقوله { وَنُخَوِّفُهُمْ } أي الكفار ، بالوعيد والعذاب والنكال ، { فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً } : أي تمادياً فيما هم فيه من الكفر والضلال ، وذلك من خذلان الله لهم .(1/1460)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا (62)
يذكر تبارك وتعالى عداوة إبليس لعنه الله لآدم وذريته ، وأنها عداوة قديمة منذ خلق آدم ، فإنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم فسجدوا كلهم إلا إبليس استكبر وأبى أن يسجد له ، افتخاراً عليه واحتقاراً له { قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً } ، كما قال في الآية الأخرى : { قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ } [ ص : 76 ] ، وقال أيضاً : أرأيتك ، يقول للرب جراءة وكفراً ، والرب يحلم وينظر { قَالَ أَرَأَيْتَكَ هذا الذي كَرَّمْتَ عَلَيَّ } الآية ، قال ابن عباس { لأَحْتَنِكَنَّ } يقول : لأستولين على ذريته إلاّ قليلاً . وقال مجاهد : لأحتوين ، وقال ابن زيد : لأضلنهم ، وكلها متقاربة ، والمعنى : أرأيتك هذا الذي شرفته وعظمته عليّ ، لئن أنظرتني لأضلن ذريته إلاّ قليلاً منهم .(1/1461)
قَالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَاؤُكُمْ جَزَاءً مَوْفُورًا (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلًا (65)
لما سأل إبليس النظرة قال الله له { اذهب } فقد أنظرتك ، كما قال في الآية الأخرى { قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ المنظرين * إلى يَوْمِ الوقت المعلوم } [ الحجر : 37-38 ] ، ثم أوعده ومن اتبعه من ذرية آدم جهنم { قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ } أي على أعمالكم { جَزَاءً مَّوْفُوراً } قال مجاهد : وافراً ، وقال قتادة : موفوراً عليكم لا ينقص لكم منه ، وقوله تعالى : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قيل : هو الغناء . قال مجاهد : باللهو والغناء ، أي : استخفهم بذلك ، وقال ابن عباس في قوله : { واستفزز مَنِ استطعت مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ } قال : كل داع دعا إلى معصية الله عزَّ وجلَّ ، واختاره ابن جرير ، وقوله تعالى : { وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ } يقول : واحمل عليهم بجنودك خيالتهم وراجلتهم . فإن الرجل جمع راجل ، كما أن الركب جمع راكب ، ومعناه تسلط عليهم بكل ما تقدر عليه ، وهذا أمر قدري . كقوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ أَنَّآ أَرْسَلْنَا الشياطين عَلَى الكافرين تَؤُزُّهُمْ أَزّاً } [ مريم : 83 ] أي تزعجهم إلى المعاصي إزعاجاً وتسوقهم إليها سوقاً . وقال قتادة : إن له خيلاً ورجالاً من الجن والإنس وهم الذين يطيعونه ، تقول العرب : أجلب فلان على فلان إذا صاح عليه ، ومنه نهى في المسابقة عن الجلب والجنب ، ومنه اشتقاق الجلبة . وهي ارتفاع الأصوات ، وقوله تعالى : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد } قال ابن عباس ومجاهد : هو ما أمرهم به من إنفاق الأموال في معاصي الله تعالى ، وقال عطاء : هو الربا ، وقال الحسن : هو جمعها من خبيث وإنفاقها في حرام ، والآية تعم ذلك كله ، وقوله : { والأولاد } يعني أولاد الزنا ، قال ابن عباس : هو ما كانوا قتلوه من أولادهم سفهاً بغير علم وقال الحسن البصري : قد والله شاركهم في الأموال والأولاد ، مجَّسوا وهوّدوا ونصّروا وصبغوا غير صبغة الإسلام . وجزأوا من أموالهم جزءاً للشيطان ، وقال أبو صالح عن ابن عباس : هو تسميتهم أولادهم عبد الحارث وعبد شمس وعبد فلان .
قال ابن جرير : وأولى الأقوال بالصواب أن يقال كل مولود ولدته أنثى عصي الله فيه بتسميته بما يكرهه الله ، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله ، أو بالزنا بأمه ، أو بقتله أو وأده ، أو غير ذلك من الأمور التي يعصى الله بفعله بهن فقد دخل في مشاركة إبليس فيه لأن الله لم يخصص بقوله : { وَشَارِكْهُمْ فِي الأموال والأولاد } معنى الشركة فيه ، بمعنى دون معنى ، فكل ما عصي الله فيه أو به ، أو أطيع الشيطان فيه أو به فهو مشاركة . وهذ الذي قال متجه . وكل من السلف رحمهم الله فسر بعض المشاركة ، وفي « الصحيحين » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لو أن أحدهم إذا أراد أن يأتي أهله قال باسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان وجنب الشيطان ما رزقتنا فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبداً »(1/1462)
، وقوله تعالى : { وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } كما أخبر تعالى عن إبليس أنه يقول ، إذا حصحص الحق يوم يقضى بالحق : { إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ } [ إبراهيم : 22 ] الآية . وقوله تعالى : { إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ } إخبار بتأييده تعالى عباده المؤمنين وحفظه إياهم وحراسته لهم من الشيطان الرجيم ، ولهذا قال تعالى : { وكفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً } أي حافظاً ومؤيداً ونصيراً . وفي الحديث : « إن المؤمن لينضي شياطينه كما ينضي أحدكم بعيره في السفر » ينضي أي يأخذ بناصيته ويقهره .(1/1463)
رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (66)
يخبر تعالى عن لطفه بخلقه في تسخيره لعباده الفلك في البحر وتسهيله لمصالح عباده ، لابتغائهم من فضله في التجارة من إقليم إلى إقليم ، ولهذا قال : { إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } أي إنما فعل هذا بكم من فضله عليكم ورحمته بكم .(1/1464)
وَإِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الْإِنْسَانُ كَفُورًا (67)
يخبر تبارك وتعالى أن الناس إذا مسهم ضر دعوة منيبين إليه مخلصين له الدين ، ولهذا قال تعالى : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } أي ذهب عن قلوبكم كل ما تعبدون غير الله تعالى ، كما اتفق لعكرمة بن أبي جهل لما ذهب فاراً من رسول الله صلى الله عليه وسلم حين فتح مكة ، فذهب هارباً فركب في البحر ليدخل الحبشة فيجاءتهم ريح عاصف فقال القوم بعضهم لبعض : إنه لا يغني عنكم إلاّ أن تدعو الله وحده ، فقال عكرمة في نفسه ، والله إن كان لا ينفع في البحر غيره فإنه لا ينفع في البر غيره ، اللهم لك عليّ عهد لئن أخرجتني منه لأذهبن فلأضعن يدي في يد محد فلأجدنه رؤوفاً رحيماً ، فخرجوا من البحر فرجع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم وحسن إسلامه رضي الله عنه وأرضاه ، وقوله تعالى : { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ } أي نسيتم ما عرفتم من توحيده في البحر ، وأعرضتم عن دعائه وحده لا شريك له { وَكَانَ الإنسان كَفُوراً } أي سجيته هذا ، ينسى النعم ويجحدها إلاّ من عصم الله .(1/1465)
أَفَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِبًا ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا (68)
يقول تعالى أفحسبتم بخروجكم إلى البر ، أمنتم من انتقامه وعذابه أن يخسف بكم جانب البر ، أو يرسل عليكم حاصباً ، وهو المطر الذي فيه حجارة ، كما قال تعالى : { إِنَّآ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ حَاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ } [ القمر : 34 ] ، وقال : { لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن طِينٍ } [ الذاريات : 33 ] ، وقوله : { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً } أي ناصراً يرد ذلك عنكم وينقذكم منه .(1/1466)
أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفًا مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لَا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعًا (69)
يقول تبارك وتعالى : أم أمنتم أيها المعرضون عنا ، بعدما اعترفوا بتوحيدنا في البحر ، وخرجوا إلى البر ، أن يعيدكم في البحر مرة ثانية ، { فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفاً مِّنَ الريح } أي يقصف الصواري ويغرق المراكب ، قال ابن عباس وغيره : القاصف ريح البحار التي تكسر المراكب وتغرقها ، وقوله : { فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ } : أي بسبب كفركم وإعراضكم عن الله تعالى ، وقوله : { ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً } ، قال ابن عباس : نصيراً ، وقال مجاهد : نصيراً ثائراً ، أي يأخذ بثأركم بعدكم . وقال قتادة : ولا تخاف أحداً يتعبنا بشيء من ذلك .(1/1467)
وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا (70)
يخبر تعالى عن تشريفه لبني آدم وتكريمه إياهم في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها ، كقوله تعالى : { لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان في أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ } [ التين : 4 ] أي يمشي قائماً منتصباً على رجليه ، ويأكل بيديه ، وغيره من الحيوانات يمشي على أربع ، ويأكل بفمه ، وجعل له سمعاً وبصراً وفؤاداً يفقه بذلك كله وينتفع به ، ويفرق بين الأشياء وخواصها ومضارها في الأمور الدينية والدنيوية ، { وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البر } أي على الدواب من الأنعام والخيل والبغال ، وفي البحر أيضاً على السفن الكبار والصغار ، { وَرَزَقْنَاهُمْ مِّنَ الطيبات } أي من زروع وثمار ولحوم وألبان من سائر أنواع الطعوم والألوان المشتهاة اللذيذة ، والمناظر الحسنة ، والملابس الرفيعة من سائر الأنواع على اختلاف أصنافها وألوانها وأشكالها مما يصنعونه لأنفسهم ويجلبه إليهم غيرهم من أقطار الأقاليم والنواحي ، { وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً } أي من سائر الحيوانات وأصناف المخلوقات . وقد استدل بهذه الآية الكريمة على أفضلية جنس البشر على جنس الملائكة . عن عبد الله بن عمرو عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الملائكة قالت : يا ربنا! أعطيت بني آدم الدنيا ، يأكلون فيها ويشربون ويلبسون ، ونحن نسبّح بحمدك ولا نأكل ولا نشرب ولا نلهو ، فكما جعلت لهم الدنيا فاجعل لنا الآخرة ، قال : لا أجعل صالح ذرية من خلقت بيدي كمن قلت له كن فكان »(1/1468)
يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولَئِكَ يَقْرَءُونَ كِتَابَهُمْ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (71) وَمَنْ كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلًا (72)
يخبر تبارك وتعالى عن يوم القيامة أنه يحاسب كل أمة بإمامهم ، وقد اختلفوا في ذلك ، فقال مجاهد وقتادة : أي بنبيهم ، وهذا كقوله تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَآءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بالقسط } [ يونس : 47 ] الآية ، وقال بعض السلف : هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث ، لأن إمامهم النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال ابن زيد : بكتابهم الذي أنزل على نبيهم واختاره ابن جرير ، وروي عن مجاهد أنه قال : بكتبهم ، فيحتمل أن يكون أراد ما روي عن ابن عباس في قوله : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } أي بكتاب أعمالهم ، وهذا القول هو الأرجح ، لقوله تعالى : { وَكُلَّ شيْءٍ أَحْصَيْنَاهُ في إِمَامٍ مُّبِينٍ } [ يس : 12 ] ، وقال تعالى : { وَوُضِعَ الكتاب فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } [ الكهف : 49 ] الآية ، ويحتمل أن المراد { بِإِمَامِهِمْ } أي كل قوم بمن يأتمون به ، فأهل الإيمان ائتموا بالأنبياء عليهم السلام ، وأهل الكفر ائتموا بأئمتهم ، كما قال : { وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النار } [ القصص : 41 ] وفي « الصحيحين » : « التَّتبعْ كل أمة ما كانت تعبد ، فيتبع من كان يعبد الطواغيت الطواغيت » الحديث ، وقال تعالى : { هذا كِتَابُنَا يَنطِقُ عَلَيْكُم بالحق إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } [ الجاثية : 29 ] . وهذا لا ينافي أن يجاء بالنبي إذا حكم الله بين أمته ، فإنه لا بدّ أن يكون شاهداً على أمته بأعمالها ، كقوله تعالى : { وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء } [ الزمر : 69 ] .
وقوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } [ النساء : 41 ] ، ولكن المراد هاهنا بالإمام هو كتاب الأعمال ، ولهذا قال تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فأولئك يَقْرَؤونَ كِتَابَهُمْ } أي من فرحته وسروره بما فيه من العمل الصالح يقرؤه ويحب قراءته ، كقوله : { فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هَآؤُمُ اقرؤا كِتَابيَهْ } [ الحاقة : 19 ] الآيات ، وقوله تعالى : { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } الفتيل : هو الخيط المستطيل في شق النواة ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قول الله تعالى : { يَوْمَ نَدْعُواْ كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ } ، قال : « يدعى أحدهم فيعطى كتابه بيمينه ، ويمد له في جسمه ، ويبيض وجهه ، ويجعل على رأسه تاج من لؤلؤة يتلألأ ، فينطلق إلى أصحابه فيرونه من بعيد فيقولون : اللهم أتنا بهذا ، وبارك لنا في هذا ، فيأتيهم فيقول لهم : أبشروا فإن لكل رجل منكم مثل هذا ، وأما الكافرون فيسود وجهه ويمد له في جسمه ، ويراه أصحابه فيقولون : نعوذ بالله من هذا أو من شر هذا ، اللهم لا تأتنا به ، فيأتيهم فيقولون : اللهم اخزه ، فيقول : أبعدكم الله فإن لكل رجل منكم مثل هذا » وقوله تعالى : { وَمَن كَانَ فِي هذه أعمى } أي في الحياة الدنيا { أعمى } أي عن حجة الله وآياته وبيناته ، { فَهُوَ فِي الآخرة أعمى } أي كذلك يكون { وَأَضَلُّ سَبِيلاً } أي وأضل منه كما كان في الدنيا ، عياذاً بالله من ذلك .(1/1469)
وَإِنْ كَادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذًا لَاتَّخَذُوكَ خَلِيلًا (73) وَلَوْلَا أَنْ ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئًا قَلِيلًا (74) إِذًا لَأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيرًا (75)
يخبر تعالى عن تأييده رسوله صلوات الله عليه وسلامه وتثبيته وعصمته وسلامته من شر الأشرار وكيد الفجّار ، وأنه تعالى هو المتولي أمره ونصره ، وأنه لا يكله إلى أحد من خلقه ، بل هو وليه وحافظه وناصره ، ومظهر دينه على من عاداه وخالفه وناوأه في مشارق الأرض ومغاربها صلى الله عليه وسلم تسليماً كثيراً إلى يوم الدين .(1/1470)
وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا وَإِذًا لَا يَلْبَثُونَ خِلَافَكَ إِلَّا قَلِيلًا (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنَا وَلَا تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلًا (77)
قيل : نزلت في اليهود حين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم إن كنت صادقاً أنك نبي فالحق بالشام ، فإن الشام أرض المحشر ، وأرض الأنبياء ، فغزا غزوة تبوك لا يريد إلاّ الشام ، فلما بلغ تبوك أنزل الله عليه : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا } فأمره الله بالرجوع إلى المدينة ، وقال : فيها محياك ومماتك ومنها تبعث . وقيل : نزلت في كفار قريش لما هموا بإخراج رسول الله صلى الله عليه وسلم من بين أظهرهم فتوعدهم الله بهذه الآية ، وأنهم لو أخرجوه لما لبثوا بعده بمكة إلا يسيراً ، وكذلك وقع فإنه لم يكن بعد هجرته من بين أظهرهم بعد ما اشتد أذاهم له إلاّ سنة ونصف ، حتى جمعهم الله وإياه ببدر على غير ميعاد ، فأمكنه وسلطه عليهم وأظفره بهم ، فقتل أشرافهم وسبى ذراريهم ، ولهذا قال تعالى : { سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا } الآية أي هكذا عادتنا في الذين كفروا برسلنا وآذوهم بخروج الرسول من بين أظهرهم يأتيهم العذاب ، ولولا أنه صلى الله عليه وسلم رسول الرحمة لجاءهم من النقم في الدنيا ما لا قبل لأحد به ، قال تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ } [ الأنفال : 33 ] الآية .(1/1471)
أَقِمِ الصَّلَاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَكَ عَسَى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَحْمُودًا (79)
يقول تبارك وتعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم آمراً بإقامة الصلوات المكتوبات في أوقاتها : { أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس } قيل : لغروبها . وقال ابن عباس : دلوكها زوالها ، فعلى هذا تكون هذه الآية دخل فيها أوقات الصلوات الخمس ، فمن قوله : { لِدُلُوكِ الشمس إلى غَسَقِ اليل } وهو ظلامه؛ أخذ منه الظهر والعصر والمغرب والعشاء ، وقوله : { وَقُرْآنَ الفجر } يعني صلاة الفجر ، وقد ثبتت السنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تواتراً من أفعاله وأقواله بتفاصيل هذه الأوقات على ما عليه أهل الإسلام اليوم مما تلقوه خلفاً عن سلف وقرناً بعد قرن كما هو مقرر في مواضعه ولله الحمد ، { إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } قال : تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر » يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم { إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } . وعن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله : { وَقُرْآنَ الفجر إِنَّ قُرْآنَ الفجر كَانَ مَشْهُوداً } قال : « تشهده ملائكة الليل وملائكة النهار » وفي « الصحيحين » عن أبي هريرة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يتعاقبون فيكم ، ملائكة بالليل وملائكة بالنهار ، ويجتمعون في صلاة الصبح . وفي صلاة العصر ، فيعرج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربهم - وهو أعلم بكم - كيف تركتم عبادي؟ فيقولون : أتيناهم وهم يصلون . وتركناهم وهم يصلون » وقال عبد الله بن مسعود : يجتمع الحرسان في صلاة الفجر ، فيصعد هؤلاء ويقيم هؤلاء . وقوله تعالى : { وَمِنَ الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ } أمر له بقيام الليل بعد المكتوبة ، كما ورد « عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سئل أي الصلاة أفضل بعد المكتوبة؟ قال : » صلاة الليل « ، ولهذا أمر تعالى رسوله بعد المكتوبات بقيام الليل ، فإن التهجد ما كان بعد نوم ، وهو المعروف في لغة العرب ، وكذلك ثبتت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يتهجد بعد نومه ، وقال الحسن البصري : هو ما كان بعد العشاء ، ويحتمل على ما كان بعد النوم ، واختلف في معنى قوله تعالى : { نَافِلَةً لَّكَ } ، فقيل : معناه أنك مخصوص بوجوب ذلك وحدك ، فجعلوا قيام الليل واجباً في حقه دون الأمة ، رواه العوفي عن ابن عباس واختاره ابن جرير ، وقيل : إنما جعل قيام الليل في حقه نافلة على الخصوص ، لأنه قد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، وغيره من أمته إنما يكفر عن صلواته النوافل الذنوب التي عليه .
وقوله تعالى : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } أي افعل هذا الذي أمرتك به لنقيمك يوم القيامة مقاماً محموداً ، يحمدك فيه الخلائق كلهم ، وخالفهم تبارك وتعالى ، قال ابن جرير : قال أكثر أهل التأويل ، ذلك هو المقام الذي يقومه محمد صلى الله عليه وسلم يوم القيامة للشفاعة للناس ، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم ، عن حذيفة قال : يجمع الناس على صعيد واحد يسمعهم الداعي ، وينفذهم البصر ، حفاة عراة كما خلقوا ، قياماً لا تكلم نفس إلا بإذنه ، ينادى : يا محمد(1/1472)
« فيقول : لبيك وسعديك ، والخير في يديك ، والشر ليس إليك ، والمهدي من هديت ، وعبدك بين يديك ومنك وإليك ، لا منجى ولا ملجأ منك إلاّ إليك ، تباركت وتعاليت سبحانك رب البيت » فهذا المقام المحمود الذي ذكره الله عزَّ وجلَّ ، وقال ابن عباس : المقام المحمود مقام الشفاعة ، وكذا قال مجاهد والحسن البصري ، وقال قتادة : هو أول من تنشق عنه الأرض يوم القيامة وأول شافع ، وكان أهل العلم يرون أنه المقام المحمود . قلت : لرسول الله صلى الله عليه وسلم تشريفات يوم القيامة لا يشركه فيها أحد ، وتشريفات لا يساويه فيها أحد ، فهو أول من تنشق عنه الأرض ويبعث راكباً إلى المحشر ، وله اللواء الذي آدم فمن دونه تحت لوائه ، وله الحوض الذي ليس في الموقف أكثر وارداً منه ، وله الشفاعة العظمى عند الله ليأتي لفصل القضاء بين الخلائق ، وذلك بعد ما يسأل الناس آدم ثم نوحاً ثم إبراهيم ثم موسى ثم عيسى ، فكل يقول : لست لها ، حتى يأتوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فيقول : « أنا لها ، أنا لها » ، كما سنذكر ذلك مفصلاً في هذا الموضع إن شاء الله تعالى ، ومن ذلك ، أنه يشفع في أقوام قد أمر بهم إلى النار فيردون عنها ، وهو أول الأنبياء يقضي بين أمته ، وأولهم إجازة على الصراط بأمته ، وهو أول شفيع في الجنة ، وهو أول داخل إليها وأمته قبل الأمم كلهم ، ويشفع في رفع درجات أقوام لا تبلغها أعمالهم ، وهو صاحب الوسيلة التي هي أعلى منزلة في الجنة لا تليق إلاّ له ، وإذا أذن الله تعالى في الشفاعة للعصاة شفع الملائكة والنبيون والمؤمنون ، فيشفع هو في خلائق لا يعلم عدتهم إلاّ الله تعالى ، ولا يشفع أحد مثله ولا يساويه في ذلك . ولنذكر الآن الأحاديث الواردة في المقام المحمود وبالله المستعان .
روى البخاري عن ابن عمر قال : إن الناس يصيرون يوم القيامة جثاء ، كل أمة تتبع نبيها يقولون : يا فلان اشفع ، يا فلان اشفع ، حتى تنتهي الشفاعة إلى محمد صلى الله عليه وسلم ، فذلك يوم يبعثه الله مقاماً محموداً ، وفي رواية : « إن الشمس لتدنو حتى يبلغ العرق نصف الأذن ، فبينما هم كذلك استغاثوا بآدم ، فيقول : لست بصاحب ذلك ، ثم بموسى فيقول كذلك ، ثم بمحمد صلى الله عليه وسلم فيشفع بين الخلق ، فيمشي حتى يأخذ بحلقه باب الجنة ، فيومئذٍ يبعثه الله مقاماً محموداً ، يحمده أهل الجمع كلهم »(1/1473)
وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة والصلاة القائمة آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ، حلت له شفاعتي يوم القيامة » وعن أُبي بن كعب ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا كان يوم القيامة كنت إمام الأنبياء وخطيبهم وصاحب شفاعتهم غير فخر » .
حديث أنس بن مالك ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيلهمون ذلك ، فيقولون : لو شفعنا إلى ربنا فأراحنا من مكاننا هذا ، فيأتون آدم فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر ، خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلمك أسماء كل شيء ، فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا . فيقول لهم آدم : لست هناكم ، ويذكر ذنبه الذي أصاب ، فيستحيي ربه عزّ وجلّ من ذلك ، ويقول ولكن ائتوا نوحاً فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، فيأتون نوحاً ، فيقول : ليست هناكم ، ويذكر خطيئة سؤاله ربه ما ليس له به علم ، فيستحيي ربه من ذلك ، ويقول : ولكن ائتوا إبراهيم خليل الرحمن فيأتوه ، فيقول : ليست هناكم ، ولكن ائتوا موسى عبداً كلمه الله وأعطاه التوراة ، فيأتون موسى فيقول : لست هناكم ، ويذكر لهم النفس التي قتل بغير نفس ، فيستحيي ربه من ذلك ، ويقول : ولكن ائتوا عيسى ، عبد الله وكلمته وروحه ، فيأتون عيسى فيقول : لست هناكم ، ولكن ائتوا محمداً غفر الله ما تقدم من ذنبه وما تأخر ، فيأتوني - قال الحسن هذا الحرف - فأقوم فأمشي بين سماطين من المؤمنين ، قال أنَس : حتى استأذن على ربي ، فإذا رأيت ربي وقعت له - أو خررت - ساجداً لربي ، فيدعني ما يشاء الله أن يدعني ، قال ، ثم يقال : ارفع محمد ، قل تسمع ، واشفع تشفع ، وسل تعطه؛ فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع فيحد لي حداً ، فأدخلهم الجنة ، ثم أعود إليه ثانية ، فإذا رأيت ربي وقعت له - أو خررت - ساجداً لربي ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقال : ارفع محمد ، قل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع فيحد لي حداً ، فأدخلهم الجنة ، قال : ثم أعود الثالثة ، فإذا رأيت ربي وقعت - أو خررت - ساجداً لربي فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقال : أرفع محمد قل يسمع ، وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ثم أشفع فيحد لي حداً فأدخلهم اجنة ثم أعود الثالثة ، فإذا رأيت ربّي وقعت - أو خررت - ساجداً لربي ، فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقال : ارفع محمد ، قل يسمع ، وسل تعطيه ، واشفع تشفع ، فأرفع رأسي فأحمده بتحميد يعلمنيه ، ثم أشفع فيحد لي حداً ، فأدخلهم الجنة ، ثم أعود الرابعة فقال : يا رب ما بقي إلاّ من حبسه القرآن »(1/1474)
فحدثنا أنَس بن مالك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « فيخرج من النار من قال لا إله إلا الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن شعيرة ، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله ، وكان في قلبه من الخير ما يزن برة ، ثم يخرج من النار من قال لا إله إلاّ الله وكان في قلبه من الخير ما يزن ذرة » .
( الثاني ) حديث كعب بن مالك رضي الله عنه : عن كعب بن مالك ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يبعث الناس يوم القيامة فأكون أنا وأمتي على تل ، ويكسوني ربي عزّ وجلّ حلة خضراء ، ثم يؤذن لي ، فأقول ما شاء الله أن أقول ، فذلك المقام المحمود » .
( الثالث ) حديث أبي الدرداء رضي الله عنه : عن أبي الدرداء . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنا أول من يؤذن له بالسجود يوم القيامة . وأنا أول من يؤذن له أن يرفع رأسه . فأنظر إلى ما بين يدي فأعرف أمتي من بين الأمم . ومن خلفي مثل ذلك ، وعن يميني مثل ذلك ، وعن شمالي مثل ذلك » ، فقال رجل : يا رسول الله ، كيف تعرف أمتك من بين الأمم فيما بين نوح إلى أمتك؟ قال : « هم غير محجلون من أثر الوضوء ، ليس أحد كذلك غيرهم ، وأعرفهم أنهم يؤتون كتبهم بأيمانهم ، وأعرفهم تسعى من بين أيديهم ذريتهم » .
( الرابع ) حديث أبي هريرة رضي الله عنه : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بلحم فرفع إليه الذراع . وكانت تعجبه فنهش منها نشهة ثم قال : « أنا سيد الناس يوم القيامة ، وهل تدرون ممَّ ذاك؟ فيجمع الله الأولين والآخرين في صعيد واحد ، يسمعهم الداعي وينفذهم البصر ، وتدنو الشمس فيبلغ الناس من الغم والكرب ما لا يطيقون ولا يحتملون ، فيقول بعض الناس لبعض : ألا ترون ما أنتم فيه مما قد بلغكم . ألا تنظرون من يشفع لكم إلى ربكم؟ فيقول بعض الناس لبعض : عليكم بآدم عليه السلام ، فيقولون : يا آدم أنت أبو البشر خلقك الله بيده ، ونفخ فيك من روحه ، وأمر الملائكة فسجدوا لك ، فاشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول آدم : ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعده مثله ، وإنه قد نهاني عن الشجرة فعصيت ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى نوح ، فيأتون نوحاً فيقولون : يا نوح أنت أول الرسل إلى أهل الأرض ، وقد سماك الله عبداً شكوراً ، أشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول نوح : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله قط ، وإنه قد كان لي دعوة دعوتها على قومي ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى إبراهيم؛ فيأتون إبراهيم فيقولون : يا إبراهيم أنت نبي اله وخليله من أهل الأرض ، اشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قلبه مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، فذكر كذباته ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى موسى ، فيأتون موسى عليه السلام فيقولون : يا موسى أنت رسول الله ، اصطفاك الله برسالاته وبكلامه على الناس ، اشفع لنا إلى ربك ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم موسى : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ، ولن يغضب بعده مثله ، وإني قد قتلت نفساً لم أومر بقتلها ، نفسي نفسي نفسي ، اذهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى عيسى ، فيأتون عيسى ، فيقولون : يا عيسى أنت رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وكلمت الناس في المهد صبياً ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترى ما قد بلغنا؟ فيقول لهم عيسى : إن ربي قد غضب اليوم غضباً لم يغضب قبله مثله ولن يغضب بعد مثله ، ولم يذكر ذنباً ، نفسي نفسي نفسي ، ذاهبوا إلى غيري ، اذهبوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم ؛ فيأتون محمداً صلى الله عليه وسلم ، فيقولون : يا محمد أنت رسول الله وخاتم الأنبياء ، وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر ، فاشفع لنا إلى ربك ، ألا ترى ما نحن فيه ، ألا ترة ما قد بلغنا؟ فأقوم فآتي تحت العرش ، فأقع ساجداً لربي عزّ وجلّ ، ثم يفتح الله علي ويلهمني من محامده وحسن الثناء عليه ما لم يفتح ، على أحد قبلي ، فيقال : يا محمد ارفع رأسك وسل تعطه ، واشفع تشفع ، فأرفع رأسي ، فأقول : أمتي يا رب ، أمتي يا رب ، أمتي يا رب؟ فيقال : يا محمد ، أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن من أبواب الجنة ، وهم شركاء الناس فيما سوى ذلك من الأبواب ، ثم قال : والذي نفس محمد بيده ، إن ما بين المصراعين من مصاريع الجنة كما بين مكة وهجر ، أو كما بين مكة وبصرى » .(1/1475)
وفي « صحيح مسلم » رحمه الله ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/1476)
« أنا سيد ولد آدم يوم القيامة وأول من ينشق عنه القبر يوم القيامة ، وأول شافع وأول مشفع » وعن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { عسى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً } قال : « هو المقام الذي أشفع لأمتي فيه » وفي الحديث : « إذا كان يوم القيامة مد الله الأرض مدّ الأديم ، حتى لا يكون لبشر من الناس إلاّ موضع قدميه - قال النبي صلى الله عليه وسلم - فأكون أول من يدعى وجبريل عن يمين الرحمن تبارك وتعالى - والله ما رآه قبلها - فأقول : أي رب إن هذا أخبرني أنك أرسلته إليّ . فيقول الله عزَّ وجلَّ صدق . ثم أشفع فأقول يا رب عبادك عبدوم في أطراف الأرض . قال فهو المقام المحمود » .(1/1477)
وَقُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطَانًا نَصِيرًا (80) وَقُلْ جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا (81)
عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم بمكة ثم أمر بالهجرة ، فأنزل الله : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً } ، وقال الحسن البصري : إن كفار أهل مكة لما ائتمروا برسول الله صلى الله عليه وسلم ليقتلوه أو يطردوه أو يوثقوه ، فأراد الله قتال أهل مكة ، أمره أن يخرج إلى المدينة ، فهو الذي قال الله عزَّ وجلَّ : { وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } الآية ، وقال قتادة : { أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ } يعني المدينة { وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ } يعني مكة ، وكذا قال عبد الرحمن بن زيد ، وهذ القول هو أشهر الأقوال ، وهو اختيار ابن جرير ، وقوله : { واجعل لِّي مِن لَّدُنْكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً } قال الحسن البصري : وعده ربه لينزعن ملك فارس وعز فارس ، وليجعلنه له ، وملك الروم وعز الروم وليجعلنه له . وقال قتادة : إن نبي الله صلى الله عليه وسلم علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلاّ بسلطان ، فسأل سلطاناً نصيراً لكتاب الله ، ولحدود الله ، ولفرائض الله ، ولإقامة دين الله؛ فإن السلطان رحمة من الله ، جعله بين أظهر عباده ، ولولا ذلك لأغار بعضهم على بعض فأكل شديدهم ضعيفهم ، قال مجاهد : { سُلْطَاناً نَّصِيراً } حجة بينة ، واختار ابن جرير الأول ، لأنه لا بدّ مع الحق من قهر ، لمن عاداه وناوأه ، ولهذا يقول تعالى : { لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بالبينات . . . } [ الحديد : 25 ] إلى قوله { وَأَنزَلْنَا الحديد } [ الحديد : 25 ] الآية . وفي الحديث : « إن الله ليزع بالسلطان ما لا يزع بالقرآن » أي ليمنع بالسلطان عن ارتكاب الفواحش والآثام ما لا يمتنع كثير من الناس بالقرآن ، وما فيه من الوعيد الأكيد والتهديد الشديد ، وهذا هو الواقع ، وقوله : { وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل } تهديد ووعيد لكفّار قريش . فإنه قد جاءهم من الله الحق الذي لا مرية فيه ، ولا قيل لهم به ، وهو ما بعثه الله به من القرآن والإيمان ، والعلم النافع وزهق باطلهم : أي اضمحل وهلك ، فإن الباطل لا ثبات له مع الحق ولا بقاء { وَقُلْ جَآءَ الحق وَزَهَقَ الباطل } . عن عبد الله بن مسعود قال : دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ستون وثلثمائة نصب ، فجعل يطعنها بعود في يده ويقول : « جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً ، جاء الحق وما يبدئ الباطل وما يعيد » وقال الحافظ أبو يعلى ، عن جابر رضي الله عنه قال : « دخلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة وحول البيت ثلثمائة وستون صنماً تُعبد من دون الله ، فأمر بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فأكبت على وجوهها ، وقال : » جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقاً « .(1/1478)
وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا (82)
يقول تعالى مخبراً عن كتابه الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، إنه شفاء ورحمة للمؤمنين ، أي يذهب ما في القلوب من أمراض من شك ونفاق ، وشرك وزيغ وميل ، فالقرآن يشفي من ذلك كله . وهو أيضاً رحمة ، يحصل فيها الإيمان والحكمة وطلب الخير والرغبة فيه ، وليس هذا إلاّ لمن آمن به وصدقه ، واتبعه ، فإنه يكون شفاء في حقه ورحمة ، وأما الكافر الظالم نفسه بذلك؛ فلا يزيده سماعه القرآن إلاّ بعداً وكفراً ، والآفة من الكافر لا من القرآن ، كقوله تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] . وقال تعالى : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 124-125 ] ، وقال قتادة : إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه { وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً } : أي لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه ، فإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين .(1/1479)
وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الْإِنْسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَئُوسًا (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلًا (84)
يخبر تعالى عن نقص الإنسان من حيث هو ، إلاّ من عصمه الله تعالى في حالتي السراء والضراء ، فإنه إذا أنعم الله عليه بمال وعافية وفتح ورزق ونصر ، ونال ما يريد ، أعرض عن طاعة الله وعبادته ، ونأى بجانبه . قال مجاهد : بَعُد عنا ، وهذا كقوله تعالى : { فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ } [ الإسراء : 67 ] ، وبأنه إذا مسه الشر وهو المصائب والحوادث والنوائب { كَانَ يَئُوساً } أي قنط أن يعود ، يحصل له بعد ذلك خير ، كقوله تعالى : { وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإنسان مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَئُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَآءَ بَعْدَ ضَرَّآءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السيئات عني إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ } [ هود : 9-10 ] ، وقوله تعالى : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ } قال ابن عباس : على ناحيته ، وقال مجاهد : على حدته وطبيعته ، وقال قتادة : على نيته ، وقال ابن زيد : على دينه ، وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى ، وهذه الآية - والله أعلم - تهديد المشركين ووعيد لهم ، كقوله تعالى : { وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ } [ ٍهود : 121 ] الآية . ولهذا قال : { قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ على شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أهدى سَبِيلاً } أي منا ومنكم ، وسيجزي كل عامل بعمله ، فإنه لا تخفى عليه خافية .(1/1480)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا (85)
عن عبد الله هو ابن مسعود رضي الله عنه ، قال : كنت أمشي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرث في المدينة وهو متوكئ على عسيب ، فمر بقوم من اليهود ، فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، وقال بعضهم : لا تسألوه ، قال : فسألوه عن الروح ، فقالوا : يا محمد ما الروح؟ فما زال متوكئاً على العسيب ، قال : فظننت أنه يوحى إليه ، فقال : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } قال ، فقال بعضهم لبعض : قد قلنا لكم لا تسألوه . وهذا السياق يقتضي أن هذه الآية مدنية ، وأنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة ، مع أن السورة كلها مكية . وقد يجاب عن هذا بأنه قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية ، كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك ، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح } ، ومما يدل على نزول هذه الآية بمكة ، ما قال الإمام أحمد ، عن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود : أعطونا شيئاً نسأل عنه هذا الرجل ، فقالوا سلوه عن الروح ، فسألوه فنزلت : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } قالوا : أوتينا علماً كثيراً ، أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيراً كثيراً ، قال ، وأنزل الله : { قُل لَّوْ كَانَ البحر مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ البحر } [ الكهف : 109 ] الآية . وقد روى ابن جرير عن عكرمة قال : سأل أهل الكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الروح ، فأنزل الله { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح } الآية ، فقالوا : تزعم أنا لم نؤت من العلم إلا قليلاً وقد أوتينا التوراة وهي الحكمة { وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً } [ البقرة : 269 ] . وقال : فنزلت : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله } [ لقمان : 27 ] الآية .
وقال محمد بن إسحاق ، « عن عطاء بن يسار قال : نزلت بمكة { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } ، فلما هاجر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المدينة ، أتاه أحبار يهود ، وقالوا : يا محمد! ألم يبلغنا عنك أنك تقول { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } أفعنيتنا أم عنيت قومك؟ فقال : » كلاً قد عنيت « ، فقالوا : إنك تتلوا أنا أوتينا التوراة ، وفيها تبيان كل شيء فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هي في علم الله قليل وقد أتاكم الله ما إن عملتم به انتفعتم « وأنزل الله : { وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأرض مِن شَجَرَةٍ أَقْلاَمٌ والبحر يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ الله إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ }(1/1481)
[ لقمان : 27 ] ، وقد اختلف المفسرون في المراد بالروح هاهنا على أقوال : ( أحدها ) أن المراد أرواح بني آدم ، « عن ابن عباس أن اليهود قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم أخبرنا عن الروح وكيف تعذب الروح التي في الجسد؟ ولم يكن نزل عليه فيه شيء ، فأتاه جبريل فقال له : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } . فأخبرهم النبي صلى الله عليه وسلم بذلك . فقالوا : من جاءك بهذا؟ قال : » جاءني به جبريل من عند الله « ، فقالوا له : والله ما قاله لك إلاّ عدونا » ، فأنزل الله : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } [ البقرة : 97 ] ، وقيل : المراد بالروح هاهنا جبريل ، قاله قتادة ، وقيل : المراد به اهنا ، ملك عظيم بقدر المخلوقات كلها .
وقوله تعالى : { قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبِّي } : أي من شأنه ، ومما استأثر بعلمه دونكم ، ولهذا قال : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } أي وما أطلعكم من علمه إلا على القليل ، فإنه لا يحيط أحد بشيء من علمه إلاّ بما شاء تبارك وتعالى ، والمعنى أن علمكم في علم الله قليل ، وهذا الذي تسألون عنه من أمر الروح مما استأثر به تعالى ولم يطلعكم عليه ، كما أنه لم يطلعكم إلا على القليل من عمله تعالى . وسيأتي إن شاء الله في قصة موسى والخضر ، أن الخضر قال : يا موسى ما علمي وعلمك وعلم الخلائق في علم الله إلاّ كما أخذ هذا العصفور من هذا البحر ، ولهذا قال تعالى : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّنَ العلم إِلاَّ قَلِيلاً } . وقال السهيلي : قال بعض الناس : لم يجبهم عما سألوا لأنهم سألوا على وجه التعنت ، وقيل أجابهم ، ثم ذكر السهيلي : الخلاف بين العلماء في أن الروح هي النفس أو غيرها ، وقرر : أنها ذات لطيفة كالهواء سارية في الجسد كسريان الماء في عروق الشجر ، وحاصل القول : أن الروح هي أصل النفس ومادتها ، والنفس مركبة منها ومن اتصالها بالبدن ، فهي هي من وجه ، لا من كل وجه ، وهذا معنى حسن والله أعلم .(1/1482)
وَلَئِنْ شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لَا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلًا (86) إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيرًا (87) قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا (88) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُورًا (89)
يذكر تعالى نعمته وفضله العظيم على عبده ورسوله الكريم ، صلى الله عليه وسلم فيما أوحاه إليه من القرآن المجيد الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل ن حكيم حميد ، ثم نبه تعالى على شرف هذا القرآن العظيم فأخبر أنه لو اجتمعت الإنس والجن كلهم واتفقوا على أن يأتوا بمثل ما أنزله على رسوله لما أطاقوا ذلك ولما استطاعوه ، ولو تعاونوا وتساعدوا وتظافروا فإن هذا أمر لا يستطاع ، وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثال ولا عديل؟ وقوله : { وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ } الآية ، أي بينا لهم الحجج ، والبراهين القاطعة ، ووضحنا لهم الحق وشرحناه وبسطناه ، ومع هذا { فأبى أَكْثَرُ الناس إِلاَّ كُفُوراً } أي جحوداً للحق ، ورداً للصواب .(1/1483)
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93)
قال ابن جرير عن ابن عباس : « إن عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبا سفيان بن حرب ، وأبا البختري ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل ، اجتمعوا بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلموه وخاصموه حتى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه أن أشراف قومك قد اجتمعوا لك ليكلموك ، فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يظن أنه قد بدا لهم في أمره بداء ، وكان عليهم حريصاً يحب رشدهم ويعز عليهم عنتهم ، حتى جلس إليهم فقالوا : يا محمد ، إنا قد بعثنا إليك لنعذر فيك ، وإنا والله ما نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين ، وسفهت الأحلام ، وشتمت الألهة ، وفرقت الجماعة ، فما بقي من قبيح إلاّ وقد جئته فيما بيننا وبينك ، فإن كنت إنما جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت إنما تطلب الشرف فينا سوَّدناك علينا ، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا ، وإن كان هذا الذي يأتيك بما يأتيك رئياً تراه قد غلب عليك - وكانوا يسمون التابع من الجن الرئي - فربما كان ذلك ، بذلنا أموالنا في طلب الطلب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما بي ما تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف فيكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل علي كتاباً ، وأمرني أن أكون لكم بشيراً ونذيراً ، فبلغتكم رسالات ربي ونصحت لكم ، فإن تقبلوا مني ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم « . فقالوا : يا محمد فإن كنت غير قابل منا ما عرضنا عليك ، فقد علمت أنه ليس أحد من الناس أضيق منا بلاداً ، ولا أقل مالاً ، ولا أشد عيشاً منا ، فاسأل لنا ربك الذي بعثك بما بعثك به ، فليسيّر هذه الجبال التي قد ضيقت علينا ، وليبسط لنا بلادنا ، وليفجّر فيها أنهاراً كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن فيمن يبعث لنا ، منهم ( قصي بن كلاب ) فإنه كان شيخاً صدوقاً ، فنسألهم عما تقول حق هو أم باطل؟ فإن صنعت ما سألناك وصدقوك صدقناك وعرفنا به منزلتك عند الله ، وأنه بعثك رسولاً ، كما تقول . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما بهذا بعثت ، إنما جئتكم من عند الله بما بعثني به ، فقد بلغتكم ما أرسلت به إليكم ، فإن تقبلوه فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم « . قالوا : لم تفعل لنا هذا فخذ لنفسك فسل ربك أن يبعث ملكاً يصدقك بما تقول ويراجعنا عنك ، وتسأله فيجعل لك جنات وكنوزاً وقصوراً من ذهب وفضة ويغنيك بها عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه ، حتى نعرف فضل منزلتك من ربك إن كنت رسولاً كما تزعم! فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما أنا بفاعل ، ما أنا بالذي يسأل ربه هذا ، وما بعثت إليكم بهذا ، ولكن الله بعثني بشيراً ونذيراً ، فإن تقبلوا ما جئتكم به فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم « . قالوا : فأسقط السماء كما زعمت أن ربك إن شاء فعل ذلك ، فإنا لن نؤمن لك إلاّ أن تفعل . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ذلك إلى الله إن شاء فعل بكل ذلك « ، فقالوا : يا محمد! أما علم ربك أنا سنجلس معك ، ونسألك عما سألناك عنه ، ونطلب منك ما نطلب ، فيقدم إليك ويعلمك ما تراجعنا به ، ويخبرك ما هو صانع في ذلك بنا إذا لم نقبل منك ما جئتنا به ، فقد بلغنا أنه إنما يعلمك هذا رجل باليمامة يقال له الرحمن ، وإنا والله لا نؤمن بالرحمن أبداً ، فقد أعذرنا إليك يا محمد ، أما والله لا نتركك وما فعلت بنا حتى نهلكك أو تهلكنا .
فلما قالوا ذلك ، قام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهم ، وقام معه عبد الله بن أبي أمية بن المغيرة بن عبد الله بن عمر بن مخزوم ، وهو ابن عمته عاتكة ابنة عبد المطلب ، فقال : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ، ثم سألوك لأنفسهم أموراً ليعرفوا بها منزلتك من الله فلم تفعل ذلك ، ثم سألوك أن تعجل لهم ما تخوفهم به من العذاب ، فوالله لا أومن بك أبداً حتى تتخذ إلى السماء سلماً ثم ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي معي بصحيفة منشورة ، ومعك أربعة من الملائكة يشهدون لك أنك كما تقول ، وايم الله لو فعلت ذلك لظننت أني لا أصدقك » . ثم انصرف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وانصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهله حزيناً أسفاً ، لما فاته مما كان طمع فيه من قومه حين دعوه ولما رأى من مباعدتهم إياه . ولو علم الله منهم أنهم يسألون ذلك استرشاداً لأجيبوا إليه ، ولكن علم أنهم إنما يطلبون ذلك كفراً وعناداً ، فقيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : إن شئت أعطيناهم ما سألوا ، فإن كفروا عذبتهم عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ، وإن شئت فتحت عليهم باب التوبة والرحمة ، فقال : « بل تفتح عليهم باب التوبة والرحمة » « .(1/1484)
وقوله تعالى : { حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } الينبوع : العين الجارية ، سألوه أن يجري لهم عيناً معيناً في أرض الحجاز هاهنا وهاهنا ، وذلك سهل على الله تعالى يسير لو شاء لفعله ولأجابهم إلى جميع ما سألوا وطلبوا ، ولكن علم أنهم لا يهتدون ، كما قال تعالى : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 96-97 ] . وقوله تعالى : { أَوْ تُسْقِطَ السمآء كَمَا زَعَمْتَ } أي أنك وعدتنا أن يوم القيامة تنشق فيه السماء وتهي وتدلي أطرافها فعجّلْ ذلك في الدنيا ، وأسقطها كسفاً ، أي قطعاً ، كذلك سأل قوم شعيب فقالوا : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } [ الشعراء : 187 ] ، فعاقبهم الله بعذاب يوم الظلة إنه كان عذاب يوم عظيم ، وأما نبي الرحمة المبعوث رحمة للعالمين فسأل إنظارهم وتأجيلهم ، لعل الله يخرج من أصلابهم من يعبده لا يشرك به شيئاً ، وكذلك وقع ، فإن من هؤلاء الذين الذين ذكروا من أسلم بعد ذلك وحسن إسلامه حتى ( عبد الله بن أبي أمية ) الذي تبع النبي صلى الله عليه وسلم وقال له ما قال . أسلم إسلاماً تاماً وأناب إلى الله عزَّ وجلَّ ، وقوله تعالى : { أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ } . قال ابن عباس ومجاهد : هو الذهب ، أي يكون لك بيت من ذهب ، { أَوْ ترقى فِي السمآء } أي تصعد في سلم ، ونحن ننظر إليك ، { وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ } ، قال مجاهد : أي مكتوب فيه ، إلى كل واحد صحيفة ، هذا كتاب من الله لفلان بن فلان تصبح موضوعة عند رأسه ، وقوله تعالى : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } أي سبحانه وتعالى وتقدس ، أن يتقدم أحد بين يديه في أمر من أمور سلطانه وملكوته ، بل هو الفعال لما يشاء ، وما أنا إلاّ رسول إليكم أبلغكم رسالات ربي ، وأنصح لكم وأمركم فيما سألتم إلى الله عزَّ وجلَّ ، وعن أبي أمامة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « عرض علي ربي عزَّ وجلّ ليجعل لي بطحاء مكة ذهباً ، فقلت : لا يا رب ولكن أشبع يوماً وأجوع يوماً - أو نحو ذلك - فإذا جعت تضرعت إليك وذكرتك ، وإذا شبعت حمدتك وشكرتك » .(1/1485)
وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الْهُدَى إِلَّا أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللَّهُ بَشَرًا رَسُولًا (94) قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95)
يقول تعالى : { وَمَا مَنَعَ الناس } أي أكثرهم ، { أَن يؤمنوا } ويتابعوا الرسل ، إلاّ استعجابهم من بعثة البشر رسلاً كما قال تعالى : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس } [ يونس : 2 ] ؟ وقال تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُ كَانَت تَّأْتِيهِمْ رُسُلُهُم بالبينات فقالوا أَبَشَرٌ يَهْدُونَنَا } [ التغابن : 6 ] الآية . وقال فرعون وملؤه : { أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنَا وَقَوْمُهُمَا لَنَا عَابِدُونَ } [ المؤمنون : 47 ] ؟ وكذلك قالت الأمم لرسلهم : { إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ } [ إبراهيم : 10 ] ، والآيات في هذا كثيرة ، ثم قال تعالى منبهاً على لطفه ورحمته بعباده ، أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم ليفقهوا عنه ويفهموا منه ، لتمكنهم من مخاطبته ومكالمته ، ولو بعث إلى البشر رسولاً من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ، ولا الأخذ عنه ، كما قال تعالى : { كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ يَتْلُواْ عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الكتاب والحكمة وَيُعَلِّمُكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 151 ] ، ولهذا قال هاهنا : { قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ } أي كما أنتم فيها { لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } أي من جنسهم ، ولمّا كنتم أنتم بشراً بعثنا فيكم رسلنا منكم لطفاً ورحمة .(1/1486)
قُلْ كَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيرًا بَصِيرًا (96)
يقول تعالى مرشداً نبيّه صلى الله عليه وسلم إلى الحجة على قومه ، في صدق ما جاءهم به إنه شاهد علي وعليكم ، عالم بما جئتكم به ، فلو كنت كاذباً عليه لانتقم مني أشد الانتقام ، كما قال تعالى : { وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأقاويل * لأَخَذْنَا مِنْهُ باليمين * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوتين } [ الحاقة : 44-46 ] . وقوله { إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً } : أي عليماً بهم ، بمن يستحق الإنعام والإحسان والهداية ، ممن يستحق الشقاء والإضلال والإزاغة ، ولهذا قال : { وَمَن يَهْدِ الله فَهُوَ . . . } .(1/1487)
وَمَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْيًا وَبُكْمًا وَصُمًّا مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيرًا (97)
يقول تعالى مخبراً عن تصرفه في خلقه ونفوذ حكمه ، وأنه لا معقب له بأنه من يهده فلا مضل له ، ومن يضلل فلن تجد لهم أولياء من دونه أي يهدونهم ، كما قال : { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } [ الكهف : 17 ] ، وقوله : { وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ القيامة على وُجُوهِهِمْ } ، عن أنس بن مالك : « قيل يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم؟ قال : » الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم « وعن حذيفة بن أسيد ، قال ، قام أبو ذر فقال : يا بني غفار قولوا ولا تحلفوا فإن الصادق المصدوق حدثني : أن الناس يحشرون على ثلاثة أفواج ، فوج راكبين طاعمين كاسين ، وفوج يمشون ويسعون ، وفوج تسحبهم الملائكة على وجوههم وتحشرهم إلى النار . وقوله : { عُمْياً } أي لا يبصرون { وَبُكْماً } يعني لا ينطقون { وَصُمّاً } لا يسمعون وهذا يكون في حال دون حال ، جزاء لهم كما كانوا في الدنيا ، بكماً وعمياً وصماً عن الحق ، فجوزوا في محشرهم بذلك أحوج ما يحتاجون إليه ، { مَّأْوَاهُمْ } أي منقلبهم ومصيرهم { جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ } قال ابن عباس : سكنت ، وقال مجاهد : طفئت { زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } أي لهباً ووهجاً وجمراً ، كما قال : { فَذُوقُواْ فَلَن نَّزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذَاباً } [ النبأ : 30 ] .(1/1488)
ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا وَقَالُوا أَإِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا (98) أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لَا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلَّا كُفُورًا (99)
يقول تعالى هذا الذي جازيناهم به من البعث على العمى والبكم والصمم جزاؤهم الذي يستحقونه ، لأنهم كذبوا { بِآيَاتِنَا } أي بأدلتنا وحجتنا ، واستبعدوا وقوع البعث ، { وَقَالُواْ أَءِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً } ، أي بالية نخرة { أَءِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً } أي بعد ما صرنا إلى ما صرنا إليه ، من البلى والهلاك ، والتفرق والذهاب في الأرض ، نعاد مرة ثانية؟ فاحتج تعالى عليهم ونبههم على قدرته على ذلك بأنه خلق السماوات والأرض ، فقدرته على إعادتهم أسهل من ذلك . كما قال : { لَخَلْقُ السماوات والأرض أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ الناس } [ غافر : 57 ] ، وقال : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ على أَن يُحْيِيَ الموتى } [ الأحقاف : 33 ] الآية ، وقال : { أَوَلَيْسَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بِقَادِرٍ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُم بلى وَهُوَ الخلاق العليم } [ يس : 81 ] ، وقال هاهنا : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض قَادِرٌ على أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ } أي يوم القيامة يعيد أبدانهم وينشئهم نشأة أخرى ، كما بدأهم ، وقوله : { وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ } أي جعل لإعادتهم وإقامتهم من قبورهم أجلاً مضروباً ومدة مقدرة لا بد من انقضائها ، كما قال تعالى : { وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لأَجَلٍ مَّعْدُودٍ } [ هود : 104 ] ، وقوله : { فأبى الظالمون } أي بعد قيام الحجة عليهم { إِلاَّ كُفُوراً } : إلاّ تمادياً في باطلهم وضلالهم .(1/1489)
قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا (100)
يقول تعالى لرسوله صلوات الله وسلامه عليه ، قل لهم يا محمد : لو أنكم أيها الناس تملكون التصرف في خزائن الله ، لأمسكتم خشية الإنفاق ، قال ابن عباس : أي الفقر ، أي خشية أن تُذهبوها ، مع أنها لا تفرغ ولا تنفد أبداً؛ لأن هذا من طباعكم وسجاياكم ، ولهذا قال : { وَكَانَ الإنسان قَتُوراً } قال ابن عباس وقتادة . أي بخيلاً منوعاً ، وقال الله تعالى : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً } [ النساء : 53 ] أي لو أن لهم نصيباً في ملك الله لما أعطوا أحداً شيئاً ، ولا مقدار نقير ، والله تعالى يصف الإنسان من حيث هو إلاّ من وفقه الله وهداه ، فإن البخل والجزع والهلع صفة له ، كما قال تعالى : { إِنَّ الإنسان خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشر جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الخير مَنُوعاً * إِلاَّ المصلين } [ المعارج : 19-22 ] ولهذا نظائر كثيرة في القرآن العزيز ، ويدل هذا على كرمه وجوده وإحسانه . وقد جاء في « الصحيحين » : « يد الله ملأى لا يغيضها نفقة ، سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض فإنه لم يغض ما في يمينه؟ »(1/1490)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءَهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُورًا (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنْزَلَ هَؤُلَاءِ إِلَّا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ بَصَائِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَوْنُ مَثْبُورًا (102) فَأَرَادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَنْ مَعَهُ جَمِيعًا (103) وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا (104)
يخبر تعالى أنه بعث موسى بتسع آيات بينات ، وهي الدلائل القاطعة على صحة نبوته وصدقه ، فيما أخبر به عمن أرسله إلى فرعون ، وهي « العصا » ، واليد ، والسنين ، والبحر ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم « آيات مفصلات قاله ابن عباس ، وقال محمد بن كعب : هي اليد والعصا والخمس في الأعراف والطمس والحجر ، وقال ابن عباس أيضاً ومجاهد : ( هي يده ، وعصاه ، والسنين ، ونقص الثمرات ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ) ، وهذا القول ظاهر جلي حسن قوي ، وجعل الحسن البصري : السنين ونقص الثمرات واحدة؛ وعنده أن التاسعة هي تلقف العصا ما يأفكون ، { فاستكبروا وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ } [ الأعراف : 133 ] أي ومع هذه الآيات ومشاهدتهم لها كفروا بها وجحدوا بها ، واستيقنتها أنفسهم ظلماً وعلواً وما نعجعت فيهم؛ فكذلك لو أجبنا هؤلاء الذين سألوا منك ما سألوا وقالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعاً إلى آخرها ، لما استجابوا ولا آمنوا إلاّ أن يشاء الله ، كما قال فرعون لموسى - وقد شاهد منه ما شاهد من هذه الآيات - { إِنِّي لأَظُنُّكَ ياموسى مَسْحُوراً } قيل : بمعنى ساحر ، والله تعالى أعلم . فهذه الآيات التسع التي ذكرها هؤلاء الأئمة هي المرادة هاهنا ، وهي المعنية في قوله تعالى : { وَأَلْقِ عَصَاكَ فَلَمَّا رَآهَا تَهْتَزُّ كَأَنَّهَا جَآنٌّ ولى مُدْبِراً وَلَمْ يُعَقِّبْ ياموسى لاَ تَخَفْ } [ النمل : 10 ] إلى قوله { فِي تِسْعِ آيَاتٍ إلى فِرْعَوْنَ وَقَوْمِهِ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً فَاسِقِينَ } [ النمل : 12 ] ، فذكر هاتين الآيتين العصا واليد ، وبيَّن الآيات الباقيات في سورة الأعراف وفصّلها ، وقد أوتي موسى عليه السلام آيات أخر كثيرة : منها ضربه الحجر بالعصا ، وخروج الماء منه ، ومنها تظليلهم بالغمام ، وإنزال المن والسلوى ، وغير ذلك مما أوتيه بنو إسرائيل بعد مفارقتهم بلاد مصر ، ولكن ذكر هاهنا التسع الآيات التي شاهدها فرعون وقومه من أهل مصر ، فكانت حجة عليهم ، فخالفوها وعاندوها كفراً وجحوداً .
ولهذا قال موسى لفرعون : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ } أي حججاً وأدلة على صدق ما جئتك به ، { وَإِنِّي لأَظُنُّكَ يافرعون مَثْبُوراً } أي هالكاً ، قاله مجاهد وقتادة ، وقال ابن عباس : ملعوناً ، وقال الضحّاك { مَثْبُوراً } : أي مغلوباً ، والهالك كما قال مجاهد ، شمل هذا كله . ويدل على أن المراد بالتسع الآيات إنما هي ما تقدم ذكره من العصا واليد والسنين ونقص من الثمرات والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم ، التي فيها حجج وبراهين على فرعون وقومه ، وخوارق ودلائل على صدق موسى ووجود الفاعل المختار الذي أرسله ، وقوله : { فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأرض } أي يخليهم منها ويزيلهم عنها { فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض } ، وفي هذا بشارة لمحمد صلى الله عليه وسلم بفتح مكة مع أن السورة مكية ، نزلت قبل الهجرة وكذلك وقع فإن أهل مكة همّوا بإخراج الرسول منها كما قال تعالى : { وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأرض لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا } [ الإسراء : 76 ] الآيتين ، ولهذا أورث الله رسوله مكة فدخلها عنوة وقهر أهلها ثم أطلقهم حلماً وكرماً ، كما أورث الله القوم الذين كانوا يستضعفون من بني إسرائيل مشارق الأرض ومغاربها ، وأورثهم بلاد فرعون وأموالهم وزروعهم وثمارهم وكنوزهم ، كما قال : كذلك وأورثناها بني إسرائيل ، وقال هاهنا { وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسكنوا الأرض فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً } أي جميعكم أنتم وعدوكم ، قال ابن عباس { لَفِيفاً } أي جميعاً .(1/1491)
وَبِالْحَقِّ أَنْزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا (105) وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا (106)
يقول تعالى مخبراً عن كتابه العزيز وهو القرآن المجيد ، إنه بالحق نزل ، أي متضمناً للحق ، كما قال تعالى : { لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ } [ النساء : 166 ] أي متضمناً علم الله الذي أراد أن يطلعكم عليه من أحكامه وأمره ونهيه ، وقوله { وبالحق نَزَلَ } أي ونزل إليك يا محمد محفوظاً محروساً ، لم يشب بغيره ولا زيد فيه ، ولا نقص منه ، بل وصل إليك بالحق فإنه نزل به شديد القوى ، الأمين المكين المطاع في الملأ الأعلى ، وقوله : { وَمَآ أَرْسَلْنَاكَ } أي يا محمد { إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً } مبشراً لمن أطاعك من المؤمنين ، ونذيراً لمن عصاك من الكافرين ، وقوله : { وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ } بالتخفيف ، ومعناه فصلناه من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفرقاً منجماً في ثلاث وعشرين سنة ، قاله ابن عباس ، وعن ابن عباس { فَرَقْنَاهُ } بالتشديد أي أنزلناه آية آية مبيناً مفسراً ، ولهذا قال { لِتَقْرَأَهُ عَلَى الناس } أي لتبلغه الناس وتتلوه عليهم { على مُكْثٍ } أي مهل { وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلاً } شيئاً بعد شيء .(1/1492)
وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا (108) وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا (109)
يقول تعالى لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم { قُلْ } يا محمد لهؤلاء الكافرين بما جئتهم به من هذا القرآن العظيم { آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تؤمنوا } أي سواء آمنتم به أم لا ، فهو حق في نفسه أنزله الله ، ونّوه بذكره في كتبه المنزلة على رسله ، ولهذا قال : { إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ } أي من صالحي أهل الكتاب الذين تمسكوا بكتابهم ولم يبدلوه ولا حرفوه { إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ } هذا القرآن { يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ } جمع ذقن ، وهو أسفل الوجه { سُجَّداً } أي لله عزَّ وجلَّ ، شكراً على ما أنعم به عليهم ، ولهذا يقولون { سُبْحَانَ رَبِّنَآ } أي تعظيماً وتوقيراً على قدرته التامة ، وأنه لا يخلف الميعاد ، ولهذا قالوا : { إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } ، وقوله : { وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ } أي خضوعاً لله عزّ وجلّ ، وإيماناً وتصديقاً بكتابه ورسوله ، { وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً } أي إيماناً وتسليماً ، كما قال : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] .(1/1493)
قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَنَ أَيًّا مَا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَدًا وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيرًا (111)
يقول تعالى : { قُلِ } يا محمد لهؤلاء المشركين المنكرين صفة الرحمة لله عزّ وجلّ ، المانعين من تسميته بالرحمن ، { ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى } أي لا فرق بين دعائكم له باسم { الله } أو باسم { الرحمن } فإنه ذو الأسماء الحسنى ، كما قال تعالى : { لَهُ الأسمآء الحسنى يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السماوات والأرض } [ الحشر : 24 ] الآية . وقد روى مكحول أن رجلاً من المشركين سمع النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول في سجوده : « يا رحمن يا رحيم » ، فقال إنه يزعم أنه يدعو واحداً وهو يدعو اثنين فأنزل الله هذه الآية ، وكذا روي عن ابن عباس رواهما ابن جرير ، وقوله : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } ، عن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية ورسول الله صلى الله عليه وسلم متوار بمكة ، { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن فلما سمع ذلك المشركين سبوا القرآن وسبوا من أنزله ومن جاء به ، قال فقال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } أي بقراءتك فيسمع المشركون فيسبون القرآن { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك ، { وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } . وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا جهر القرآن وهو يصلي تفرقوا عنه وأبوا أن يسمعوا منه ، وكان الرجل إذا أراد أن يسمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض ما يتلو وهو يصلي ، استرق السمع منهم دونهم فرقاً منهم . فإذا رأى أنهم قد عرفوا أنه يستمع ذهب خشية أذاهم فلم يسمع ، فإن خفض صوته صلى الله عليه وسلم لم يسمع الذين يستمعون من قراءته شيئاً ، فأنزل الله { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ } فيتفرقوا عنك { وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا } أي فلا يسمع من أراد أن يسمع فينتفع به ، { وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } .
قال ابن جرير ، عن محمد بن سيرين ، قال : نبئت أن أبا بكر كان إذا صلى فقرأ خفض صوته ، وأن عمر كان يرفع صوته ، فقيل لأبي بكر لم تصنع هذا؟ قال : أناجي ربي عزّ وجلّ وقد علم حاجتي ، فقيل : أحسنت ، وقيل لعمر : لم تصنع هذا؟ قال : أطرد الشيطان وأوقظ الوسنان ، قيل : أحسنت ، فلما نزلت : { وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وابتغ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } قيل لأبي بكر : ارفع شيئاً ، وقيل لعمر : اخفض شيئاً . وقال عكرمة ، عن ابن عباس : نزلت في الدعاء ، وقوله : { وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً } لما أثبت تعالى لنفسه الكريمة الأسماء الحسنى نزه نفسه عن النقائص ، فقال : { وَقُلِ الحمد لِلَّهِ الذي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُنْ لَّهُ شَرِيكٌ فِي الملك } ، بل هو الله الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد ، { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل } أي ليس بذليل فيحتاج إلى أن يكون له ولي ، أو وزير أو مشير ، بل هو تعالى خالق الأشياء وحده لا شريك له ، ومدبرها ومقدرها بمشيئته وحده لا شريك له ، قال مجاهد في قوله : { وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذل } لم يخالف أحداً ، ولم يبتغ نصر أحد ، { وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً } أي عظمه وأجلّه عما يقول الظالمون المعتدون علواً كبيراً .(1/1494)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَى عَبْدِهِ الْكِتَابَ وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجًا (1) قَيِّمًا لِيُنْذِرَ بَأْسًا شَدِيدًا مِنْ لَدُنْهُ وَيُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا حَسَنًا (2) مَاكِثِينَ فِيهِ أَبَدًا (3) وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا (4) مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)
قد تقدم في أول التفسير ، أنه تعالى يحمد نفسه المقدسة ، عند فواتح الأمور وخواتمها ، فإنه المحمود على كل حال ، وله الحمد في الأولى والآخرة ، ولهذا حمد نفسه على إنزاله كتابه العزيز على رسوله الكريم ، محمد صلوات الله وسلامه عليه ، فإنه أعظم نعمة أنعمها الله على أهل الأرض ، إذ أخرجهم به من الظلمات إلى النور ، حيث جعله كتاباً مستقيماً لا اعوجاج فيه ولا زيغ ، بل يهدي إلى صراط مستقيم ، واضحاً بيناً جلياً ، نذيراً للكافرين بشيراً للمؤمنين ، ولهذا قال : { وَلَمْ يَجْعَل لَّهُ عِوَجَا } أي لم يجعل فيه اعوجاجاً ولا زيغاً ولا ميلاً ، بل جعله معتدلاً مستقيماً ، ولهذا قال : { قَيِّماً } أي مستقيماً ، { لِّيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِّن لَّدُنْه } أي لمن خالفه وكذبه ، ولم يؤمن به ، ينذهر بأساً شديداً عقوبة عاجلة في الدنيا ، وآجلة في الآخرة ، { مِّن لَّدُنْهُ } أي من عند الله { وَيُبَشِّرَ المؤمنين } أي بهذا القرآن ، الذين صدقوا إيمانهم بالعمل الصالح { أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً } أي مثوبة عند الله جميلة ، { مَّاكِثِينَ فِيهِ } في ثوابهم عند الله ، وهو الجنة ، خالدين فيه { أَبَداً } دائماً ، لا زوال له ولا انقضاء ، وقوله : { وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } قال ابن إسحاق : وهم مشركوا العرب ، في قولهم نحن نعبد الملائكة ، وهم بنات الله { وَيُنْذِرَ الذين قَالُواْ اتخذ الله وَلَداً } ، أي بهذا القول الذي افتروه وائتفكوه ، { مَّا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ } أي لأسلافهم ، { كَبُرَتْ كَلِمَةً } كبرت كلمتهم هذه ، وفي هذا تبشيع لمقالتهم واستعظام لإفكهم . ولهذا قال : { كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ } أي ليس لها مستند سوى قولهم ولا دليل لهم عليها إلاّ كذبهم وافتراؤهم ، ولهذا قال : { إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً } .
وقد ذكر محمد بن إسحاق في سبب نزول هذه السورة الكريمة عن ابن عباس قال : « بعثت قريش ( النضر بن الحارث ) و ( عقبة بن أبي معيط ) إلى أحبار يهود بالمدينة ، فقالوا لهم : سلوهم عن محمد وصفوا لهم صفته وأخبروهم بقوله ، فإنهم أهل الكتاب الأول ، وعندهم ما ليس عندنا من علم الأنبياء ، فخرجا حتى أتيا المدينة ، فسألوا أحبار يهود عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووصفوا لهم أمره وبعض قوله وقالا : إنكم أهل التوراة وقد جئناكم لتخبرونا عن صاحبنا هذا ، قال ، فقالوا لهم : سلوه عن ثلاث نأمركم بهن ، فإن أخبركم بهن فهو نبي مرسل ، وإلاّ فرجل متقول فتروا فيه رأيكم ، سلوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأول ما كان من أمرهم فإنهم قد كان لهم حديث عجيب ، وسلوه عن رجل طواف ، بلغ مشارق الأرض ومغاربها ما كان نبؤه؟ وسلوه عن الروح ما هو؟ فإن أخبركم بذلك فهو نبي فاتبعون ، وإن لم يخبركم فإنه رجل متقول فاصنعوا في أمره ما بدا لكم ، فأقبل النضر وعقبة حتى قدما على قريش ، فقالا : يا معشر قريش قد جئناكم بفصل ما بينكم وبين محمد ، قد أمرنا أحبار يهود أن نسأله عن أمور؛ فأخبروهم بها ، فجاءوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا محمد! أخبرنا ، فسألوه عما أمروهم به ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أخبركم غداً عما سألتم عنه « ، ولم يستثن ، فانصرفوا عنه ، ومكث رسول الله صلى الله عليه وسلم خمس عشرة ليلة لا يحدث الله له في ذلك وحياً ، ولا يأتيه جبرائيل عليه السلام ، حتى أرجف أهل مكة ، وقالوا : وعدنا محمد غداً واليوم خمس عشرة ، قد أصبحنا فيها لا يخبرنا بشيء عما سألناه عنه ، وحتى أحزن رسول الله صلى الله عليه وسلم مكث الوحي عنه ، وشق عليه ما يتكلم به أهل مكة . ثم جاء جبرائيل عليه السلام من الله عزَّ وجلَّ بسورة أصحاب الكهف ، فيها معاتبته إياه على حزنه عليهم ، وخبر ما سألوه عنه من خبر الفتية والرجل الطواف »(1/1495)
، وقول الله عزَّ وجلَّ { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الروح قُلِ الروح } [ الإسراء : 85 ] الآية .(1/1496)
فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا (6) إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8)
يقول تعالى مسلياً لرسوله صلوات الله وسلامه عليه في حزنه على المشركين لتركهم الإيمان وبعدهم عنه ، كما قال تعالى : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] ، وقال : { وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ } [ النمل : 70 ] ، وقال : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] ، باخع : أي مهلك نفسك بحزنك عليهم ، ولهذا قال : { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث } يعني القرآن ، { أَسَفاً } يقول : لا تهلك نفسك أسفاً ، قال قتادة : قاتلٌ نفسك غضباً وحزناً عليهم . وقال مجاهد : جزعاً ، والمعنى متقارب أي : لا تأسف عليهم بل أبلغهم رسالة الله فمن اهتدى فلنفسه ، ومن ضل فإنما يضل عليها ، ولا تذهب نفسك عليهم حسرات ، ثم أخبر تعالى أنه جل الدنيا داراً فانية مزينة بزينة زائلة ، وإنما جعلها دار اختبار لا دار قرار ، فقال : { إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الأرض زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُم أَحْسَنُ عَمَلاً } ، عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الدنيا حلوة خضرة وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء » ثم أخبر تعالى بزوالها وفنائها وذهابها ، وخرابها ، فقال تعالى : { وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيداً جُرُزاً } أي وإنا لمصّيروها بعد الزينة إلى الخراب والدمار ، فنجعل كل شيء عليها هالكاً { صَعِيداً جُرُزاً } لا ينبت ولا ينتفع به ، كما قال ابن عباس : يهلك كل شيء عليها ويبيد ، وقال مجاهد { صَعِيداً جُرُزاً } بلقعاً . وقال قتادة : الصعيد الأرض التي ليس فيها شجر ولا نبات . وقال ابن زيد : الصعيد الأرض التي ليس فيها شيء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ المآء إِلَى الأرض الجرز فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعَامُهُمْ وَأَنفُسُهُمْ أَفَلاَ يُبْصِرُونَ }(1/1497)
أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12)
هذا إخبار من الله تعالى عن قصة أصحاب الكهف { أَمْ حَسِبْتَ } يعني يا محمد { أَنَّ أَصْحَابَ الكهف والرقيم كَانُواْ مِنْ آيَاتِنَا عَجَباً } أي ليس أمرهم عجيباً في قدرتنا وسلطاننا فإن خلق السماوات والأرض وتسخير الشمس والقمر وغير ذلك من الآيات العظيمة الدالة على قدرة الله تعالى؛ وأنه على ما يشاء قادر ، ولا يعجزه شيء - أعجب من أخبار أصحاف الكهف ، كما قال مجاهد : قد كان من آياتنا ما هو أعجب من ذلك ، وقال ابن عباس : الذي آتيتك من العلم والسنّة والكتاب أفضل من شأن أصحاب الكهف والرقيم ، وقال محمد بن إسحاق : ما أظهرت من حججي على العباد أعجب من شأن أصحاب الكهف والرقيم ، وأما الكهف : فهو الغار في الجبل ، وهو الذي لجأ إليه هؤلاء الفتية المذكورون ، وأما الرقيم : فقال ابن عباس : هو واد قريب من أيلة . وقال الضحّاك : أما الكهف فهو غار الوادي ، والرقيم اسم الوادي ، وقال مجاهد : الرقيم كتاب بنيانهم ، ويقول بعضهم هو الوادي الذي فيه كهفهم . وقال ابن عباس : الرقيم الجبل الذي فيه الكهف ، وقال سعيد بن جبير : الرقيم لوح من حجارة كتبوا فيه قصص أصحاب الكهف ثم وضعوه على باب الكهف ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : الرقيم الكتاب ، ثم قرأ { كتاب مرقوم } وهذا هو الظاهر من الآية وهو اختيار ابن جرير ، قال الرقيم فعيل بمعنى مرقوم ، كما يقال للمقتول قتيل وللمجروح جريح . والله أعلم .
وقوله تعالى : { إِذْ أَوَى الفتية إِلَى الكهف فَقَالُواْ رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } يخبر تعالى عن أولئك الفتية الذين فروا بدينهم من قومهم لئلا يفتنوهم عنه فهربوا منهم فلجأوا إلى غار جبل ليختلفوا عن قومهم ، فقالوا حين دخلوا سائلين من الله تعالى رحمته ولطفه بهم : { رَبَّنَآ آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً } أي هب لنا من عندك رحمة ترحمنا بها وتسترنا عن قومنا ، { وَهَيِّىءْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَداً } أي اجعل عاقبتنا رشداً ، كما جاء في الحديث : « وما قضيت لنا من قضاء فاجعل عاقبته رشداً » وفي المسند عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يدعو : « اللهم أحسن عاقبتنا في الأمور كلها ، وأجرنا من خزي الدنيا وعذاب الآخرة » ، وقوله : { فَضَرَبْنَا على آذَانِهِمْ فِي الكهف سِنِينَ عَدَداً } أي ألقينا عليهم النوم حين دخلوا إلى الكهف فناموا سنين كثيرة { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ } أي من رقدتهم تلك ، وخرج أحدهم بدراهم معه ليشتري لهم بها طعاماً يأكلونه كما سيأتي بيانه وتفصيله ، ولهذا قال : { ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الحِزْبَيْنِ } أي المختلفين فيهم { أحصى لِمَا لَبِثُواْ أَمَداً } قيل : عدداً ، وقيل : غاية .(1/1498)
نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَ مِنْ دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا (16)
من هاهنا شرع في بسط القصة وشرحها ، فذكر تعالى أنهم فتية وهم الشباب ، وهم أقبل الحق وأهدى للسبيل من الشيوخ الذين قد عتوا وانغمسوا في دين الباطل ، ولهذا كان أكثر المستجيبين لله تعالى ولرسوله صلى الله عليه وسلم شباباً ، وأما المشايخ من قريش فعامتهم بقوا على دينهم ولم يسلم منهم إلاّ القليل ، وهكذا أخبر تعالى على أصحاب الكهف أنهم كانوا فتية شباباً . وقال مجاهد : بلغني أنه كان في آذان بعضهم القرطة ، يعني الحلق ، فألهمهم الله رشدهم ، وآتاهم تقواهم فآمنوا بربهم ، أي اعترفوا له بالوحدانية وشهدوا أنه لا إله إلاّ هو ، { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } استدل بهذه الآية وأمثالها على زيادة الإيمان وتفاضله ، وأنه يزيد وينقص ، ولهذا قال تعالى : { وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } ، كما قال : { والذين اهتدوا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ } [ محمد : 17 ] ، وقد ذكر أنهم كانوا على دين المسيح عيسى ابن مريم ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض } يقول تعالى : وصبرناهم على مخالفة قومهم ، ومفارقة ما كانوا فيه من العيش الرغيد والسعادة والنعمة ، فإنه قد ذكر غير واحد من المفسرين من السلف والخلف أنهم كانوا من أبناء ملوك الروم وسادتهم ، وأنهم خرجوا يوماً في بعض أعياد قومهم ، وكان لهم مجتمع في السنة يجتمعون في ظاهر البلد ، وكانوا يعبدون الأصنام والطواغيت ويذبحون لها ، وكان لها ملك جبار عنيد يقال له ( دقيانوس ) وكان يأمر الناس بذلك ويحثهم عليه ويدعوهم إليه ، فلما خرج الناس لمجتمعهم ذلك وخرج هؤلاء الفتية مع آبائهم وقومهم ، ونظروا إلى ما يصنع قومهم بعين بصيرتهم ، عرفوا أن هذا الذي يصنه قومهم من السجود لأصنامهم والذبح لها لا ينبغي إلا لله الذي خلق السماوات والأرض ، فجعل كل واحد منهم يتخلص من قومه وينحاز عنهم ، واتخذوا لهم معبداً يعبدون الله فيه ، فعرف بهم قومهم فوشوا بأمرهم إلى ملكهم ، فاستحضرهم بين يديه فسألهم عن أمرهم وما هم عليه ، فأجابوه بالحق ودعوه إلى الله عزَّ وجلَّ ، ولهذا أخبر تعالى عنهم بقوله : { وَرَبَطْنَا على قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُواْ فَقَالُواْ رَبُّنَا رَبُّ السماوات والأرض لَن نَّدْعُوَاْ مِن دُونِهِ إلها } و « لن » لنفي التأبيد : أي لا يقع منا هذا أبداً لأنا لو فعلنا ذلك لكان باطلاً ، ولهذا قال عنهم : { لَّقَدْ قُلْنَا إِذاً شَطَطاً } أي باطلاً وكذباً وبهتاناً ، { هؤلاء قَوْمُنَا اتخذوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلاَ يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ } أي هلا أقاموا على صحة ما ذهبوا إليه دليلاً واضحاً صحيحاً ، { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } ، يقولون : بل هم ظالمون كاذبون في قولهم ذلك ، فيقال إن ملكهم تهددهم وتوعدهم وأمر بنزع لباسهم عنهم وأجّلهم لينظروا في أمرهم لعلهم يرجعون عن دينهم الذي كانوا عليه ، وكان هذا من لطف الله بهم فإنهم توصلوا إلى الهرب منه والفرار بدينهم من الفتنة ، وهذا هو المشروع عند وقوع الفتن في الناس أن يفر العبد منهم خوفاً على دينه كما جاء في الحديث :(1/1499)
« يوشك أن يكون خير مال أحدكم غنما يتبع بها شعف الجبال ومواقع القطر يفر بدينه من الفتن » ففي هذه الحال تشرع العزلة عن الناس ولا تشرع فيما عداها ، لما يفوت بها من ترك الجماعات والجمع ، فلما وقع عزمهم على الذهاب والهرب من قومهم ، واختار الله تعالى لهم ذلك وأخبر عنهم بذلك في قوله : { وَإِذِ اعتزلتموهم وَمَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } : أي وإذ فارقتموهم وخالفتموهم بأديانكم في عبادتهم غير الله ، ففارقوهم أيضاً بأبدانكم ، { فَأْوُوا إِلَى الكهف يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحْمَتِهِ } : أي يبسط عليكم رحمة يستركم بها من قومكم { وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِّنْ أَمْرِكُمْ } الذي أنتم فيه ، { مِّرْفَقاً } أي أمراً ترتفقون به ، فعند ذلك خرجوا هرباً إلى الكهف ، فأووا إليه ففقدهم قومهم من بين أظهرهم وتطلبهم الملك ، فيقال إنه لم يظفر بهم ، وعمّى الله عليه خبرهم كما فعل بنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم وصاحبه الصدّيق حين لجآ إلى ( غار ثور ) .(1/1500)
وَتَرَى الشَّمْسَ إِذَا طَلَعَتْ تَزَاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَإِذَا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشِّمَالِ وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِدًا (17)
أخبر تعالى أن الشمس إذا دخلته عند طلوعها تزاور عنه { ذَاتَ اليمين } ، قال ابن عباس { تَّزَاوَرُ } : أي تميل ، وذلك أنها كلما ارتفعت في الأفق تقلص شعاعها بارتفاعها حتى لا يبقى منه شيء عند الزوال في مثل ذلك المكان ، ولهذا قال : { وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال } أي تدخل إلى غارهم من شمال بابه وهو من ناحية المشرق ، فدل على صحة ما قلناه ، وهذا ما بين لمن تأمله وكان له علم بمعرفة الهيئة وسير الشمس والقمر والكواكب . وبيانه أنه لو كان باب الغار من ناحية الشرق لما دخل إليه منها شيء من عند الغروب ، ولو كان من ناحية القبلة لما دخل منها شيء عند الطلوع ولا عند الغروب ولا تزاور الفيء يميناً ولا شمالاً؛ ولو كان من جهة الغرب لما دخلته وقت الطلوع ، بل بعد الزوال ولم تزل فيه إلى الغروب ، فتعين ما ذكرناه ولله الحمد . وقال ابن عباس ومجاهد : { تَّقْرِضُهُمْ } تتركهم ، وقد أخبر الله تعالى بذلك وأراد منا فهمه وتدبره ، ولم يخبرنا بمكان هذا الكهف في أي البلاد من الأرض ، ولو كان لنا فيه مصلحة دينية لأرشدنا الله تعالى ورسوله إليه ، فقد قال صلى الله عليه وسلم : « ما تركت شيئاً بقربكم إلى الجنة ويباعدكم من النار إلا وقد أعلمتكم به » فأعلمنا تعالى بصفته ولم يعلمنا بمكانه فقال : { وَتَرَى الشمس إِذَا طَلَعَت تَّزَاوَرُ عَن كَهْفِهِمْ } ، قال مالك : تميل ، { ذَاتَ اليمين وَإِذَا غَرَبَت تَّقْرِضُهُمْ ذَاتَ الشمال وَهُمْ فِي فَجْوَةٍ مِّنْهُ } أي في متسع منه داخلاً ، بحيث لا تصيبهم ، إذ لو أصابتهم لأحرقت أبدانهم وثيابهم ، قاله ابن عباس ، { ذلك مِنْ آيَاتِ الله } حيث أرشدهم إلى هذا الغار الذي جعلهم فيه أحياء والشمس والريح تدخل عليهم فيه لتبقى أبدانهم ، ولهذا قال تعالى : { ذلك مِنْ آيَاتِ الله } ثم قال : { مَن يَهْدِ الله فَهُوَ المهتد } أي هو الذي أرشد هؤلاء الفتية إلى الهداية من بين قومهم فإنه من هداه الله اهتدى ، ومن أضله فلا هادي له .(1/1501)
وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظًا وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَارًا وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْبًا (18)
ذكر أنهم لما ضرب الله على آذانهم بالنوم ، لم تنطبق أعينهم لئلا يسرع إليها البلى ، وقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ اليمين وَذَاتَ الشمال } ، قال بعض السلف : يقلبون في العام مرتين ، قال ابن عباس : لو لم يقلبوا لأكلتهم الأرض ، وقوله : { وَكَلْبُهُمْ بَاسِطٌ ذِرَاعَيْهِ بالوصيد } الوصيد الفناء ، وقال ابن عباس : بالباب ، قال ابن جريج : يحرس عليهم الباب ، وهذا من سجيته وطبيعته حث يربض ببابهم ، كأنه يحرسهم ، وكان جلوسه خارج الباب لأن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ، كما ورد في « الصحيح » ، ولا صورة ولا جنب ، وشملت كلبهم بركتهم فأصابه ما أصابهم من النوم على تلك الحال ، وهذه فائدة صحبة الأخيار فإنه صار لهذا الكلب ذكر وخبر وشأن ، وقوله تعالى : { لَوِ اطلعت عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِرَاراً وَلَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً } أي أنه تعالى ألقى عليهم المهابة بحيث لا يقع نظر أحد عليهم إلاّ هابهم لما ألبسوا من المهابة والذعر ، لئلا يدنو منهم أحد ولا تمسهم يد لامس ، حتى يبلغ الكتاب أجله ، لما له في ذلك من الحكمة البالغة ، والرحمة الواسعة .(1/1502)
وَكَذَلِكَ بَعَثْنَاهُمْ لِيَتَسَاءَلُوا بَيْنَهُمْ قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قَالُوا لَبِثْنَا يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هَذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَا أَزْكَى طَعَامًا فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَلْيَتَلَطَّفْ وَلَا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَدًا (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَلَنْ تُفْلِحُوا إِذًا أَبَدًا (20)
يقول تعالى : كما أرقدناهم بعثناهم صحيحة أبدانهم ، وأشعارهم وأبشارهم ، لم يفقدوا من أحوالهم وهيآتهم شيئاً ، وذلك بعد ثلثمائة سنة وتسع سنين ، ولهذا تساءلوا بينهم { كَم لَبِثْتُمْ } ؟ أي كم رقدتم؟ { قَالُواْ لَبِثْنَا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } لأنه كان دخلوهم إلى الكهف في أول نهار ، واستيقاظهم كان في آخر نهار ، ولهذا استدركوا فقالوا : { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالُواْ رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثْتُمْ } أي أعلم بأمركم ، وكأنه حصل لهم نوع تردد في كثرة نومهم ، فالله أعلم ، ثم عدلوا إلى الأهم في أمرهم إذ ذاك ، وهو احتياجهم إلى الطعام والشراب ، فقالوا { فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ } أي فضتكم هذه ، وذلك أنهم كانوا قد استصحبوا معهم دراهم من منازلهم لحاجتهم إليها ، فتصدقوا منها وبقي منها؛ فلهذا قالوا { فابعثوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذه إلى المدينة } أي مدينتكم التي خرجتم منها { فَلْيَنْظُرْ أَيُّهَآ أزكى طَعَاماً } أي أطيب طعاماً ، كقوله : { مَا زَكَا مِنكُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَبَداً } [ النور : 21 ] ، وقوله : { قَدْ أَفْلَحَ مَن تزكى } [ الأعلى : 14 ] ، ومنه الزكاة التي تطيب المال وتطهره . وقوله : { وَلْيَتَلَطَّفْ } أي في خروجه وإيابه ، يقولون وليختف كل ما يقدر عليه ، { وَلاَ يُشْعِرَنَّ } أي ولا يعلمن { بِكُمْ أَحَداً * إِنَّهُمْ إِن يَظْهَرُواْ عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ } أي إن علموا بمكانكم { يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ } يعنون أصحاب دقيانوس ، يخافون منهم أن يطلعوا على مكانهم ، فلا يزالون يعذبونكم بأنواع العذاب إلى أن يعيدوكم في ملتهم التي هم عليها أو يموتوا ، وإن وافقتموهم على العود في الدين فلا فلاح لكم في الدنيا ولا في الآخرة ، ولهذا قال : { وَلَن تفلحوا إِذاً أَبَداً } .(1/1503)
وَكَذَلِكَ أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَأَنَّ السَّاعَةَ لَا رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقَالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْيَانًا رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قَالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلَى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِدًا (21)
يقول تعالى : { وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } : أي أطلعنا عليهم الناس { ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا } ذكر غير واحد من السلف ، أنه كان قد حصل لأهل ذلك الزمان شك في البعث وفي أمر القيامة ، فبعث الله أهل الكهف حجة ودلالة وآية على ذلك ، وذكروا أنه لما أراد أحدهم الخروج ليذهب إلى المدينة في شراء شيء لهم ليأكلوه ، تنكّر وخرج يمشي في غير الجادة حتى انتهى إلى المدينة ، وهو يظن أنه قريب العهد بها ، وكان الناس قد تبدلوا قرناً بعد قرن وجيلاً بعد جيل ، فجعْل لا يرى شيئاً من معالم البلد التي يعرفها ، ولا يعرف أحداً من أهلها لا خواصها ولا عوامها ، فجعل يتحير في نفسه ، ويقول إن عهدي بهذه البلدة عشية أمس على غير هذه الصفة . ثم قال : إن تعجيل الخروج من هاهنا لأولى لي ، ثم عمد إلى رجل ممن يبيع الطعام فدفع إليه ما معه من النفقة ، وسأله أن يبيعه بها طعاماً ، فلما رآها ذلك الرجل أنكرها وأنكر ضربها ، فدفعها إلى جاره ، وجعلوا يتداولونها بينهم ، ويقولون لعل هذا وجد كنزاً ، فسألوه عن أمره ومن أين له هذه النفقة ، لعله وجدها من كنز ، وممن أنت؟ فجعل يقول أنا من أهل هذه البلدة ، وعهدي بها عشية أمس ، وفيها دقيانوس فنسبوه إلى الجنون ، فحملوه إلى ولي أمرهم ، فسأله عن شأنه وخبره حتى أخبرهم بأمره ، فلما أعلمهم بذلك قاموا معه إلى الكهف - ملك البلد وأهلها - حتى انتهى بهم إلى الكهف ، فقال لهم دعوني حتى أتقدمكم في الدخول لأعلم أصحابي فدخل ، فيقال إنهم لا يدرون كيف ذهب فيه ، وأخفى الله عليهم خبرهم ، ويقال : بل دخلوا عليهم ورأوهم وسلم عليهم الملك وأعتنقهم ، وكان مسلماً فيما قيل ، واسمه يندوسيس ، ففرحوا به وآنسوه بالكلام ، ثم ودعوه وسلموا عليه وعادوا إلى مضاجعهم ، وتوفاهم الله عزَّ وجلَّ . وقوله { وكذلك أَعْثَرْنَا عَلَيْهِمْ } : أي كما أرقدناهم وأيقظانهم بهيآتهم ، أطلعنا عليهم أهل ذلك الزمان { ليعلموا أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَأَنَّ الساعة لاَ رَيْبَ فِيهَا إِذْ يَتَنَازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ } أي في أمر القيامة ، فمن مثبت لها ومن منكِّر ، فجعل الله ظهورهم على أصحاب الكهف حجة لهم وعليهم { فَقَالُواْ ابنوا عَلَيْهِمْ بُنْيَاناً رَّبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ } أي سدوا عليهم باب كهفهم ، وذروهم على حالهم { قَالَ الذين غَلَبُواْ على أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَّسْجِداً } . حكى ابن جرير في القائلين ذلك قولين ( أحدهما ) : أنهم المسلمون منهم ، و ( الثاني ) : أهل الشرك منهم ، فالله أعلم .(1/1504)
سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ مَا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاءً ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَدًا (22)
يقول تعالى مخبراً عن اختلاف الناس في عدة أصحاب الكهف ، فحكى ثلاثة أقوال ، ولما ضعف القولين الأولين بقوله { رَجْماً بالغيب } أي قولاً بلا علم كمن يرمي إلى مكان لا يعرفه ، فإنه لا يكاد يصيب وإن أصاب فبلا قصد . ثم حكى الثالث وسكت عليه أو قرره بقوله { وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ } ، فدل على صحته ، وأنه هو الواقع في نفس الأمر ، وقوله : { قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم } إرشاد إلى أن الأحسن في مثل هذا المقام رد العلم إلى الله تعالى ، إذ لا احتياج إلى الخوض في مثل ذلك بلا علم ، لكن إذا أطلعنا على أمر قلنا به وإلاّ وقفنا ، وقوله { مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ } : أي من الناس . قال ابن عباس : أنا من القليل الذي استثنى الله عزَّ وجلَّ ، كانوا سبعة ، وكذا روى ابن جرير عن عطاء أنه كان يقول : عدتهم سبعة . فكانوا ليلهم ونهارهم في عبادة الله ، يبكون ويستغيثون بالله . قال تعالى : { فَلاَ تُمَارِ فِيهِمْ إِلاَّ مِرَآءً ظَاهِراً } أي سهلاً هيناً ، فإن الأمر في معرفة ذلك لا يترتب عليه كبير فائدة ، { وَلاَ تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِّنْهُمْ أَحَداً } : أي فإنهم لا علم لهم بذلك إلاّ ما يقولونه من تلقاء أنفسهم رجماً بالغيب ، أي من غير استناد إلى كلام معصوم ، وقد جاءك الله يا محمد بالحق الذي لا شك فيه ولا مرية فيه ، فهو المقدم الحاكم على كل ما تقدمه من الكتب والأقوال .(1/1505)
وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24)
هذا إرشاد من الله تعالى لرسوله الله صلى الله عليه وسلم إلى الأدب فيما إذا عزم على شيء ليفعله في المستقبل أن يرد إلى مشيئة الله عزَّ وجلَّ علام الغيوم ، كما ثبت في « الصحيحين » عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « قال سليمان بن داود عليهما السلام لأطوفن الليلة على سبعين امرأة - وفي رواية مائة امرأة - تلد كل امرأة منهن غلاماً يقاتل في سبيل الله ، فقيل له - وفي رواية قال له الملك : قل إن شاء الله ، فلم يقلن فطاف بهن فلم يلد منهن إلا امرأة واحدة نصف إنسان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم - والذي نفسي بيده لو قال إن شاء الله لم يحنث وكان دركاً لحاجته » وفي رواية : « ولقاتلوا في سبيل الله فرساناً أجمعون » وقد تقدم في أول السورة ذكر سبب نزول هذه الآية في قول النبي صلى الله عليه وسلم لما سئل عن قصة أصحاب الكهف : « غداً أجيبكم » ، فتأخر الوحي خمسة عشر يوماً ، وقوله : { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } : قيل معناه إذا نسيت الاستثناء فاستثن عند ذكرك له ، وقال ابن عباس في الرجل يحلف . له أن يستثنى ولو إلى سنة ، وكان يقول { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } ذلك ، ومعنى قول ابن عباس أنه يستثني ولو بعد سنة أي إذا نسي أن يقول في حلفه أو في كلامه إن شاء الله وذكر ولو بعد سنة فالسنة له أن يقول ذلك ليكون آتياً بسنة الاستثناء ، حتى ولو كان بعد الحنث ، قاله ابن جرير رحمه الله ونص على ذلك ، لا أن يكون رافعاً لحنث اليمين ومسقطاً للكفارة وهذا الذي قاله ابن جرير رحمه الله هو الصحيح ، وهو الأليق بحمل كلام ابن عباس عليه والله أعلم . وقال عكرمة { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } : إذا غضبت . وقال الطبراني ، عن ابن عباس في قوله { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } أن تقول إن شاء الله . وروى الطبراني أيضاً عنه استثن إذا ذكرت ، وقال هي خاصة برسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحد منا أن يستثني إلاّ في صلة من يمينه ، ويحتمل في الآية وجه آخر ، وهو أن يكون الله تعالى قد أرشد من نسي الشيء في كلامه إلى ذكر الله تعالى ، لأن النسيان منشؤه من الشيطان ، كما قال فتى موسى : { وَمَآ أَنْسَانِيهُ إِلاَّ الشيطان أَنْ أَذْكُرَهُ } [ الكهف : 63 ] وذكر الله تعالى يطرد الشيطان ، فإذا ذهب الشيطان ذهب النسيان ، فذكر الله تعالى سبب للذكر ، ولهذا قال { واذكر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } . وقوله : { وَقُلْ عسى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً } أي إذا سئلت عن شيء لا تعلمه فاسأل الله تعالى فيه ، وتوجه إليه في أن يوفقك للصواب والرشد في ذلك .(1/1506)
وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)
هذا خبر من الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم ، بمقدار ما لبث أصحاب الكهف في كهفهم ، منذ أرقدهم إلى أن بعثهم الله ، أعثر عليهم أهل ذلك الزمان ، وأنه كان مقداره ثلثمائة سنة تزيد تسع سنين بالهلالية . وهي ثلثمائة سنة بالشمسية ، فإن تفاوت ما بين كل مائة سنة بالقمرية إلى الشمسية ثلاث سنين ، فلهذا قال بعد الثلثمائة وازدادوا تسعاً ، وقوله : { قُلِ الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ } أي إذا سئلت عن لبثهم وليس عندك علم في ذلك وتوقيف من الله تعالى فلا تتقدم فيه بشيء ، بل قل في مثل هذا { الله أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُواْ لَهُ غَيْبُ السماوات والأرض } أي لا يعلم ذلك إلا هو ، ومن أطلعه عليه من خلقه . وقوله { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } أي إنه لبصير بهم سميع لهم ، قال ابن جرير : وذلك في معنى المبالغة في المدح كأنه قيل ما أبصره وأسمعه ، وتأويل الكلام : ما أبصر الله لكل موجود وأسمعه لكل مسموع ، لا يخفى عليه من ذلك شيء . ثم روي عن قتادة في قوله { أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ } : فلا أحد أبصر من الله ولا أسمع . وقوله { مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً } أي أنه تعالى هو الذي له الخلق والأمر لا معقب لحكمه ، وليس له وزير ولا نصير ، ولا شريك ولا مشير تعالى وتقدس .(1/1507)
وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28)
يقول تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم بتلاوة كتابه العزيز وإبلاغه إلى الناس ، { لاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ } أي لا مغير لها ولا محرف ولا مزيل ، وقوله { وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَداً } قال مجاهد : { مُلْتَحَداً } ملجأ ، وعن قتادة : ولياً ولا مولى ، قال ابن جرير : يقول إن أنت يا محمد لم تتل ما أوحي إليك من كتاب ربك ، فإنه لا ملجأ لك من الله كما قال تعالى : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } [ المائدة : ’67 ] ، وقوله : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي اجلس مع الذين يذكرون الله ويحمدونه ويسبحونه ويكبرونه ويسألونه بكرة وعشياً ، من عباد الله ، سواء كانوا فقراء أو أغنياء ، يقال : إنها نزلت في أشراف قريش حين طلبوا من النبي صلى الله عليه وسلم أن يجلس معهم وحده ، ولا يجالسهم بضعفاء أصحابه ، كبلال وعمار وصهيب وخباب وابن مسعود ، وليفرد أولئك بمجلس على حدة ، فنهاه الله عن ذلك ، فقال : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } [ الأنعام : 52 ] الآية . وأمره أن يصبر نفسه في الجلوس مع هؤلاء ، فقال : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي } الآية . عن سعد بن أبي وقاص قال : كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم ستة نفر ، فقال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم : اطرد هؤلاء لا يجترئون علينا ، قال : وكنت أنا وابن مسعود ورجل من هذيل وبلال ورجلان نسيت اسميهما ، فوقع في نفس رسول الله ما شاء الله أن يقع ، فحدث نفسه فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } [ الأنعام : 52 ] .
وعن أنس بن مالك رضي الله عنه ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من قوم اجتمعوا يذكرون الله لا يريدون بذلك إلاّ وجهه إلاّ ناداهم مناد من السماء أن قوموا مغفوراً لكم ، قد بدلت سيئاتكم حسنات » وقال الطبراني ، عن عبد الرحمن بن سهل بن حنيف ، قال : نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في بعض أبياته : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي } الآية ، فخرج يلتمسهم فوجد قوماً يذكرون الله تعالى ، منهم ثائر الرأس وجاف الجلد ، وذو الثوب الواحد ، فلما رآهم جلس معهم ، وقال : « الحمد لله الذي جعل في أمتي من أمرني أن أصبر نفسي معهم » ، وقوله : { وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا } قال ابن عباس : ولا تجاوزهم إلى غيرهم يعني تطلب بدلهم أصحاب الشرف والثروة ، { وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا } أي شغل عن الدين وعبادة ربه بالدنيا ، { وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } أي أعماله وأفعاله سفه وتفريط وضياع ، ولا تكن مطيعاًَ له ولا محباً لطريقته ، ولا تغبطه بما هو فيه ، كما قال : { وَلاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إلى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ زَهْرَةَ الحياة الدنيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَرِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وأبقى } [ طه : 131 ] .(1/1508)
وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقًا (29)
يقول تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : قل يا محمد للناس هذا الذي جئتكم به من ربكم ، هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك { فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } ، هذا من باب التهديد والوعيد الشديد ، ولهذا قال : { إِنَّا أَعْتَدْنَا } أي أرصدنا { لِلظَّالِمِينَ } وهم الكافرون بالله ورسوله وكتابه { نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } أي سورها ، وعن أبي سعيد الخدري ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لسرادق النار أربعة جدر ، كثافة كل جدار مسافة أربعين سنة » وقال ابن عباس { أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا } قال : حائط من نار ، وقوله : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه } الآية ، قال ابن عباس : المهل الماء الغليظ ، مثل دردي الزيت ، وقال مجاهد : هو كالدم والقيح ، وقال عكرمة : هو الشيء الذي انتهى حره ، وقال الضحّاك ، ماء جهنم أسود وهي سوداء وأهلها سود ، وهذه الأقوال ليس شيء منها ينفي الآخر ، فإن المهل يجمع هذه الأوصاف الرذيلة كلها ، فهو أسود منتن غليظ حار ، ولهذا قال { يَشْوِي الوجوه } : أي من حره ، إذا أراد الكافر أن يشربه وقربه من وجهه شواه ، حتى تسقط جلده وجهه فيه ، كما جاء في الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ماء كالمهل ، قال كعكر الزيت فإذا قربه إليه سقطت فروة وجهه فيه » وعن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله { ويسقى مِن مَّآءٍ صَدِيدٍ * يَتَجَرَّعُهُ } [ إبراهيم : 16-17 ] قال : « يقرب إليه فيتكرهه ، فإذا قرب منه شوى وجهه ، ووقعت فروة رأسه ، فإذا شربه قطع أمعاءه » ، يقول الله تعالى : { وَإِن يَسْتَغِيثُواْ يُغَاثُواْ بِمَآءٍ كالمهل يَشْوِي الوجوه بِئْسَ الشراب } . وقال سعيد بن جبير : إذا جاع أهل النار استغاثوا فأغيثوا بشجرة الزقوم ، فيأكلون منها فاجتثت جلود وجوههم ، فلو أن ماراً مر بهم يعرفهم لعرف جلود وجوههم فيها ، ثم يصب عليهم العطش فيستغيثون فيغاثون بماء كالمهل ، وهو الذي قد انتهى حره ، فإذا أدنوه من أفواههم اشتوى من حره لحوم وجوههم التي قد سقطت عنها الجلود ، ولهذا قال تعالى بعد وصفه هذا الشراب بهذه الصفات الذميمة القبيحة { بِئْسَ الشراب } أي بئس هذا الشراب ، كما قال في الآية الأخرى : { وَسُقُواْ مَآءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعَآءَهُمْ } [ محمد : 15 ] ، وقال تعالى : { تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } [ الغاشية : 5 ] أي حارة ، كما قال تعالى : { وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ } [ الرحمن : 44 ] { وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } أي وساءت النار منزلاً ومقيلاً ومجتمعاً وموضعاً للارتفاق ، كما قال في الآية الأخرى { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 66 ] .(1/1509)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30) أُولَئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَابًا خُضْرًا مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقًا (31)
لما ذكر تعالى حال الأشقياء ، ثنى بذكر السعداء الذين آمنوا بالله وصدقوا المرسلين فيما جاءوا به وعملوا بما أمروهم به من الأعمال الصالحة ، فلهم جنات عدن ، والعدن الإقامة { تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأنهار } أي من تحت غرفهم ومنازلهم ، قال فرعون { الأنهار تَجْرِي مِن تحتي } [ الزخرف : 51 ] الآية . { يُحَلَّوْنَ } أي من الحلية { فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِن ذَهَبٍ } وقال في المكان الآخر { وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ } [ الحج : 23 ] وفصّله هاهنا فقال { وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً مِّن سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ } فالسندس ثياب رقاق كالقمصان وما جرى مجراها ، وأما الإستبرق فغليظ الديباج ، وفيه بريق . وقوله : { مُّتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الأرآئك } الإتكاء قيل : الاضطجاع ، وقيل : التربع في الجلوس ، وهو أشبه بالمراد هاهنا - ومنه الحديث الصحيح : « أما أنا فلا آكل متكئاً » ، والأرائك جمع أريكة وهي السرير تحت الحجلة ، عن قتادة { عَلَى الأرآئك } قال : هي الحجال ، وقال غيره : السرر في الحجال ، وقوله { نِعْمَ الثواب وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } : أي الجنة ثواباً على أعمالهم ، { وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً } أي حسنت منزلاً ومقيلاً ومقاماً ، كما قال في النار : { بِئْسَ الشراب وَسَآءَتْ مُرْتَفَقاً } [ الكهف : 29 ] ، وهكذا قابلل بينهما في سورة الفرقان في قوله : { إِنَّهَا سَآءَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 66 ] ، ثم ذكر صفات المؤمنين فقال : { خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً } [ الفرقان : 76 ] .(1/1510)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا رَجُلَيْنِ جَعَلْنَا لِأَحَدِهِمَا جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنَابٍ وَحَفَفْنَاهُمَا بِنَخْلٍ وَجَعَلْنَا بَيْنَهُمَا زَرْعًا (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَهَا وَلَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئًا وَفَجَّرْنَا خِلَالَهُمَا نَهَرًا (33) وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقَالَ لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مَالًا وَأَعَزُّ نَفَرًا (34) وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ قَالَ مَا أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هَذِهِ أَبَدًا (35) وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا (36)
يقول تعالى بعد ذكره المشركين ، المستكبرين عن مجالسة الضعفاء والمساكين من المسلمين ، وافتخروا عليهم بأموالهم وأحسابهم ، فضرب لهم مثلاً برجلين ، جعل الله لأحدهما جنتين ، أي بستانين من أعناب محفوفتين بالنخيل المحدقة في جنباتهما وفي خلالهما الزروع ، وكل من الأشجار والزروع ، وكل من الأشجار والزروع مثمر مقبل في غاية الجودة . ولهذا قال : { كِلْتَا الجنتين آتَتْ أُكُلَهَا } أي أخرجت ثمرها { وَلَمْ تَظْلِم مِّنْهُ شَيْئاً } أي لم تنقص منه شيئاً { وَفَجَّرْنَا خِلالَهُمَا نَهَراً } أي والأنهار متفرقة فيها هاهنا وهاهنا { وَكَانَ لَهُ ثَمَرٌ } قيل ، والمراد به المال ، وقيل : الثمار ، وهو أظهر هاهنا ، { فَقَالَ } أي صاحب هاتين الجنتين { لِصَاحِبِهِ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ } أي يجادله ويخاصمه ، يفتخر عليه ويترأس { أَنَا أَكْثَرُ مِنكَ مَالاً وَأَعَزُّ نَفَراً } أي أكثر خدماً وحشماً وولداً ، قال قتادة : تلك والله أمنية الفاجر ، كثرة المال ، وعزة النفر . وقوله : { وَدَخَلَ جَنَّتَهُ وَهُوَ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ } أي بكفره وتمرده وتجبره وإنكار المعاد ، { وَمَآ أَظُنُّ الساعة قَائِمَةً } وذلك اغترار منه ، لما رأى فيها من الزروع والثمار والأشجار والأنهارالمطردة في جوانبها وأرجائها ظن أنها لا تفنى ولا تفرغ ولا تهلك ولا تتلف ، وذلك لقلة عقله وضعف يقينه بالله وإعجابه بالحياة الدنيا وزينتها ، وكفره بالآخرة ، ولهذا قال { وَلَئِن رُّدِدتُّ إلى رَبِّي لأَجِدَنَّ خَيْراً مِّنْهَا مُنْقَلَباً } أي ولئن كان معاد ورجعة ومرد إلى الله ليكوننَّ لي هناك أحسن من هذا الحظ عند ربي ، ولولا كرامتي عليه ما أعطاني هذا ، كما قال في الآية الأخرى { وَلَئِن رُّجِعْتُ إلى ربي إِنَّ لِي عِندَهُ للحسنى } [ فصلت : 50 ] ، وقال : { أَفَرَأَيْتَ الذي كَفَرَ بِآيَاتِنَا وَقَالَ لأُوتَيَنَّ مَالاً وَوَلَداً } [ مريم : 77 ] .(1/1511)
قَالَ لَهُ صَاحِبُهُ وَهُوَ يُحَاوِرُهُ أَكَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا (37) لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَلَا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَدًا (38) وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مَالًا وَوَلَدًا (39) فَعَسَى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْرًا مِنْ جَنَّتِكَ وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا حُسْبَانًا مِنَ السَّمَاءِ فَتُصْبِحَ صَعِيدًا زَلَقًا (40) أَوْ يُصْبِحَ مَاؤُهَا غَوْرًا فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَبًا (41)
يقول تعالى مخبراً عما أجابه به صاحبه المؤمن واعظاً له وزاجراً عما هو فيه من الكفر بالله والاغترار : { أَكَفَرْتَ بالذي خَلَقَكَ مِن تُرَابٍ } ، وهكذا إنكار وتعظيم لما وقع فيه من جحود ربه الذي خلقه ، وابتدأ خلق الإنسان من طين وهو آدم ، ثم جعل نسله من سلالة من ماء مهين ، كما قال تعالى : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } [ البقرة : 28 ] الآية ، أي كيف تجحدون ربكم ، ودلالته عليكم ظاهرة جلية ، ولهذا قال المؤمن { لكنا هُوَ الله رَبِّي } : أي لكن أنا لا أقول بمقالتك بل اعترف لله بالوحدانية والربوبية ، { وَلاَ أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً } أي بل هو الله المعبود وحده لا شريك له ، ثم قال : { ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله إِن تَرَنِ أَنَاْ أَقَلَّ مِنكَ مَالاً وَوَلَداً } . وهذا تحضيض وحث على ذلك ، أي هلا إذا أعجبتك حين دخلتها ونظرت إليها حمدت الله على ما أنعم به عليك ، وأعطاك من المال والولد ما لم يعطه غيرك ، وقلت ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ، ولهذا قال بعض السلف من أعجبه شيء من حاله أو ماله أو ولده فليقل : ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ، وهذا مأخوذ من هذه الآية الكريمة . وقد روي فيه حديث مرفوع عن أنس رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أنعم الله على عبد نعمة من أهل أو مال أو ولد فيقول فيقول ما شاء الله لا قوة إلاّ بالله ، فيرى فيه آفة دون الموت » وكان يتأول هذه الآية : { ولولا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَآءَ الله لاَ قُوَّةَ إِلاَّ بالله } ، وقد ثبت في الصحيح عن أبي موسى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : « ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلاّ بالله » .
وقال أبو هريرة ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا أبا هريرة ألا أدلك على كنز من كنوز الجنة تحت العرش؟ » قال ، قلت : فداك أبي وأمي ، قال : « أن تقول لا قوة إلاّ بالله » . قال أبو بلخ وأحسب أنه قال : « فإن الله يقول أسلم عبدي واستسلم » وقوله : { فعسى رَبِّي أَن يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِّن جَنَّتِكَ } أي في الدار الآخرة ، { وَيُرْسِلَ عَلَيْهَا } أي على جنتك في الدنيا التي ظننت أنها لا تبيد ولا تفنى { حُسْبَاناً مِّنَ السمآء } ، قال ابن عباس والضحّاك : أي عذاباً من السماء ، والظاهر أنه مطر عظيم مزعج ، يقلع زرعها وأشجارها ، ولهذا قال : { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } ، أي بلقعاً تراباً أملس ، لا يثبت فيه قدم . وقال ابن عباس : كالجزر الذي لا ينبت شيئاً ، وقوله { أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً } أي غائراً في الأرض وهو ضد النابع الذي يطلب وجه الأرض . فالغائر يطلب أسفلها ، كما قال تعالى { قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ مَآؤُكُمْ غَوْراً فَمَن يَأْتِيكُمْ بِمَآءٍ مَّعِينٍ } [ الملك : 30 ] : أي جار وسائح ، وقال هاهنا : { أَوْ يُصْبِحَ مَآؤُهَا غَوْراً فَلَن تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً } ، والغور مصدر بمعنى غائر ، وهو أبلغ منه كما قال الشاعر :
تظل جياده نوحاً عليه ... تقلده أعنتها صفوفاً
بمعنى نائحات عليه .(1/1512)
وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَا أَنْفَقَ فِيهَا وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا وَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَدًا (42) وَلَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مُنْتَصِرًا (43) هُنَالِكَ الْوَلَايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَابًا وَخَيْرٌ عُقْبًا (44)
يقول تعالى : { وَأُحِيطَ بِثَمَرِهِ } بأمواله وبثماره ما كان يحذر مما خوفه به المؤمن ، من إرسال الحسبان على جنته التي اغتر بها وألهته عن الله عزَّ وجلَّ ، { فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلَى مَآ أَنْفَقَ فِيهَا } ، وقال قتادة : يصفق كفيه متأسفاً متلهفاً على الأموال التي أذهبها عليها ، { وَيَقُولُ ياليتني لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً * وَلَمْ تَكُن لَّهُ فِئَةٌ } أي عشيرة أو ولد كما افتخر بهم واستعز { يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ الله وَمَا كَانَ مُنْتَصِراً * هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق } أي الموالاة لله ، أي هنالك كل أحد مؤمن أو كافر يرجع إلأى الله وإلى موالاته والخضوع له إذا وقع العذاب ، كقوله : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ } [ غافر : 84 ] . وكقوله إخباراً عن فرعون { حتى إِذَآ أَدْرَكَهُ الغرق قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ الذي آمَنَتْ بِهِ بنوا إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ المسلمين } [ يونس : 90 ] ، ومنهم من كسر الواو من { الولاية } أي هنالك الحكم لله الحق ، كقوله : { ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق } [ الأنعام : 62 ] الآية . ولهذا قال تعالى { هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً } : أي جزاء { وَخَيْرٌ عُقْباً } أي الأعمال التي تكون لله عزَّ وجلَّ ثوابها خير ، وعاقبتها حميدة رشيدة ، كلها خير .(1/1513)
وَاضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقْتَدِرًا (45) الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْبَاقِيَاتُ الصَّالِحَاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَوَابًا وَخَيْرٌ أَمَلًا (46)
يقول تعالى : { واضرب } يا محمد للناس { مَّثَلَ الحياة الدنيا } في زوالها وفنائها وانقضائها ، { كَمَآءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السماء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض } أي ما فيها من الحب ، فشب وحسن ، وعلاه الزهر والنور ، والنضرة ، ثم بعد هذا كله { فَأَصْبَحَ هَشِيماً } يابساً { تَذْرُوهُ الرياح } أي تفرقه وتطرحه ذات اليمين وذات الشمال ، { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقْتَدِراً } أي هو قادر على هذه الحال وهذه الحال ، وكثيراً ما يضرب الله مثل الحياة الدنيا بهذا المثل كما قال تعالى في سورة يونس : { إِنَّمَا مَثَلُ الحياة الدنيا كَمَآءٍ أَنزَلْنَاهُ مِنَ السمآء فاختلط بِهِ نَبَاتُ الأرض مِمَّا يَأْكُلُ الناس والأنعام } [ الآية : 24 ] ، وقال في سورة الحديد : { اعلموا أَنَّمَا الحياة الدنيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الأموال والأولاد كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الكفار نَبَاتُهُ } [ الآية : 20 ] . وفي الحديث الصحيح : « الدنيا خضرة حلوة » وقوله : { المال والبنون زِينَةُ الحياة الدنيا } كقوله : { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات مِنَ النساء والبنين والقناطير المقنطرة مِنَ الذهب } [ آل عمران : 14 ] الآية . وقال تعالى : { إِنَّمَآ أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ والله عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ } [ التغابن : 15 ] : أي الإقبال عليه والتفرغ لعبادته خير لكم من اشتغالكم بهم والجمع لهم والشفقة المفرطة عليهم ، ولهذا قال : { والباقيات الصالحات خَيْرٌ عِندَ رَبِّكَ ثَوَاباً وَخَيْرٌ أَمَلاً } ، قال ابن عباس وسعيد ابن جبير ، وغير واحد من السلف : الباقيات الصالحات : الصلوات الخمس . وقال ابن عباس : { والباقيات الصالحات } : سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر ، وهكذا سئل أمير المؤمنين عثمان بن عفان عن { والباقيات الصالحات } ما هي؟ فقال : هي لا إله إلا الله وسبحان الله والحمد لله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله العلي العظيم . وروي عن سعيد بن المسيب قال : الباقيات الصالحات ( سبحان والحمدلله ولا إله الله والله أكبر ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ) وقال محمد ابن عجلان عن عمارة قال : سألني سعيد بن المسيب عن الباقيات الصالحات ، فقلت : الصلاة والصيام ، فقال : لم تصب ، فقلت : الزكات والحج ، فقال : لم تصب ، ولكنهن الكلمات الخمس : لا إله إلاّ الله ، والله أكبر ، وسبحان الله ، والحمد لله ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ، عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سبحان الله والحمد لله ولا إله الله والله أكبر هنّ الباقيات الصالحات » وفي الحديث : « أما إنه سيكون بعدي أمراء يكذبون ويظلمون فمن صدقهم بكذبهم ومالأهم على ظلمهم فليس مني ولست منه ، ومن لم يصدقهم بكذبهم ولم يمالئلهم على ظلمهم فهو مني وأنا منه ، ألا وإن سبحان الله والحمد لله ولا إله إلاّ الله والله أكبر من الباقيات الصالحات » وقال ابن عباس قوله { والباقيات الصالحات } قال : هي ذكر الله ، قول : لا إله إلا الله ، والله أكبر ، وسبحان الله والحمدلله ، وتبارك الله ، ولا حول ولا قوة إلاّ بالله ، وأستغفر الله ، وصلى الله على رسول الله ، والصيام والصلاة والحج والصدقة والعتق والجهاد والصلة وجميع أعمال الحسنات ، وهن الباقيات الصالحات التي تبقى لأهلها في الجنة ما دامت السماوات والأرض ، وعنه : هي الكلام الطيب ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هي الأعمال الصالحة كلها ، واختاره ابن جرير رحمه الله .(1/1514)
وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا (47) وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا (48) وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا (49)
يخبر تعالى عن أهوال يوم القيامة ، وما يكون فيه من الأمور العظام ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تَمُورُ السمآء مَوْراً * وَتَسِيرُ الجبال سَيْراً } [ الطور : 9-10 ] : أي تذهب من أماكنها وتزول كما قال تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الجبال فَقُلْ يَنسِفُهَا رَبِّي نَسْفاً } [ طه : 105 ] ، يذكر تعالى أنه تذهب الجبال وتتساوى المهاد ، وتبقى الأرض قاعاً صفصفاً ، أي سطحاً مستوياً لا عوج فيه ولا أمتاً ، أي ولا وادي ولا جبل . ولهذا قال تعالى : { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } أي بادية ظاهرة ، ليس فيها معلم لأحد ولا مكان يواري أحداً ، بل الخلق كلهم ضاحون لربهم لا تخفى عليه منهم خافية . قال مجاهد وقتادة { وَتَرَى الأرض بَارِزَةً } : لا حجر فيها ولا غاية ، وقال قتادة : لا بناء ولا شجر ، وقوله : { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } أي وجمعناهم الأولين منهم والآخرين ، فلم نترك منهم أحداً لا صغيراً ولا كبيراً . كما قال { قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين * لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [ الواقعة : 49-50 ] ، وقال : { ذلك يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ الناس وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ } [ هود : 103 ] ، وقوله : { وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً } يحتمل أن يكون المراد أن جميع الخلائق يقومون بين يدي الله صفاً واحداً ، ويحتمل أنهم يقومون صفوفاً صفوفاً ، كما قال : { وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] ، وقوله : { لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } هذا تقريع للمنكرين للمعاد ، وتوبيخ لهم على رؤوس الأشهاد ، ولهذا قال تعالى مخاطباً لهم : { بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُمْ مَّوْعِداً } أي ما كان ظنكم أن هذا واقع بكم ، ولا أن هذا كائن . وقوله : { وَوُضِعَ الكتاب } أي كتاب الأعمال ، الذي فيه الجليل والحقير ، والفتيل والقطمير ، والصغير والكبير ، { فَتَرَى المجرمين مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ } أي من أعمالهم السيئة ، وأفعالهم القبيحة ، { وَيَقُولُونَ ياويلتنا } أي يا حسرتنا وويلنا على ما فرطنا في أعمارنا ، { مَالِ هذا الكتاب لاَ يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصَاهَا } أي لا يترك ذنباً صغيراً ولا كبيراً ولا عملاً وإن صغر ، إلاّ أحصاها أي ضبطها وحفظها ، وقوله { وَوَجَدُواْ مَا عَمِلُواْ حَاضِراً } أيمن خير وشر ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } [ آل عمران : 30 ] الآية ، وقال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ الأنبياء : 13 ] وفي الحديث : « يرفع لكل غادر لواء يوم القيامة عند استه بقدر غدرته ، يقال هذه غدرة فلان بن فلان » وقوله : { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } أي فيحكم بين عباده في أعمالهم جميعاً ولا يظلم أحداً من خلقه ، بل يعفو ويصفح ويغفر ويرحم ، ويعذب من يشاء بقدرته وحكمته وعدله ، ويملأ النار من الكفار وأصحاب المعاصي ، ثم ينجي أصحاب المعاصي ويخلد فيها الكافرين ، وهو الحاكم الذي لا يجور ولا يظلم ، قال تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا }(1/1515)
[ النساء : 4 ] الآية ، وقال : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً . . . } [ الأنبياء : 47 ] إلى قوله { حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] والآيات في هذا كثيرة .
روى الإمام أحمد ، عن جابر بن عبد الله يقول : بلغني حديث عن رجل سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم فاشتريت بعيراً ثم شددت عليه رجلاً فسرت عليه شهراً حتى قدمت عليه الشام ، فإذا ( عبد الله بن أنيس ) ، فقلت للبواب : قل له جابر على الباب ، فقال : ابن عبد الله؟ قلت : نعم ، فخرج يطأ ثوبه فاعتنقني واعتنقته ، فقلت : حديث بلغني عنك أنك سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم في القصاص فخشيت أن تموت أو أموت قبل أن أسمعه ، فقال ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « يحشر الله عزَّ وجلَّ الناس يوم القيامة - أو قال العباد - عراة غرلاً بهماً » . قلت : ومابهماً؟ قال : « ليس معهم شيء ، ثم يناديهم بصوت يسمعه من بَعُدَ كما يسمعه من قَرُبَ : أنا الملك أنا الديان ، لا ينبغي لأحد من أهل النار أن يدخل النار وله عند أحد من أهل الجنة حق حتى أقضيه منه ، ولا ينبغي لأحد من أهل الجنة أن يدخل الجنة وله عند رجل من أهل النار حق حتى أقضيه منه ، حتى اللطمة قال : قلنا ، كيف وإنما نأتي الله عزَّ وجلَّ حفاة عراة غرلاً بهماً؟ قال : » بالحسنات والسيئات « .(1/1516)