|
المؤلف : محمد نسيب الرفاعي
تم استيراده من نسخة : المكتبة الشاملة المكية
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ وَعَمَّاتُكُمْ وَخَالَاتُكُمْ وَبَنَاتُ الْأَخِ وَبَنَاتُ الْأُخْتِ وَأُمَّهَاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ مِنَ الرَّضَاعَةِ وَأُمَّهَاتُ نِسَائِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسَائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ وَحَلَائِلُ أَبْنَائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلَابِكُمْ وَأَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (23) وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ كِتَابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَأُحِلَّ لَكُمْ مَا وَرَاءَ ذَلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوَالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (24)
هذه الآية الكريمة هي آية تحريم المحارم من النسب ، وما يتبعه من الرضاع والمحارم بالصهر ، كما قال ابن عباس : حرمت عليكم سبعٌ نسباً وسبع صهراً ، وقرأ : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ } الآية . وقد استدل جمهور العلماء على تحريم المخلوقة من ماء الزاني عليه ، بعموم قوله تعالى : { وَبَنَاتُكُمْ } فإنها بنت فتدخل في العموم كما هو مذهب أبي حنيفة ومالك وأحمد بن حنبل ، وقد حكي عن الشافعي شيء في إباحتها لأنها ليست بنتاً شرعية فكما لم تدخل في قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } [ النساء : 11 ] فإنها لا ترث بالإجماع ، فكذلك لا تدخل في هذه الآية والله أعلم . وقوله تعالى : { وَأُمَّهَاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَأَخَوَاتُكُم مِّنَ الرضاعة } أي كما يحرم عليك أمك التي ولدتك ، كذلك يحرم عليك أمك التي أرضعتك ولهذا ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الرضاعة تحرم ما تحرم الولادة » وفي لفظ لمسلم : « يحرم من الرضاعة ما يحرم من النسب » ثم اختلف الأئمة في عدد الرضعات المحرمة ، فذهب ذاهبون إلى أنه يحرم مجرد الرضاع لعموم هذه الآية ، وهذا قول مالك ، ويروى عن ابن عمر ، وقال آخرون : لا يحرم أقل من ثلاث رضعات لما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تحرم المصة ولا المصتان » وفي لفظ آخر : « لا تحرم الإملاجة ولا الإملاجتان » وممن ذهب إلى هذا القول الإمام أحمد بن حنبل ، وقال آخرون : لا يحرم أقل من خمس رضعات لما ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت : ( كان فيما أنزل من القرآن « عشر رضعات معلومات يحرمن » ثم نسخن بخمس معلومات ، فتوفي النبي صلى الله عليه وسلم وهن فيما يقرأ من القرآن ) وكانت عائشة تأمر من يريد أن يدخل عليها أن يرضع خمس رضعات ، وبهذا قال الشافعي وأصحابه ، ثم ليعلم أنه لا بد أن تكون الرضاعة في سن الصغر دون الحولين على قول الجمهور ، وقد قدمنا الكلام على هذه المسألة في سورة البقرة عند قوله : { والوالدات يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } [ الآية : 233 ] .
وقوله : { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ } أما ( أمُّ المرأة ) فإنها تحرم بمجرد العقد على بنتها ، سواء دخل بها أو لم يدخل بها ، وأما ( الربيبة ) وهي بنت المرأة فلا تحرم حتى يدخل بأمها ، فإن طلق الأم قبل الدخول بها جاز أن يتزوج بنتها ، ولهذا قال : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } في تزويجهن ، فهذا خاص بالربائب وحدهن ، وقد فهم بعضهم عود الضمير إلى الأمهات والربائب فقال : لا تحرم واحدة من الأم ولا البنت بمجرد العقد على الأخرى حتى يدخل بها لقوله : { فَإِن لَّمْ تَكُونُواْ دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } .
(1/465)
وجمهور العلماء على أن الربيبة لا تحرم بالعقد على الأم بخلاف الأم فإنها تحرم بمجرد العقد ، قال ابن أبي حاتم : عن ابن عباس : أنه كان يقول : إذا طلق الرجل المرأة قبل أن يدخل بها أو ماتت لم تحل له أمها ، وهذا مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة ، وجمهور الفقهاء قديماً وحديثاً ، ولله الحمد والمنة .
وأما قوله تعالى : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ } فالجمهور على أن الربيبة حرام سواء كانت في حجر الرجل أو لم تكن في حجره ، قالوا : وهذا الخطاب خرج مخرج الغالب فلا مفهوم له كقوله تعالى : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [ النور : 33 ] وفي الصحيحين « أن أم حبيبة قالت : يا رسول الله انكح أختي بنت أبي سفيان ، وفي لفظ لمسلم ( عزة بنت أبي سفيان ) قال : » أو تحبين ذلك «؟ قالت : نعم لست بك بمخلية ، وأحب من شاركني في خير أختي ، قال : » فإن ذلك لا يحل لي « قالت : فإنا نحدث أنك تريد أن تنكح بنت أبي سلمة قال : » بنت أم سلمة « قالت : نعم قال : » إنها لو لم تكن ربيبتي في حجري ما حلت لي ، إنها لبنت أخي من الرضاعة ، أرضعتني وأبا سلمة ثويبة ، فلا تعرضن عليَّ بناتكن ولا أخواتكن « وفي رواية للبخاري : » إني لو لم أتزوج أم سلمة ما حلت لي « فجعل المناط في التحريم مجرد تزوجه أم سلمة وحكم بالتحريم بذلك ، وهذا هو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وجمهور الخلف والسلف ، وقد قيل بأنه لا تحرم الربيبة إلا إذا كانت في حجر الرجل فإذا لم تكن كذلك فلا تحرم وهو قول غريب جداً ، وإلى هذا ذهب داود الظاهري وأصحابه ، واختاره ابن حزم ، وحكى لي شيخنا الحافظ الذهبي أنه عرض هذا على الشيخ الإمام تقي الدين ابن تيمية رحمه الله فاستشكله وتوقف في ذلك والله أعلم؛ وأما الربيبة في ملك اليمين فقد قال الإمام مالك بن أنس : أن عمر ابن الخطاب سئل عن المرأة وبنتها من ملك اليمين توطأ إحداهما بعد الأخرى فقال عمر : ما أحب أن أجيزهما جميعاً : يريد أن أطأهما جميعاً بملك يميني ، وعن طارق بن عبد الرحمن عن قيس قال : قلت لابن عباس : أيقع الرجل على المرأة وابنتها مملوكين له؟ فقال أحلتهما آية وحرمتهما آية ، ولم أكن لأفعله ، وقال الشيخ ابن عبد البر رحمه الله : لا خلاف بين العلماء أنه لا يحل لأحد أن يطأ امرأة وبنتها من ملك اليمين لأن الله حرم ذلك في النكاح ، قال : { وَأُمَّهَاتُ نِسَآئِكُمْ وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ } ، وملك اليمين عندهم تبع للنكاح إلا ما روي عن عمر وابن عباس ، وليس على ذلك أحد من أئمة الفتوى ولا من تبعهم ، وروى هشام عن قتادة : بنت الربيبة وبنت ابنتها لا تصلح وإن كانت أسفل ببطون كثيرة ، ومعنى قوله : { اللاتي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ } أي نكحتموهن قاله ابن عباس وغير واحد ، وقال ابن جرير : وفي إجماع الجميع على أن خلوة الرجل بامرأة لا تحرم ابنتها عليه إذا طلقها قبل مسيسها ومباشرتها ، وقبل النظر إلى فرجها بشهوة ما يدل على أن معنى ذلك هو الوصول إليها بالجماع .
(1/466)
وقوله تعالى : { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } أي وحرمت عليكم زوجات أبنائكم الذين ولدتموهم من أصلابكم ، يحترز بذلك عن الأدعياء الذين كانوا يتبنونهم في الجاهلية . قال ابن جريج : سألت عطاء عن قوله : { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } قال : كنا نحدّث - والله أعلم - أن النبي صلى الله عليه وسلم لما نكح امرأة زيد قال المشركون بمكة في ذلك فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَحَلاَئِلُ أَبْنَائِكُمُ الذين مِنْ أَصْلاَبِكُمْ } ، ونزلت : { وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَآءَكُمْ أَبْنَآءَكُمْ } [ الأحزاب : 4 ] ، ونزلت : { مَّا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَآ أَحَدٍ مِّن رِّجَالِكُمْ } [ الأحزاب : 40 ] .
وقوله تعالى : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } الآية ، أي وحرم عليكم الجمع بن الأختين معاً في التزويج وكذا في ملك اليمين ، إلا ما كان منكم في جاهليتكم فقد عفونا عنه وغفرناه ، فدل على أنه لا مثنوية فيما يستقبل لأنه استثنى مما سلف ، كما قال : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] فدل على أنهم لا يذوقون فيها الموت أبداً ، وقد أجمع العلماء من الصحابة والتابعين والأئمة قديماً وحديثاً ، على أنه يحرم الجمع بين الأختين في النكاح ، ومن أسلم وتحته أختان خير فيمسك إحداهما ويطلق الأخرى لا محالة ، قال الإمام أحمد : عن الضحاك بن فيروز عن أبيه قال : اسلمت وعند امرأتان أختان فأمرني النبي صلى الله عليه وسلم أن أطلق إحداهما ، وفي لفظ للترمذي : فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « اختر أيتهما شئت » وعن أبي خراش الرعيني قال : قدمت على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعندي أختان تزوجتهما في الجاهلية فقال : « إذا رجعت فطلق إحداهما » وأما الجمع بين الأختين في ملك اليمين فحرام أيضاً لعموم الآية ، وروي ابن أبي حاتم عن ابن مسعود أنه سئل عن الرجل يجمع بين الأختين فكرهه ، فقال له - يعني السائل - يقول الله تعالى : { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } ، فقال له ابن مسعود رضي الله تعالى عنه : وبعيرك مما ملكت يمينك ، وهذا هو المشهور عن الجمهور والأئمة الأربعة وغيرهم ، وإن كان بعض السلف قد توقف في ذلك ، وقال الإمام مالك : سأل رجل ( عثمان بن عفان ) عن الأختين في ملك اليمين هل يجمع بينهما؟ فقال عثمان : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، وما كنت لأمنع ذلك ، فخرج من عنده فلقي رجلاً من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن ذلك ، فقال : لو كان لي من الأمر شيء ثم وجدت أحداً فعل ذلك لجعلته نكالاً ، وقال مالك قال ابن شهاب : أراه علي بن أبي طالب .
(1/467)
وعن إياس بن عامر قال : سألت علي بن أبي طالب فقلت : إن لي أختين مما ملكت يميني اتخذت إحداهما سرية فولدت لي أولاداً ثم رغبت في الأخرى فما أصنع؟ فقال علي رضي الله عنه : تعتق التي كنت تطأ ثم تطأ الأخرى ، قلت : فإن ناساً يقولون بل تزوّجُها ثم تطأ الأخرى ، فقال علي : أرأيت إن طلقها زوجها أو مات عنها أليس ترجع إليك؟ لأن تعتقها أسلم لك ، ثم أخذ علي بيدي فقال لي : إنه يحرم عليك مما ملكت يمينك ما يحرم عليك في كتاب الله من الحرائر إلا العدد ، أو قال إلا الأربع ، ويحرم عليك من الرضاع ما يحرم عليك في كتاب الله من النسب ثم قال أبو عمر : هذا الحديث لو رحل رجل ولم يصب من أقصى المغرب والمشرق إلى مكة غيره لما خابت رحلته . وروى الإمام أحمد عن ابن مسعود قال : يحرم من الإماء ما يحرم من الحرائر إلا العدد ، وجماعة الفقهاء متفقون على أنه لا يحل الجمع بين الأختين بملك اليمين في الوطء كما لا يحل ذلك في النكاح ، وقد أجمع المسلمون على أن معنى قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهَاتُكُمْ وَبَنَاتُكُمْ وَأَخَوَاتُكُمْ } إلى آخر الآية أن النكاح وملك اليمين في هؤلاء كلهن سواء ، وكذلك يجب أن يكون نظراً وقياساً الجمع بين الأختين وأمهات النساء والربائب ، وكذلك هو عند جمهورهم وهم الحجة المحجوج بها من خالفها وشذ عنها .
وقوله تعالى : { والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } أي وحرم عليكم من الأجنبيات المحصنات وهن المزوجات { إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } يعني إلا ما ملكتموهن بالسبي ، فإنه يحل لكم وطؤهن إذا استبرأتموهن فإن الآية نزلت في ذلك ، وقال الإمام أحمد عن أبي سعيد الخدري قال : أصبنا سبياً من سبي أوطاس ، ولهن أزواج فكرهنا أن نقع عليهن ولهن أزواج ، فسألنا النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : { والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } فاستحللنا فروجهن . وفي رواية مسلم أن أصحاب رسول الله أصابوا سبياً يوم أوطاس لهن أزواج من أهل الشرك ، فكان أناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كفواً وتأثموا من غشيانهن قال : فنزلت هذه الآية في ذلك : { والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } . وقد ذهب جماعة من السلف إلى أن بيع الأمة يكون طلاقاً لها من زوجها أخذاً بعموم هذه الآية ، وقال ابن جرير : كان عبد الله يقول : بيعها طلاقها ويتلو هذه الآية : { والمحصنات مِنَ النسآء إِلاَّ مَا مَلَكْتَ أَيْمَانُكُمْ } وعن ابن مسعود قال : إذا بيعت الأمة ولها زوج فسيدها أحق ببضعها .
(1/468)
وعن ابن المسيب قوله : { والمحصنات مِنَ النسآء } ، قال : هذه ذوات الأزواج حرم الله نكاحهن إلا ما ملكت يمينك فبيعها طلاقها .
فهذا قول هؤلاء من السلف وقد خالفهم الجمهور قديماً وحديثاً ، فرأوا أن بيع الأمة ليس طلاقاً لها ، لأن المشتري نائب عن البائع ، والبائع كان قد أخرج عن ملكه هذه المنفعة وباعها مسلوبة عنها ، واعتمدوا في ذلك على حديث بريرة المخرج في الصحيحين وغيرهما ، فإن عائشة أم المؤمنين اشترتها وأعتقتها ، ولم ينفسخ نكاحها من زوجها مغيث ، بل خيّرها رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الفسخ والبقاء ، فاختارت الفسخ وقصتها مشهورة فلو كان بيع الأمة طلاقها كما قال هؤلاء ما خيرها النبي صلى الله عليه وسلم ، فلما خيّرها دل على بقاء النكاح ، وأن المراد من الآية المسبيات فقط والله أعلم ، وقد قيل المراد بقوله : { والمحصنات مِنَ النسآء } يعني العفائف حرام عليكم حتى تملكوا عصمتهن بنكاح وشهود ومهور وولي واحدة أو اثنتين أو ثلاثاً أو أربعاً ، حكاه ابن جرير عن أبي العالية وطاوس وغيرهما وقال عمر وعبيدة : { والمحصنات مِنَ النسآء } ما عدا الأربع حرام عليكم إلا ما ملكت أيمانكم .
وقوله تعالى : { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } أي هذا التحريم كتاب كتبه الله عليكم ، يعني الأربع فالزموا كتابه ، ولا تخرجوا عن حدوده ، والزموا شرعه وما فرضه . وقال عطاء والسدي في قوله : { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } يعني الأربع ، وقال إبراهيم : { كِتَابَ الله عَلَيْكُمْ } : يعني ما حرم عليكم؛ وقوله تعالى : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذلكم } أي ما عدا من ذكرن من المحارم هن لكم حلال ، قاله عطاء وغيره ، وقال قتادة : { وَأُحِلَّ لَكُمْ مَّا وَرَاءَ ذلكم } : يعني ما ملكت أيمانكم ، وهذه الآية التي احتج بها من احتج على تحليل الجمع بين الأختين ، وقول من قال : أحلتهما آية وحرمتهما آية ، وقوله تعالى : { أَن تَبْتَغُواْ بِأَمْوَالِكُمْ مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } أي تحصلوا بأموالكم من الزوجات إلى اربع ، أو السراري ما شئتم بالطريق الشرعي ، ولهذا قال : { مُّحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ } .
وقوله تعالى : { فَمَا استمتعتم بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً } أي كما تستمعون بهن فآتوهن مهورهن في مقابلة ذلك ، كما قال تعالى : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } [ النساء : 21 ] ، وكقوله تعالى : { وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } [ النساء : 4 ] ، وكقوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } [ البقرة : 229 ] . وقد استدل بعموم هذه الآية على نكاح المتعة ، ولا شك أنه كان مشروعاً في ابتداء الإسلام ثم نسخ بعد ذلك ، وقد ذهب الشافعي وطائفة من العلماء إلى أنه أبيح ، ثم نسخ ثم أبيح ثم نسخ مرتين .
(1/469)
وقال آخرون : إنما أبيح مرة ثم نسخ ولم يبح بعد ذلك ، وقد قيل بإباحتها للضرورة وهي رواية عن الإمام أحمد ، وقال مجاهد : نزلت في نكاح المتعة ، ولكن الجمهور على خلاف ذلك ، والعمدة ما ثبت في الصحيحين عن أمير المؤمنين ( علي بن أبي طالب ) قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المتعة ، وعن لحوم الحمر الأهلية يوم خيبر ، ولهذا الحديث ألفاظ مقررة هي في كتاب الأحكام ، وفي صحيح مسلم عن الربيع بن سبرة بن معبد الجهني عن أبيه أنه غزا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة فقال : « يا أيها الناس إني كنت أذنت لكم في الاستمتاع من النساء وإن الله قد حرم ذلك إلى يوم القيامة ، فمن كان عنده منهن شيء فليخل سبيله ولا تأخذوا مما آتيتموهن شيئاً » ، وفي رواية لمسلم في حجة الوداع وله ألفاظ موضعها كتاب الأحكام .
وقوله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة } أي إذا فرضت لها صداقاً فأبرأتك منه أو عن شيء منه فلا جناح عليك ولا عليها في ذلك ، وقال ابن جرير : إن رجالاً كانوا يفرضون المهر ، ثم عسى أن يدرك أحدهم العسرة فقال : ولا جناح عليكم أيها الناس فيما تراضيتم به من بعد الفريضة ، يعني إن وضعت لك منه شيئاً فهو لك سائغ ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا تَرَاضَيْتُمْ بِهِ مِن بَعْدِ الفريضة } والتراضي أن يوفيها صداقها ، ثم يخيرها يعني في المقام أو الفراق ، وقوله تعالى : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } مناسب ذكر هذين الوصفين بعد شرع هذه المحرمات .
(1/470)
وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَنَاتِ الْمُؤْمِنَاتِ فَمِنْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ مِنْ فَتَيَاتِكُمُ الْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَأَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)
يقول تعالى : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً } أي سعة وقدرة { أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات } أي الحرائر العفائف المؤمنات ، { فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات } أي فتزوجوا من الإماء المؤمنات اللاتي يملكهن المؤمنون ، ولهذا قال : { مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات } قال ابن عباس : فلينكح من إماء المؤمنين ، ثم اعترض بقوله : { والله أَعْلَمُ بِإِيمَانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِّن بَعْضٍ } أي هو العالم بحقائق الامور وسرائرها ، وإنما لكم أيها الناس الظاهر من الأمور ، ثم قال : { فانكحوهن بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ } فدل على أن السيد هو ولي أمته لا تزوج إلا بإذنه ، وكذلك هو ولي عبده ليس له أن يتزوج بغير إذنه ، كما جاء في الحديث : « أيما عبد تزوج بغير إذن مواليه فهو عاهر » أي زان ، فإن كان مالك الأمة امرأة زوجها من يزوج المرأة بإذنها لما جاء في الحديث : « لا تزوج المرأة المرأة ، ولا المرأة نفسها ، فإن الزانية هي التي تزوج نفسها » .
وقوله تعالى : { وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بالمعروف } أي وادفعوا مهورهن بالمعروف ، أي عن طيب نفس منكم ، ولا تبخسوا منه شيئاً استهانة بهن لكونهن إماء مملوكات ، وقوله تعالى : { مُحْصَنَاتٍ } أي عفائف عن الزنا لا يتعاطينه ، ولهذا قال : { غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ } وهن الزواني اللاتي لا يمنعن من أرادهن بالفاحشة ، وقوله تعالى : { وَلاَ مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } قال ابن عباس : ( المسافحات ) هن الزواني المعلنات ، يعني الزواني اللاتي لا يمنعن أحداً أرادهن بالفاحشة ، ومتخذات أخدان يعني أخلاء ، وقال الحسن البصري : يعني الصديق ، وقال الضحاك : ذات الخليل الواحد المقرة به ، نهى الله عن ذلك يعني تزويجها ما دامت كذلك .
وقوله تعالى : { فَإِذَآ أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } اختلف القراء في { أُحْصِنَّ } فقرأه بعضهم بضم الهمزة وكسر الصاد مبني لما لم يسم فاعله ، وقرىء بفتح الهمزة والصاد فعل لازم ، ثم قيل : معنى القراءتين واحد ، واختلفوا فيه على قولين :
( أحدها ) أن المراد بالإحصان هاهنا الإسلام روي ذلك عن ابن مسعود وابن عمر وقيل : المراد به هاهنا التزويج ، وهو قول ابن عباس ومجاهد وسعيد بن جبير والحسن وغيرهم ، وقد روي عن مجاهد أنه قال : إحصان الأَمَة أن ينكحها الحر ، وإحصان العبد أن ينكح الحرة ، وكذا روي عن ابن عباس رواهما ابن جرير في تفسيره ، وقيل : معنى القراءتين متباين ، فمن قرأ { أُحْصِنَّ } بضم الهمزة فمراده التزويج ، ومن قرأ بفتحها فمراده الإسلام ، اختاره أبو جعفر بن جرير في تفسيره وقرره ونصره؛ والأظهر والله أعلم : أن المراد بالإحصان هاهنا التزويج ، لأن سياق الآية يدل عليه حيث يقول سبحانه : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات فَمِنْ مَّا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُم مِّن فَتَيَاتِكُمُ المؤمنات } ، والآية الكريمة سياقها في الفتيات المؤمنات ، فتعين أن المراد بقوله : { فَإِذَآ أُحْصِنَّ } أي تزوجن كما فسره ابن عباس وغيره .
(1/471)
وعلى كل من القولين إشكال على مذهب الجمهور ، وذلك أنهم يقولون : إن الأمة إذا زنت فعليها خمسون جلدة ، سواء كانت مسلمة أو كافرة ، مزوجة أو بكراً ، مع أن مفهوم الآية يقتضي أنه لا حد غير المحصنة من الإماء ، وقد اختلفت أجوبتهم عن ذلك ، فأما الجمهور فقالوا : المنطوق مقدم على المفهوم ، وقد وردت أحاديث عامة في إقامة الحد على الإماء فقدمناها على مفهوم الآية ، فمن ذلك ما رواه مسلم في صحيحة عن علي رضي الله عنه أنه خطب فقال : يا أيها الناس أقيموا الحد على إمائكم من أحصن منهن ومن لم يحصن ، فإن أمة لرسول الله صلى الله عليه وسلم زنت فأمرني أن أجلدها ، فإذا هي حديثة عهد بنفاس فخشيت إن جلدتها أن أقتلها ، فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال : « أحسنت اتركها حتى تتماثل » وفي رواية : « فإذا تعافت من نفاسها فاجلدها خمسين » وعن أبي هريرة قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إذا زنت أمة أحدكم فتبين زناها فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ثم إن زنت الثانية فليجلدها الحد ولا يثرب عليها ، ثم إن زنت الثالثة فتبين زناها فليبعها ولو بحبل من شعر » .
( الجواب الثاني ) : جواب من ذهب إلى أن الأمة إذا زنت ولم تحصن فلا حد عليها ، وإنما تضرب تأديباً وهو المحكي عن ابن عباس رضي الله عنه ، وإليه ذهب طاووس وسعيد بن جبير وغيرهما . وعمدتهم مفهوم الآية ، وهو من مفاهيم الشرط ، وهو حجة عند أكثرهم فقدم على العموم عندهم وحديث أبي هريرة وزيد بن خالد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الأمة إذا زنت ولم تحصن؟ قال : « إن زنت فحدوها ، ثم إن زنت فاجلدوها . ثم بيعوها ولو بضفير » قال ابن شهاب : لا أدري بعد الثالثة أو الرابعة . أخرجاه في الصحيحين . وعن مسلم قال ابن شهاب : الضفير : « الحبل » ، قالوا : فلم يؤقت فيه عدد كما أقت في المحصنة ، وكما وقت في القرآن بنصف ما على المحصنات ، فوجب الجمع بين الآية والحديث بذلك والله أعلم . قال أبو عبد الله الشافعي رحمه الله : ولم يختلف المسلمون في أن لا رجم على مملوك في الزنا؛ وذلك لأن الآية دلت على أن عليهن نصف ما على المحصنات من العذاب ، والألف واللام في المحصنات للعهد ، وهن المحصنات المذكورات في أول الآية : { وَمَن لَّمْ يَسْتَطِعْ مِنكُمْ طَوْلاً أَن يَنكِحَ المحصنات المؤمنات } والمراد بهن الحرائر فقط من غير تعرض للتزويج بحرة . وقوله : { نِصْفُ مَا عَلَى المحصنات مِنَ العذاب } يدل على أن المراد من العذاب الذي يمكن تبعيضه وهو الجلد لا الرجم والله أعلم .
(1/472)
وقوله تعالى : { ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ العنت مِنْكُمْ } أي إنما يباح نكاح الإماء بالشروط المتقدمة لمن خاف على نفسه الوقوع في الزنا ، وشق عليه لصبر عن الجماع ، فله حينئذ أن يتزوج بالأمة ، وإن ترك تزوجها وجاهد نفسه في الكف عن الزنا فهو خير له ، لأنه إذا تزوجها جاء أولاده أرقاء لسيدها ، إلا أن يكون الزوج غريباً فلا تكون أولاده منها أرقاء في قول قديم للشافعي ، ولهذا قال : { وَأَن تَصْبِرُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . ومن هذه الآية الكريمة استدل جمهور العلماء في جواز العلماء نكاح الإماء على أنه لا بد من عدم الطول لنكاح الحرائر ، ومن خوف العنت ، لما في نكاحهن من مفسدة رق الأولاد ، ولما فيهن من الدناءة في العدول عن الحرائر إليهن ، وخالف الجمهور أبو حنيفة وأصحابه في اشتراط الأمرين فقالوا : متى لم يكن الرجل مزوجاً بحرة جاز له نكاح الأمة المؤمنة والكتابية أيضاً سواء كان واجداً لطول حرة أم لا ، وسواء خاف العنت أم لا ، وعمدتهم فيما ذهبوا إليه قوله تعالى : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } [ المائدة : 5 ] أي العفائف وهو يعم الحرائر والإماء ، وهذه الآية عامة وهذه أيضاً ظاهرة في الدلالة على ما قاله الجمهور ، والله أعلم .
(1/473)
يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الْإِنْسَانُ ضَعِيفًا (28)
يخبر تعالى أنه يريد أن يبين لكم أيها المؤمنون ما أحل لكم وحرم عليكم ، مما تقدم ذكره في هذه السورة وغيرها ، { وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الذين مِن قَبْلِكُمْ } يعني طرائقهم الحميدة واتباع شرائعه التي يحبها ويرضاها ، { وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ } أي من الإثم والمحارم ، { والله عَلِيمٌ حَكِيمٌ } أي في شرعه وقدره وأفعاله وأقواله ، { وَيُرِيدُ الذين يَتَّبِعُونَ الشهوات أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً } أي يريد أتباع الشياطين من اليهود والنصارى والزناة أن تميلوا عن الحق إلى الباطل ميلاً عظيماً . { يُرِيدُ الله أَن يُخَفِّفَ عَنْكُمْ } أي في شرائعه وأوامره ونواهيه وما يقدره لكم ، ولهذا أباح الإماء بشروط كما قال مجاهد وغيره ، { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } فناسبه التخفيف لضعفه في نفسه وضعف عزمه وهمته . وقال : طاووس : { وَخُلِقَ الإنسان ضَعِيفاً } : أي في أمر النساء ، وقال وكيع : يذهب عقله عندهن ، وقال موسى عليه السلام لنبينا محمد صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء . ماذا فرض عليكم؟ فقال : أمرني بخمسين صلاة في كل يوم وليلة ، فقال له : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فإني قد بلوت الناس قبلك على ما هو أقل من ذلك فعجزوا وإن أمتك أضعف أسماعاً وأبصاراً وقلوباً؛ فرجع فوضع عشراً ، ثم رجع إلى موسى فلم يزل كذلك حتى بقيت خمساً .
(1/474)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا (29) وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ عُدْوَانًا وَظُلْمًا فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَارًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (30) إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا (31)
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يأكلوا أموال بعضهم بعضاً بالباطل ، أي بأنواع المكاسب التي هي غير شرعية ، كأنواع الربا والقمار وما جرى مجرى ذلك من سائر صنوف الحيل ، وإن ظهرت في قلب الحكم الشرعي مما يعلم الله أن متعاطيها إنما يريد الحيلة على الربا ، حتى قال ابن جرير ، عن ابن عباس في الرجل يشتري من الرجل الثوب فيقول : إن رضيته أخذته وإلا رددت معه درهماً ، قال : هو الذي قال الله فيه : { لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } . وعن علقمة بن عبد الله في الآية قال : إنها محكمة ما نسخت ولا تنسخ إلى يوم القيامة ، وقال ابن عباس : لما أنزل الله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل } قال المسلمون : إن الله قد نهانا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل والطعام هو أفضل أموالنا ، فلا يحل لأحد منا أن يأكل عند أحد فكيف للناس؟! فأنزل الله بعد ذلك : { لَّيْسَ عَلَى الأعمى حَرَجٌ } [ النور : 61 ، الفتح : 17 ] الآية .
وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } الاستثناء منقطع كأنه يقول : لا تتعاطوا الأسباب المحرمة في اكتساب الأموال ، لكن المتاجر المشروعة التي تكون عن تراض من البائع والمشتري فافعلوها ، وتسببوا بها في تحصيل الأموال ، كما قال تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } [ الأنعام : 151 ، الإسراء : 33 ] ، وكقوله : { لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى } [ الدخان : 56 ] ، ومن هذه الآية الكريمة احتج الشافعي على أنه لا يصح البيع إلا بالقبول لأنه يدل على التراضي نصاً بخلاف المعاطاة فإنها قد لا تدل على الرضا ، وخالف الجمهور في ذلك ( مالك وأبو حنيفة وأحمد ) فرأوا أن الأقوال كما تدل على التراضي ، فكذلك الأفعال تدل في بعض المحال قطعاً ، فصححوا بيع المعاطاة مطلقاً ، ومنهم من قال : يصح في المحقرات وفيما يعده الناس بيعاً ، وهو احتياط نظر من محققي المذهب والله أعلم . وقال مجاهد : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ } بيعاً أو عطاء يعطيه أحد أحداً ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « البيع عن تراض ، والخيار بعد الصفقة ، ولا يحل لمسلم أن يغش مسلماً » هذا حديث مرسل ، ومن تمام التراضي إثبات خيار المجلس كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « البيعان بالخيار ما لم يتفرقا » ، وفي لفظ البخاري : « إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا » ، وذهب إلى القول بمقتضى هذا الحديث أحمد والشافعي وأصحابهما وجمهور السلف والخلف ، ومن ذلك مشروعية خيار الشرط بعد العقد إلى ثلاثة أيام ، بحسب ما يتبين فيه حال البيع ولو إلى سنة في القرية ونحوها كما هو المشهور عن مالك رحمه الله ، وصححوا بيع المعاطاة مطلقاً وهو قول في مذهب الشافعي ، ومنهم من قال : يصح بيع المعاطاة في المحقرات فيما يعده الناس بيعاً ، وهو اختيار طائفة من الأصحاب كما هو متفق عليه .
(1/475)
وقوله : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ } أي بارتكاب محارم الله وتعاطي معاصيه وأكل أموالكم بينكم بالباطل { إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } أي فيما أمركم به ونهاكم عنه . عن عمرو ابن العاص رضي الله عنه أنه قال : لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم عام ( ذات السلاسل ) قال : احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك ، فتيممت ثم صليت بأصحابي صلاة الصبح ، قال : فلما قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له ، فقال : « » يا عمرو صليت بأصحابك وأنت جنب «؟ قال : قلت يا رسول الله إني احتلمت في ليلة باردة شديدة البرد ، فأشفقت إن اغتسلت أن أهلك فذكرت قول الله : { وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } فتيممت ثم صليت ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يقل شيئاً » وأورد ابن مردويه عند هذه الآية الكريمة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها بطنه يوم القيامة في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومن قتل نفسه بسم فسمه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً » ، وفي الصحيحين : « من قتل نفسه بشيء عذب به يوم القيامة » وفي الصحيحين أيضاً عن جندب بن عبد الله البجلي قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كان رجل ممن كان قبلكم وكان به جرح فأخذ سكيناً نحر بها يده فما رقأ الدم حتى مات ، قال الله عزَّ وجلَّ : عبدي بادرني بنفسه حرمت عليه الجنة » ولهذا قال تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك عُدْوَاناً وَظُلْماً } أي ومن يتعاطى ما نهاه الله عنه معتدياً فيه ، ظالماً في تعاطيه ، أي عالماً بتحريمه متجاسراً على انتهاكه { فَسَوْفَ نُصْلِيهِ نَاراً } وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، فليحذر منه كل عاقل لبيب ممن ألقى السمع وهو شهيد .
وقوله تعالى : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } الآية . أي إذا اجتنبتم كبائر الآثام التي نهيتم عنها ، كفرنا عنكم صغائر الذنوب وأدخلناكم الجنة ، ولهذا قال : { وَنُدْخِلْكُمْ مُّدْخَلاً كَرِيماً } ، وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر . قال أبو جعفر بن جرير عن صهيب مولى الصواري ، أنه سمع أبا هريرة وأبا سعيد يقولان : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فقال : « » والذي نفسي بيده « ثلاث مرات ثم أكب فأكب كل رجل منا يبكي لا ندري ماذا حلف عليه ، ثم رفع رأسه وفي وجهه البشر فكان أحب إلينا من حمر النعم فقال : » ما من عبد يصلي الصلوات الخمس ، ويصوم رمضان ، ويخرج الزكاة ، ويجتنب الكبائر السبع إلا فتحت له أبواب الجنة ثم قيل له ادخل بسلام « » .
(1/476)
( تفسير هذه السبع ) : وذلك بما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » اجتنبوا السبع الموبقات « . قيل : يا رسول الله وما هن؟ قال : » الشرك بالله ، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق ، والسحر وأكل الربا وأكل مال اليتيم ، والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات « فالنص على هذه السبع بأنهن كبائر ، لا ينفي ما عداهن إلا عند من يقول بمفهوم اللقب ، وهو ضعيف عند عدم القرينة ، ولا سيما عند قيام الدليل بالمنطوق على عدم المفهوم كما سنورده من الأحاديث المتضمنة من الكبائر غير هذه السبع . ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن أبي أيوب قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » « من عبد الله لا يشرك به شيئاً ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، واجتنب الكبائر فله الجنة - أو دخل الجنة - » فسأل رجل ما الكبائر؟ فقال : « الشرك بالله ، وقتل نفس مسلمة ، والفرار من الزحف » وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى أهل اليمن كتاباً فيه الفرائض والسنن والديات ، وبعث به مع ( عمرو بن حزم ) وكان في الكتاب : « إن أكبر الكبائر عند الله يوم القيامة : إشراك بالله ، وقتل النفس المؤمنة بغير حق ، والفرار في سبيل الله يوم الزحف ، وعقوق الوالدين ، ورمي المحصنة ، وتعلم السحر ، وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم » ( حديث آخر فيه ذكر شهادة الزور ) : عن أنس بن مالك قال : « ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الكبائر أو سئل عن الكبائر فقال : » الشرك بالله ، وقتل النفس ، وعقوق الوالدين « ، وقال : ألا أنبئكم بأكبر الكبائر؟ قلنا : بلى ، قال : » الإشراك بالله ، وقول الزور - أو شهادة الزور - « وأخرجه الشيخان من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر عن أبيه قال قال النبي صلى الله عليه وسلم : » « ألا أنبئكم بأكبر الكبائر »؟ قلنا : بلى ، يا رسول الله ، قال : « الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين - » وكان متكئاً فجلس ، فقال : « ألا وشهادة الزور ، ألا وقول الزور » ، فما زال يكررها حتى قلنا : ليته سكت .
( حديث آخر فيه ذكر قتل الولد ) : عن عبد الله بن مسعود قال ، « قلت : يا رسول الله أي الذنب أعظم؟ وفي رواية أكبر؟ قال : » أن تجعل لله نداً وهو خلقك « ، قلت : ثم أي؟ قال : » أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك « قلت : ثم أي؟ قال : » أن تزاني حليلة جارك « ، ثم قرأ : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] إلى قوله { إِلاَّ مَن تَابَ } [ الفرقان : 70 ] » .
(1/477)
( حديث آخر في اليمين الغموس ) : قال ابن أبي حاتم عن عبد الله بن أنيس الجهني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أكبر الكبائر الإشراك بالله ، وعقوق الوالدين ، واليمين الغموس ، وما حلف حالف بالله يمين صبر فأدخل فيها مثل جناح البعوضة إلا كانت وكتة في قلبه إلى يوم القيامة » ( حديث آخر ) في التسبب إلى شتم الوالدين : عن عبد الله بن عمرو قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه « . قالوا : وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال : » يسب الرجل أبا الرجل فيسب أباه ، ويسب أمه فيسب أمه « وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » سباب المسلم فسوق ، وقتاله كفر « .
( حديث آخر ) : عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : » الإضرار في الوصية من الكبائر « ، قال ابن أبي حاتم : هو صحيح عن ابن عباس من قوله ( حديث آخر في ذلك ) : قال ابن جرير عن أبي أمامة : أن أناساً من أصحاب النبي ذكروا الكبائر وهو متكىء فقالوا : الشرك بالله ، وأكل مال اليتيم ، والفرار من الزحف وقذف المحصنة ، وعقوق الوالدين ، وقول الزور ، والغلول ، والسحر ، وأكل الربا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فأين تجعلون الذين يشترون بعهد الله وأيمانهم ثمناً قليلاً « ؟ إلى آخر الآية .
( ذكر أقوال السلف في ذلك )
قال ابن جرير عن الحسن : أنا ناساً سألوا عبد الله بن عمرو بمصر ، فقالوا : نرى أشياء من كتاب الله عزَّ وجلَّ أمر أن يعمل بها لا يعمل بها ، فأردنا أن نلقى أمير المؤمنين في ذلك فقدم وقدموا معه ، فلقي عمر رضي الله عنه ، فقال : متى قدمت؟ منذ كذا وكذا ، قال : أبإذنٍ قدمت؟ قال : فلا أدري كيف رد عليه . فقال : يا أمير المؤمنين إن ناساً لقوني بمصر ، فقالوا : إنا نرى أشياء في كتاب الله أمر أن يعمل بها فلا يعمل بها ، فأحبوا أن يلقوك في ذلك . قال فاجمعهم لي قال : فجمعتهم له . قال ابن عون - أظنه قال في بهو - : فأخذ أدناهم رجلاً فقال : أنشدك بالله وبحق الإسلام عليك ، أقرأت القرآن كله؟ قال : نعم . قال : فهل أحصيته في نفسك؟ فقال : اللهم لا ، قال : ولو قال نعم لخصمه . قال : فهل أحصيته في بصرك؟ فهل أحصيته في لفظك؟ هل أحصيته في أثرك؟ ثم تتبعهم حتى أتى على آخرهم ، فقال : ثكلت عمر أمه أتكلفونه أن يقيم الناس على كتاب الله؟ قد علم ربنا أن ستكون لنا سيئات ، قال : وتلا { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } الآية .
(1/478)
ثم قال : هل علم أهل المدينة؟ أو قال : هل علم أحد بما قدمتم؟ قالوا : لا ، قال : لو علموا لوعظت بكم .
( أقوال ابن عباس في ذلك )
روى ابن جرير عن طاوس ، قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال : أرأيت الكبائر السبع التي ذكرهن الله ما هن؟ قال : هن إلى السبعين أدنى منهن إلى سبع ، وقال عبد الرزاق قيل : لابن عباس الكبائر سبع؟ قال : هن إلى السبعين أقرب؛ وقال ابن جرير عن سعيد بن جبير : أن رجلاً قال لابن عباس : كم الكبائر ، سبع؟ قال : هن إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع ، غير أنه لا كبيرة مع استغفار : ولا صغيرة مع إصرار . وعن ابن عباس في قوله : { إِن تَجْتَنِبُواْ كَبَآئِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ } قال : الكبائر كل ذنب ختمه الله بنار ، أو غضب ، أو لعنة ، أو عذاب . وسئل ابن عباس عن الكبائر فقال : كل شيء عصي الله به فهو كبيرة .
وقد اختلف علماء الأصول والفروع في حد الكبيرة ، فمن قائل : هي ما عليه حد في الشرع ، ومنهم من قال : هي ما عليه وعيد مخصوص من الكتاب والسنّة ، وقيل غير ذلك . قال أبو القاسم عبد الكريم الرافعي في كتابه ( الشرح الكبير ) : ثم اختلف الصحابة رضي الله عنهم فمن بعدهم في الكبائر ، وفي الفرق بينها وبين الصغائر ، ولبعض الأصحاب في تفسير الكبيرة وجوه أحدها : أنها المعصية الموجبة للحد ، ( والثاني ) : أنها المعصية التي يلحق صاحبها الوعيد الشديد بنص كتاب أو سنّة ، وهذا أكثر ما يوجد لهم وإلى الأول أميل ، لكن الثاني أوفق لما ذكروه عند تفسير الكبائر ، ( والثالث ) : قال إمام الحرمين : كل جريمة تنبىء بقلة اكتراث مرتكبها بالدين ورقة الديانة فهي مبطلة للعدالة ، ( والرابع ) : ذكر القاضي أبو سعيد الهروي : أن الكبيرة كل فعل نص الكتاب على تحريمه ، وكل معصية توجب في جنسها حداً من قتل أو غيره .
ثم قال : وفصَّل ( القاضي الروياني ) فقال : الكبائر سبع : قتل النفس بغير الحق ، والزنا ، واللواطة ، وشرب الخمر ، والسرقة ، وأخذ المال غصباً ، والقذف؛ وزاد في ( الشامل ) على السبع المذكورة : شهادة الزور ، أضاف إليها صاحب ( العدة ) : أكل الربا ، والإفطار في رمضان بلا عذر ، واليمين الفاجرة ، وقطع الرحم ، وعقوق الوالدين ، والفرار من الزحف ، وأكل مال اليتيم ، والخيانة في الكيل والوزن ، وتقديم الصلاة على وقتها ، وتأخيرها عن وقتها بلا عذر ، وضرب المسلم بلا حق ، والكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم عمداً؛ وسب أصحابه ، وكتمان الشهادة بلا عذر ، وأخذ الرشوة ، والقيادة بين الرجال والنساء ، والسعاية عند السلطان ، ومنع الزكاة ، وترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مع القدرة ، ونسيان القرآن بعد تعلمه ، وإحراق الحيوان بالنار ، وامتناع المرأة من زوجها بلا سبب ، واليأس من رحمة الله ، والأمن من مكر الله ، ويقال الوقيعة في أهل العلم ، وحملة القرآن .
(1/479)
ومما يعد من الكبائر : الظهار ، وأكل لحم الخنزير ، والميتة إلا عن ضرورة . قلت : وقد صنف الناس في الكبائر مصنفات منها ما جمعه شيخنا الحافظ ( أبو عبد الله الذهبي ) الذي بلغ نحواً من سبعين كبيرة ، وإذا قيل : إن الكبيرة ما توعد عليها الشارع بالنار بخصوصها كما قال ابن عباس وغيره وما يتبع ذلك ، اجتمع منه شيء كثير ، وإذا قيل : كل ما نهى الله عنه فكثير جداً ، والله أعلم .
(1/480)
وَلَا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا (32)
عن مجاهد قال ، قالت أم سلمة : يا رسول الله يغزو الرجال ولا نغزو ، ولنا نصف الميراث؟ فأنزل الله : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } ، وقال عبد الرزاق عن معمر قال : نزلت هذه الآية في قول النساء ليتنا الرجال فنجاهد كما يجاهدون ، ونغزو في سبيل الله عزَّ وجلَّ . وقال ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس في الآية ، قال : أتت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله للذكر مثل حظ الأنثيين ، وشهادة امرأتين برجل ، ونحن في العمل هكذا ، إن فعلت امرأة حسنة كتب لها نصف حسنة ، فأنزل الله هذه الآية : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ } الآية . قال ابن عباس : لا يتمنى الرجل فيقول : ليت لو أن لي مال فلان وأهله ، فنهى الله عن ذلك ، ولكن يسأل الله من فضله ، وهو الظاهر من الآية ، ولا يرد على هذا ما ثبت في الصحيح : « لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ، فيقول رجل : لو أن لي مثل ما لفلان لعملت مثله فهما في الأجر سواء » الحديث فإن هذا شيء غير ما نهت عنه الآية ، وذلك أن الحديث حض على تمني مثل نعمة هذا ، والآية نهت عن تمني عين نعمة هذا ، ويقول : { وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ الله بِهِ بَعْضَكُمْ على بَعْضٍ } أي في الأمور الدنيوية وكذا الدينية ، لحديث أم سلمة وابن عباس ، وهكذا قال عطاء بن أبي رباح : نزلت في النهي عن تمني ما لفلان ، وفي تمني النساء أن يكنَّ رجالاً فيغزون .
ثم قال تعالى : { لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبوا وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكتسبن } أي كل له جزاء على عمله بحسبه إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . هذا قول ابن جرير ، وقيل : المراد بذلك في الميراث أي كل يرث بحسبه ، رواه الوابلي عن ابن عباس ، ثم أرشدهم إلى ما يصلحهم ، فقال : { واسألوا الله مِن فَضْلِهِ } لا تتمنوا ما فضلنا به بعضكم على بعض ، فإن هذا أمر محتوم ، أي أن التمني لا يجدي شيئاً ، ولكن سلوني من فضلي أعطكم ، فإني كريم وهاب ، وقد روى الترمذي عن عبد الله بن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سلوا الله من فضله فإن الله يحب أن يسأل ، وإن أفضل العبادة انتظار الفرج » ثم قال : { إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } أي هو عليم بمن يستحق الدنيا فيعطيه منها ، وبمن يستحق الفقر فيفقره ، وعليم بمن يستحق الآخرة فيقيضه لأعمالها ، وبمن يستحق الخذلان فيخذله عن تعاطي الخير وأسبابه ، ولهذا قال : { إِنَّ الله كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيماً } .
(1/481)
وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَالَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدًا (33)
وقوله تعالى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } أي ورثة ، وعن ابن عباس في رواية : أي عصبة ، قال ابن جرير : والعرب تسمي ابن العم مولى كما قال الفضل بن عباس :
مهلاً بني عمنا مهلاً موالينا ... لا يظهرن بيننا ما كان مدفونا
قال : ويعني بقوله { مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } من تركة والديه وأقربيه من الميراث ، فتأويل الكلام : ولكلكم أيها الناس جعلنا عصبة يرثونه مما ترك والداه وأقربوه من ميراثهم له . وقوله تعالى : { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي والذين تحالفتم بالأيمان المؤكدة أنتم وهم ، فآتوهم نصيبهم من الميراث كما وعدتموهم في الأيمان المغلظة ، إن الله شاهد بينكم في تلك العهود والمعاقدات ، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام ، ثم نسخ بعد ذلك ، وأمروا أن يوفوا من عاقدوا ولا ينسوا بعد نزول هذه الآية معاقدة ، قال البخاري عن ابن عباس : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } . قال ورثة ، { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } كان المهاجرون لما قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمة للأخوة التي آخى النبي بينهم فلما نزلت : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ } نسخت ، ثم قال : { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } من النصر والرفادة والنصيحة ، وقد ذهب الميراث ويوصى له . وروى ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قوله : { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } الآية ، قال : كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث المهاجري الأنصاري دون ذوي رحمه بالأخوة التي آخى رسول الله صلى الله عليه وسلم بينهم ، فلما نزلت : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } نسخت ، ثم قال : والذين عقدت أيمانكم فأتوهم نصيبهم . وعن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا حلف في الإسلام ، وكل حلف كان في الجاهلية فلم يزده الإسلام إلا شدة وما يسرني أن لي حمر النعم ، وأني نقضت الحلف الذي كان في دار الندوة » .
وقال محمد بن إسحاق عن ( داود بن الحصين ) قال : كنت أقرأ على أم سعد بنت الربيع مع ابن ابنها ( موسى بن سعد ) وكان يتيماً في حجر أبي بكر ، فقرأت عليها : { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } فقالت : لا ، ولكن { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } قالت : إنما نزلت في أبي بكر وابنه عبد الرحمن حين أبى أن يسلم فحلف أبو بكر أن لا يورثه ، فلما أسلم حمل على الإسلام بالسيف ، أمر الله أن يورثه نصيبه ، والصحيح الأول ، وأن هذا كان في ابتداء الإسلام ، يتوارثون بالحلف ثم نسخ وبقي تأثير الحلف بعد ذلك ، وإن كانوا قد أمروا أن يوفوا بالعهود والعقود ، والحلف الذي كانوا قد تعاقدوه قبل ذلك . وهذا نص في الرد على من ذهب إلى التوارث بالحلف اليوم ، كما هو مذهب أبو حنيفة وأصحابه ، ورواية عن أحمد بن حنبل ، والصحيح قول الجمهور ( مالك والشافعي وأحمد ) في المشهور عنه ، ولهذا قال تعالى : { وَلِكُلٍّ جَعَلْنَا مَوَالِيَ مِمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } ، أي ورثة من قراباته من أبويه وأقربيه ، وهم يرثونه دون سائر الناس كما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(1/482)
« ألحقوا الفرائض بأهلها فما بقي فلأولى رجل ذكر » أي أقسموا الميراث على أصحاب الفرائض الذين ذكرهم الله في آيتي الفرائض ، فما بقي بعد ذلك فأعطوه للعصبة ، وقوله : { والذين عَقَدَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي قبل نزول هذه الآية فآتوهم نصيبهم أي من الميراث ، فأيما حلف عقد بعد ذلك فلا تأثير له ، وقد قيل : إن هذه الآية نسخت الحلف في المستقبل وحكم الحلف الماضي أيضاً فلا توارث به ، كما قال ابن عباس { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } قال : من النصرة والنصيحة والرفادة ، وقال سعيد بن جبير : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي من الميراث ، وقد اختار ابن جرر أن المراد بقوله : { فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ } أي من النصرة والنصيحة والمعونة ، لا أن المراد فآتوهم نصيبهم من الميراث حتى تكون الآية منسوخة ، ولا أن ذلك كان حكماً ثم نسخ ، بل إنما دلت الآية على الوفاء بالحلف المعقود على النصرة والنصيحة فقط ، فهي ( محكمة ) لا ( منسوخة ) وهذا الذي قال فيه نظر ، فإن من الحلف ما كان على المناصرة والمعاونة ، ومنه ما كان على الإرث كما حكاه غير واحد من السلف ، وكما قال ابن عباس كان المهاجري يرث الأنصاري دون قراباته وذوي رحمه ، حتى نسخ ذلك فكيف يقولون إن هذه الآية محكمة غير منسوخة؟ والله أعلم .
(1/483)
الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا (34)
يقول تعالى : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء } أي الرجل قيم على المرأة ، أي هو رئيسها وكبيرها والحاكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت { بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } أي لأن الرجال أفضل من النساء ، والرجل خير من المرأة ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال ، وكذلك الملك الأعظم لقوله صلى الله عليه وسلم : « لن يفلح قوم ولَّوا أمرهم امرأة » رواه البخاري ، وكذا منصب القضاء وغير ذلك { وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } أي من المهور والنفقات والكلف التي أوجبها الله عليهم لهن في كتابه وسنّة نبيه صلى الله عليه وسلم ، فالرجل أفضل من المرأة في نفسه ، وله الفضل عليها والإفضال ، فناسب أن يكون قيماً عليها كما قال الله تعالى : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } [ البقرة : 228 ] الآية ، وقال ابن عباس : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء } يعني أمراء عليهن ، أي تطيعه فيما أمرها الله به من طاعته ، وطاعتُه أن تكون محسنة لأهله حافظة لماله . وقال الحسن البصري : جاءت امرأة إلى النبي صلى الله عليه وسلم تشكو أن زوجها لطمها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « القصاص » فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء } الآية ، فرجعت بغير قصاص ، وقد أسنده ابن مردويه عن عليّ قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من الأنصار بامرأة له ، فقالت : يا رسول الله أن زوجها فلان بن فلان الأنصاري وإنه ضربها فأثر في وجهها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم ليس له ذلك ، فأنزل الله تعالى : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء } أي في الأدب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أردت أمراً وأراد الله غيره » أورد ذلك كله ابن جرير .
وقوله تعالى : { فالصالحات } أي من النساء { قَانِتَاتٌ } ، قال ابن عباس : يعني مطيعات لأزواجهن { حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ } وقال السدي وغيره : أي تحفظ زوجها في غيبته في نفسها وماله ، وقوله : { بِمَا حَفِظَ الله } أي المحفوظ من حفظه الله . عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خير النساء امرأة إذا نظرت إليها سرتك ، وإذا أمرتها أطاعتك ، وإذا غبت عنها حفظتك في نفسها ومالك » ، قال : ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء } إلى آخرها ، وقال الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن عوف قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا صلت المرأة خمسها ، وصامت شهرها ، وحفظت فرجها ، وأطاعت زوجها قيل لها ادخلي الجنة من أي الأبواب شئت » وقوله تعالى : { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ } أي النساء اللاتي تتخوفون أن ينشزن على أزواجهن ، والنشوز هو الارتفاع ، فالمرأة الناشز هي المرتفعة على زوجها ، التاركة لأمره ، المعرضة عنه ، المبغضة له ، فمتى ظهر لها منها أمارات النشوز فليعظها ، وليخوفها عقاب الله في عصيانه ، فإن الله قد أوجب حق الزوج عليها وطاعته ، وحرم عليها معصيته لما له عليها من الفضل والإفضال ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(1/484)
« لو كنت آمراً أحداً أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها » ، وروى البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت عليه لعنتها الملائكة حتى تصبح » ورواه مسلم ولفظه : « إذا باتت المرأة هاجرة فراش زوجها لعنتها الملائكة حتى تصبح » ، ولهذا قال تعالى : { واللاتي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ } .
وقوله تعالى : { واهجروهن فِي المضاجع } ، قال ابن عباس : الهجر هو أن لا يجامعها ، ويضاجعها على فراشها ويوليها ظهره ، وكذا قال غير واحد وزاد آخرون في رواية : ولا يكلمها مع ذلك ولا يحدثها ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : يعظها فإن هي قبلت ، وإلا هجرها في المضجع ولا يكلمها من غير أن يرد نكاحها وذلك عليها شديد . وقال مجاهد والشعبي : الهجر هو أن لا يضاجعها . وفي السنن والمسند عن ( معاوية بن حيدة القشيري ) أنه قال : « يا رسول الله ما حق امرأة أحدنا عليه؟ قال : » أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبّح ، ولا تهجر إلا في البيت « وقوله : { واضربوهن } أي إذا لم يرتدعن بالموعظة ولا بالهجران ، فلكم أن تضربوهن ضرباً غير مبرح ، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حجة الوداع : » واتقوا الله في النساء فإنهن عندكم عوان ، ولكم عليهن أن لا يطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن رزقهن وكسوتهن بالمعروف « وكذا قال ابن عباس وغير واحد : ضرباً غير مبرّح . قال الحسن البصري : يعني غير مؤثر ، قال الفقهاء : هو أن لا يكسر فيها عضواً ولا يؤثر فيها شيناً وقال ابن عباس : يهجرها في المضجع فإن أقبلت وإلا فقد أذن الله لك أن تضربها ضرباً غير مبرح ، ولا تكسر لها عظماً فإن أقبلت ، وإلا فقد أحل الله لك منها الفدية . وقال النبي صلى الله عليه وسلم : » لا تضربوا إماء الله « ، فجاء عمر رضي الله عنه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ذئرت النساء على أزواجهن ، فرخص رسول الله صلى الله عليه وسلم في ضربهن ، فأطاف بآل رسول الله صلى الله عليه وسلم نساء كثير يشتكين أزواجهن ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لقد أطاف بآل محمد نساء كثير يشتكين من أزواجهن ليس أولئك بخياركم « .
وقوله تعالى : { فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلاَ تَبْغُواْ عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً } أي إذا أطاعت المرأة زوجها في جميع ما يريده منها ، مما أباحه الله له منها فلا سبيل له عليها بعد ذلك ، وليس له ضربها ولا هجرانها . وقوله : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيّاً كَبِيراً } تهديد للرجال إذا بغوا على النساء من غير سبب ، فإن الله العلي الكبير وليهُنَّ ، وهو منتقم ممن ظلمهُنَّ وبغى عليهن .
(1/485)
وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا خَبِيرًا (35)
ذكر الحال الأول ، وهو : إذا كان النفور والنشوز من الزوجة ، ثم ذكر الحال الثاني : وهو إذا كان النفور من الزوجين فقال تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } ، وقال الفقهاء : إذا وقع الشقاق بين الزوجين أسكنهما الحاكم إلى جنب ثقة ، ينظر في أمرهما ويمنع الظالم منهما من الظلم ، فإن تفاقم أمرهما وطالت خصومتهما ، بعث الحاكم ثقة من أهل المرأة وثقة من قوم الرجل ، ليجتمعا فينظرا في أمرهما ويفعلا ما فيه المصلحة ، مما يريانه من التفريق أو التوفيق ، وتشوَّف الشارع إلى التوفيق ، ولهذا قال تعالى : { إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ } ، وقال ابن عباس : أمر الله عزّ وجلّ أن يبعثوا رجلاً صالحاً من أهل الرجل ، ورجلاً من أهل المرأة ، فينظران أيهما المسيء فإن كان الرجل هو المسيء حجبوا عنه امرأته وقصروه على النفقة ، وإن كانت المرأة هي المسيئة قصروها على زوجها ومنعوها النفقة ، فإن اجتمع رأيهما على أن يفرقا أو يجمعا فأمرهما جائز ، فإن رأيا أن يجمعا فرضي أحد الزوجين وكره الآخر ثم مات أحدهما فإن الذي رضي يرث الذي لم يرض ولا يرث الكاره الراضي . عن ابن عباس قال : بعثت أنا ومعاوية حكمين ، قال معمر : بلغني أن عثمان بعثهما وقال لهما : إن رأيتما أن تجمعا جمعتما ، وإن رأيتمان أن تفرقا ففرقا . وقال أنبأنا ابن جريج حدثني ابن أبي مليكة أن ( عقيل بن أبي طالب ) تزوج ( فاطمة بنت عتبة بن ربيعة ) فقالت : تصبر إلي وأنفق عليك ، فكان إذا دخل عليها قالت : أين عتبة بن ربيعة وشيبة بن ربيعة ، فقال : على يسارك في النار إذا دخلت؛ فشدت عليها ثيابها ، فجاءت عثمان فذكرت له ذلك ، فضحك ، فأرسل ابن عباس ومعاوية ، فقال ابن عباس : لأفرقن بينهما فقال معاوية : ما كنت لأفرق بين شخصين من بني عبد مناف ، فأتياهما فوجاهما قد أغلقا عليهما أبوابهما فرجعا . وعن محمد بن سيرين عن عبيدة قال : شهدت علياً وجاءته امرأة وزوجها مع كل واحد منهما فئام من الناس ، فأخرج هؤلاء حكماً وهؤلاء حكماً ، فقال علي للحكمين : أتدريان ما عليكما؟ إن عليكما إن رأيتما أن تجمعا جمعتما . فقالت المرأة رضيت بكتاب الله لي وعليَّ ، وقال الزوج أما الفرقة فلا ، فقال : علي كذبت ، والله لا تبرح حتى ترضى بكتاب الله عزَّ وجلَّ لك وعليك ، رواه ابن أبي حاتم .
وقد أجمع العلماء على ان الحكمين لهما الجمع والتفرقة ، حتى قال إبراهيم النخعي إن شاء الحكمان أن يفرقا بينهما بطلقة أو بطلقتين أو ثلاث فعلا ، وهو رواية عن مالك ، وقال الحسن البصري : الحكمان يحكمان في الجمع لا في التفرقة وكذا قال قتادة وزيد بن أسلم ، وبه قال أحمد بن حنبل وأبو ثور وداود ، ومأخذهم قوله تعالى : { إِن يُرِيدَآ إِصْلاَحاً يُوَفِّقِ الله بَيْنَهُمَآ } ، ولم يذكر التفريق ، وأما إذا كانا وكيلين من جهة الزوجين فإنه ينفذ حكمهما في الجمع والتفرقة بلا خوف .
(1/486)
وقد اختلف الأئمة في الحكمين : هل هما منصوبان من جهة الحاكم فيحكمان وإن لم يرض الزوجان؟ أو هما وكيلان من جهة الزوجين؟ على قولين ، والجمهور على الأول لقوله تعالى : { فابعثوا حَكَماً مِّنْ أَهْلِهِ وَحَكَماً مِّنْ أَهْلِهَآ } فسماهما حكمين ، ومن شأن الحكم أن يحكم بغير رضا المحكوم عليه ، وهذا ظاهر الآية . والجديد من مذهب الشافعي وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، الثاني منهما لقول علي رضي الله عنه للزوج حين قال أما الفرقة قال : كذبت حتى تقر بما أقرت به ، قالوا : فلو كانا حكمين لما افتقر إلى إقرار الزوج ، والله أعلم .
(1/487)
وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا (36)
يأمر تبارك وتعالى بعبادته وحده لا شريك له ، فإنه هو الخالق الرازق المنعم المتفضل على خلقه في جميع الحالات ، فهو المستحق منهم أن يوحدوه ولا يشركوا به شيئاً من مخلوقاته ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ بن جبل : « » أتدري ما حق الله على العباد؟ « قال الله ورسوله أعلم ، قال : » أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً « ، ثم قال : » أتدري ما حق العباد على الله إذا فعلوا ذلك؟ أن لا يعذبهم « ثم أوصى بالإحسان إلى الوالدين ، فإن الله سبحانه جعلهما سبباً لخروجك من العدم إلى الوجود ، وكثيراً ما يقرن الله سبحانه بين عبادته والإحسان إلى الوالدين ، كقوله : { أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ } [ لقمان : 14 ] ، وكقوله : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] ، ثم عطف على الإحسان إليهما بالإحسان إلى القرابات من الرجال والنساء كما جاء في الحديث : » الصدقة على المسكين صدقة ، وعلى ذي الرحم صدقة وصلة « .
ثم قال تعالى : { واليتامى } وذلك لأنهم فقدوا من يقوم بمصالحهم ومن ينفق عليهم ، فأمر الله بالإحسان إليهم والحنو عليهم ، ثم قال : { والمساكين } وهم المحاويج من ذوي الحاجات الذين لا يجدون من يقوم بكفايتهم ، فأمر الله سبحانه بمساعدتهم بما تتم به كفايتهم وتزول به ضرورتهم ، وسيأتي الكلام على الفقير والمسكين في سورة براءة ، وقوله : { والجار ذِي القربى والجار الجنب } قال ابن عباس : { والجار ذِي القربى } يعني الذي بينك وبينه قرابة { والجار الجنب } الذي ليس بينك وبينه قرابة ، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد ، وقال نوف البكالي في قوله : { والجار ذِي القربى } يعني الجار المسلم { والجار الجنب } يعني اليهودي والنصراني رواه ابن جرير وابن أبي حاتم وقال مجاهد أيضاً في قوله { والجار الجنب } يعني : الرفيق في السفر ، وقد وردت الأحاديث بالوصايا بالجار فلنذكر منها ما تيسر وبالله المستعان .
( الحديث الأول ) قال الإمام أحمد عن عبد الله بن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » ما زال جبريل يوصيني بالجار حتى ظننت أنه سيورثه « أخرجه في الصحيحين .
( الحديث الثاني ) : عن عبد الله بن عمرو بن العاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : » خير الأصحاب عند الله خيرهم لصاحبه وخير الجيران عند الله خيرهم لجاره « .
( الحديث الثالث ) : قال الإمام أحمد عن المقداد بن الأسود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : » « ما تقولون في الزنا »؟ قالوا : حرام حرمه الله ورسوله وهو حرام إلى يوم القيامة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لأن يزني الرجل بعشر نسوة أيسر عليه من أن يزني بحليلة جاره » ، قال : « ما تقولون في السرقة »؟ قالو : حرمها الله ورسوله فهي حرام إلى يوم القيامة ، قال : « لأن يسرق الرجل من عشرة أبيات أيسر عليه من أن يسرق من جاره » « .
(1/488)
( الحديث الرابع ) : قال أبو بكر البزار عن جابر بن عبد الله قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الجيران ثلاثة ، جار له حق واحد ، وهو أدنى الجيران حقاً . وجار له حقان ، وجار له ثلاثة حقوق وهو أفضل الجيران حقاً ، فأما الجار الذي له حق واحد فجار مشرك لا رحم له ، له حق الجوار ، وأما الجار الذي له حقان فجار مسلم له حق الإسلام ، وحق الجوار ، وأما الذي له ثلاثة حقوق فجار مسلم ذو رحم له حق الجوار ، وحق الإسلام ، وحق الرحم » .
( الحديث الخامس ) : روى الإمام أحمد عن عائشة : « أنها سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : إن لي جارين فإلى أيهما أهدي؟ قال : » إلى أقربهما منك باباً « ورواه البخاري من حديث شعبة به .
وقوله تعالى : { والصاحب بالجنب } عن علي وابن مسعود قالا : هي المرأة ، وقال ابن عباس ومجاهد : هو الرفيق في السفر ، وقال سعيد بن جبير : هو الرفيق الصالح ، وقال زيد بن أسلم : هو جليسك في الحضر ورفيقك في السفر ، وأما ابن السبيل فعن ابن عباس وجماعة هو الضيف ، وقال مجاهد والضحاك ومقاتل : هو الذي يمر عليك مجتازاً في السفر ، وهذا أظهر وإن كان مراد القائل بالضيف المار في الطريق فهما سواء وسيأتي الكلام على أبناء السبيل في سورة براءة وبالله الثقة وعليه التكلان .
وقوله تعالى : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } وصية بالأرقاء لأن الرقيق ضعيف الحيلة ، أسير في أيدي الناس ، فلهذا ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل يوصي أمته في مرض الموت يقول : » الصلاة الصلاة وما ملكت أيمانكم « فجعل يرددها حتى ما يفيض بها لسانه ، وقال الإمام أحمد عن المقدام بن معد يكرب قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما أطعمت نفسك فهو لك صدقة ، وما أطعمت ولدك فهو لك صدقة ، وما أطعمت زووجتك فهو لك صدقة ، وما أطعمت خادمك فهو لك صدقة « ورواه النسائي وإسناده صحيح .
وعن عبد الله بن عمرو أنه قال لقهرمان له : هل أعطيت الرقيق قوتهم؟ قال : لا . قال : فانطلق فأعطهم فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » كفى بالمرء إثماً أن يحبس عمن يملك قوتهم « ، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » للمملوك طعامه وكسوته ولا يكلف من العمل إلا ما يطيق « وعنه أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » إذا أتى أحدكم خادمه بطعامه فإن لم يجلسه معه فليناوله لقمة أو لقمتين أو أكلة أو أكلتين فإنه ولي حره وعلاجه «
(1/489)
أخرجاه ، ولفظه للبخاري ولمسلم : « فليقعده معه فليأكل ، فإن كان الطعام مشفوهاً قليلاً ، فليضع في يده أكلة أو أكلتين » وعن أبي ذر رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « هم إخوانكم خولكم جعلهم الله تحت أيديكم ، فمن كان أخوه تحت يده فليطعمه مما يأكل ، وليلبسه مما يلبس ، ولا تكلفوهم ما يغلبهم ، فإن كلفتموهم فأعينوهم » أخرجاه .
وقوله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } أي مختالاً في نفسه ، معجباً متكبراً فخوراً على الناس يرى أنه خير منهم ، فهو في نفسه كبير ، وهو عند الله حقير ، وعند الناس بغيض ، قال مجاهد في قوله : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً } يعني متكبراً ، { فَخُوراً } يعني : بعدما أعطى وهو لا يشكر الله تعالى ، يعني : يفخر على الناس بما أعطاه الله من نعمه ، وهو قليل الشكر لله على ذلك ، وقال ابن جرير عن أبي رجاء الهروي : لا تجد سيء الملكة إلا وجدته مختالاً فخوراً ، وتلا : { وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } الآية ، ولا عاقاً إلا وجدته جباراً شقياً ، وتلا : { وَبَرّاً بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيّاً } [ مريم : 32 ] . وقال مطرف : كان يبلغني عن أبي ذر حديث كنت أشتهي لقاءه ، فلقيته ، فقلت : يا ابا ذر بلغني أنك تزعم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : « إن الله يحب ثلاثة ويبغض ثلاثة ، قال : أجل ، قلت : من الثلاثة الذين يبغض الله؟ قال : المختال الفخور أوليس تجدونه عندكم في كتاب الله المنزل ، ثم قرأ الآية : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُوراً } . قلت : يا رسول الله أوصني قال : » إياك وإسبال الإزار . فإن إسبال الإزار من المخيلة ، وإن الله لا يحب المخيلة « .
(1/490)
الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَيَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَيَكْتُمُونَ مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (37) وَالَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا (38) وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَأَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَكَانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيمًا (39)
يقول تعالى ذاماً الذين يبخلون بأموالهم أن ينفقوها فيما أمرهم الله به من بر الوالدين ، والإحسان إلى الأقارب واليتامى والمساكين ، والجار ذي القربى ، والجار الجنب ، والصاحب بالجنب ، وابن السبيل ، وما ملكت أيمانكم من الأرقاء ، ولا يدفعون حق الله فيها ويأمرون الناس بالبخل أيضاً ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إياكم والشح فإنه أهلك من كان قبلكم ، أمرهم بالقطيعة فقطعوا ، وأمرهم بالفجور ففجروا » .
وقوله تعالى : { وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } ، فالبخيل جحودٌ لنعمة الله ولا تظهر عليه ، ولا تبين لا في مأكله ولا في ملبسه ولا في إعطائه وبذله ، كما قال تعالى : { إِنَّ الإنسان لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ * وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } [ العاديات : 6-7 ] أي بحاله وشمائله ، { وَإِنَّهُ لِحُبِّ الخير لَشَدِيدٌ } [ العاديات : 8 ] وقال هاهنا : { وَيَكْتُمُونَ مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } ، ولهذا توعدهم بقوله : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } ، والكفر هو الستر والتغطية ، فالبخيل يستر نعمة الله عليه ، ويكتمها ويجحدها فهو كافر لنعمة الله عليه ، وفي الحديث : « إن الله إذا أنعم نعمة على عبد أحب أن يظهر أثرها عليه » ، وفي الدعاء النبوي : « واجعلنا شاكرين لنعمتك ، مثنين بها عليك قابليها ، - وأتممها علينا » وقد حمل بعض السلف هذه الآية على بخل اليهود بإظهار العلم الذي عندهم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وكتمانهم ذلك ، ولهذا قال تعالى : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } ، ولا شك أن الآية محتملة لذلك ، والظاهر أن السياق في البخل بالمال ، وإن كان البخل بالعلم داخلاً في ذلك بطريق الأولى ، فإن السياق في الإنفاق على الأقارب والضعفاء كذلك الآية التي بعدها ، وهي قوله : { والذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ رِئَآءَ الناس } ، فإنه ذكر الممسكين المذمومين وهم البخلاء ، ثم ذكر الباذلين المرائين الذين يقصدون بإعطائهم السمعة وأن يمدحوا بالكرم ، ولا يريدون بذلك وجه الله . وفي حديث : « الثلاثة الذين هم أول من تسجر بهم النار وهم : ( العالم والغازي والمنفق والمراؤون بأعمالهم ) يقول صاحب المال ما تركت من شي تحب أن ينفق فيه إلا أنفقت في سبيلك ، فيقول الله : كذبت إنما أردت أن يقال جواد فقد قيل » ، أي أخذت جزاءك في الدنيا وهو الذي اردت بفعلك ، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعدي بن حاتم : « إن أباك أراد أمراً فبلغه » وفي حديث آخر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ( عبد الله بن جدعان ) ، هل ينفعه إنفاقه وإعتاقه؟ فقال : « لا ، إنه لم يقل يوماً من الدهر رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين » ، ولهذا قال تعالى : { وَلاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } الآية . أي إنما حملهم على صنيعهم هذا القبيح ، وعدولهم عن فعل الطاعة على وجهها الشيطان ، فإنه سوّل لهم وأملى لهم ، وقارنهم فحسن لهم القبائح ، ولهذا قال تعالى : { وَمَن يَكُنِ الشيطان لَهُ قَرِيناً فَسَآءَ قِرِيناً } ، ولهذا قال الشاعر :
(1/491)
عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه ... فكل قرين بالمقارن يقتدي
ثم قال تعالى : { وَمَاذَا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُواْ بالله واليوم الآخر وَأَنْفَقُواْ مِمَّا رَزَقَهُمُ الله } الآية ، أي وأي شيء يضرهم لو آمنوا بالله وسلكوا الطريق الحميدة ، وعدلوا عن الرياء إلى الإخلاص والإيمان بالله ، رجاء موعوده في الدار الآخرة لمن يحسن عمله ، وأنفقوا مما رزقهم الله في الوجوه التي يحبها الله ويرضاها؟! وقوله : { وَكَانَ الله بِهِم عَلِيماً } أي وهو عليم بنياتهم الصالحة والفاسدة ، وعليم بمن يستحق التوفيق منهم فيوفقه ويلهمه رشده ، ويقيضه لعمل صالح يرضى به عنه ، وبمن يستحق الخذلان والطرد عن جنابه الأعظم الآلهي ، الذي من طرد عن بابه فقد خاب ، وخسر في الدنيا والآخرة عياذاً بالله من ذلك .
(1/492)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا (40) فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَلَا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا (42)
يخبر جلَّ ثناؤه عباده بأنه سيوفيهم أجورهم ، ولا يظلم خلقه يوم القيامة مثقال حبة خردل ، ولا مثقال ذرة بل يوفيها له ويضاعفها له إن كانت حسنة كما قال تعالى : { وَنَضَعُ الموازين القسط } [ الأنبياء : 47 ] الآية ، وقال تعالى مخبراً عن لقمان : أنه قال : { يابني إِنَّهَآ إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السماوات أَوْ فِي الأرض يَأْتِ بِهَا الله } [ لقمان : 16 ] الآية ، وقال تعالى : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7-8 ] ، وفي الصحيحين عن أبي سعيد الخدري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة الطويل ، وفيه : « يقول الله عزَّ وجلَّ ارجعوا فمن وجدتم في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان فأخرجوه من النار » ؛ وفي لفظ : أدنى أدنى أدنى مثقال ذرة من إيمان فأخرجوه من النار ، « فيخرجون خلقاً كثيراً » ، ثم يقول أبو سعيد : اقرأوا إن شئتم { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ } الآية . وقال ابن أبي حاتم ، قال عبد الله بن مسعود : يؤتى بالعبد أو الأمة يوم القيامة فينادي مناد على رؤوس الأولين والآخرين : هذا فلان بن فلان ، من كان له حق فليأت إلى حقه ، فتفرح المرأة أن يكون لها الحق على أبيها أو أمها أو أخيها أو زوجها ، ثم قرأ : { فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، فيغفر الله من حقه ما يشاء ولا يغفر من حقوق الناس شيئاً ، فينصب للناس ، فيقول : ائتوا إلى الناس حقوقهم ، فيقول : يا رب فنيت الدنيا من أين أوتيهم حقوقهم؟ فيقول : خذوا من أعماله الصالحة فأعطوا كل ذي حق حقه بقدر مظلمته ، فإن كان ولياً لله ففضل له مثقال ذرة ضاعفها الله له حتى يدخله بها الجنة ، ثم قرأ علينا : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } ، وإن كان عبداً شقياً . قال الملك : رب فنيت حسناته وبقي طالبون كثير ، فيقول : خذوا من سيئاتهم فأضيفوها إلى سيئاته ، ثم صكوا له صكاً إلى النار ورواه ابن جرير . ولبعض هذا الأثر شاهد في الحديث الصحيح .
وروي عن سعيد بن جبير في قوله : { وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا } ، فأما المشرك فيخفف عنه العذاب يوم القيامة ولا يخرج من النار أبداً ، وقد يستدل له بالحديث الصحيح : « أن العباس قال يا رسول الله : إن عمك أبا طالب كان يحوطك وينصرك فهل نفعته بشيء؟ قال : نعم هو في ضحضاح من نار ، ولولا أنا لكان في الدرك الأسفل من النار » ، وقد يكون هذا خاصاً بأبي طالب من دون الكفار بدليل ما رواه أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(1/493)
« إن الله لا يظلم المؤمن حسنة يثاب عليها الرزق في الدنيا ويجزى بها في الآخرة وأما الكافر فيطعم بها في الدنيا ، فإذا كان يوم القيامة لم يكن له حسنة » وقال الحسن وقتادة : { وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } يعني الجنة ، نسأل الله رضاه والجنة . وروى ابن أبي حاتم عن أبي عثمان قال ، قلت : يا أبا هريرة سمعت إخواني بالبصرة يزعمون أنك تقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله يجزي بالحسنة ألف ألف حسنة » ، فقال أبو هريرة : والله بل سمعت نبي الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله يجزي بالحسنة ألفي ألف حسنة » ، ثم تلا هذه الآية : { فَمَا مَتَاعُ الحياة الدنيا فِي الآخرة إِلاَّ قَلِيلٌ } [ التوبة : 38 ] ، وقوله تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } يقول تعالى مخبراً عن هول يوم القيامة وشدة أمره وشأنه فكيف يكون الأمر والحال يوم القيامة ، حين يجيء من كل أمة بشهيد يعني الأنبياء عليهم السلام ، كما قال تعالى : { وَأَشْرَقَتِ الأرض بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الكتاب وَجِيءَ بالنبيين والشهدآء } [ الزمر : 69 ] الآية . وقال تعالى : { وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } [ النحل : 89 ] الآية . روى البخاري عن عبد الله بن مسعود قال : « قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : » اقرأ عليَّ « فقلت : يا رسول الله آقرا عليك وعليك أنزل؟ » قال : نعم ، إني أحب أن أسمعه من غيري « . فقرأت سورة النساء حتى أتيت إلى هذه الآية : { فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ على هؤلاء شَهِيداً } ؟ فقال : » حسبك الآن « فإذا عيناه تذرفان » .
وقوله تعالى : { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } أي لو انشقت وبلعتهم مما يرون من أهوال الموقف وما يحل بهم من الخزي والفضيحة والتوبيخ ، كقوله : { يَوْمَ يَنظُرُ المرء مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ } [ النبأ : 40 ] الآية . وقوله : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } إخبار عنهم بأنهم يعترفون بجميع ما فعلوه ولا يكتمون منه شيئاً ، عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل إلى ابن عباس ، فقال له : سمعت الله عزَّ وجلَّ يقول - يعني إخباراً عن المشركين يوم القيامة - إنهم قالوا : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، وقال في الآية الأخرى { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } ، فقال ابن عباس : أما قوله : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] فإنهم لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإسلام ، قالوا : تعالوا فلنجحد فقالوا : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] فختم الله على أفواههم وتكلمت أيديهم وأرجلهم { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } . وقال عبد الرزاق عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل إلى ابن عباس فقال : أشياء تختلف عليَّ في القرآن ، قال ما هو ، أشك في القرآن؟ قال : ليس هو بالشك ، ولكن اختلاف .
(1/494)
قال : فهات ما اختلف عليك من ذلك ، قال أسمع الله يقول : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، وقال : { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } فقد كتموا ، فقال ابن عباس : أما قوله { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، فإنهم لما روا يوم القيامة أن الله لا يغفر إلا لأهل الإسلام ويغفر الذنوب ولا يتعاظمه ذنب أن يغفره ، ولا يغفر شركاً ، جحد المشركون فقالوا : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] رجاء أن يغفر لهم ، فختم الله على أفواههم ، وتكلمت أيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ، فعند ذلك { يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } .
وقال الضحاك : إن نافع بن الأزرق أتى ابن عباس فقال : يا ابن عباس قول الله تعالى { يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ وَعَصَوُاْ الرسول لَوْ تسوى بِهِمُ الأرض وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } ، وقوله : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] فقال له ابن عباس : إني أحسبك قمت من عند أصحابك ، فقلت ألقي على ابن عباس متشابه القرآن فإذا رجعت إليهم فأخبرهم : أن الله تعالى يجمع الناس يوم القيامة في بقيع واحد ، فيقول المشركون : إن الله لا يقبل من أحد شيئاً إلا ممن وحَّده ، فيقولون تعالوا نجحد ، فيسألهم فيقولون : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } [ الأنعام : 23 ] ، قال فيختم الله على أفواههم ويستنطق جوارحهم ، وتشهد عليهم جوارحهم أنهم كانو مشركين ، فعند ذلك يتمنون لو أن الأرض سويت لهم { وَلاَ يَكْتُمُونَ الله حَدِيثاً } .
(1/495)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا (43)
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن فعل الصلاة في حال السكر ، الذي لا يدري معه المصلي ما يقول ، وعن قربان محالها - التي هي المساجد - للجنب إلا أن يكون مجتازاً من باب إلى باب من غير مكث؛ وقد كان هذا قبل تحريم الخمر كما دل عليه الحديث الذي ذكرناه في سورة البقرة عند قوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } [ الآية : 219 ] الآية ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلاها على عمر فقال : « اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً » ، فلما نزلت هذه الآية تلاها عليه ، فقال : « اللهم بين لنا في الخمر بياناً شافياً » ، فكانوا لا يشربون الخمر في أوقات الصلوات حتى نزلت : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ المائدة : 90 ] إلى قوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] ؟ فقال عمر : انتهينا انتهينا . وفي رواية عن عمر بن الخطاب في قصة تحريم الخمر ، فذكر الحديث وفيه : فنزلت الآية التي في النساء { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } ، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قامت الصلاة ينادي : أن لا يقربن الصلاة سكران .
( سبب آخر ) : عن علي بن ابي طالب قال : صنع لنا عبد الرحمن بن عوف طعاماً ، فدعانا وسقانا من الخمر فأخذت الخمر منا ، وحضرت فقدموا فلاناً قال فقرأ : قل يا أيها الكافرون ما أعبد ما تعبدون ونحن نعبد ما تعبدون ، فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } . وقال العوفي عن ابن عباس في الآية : إن رجالاً كانوا يأتون وهم سكارى قبل أن يحرم الخمر ، فقال الله : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } الآية ، رواه ابن جرير ، وعن قتادة : كانوا يجتنبون السكر عند حضور الصلوات ، ثم نسخ بتحريم الخمر ، وقال الضحاك : لم يعن بها سكر الخمر ، وإنما عنى بها سكر النوم . ثم قال ابن جرير : والصواب أن المراد سكر الشراب ، قال : ولم يتوجه النهي إلى السكران الذي لا يفهم الخطاب لأن ذاك في حكم المجنون ، وإنما خوطب بالنهي الثَّمِلُ الذي يفهم التكليف ، وهذا حاصل ما قاله . وقد ذكره غير واحد من الأصوليين ، وهو أن الخطاب يتوجه إلى من يفهم الكلام دون السكران الذي لا يدري ما يقال له ، فإن الفهم شرط التكليف ، وقد يحتمل أن يكون المراد التعريض بالنيه عن السكر بالكلية لكونهم مأمورين بالصلاة في الخمسة الأوقات من الليل والنهار ، فلا يتمكن شارب الخمر من أداء الصلاة في أوقاتها دائماً والله أعلم . وعلى هذا فيكون كقوله تعالى :
(1/496)
{ ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } [ آل عمران : 102 ] ، وهو الأمر لهم بالتأهب للموت على الإسلام والمداومة على الطاعة لأجل ذلك ، وقوله : { حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } هذا أحسن ما يقال في حد السكران أنه الذي لا يدري ما يقول ، فإن المخمور فيه تخليط في القراءة وعدم تدبره وخشوعه فيها ، وقد قال الإمام أحمد عن أنَس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا نعس أحدكم وهو يصلي فلينصرف ولينم حتى يعلم ما يقول » وفي بعض ألفاظ الحديث : « فلعله يذهب يستغفر فيسب نفسه » .
وقوله تعالى : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ } عن ابن عباس قال : لا تدخلوا المسجد وأنتم جنب إلا عابري سبيل ، قال تمر به مراً ولا تجلس ، يروى أن رجالاً من الأنصار كانت أبوابهم في المسجد فكانت تصيبهم الجنابة ولا ماء عندهم ، فيردون الماء ولا يجدون ممراً إلا في المسجد فأنزل الله : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } ويشهد لصحته ما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « سدوا كل خوخة في المسجد إلا خوخة أبي بكر » ، وهذا قاله في آخر حياته صلى الله عليه وسلم علماً منه أن أبا بكر رضي الله عنه سيلي الأمر بعده ، ويحتاج إلى الدخول في المسجد كثيراً للأمور المهمة فيما يصلح للمسلمين ، فأمر بسد الأبواب الشارعة إلى المسجد إلا بابه رضي الله عنه ، ومن روي ( إلا باب علي ) كما وقع في بعض السنن فهو خطأ ، والصواب ما ثبت في الصحيح . ومن هذه الآية احتج كثير من الأئمة على أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد ، ويجوز له المرور ، وكذا الحائض والنفساء أيضاً في معناه ، إلا أن بعضهم قال : يحرم مرورهما لاحتمال التلويث ، ومنهم من قال : إن أمنت كل واحدة منهما التلويث في حال المرور جاز لها المرور وإلا فلا ، وقد ثبت في صحيح مسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » ناوليني الخُمرة من المسجد « ، فقلت : إني حائض ، فقال : » إن حيضتك ليست في يدك « ، وفيه دلالة على جواز مرور الحائض في المسجد ، والنفساء في معناها والله أعلم . وروى أبو داود عن عائشة قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إني لا أحل المسجد لحائض ولا جنب « ، قال أبو مسلم الخطابي : ضعف هذا الحديث جماعة ، لكن رواه ابن ماجة عن أم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم . فأما ما رواه أبو عيسى الترمذي من حديث سالم بن أبي حفصة عن عطية عن أبي سعيد الخدري ، قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا علي لا يحل لأحد يجنب في هذا المسجد غيري وغيرك « فإنه حديث ضعيف لا يثبت ، فإن سالماً هذا متروك وشيخه عطية ضعيف والله أعلم .
(1/497)
وعن علي : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } قال : لا يقرب الصلاة إلا أن يكون مسافراً تصيبه الجنابة فلا يجد الماء فيصلي حتى يجد الماء ، ويستشهد لهذا القول بالحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن عن أبي ذر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الصعيد الطيب طهور المسلم ، وإن لم تجد الماء عشر حجج فإذا وجدت الماء فأمسه بشرتك فإن ذلك خير لك » ثم قال ابن جرير بعد حكايته القولين : والأولى قول من قال { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ } أي إلا عابري طريق فيه ، وذلك أنه قد بيَّن حكم المسافر إذا عدم الماء وهو جنب في قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ } إلى آخره ، فكان معلوماً بذلك أن قوله : { وَلاَ جُنُباً إِلاَّ عَابِرِي سَبِيلٍ حتى تَغْتَسِلُواْ } ، لو كان معنياً به المسافر لم يكن لإعادة ذكره في قوله : { وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ } معنى مفهوم ، وقد مضى حكم ذكره قبل ذلك ، فإذا كان ذلك كذلك ، فتأويل الآية : يا أيها الذين آمنوا لا تقربوا المساجد للصلاة مصلين فيها وأنتم سكارى حتى تعلموا ما تقولون ، ولا تقربوها أيضاً جنباً حتى تغتسلوا إلا عابري سبيل . قال : والعابر السبيل المجتاز مراً وقطعاً ، يقال منه : عبرت بهذا الطريق فأنا أعبره عبراً وعبوراً ، ومنه يقال : عبر فلان النهر إذا قطعه وجاوزه ، ومنه قيل للناقة القوية على الأسفار : هي عبر الأسفار لقوتها على قطع الأسفار ، وهذا الذي نصره هو قول الجمهور ، وهو الظاهر من الآية ، وكأنه تعالى نهى عن تعاطي الصلاة على هيئة ناقصة تناقص مقصودها ، وعن الدخول إلى محلها على هيئة ناقصة ، وهي الجنابة المباعدة للصلاة ولمحلها أيضاً . والله أعلم .
وقوله تعالى : { حتى تَغْتَسِلُواْ } دليل لما ذهب إليه الأئمة الثلاثة ( أبو حنيفة ومالك والشافعي ) أنه يحرم على الجنب المكث في المسجد حتى يغتسل أو يتيمم إن عدم الماء ، أو لم يقدر على استعماله بطريقة ، وذهب ( الإمام أحمد ) إلى أنه متى توضأ الجنب جاز له المكث في المسجد ، لما روي بسند صحيح أن الصحابة كانوا يفعلون ذلك . قال سعيد بن منصور في سننه عن عطاء بن يسار قال : رأيت رجالاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يجلسون في المسجد وهم مجنبون إذا توضأوا وضوء الصلاة ، وهذا إسناد صحيح على شرط مسلم ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَإِنْ كُنْتُمْ مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } أما المرض المبيح للتيمم فهو الذي يخاف معه من استعمال الماء فوات عضو أو شينة أو تطويل البرء ، ومن العلماء من جوز التيمم بمجرد المرض لعموم الآية ، قال مجاهد : نزلت في رجل من الأنصار كان مريضاً ، فلم يستطع أن يقوم فيتوضأ ، ولم يكن له خادم فيناوله ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر ذلك له ، فأنزل الله هذه الآية .
(1/498)
والسفر معروف ولا فرق فيه بين الطويل والقصير ، وقوله : { أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّن الغآئط } الغائط هو المكان المطمئن من الأرض ، كني بذلك عن التغوط وهو الحدث الأصغر .
وأما قوله تعالى : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء } فقرئ لمستم ولامستم ، واختلف المفسرون الأئمة في معنى ذلك على قولين : ( أحدهما ) أن ذلك كناية عن الجماع لقوله : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ البقرة : 237 ] وقال تعالى : { إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ } [ الأحزاب : 49 ] قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء } قال : الجماع . وقال ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : ذكروا اللمس ، فقال ناس من الموالي : ليس بالجماع ، وقال ناس من العرب اللمس : الجماع ، قال : فلقيت ابن عباس فقلت له : إن ناساً من الموالي والعرب اختلفوا في اللمس ، فقالت الموالي : ليس بالجماع ، وقالت العرب : الجماع قال : فمن أي الفريقين كنت؟ قلت : كنت من الموالي ، قال غلب فريق الموالي ، إن اللمس والمس والمباشرة : الجماع ولكن الله يكني ما شاء بما شاء وقد صح من غير وجه عن عبد الله بن عباس أنه قال ذلك ، وقال آخرون : عنى الله تعالى بذلك كل من لمس بيد أو بغيرها من أعضاء الإنسان وأوجب الوضوء على كل من مس بشيء من جسده شيئاً من جسدها مفضياً إليه . عن عبد الله بن مسعود قال : القبلة من المس وفيها الوضوء ، وروى الطبراني عن عبد الله بن مسعود قال : يتوضأ الرجل من المباشرة ، ومن اللمس بيده ، ومن القبلة ، وكان يقول في هذه الآية : { أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء } هو الغمز ، وروى مالك عن عبد الله بن عمر عن أبيه أنه كان يقول : قبلة الرجل امرأته وجسه بيده من الملامسة ، فمن قبَّل امرأته أو جسها بيده فعليه الوضوء ، وروى الحافظ أبو الحسن الدارقطني في سننه عن عمر بن الخطاب نحو ذلك ، ولكن روينا عنه من وجه آخر أنه كان يقبل امرأته ثم يصلي ولا يتوضأ ، فالرواية عنه مختلفة ، فيحمل ما قاله في الوضوء إن صح عنه على الاستحباب والله أعلم . والقول بوجوب الوضوء من المس هو قول ( الشافعي ومالك ) والمشهور عن أحمد بن حنبل ، قال ناصروه : قد قرىء في هذه الآية لامستم ولمستم ، واللمس يطلق في الشرع على الجس باليد قال تعالى : { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } [ الأنعام : 7 ] أي جسوه ، وقال صلى الله عليه وسلم لماعز حين أقر بالزنا يعرّض له بالرجوع عن الإقرار :
(1/499)
« لعلك قبلت أو لمست » وفي الحديث الصحيح : « واليد زناها اللمس » وقالت عائشة رضي الله عنها : قلّ يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف علينا فيقبل ويلمس ، ومنه ما ثبت في الصحيحين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الملامسة هو يرجع إلى الجس باليد على كلا التفسيرين ، قالوا : ويطلق في اللغة على الجس باليد ، كما يطلق على الجماع ، قال الشاعر :
ولمست كفي كفه أطلب الغنى ... وقال ابن جرير وأولى القولين في ذلك بالصواب قول من قال : عنى الله بقوله { أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء } الجماع دون غيره من معاني اللمس لصحة الخبر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قبَّل بعض نسائه ثم صلى ولم يتوضأ . وقالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتوضأ ثم يقبل ، ثم يصلي ولا يتوضأ ، وحدث عروة عن عائشة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل بعض نسائه ثم خرج إلى الصلاة ولم يتوضأ ، قلت : من هي إلا أنت؟ فضحكت . وعن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقبلها وهو صائم ثم لا يفطر ولا يحدث وضوءاً .
وقوله تعالى : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } استنبط كثير من الفقهاء من هذه الآية أنه لا يجوز التيمم لعادم الماء إلا بعد طلب الماء ، فمتى طلبه فلم يجده جاز له حينئذ التيمم لحديث ( عمران بن حصين ) « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً معتزلاً لم يصلِّ مع القوم ، فقال : » يا فلان ما منعك أن تصلي مع القوم ، ألست برجل مسلم «؟ قال : بلى يا رسول الله ولكن أصابتني جنابة ولا ماء ، قال : » عليك بالصعيد فإنه يكفيك « ولهذا قال تعالى : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } فالتيمم في اللغة : هو القصد . تقول العرب : تيممك الله بحفظه أي قصدك ومنه قول امرىء القيس شعراً :
ولما رأت أن المنية وردها ... وأن الحصى من تحت أقدامها دامي
تيممت العين التي عند ضارج ... يفيء عليها الفيء عرمضها طامي
والصعيد قيل : هو كل ما صعد على وجه الأرض ، فيدخل فيه التراب والرمل والشجر والنبات وهو قول مالك ، وقيل : ما كان من جنس التراب كالرمل والزرنيخ والنورة وهذا مذهب أبي حنيفة ، وقيل : هو التراب فقط ، وهو قول الشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهما واحتجوا بقوله تعالى : { فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً } [ الكهف : 40 ] أي تراباً أملس طيباً ، وبما ثبت في صحيح مسلم عن حذيفة بن اليمان قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فضلنا على الناس بثلاث : جعلت صفوفنا كصفوف الملائكة ، وجعلت لنا الأرض كلها مسجداً ، وجعلت تربتها لنا طهوراُ إذا لم نجد الماء «
(1/500)
وفي لفظ : « وجعل ترابها لنا طهوراً إذا لم نجد الماء » قالوا فخصص الطهورية بالتراب في مقام الامتنان ، فلو كان غيره يقوم مقام لذكره معه ، والطيب هاهنا : قيل الحلال ، وقيل الذي ليس بنجس .
وقوله تعالى : { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } التيمم بدل عن الوضوء في التطهير به ، لا أنه بدل منه في جميع أعضائه ، بل يكفي مسح الوجه واليدين فقط بالإجماع ، ولكن اختلف الأئمة في كيفية التيمم على أقوال : أحدها - وهو مذهب الشافعي في الجديد - أنه يجب أن يمسح الوجه واليدين إلى المرفقين بضربتين ، لأن لفظ اليدين يصدق إطلاقها على ما يبلغ المنكبين وعلى ما يبلغ المرفقين كما في آية الوضوء ، ويطلق ويراد بهما ما يبلغ الكفين كما في آية السرقة : { فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } [ المائدة : 38 ] ، قالو : وحمل ما أطلق هاهنا على ما قيد في آية الوضوء أولى لجامع الطهورية ، وذكر بعضهم ما رواه الدار قطني عن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « التيمم ضربتان ، ضربة للوجه ، وضربة لليدين إلى المرفقين » والقول الثاني : أنه يجب مسح الوجه واليدين إلى الكفين بضربتين ، وهو قول الشافعي في القديم ، والثالث أنه يكفي مسح الوجه والكفين بضربة واحدة لما روي أن رجلاً أتى عمر فقال : إني أجنبت فلم أجد ماء؛ فقال عمر : لا تصل . قال عمار : أما تذكر يا أمير المؤمنين إذ أنا وأنت في سرية فأجنبنا فلم نجد ماء ، فأما أنت فلم تصل ، وأما أنا فتمعكت في التراب فصليت ، فلما أتينا النبي صلى الله عليه وسلم ذكرت ذلك له ، فقال : « إنما كان يكفيك وضرب النبي صلى الله عليه وسلم بيده الأرض ثم نفخ فيها ومسح بها وجهه وكفيه » ؟ . ( طريق أخرى ) : قال أحمد عن سليمان الأعمش ، حدثنا شقيق قال : كنت قاعداً مع ( عبد الله ) و ( أبي موسى ) فقال أبو يعلى لعبد الله : لو أن رجلاً لم يجد الماء ، لم يصلِّ؟ فقال عبد الله ألا تذكر ما قال عمار لعمر؟ ألا تذكر إذ بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم وإياك في إبل فأصابتني جنابة فتمرغت في التراب ، فلما رجعت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أخبرته ، فضحك رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال : « إنما كان يكفيك أن تقول هكذا ، وضرب بكفيه إلى الأرض ، ثم مسح كفيه جميعاً ، ومسح وجهه مسحة واحدة بضربة واحدة » ؟ فقال عبد الله : لا جرم ما رأيت عمر قنع بذلك ، قال ، فقال له أبو موسى : فيكف بهذه الآية في سورة النساء : { فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً } ؟ قال : فما درى عبد الله ما يقول . وقال : لو رخصنا لهم في التيمم لأوشك أحدهم إذا برد الماء على جلده أن يتيمم .
(1/501)
وقال في المائدة : { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ } ، فقد استدل بذلك الشافعي على أنه لا بد في التيمم أن يكون بتراب طاهر له غبار يعلق بالوجه واليدين منه شيء .
وقوله تعالى : { مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } [ المائدة : 6 ] أي في الدين الذي شرعه لكم { ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ } [ المائدة : 6 ] فلهذا أباح التيمم . إذا لم تجدوا الماء أن تعدلوا إلى التيمم بالصعيد ، والتيمم نعمة عليكم لعلكم تشكرون ، ولهذا كانت هذه الأمة مخصوصة بمشروعية التيمم دون سائر الأمم ، كما ثبت في الصحيحن عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعطيت خمساً لم يعطهن أحد قبلي ، نصرت بالرعب مسيرة شهر؛ وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل » ، وفي لفظ : « فعنده مسجده وطهوره ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة وكان يبعث النبي إلى قومه وبعثت إلى الناس كافة » وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : { فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } أي ومن عفوه عنكم وغفرانه ولكم أن شرع لكم التيمم ، وأباح لكم فعل الصلاة به إذا فقدتم الماء ، توسعة عليكم ورخصة لكم ، وذلك أن هذه الآية الكريمة فيها تنزيه الصلاة أن تفعل على هيئة ناقصة من سكر حتى يصحوا المكلف ويعقل ما يقول ، أو جنابة حتى يغتسل ، أو حدث حتى يتوضأ إلا أن يكون مريضاً أو عادماً للماء ، فإن الله عزَّ وجلَّ قد أرخص في التيمم - والحالة هذه - رحمة بعباده ورأفة بهم وتوسعة عليهم ، ولله الحمد والمنة .
( ذكر سبب نزول مشروعية التيمم )
وإنما ذكرنا ذلك هاهنا لأن هذه الآية التي في النساء متقدمة النزول على آية المائدة ، وبيانه أن هذه نزلت قبل تحريم الخمر ، والخمر إنما حرم بعد أُحُد بيسير ، في محاصرة النبي صلى الله عليه وسلم لبني النضير ، وأما المائدة فإنها من آخر ما نزل ولا سيما صدرها ، فناسب أن يذكر السبب هنا وبالله الثقة . قال البخاري عن عائشة قالت : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره ، حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش انقطع عقد لي ، فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه ، وأقام الناس معه وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فأتى الناس إلى ابي بكر فقالوا : ألا ترى ما صنعت عائشة؟ أقامت برسول الله صلى الله عليه وسلم وبالناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء ، فجاء أبو بكر ورسول الله صلى الله عليه وسلم واضع رأسه على فخذي قد نام ، فقال : حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس وليسوا على ماء وليس معهم ماء!! قالت عائشة : فعاتبني أبو بكر وقال ما شاء الله أن يقول وجعل يطعن بيده في خاصرتي ، ولا يمنعني من التحرك إلا مكان رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على غير ماء حين أصبح ، فأنزل الله آية التيمم فتيموا ، فقال أسيد بن الحضير : ما هي بأول بركتكم يا آل أبي بكر ، قالت : فبعثنا البعير الذي كنت عليه فوجدنا العقد تحته .
(1/502)
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن ابن عباس عن عمار بن ياسر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عرَّس بذات الجيش ومعه زوجته عائشة ، فانقطع عقد لها من جزع ظفار ، فحبس الناس ابتغاء عقدها ذلك حتى أضاء الفجر وليس مع الناس ماء ، فأنزل الله على رسوله رخصة التطهير بالصعيد الطيب ، فقام المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فضربوا بأيديهم إلى الأرض ثم رفعوا أيديهم ولم ينفضوا من التراب شيئاً فمسحوا بها وجوههم وأيديهم إلى المناكب ، ومن بطون أيديهم إلى الآباط .
( حديث آخر ) : قال الحافظ بن مردويه عن الأسلع بن شريك ، قال : « كنت أرحِّل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم فأصابتني جنابة في ليلة باردة ، وأراد رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحلة ، فكرهت أن أرحل ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا جنب ، وخشيت أن أغتسل بالماء البارد فأموت أو أمرض ، فأمرت رجلاً من الأنصار فرحلها ، ثم رضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء واغتسلت ، ثم لحقت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقال : » يا أسلع مالي أرى رحلتك قد تغيرت « قلت يا رسول الله : لم أرحلها ، رحلها رجل من الأنصار ، قال : » ولم «؟ قالت : إني أصابتني جنابة فخشيت القر على نفسي ، فأمرته أن يرحلها ورضفت أحجاراً فأسخنت بها ماء فاغتسلت به ، فأنزل الله تعالى : { لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } إلى قوله { إِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً غَفُوراً } » وقد روي من وجه آخر عنه .
(1/503)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يَشْتَرُونَ الضَّلَالَةَ وَيُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ وَكَفَى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَكَفَى بِاللَّهِ نَصِيرًا (45) مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (46)
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ، أنهم يشترون الضلالة بالهدى ، ويعرضون عما أنزل الله على رسوله ، ويتركون ما بأيديهم من العلم عن الأنبياء الأولين في صفة محمد صلى الله عليه وسلم ليشتروا به ثمناً قليلاً من حطام الدنيا { وَيُرِيدُونَ أَن تَضِلُّواْ السبيل } أي يودون لو تكفرون بما أنزل عليكم أيها المؤمنون ، وتتركون ما أنتم عليه من الهدى والعلم النافع ، { والله أَعْلَمُ بِأَعْدَائِكُمْ } أي : هو أعلم بهم ويحذركم منهم ، { وكفى بالله وَلِيّاً وكفى بالله نَصِيراً } أي : كفى به ولياً لمن لجأ إليه ونصيراً لمن استنصره ، ثم قال تعالى : { مِّنَ الذين هَادُواْ } « من » في هذا لبيان الجنس كقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ، وقوله : { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } أي : يتأولونه على غير تأويله ، ويفسرونه بغير مراد الله عزَّ وجلَّ قصداً منهم وافتراء ، { وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا } أي : سمعنا ما قلته يا محمد ، ولا نطيعك فيه . . . هكذا فسره مجاهد وهو المراد ، وهذا أبلغ في كفرهم وعنادهم ، وأنهم يتولون عن كتاب الله بعدما عقلوه وهم يعلمون ما عليهم في ذلك من الإثم والعقوبة .
وقولهم : { واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ } أي : اسمع ما نقول لا سمعت ، رواه ابن عباس ، وقال مجاهد والحسن : واسمع غير مقبول منك ، قال ابن جرير : والأول أصح وهو كما قال ، وهذا استهزاء منهم واستهتار ، عليهم لعنة الله { وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين } أي : يوهمون أنهم يقولون راعنا سمعك بقولهم راعنا ، وإنما يريدون الرعونة بسبهم النبي ، وقد تقدم الكلام على هذا عند قوله : { يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا } [ البقرة : 104 ] ، ولهذا قال تعالى عن هؤلاء اليهود الذين يريدون بكلامهم خلاف ما يظهرونه : { لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين } يعني : بسبهم النبي صلى الله عليه وسلم ، ثم قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا واسمع وانظرنا لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَكِن لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي : قلوبهم مطرودة عن الخير مبعدة منه فلا يدخلها من الإيمان شيء نافع لهم ، وقد تقدم الكلام على قوله تعالى : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 88 ] ، والمقصود أنهم لا يؤمنون إيماناً نافعاً .
(1/504)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ آمِنُوا بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهًا فَنَرُدَّهَا عَلَى أَدْبَارِهَا أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّا أَصْحَابَ السَّبْتِ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا (47) إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا (48)
يأمر الله تعالى أهل الكتاب بالإيمان بما نزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم من الكتاب العظيم ، الذي فيه تصديق الأخبار التي بأيديهم من البشارات ، ومتهدداً لهم إن لم يفعلوا بقوله : { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ } . قال بعضهم : معناه من قبل أن نطمس وجوهاً ، فطمسها هو ردها إلى الأدبار وجعل أبصارهم من ورائهم ، ويحتمل أن يكون المراد من قبل أن نطمس وجوهاً فلا نبقي لها سمعاً ولا بصراً ولا أنفاً ، ومع ذلك نردها إلى ناحية الأدبار ، وقال ابن عباس : طمسها أن تعمى { فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ } يقول : نجعل وجوههم من قبل أقفيتهم فيمشون القهقرى ، ونجعل لأحدهم عينين من قفاه ، وهذا أبلغ في العقوبة والنكال ، وهذا مثل ضربه الله لهم في صرفهم عن الحق وردهم إلى الباطل ، ورجوعهم عن المحجة البيضاء إلى سبيل الضلالة يهرعون ويمشون القهقرى على أدبارهم ، وهذا كما قال بعضهم في قوله : { إِنَّا جَعَلْنَا في أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى الأذقان فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً } [ يس : 8-9 ] الآية : أي هذا مثل سوء ضربه الله لهم في ضلالهم ومنعهم عن الهدى ، قال مجاهد : { مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً } يقول عن صراط الحق { فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ } أي في الضلال ، قال السدي : { فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ } فنمنعها عن الحق ، قال : نرجعها كفاراً ونردهم قردة . وقد ذكر أن كعب الأحبار أسلم حين سمع هذه الآية . قال ابن جرير عن عيسى بن المغيرة ، قال : تذاكرنا عند ابراهيم إسلام كعب ، فقال : أسلم كعب زمان عمر ، أقبل وهو يريد بيت المقدس ، فمر على المدينة فخرج إليه عمر ، فقال : يا كعب أسلم فقال : ألستم تقولون في كتابكم : { مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة } [ الجمعة : 5 ] إلى { أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] ، وأنا قد حملت التوراة ، قال : فتركه عمر ، ثم خرج حتى انتهى إلى حمص فسمع رجلاً من أهلها حزيناً ، وهو يقول : { يَا أَيُّهَآ الذين أُوتُواْ الكتاب آمِنُواْ بِمَا نَزَّلْنَا مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ مِّن قَبْلِ أَن نَّطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّهَا على أَدْبَارِهَآ } الآية . قال كعب : يا رب أسلمت مخافة أن تصيبه هذه الآية ، ثم رجع فأتى أهله في اليمن ، ثم جاء بهم مسلمين .
وقوله تعالى : { أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَمَا لَعَنَّآ أَصْحَابَ السبت } يعني : اعتدوا في سبتهم بالحيلة على الاصطياد وقد مسخوا قردة وخنازير ، وقوله : { وَكَانَ أَمْرُ الله مَفْعُولاً } أي : إذا أمر بأمر فإنه لا يخالف ولا يمانع ، ثم أخبر تعالى أنه لا يغفر أن يشرك به أي لا يغفر لعبد لقيه وهو مشرك به ويغفر ما دون ذلك ، أي من الذنوب ، لمن يشاء : أي من عباده ، وقد وردت أحاديث متعلقة بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر .
(1/505)
( الحديث الأول ) : عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الظلم ثلاثة ، فظلم لا يغفره الله ، وظلم يغفره الله ، وظلم لا يترك الله منه شيئاً فأما الظلم الذي لا يغفره الله فالشرك ، وقال : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] ، وأما الظلم الذي يغفره الله فظلم العباد لأنفسهم فيما بينهم وبين ربهم ، وأما الظلم الذي لا يتركه فظلم العباد بعضهم بعضاً حتى يدين لبعضهم من بعض » .
( الحديث الثاني ) : عن أبي إدريس قال سمعت معاوية يقول ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً » .
( الحديث الثالث ) : عن أبي ذر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من عبد قال لا إله إلا الله ثم مات على ذلك إلا دخل الجنة . قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال : وإن زنى وإن سرق . قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال : وإن زنى وإن سرق - ثلاثاً ، ثم قال في الرابعة : على رغم أنف أبي ذر » ، قال فخرج أبو ذر وهو يجر إزاره وهو يقول : وإن رغم أنف أبي ذر ، وكان أبو ذر يحدث بهذا بعد ويقول : وإن رغم أنف أبي ذر . وعن أبي ذر قال : « كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرة المدينة عشاء ونحن ننظر إلى أحد ، فقال : » يا أبا ذر! قلت : لبيك يا رسول الله ، قال : « ما أحب أن لي أحداً ذاك عندي ذهباً أمسي ثالثة وعندي منه دينار إلا ديناراً أرصده ، يعني لدين ، إلا أن أقول به في عباد الله هكذا وهكذا » فحثا عن يمينه وعن يساره وبين يديه قال ثم مشينا فقال : « يا أبا ذر إن الأكثرين هم الأقلون يوم القيامة إلا من قال هكذا وهكذا » ، فحثا عن يمينه ومن بين يديه وعن يساره ، قال : ثم مشينا فقال : « يا أبا ذر كما أنت حتى آتيك » ، قال : فانطلق حتى توارى عني ، قال : فسمعت لغطاً ، فقلت : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عرض له ، قال : فهممت أن أتبعه ، قال : فذكرت قوله لا تبرح حتى آتيك ، فانتظرته حتى جاء ، فذكرت له الذي سمعت ، فقال : « ذاك جبريل أتاني ، فقال : من مات من أمتك لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة » . قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال : « وإن زنى وإن سرق » « .
( الحديث الرابع ) : عن جابر ، قال : » جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله ما الموجبتان؟ قال : « من مات لا يشرك بالله شيئاً وجبت له الجنة ومن مات يشرك بالله شيئاً وجبت له النار » « .
(1/506)
( الحديث الخامس ) : قال الإمام أحمد ، عن ضمضم بن جوش اليمامي قال ، قال لي أبو هريرة : « يا يمامي! لا تقولن لرجل لا يغفر الله لك ، أو لا يدخلك الجنة أبداً ، فقلت : يا أبا هريرة إن هذه كلمة يقولها أحدنا لأخيه وصاحبه إذا غضب ، قال : لا تقلها فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » كان في بني إسرائيل رجلان أحدهما مجتهد في العبادة ، وكان الآخر مسرفاً على نفسه ، وكانا متآخيين ، وكان المجتهد لا يزال يرى الآخر على الذنب فيقول : يا هذا أقصر ، فيقول : خلِّني وربي أبعثت عليّ رقيباً؟ إلى ان رآه يوماً على ذنب استعظمه ، فقال له : ويحك أقصر ، قال : خلِّني وربي ، أبعثت عليَّ رقيباً؟ فقال : والله لا يغفر الله لك ولا يدخلك الجنة أبداً ، قال : فبعث الله إليهما ملكاً فقبض أرواحهما واجتمعا عنده ، فقال للمذنب : اذهب فادخل الجنة برحمتي ، وقال للآخر : أكنت عالماً ، أكنت على ما في يدي قادراً؟ اذهبوا به إلى النار . قال : والذي نفس أبي القاسم بيده إنه لتكلم بكلمة أو بقت دنياه وآخرته « » .
(1/507)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشَاءُ وَلَا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَكَفَى بِهِ إِثْمًا مُبِينًا (50) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَالطَّاغُوتِ وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هَؤُلَاءِ أَهْدَى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا (51) أُولَئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَمَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيرًا (52)
قال الحسن وقتادة نزلت هذه الآية - وهي قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } - في اليهود والنصارى حين قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه ، وفي قولهم { وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] ، وقال مجاهد : كانوا يقدمون الصبيان أمامهم في الدعاء والصلاة يؤمونهم ويزعمون أنهم لا ذنوب لهم ، وقال ابن عباس في قوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } وذلك أن اليهود قالوا : إن أبناءنا توفوا وهم لنا قربة ويشفعون لنا ويزكوننا ، فأنزل الله على محمد : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } الآية . وقال الضحاك : قالوا ليس لنا ذنوب كما ليس لأبنائنا ذنوب ، فأنزل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } فيهم ، وقيل : نزلت في ذم التمادح والتزكية؛ وفي صحيح مسلم عن المقداد بن الأسود قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نحثوا في وجوه المداحين التراب ، وفي الصحيحين عن عبد الله بن أبي بكرة عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يثني على رجل فقال : « ويحك قطعت عنق صاحبك » ثم قال : « إن كان أحدكم مادحاً صاحبه لا محالة فليقل أحسبه كذا ولا يزكي على الله أحداً » ، وروى ابن مردويه عن عمر أنه قال : إن أخوف ما أخاف عليكم إعجاب المرء برأيه ، فمن قال إنه مؤمن فهو كافر ، ومن قال هو عالم فهو جاهل ، ومن قال هو في الجنة فهو في النار ، وقال الإمام أحمد عن معبد الجهني قال : كان معاوية قلما كان يحدث عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : وكان قلما يكاد يدع يوم الجمعة هؤلاء الكلمات أن يحدث بهن عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « من يرد الله به خيراً يفقهه في الدين ، وإن هذا المال حلو خضر ، فمن يأخذه بحقه يبارك فيه ، وإياكم والتمادح فإنه الذبح » وقال ابن جرير قال عبد الله بن مسعود : إن الرجل ليغدوا بدينه ثم يرجع وما معه منه شيء يلقى الرجل ليس يملك له ضراً ولا نفعاً فيقول له إنك والله كيت وكيت ، فلعله أن يرجع ولم يحظ من حاجته بشيء وقد أسخط الله ، ثم قرأ : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ } الآية ولهذا قال تعالى : { بَلِ الله يُزَكِّي مَن يَشَآءُ } أي المرجع في ذلك إلى الله عزَّ وجلَّ لأنه أعلم بحقائق الأمور وغوامضها ، ثم قال تعالى : { وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي ولا يترك لأحد من الأجر ما يوازن مقدار الفتيل ، قال ابن عباس : هو ما يكون في شق النواة .
وقوله تعالى : { انظُرْ كَيفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الكَذِبَ } أي في تزكيتهم أنفسهم ودعواهم أنهم أبناء الله وأحباؤه ، وقولهم :
(1/508)
{ وَقَالُواْ لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] وقولهم : { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } [ آل عمران : 24 ] ، واتكالهم على أعمال آبائهم الصالحة ، وقد حكم الله أن أعمال الآباء لا تجزي عن الأبناء شيئاً في قوله : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ } [ البقرة : 134 ، 141 ] الآية ، ثم قال : { وكفى بِهِ إِثْماً مُّبِيناً } أي وكفى بصنيعهم هذا كذباً وافتراء ظاهراً . وقوله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب يُؤْمِنُونَ بالجبت والطاغوت } ، أما الجبت فقال عمر بن الخطاب : ( الجبتْ ) السحر؛ و ( الطاغوت ) الشيطان ، وهكذا روي عن ابن عباس ومجاهد ، وعن ابن عباس وأبي العالية : ( الجبت ) الشيطان ، وعنه : الجبت الأصنام . وعن مجاهد : الجبت كعب بن الأشرف . وقال الجوهري في كتاب الصحاح : الجبت كلمة تقع على الصنم والكاهن والساحر ونحو ذلك ، وفي الحديث : « الطير والعيافة والطرق من الجبت » وقد تقدم الكلام على الطاغوت في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا .
وقوله تعالى : { وَيَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ هؤلاء أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلاً } أي يفضلون الكفار على المسلمين بجهلهم ، وقلة دينهم ، وكفرهم بكتاب الله الذي بأيديهم ، وقد روى ابن أبي حاتم عن عكرمة ، قال : جاء حيي بن أخطب وكعب بن الأشرف إلى أهل مكة ، فقالوا لهم : أنتم أهل الكتاب وأهل العلم فأخبرونا عنا ، وعن محمد ، فقالوا : ما أنتم وما محمد؟ فقالوا : نحن نصل الأرحام ، وننحر الكوماء ، ونسقي الماء على اللبن ، ونفك العاني ، ونسقي الحجيج ، ومحمد صنبور قطع أرحامنا واتبعه سراق الحجيج من غفار فنحن خير أم هو؟ فقالوا : أنتم خير وأهدى سبيلاً ، فأنزل الله { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً } الآية . وقال الإمام أحمد عن ابن عباس لما قدم كعب بن الأشرف مكة قالت قريش : ألا ترى هذا الصنبور المنبتر من قومه يزعم أنه خير منا ، ونحن أهل الحجيج وأهل السدانة ، وأهل السقاية ، قال : أنتم خير ، قال : فنزلت : { إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأبتر } [ الكوثر : 3 ] ، ونزل : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين أُوتُواْ نَصِيباً مِّنَ الكتاب } إلى قوله عزَّ وجلَّ { وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } [ النساء : 54 ] ، وهذا لعن لهم وإخبار بأنهم لا ناصر لهم في الدنيا ولا في الآخرة لأنهم إنما ذهبوا يستنصرون بالمشركين ، وإنما قالوا لهم ذلك ليستميلوهم إلى نصرتهم ، وقد أجابوهم وجاءوا معهم يوم الأحزاب حتى حفر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه حول المدينة الخندق فكفى الله شرهم ، { وَرَدَّ الله الذين كَفَرُواْ بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنَالُواْ خَيْراً وَكَفَى الله المؤمنين القتال وَكَانَ الله قَوِيّاً عَزِيزاً } [ الأحزاب : 25 ] .
(1/509)
أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذًا لَا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيرًا (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ مُلْكًا عَظِيمًا (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيرًا (55)
يقول تعالى : { أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّنَ الملك } وهذا استفهام إنكاري أي ليس لهم نصيب من الملك ، ثم وصفهم بالبخل فقال : { فَإِذاً لاَّ يُؤْتُونَ الناس نَقِيراً } أي لأنهم لو كان لهم نصيب في الملك والتصرف لما أعطوا أحداً من الناس ولا سيما محمداً صلى الله عليه وسلم شيئاً ، ولا ما يملأ النقير وهو النقطة التي في النواة في قول ابن عباس والأكثرين ، وهذه الآية كقوله تعالى : { قُل لَّوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لأمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإنفاق } [ الإسراء : 100 ] أي خوف أن يذهب ما بأيديكم ، مع أنه لا يتصور نفاده ، وإنما هو من بخلكم وشحكم ، ولهذا قال تعالى : { وَكَانَ الإنسان قَتُوراً } [ الإسراء : 100 ] أي بخيلاً . ثم قال : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ } يعني بذلك حسدهم النبي صلى الله عليه وسلم على ما رزقه الله من النبوة العظيمة ، ومنعهم من تصديقهم إياه حسدهم له لكونه من العرب وليس من بني إسرائيل ، { فَقَدْ آتَيْنَآ آلَ إِبْرَاهِيمَ الكتاب والحكمة وَآتَيْنَاهُمْ مُّلْكاً عَظِيماً } أي فقد جعلنا في أسباط بني إسرائيل الذين هم من ذرية إبراهيم النبوة وأنزلنا عليهم الكتب ، وحكموا فيهم بالسنن وهي الحكمة وجعلنا منهم الملوك ، ومع هذا { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ } أي بهذا الإيتاء وهذا الإنعام { وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } أي كفر به وأعرض عنه وسعى في صد الناس عنه ، وهو منهم ومن جنسهم أي من بني إسرائيل فقد اختلفوا عليهم فكيف بك يا محمد ولست من بني إسرائيل؟ وقال مجاهد : { فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ بِهِ } أي بمحمد صلى الله عليه وسلم { وَمِنْهُمْ مَّن صَدَّ عَنْهُ } فالكفرة منهم أشد تكذيباً لك ، وأبعد عما جئتهم به من الهدى ، والحق المبين ولهذا قال متوعداً لهم : { وكفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً } أي وكفى بالنار عقوبة لهم على كفرهم وعنادهم ومخالفتهم كتب الله ورسله .
(1/510)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا (56) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا لَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَنُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا (57)
يخبر تعالى عما يعاقب به في نار جهنم من كفر بآياته وصد عن رسله ، فقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا } الآية ، أي ندخلهم ناراً دخولاً يحيط بجميع أجرامهم وأجزائهم ، ثم أخبر عن دوام عقوبتهم ونكالهم فقال : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا لِيَذُوقُواْ العذاب } قال الأعمش عن ابن عمر : إذا احترقت جلودهم بدلوا جلوداً غيرها بيضاً أمثال القراطيس ، وعن الحسن قوله : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ } الآية قال : تنضجهم في اليوم سبعين ألف مرة ، ثم قيل لهم : عودوا فعادوا ، عن ابن عمر قال : قرأ رجل عند عمر هذه الآية : { كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُوداً غَيْرَهَا } فقال عمر : أعدها عليَّ ، فأعادها ، فقال معاذ بن جبل : عندي تفسيرها ، تبدل في ساعة مائة مرة ، فقال عمر : هكذا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال الربيع بن أنس : مكتوب في الكتاب الأول أن جلد أحدهم أربعون ذراعاً ، وسنه سبعون ذراعاً ، وبطنه لو وضع فيه جبل لوسعه ، فإذا أكلت النار جلودهم بدلوا جلوداً غيرها ، وقد ورد في الحديث ما هو أبلغ من هذا ، قال الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يعظم أهل النار في النار حتى إن بين شحمة أذن أحدهم إلى عاتقه مسيرة سبعمائة عام ، وإن غلظ جلده سبعون ذراعاً ، وإن ضرسه مثل أحد » .
وقوله تعالى : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } ، هذا إخبار عن مآل السعداء في جنات عدن التي تجري فيها الأنهار في جميع فجاجها ، ومحالها وأرجائها حيث شاءوا ، وأين أرادوا ، وهم خالدون فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون ولا يبغون عنها حولاً . وقوله : { لَّهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } أي من الحيض ، والنفاس ، والأذى ، والأخلاق الرذيلة ، والصفات الناقصة كما قال ابن عباس : مطهرة من الاقذار والأذى . وقال مجاهد : مطهرة من البول والحيض والنخام والبزاق والمني والولد ، وقال قتادة : مطهرة من الأذى والمآثم ، ولا حيض ولا كلف . وقوله : { وَنُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً } أي ظلاً عميقاً كثيراً غزيراً طيباً أنيقاً ، عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن في الجنة لشجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها - شجرة الخلد » .
(1/511)
إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا (58)
يخبر الله تعالى أنه يأمر بأداء الأمانات إلى أهلها ، وفي الحديث : « أد الأمانة إلى من ائتمنك ، ولا تخن من خانك » وهو يعم جميع الأمانات الواجبة على الإنسان ، من حقوق الله عزَّ وجلَّ على عباده من الصلاة والزكاة والصيام والكفارات والنذور وغير ذلك ، ما هو مؤتمن عليه لا يطلع عليه العباد ، ومن حقوق العباد بعضهم على بعض ، كالودائع وغير ذلك مما يأتمنون به من غير اطلاع بينة على ذلك فأمر الله بأدائها ، فمن لم يفعل ذلك في الدنيا أخذ منه ذلك يوم القيامة كما ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لتؤدن الحقوق إلى أهلها حتى يقتص للشاة الجماء من القرناء » ، وقال ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال : إن الشهادة تكفر كل ذنب إلا الأمانة ، يؤتى بالرجل يوم القيامة وإن كان قد قتل في سبيل الله فيقال : أد أمانتك ، فيقول : فأنَّى أؤديها وقد ذهبت الدنيا؟ فتمثل له الأمانة في قعر جهنم فيهوي إليها فيحملها على عاتقه فتنزل عن عاتقه فيهوي على أثرها أبد الآبدين . قال أبو العالية : الأمانة ما أمروا به ونهوا عنه . وروى ابن أبي حاتم عن مسروق قال ، قال ( أبيّ بن كعب ) : من الأمانات أن المرأة ائتمنت على فرجها ، وقال الربيع بن أنس : هي من الأمانات فيما بينك وبين الناس . وقد ذكر كثير من المفسرين أن هذه الآية نزلت في شأن ( عثمان بن طلحة ) حاجب الكعبة المعظمة ، وهو ابن عم شيبة بن عثمان بن أبي طلحة الذي صارت الحجابة في نسله إلى اليوم ، أسلم عثمان هذا في الهدنة بين صلح الحديبية وفتح مكة هو وخالد بن الوليد وعمرو بن العاص .
وسبب نزولها فيه لما أخذ منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة يوم الفتح ثم رده عليه ، وقال محمد بن إسحاق : « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما نزل بمكة واطمأن الناس خرج حتى جاء إلى البيت فطاف به سبعاً على راحلته يستلم الركن بمحجن في يده ، فلما قضى طوافه دعا ( عثمان بن طلحة ) فأخذ منه مفتاح الكعبة ففتحت له فدخلها ، فوجد فيها حمامة من عيدان فكسرها بيده ثم طرحها ، ثم وقف على باب الكعبة وقد استكن له الناس في المسجد فقال : » لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، صدق وعده ونصر عبده وهزم الأحزاب وحده ، ألا كل مأثرة أو دم أو مال يدعى فهو تحت قدميّ هاتين ، إلا سدانة البيت وسقاية الحاج « وذكر بقية الحديث في خطبة النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ إلى أن قال :
(1/512)
« ثم جلس رسول الله صلى الله عليه وسلم في المسجد ، فقام إليه ( علي بن أبي طالب ) ومفتاح الكعبة في يده فقال : يا رسول الله اجمع لنا الحجابة مع السقاية صلى الله عليك فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أين عثمان بن طلحة «؟ فدعي له ، فقال له : » هاك مفتاحك يا عثمان ، اليوم يوم وفاء وبر « قال ابن جرير : نزلت في عثمان بن طلحة ، قبض منه رسول الله صلى الله عليه وسلم مفتاح الكعبة فدخل في البيت يوم الفتح ، فخرج وهو يتلو هذه الآية { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا } الآية ، فدعا عثمان إليه فدفع إليه المفتاح ، وقال عمر بن الخطاب لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكعبة وهو يتلو هذه الآية { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا } فداه أبي وأمي ما سمعته يتلوها قبل ذلك .
وهذا من المشهورات أن هذه الآية نزلت في ذلك ، وسواء كانت في ذلك أو لا فحكمها عام . ولهذا قال ابن عباس ومحمد بن الحنفية : هي للبر والفاجر ، أي هي أمر لكل أحد ، وقوله : { وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ الناس أَن تَحْكُمُواْ بالعدل } أمر منه تعالى بالحكم بالعدل بين الناس ، ولهذا قال زيد بن أسلم : إن هذه الآية : إنما نزلت في الأمراء يعني الحكام بين الناس ، وفي الحديث : » إن الله مع الحاكم ما لم يجر ، فإذا جار وكله إلى نفسه « ، وفي الأثر : » عدل يوم كعبادة أربعين سنة « ، وقوله : { إِنَّ الله نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ } أي يأمركم به من أداء الأمانات ، والحكم بالعدل بين الناس وغير ذلك من أوامره وشرائعه الكاملة العظيمة الشاملة ، وقوله تعالى : { إِنَّ الله كَانَ سَمِيعاً بَصِيراً } سميعاً لأقوالكم بصيراً بأفعالكم .
(1/513)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا (59)
قال البخاري عن ابن عباس : { أَطِيعُواْ الله وَأَطِيعُواْ الرسول وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } ، قال نزلت : في عبد الله بن حذافة بن قيس بن عدي إذ بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم في سرية ، وقال الإمام أحمد عن علي قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية واستعمل عليهم رجلاً من الأنصار ، فلما خرجوا وجد عليهم في شيء قال ، فقال لهم : أليس قد أمركم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن تطيعوني؟ قالوا : بلى ، قال : فاجمعوا لي حطباً ، ثم دعا بنار فأضرمها فيه ، ثم قال : عزمت عليكم لتدخلنها ، قال ، فقال لهم شاب منهم : إنما فررتم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من النار ، فلا تعجلوا حتى تلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإن أمركم أن تدخلوها فادخلوها ، قال : فرجعوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبروه ، فقال لهم : « لو دخلتموها ما خرجتم منها أبداً ، إنما الطاعة في المعروف » وعن عبد الله بن عمر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « السمع والطاعة على المرء المسلم فيما أحب وكره ، ما لم يؤمر بمعصية ، فإذا أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة » وعن عبادة ابن الصامت قال : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة ، في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا ، وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله ، قال : « إلا أن تروا كفراً بواحاً عندكم فيه من الله برهان » وفي الحديث الآخر عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اسمعوا وأطيعوا ، وإن أمر عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة » رواه البخاري ، وعن أبي هريرة رضي الله عنه ، قال : « أوصاني خليلي أن أسمع وأطيع وإن كان عبداً حبشياً مجدوع الأطراف » رواه مسلم . وروى ابن جرير عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « سيليكم ولاة بعدي فيليكم البر ببره ، والفاجر بفجوره ، فاسمعوا لهم وأطيعوا في كل ما وافق الحق ، وصلّوا وراءهم ، فإن أحسنوا فلكم ولهم ، وإن أساءوا فلكم وعليهم » .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » كانت بنوا إسرائيل تسوسهم الأنبياء ، كلما هلك نبي خلفه نبي ، وإنه لا نبي بعدي ، وسيكون خلفاء فيكثرون « . قالوا ، يا رسول الله : فما تأمرنا؟ قال : » أوفوا ببيعة الأول فالأول ، وأعطوهم حقهم ، فإن الله سائلهم عما استرعاهم « أخرجاه ، وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من رأى من أميره شيئاً فكرهه فليصبر فإنه ليس أحد يفارق الجماعة شبراً فيموت إلا مات ميتة جاهلية «
(1/514)
أخرجاه ، وعن ابن عمر أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من خلع يداً من طاعة لقي الله يوم القيامة لا حجة له ، ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية » رواه مسلم . وروى مسلم أيضاً عن عبد الرحمن بن عبد رب الكعبة قال : دخلت المسجد فإذا عبد الله بن عمرو بن العاص جالس في ظل الكعبة والناس حوله مجتمعون عليه ، فأتيتهم فجلست إليه فقال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر فنزلنا منزلاً فمما من يصلح خباءه ، ومنا من ينتضل ، ومنا من هو في جشره إذا نادى منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم : الصلاة جامعة! فاجتمعنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إنه لم يكن نبي من قبلي إلا كان حقاً عليه أن يدل أمته على خير ما يعلمه لهم ، وينذرهم شر ما يعلمه لهم ، وإن هذه الأمة جعلت عافيتها في أولها ، وسيصيب آخرها بلاء ، وأمور ينكرونها ، وتجيء فتن يُرَقِّقُ بعضها بعضاً ، وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه مهلكتي ، ثم تنكشف وتجيء الفتنة فيقول المؤمن : هذه هذه ، فمن أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ، وليأت إلى الناس الذي يحب أن يؤتى إليه ، ومن بايع إماماً فأعطاه صفقة يده وثمرة فؤاده فليطعه إن استطاع ، فإن جاء آخر ينازعه فاضربوا عنق الآخر ، قال فدنوت منه فقلت : أنشدك بالله آنت سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فأهوى إلى أذنيه وقلبه بيده وقال : سمعته أذناي ، ووعاه قلبي ، فقلت له : هذا ابن عمك معاوية يأمرنا أن نأكل أموالنا بيننا بالباطل ، ويقتل بعضاً بعضاً ، والله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تأكلوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً عَن تَرَاضٍ مِّنْكُمْ وَلاَ تقتلوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ الله كَانَ بِكُمْ رَحِيماً } [ النساء : 29 ] قال فسكت ساعة ثم قال : أطعه في طاعة الله ، واعصه في معصية الله ، والأحاديث في هذا كثيرة .
وقال ابن عباس { وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } يعني أهل الفقه والدين ، وكذا قال مجاهد وعطاء { وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } يعني العلماء ، والظاهر - والله أعلم - أنها عامة في كل أولي الأمر من الأمراء والعلماء كما تقدم ، وقال تعالى : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت } [ المائدة : 63 ] ، وقال تعالى : { فاسألوا أَهْلَ الذكر إِن كُنْتُم لاَ تَعْلَمُونَ } [ النحل : 43 ] وفي الحديث الصحيح المتفق على صحته عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصا الله ، ومن أطاع أميري فقد أطاعني ومن عصا أمير فقد عصاني » ، فهذه أوامر بطاعة العلماء والأمراء ، ولهذا قال تعالى : { أَطِيعُواْ الله } أي اتبعوا كتابه ، { وَأَطِيعُواْ الرسول } أي خذوا بسنته ، { وَأُوْلِي الأمر مِنْكُمْ } أي فيما أمروكم به من طاعة الله لا في معصية الله ، فإنه لا طاعة لمخلوق في معصية الله كما تقدم في الحديث الصحيح :
(1/515)
« إنما الطاعة في المعروف » .
وقال الإمام أحمد عن عمران بن حصين عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « لا طاعة في معصية الله » . وقوله : { فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى الله والرسول } قال مجاهد : أي إلى كتاب الله وسنّة رسوله ، وهذا أمر من الله عزَّ وجلَّ بأن كل شيء تنازع الناس فيه من أصول الدين وفروعه أن يرد التنازع في ذلك إلى الكتاب والسنّة كما قال تعالى : { وَمَا اختلفتم فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى الله } [ الشورى : 10 ] ، فما حكم به الكتاب والسنّة وشهدا له بالصحة فهو الحق ، وماذا بعد الحق إلا الضلال؟ ولهذا قال تعالى : { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } أي ردوا الخصومات والجهالات إلى كتاب الله وسنَّة رسوله ، فتحاكموا إليهما فيما شجر بينكم { إِن كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر } ، فدل على أن من لم يتحاكم في محل النزاع إلى الكتاب والسنّة ولا يرجع إليهما في ذلك فليس مؤمناً بالله ولا باليوم الآخر ، وقوله : { ذلك خَيْرٌ } أي التحاكم إلى كتاب الله وسنّة رسوله ، والرجوع إليهما في فصل النزاع خير { وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } ، أي وأحسن عاقبة ومآلا كما قاله السدي وقال مجاهد : وأحسن جزاء ، وهو قريب .
(1/516)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا بَعِيدًا (60) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُودًا (61) فَكَيْفَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جَاءُوكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا إِحْسَانًا وَتَوْفِيقًا (62) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَعِظْهُمْ وَقُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلًا بَلِيغًا (63)
هذا إنكار من الله عزَّ وجلَّ على من يدعي الإيمان بما أنزل الله على رسوله وعلى الأنبياء الأقدمين ، وهو مع ذلك يريد أن يتحاكم في فصل الخصومات إلى غير كتاب الله وسنّة رسوله ، كما ذكر في سبب نزول هذه الآية أنها في رجل من الأنصار ، ورجل من اليهود تخاصما ، فجعل اليهودي يقول : بيني وبينك محمد ، وذاك يقول بيني وبينك ( كعب بن الأشرف ) وقيل : في جماعة من المنافقين ممن أظهر الإسلام ، أرادوا أن يتحاكموا إلى حكام الجاهلية ، وقيل غير ذلك ، والآية أعم من ذلك كله ، فإنها ذامة لمن عدل عن الكتاب والسنّة ، وتحاكموا إلى ما سواهما من الباطل وهو المراد بالطاغوت هنا ، ولهذا قال : { يُرِيدُونَ أَن يتحاكموا إِلَى الطاغوت } إلى آخرها ، وقوله : { يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُوداً } أي يعرضون عنك إعراضاً كالمستكبرين عن ذلك كما قال تعالى عن المشركين : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله قَالُواْ بَلْ نَتَّبِعُ مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَآءَنَا } [ لقمان : 21 ] .
ثم قال تعالى في ذم المنافقين : { فَكَيْفَ إِذَآ أَصَابَتْهُمْ مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } أي فكيف بهم إذا ساقتهم المقادير إليك في مصائب تطرقهم بسبب ذنوبهم ، واحتاجوا إليك في ذلك؟ { ثُمَّ جَآءُوكَ يَحْلِفُونَ بالله إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } أي يعتذرون إليك ويحلفون ما أردنا بذهابنا إلى غيرك ، وتحاكمنا إلى أعدائك إلا الإحسان والتوفيق أي المداراة والمصانعة لا اعتقاداً منا صحة تلك الحكومة ، كما في قوله تعالى : { فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } [ المائدة : 52 ] ، عن ابن عباس قال : كان ( أبو برزة الأسلمي ) كاهناً يقضي بين اليهود فيما يتنافرون فيه ، فتنافر إليه ناس من المشركين فأنزل الله عزَّ وجلَّ { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُواْ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ - إلى قوله - إِنْ أَرَدْنَآ إِلاَّ إِحْسَاناً وَتَوْفِيقاً } .
ثم قال تعالى : { أولئك الذين يَعْلَمُ الله مَا فِي قُلُوبِهِمْ } هذا الضرب من الناس هم المنافقون والله يعلم ما في قلوبهم وسيجزيهم على ذلك ، فإنه لا تخفى عليه خافية ، فاكتف به يا محمد فيهم فإنه عالم بظواهرهم وبواطنهم ، ولهذا قال له : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي لا تعنفهم على ما في قلوبهم ، { وَعِظْهُمْ } أي وانههم عما في قلوبهم من النفاق وسرائر الشر ، { وَقُل لَّهُمْ في أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً } أي وانصحهم فيما بينك وبينهم بكلام بليغ رادع لهم .
(1/517)
وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا (64) فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا (65)
يقول تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ } أي فرضت طاعته على من أرسله إليهم ، وقوله : { بِإِذْنِ الله } قال مجاهد : أي لا يطيع أحد إلى بإذني يعني لا يطيعه إلا من وفقته لذلك ، كقوله : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } [ آل عمران : 152 ] أي عن أمره وقدره ومشيئته وتسليطه إياكم عليهم ، وقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ } الآية ، يرشد تعالى العصاة والمذنبين إذا وقع منهم الخطأ والعصيان أن يأتوا إلى الرسول صلى الله عليه وسلم فيستغفروا الله عنده ويسألوه أن يستغفر لهم ، فإنهم إذا فعلوا ذلك تاب الله عليهم ورحمهم وغفر لهم ، ولهذا قال : { لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً } وقد ذكر جماعة منهم الشيخ أبو منصور الصباغ في كتابه « الشامل » الحكاية المشهورة عن العتبي قال : كنت جالساً عند قبر النبي صلى الله عليه وسلم فجاء أعرابي فقال : السلام عليك يا رسول الله ، سمعت الله يقول : { وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذ ظلموا أَنْفُسَهُمْ جَآءُوكَ فاستغفروا الله واستغفر لَهُمُ الرسول لَوَجَدُواْ الله تَوَّاباً رَّحِيماً } ، وقد جئتك مستغفراً لذنبي مستشفعاً بك إلى ربي ، ثم أنشأ يقول :
يا خير من دفنت بالقاع أعظمه ... فطاب من طيبهن القاع والأكم
نفسي الفداء لقبر أنت ساكنه ... فيه العفاف وفيه الجود والكرم
ثم انصرف الأعرابي ، فغلبنتي عيني فرأيت النبي صلى الله عليه وسلم في النوم فقال : « يا عتبي الحق الأعرابي فبشره أن الله قد غفر له » .
وقوله تعالى : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } ، يقسم تعالى بنفسه الكريمة المقدسة ، أنه لا يؤمن أحد حتى يحكم الرسول صلى الله عليه وسلم في جميع الأمور ، فما حكم به فهو الحق الذي يجب الانقياد له باطناً وظاهراً ، ولهذا قال : { ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ في أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً } أي إذا حكموك يطيعونك في بواطنهم ، فلا يجدون في أنفسهم حرجاً مما حكمت به ، وينقادون له في الظاهر والباطن فيسلمون لذلك تسليماً كلياً ، من غير ممانعة ولا مدافعة ولا منازعة ، كما ورد في الحديث : « والذي نفسي بيده لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئت به » ، وقال البخاري عن عروة ، قال : « خاصم الزبير رجلاً في شراج الحرة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم » اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك « فقال الأنصاري : يا رسول الله أن كان ابن عمتك؟ فتلوَّن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال : » اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجَدْر ثم أرسل الماء إلى جارك « فاستوعى النبي صلى الله عليه وسلم للزبير حقه في صريح الحكم حين أحفظه الأنصاري ، وكان أشار عليهما صلى الله عليه وسلم بأمر لهما فيه سعة ، قال الزبير : فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حتى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ } الآية . وقال الحافظ أبو بكر بن مردويه : خاصم الزبير رجلاً إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقضى للزبير ، فقال الرجل : إنما قضى له لأنه ابن عمته ، فنزلت : { فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ } الآية .
(1/518)
وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيَارِكُمْ مَا فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا مَا يُوعَظُونَ بِهِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَشَدَّ تَثْبِيتًا (66) وَإِذًا لَآتَيْنَاهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْرًا عَظِيمًا (67) وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (68) وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69) ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا (70)
يخبر تعالى عن أكثر الناس أنهم لو أمروا بما هم مرتكبونه من المناهي لما فعلوه ، لأن طباعهم الرديئة مجبولة على مخالفة الأمر ، وهذا من علمه تبارك وتعالى بما لم يكن أو كان فكيف كان يكون ، ولهذا قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ } الآية ، قال ابن جرير : { وَلَوْ أَنَّا كَتَبْنَا عَلَيْهِمْ أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ } الآية ، قال رجل : لو أمرنا لفعلنا والحمد لله الذي عافانا ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « إن من أمتي لرجالاً الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي » ، وقال السدي : افتخر ( ثابت بن قيس ) بن شماس ورجل من اليهود ، فقال اليهودي : والله لقد كتب الله علينا القتل فقتلنا أنفسنا ، فقال ثابت : والله لو كتب علينا { أَنِ اقتلوا أَنْفُسَكُمْ } لفعلنا ، فأنزل الله هذه الآية . قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُواْ مَا يُوعَظُونَ بِهِ } أي : ولو أنهم فعلوا ما يؤمرون به . وتركوا ما ينهون عنه ، { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ } أي من مخالفة الأمر وارتكاب النهي { وَأَشَدَّ تَثْبِيتاً } قال السدي : أي وأشد تصديقاً ، { وَإِذاً لأَتَيْنَاهُم مِّن لَّدُنَّآ } أي من عندنا { أَجْراً عَظِيماً } يعني الجنة ، { وَلَهَدَيْنَاهُمْ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أي في الدنيا والآخرة ، ثم قال تعالى : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } أي من عمل بما أمره الله به ورسوله وترك ما نهاه الله عنه ورسوله ، فإن الله عزَّ وجلَّ يسكنه دار كرامته ، ويجعله مرافقاً للأنبياء ثم لمن بعدهم في الرتبة ، وهم الصديقون ، ثم الشهداء ، ثم عموم المؤمنين ، وهم الصالحون الذي صلحت سرائرهم وعلانيتهم ، ثم أثنى عليهم تعالى ، فقال : { وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } وقال البخاري عن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من نبي يمرض إلا خيِّر بين الدنيا والآخرة » ، وكان في شكواه التي قبض فيها أخذته بحة شديدة ، فسمعته يقول : { مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين } فعلمت أنه خُيِّر . وهذا معنى قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الآخر : « اللهم الرفيق الأعلى » ثلاثاً ثم قضى ، عليه أفضل الصلاة والتسليم .
( ذكر سبب نزول هذه الآية الكريمة )
روى ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو محزون ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « يا فلان مالي أراك محزوناً »؟ فقال : يا نبي الله شيء فكرت فيه ، فقال ما هو؟ قال : نحن نغدوا ونروح ننظر إلى وجهك ونجالسك ، وغداً ترفع مع النبيين ، فلا نصل إليك ، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً ، فأتاه جبريل بهذه الآية : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين } الآية ، فبعث النبي صلى الله عليه وسلم فبشره .
(1/519)
وعن عائشة ، قالت : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله! إنك لأحب إليَّ من نفسي ، وأحب إليَّ من أهلي ، وأحب إليَّ من ولدي ، وإني لأكون في البيت فأذكرك فما أصبر حتى آتيك فأنظر إليك ، وإذا ذكرت موتي وموتك عرفت أنك إذا دخلتَ الجنة رفعتَ مع النبييّن ، وإن دخلتُ الجنة خشيت أن لا أراك ، فلم يرد عليه النبي صلى الله عليه وسلم حتى نزلت عليه { وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } .
وثبت في صحيح مسلم « عن ربيعة بن كعب الأسلمي أنه قال : كنت أبيت عند النبي صلى الله عليه وسلم فأتيته بوضوئه وحاجته ، فقال لي : سل فقلت : يا رسول الله أسألك مرافقتك في الجنة ، فقال : » أو غير ذلك «؟ قلت : هو ذاك ، قال : » فأعني على نفسك بكثرة السجود « وقال الإمام أحمد عن عمرو بن مرة الجهني ، قال : » جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله شهدت أن لا إله إلا الله ، وأنك رسول الله؛ وصليت الخمس ، وأديت زكاة مالي ، وصمت شهر رمضان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من مات على ذلك كان مع النبيين والصديقين والشهداء يوم القيامة هكذا - ونصب أصبعيه - ما لم يعقَّ والديه » تفرد به أحمد . وروى الترمذي عن أبي سعيد قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « التاجر الصدوق الأمين مع النبيين والصديقين والشهداء » وقد ثبت في الصحيح والمسانيد وغيرهما من طرق متواترة عن جماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم ، فقال : « المرء مع من أحب » قال أنس : فما فرح المسلمون فرحهم بهذا الحديث ، وفي رواية عن أنس أنه قال : إني لأحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وأحب أبا بكر وعمر رضي الله عنهما ، وأرجوا أن الله يبعثني معهم ، وإن لم أعمل كعملهم . قال الإمام مالك بن أنس عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » إن أهل الجنة ليتراءون أهل الغرف من فوقهم كما تراءون الكوكب الدري الغابر في الأفق من المشرق أو المغرب لتفاضل ما بينهم « ، قالوا : يا رسول الله تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم قال : » بلى ، والذي نفسي بيده رجال آمنوا بالله وصدَّقوا المرسلين « قال تعالى : { ذلك الفضل مِنَ الله } أي من عند الله برحمته ، وهو الذي أهلهم لذلك لا بأعمالهم ، { وكفى بالله عَلِيماً } أي هو عليم بمن يستحق الهداية والتوفيق .
(1/520)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعًا (71) وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيدًا (72) وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا (73) فَلْيُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ وَمَنْ يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (74)
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين بأخذ الحذر من عدوهم ، وهذا يستلزم التأهب لهم بإعداد الأسلحة والعُدَدْ وتكثير العدد بالنفير في سبيل الله ، { ثُبَاتٍ } أي جماعة بعد جماعة ، وفرقة بعد فرقة ، وسرية بعد سرية ، والثبات : جمع ثبة وقد تجمع الثبة على ثبين ، قال ابن عباس : يعني سرايا متفرقين { أَوِ انفروا جَمِيعاً } يعني كلكم . وقوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْكُمْ لَمَن لَّيُبَطِّئَنَّ } قال مجاهد نزلت في المنافقين ، { لَّيُبَطِّئَنَّ } أي ليتخلفن عن الجهاد ، ويحتمل أن يكون المراد أن يتباطأ هو في نفسه ويبطىء غيره عن الجهاد ، كما كان ( عبد الله بن أبي بن سلول ) قبحه الله يفعل ، يتأخر عن الجهاد ويثبط الناس عن الخروج فيه ، وهذا قول ابن جريج وابن جرير . ولهذا قال تعالى إخباراً عن المنافق أنه يقول إذا تأخر عن الجهاد { فَإِنْ أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ } أي قتل وشهادة وغلب العدو لكم لما لله في ذلك من الحكمة { قَالَ قَدْ أَنْعَمَ الله عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَّعَهُمْ شَهِيداً } أي إذ لم أحضر معهم وقعة القتال ، يعد ذلك من نعم الله عليه ، ولم يدر ما فاته من الأجر في الصبر أو الشهادة إن قتل ، { وَلَئِنْ أَصَابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ الله } أي نصر وظفر وغنيمة { لَيَقُولَنَّ كَأَن لَّمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُ مَوَدَّةٌ } ، أي كأنه ليس من أهل دينكم { ياليتني كُنتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً } أي بأن يضرب لي بسهم معهم فأحصل عليه ، وهو أكبر قصده وغاية مراده ، ثم قال تعالى : { فَلْيُقَاتِلْ } أي المؤمن النافر { فِي سَبِيلِ الله الذين يَشْرُونَ الحياة الدنيا بالآخرة } أي يبيعون دينهم بعرض قليل من الدنيا ، وما ذلك إلا لكفرهم وعدم إيمانهم .
ثم قال تعالى : { وَمَن يُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله فَيُقْتَلْ أَو يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } أي كل من قاتل في سبيل الله سواء قتل أو غلب فله عند الله مثوبة عظيمة وأجر عظيم ، كما ثبت في الصحيحين وتكفل الله للمجاهد في سبيله إن توفاه أن يدخله الجنة أو يرجعه إلى مسكنه الذي خرج منه بما نال من أجر أو غنيمة .
(1/521)
وَمَا لَكُمْ لَا تُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَخْرِجْنَا مِنْ هَذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُهَا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَاجْعَلْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيرًا (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقَاتِلُوا أَوْلِيَاءَ الشَّيْطَانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا (76)
يحرِّض تعالى عباده المؤمنين على الجهاد في سبيله وعلى السعي في استنقاذ المستضعفين بمكة من الرجال والنساء والصبيان المتبرمين من المقام بها ، ولهذا قال تعالى : { الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَخْرِجْنَا مِنْ هذه القرية } يعني مكة ، كقوله تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِّن قَرْيَتِكَ التي أَخْرَجَتْكَ } [ محمد : 13 ] ثم وصفها بقوله : { الظالم أَهْلُهَا واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ وَلِيّاً واجعل لَّنَا مِن لَّدُنْكَ نَصِيراً } أي سخر لنا من عندك ولياً وناصراً . قال البخاري عن عبيد الله ، قال سمعت ابن عباس قال : كنت أنا وأمي من المستضعفين ثم قال تعالى : { الذين آمَنُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله والذين كَفَرُواْ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطاغوت فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } .
(1/522)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ إِذَا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُوا رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتَالَ لَوْلَا أَخَّرْتَنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتَاعُ الدُّنْيَا قَلِيلٌ وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقَى وَلَا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا (77) أَيْنَمَا تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَإِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هَذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا (78) مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولًا وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (79)
كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة ، وكانوا مأمورين بمواساة الفقراء منهم ، وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين ، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم ، ولم يكن الحال إذا ذاك مناسباً لأسباب كثيرة : منها قلة عددهم بالنسبة إلى كثرة عدد عدوهم ، ومنها كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام وأشرف بقاع الأرض فلم يكن الأمر بالقتال فيه ابتداء كما يقال ، فلهذا لم يؤمر بالجهاد إلا بالمدينة لما صارت لهم دار منعة وأنصار ، ومع هذا لما أمروا بما كانوا يودونه ، جزع بعضهم منه وخافوا من مواجهة الناس خوفاً شديداً : { وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } أي لولا أخرت فرضه إلى مدة أخرى فإن فيه سفك الدماء ، ويتم الأولاد ، وتأَيَّمَ النساء ، وهذه الآية كقوله تعالى : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ لَوْلاَ نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ مُّحْكَمَةٌ وَذُكِرَ فِيهَا القتال } [ محمد : 20 ] الآيات . عن عكرمة عن ابن عباس أن عبد الرحمن بن عوف وأصحاباً له أتوا النبي صلى الله عليه وسلم بمكة فقالوا يا نبي الله : « كنا في عزة ونحن مشركون ، فلما آمنا صرنا أذلة قال : » إني أمرت بالعفوا فلا تقاتلوا القوم « فلما حوله الله إلى المدينة أمره بالقتال فكفوا فأنزل الله : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين قِيلَ لَهُمْ كفوا أَيْدِيَكُمْ } الآية . وقال السدي : لم يكن عليهم إلا الصلاة والزكاة ، فسألوا الله أن يفرض عليهم القتال ، فلما فرض عليهم القتال { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَقَالُواْ رَبَّنَا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا القتال لولا أَخَّرْتَنَا إلى أَجَلٍ قَرِيبٍ } وهو الموت ، قال الله تعالى : { قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ والآخرة خَيْرٌ لِّمَنِ اتقى } أي آخرة المتقي خير من دنياه { وَلاَ تُظْلَمُونَ فَتِيلاً } أي من أعمالكم ، بل توفونها أتم الجزاء ، وهذه تسلية لهم عن الدنيا وترغيب لهم في الآخرة وتحريض لهم على الجهاد ، وقال ابن أبي حاتم عن هشام قال : قرأ الحسن { قُلْ مَتَاعُ الدنيا قَلِيلٌ } قال : رحم الله عبداً صحبها على حسب ذلك وما الدنيا كلها أولها وآخرها إلا كرجل نام نومة فرأى في منامه بعض ما يحب ، ثم انتبه . وقال ابن معين : كان أبو مصهر ينشد :
ولا خير في الدنيا لمن لم يكن له ... من اللَّه في دار المقام نصيب
فإن تعجب الدنيا رجالاً فإنها ... متاع قليل والزوال قريب
وقوله تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } أي أنتم صائرون إلى الموت لا محالة ولا ينجو منه أحد منكم كما قال تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ } [ الرحمن : 26 ] الآية ، وقال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت }
(1/523)
[ آل عمران : 185 ، الأنبياء : 35 ، العنكبوت : 57 ] ، وقال تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِّن قَبْلِكَ الخلد } [ الأنبياء : 34 ] والمقصود أن كل أحد صائر إلى الموت لا محالة ، ولا ينجيه من ذلك شيء سواء جاهد أو لم يجاهد فإن له أجلاً محتوماً ، ومقاماً مقسوماً ، كما قال ( خالد بن الوليد ) حين جاء الموت على فراشه : لقد شهدت كذا وكذا موقفاً ، وما من عضو من أعضائي إلا وفيه جرح من طعنه أو رمية ، وها أنا أموت على فراشي ، فلا نامت أعين الجبناء . وقوله : { وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } أي حصينة منيعة عالية رفيعة ، أي لا يغني حذر وتحصن من الموت كما قال زهير بن أبي سلمى :
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه ... ولو رام أسباب السماء بسُلَّم
ثم قيل : المُشَيَّدة هي المَشِيْدة كما قال ( وقصر مشيد ) ، وقيل : بل بينهما فرق وهو أن المشيّدة بالتشديد هي المطولة ، وبالتخفيف هي المزينة بالشيد وهو الجص .
وقوله تعالى : { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } أي خصب ورزق من ثمار وزروع وأولاد ونحو ذلك ، وهذا معنى قول ابن عباس وأبي العالية والسدي { يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } أي قحط وجدب ونقص في الثمار والزروع أو موت أولاد أو نتاج أو غير ذلك { يَقُولُواْ هذه مِنْ عِندِكَ } أي من قبلك وبسبب اتباعنا لك واقتدائنا بدينك ، كما قال تعالى عن قوم فرعون : { فَإِذَا جَآءَتْهُمُ الحسنة قَالُواْ لَنَا هذه وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بموسى وَمَن مَّعَهُ } [ الأعراف : 131 ] وكما قال تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَعْبُدُ الله على حَرْفٍ } [ الحج : 11 ] الآية . وهكذا قال هؤلاء المنافقون ، الذين دخلوا في الإسلام ظاهراً وهم كارهون له في نفس الأمر ، ولهذا إذا أصابهم شر إنما يسندونه إلى أتباعهم للنبي صلى الله عليه وسلم ، وقال السدي { وَإِن تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ } قال ، والحسنة : الخصب تنتج مواشيهم وخيولهم ويحسن حالهم وتلد نساؤهم الغلمان ، وقالوا : { هذه مِنْ عِندِ الله وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ } والسيئة : الجدب والضرر في أموالهم تشاءموا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وقالوا : { هذه مِنْ عِندِكَ } يقولون بتركنا ديننا واتباعنا محمداً أصابنا هذا البلاء ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ ، { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } فقوله : قل كل من عند الله أي الجميع بقضاء الله وقدره ، وهو نافذ في البر والفاجر والمؤمن والكافر ، قال ابن عباس : { قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ الله } أي الحسنة والسيئة وكذا قال الحسن البصري . ثم قال تعالى منكراً على هؤلاء القائلين هذه المقالة الصادرة عن شك وريب ، وقلة فهم وعلم وكثرة جهل وظلم { فَمَالِ هؤلاء القوم لاَ يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً } ؟ .
ثم قال تعالى مخاطباً لرسوله صلى الله عليه وسلم والمراد جنس الإنسان ليحصل الجواب : { مَّآ أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ الله } أي من فضل الله ومنه ولطفه ورحمته ، { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } أي فمن قبلك ، ومن عملك أنت ، كما قال تعالى :
(1/524)
{ وَمَآ أَصَابَكُمْ مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } [ الشورى : 30 ] قال السدي : { فَمِن نَّفْسِكَ } أي بذنبك ، وقال قتادة في الآية : { فَمِن نَّفْسِكَ } عقوبة لك يا ابن آدم بذنبك ، قال : وذكر لنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يصيب رجلاً خدش عود ولا عثرة قدم والا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو الله أكثر » ، وهذا الذي أرسله قتادة قد روي متصلاً في الصحيح ، « والذي نفسي بيده لا يصيب المؤمن هم ولا حزن ، ولا نصب حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله عنه بها من خطاياه » ، وقال أبو صالح { وَمَآ أَصَابَكَ مِن سَيِّئَةٍ فَمِن نَّفْسِكَ } أي بذنبك وأنا الذي قدرتها عليك وراه ابن جرير . وقوله تعالى : { وَأَرْسَلْنَاكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً } أي تبلغهم شرائع الله وما يحبه الله ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه { وكفى بالله شَهِيداً } أي على أنه أرسلك وهو شهيد أيضاً بينك وبينهم ، وعالم بما تبلغهم إياه وبما يردون عليك من الحق كفراً وعناداً .
(1/525)
مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَنْ تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا (80) وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ فَإِذَا بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَاللَّهُ يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (81)
يخبر تعالى عن عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بأن من أطاعه فقد أطاع الله ، ومن عصاه فقد عصى الله ، وما ذاك إلا لأنه { وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } [ النجم : 3-4 ] . قال ابن أبي حاتم عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أطاعني فقد أطاع الله ، ومن عصاني فقد عصى الله؛ ومن أطاع الأمير فقد أطاعني ، ومن عصى الأمير فقد عصاني » وقوله : { وَمَن تولى فَمَآ أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي ما عليك منه ، إن عليك إلا البلاغ فمن اتبعك سعد ونجا ، وكان لك من الأجر نظير ما حصل له ، ومن تولى عنك خاب وخسر ، وليس عليك من أمره شيء كما جاء في الحديث : « من يطع الله ورسوله فقد رشد ومن يعص الله ورسوله فإنه لا يضر إلا نفسه » .
وقوله تعالى : { وَيَقُولُونَ طَاعَةٌ } يخبر تعالى عن المنافقين بأنهم يظهرون الموافقة والطاعة { فَإِذَا بَرَزُواْ مِنْ عِندِكَ } أي خرجوا وتواروا عنك { بَيَّتَ طَآئِفَةٌ مِّنْهُمْ غَيْرَ الذي تَقُولُ } أي استسروا ليلاً فيما بينهم بغير ما أظهروه لك ، فقال تعالى : { والله يَكْتُبُ مَا يُبَيِّتُونَ } أي يعلمه ويكتبه عليهم بما يأمر به حفظته الكاتبين الذين هم موكلون بالعباد ، والمعنى في هذا التهديد أنه تعالى يخبر بأنه عالم بما يضمرونه ويسرونه فيما بينهم ، وما يتفقون عليه ليلاً من مخالفة الرسول صلى الله عليه وسلم وعصيانه ، وإن كانوا قد أظهروا له الطاعة والموافقة ، وسيجزيهم على ذلك ، كما قال تعالى : { وَيَِقُولُونَ آمَنَّا بالله وبالرسول وَأَطَعْنَا } [ النور : 47 ] الآية ، وقوله : { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } أي اصفح عنهم واحلم عليهم ولا تؤاخذهم ، ولا تكشف أمورهم للناس ، ولا تخف منهم أيضاً ، { وَتَوَكَّلْ عَلَى الله وكفى بالله وَكِيلاً } أي كفى به ولياً وناصراً ومعيناً لمن توكل عليه وأناب إليه .
(1/526)
أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا (82) وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا (83)
يقول تعالى آمراً لهم بتدبر القرآن وناهياً لهم عن الإعراض عنه ، وعن تفهم معانيه المحكمة وألفاظه البليغة ، ومخبراً لهم أنه لا اختلاف فيه ولا اضطراب ، ولا تعارض لأنه تنزيل من حكيم حميد فهو حق من حق ، ولهذا قال تعالى : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن } ، ثم قال : { وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله } أي لو كان مفتعلاً مختلقاً ، كما يقوله من يقول من جهلة المشركين والمنافقين في بواطنهم لوجدوا فيه اختلافاً ، أي اضطراباً وتضاداً كثيراً ، أي وهذا سالم من الاختلاف فهو من عند الله ، كما قال تعالى مخبراً عن الراسخين في العلم حيث قالوا : { آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } [ آل عمران : 7 ] أي محكمة ومتشابهه حق ، فلهذا ردوا المتشابه إلى المحكم فاهتدوا ، والذين في قلوبهم زيغ ردوا المحكم إلى المتشابه فغووا ، ولهذا مدح تعالى الراسخين وذم الزائغين . قال الإمام أحمد عن عمرو ابن شعيب عن أبيه عن جده قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم والناس يتكلمون في القدر فكأنما يفقأ في وجهه حب الرمان من الغضب ، فقال لهم : « ما لكم تضربون كتاب الله بعضه ببعض ، بهذا هلك من كان قبلكم » ، وعن عبد الله بن عمرو قال : هجّرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً ، فإنّا لجلوس إذا اختلف اثنان في آية فارتفعت أصواتهما فقال : « إنما هلكت الأمم قبلكم باختلافهم في الكتاب » .
وقوله تعالى : { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ } إنكار على من يبادر إلى الأمور قبل تحققها فيخبر بها ويفشيها وينشرها ، وقد لا يكون لها صحة ، وقد قال مسلم في مقدمة صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع » وفي الصحيح : « من حدث بحديث وهو يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين » ولنذكر هاهنا حديث عمر بن الخطاب المتفق على صحته حين بلغه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم طلق نساءه فجاء من منزله حتى دخل المسجد فوجد الناس يقولون ذلك فلم يصبر حتى استأذن على النبي صلى الله عليه وسلم فاستفهمه ، أطلقت نساءك؟ فقال : « لا » فقلت : الله أكبر وذكر الحديث بطوله . وعن مسلم فقلت : أطلقتهن فقال : « لا » ، فقمت على باب المسجد فناديت بأعلى صوتي : لم يطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم نساءه ، ونزلت هذه الآية : { وَإِذَا جَآءَهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأمن أَوِ الخوف أَذَاعُواْ بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرسول وإلى أُوْلِي الأمر مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الذين يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ } ، فكنت أنا استنبطت ذلك الأمر ، ومعنى يستنبطونه أي يستخرجونه من معادنه ، يقال : استنبط الرجل العين إذا حفرها واستخرجها من قعورها ، وقوله : { لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً } قال ابن عباس : يعني المؤمنين ، وقال قتادة { لاَتَّبَعْتُمُ الشيطان إِلاَّ قَلِيلاً } يعني : كلكم واستشهد من نصر هذا القول بقول الطرماح في مدح يزيد بن المهلب :
أشم ، نديّ ، كثير النوادي ... قليل المثالب ، والقادحة
يعني لا مثالب له ولا قادحة فيه .
(1/527)
فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ وَحَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَاللَّهُ أَشَدُّ بَأْسًا وَأَشَدُّ تَنْكِيلًا (84) مَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْهَا وَمَنْ يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ مُقِيتًا (85) وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا (86) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا (87)
يأمر تعالى عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بأن يباشر القتال بنفسه ، ومن نكل عنه فلا عليه منه ، ولهذا قال : { لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } . عن أبي إسحاق قال ، قلت للبراء : الرجل يحمل على المشركين أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال : لا ، إن الله بعث برسوله صلى الله عليه وسلم وقال : { فَقَاتِلْ فِي سَبِيلِ الله لاَ تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ } إنما ذلك في النفقة .
وقوله : { وَحَرِّضِ المؤمنين } أي على القتال ورغبهم فيه وشجعهم عليه ، كما قال لهم صلى الله عليه وسلم يوم بدر وهو يسوي الصفوف : « قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض » وقد وردت أحاديث كثيرة في الترغيب في ذلك ، فمن ذلك ما رواه البخاري عن أبي هريرة قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من آمن بالله ورسوله ، وأقام الصلاة وآتى الزكاة ، وصام رمضان ، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ، هاجر في سبيل الله أو جلس في أرضه التي ولد فيها « . قالوا : يا رسول الله أفلا نبشر الناس بذلك؟ فقال : » إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيل الله ، بين كل درجتين كما بين السماء والأرض؛ فإذا سألتم الله فاسألوه الفردوس فإنه وسط الجنة ، وأعلى الجنة؛ وفوقه عرش الرحمن ومنه تفجر أنهار الجنة « » .
وقوله تعالى : { عَسَى الله أَن يَكُفَّ بَأْسَ الذين كَفَرُواْ } أي بتحريضك إياهم على القتال تنبعث هممهم على مناجزة الأعداء ، ومدافعتهم عن حوزة الإسلام وأهله ، ومقاومتهم ومصابرتهم ، وقوله تعالى : { والله أَشَدُّ بَأْساً وَأَشَدُّ تَنكِيلاً } أي هو قادر عليهم في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } [ محمد : 4 ] الآية ، وقوله { مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا } أي من يسعى في أمر فيترتب عليه خير كان له نصيب من ذلك ، { وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا } أي يكون عليه وزر من ذلك الأمر الذي ترتب على سعيه ونيته كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « اشفعوا تؤجروا؛ ويقضي الله على لسان نبيه ما شاء » وقال مجاهد بن جبر : نزلت هذه الآية في شفاعات الناس بعضهم لبعض . وقوله : { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } قال ابن عباس : أي حفيظاً ، وقال مجاهد : شهيداً ، وفي رواية عنه حسيباً . وقال الضحاك : المقيت الرزاق ، وعن عبد الله بن رواحة : وسأله رجل عن قول الله تعالى : { وَكَانَ الله على كُلِّ شَيْءٍ مُّقِيتاً } قال : مقيت لكل إنسان بقدر عمله .
وقوله تعالى : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } أي إذا سلم عليكم المسلم فردوا عليه أفضل مما سلم ، أو ردوا عليه بمثل ما سلم فالزيادة مندوبة ، والمماثلة مفروضة ، قال ابن جرير عن سلمان الفارسي ، قال :
(1/528)
« جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليك يا رسول الله ، فقال : » وعليك السلام ورحمة الله « ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله؛ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » وعليك السلام ورحمة الله وبركاته « ، ثم جاء آخر فقال : السلام عليك يا رسول الله ورحمة الله وبركاته ، فقال له : » وعليك « فقال له الرجل : يا نبي الله بأبي أنت وأمي : أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهم أكثر مما رددت علي؟ فقال : » إنك لم تدع لنا شيئاً ، قال الله تعالى : { وَإِذَا حُيِّيتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } فرددناها عليك « » .
وفي هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة [ السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ] ، إذا لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال الإمام أحمد عن عمران بن حصين أن رجلاً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : السلام عليكم يا رسول الله فرد عليه ثم جلس ، فقال : « عشر » ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله يا رسول الله فرد عليه ثم جلس فقال « عشرون » ثم جاء آخر فقال : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فرد عليه ، ثم جلس فقال : « ثلاثون » . وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : من سلّم عليك من خلق الله فاردد عليه ، وإن كان مجوسياً ذلك بأن الله يقول : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } وقال فأما أهل الذمة فلا يُبدأون بالسلام ولا يزادون بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا سلم عليكم اليهود فإنما يقول أحدهم السام عليكم فقل وعليك » وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تبدأوا اليهود والنصارى بالسلام ، وإذا لقيتموهم في طريق فاضطروهم إلى أضيقه » ، وقال الحسن البصري : السلام تطوع والرد فريضة ، وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة أن الرد واجب على من سلم عليه فيأثم إن لم يفعل ، لأنه خالف أمر الله في قوله : { فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَآ أَوْ رُدُّوهَآ } وقد جاء في الحديث الذي رواه أبو داود بسنده إلى أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا ، ولا تؤمنوا حتى تحابوا ، أفلا أدلكم على أمر إذا فعلتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم » .
وقوله تعالى : { الله لا إله إِلاَّ هُوَ } إخبار بتوحيده وتفرده بالإلهية لجميع المخلوقات وتضمن قسماً لقوله : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ } هذه الام موطئة للقسم فقوله الله لا إله إلا هو خبر وقسم أنه سيجمع الأولين والآخرين في صعيد واحد ، فيجازي كل عامل بعمله وقوله تعالى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله حَدِيثاً } أي لا أحد أصدق منه في حديثه وخبره ووعده ووعيده ، فلا إله إلا هو ولا رب سواه .
(1/529)
فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِمَا كَسَبُوا أَتُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً فَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِيَاءَ حَتَّى يُهَاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَلَا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (89) إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ أَوْ جَاءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقَاتِلُوكُمْ أَوْ يُقَاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا (90) سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّ مَا رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيهَا فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَيُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَيَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأُولَئِكُمْ جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (91)
يقول تعالى منكراً على المؤمنين في اختلافهم في المنافقين على قولين واختلف في سبب ذلك ، فقال الإمام أحمد عن زيد بن ثابت : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أحد فرجع ناس خرجوا معه ، فكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فيهم فرقتين ، فرقة تقول : نقتلهم ، وفرقة تقول : لا ، هم المؤمنون فأنزل الله : { فَمَا لَكُمْ فِي المنافقين فِئَتَيْنِ } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنها طيبة وإنها تنفي الخبث كما ينفي الكير خبث الحديد » وقد ذكر محمد بن إسحاق في وقعة أُحد : أن عبد الله بن أبي بن سلول رجع يومئذ بثلث الجيش ، رجع بثلثمائة وبقي النبي صلى الله عليه وسلم في سبعمائة ، وقوله تعالى : { والله أَرْكَسَهُمْ بِمَا كسبوا } أي ردهم وأوقعهم في الخطأ ، قال ابن عباس : { أَرْكَسَهُمْ } أي أوقعهم ، وقال قتادة : أهلكهم ، وقال السدي : أضلهم ، وقوله : { بِمَا كسبوا } أي بسبب عصيانهم ومخالفتهم الرسول واتباعهم الباطل { أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُواْ مَنْ أَضَلَّ الله وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي لا طريق له إلى الهدى ولا مخلص له إليه ، وقوله : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً } أي هم يودون لكم الضلالة لتستووا أنتم وإياهم فيها ، وما ذاك إلا لشدة عداوتهم وبغضهم لكم ، ولهذا قال : { فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ حتى يُهَاجِرُواْ فِي سَبِيلِ الله فَإِنْ تَوَلَّوْاْ } أي تركوا الهجرة قاله ابن عباس ، وقال السدي : أظهروا كفرهم { فَخُذُوهُمْ واقتلوهم حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } ، أي لا توالوهم ولا تستنصروا بهم على أعداء الله ما داموا كذلك ، ثم استثنى الله من هؤلاء فقال : { إِلاَّ الذين يَصِلُونَ إلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } أي إلا الذين لجأوا وتحيزوا إلى قوم بينكم وبينهم مهادنة أو عقد ذمة فاجعلوا حكمهم كحكمهم ، وهذا قول السدي وابن جرير .
وقد روى ابن أبي حاتم عن الحسن أن ( سراقة بن مالك المدلجي ) قال : « لما ظهر النبي صلى الله عليه وسلم على أهل بدر وأُحد وأسلم من حولهم ، قال سراقة بلغني أنه يريد أن يبعث ( خالد بن الوليد ) إلى قومي بني مدلج فأتيته ، فقلت : أنشدك النعمة ، فقالوا صه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » دعوه ، ما تريد «؟ ، قال : بلغني أنك تريد أن تبعث إلى قومي وأنا أريد أن توادعهم ، فإن أسلم قومك أسلموا ودخلوا في الإسلام ، وإن لم يسلموا لم تخشن قلوب قومك عليهم ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيد خالد بن الوليد فقال : » اذهب معه فافعل ما يريد « ، فصالحهم خالد على أن لا يعينوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وإن أسلمت قريش أسلموا معهم »
(1/530)
، فأنزل الله : { وَدُّواْ لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُواْ فَتَكُونُونَ سَوَآءً فَلاَ تَتَّخِذُواْ مِنْهُمْ أَوْلِيَآءَ } . وقد روي عن ابن عباس أنه قال نسخها قوله : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] الآية ، وقوله : { أَوْ جَآءُوكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ } هؤلاء قوم آخرون من المستثنين من الأمر بقتالهم وهم الذين يجيئون إلى المصاف وهم حصرة صدورهم أي ضيقة صدورهم ، مبغضين أن يقاتلوكم ، ولا يهون عليهم أيضاً أن يقاتلوا قومهم معكم بل هم لا لكم ولا عليكم { وَلَوْ شَآءَ الله لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقَاتَلُوكُمْ } أي من لطفه بكم أن كفهم عنكم { فَإِنِ اعتزلوكم فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْاْ إِلَيْكُمُ السلم } أي المسالمة { فَمَا جَعَلَ الله لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً } أي فليس لكم أن تقاتلوهم ما دامت حالهم كذلك ، وهؤلاء كالجماعة الذين خرجوا يوم بدر من بني هاشم مع المشركين فحضروا القتال وهم كارهون كالعباس ونحوه ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم يومئذ عن قتل العباس وأمر بأسره .
وقوله تعالى : { سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَن يَأْمَنُوكُمْ وَيَأْمَنُواْ قَوْمَهُمْ } الآية ، هؤلاء في الصورة الظاهرة كمن تقدمهم ، ولكن نية هؤلاء غير نية أولئك ، فإن هؤلاء قوم منافقون ، يظهرون للنبي صلى الله عليه وسلم ولأصحابه الإسلام ليأمنوا بذلك عندهم على دمائهم وأموالهم وذراريهم ، ويصانعون الكفار في الباطن فيعبدون معهم ما يعبدون ليأمنوا بذلك عندهم وهم في الباطن مع أولئك ، كما قال تعالى : { وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ قالوا إِنَّا مَعَكُمْ } [ البقرة : 14 ] الآية ، وقال هاهنا : { كُلَّ مَا ردوا إِلَى الفتنة أُرْكِسُواْ فِيِهَا } أي انهمكوا فيها ، وقال السدي : الفتنة هاهنا الشرك ، وحكى ابن جرير عن مجاهد : أنها نزلت في قوم من أهل مكة كانوا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم فيسلمون رياء ، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان ، يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا ، فأمر بقتلهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا ، ولهذا قال تعالى : { فَإِن لَّمْ يَعْتَزِلُوكُمْ ويلقوا إِلَيْكُمُ السلم } المهادنة والصلح { ويكفوا أَيْدِيَهُمْ } أي عن القتال { فَخُذُوهُمْ } أسراء { واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ } أي أين لقيتموهم { وأولئكم جَعَلْنَا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } أي بيناً واضحاً .
(1/531)
وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلَّا خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِنًا خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (92) وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا (93)
يقول تعالى : ليس لمؤمن أن يقتل أخاه المؤمن بوجه من الوجوه ، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، إلا بأحدى ثلاث : النفس بالنفس ، والثيب الزاني ، والتارك لدينه المفارق للجماعة » ، ثم إذا وقع شي من هذه الثلاث فليس لأحد من آحاد الرعية أن يقتله ، وإنما ذلك إلى الإمام أو نائبه ، وقوله : { إِلاَّ خَطَئاً } قالوا : هو استثناء منقطع كقول الشاعر :
من البيض لم تظعن بعيداً ولم تطأ ... على الأرض إلا ريط بردٍ مرحّل
واختلف في سبب نزول هذه ، فقال مجاهد : نزلت في ( عياش بن أبي ربيعة ) وذلك أنه قتل رجلاً يعذبه مع أخيه على الإسلام ، وهو ( الحارث بن يزيد الغامدي ) فأسلم ذلك الرجل وهاجر ، وعياش لا يشعر ، فلما كان يوم الفتح رآه فظن أنه على دينه فحمل عليه فقتله فأنزل الله هذه الآية . قال ابن أسلم : نزلت في أبي الدرداء لأنه قتل رجلاً وقد قال كلمة الإيمان حين رفع عليه السيف فأهوى به إليه ، فقال كلمته ، فلما ذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، قال : إنما قالها متعوذاً ، فقال له : هل شققت عن قلبه؟ وهذه القصة في الصحيح لغير أبو الدرداء .
وقوله تعالى : { وَمَن قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَئاً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } ، هذان واجبان في قتل الخطأ ، أحدهما : الكفارة لما ارتكبه من الذنب العظيم وإن كان خطأ ، ومن شروطها أن تكون عتق { رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } فلا تجزىء الكافرة ، وفي موطأ مالك ومسند الشافعي وأحمد عن عطاء بن يسار عن معاوية بن الحكم : « أنه لما جاء بتلك الجارية السوداء ، قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أين الله « ، قالت : في السماء ، قال : » من أنا « قالت : رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : » أعتقها فإنها مؤمنة « وقوله : { وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إلى أَهْلِهِ } هو الواجب الثاني فيما بين القاتل وأهل القتيل عوضاً لهم عما فاتهم من قتيلهم ، وهذه الدية إنما تجب أخماساً كما رواه أحمد وأهل السنن عن ابن مسعود ، قال : قضى رسول الله صلى الله عليه وسلم في دية الخطا ( عشرين بنت مخاض ، وعشرين بني مخاض ذكوراً ، وعشرين بنت لبون ، وعشرين جذعة ، وعشرين حقة ) وإنما تجب على عاقلة القاتل لا في ماله ، قال الشافعي رحمه الله : لم أعلم مخالفاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدية على العاقلة ، وهو أكثر من حديث الخاصة ، وهذا الذي أشار إليه رحمه الله قد ثبت في غير ما حديث ، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال :
(1/532)
« اقتتلت امرأتان من هذيل ، فرمت إحداهما الأخرى بحجر فقتلتها وما في بطنها ، فاختصموا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقضى أن دية جنينها غرة عبد أو أمة ، وقضى بدية المرأة على عاقلتها » وهذا يقتضي أن حكم عمد الخطأ المحض في وجوب الدية ، لكن هذا تجب فيه الدية أثلاثاً لشبهة العمد .
وفي صحيح البخاري عن عبد الله بن عمر ، قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم خالد بن الوليد إلى بني جذيمة ، فدعاهم إلى الإسلام ، فلم يحسنوا أن يقولوا أسلمنا ، فجعلوا يقولون : صبأنا صبأنا ، فجعل خالد يقتلهم ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فرفع يديه ، وقال : « اللهم إني أبرأ إليك مما صنع خالد » ، وبعث علياً فودى قتلاهم ، وما أتلف من أمولاهم حتى ميلغة الكلب ، وهذا الحديث يؤخذ منه أن خطا الإمام أو نائبه يكون في بيت المال ، وقوله : { إِلاَّ أَن يَصَّدَّقُواْ } أي فتجب فيه الدية مسلمة إلى أهله إلا أن يتصدقوا بها فلا تجب ، وقوله : { فَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ عَدُوٍّ لَّكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُّؤْمِنَةٍ } أي إذا كان القتيل مؤمناً ، ولكن أولياؤه من الكفار أهل حرب فلا دية لهم على القاتل تحرير رقبة مؤمنة لا غير .
وقوله تعالى : { وَإِن كَانَ مِن قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِّيثَاقٌ } الآية أي فإن كان القتيل أولياؤه أهل ذمة أو هدنة فلهم دية قتيلهم ، فإن كان مؤمناً فيدة كاملة وكذا إن كان كافراً أيضاً عند طائفة من العلماء ، وقيل : يجب في الكافر نصف دية المسلم ، وقيل : ثلثها كما هو مفصل في كتاب الأحكام ، ويجب أيضاً على القاتل تحرير رقبة مؤمنة ، { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ } أي لا إفطار بينهما ، بل يسرد صومهما إلى آخرهما ، فإن أفطر من غير عذر من مرض أو حيض أو نفاس استأنف ، واختلفوا في السفر هل يقطع أم لا على قولين ، وقول : { تَوْبَةً مِّنَ الله وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } أي هذه توبة القاتل خطأ إذا لم يجد العتق صام شهرين متتابعين ، واختلفوا فيمن لا يستطيع الصيام ، هل يجب عليه إطعام ستين مسكيناً كما في كفارة الظهار؟ على قولين : أحدهما : نعم ، كما هو منصوص عليه في كفارة الظهار ، وإنما لم يذكر هاهنا لأن هذا مقام تهديد وتخويف وتحذير ، فلا يناسب أن يذكر فيه الإطعام لما فيه من التسهيل والترخيص ، والقول الثاني : لا يعدل إلى الطعام لأنه لو كان واجباً لما أخر بيانه عن وقت الحاجة ، { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } قد تقدم تفسيره غير مرة ، ثم لما بين تعالى حكم القتل الخطأ شرع في بينا حكم القتل العمد ، فقال : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } الآية ، وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد لمن تعاطى هذا الذنب العظيم الذي هو مقرون بالشرك بالله في غير ما آية في كتاب الله ، حيث يقول سبحانه في سورة الفرقان :
(1/533)
{ والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } [ الآية : 68 ] الآية ، وقال تعالى : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } [ الأنعام : 151 ] الآية .
والآيات والأحاديث في تحريم القتل كثيرة جداً ، فمن ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أول ما يقضى بين الناس يوم القيامة في الدماء » ، وفي حديث آخر : « لزوال الدنيا أهون عند الله من قتل رجل مسلم » ، وفي الحديث الآخر : « لو اجتمع أهل السموات والأرض على قتل رجل مسلم لأكبهم الله في النار » ، وفي الحديث الآخر : « من أعان على قتل المسلم ولو بشطر كلمة جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه آيس من رحمة الله » ، وقد كان ابن عباس يرى أنه لا توبة لقاتل المؤمن عمداً ، وقال البخاري عن المغيرة بن النعمان قال : سمعت ابن جبير قال : اختلف فيها أهل الكوفة فرحلت إلى ابن عباس فسالته عنها فقال : نزلت هذه الآية { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّم } هي آخر ما نزل وما نسخها شيء . وقال في هذه الآية : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] إلى آخرها قال : نزلت في أهل الشرك . وقال ابن جرير عن سعيد بن جبير قال : سألت ابن عباس عن قوله : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّم } قال : إن الرجل إذا عرف الإسلام وشرائع الإسلام ثم قتل مؤمناً متعمداً فجزاؤه جهنم لا توبة له فذكرت ذلك لمجاهد فقال : إلا من ندم .
وروى سالم بن أبي الجعد قال : كنا عند ابن عباس بعدما كُفَّ بصره فأتاه رجل فناداه : يا عبد الله بن عباس ما ترى في رجل قتل مؤمناً متعمداً؟ فقال : جزاؤه جهنم خالداً فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذاباً عظيماً ، قال : افرأيت إن تاب وعمل صالحاً ثم اهتدى؟ قال ابن عباس : ثكلته أمه وأنى له التوبة والهدى؟ والذي نفسي بيده لقد سمعت نبيكم صلى الله عليه وسلم يقول : « ثكلته أمه قاتل مؤمن متعمداً ، جاء يوم القيامة أخذه بيمينه أو بشماله تشخب أوداجه من قبل عرش الرحمن ، يلزم قاتله بشماله وبيده الأخرى رأسه يقول : يا رب سل هذا فيم قتلني » ، وايم الذي نفس عبد الله بيده لقد أنزلت هذه الآية فما نسختها من آية حتى قبض نبيكم صلى الله عليه وسلم وما نزل بعدها من برهان . وعن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يجيء المقتول متعلقاً بقاتله يوم القيامة آخذاً راسه بيده الأخرى ، فيقول : يا رب سل هذا فيم قتلني؟ قال ، فيقول : قتلته لتكون العزة لك ، فيقول : فإنها لي ، قال : ويجيء آخر متعلقاً بقاتله ، فيقول : رب سل هذا فيم قتلني؟ قال فيقول : قتلته لتكون العزة لفلان قال : فإنها ليست له بؤ بإثمه ، قال فيهوي في النار سبعين خريفاً » .
(1/534)
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن أبي إدريس ، قال : سمعت معاوية رضي الله عنه يقول : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً ، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً » والذي عليه الجمهور من سلف الأمة وخلفها : أن القاتل له توبة فيما بينه وبين الله عزَّ وجلَّ ، فإن تاب وأناب ، وخشع وخضع وعمل عملاً صالحاً بدل الله سيئاته حسنات ، وعوض المقتول من ظلامته وأرضاه عن ظلامته . قال الله تعالى : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ } [ الفرقان : 68 ] إلى قوله : { إِلاَّ مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً } [ الفرقان : 70 ] الآية ، وهذا خبر لا يجوز نسخه وحمله على المشركين وحمل هذه الآية على المؤمنين خلاف الظاهر ، ويحتاج حمله إلى دليل ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله } [ الزمر : 53 ] الآية ، وهذا عام في جميع الذنوب من كفر وشرك وشك ونفاق وقتل وفسق وغير ذلك ، كل من تاب تاب الله عليه ، قال الله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ، 116 ] فهذه الآية عامة في جميع الذنوب ما عدا الشرك وهي مذكورة في هذه السورة الكريمة بعد هذه الآية وقبلها ، لتقوية الرجاء والله أعلم . وثبت في الصحيحين خبر الإسرائيلي الذي قتل مائة نفس ، ثم سأل عالماً هل لي من توبة فقال : ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى بلد يعبد الله فيه ، فهاجر إليه فمات في الطريق ، فقبضته ملائكة الرحمة كما ذكرناه غير مرة . وإذا كان هذا في بني إسرائيل فلأن يكون في هذه الأمة التوبة مقبولة بطريق الأولى والأحرى ، لأن الله وضع عنا الآصار والأغلال التي كانت عليهم ، وبعث نبينا بالحنيفية السمحة ، فأما الآية الكريمة وهي قوله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً } الآية ، فقد قال أبو هريرة وجماعة من السلف ، هذا جزاؤه إن جازاه ، وكذا كل وعيد على ذنب لكن قد يكون كذلك معارض من أعمال صالحة تمنع وصول ذلك الجزاء إليه على قولي أصحاب الموازنة والاحباط ، وهذا أحسن ما يسلك في باب الوعيد ، والله أعلم بالصواب . وبتقدير دخول القاتل في النار ، أما على قول ابن عباس ومن وافقه أنه لا توبة له ، أو على قول الجمهور حيث لا عمل له صالحاً ينجو به فليس بمخلد فيها أبداً ، بل الخلود هو المكث الطويل ، وقد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(1/535)
« أنه يخرج من النار من كان في قلبه أدنى مثقال ذرة من إيمان » ، وأما حديث معاوية : « كل ذنب عسى الله أن يغفره إلا الرجل يموت كافراً ، أو الرجل يقتل مؤمناً متعمداً » فعسى للترجي ، فإذا انتفى الترجي في هاتين الصورتين لانتفى وقوع ذلك في أحدهما وهو القتل ، لما ذكرنا من الأدلة .
وأما من مات كافراً فالنص أن الله لا يغفر له ألبتة ، وأما مطالبة المقتول القاتل يوم القيامة فإنه حق من حقوق الآدميين وهي لا تسقط بالتوبة ، ولكن لا بد من ردها إليهم ولا فرق بين المقتول والمسروق منه ، والمغصوب منه والمقذوف وسائر حقوق الآدميين ، فإن الإجماع منعقد على أنها لا تسقط بالتوبة ، ولكنه لا بد من ردها إليهم في صحة التوبة فإن تعذر ذلك فلا بد من المطالبة يوم القيامة ، لكن لا يلزم من وقوع المطالبة وقوع المجازاة ، إذ قد يكون للقاتل أعمال صالحة تصرف إلى المقتول أو بعضها ، ثم يفضل له أجر يدخل به الجنة أو يعوض الله المقتول بما يشاء من فضله من قصور الجنة ونعيمها ، ورفع درجته فيها نحو ذلك والله أعلم .
ثم لقاتل العمد أحكام في الدنيا وأحكام في الآخرة ، فأما في الدنيا فتسلط أولياء المقتول عليه قال الله تعالى : { وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً } [ الإسراء : 33 ] الآية ، ثم هم مخيرون بين أن يقتلوا ، أو يعفوا ، أو يأخذوا دية مغلظة - أثلاثاً - ثلاثون حقة وثلاثون جذعة وأربعون خلفة ، كما هو مقرر في كتاب الأحكام ، واختلف الأئمة هل تجب عليه كفارة عتق رقبة ، أو صيام شهرين متتابعين أو إطعام على أحد القولين كما تقدم في كفارة الخطأ على قولين ، فالشافعي وأصحابه وطائفة من العلماء يقولون : نعم يجب عليه ، لأنه إذا وجبت عليه الكفارة في الخطأ فلأن تجب عليه في العمد أولى فطردوا هذا في كفارة اليمين الغموس ، وقال أصحاب الإمام أحمد وآخرون : قتل العمد أعظم من أن يكفر فلا كفارة فيه وكذا اليمين الغموس ، وقد احتج من ذهب إلى وجوب الكفارة في قتل العمد بما رواه الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع قال : أتى النبي صلى الله عليه وسلم نفر من بني سليم فقالوا : إن صاحباً لنا قد أوجب ، قال : « فليعتق رقبة يفدي الله بكل عضو منها عضواً منه من النار » .
(1/536)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (94)
روى أحمد عن ابن عباس قال : مر رجل من بني سليم بنفر من اصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يرعى غنماً له فسلم عليهم ، فقالوا : لا يسلم علينا إلا ليتعوذ منا ، فعمدوا إليه فقتلوه ، واتو بغنمه النبي صلى الله عليه وسلم ، فنزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } إلى آخرها . وقال البخاري عن عطاء عن ابن عباس { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً } قال : قال ابن عباس : كان رجل في غنيمة له فلحقه المسلمون فقال السلام عليكم فقتلوه وأخذوا غنيمته ، فأنزل الله في ذلك : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً } قال ابن عباس : عرض الدنيا تلك الغنيمة وقرأ ابن عباس { السلام } ، وقال الحافظ أبو بكر البزار عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : « بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم سرية فيه ( المقداد بن الأسود ) فلما أتوا القوم وجدوهم قد تفرقوا وبقي رجل له مال كثير ولم يبرح فقال أشهد أن لا إله إلا الله وأهوى إليه المقداد فقتله فقال له رجل من أصحابه : أقتلت رجلاً شهد أن لا إله إلا الله؟ والله لأذكرن ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم ، فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا يا رسول الله : إن رجلاً شهد أن لا إله إلا الله فقتله المقداد فقال : » ادعوا لي المقداد ، يا مقداد أقتلت رجلاً يقول لا إله إلا الله؟ فكيف لك بلا إله إلا الله غداً؟ « قال : فأنزل الله : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ الله فَتَبَيَّنُواْ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ ألقى إِلَيْكُمُ السلام لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الحياة الدنيا فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا } ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمقداد : » كان رجل مؤمن يخفي إيمانه مع قوم كفار فأظهر إيمانه فقتلته ، وكذلك كنت تخفي إيمانك بمكة قبل « ، وقوله : { فَعِنْدَ الله مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ } أي خير مما رغبتم فيه من عرض الحياة الدنيا الذي حملكم على قتل مثل هذا الذي ألقى إليكم السلام ، وأظهر لكم الإيمان فتغافلتم عنه واتهمتموه بالمصانعة والتقية لتبتغوا عرض الحياة الدنيا فما عند الله من الرزق الحلال خير لكم من مال هذا .
وقوله تعالى { كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ } أي قد كنتم من قبل هذه الحال كهذا الذي يسر إيمانه ويخفيه من قومه كما قال تعالى : { واذكروا إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأرض } [ الأنفال : 26 ] الآية . عن سعيد بن جبير في قوله : { كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ } تستخفون بإيمانكم كما استخفى هذا الراعي بإيمانه ، وهذا اختيار ابن جرير ، وقال ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قوله : { كذلك كُنْتُمْ مِّن قَبْلُ } لم تكونوا مؤمنين ، { فَمَنَّ الله عَلَيْكُمْ } أي تاب عليكم فحلف أسامة لا يقتل رجلاً يقول لا إله إلا الله بعد ذلك الرجل ، وما لقي من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه ، وقوله : { فَتَبَيَّنُواْ } تأكيد لما تقدم ، وقوله : { إِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } قال سعيد بن جبير : هذا تهديد ووعيد .
(1/537)
لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقَاعِدِينَ دَرَجَةً وَكُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى وَفَضَّلَ اللَّهُ الْمُجَاهِدِينَ عَلَى الْقَاعِدِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (95) دَرَجَاتٍ مِنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (96)
قال البخاري عن البراء قال : لما نزلت { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين } دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم زيداً فكتبها ، فجاء ابن أم مكتوم فشكا ضرارته ، فأنزل الله { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } وقال البخاري أيضاً عن سهل بن سعد الساعدي : أنه رأى مروان بن الحكم في المسجد قال : فأقبلت حتى جلست إلى جنبه ، فأخبرنا أن زيد بن ثابت أخبره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أملي عليَّ : { لا يستوي القاعدون من المؤمنين والمجاهدون في سبيل الله } ، فجاءه ابن أم مكتوم وهو يمليها عليَّ ، قال : يا رسول الله : والله لو أستطيع الجهاد لجاهدت وكان أعمى ، فأنزل الله على رسوله صلى الله عليه وسلم وكان فخذه على فخذي فثقلت عليَّ حتى خفت أن تُرضَّ فخذي ثم سري عنه فأنزل الله : { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } .
وعن ابن عباس قال : { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر } ، عن بدر والخارجون إلى بدر ، ولما نزلت غزوة بدر قال عبد الله بن جحش وابن أم مكتوم : إنا أعميان يا رسول الله فهل لنا رخصة؟ فنزلت : { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين غَيْرُ أُوْلِي الضرر } وفضل الله المجاهدين على القاعدين درجة فهؤلاء القاعدون غير أولي الضرر { وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً * دَرَجَاتٍ مِّنْهُ } على القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر . فقوله { لاَّ يَسْتَوِي القاعدون مِنَ المؤمنين } كان مطلقاً فلما نزل بوحي سريع { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } صار ذلك مخرجاً لذوي الأعذار المبيحة لترك الجهاد من العمى والعرج والمرض عن مساواتهم للمجاهدين في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم .
ثم أخبر تعالى بفضيلة المجاهدين على القاعدين قال ابن عباس : { غَيْرُ أُوْلِي الضرر } وكذا ينبغي أن يكون كما ثبت في صحيح البخاري عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه قالوا : وهم بالمدينة يا رسول الله؟ قال : نعم حبسهم العذر » وفي رواية عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « » لقد تركتم بالمدينة أقواماً ما سرتم من مسير ولا أنفقتم من نفقة ولا قطعتم من واد إلا وهم معكم فيه « قالوا : وكيف يكونون معنا فيه يا رسول الله؟ قال : » نعم حبسهم العذر « قال الشاعر في هذا المعنى :
يا راحلين إلى البيت العتيق لقد ... سرتم جسوما وسرنا نحن أرواحا
إنا أقمنا على عذر وعن قدر ... ومن أقام على عذر فقد راحا
وقوله تعالى : { وَكُلاًّ وَعَدَ الله الحسنى } أي الجنة والجزاء الجزيل ، وفيه دلالة على ان الجهاد ليس بفرض عين بل هو فرض على الكفاية ، قال تعالى : { وَفَضَّلَ الله المجاهدين عَلَى القاعدين أَجْراً عَظِيماً } ثم أخبر سبحانه بما فضلهم به من الدرجات ، في غرف الجنات العاليات ، ومغفرة الذنوب والزلات ، وأحوال الرحمة والبركات ، إحساناً منه وتكريماً ولهذا قال : { دَرَجَاتٍ مِّنْهُ وَمَغْفِرَةً وَرَحْمَةً وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } .
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إن في الجنة مائة درجة أعدها الله للمجاهدين في سبيله ، ما بين كل درجتين كما بين السماء والأرض « .
(1/538)
إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا فَأُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (97) إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ وَالْوِلْدَانِ لَا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا (98) فَأُولَئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَكَانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُورًا (99) وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (100)
عن ابن عباس أن ناساً من المسلمين كانوا مع المشركين ، يكثرون سوادهم على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي السهم يرمى به فيصيب أحدهم فيقتله أو يضرب عنقه فيقتل ، فأنزل الله : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ } وقال ابن أبي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس قال : كان قوم من أهل مكة أسلموا وكانوا يستخفون بالإسلام ، فأخرجهم المشركون يوم بدر معهم فأصيب بعضهم ، قال المسلمون : كان أصحابنا هؤلاء مسلمين وأكرهوا فاستغفروا لهم فنزلت { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ } الآية ، قال : فكتب إلى من بقي من المسلمين بهذه الآية لا عذر لهم . قال : فخرجوا فلقيهم المشركون فأعطوهم التقية فنزلت هذه الآية : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله } [ البقرة : 8 ، العنكبوت : 10 ] الآية ، قال الضحاك : نزلت في ناس من المنافقين تخلفوا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة وخرجوا مع المشركين يوم بدر فأصيبوا فيمن أصيب ، فنزلت هذه الآية الكريمة عامة في كل من أقام بين ظهراني المشركين وهو قادر على الهجرة ، وليس متمكناً من إقامة الدين فهو ظالم لنفسه مرتكب حراماً بالإجماع ، وبنص هذه الآية حيث يقول تعالى : { إِنَّ الذين تَوَفَّاهُمُ الملائكة ظالمي أَنْفُسِهِمْ } أي بترك الهجرة { قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ } أي لم مكثتم ها هنا وتركتم الهجرة؟ { قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأرض } أي لا نقدر على الخروج من البلد ، ولا الذهاب في الأرض { قالوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ الله وَاسِعَةً } الآية ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من جامع المشرك وسكن معه فإنه مثله » .
وقوله تعالى : { إِلاَّ المستضعفين } إلى آخر الآية ، هذا عذر من الله لهؤلاء في ترك الهجرة وذلك أنهم لا يقدرون على التخلص من أيدي المشركين ولو قدروا ما عرفوا يسلكون الطريق ، ولهذا قال : { لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً } قال مجاهد : يعني طريقاً ، وقوله تعالى : { فأولئك عَسَى الله أَن يَعْفُوَ عَنْهُمْ } أي يتجاوز الله عنهم بترك الهجرة ، و ( عسى ) من الله موجبة { وَكَانَ الله عَفُوّاً غَفُوراً } قال البخاري عن أبي هريرة قال : بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي العشاء إذ قال : سمع الله لمن حمده؛ ثم قال قبل أن يسجد : « اللهم أنج عياش بن أبي ربيعة ، اللهم أنج سلمة بن هشام ، اللهم أنج الوليد بن الوليد اللهم أنج المستضعفين من المؤمنين ، اللهم اشدد وطأتك على مضر ، اللهم اجعلها سنين كسني يوسف » ، وقال البخاري عن ابن عباس : { إِلاَّ المستضعفين } قال : كنت أنا وأمي ممن عذر الله عزَّ وجلَّ .
وقوله تعالى : { وَمَن يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } وهذا تحريض على الهجرة ، وترغيب في مفارقة المشركين وأن المؤمن حيثما ذهب وجد عنهم مندوحة وملجأ يتحصن فيه ، والمراغم مصدر تقول العرب : راغم فلان قومه مراغماً ومراغمة ، قال النابغة ابن جعدة :
(1/539)
كطود يلاذ بأركانه ... عزيز المراغم والمهرب
وقال ابن عباس : المراغم التحول من أرض إلى أرض ، وقال مجاهد { مُرَاغَماً كَثِيراً } يعني : متزحزحاً عما يكره ، والظاهر والله أعلم أنه المنع الذي يتخلص به ويراغم به الأعداء ، قوله : { وَسَعَةً } يعني الرزق قاله غير واحد منهم قتادة حيث قال في قوله : { يَجِدْ فِي الأرض مُرَاغَماً كَثِيراً وَسَعَةً } أي من الضلالة إلى الهدى ، ومن القلة إلى الغنى .
وقوله تعالى : { وَمَن يَخْرُجْ مِن بَيْتِهِ مُهَاجِراً إِلَى الله وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الموت فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلىَ الله } أي ومن يخرج من منزله بنية الهجرة فمات في أثناء الطريق فقد حصل له عند الله ثواب من هاجر كما ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنما الاعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها ، أو امرأة يتزوجها فهجرته إلى ما هاجر إليه » ، وهذا عام في الهجرة وفي جميع الأعمال ، ومنه الحديث الثابت في الصحيحين في الرجل الذي قتل تسعة وتسعين نفساً ، ثم أكمل بذلك العابد المائة ثم سأل عالماً : هل له من توبة؟ فقال له : ومن يحول بينك وبين التوبة؟ ثم أرشده إلى أن يتحول من بلده إلى بلد أخرى يعبد الله فيه ، فلما ارتحل من بلده مهاجراً إلى البلد الأخرى أدركه الموت في أثناء الطريق فاختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب ، فقال هؤلاء إنه جاء تائباً ، وقال هؤلاء : إنه لم يصل بعد ، فأمروا أن يقيسوا ما بين الأرضين فإلى أيهما كان أقرب فهو منها ، فأمر الله هذه أن تقترب من هذه ، وهذه أن تبعد فوجدوه أقرب إلى الأرض التي هاجر إليها بشبر ، فقبضته ملائكة الرحمة .
قال الإمام أحمد عن عبد الله بن عتيك قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من خرج من بيته مجاهداً في سبيل الله فخرَّ عن دابته فمات فقد وقع أجره على الله ، أو لدغته دابة فمات فقد وقع أجره على الله ، أو مات حتف أنفه فقد وقع أجره على الله » وقال ابن ابي حاتم عن عكرمة عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال : خرج ( ضمرة بن جندب ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فمات في الطريق قبل أن يصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت الآية ، وقال الحافظ أبو يعلى عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من خرج حاجاً فمات كتب له أجر الحاج إلى يوم القيامة ، ومن خرج معتمراً فمات كتب له أجر المعتمر إلى يوم القيامة ، ومن خرج غازياً في سبيل الله فمات كتب له أجر الغازي إلى يوم القيامة » .
(1/540)
وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلَاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكَافِرِينَ كَانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِينًا (101)
يقول تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض } أي سافرتم في البلاد كما قال تعالى : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض } [ المزمل : 20 ] . وقوله : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } أي تخففوا فيها إما من كميتها بأن تجعل الرباعية ثنائية كما فهمه الجمهور من هذه الآية ، واستدلوا بها على قصر الصلاة في السفر على اختلافهم في ذلك فمن قائل لا بد أن يكون سفر طاعة : من جهاد ، أو حج ، أو عمرة ، أو طلب علم ، أو زيادة ، أو غير ذلك .
ومن قائل لا يشترط سفر القربة ، بل لا بد أن كون مباحاً لقوله : { فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } [ المائدة : 3 ] الآية ، كما أباح له تناول الميتة مع الاضطرار بشرط أن لا يكون عاصياً بسفره ، وهذا قول الشافعي وأحمد وغيرهما من الأئمة ، ومن قائل : يكفي مطلق السفر سواء كان مباحاً أو محظوراً حتى لو خرج لقطع الطريق وإخافة السبيل ترخص لوجود مطلق السفر وهذا قول أبي حنيفة والثوري وداود لعموم الآية وخالفهم الجمهور ، وأما قوله تعالى : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } فقد يكون هذا خرج مخرج الغالب حال نزل هذه الآية ، فإن في مبدأ الإسلام بعد الهجرة كان غالب أسفارهم مخوفة ، بل ما كانوا ينهضون إلا إلى غزو عام ، أو في سرية خاصة ، وسائر الأحيان حرب للإسلام وأهله ، والمنطوق إذا خرج مخرج الغالب أو على حادثة فلا مفهوم له كقوله تعالى : { وَلاَ تُكْرِهُواْ فَتَيَاتِكُمْ عَلَى البغآء إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً } [ النور : 33 ] وكقوله تعالى : { وَرَبَائِبُكُمُ اللاتي فِي حُجُورِكُمْ مِّن نِّسَآئِكُمُ } [ النساء : 23 ] .
وقال الإمام أحمد عن يعلى بن أُمية قال : سألت عمر بن الخطاب قلت له قوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } وقد أمن الناس ، فقال لي عمر رضي الله عنه : عجبتُ مما عجبتَ منه فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال : « صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته » وعن أبي حنظلة الحذاء قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان ، فقلت أين قوله : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } ونحن آمنون ، فقال : سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم . وقال ابن مردويه عن أبي الوداك قال : سألت ابن عمر عن ركعتين في السفر فقال : هي رخصة نزلت من السماء فإن شئتم فردوها . وقال أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن عباس قال : صلينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين مكة والمدينة ونحن آمنوا لا نخاف بينهما ركعتين ركعتين . وقال البخاري عن أنس يقول خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من المدينة إلى مكة فكان يصلي ركعتين ركعتين حتى رجعنا إلى المدينة ، قلت : أقمتم بمكة شيئاً قال : أقمنا بها عشراً .
(1/541)
وقال البخاري عن عبد الله بن عمر قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين وابي بكر وعمر وعثمان صدراً من إمارته ثم أتمها ، وحدثنا إبراهيم قال : سمعت عبد الله بن يزيد يقول : صلى بنا عثمان بن عفان رضي الله عنه بمنى أربع ركعات فقيل في ذلك لعبد الله بن مسعود رضي الله عنه فاسترجع ، ثم قال : صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بمنى ركعتين وصليت مع أبي بكر بمنى ركعتين وصليت مع عمر بن الخطاب بمنى ركعتين ، فليت حظي من أربع ركعات ركعتان متقبلتان .
فهذه الأحاديث دالة صريحاً على أن القصر ليس من شرطه وجود الخوف ولهذا قال من قال من العلماء إن المراد من القصر هاهنا إنما هو قصر الكيفية لا الكمية وهو قول مجاهد والضحاك والسدي كما سيأتي بيانه ، واعتضدوا أيضاً بما رواه الإمام مالك عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : فرضت ركعتين ركعتين في السفر والحضر فأقرت صلاة السفر؛ وزيد في صلاة الحضر ، قالوا : فإذاً كان أصل الصلاة في السفر الثنتين فكيف يكون المراد بالقصر هاهنا قصر الكمية لأن ما هو الأصل لا يقال فيه : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } وأصرح من ذلك دلالة على هذا ما رواه الإمام أحمد عن عمر رضي الله عنه قال : صلاة السفر ركعتان ، وصلاة الأضحى ركعتان ، وصلاة الفطر ركعتان ، وصلاة الجمعة ركعتان تمام غير قصر على لسان محمد صلى الله عليه وسلم ، زاد مسلم والنسائي عن عبد الله بن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم محمد صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، فكما يصلي في الحضر قبلها وبعدها فكذلك يصلي في السفر . فهذا ثابت عن ابن عباس رضي الله عنهما ، ولا ينافي ما تقدم عن عائشة رضي الله عنها لأنها أخبرت أن أصل الصلاة ركعتان ولكن زيد في صلاة الحضر ، فلما استقر ذلك صح أن يقال : إن فرض صلاة الحضر أربع كما قاله ابن عباس والله أعلم لكن اتفق حديث ابن عباس وعائشة على أن صلاة السفر ركعتان وأنها تامة غير مقصورة كما هو مصرح به في حديث عمر رضي الله عنه ، وإذا كان كذلك فيكون المراد بقوله تعالى : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } قصر الكيفية كما في صلاة الخوف ، ولهذا قال : { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } الآية ، ولهذا قال بعدها : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة } [ النساء 102 ] الآية ، فبين المقصود من القصر هاهنا وذكر صفته وكيفيته ولهذا لما عقد البخاري كتاب صلاة الخوف صدره بقوله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } ، وقال مجاهد : { فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } يوم كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بعسفان والمشركون بضجنان فتوافقوا فصلى النبي صلى الله عليه وسلم بأصحابه صلاة الظهر أربع ركعات بركوعهم ، وسجودهم ، وقيامهم معاً جميعاً ، فهمَّ بهم المشركون أن يغيروا على أمتعتهم وأثقالهم .
(1/542)
وقال ابن جرير عن أمية بن عبد الله بن خالد بن أسيد قال لعبد الله بن عمر : إنا نجد في كتاب الله قصر ( صلاة الخوف ) ولا نجد قصر ( صلاة المسافر ) فقال عبد الله : إنا وجدنا نبينا صلى الله عليه وسلم يعمل عملاً عملنا به ، فقد سمى صلاة الخوف مقصورة وحمل الآية عليها لا على قصر صلاة المسافر ، وأقره ابن عمر على ذلك واحتج على قصر الصلاة بفعل الشارع لا بنص القرآن ، وأصرح من هذا ما رواه ابن جرير أيضاً عن سماك الحنفي قال : سألت ابن عمر عن صلاة السفر فقال : ركعتان تمام غير قصر إنما القصر في صلاة المخافة فقلت : وما صلاة المخافة؟ فقال : يصلي الإمام بطائفة ركعة ثم يجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء ويجيء هؤلاء إلى مكان هؤلاء فيصلي بهم ركعة فيكون للإمام ركعتان ولكل طائفة ركعة ركعة .
(1/543)
وَإِذَا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلَاةَ فَلْتَقُمْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذَا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرَائِكُمْ وَلْتَأْتِ طَائِفَةٌ أُخْرَى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَأَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً وَاحِدَةً وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كَانَ بِكُمْ أَذًى مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (102)
صلاة الخوف أنواع كثيرة فإن العدو تارة يكون تجاه القبلة ، وتارة يكون في غير صوبها ، والصلاة تارة تكون رباعية ، وتارة تكون ثلاثة كالمغرب ، وتارة تكون ثنائية كالصبح وصلاة السفر ، ثم تارة يصلون جماعة وتارة يلتحم الحرب فلا يقدرون على الجماعة ، بل يصلون فرادى مستقبلي القبلة غير مستقبليها ورجالاً وركباناً ، ولهم أن يمشوا والحالة هذه ويضربوا الضرب المتتابع في متن الصلاة . ومن العلماء من قال : يصلون والحالة هذه ركعة واحدة لحديث ابن عباس المتقدم وبه قال أحمد بن حنبل ، وقال إسحاق بن راهويه : أما عند المسايفة فيجزيك ركعة واحدى تومىء بها إيماء . فإن لم تقدر فسجدة واحدة لأنها ذكر الله . ومن العلماء من أباح تأخير الصلاة لعذر القتال والمناجزة كما أخر النبي صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب الظهر والعصر فصلاهما بعد الغروب ، ثم صلى بعدهما المغرب ثم العشاء ، وكما قال بعدها يوم بني قريظة حين جهز إليهم الجيش لا يصلين أحد منكم العصر إلا في بني قريظة فأدركتهم الصلاة في أثناء الطريق ، فقال منهم قائلون : لم يرد منا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا تعجيل المسير ولم يرد منا تأخير الصلاة عن وقتها فصلوا الصلاة لوقتها في الطريق ، وأخر آخرون منهم صلاة العصر فصلوها في بني قريظة بعد الغروب ولم يعنف رسول الله صلى الله عليه وسلم أحداً من الفريقين . وأما الجمهور فقالوا : هذا كله منسوخ بصلاة الخوف فإنها لم تكن نزلت بعد ، فلما نزلت نسخ تأخير الصلاة لذلك .
فقوله تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة } أي إذا صليت بهم إماماً في صلاة الخوف وهذه حالة غير الأولى ، فإن تلك قصرها إلى ركعة - كما دل عليه الحديث - فرادي ورجالاً وركباناً مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، ثم ذكر حال الاجتماع والائتمام بإمام واحد وما أحسن ما استدل به من ذهب إلى وجوب الجماعة من هذه الآية الكريمة حيث اغتفرت أفعال كثيرة لأجل الجماعة فلولا أنها واجبة ما ساغ ذلك وأما من استدل بهذه الآية على أن صلاة الخوف منسوخة بعد النبي صلى الله عليه وسلم لقوله { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ } فبعده تفوت هذه الصفة ، فإنه استدلال ضعيف ، ويرد عليه مثل قول مانعي الزكاة الذين احتجوا بقوله : { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صلاوتك سَكَنٌ لَّهُمْ } [ التوبة : 103 ] قالوا : فنحن لا ندفع زكاتنا بعده صلى الله عليه وسلم إلى أحد بل نخرجها نحن بأيديدنا معلى من نراه ، ولا ندفعها إلا إلى من صلاته أي دعاؤه سكن لنا ، ومع هذا رد عليهم الصحابة وأبوا عليهم هذا الاستدلال وأجبروهم على أداء الزكاة وقاتلوا من منعها منهم .
(1/544)
ولنذكر سبب نزل هذه الآية الكريمة أولا قبل ذكر صفتها . قال ابن جرير عن علي رضي الله عنه قال : سأل قوم من بني النجار رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله إنا نضرب في الأرض فكيف نصلي؟ فأنزل الله عزَّ وجل : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } [ النساء : 101 ] ثم انقطع الوحي ، فلما كان كذلك بحول غزا النبي صلى الله عليه وسلم فصلى الظهر ، فقال المشركون لقد أمكنكم محمد وأصحابه من ظهورهم هلاَّ شددتم عليهم؟ فقال قائل منهم : إن لهم أخرى مثلها في أثرها قال : فأنزل الله عزَّ وجلَّ بين الصلاتين { إِنْ خِفْتُمْ أَن يَفْتِنَكُمُ الذين كفروا } [ النساء : 101 ] الآيتين فنزلت صلاة الخوف .
وعن أبي عياش الزرقي قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بعسفان فاستقبلنا المشركون عليهم خالد بن الوليد وهم بيننا وبين القبلة فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر فقالوا : لقد كانوا على حال لو أصبنا غرتهم ، ثم قالوا : يأتي عليهم الآن صلاة هي أحب إليهم من أبنائهم وأنفسهم ، قال : فنزل جبريل بهذه الآيات بين الظهر والعصر { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة } ، قال : فحضرت فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذوا السلاح قال : فصفنا خلفه صفين قال : ثم ركع فركعنا جميعاً ، ثم رفع فرفعنا جميعاً ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم بالصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما سجدوا وقاموا جلس الآخرون فسجدوا في مكانهم ، ثم تقدم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ثم هؤلاء إلى مصاف هؤلاء ثم ركع فركعوا جميعاً ثم رفع فرفعوا جميعاً ، ثم سجد النبي صلى الله عليه وسلم والصف الذي يليه والآخرون قيام يحرسونهم ، فلما جلسوا جلس الآخرون فسجدوا ، ثم سلم عليهم ، ثم انصرف قال : فصلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم مرتين مرة بعسفان ، ومرة بأرض بني سليم .
وروى الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال : قاتل رسول الله صلى الله عليه وسلم محارب خصفة ، فجاء رجل منهم يقال له ( غورث بن الحارث ) حتى قام على رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسيف فقال : من يمنعك مني؟ قال : « الله » فسقط السيف من يده فأخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « ومن يمنعك مني » قال : كن خير آخذ قال : « أتشهد أن لا إله إلا الله وأني رسول الله »؟ قال : لا ، ولكن أعاهدك أن لا أقاتلك ولا أكون مع قوم يقاتلونك فخلى سبيله ، فقال : جئتكم من عند خير الناس ، فلما حضرت الصلاة صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم صلاة الخوف فكان الناس طائفتين ، طائفة بإزاء العدو . وطائفة صلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى بالطائفة الذين معه ركعتين وانصرفوا فكانوا مكان الطائفة الذين كانوا بإزاء العدو ثم انصرف الذين كانوا بإزاء العدو فصلوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ركعتين فكان لرسول الله صلى الله عليه وسلم أربع ركعات وللقوم ركعتين ركعتين .
(1/545)
وأما الأمر بحمل السلاح في صلاة الخوف فمحمول عند طائفة من العلماء على الوجوب لظاهر الآية وهو أحد قولي الشافعي ويدل عليه قول الله تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن كَانَ بِكُمْ أَذًى مِّن مَّطَرٍ أَوْ كُنتُمْ مرضى أَن تضعوا أَسْلِحَتَكُمْ وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ } أي بحيث تكونون على أهبة إذا احتجتم إليها لبستموها بلا كلفة { إِنَّ الله أَعَدَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } .
(1/546)
فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا (103) وَلَا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لَا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (104)
يأمر الله تعالى بكثرة الذكر عقيب صلاة الخوف وإن كان مشروعاً مرغباً فيه أيضاً بعد غيرها ولكن ها هنا آكد ، لما وقع فيها من التخفيف في أركانها ، ومن الرخصة في الذهاب فيها والإياب ، وغير ذلك مما ليس يوجد في غيرها كما قال تعالى في الأشهر الحرام : { فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [ التوبة : 36 ] وإن كان هذا منهياً عنه في غيرها ، ولكن فيه آكد لشدة حرمتها وعظمها ، ولهذا قال تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصلاة فاذكروا الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِكُمْ } أي في سائر أحوالكم ، ثم قال تعالى : { فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة } أي فإذا أمنتم وذهب الخوف وحصلت الطمأنينة { فَأَقِيمُواْ الصلاة } أي فأتموها وأقيموها كما أمرتم بحدودها ، وخشوعها ، وركوعها ، وسجودها ، وجميع شئونها . وقوله تعالى : { إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً } قال ابن عباس : أي مفروضاً ، وقال ابن مسعود : إن للصلاة وقتاً كوقت الحج ، وقال زيد بن أسلم : منجماً كلما مضى نجم جاء نجم ، يعني كلما مضى وقت جاء وقت .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَهِنُواْ فِي ابتغآء القوم } أي لا تضعفوا في طلب عدوكم ، بل جدّوا فيهم ، وقاتلوهم ، واقعدوا لهم كل مرصد { إِن تَكُونُواْ تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمونَ } أي كما يصيبكم الجراح والقتل كذلك يحصل لهم كما قال تعالى : { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ } [ آل عمران : 140 ] ثم قال تعالى : { وَتَرْجُونَ مِنَ الله مَا لاَ يَرْجُونَ } أي أنتم وإياهم سواء فيما يصيبكم من الجراح والآلام ، ولكن أنتم ترجون من الله المثوبة والنصر والتأييد ، كما وعدكم إياه في كتابه وعلى لسان رسوله صلى الله عليه وسلم وهو وعد حق ، وخبر صدق ، وهم لا يرجون شيئاً من ذلك ، فأنتم أولى بالجهاد منهم وأشد رغبة فيه ، وفي إقامة كلمة الله وإعلائها { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } أي هو أعلم وأحكم فيما يقدره ويقضيه وينفذه ويمضيه من أحكامه الكونية والشرعية وهو المحمود على كل حال .
(1/547)
إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا (105) وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (106) وَلَا تُجَادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ خَوَّانًا أَثِيمًا (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لَا يَرْضَى مِنَ الْقَوْلِ وَكَانَ اللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطًا (108) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَمَنْ يُجَادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا (109)
يقول تعالى مخاطباً لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق } أي هو حق من الله وهو يتضمن الحق في خبره وطلبه ، وقوله : { لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله } احتج به من ذهب من علماء الأصول إلى أنه كان صلى الله عليه وسلم له أن يحكم بالاجتهاد بهذه الآية وبما ثبت في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سمع جلبة خصم بباب حجرته فخرج إليهم فقال : « ألا إنما أنا بشر وإنما أقضي بنحو مما أسمع ولعل أحدكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من النار فليحملها أو ليذرها » وقال الإمام أحمد عن أم سلمة قالت : جاء رجلان من الأنصار يختصمان إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مواريث بينهما قد درست ليس عندهما بينه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » إنكم تختصمون إليّ وإنما أنا بشر ، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، وإنما أقضي بينكم على نحو مما أسمع ، فمن قضيت له من حق أخيه شيئاً فلا يأخذه فإنما أقطع له قطعة من النار يأتي بها انتظاماً في عنقه يوم القيامة « فبكى الرجلان وقال كل منهما : حقي لأخي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أما إذا قلتما فاذهبا فاقتسما ، ثم توخيا الحق بينكما ثم استهما ، ثم ليحلل كل منكما صاحبه « » .
وقد روى ابن مردويه عن ابن عباس : أن نفرا من الأنصار غزوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض غزواته فسرقت درع لأحدهم فأظن بها رجل من الأنصار فأتى صاحب الدرع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : إن ( طعمة بن أبيرق ) سرق درعي . فلما رأى السارق ذلك عمد إليها فألقاها في بيت رجل برىء ، وقال لنفر من عشيرته : إني غيَّبتُ الدرع وألقيتها في بيت فلان وستوجد عنده ، فانطلقوا إلى نبي الله صلى الله عليه وسلم ليلاً فقالوا : يا نبي الله إن صاحبنا بريء وإن صاحب الدرع فلان وقد أحطنا بذلك علماً فاعذر صاحبنا على رؤوس الناس وجادل عنه ، فإنه إن لم يعصمه الله بك يهلك ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم فبرأه وعذره على رؤوس الناس فأنزل الله : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } ، ثم قال تعالى للذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله } يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين يجادلون عن الخائنين ثم قال عزَّ وجلَّ :
(1/548)
{ وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] الآية يعني الذين أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مستخفين بالكذب ، ثم قال : { وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احتمل بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } [ النساء : 112 ] يعني السارق والذين جادلوا عن السارق .
وقد روى هذه القصة الترمذي وابن جرير عن ( قتادة بن النعمان ) رضي الله عنه قال : كان أهل بيت منا يقال لهم ( بنوا أبيرق ) بشر وبشير ومبشر ، وكان بشير رجلاً منافقاً يقول الشعر يهجو به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم ينحله لبعض العرب ، ثم يقول : قال فلان كذا وكذا ، وقال فلان كذا وكذا ، فإذا سمع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك الشعر قالوا : والله ما يقول هذا الشعر إلا هذا الرجل الخبيث - أو كما قال الرجل - وقالوا : ابن الأبيرق قالها ، قالوا : وكانوا أهل بيت حاجة وفاقة في الجاهلية والإسلام ، وكان الناس إنما طعامهم بالمدينة التمر والشعير ، وكان الرجل إذا كان له يسار فقدمت ضافطة من الشام من الدرمك ابتاع الرجل منها فخص بها نفسه ، وأما العيال فإنما طعامهم التمر والشعير فقدمت ضافطة من الشام فابتاع عمي ( رفاعة بن زيد ) حملاً من الدرمك فجعله في مشربة له ، وفي المشربة سلاح ودرع وسيف ، فعدي عليه من تحت البيت فنقبت المشربة وأخذ الطعام والسلاح . فلما أصبح أتاني عمي ( رفاعة ) فقال : يا ابن أخي إنه قد عدي علينا في ليلتنا هذه فنقبت مشربتنان فذهب بطعامنا وسلاحنا ، قال فتحسسنا في الدار وسألنا فقيل لنا : قد رأينا بني أبيرق استوقدوا في هذه الليلة ولا نرى فيما نرى إلا على بعض طعامكم قال : وكان بنوا أبيرق قالوا - ونحن نسأل في الدار - والله ما نرى صاحبكم إلا ( لبيد بن سهل ) رجلاً منا له صلاح وإسلام ، فلما سمع لبيد اخترط سيفه ، وقال : أنا أسرق؟! والله ليخالطنكم هذا السيف ، أو لتبينُنَّ هذه السرقة ، قالو : إليك عنا أيها الرجل فما أنت بصاحبها ، فسألنا في الدار حتى لم نشك أنهم أصحابها ، فقال لي عمي : يا ابن أخي لو أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له . قال قتادة : فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت : إن أهل بيت منا أهل جفاء عمدوا إلى عمي رفاعة بن زيد فنقبوا مشربة له ، وأخذوا سلاحه وطعامه ، فليردوا علينا سلاحنا ، فأما الطعام فلا حاجة لنا فيه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « سآمر في ذلك » ، فلما سمع بذلك ( بنو أبيرق ) أتو رجلاً منها يقال له ( أسيد بن عروة ) فكلموه في ذلك ، فاجتمع في ذلك أناس من أهل الدار ، فقالوا : يا رسول الله إن قتادة بن النعمان وعمه عمدا إلى أهل بيت منا أهل إسلام وصلاح يرمونهم بالسرقة من غير بينه ولا ثيب ، قال قتادة : فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم فكلمته فقال :
(1/549)
« عمدت إلى أهل بيت ذكر منهم إسلام وصلاح ترميهم بالسرقة على غير ثبت ولا بينة » ، قال : فرجعت ولوددت أني خرجت من بعض مالي ولم أكلم رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، فأتاني عمي رفاعة فقال : يا ابن أخي ما صنعت؟ فأخبرته بما قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : الله المستعان ، فلم نلبث أن نزل القرآن : { إِنَّآ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق لِتَحْكُمَ بَيْنَ الناس بِمَآ أَرَاكَ الله وَلاَ تَكُنْ لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيماً } يعني بني أبيرق { واستغفر الله } أي مما قلت لقتادة { إِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً وَلاَ تُجَادِلْ عَنِ الذين يَخْتَانُونَ أَنْفُسَهُمْ } إلى قوله { رَّحِيماً } [ النساء : 110 ] أي لو استغفروا الله لغفر لهم { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ } [ النساء : 111 ] إلى قوله : { وَإِثْماً مُّبِيناً } [ النساء : 112 ] قوله للبيد : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ } [ النساء : 113 ] إلى قوله : { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 114 ] .
فلما نزل القرآن أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالسلاح فرده إلى رفاعة ، فقال قتادة : لما أتيت عمي بالسلاح وكان شيخاً قد عمي أو عشي في الجاهلية وكنت أرى إسلامه مدخولاً فلما أتيته بالسلاح قال : يا ابن أخي هي في سبيل الله فعرفت أن إسلامه كان صحيحاً ، فلما نزل القرآن لحق بشير بالمشركين فنزل على ( سلافة بنت سعد بن سمية ) فأنزل الله تعالى : { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك لِمَن يَشَآءُ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } [ النساء : 115-116 ] فلما نزل على سلافة بنت سعد هجاها ( حسان بن ثابت ) بأبيات من شعر فأخذت رحله فوضعته على رأسها ثم خرجت به فرمته في الأبطح ، ثم قالت : أهديت لي شعر حسان ما كنت تأتيني بخير .
وقوله تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله } الآية ، هذا إنكار على المنافقين في كونهم يستخفون بقبائحهم من الناس لئلا ينكروا عليهم ، ويجاهرون الله بها مع أنه مطلع على سرائرهم وعالم بما في ضمائرهم ولهذا قال : { وَهُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ مَا لاَ يرضى مِنَ القول وَكَانَ الله بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطاً } تهديد لهم ووعيد ، ثم قال تعالى : و { هَا أَنْتُمْ هؤلاء جَادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الحياة الدنيا } الآية ، أي هب أن هؤلاء انتصروا في الدنيا بما أبدوه أو أبدى لهم عند الحكام الذين يحكمون بالظاهر وهم متعبدون بذلك ، فماذا يكون صنيعهم يوم القيامة بين يدي الله تعالى الذي يعلم السر وأخفى؟ ومن ذا الذي يتوكل لهم يومئذ يوم القيامة في ترويج دعواهم؟ أي لا أحد يومئذ يكون لهم وكيلاً ، ولهذا قال : { أَمْ مَّن يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً } ؟ .
(1/550)
وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا (110) وَمَنْ يَكْسِبْ إِثْمًا فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ عَلَى نَفْسِهِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (111) وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (112) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَكَانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيمًا (113)
يخبر تعالى عن كرمه وجوده أن كل من تاب إليه تاب عليه من أي ذنب كان { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً } قال ابن عباس : أخبر الله عباده بعفوه وحلمه وكرمه ، وسعة رحمته ، ومغفرته ، فمن أذنب ذنباً صغيراً كان أو كبيراً { ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً } ولو كانت ذنوبه أعظم من السموات والأرض والجبال . وقال ابن جرير قال عبد الله : كان بنوا إسرائيل إذا أصاب أحدهم ذنباً أصبح قد كتب كفارة ذلك الذنب على بابه ، وإذا أصاب البول منه شيئاً قرضه بالمقراض ، فقال رجل : لقد آتى الله بني إسرائيل خيراً ، فقال عبد الله رضي الله عنه : ما آتاكم الله خير مما آتاهم جعل الماء لكم طهوراً ، وقال تعالى : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } [ آل عمران : 135 ] وقال : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً } . وقال علي رضي الله عنه : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئاً نفعني الله فيه بما شاء أن ينفعني منه ، وحدثني أبو بكر وصدق أبو بكر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من مسلم يذنب ذنباً ثم يتوضأ ثم يصلي ركعتين ثم يستغفر الله لذلك الذنب إلا غفر له » وقرأ هاتين الآيتين : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } الآية ، { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ } [ آل عمران : 135 ] الآية .
وقوله تعالى : { وَمَن يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّمَا يَكْسِبُهُ على نَفْسِهِ } الآية ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } [ الأنعام : 164 ] الآية ، يعني أنه لا يغني أحد عن أحد ، وإنما على كل نفس ما عملت لا يحمل عنها غيرها ، ولهذا قال تعالى : { وَكَانَ الله عَلِيماً حَكِيماً } أي من علمه وحكمته ، وعدله ورحمته كان ذلك ، ثم قال : { وَمَن يَكْسِبْ خطيائة أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً } الآية يعني كما اتهم بنو أبيرق : بصنيعهم القبيح ذلك الرجل الصالح وهو لبيد بن سهل كما تقدم في الحديث ، أو زيد بن السمين اليهودي على ما قاله الآخرون وقد كان بريئاً وهم الظلمة الخونة كما أطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم ؛ ثم هذا التقريع وهذا التوبيخ عام فيهم وفي غيرهم ممن اتصف بصفتهم فارتكب مثل خطيئتهم فعليه مثل عقوبتهم . وقوله : { وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } وقال الإمام ابن أبي حاتم عن قتادة بن النعمان وذكر قصة بني أبيرق فأنزل الله : { لَهَمَّتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْهُمْ أَن يُضِلُّوكَ وَمَا يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَضُرُّونَكَ مِن شَيْءٍ } يعني أسيد بن عروة وأصحابه يعني بذلك لما أثنوا على بني أبيرق ولاموا قتادة بن النعمان في كونه اتهمهم وهم صلحاء برآء ولم يكن الأمر كما أنهوه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا أنزل الله فصل القضية وجلاءها لرسول الله صلى الله عليه وسلم ثم امتن عليه بتأييده إياه في جميع الأحوال؛ وعصمته له؛ وما أنزل عليه من الكتاب وهو القرآن والحكمة؛ وهي السنة { وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ } أي قبل نزول ذلك عليك كقوله :
(1/551)
{ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكتاب } [ الشورى : 52 ] إلى آخر السورة وقال تعالى : { وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [ القصص : 86 ] ولهذا قال : { وَكَانَ فَضْلُ الله عَلَيْكَ عَظِيماً } .
(1/552)
لَا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا (114) وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا (115)
يقول تعالى : { لاَّ خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ } يعني كلام الناس { إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاَحٍ بَيْنَ الناس } أي إلا نجوى من قال ذلك كما جاء في الحديث الذي رواه ابن مردويه عن أم حبيبة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كلام ابن آدم كله عليه لا له إلا ذكر الله عزَّ وجلَّ؛ أو أمر بمعروف؛ أو نهي عن منكر » وفي الحديث : « ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً؛ أو يقول خيراً » ، وقال الإمام أحمد عن أبي الدرداء قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » ألا أخبركم بأفضل من درجة الصيام ، والصلاة ، والصدقة « قالوا بلى يا رسول الله قال : » إصلاح ذات البين « قال : » وفساد ذات البين هي الحالقة « ورواه أبو داود والترمذي ، { وَمَن يَفْعَلْ ذلك ابتغآء مَرْضَاتِ الله } أي مخلصاً في ذلك محتسباً ثواب ذلك عند الله عزَّ وجلَّ { فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً } أي ثواباً جزيلاً كثيراً واسعاً .
وقوله تعالى : { وَمَن يُشَاقِقِ الرسول مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الهدى } أي ومن سلك غير طريق الشريعة التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم فصار في شق ، والشرع في شق وذلك عن عمد منه ، بعدما ظهر له الحق وتبين له واتضح له ، وقوله : { وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ المؤمنين } هذا ملازم للصفة الأولى ، ولكن قد تكون المخالفة لنص الشارع وقد تكون لما اجتمعت عليه الأمة المحمدية ، فيما علم اتفاقهم عليه تحقيقاً ، فإنه قد ضمنت لهم العصمة في اجتماعهم من الخطأ ، تشريفاً لهم وتعظيماً لنبيهم ، وقد وردت أحاديث صحيحة كثيرة في ذلك . ومن العلماء من ادعى تواتر معناها ، والذي عول عليه الشافعي رحمه الله في الإحتجاج على كون الإجماع حجة تحرم مخالفته هذه الآية الكريمة بعد التروي والفكر الطويل ، وهو من أحسن الاستنباطات وأقواها وإن كان بعضهم قد استشكل ذلك فاستبعد الدلالة منها على ذلك ولهذا توعد تعالى على ذلك بقول : { نُوَلِّهِ مَا تولى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَآءَتْ مَصِيراً } أي إذا سلك هذه الطريق جازيناه علىذلك بأن نحسنها في صدره ونزينها له استدراجاً له كما قال تعالى : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ القلم : 44 ] وقال تعالى : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] وقوله : { وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } [ الأنعام : 110 ] وجعل النار مصيره في الآخرة لأن من خرج عن الهدى لم يكن له طريق إلا إلى النار يوم القيامة كما قال تعالى : { احشروا الذين ظَلَمُواْ وَأَزْوَاجَهُمْ } [ الصافات : 22 ] الآية وقال تعالى : { وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا وَلَمْ يَجِدُواْ عَنْهَا مَصْرِفاً } [ الكهف : 53 ] .
(1/553)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (116) إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِنَاثًا وَإِنْ يَدْعُونَ إِلَّا شَيْطَانًا مَرِيدًا (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (118) وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَمَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُبِينًا (119) يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا (120) أُولَئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَلَا يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصًا (121) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا (122)
قد تقدم الكلام على هذه الآية الكريمة وهي قوله : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذلك } الآية ، وذكرنا ما يتعلق بها من الأحاديث في صدر هذه السورة وقد روي الترمذي عن علي رضي الله عنه أنه قال : ما في القرآن آية أحب إليّ من هذه الآية : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ } الآية . وقوله : { وَمَن يُشْرِكْ بالله فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } أي فقد سلك غير الطريق الحق وضل عن الهدى وبعد عن الصواب وأهلك نفسه ، وخسرها في الدنيا والآخرة ، وفاتته سعادة الدنيا والآخرة وقوله : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً } ، عن عائشة قالت : أوثاناً ، وقال ابن جرير عن الضحاك في الآية قال المشركون للملائكة : بنات الله ، وإنما نعبدهم ليقربونا إلى الله زلفى ، قال : فاتخذوهن أرباباً وصوروهن جواري فحكموا وقلدوا ، وقالوا : هؤلاء يشبهن بنات الله الذي نعبده يعنون الملائكة وهذا التفسير شبيه بقول الله تعالى : { أَفَرَأَيْتُمُ اللات والعزى } [ النجم : 19 ] وقال تعالى : { وَجَعَلُواْ الملائكة الذين هُمْ عِبَادُ الرحمن إِنَاثاً } [ الزخرف : 19 ] ، وقال : { وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَباً } [ الصافات : 158 ] وقال ابن عباس { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إِنَاثاً } قال : يعني موتى ، وقال الحسن : الإناث كل شيء ميت ليس فيه روح ، إما خشبة يابسة ، وإما حجر يابس ، وقوله : { وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطَاناً مَّرِيداً } أي هو الذي أمرهم بذلك وحسنه وزينه لهم وهم إنما يعبدون إبليس في نفسه الأمر كما قال تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان } [ يس : 60 ] الآية ، وقال تعالى إخباراً عن الملائكة أنهم يقولون يوم القيامة عن المشركين الذي ادعوا عبادتهم في الدنيا { بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ] وقوله : { لَّعَنَهُ الله } أي طرده وأبعده من رحمته ، وأخرجه من جواره وقال : { لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } أي معيناً مقدراً معلوماً ، قال قتادة من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار ، وواحد إلى الجنة { وَلأُضِلَّنَّهُمْْ } أي عن الحق { وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ } أي أزين لهم ترك التوبة ، وأعدهم الأماني ، وآمرهم بالتسويف والتأخير ، وأغرهم من أنفسهم . قوله : { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام } قال قتادة : يعني تشقيقها وجعلها سمة ، وعلامة للبحيرة والسائبة والوصيلة { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله } قال ابن عباس : يعني بذلك خصي الدواب ، وقال الحسن البصري : يعني بذلك الوشم ، وفي صحيح مسلم النهي عن الوشم في الوجه ، وفي لفظ ، لعن الله من فعل ذلك . وفي الصحيح عن ابن مسعود أنه قال : لعن الله الواشمات والمستوشمات ، والنامصات والمتنمصات ، والمتفلجات للحسن المغيرات خلق الله عزَّ وجلَّ ، ثم قال ألا ألعن من لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في كتاب الله عزَّ وجلَّ يعني قوله : { وَمَآ آتَاكُمُ الرسول فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فانتهوا }
(1/554)
[ الحشر : 7 ] .
وقال ابن عباس في رواية عنه ومجاهد والضحاك في قوله : { وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ الله } يعني دين الله عزَّ وجلَّ وهذا كقوله : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } [ الروم : 30 ] على قول من جعل ذلك أمراً أي لا تبدلوا فطرة الله ودعوا الناس على فطرتهم كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه ، أو ينصرانه؛ أو يمجسانه كما تولد البهيمة بهيمة جمعاء هل تجدون بها من جدعاء » ؟ وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال الله عزَّ وجلَّ : إني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم ، وحرمت عليهم ما أحللت لهم » ثم قال تعالى : { وَمَن يَتَّخِذِ الشيطان وَلِيّاً مِّن دُونِ الله فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَاناً مُّبِيناً } أي فقد خسر الدنيا والآخرة وتلك خسارة لا جبر لها ولا استدراك لفائتها .
وقوله تعالى : { يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } وهذا إخبار عن الواقع فإن الشيطان يعد أولياءه ويمنيهم بأنهم هم الفائزون في الدنيا والآخرة ، وقد كذب وافترى في ذلك ، ولهذا قال الله تعالى : { وَمَا يَعِدُهُمُ الشيطان إِلاَّ غُرُوراً } ، كما قال تعالى مخبراً عن إبليس يوم المعاد : { وَقَالَ الشيطان لَمَّا قُضِيَ الأمر إِنَّ الله وَعَدَكُمْ وَعْدَ الحق وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِّن سُلْطَانٍ } [ إبراهيم : 22 ] إلى قوله : { إِنَّ الظالمين لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ إبراهيم : 22 ] . وقوله : { أولئك } أي المستحسنون له فيما وعدهم ومنَّاهم { مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ } أي مصيرهم ومآلهم يوم القيامة { وَلاَ يَجِدُونَ عَنْهَا مَحِيصاً } أي ليس لهم عنها مندوحة ولا مصرف ، ولا خلاص ، ولا مناص ، ثم ذكر تعالى حال السعداء والأتقياء وما لهم من الكرامة التامة فقال تعالى : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ النساء : 57 ] أي صدقت قلوبهم وعملت جوارحهم بما أمروا به من الخيرات ، وتركوا ما نهو عنها من المنكرات { سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ النساء : 57 ] أي يصرفونها حيث شاءوا وأين شاءوا { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } أي بلا زوال ولا انتقال { وَعْدَ الله حَقّاً } أي هذا وعد من الله ووعد الله معلوم حقيقة أنه واقع لا محالة ، ولهذا أكده بالمصدر الدال على تحقيق الخبر وهو قوله { حَقَاً } ثم قال تعالى : { وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ الله قِيلاً } ؟ أي لا أحد أصدق منه قولاً أي خبراً لا إله إلا هو ولا رب سواه وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته : « إن أصدق الحديث كلام الله ، وخير الهدي هديُ محمد صلى الله عليه وسلم ، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، وكل ضلالة في النار » .
(1/555)
لَيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ وَلَا أَمَانِيِّ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ وَلَا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (123) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا (124) وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَاتَّخَذَ اللَّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلًا (125) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطًا (126)
قال قتادة : ذكر لنا أن المسلمين وأهل الكتاب افتخروا ، فقال أهل الكتاب : نبينا قبل نبيكم وكتابنا قبل كتابكم فنحن أولى بالله منكم ، وقال المسلمون : نحن أولى بالله منكم ونبينا خاتم النبيين ، وكتابنا يقضي على الكتب التي كانت قبله فأنزل الله : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ } الآية ، ثم أفلج الله حجة المسلمين على من ناوأهم من أهل الأديان . وكذا روي عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : في هذه الآية تخاصم أهل الأديان ، فقال أهل التوراة : كتابنا خير الكتب ، ونبينا خير الأنبياء ، وقال أهل الإنجيل : مثل ذلك ، وقال أهل الإسلام : لا دين إلا الإسلام ، وكتابنا نسخ كل كتاب؛ ونبينا خاتم النبيين ، وأمرتهم وأمرنا أن نؤمن بكتابكم ونعمل بكتابنا فقضى الله بينهم وقال : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } الآية؛ وخير بين الأديان فقال : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله وَهُوَ مُحْسِنٌ } إلى قوله : { واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } وقال مجاهد : قالت العرب لن نبعث ولن نعذب؛ وقالت اليهود والنصارى : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] وقالوا : { لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } [ آل عمران : 24 ] والمعنى في هذه الآية أن الدين ليس بالتحلي ولا بالتمني؛ ولكن ما وقر في القلوب وصدقته الأعمال ، وليس كل من ادعى شيئاً حصل له بمجرد دعواه ، ولا كل من قال إنه هو على الحق سمع قوله بمجرد ذلك حتى يكون له من الله برهان؛ ولهذا قال تعالى : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } أي ليس لكم ولا لهم النجاة بمجرد التمني؟ بل العبرة بطاعة الله سبحانه واتباع ما شرعه على ألسنة الرسل الكرام؛ ولهذا قال بعده : { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } كقوله : { فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ } [ الزلزلة : 7-8 ] .
وقد روي أن هذه الآية لما نزلت شق ذلك على كثير من الصحابة ، قال الإمام أحمد بسنده أخبرت « أن أبا بكر رضي الله عنه قال : يا رسول الله كيف الفلاح بعد هذه الآية : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } فكل سوء عملناه جُزينا به! فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » غفر الله لك يا أبا بكر ألست تمرض؟ ألست تنصب؟ ألست تصيبك اللأواء «؟ قال : بلى ، قال : » فهو مما تجزون به « وروى أبو بكر بن مردويه عن أبي بكر الصديق قال : كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(1/556)
« » يا أبا بكر ألا أقرئك آية أنزلت عليّ « قلت : بلى يا رسول الله قال : فأقرأنيها فلا أعلم أني قد وجدت انفصاماً في ظهري حتى تمطيت لها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » مالك يا أبا بكر «؟ قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله ، وأينا لم يعلم السوء ، وإنا لمجزيون بكل سوء عملناه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أما أنت يا أبا بكر وأصحابك المؤمنون فإنكم تجزون بذلك في الدنيا حتى تلقوا الله ليس لكم ذنوب ، وأما الآخرون فيجمع ذلك لهم حتى يجزوا به يوم القيامة « وقال ابن جرير : لما نزلت هذه الآية قال أبو بكر : جاءت قاصمة الظهر فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنما هي المصيبات في الدنيا « ( حديث آخر ) قال سعيد بن منصور عن عائشة : أن رجلاً تلى هذه الآية : { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } فقال : إنا لنجزى بكل ما عملناه هلكنا إذاً فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » نعم يجزى به المؤمن في الدنيا في نفسه في جسده فيما يؤذيه « .
( طريق أخرى ) قال ابن أبي حاتم عن عائشة قالت » قلت يا رسول الله إني لأعلم أشد آية في القرآن فقال : « ما هي يا عائشة؟ » قلت : { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } فقال : « هو ما يصيب العبد المؤمن حتى النكبة ينكبها » وعن علي بن زيد عن ابنته أنها سألت عائشة عن هذه الآية : { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } فقالت : « ما سألني أحد عن هذه الآية منذ سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » يا عائشة هذه مبايعة الله للعبد مما يصيبه من الحمى والنكبة والشوكة حتى البضاعة فيضعها في كمه فيفزع لها فيجدها في جيبه حتى إن المؤمن ليخرج من ذنوبه كما أن الذهب يخرج من الكير « » .
( حديث آخر ) : قال سعيد بن منصور عن محمد بن قيس بن مخرمة : أن أبا هريرة رضي الله عنه قال لما نزلت { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } شق ذلك على المسلمين فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سددوا وقاربوا فإن في كل ما يصاب به المسلم كفارة حتى الشوكة يشاكها والنكبة ينكبها » وهكذا رواه أحمد ورواه ابن جرير عن عبد الله بن إبراهيم سمعت أبا هريرة يقول : لما نزلت هذه الآية : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } بكينا وحزنا وقلنا يا رسول الله : ما أبقت هذه الأمة من شيء قال :
(1/557)
« أما والذي نفسي بيده إنها لكما أنزلت ولكن أبشروا وقاربوا وسددوا فإنه لا يصيب أحداً منكم مصيبة في الدنيا إلا كفر الله بها من خطيئته حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه » ( حديث آخر ) : روى ابن مردويه عن ابن عباس قال : « قيل يا رسول الله { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } قال : » نعم ومن يعمل حسنة يجز بها عشراً « فهلك من غلب واحدته عشراته . وقال ابن جرير عن الحسن { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } قال : الكافر ثم قرأ : { وَهَلْ نجازي إِلاَّ الكفور } [ سبأ : 17 ] ، وقوله { وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } قال ابن عباس : إلا أن يتوب فيتوب الله عليه رواه ابن أبي حاتم . والصحيح أن ذلك عام في جميع الأعمال لما تقدم من الأحاديث وهذا اختيار ابن جرير والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ } الآية . لما ذكر الجزاء على السيئات ولأنه لا بد أن يأخذ مستحقها من العبد إما في الدنيا وهو أجود له ، وإما في الآخرة والعياذ بالله من ذلك؛ ونسأله العافية في الدنيا والآخرة ، والصفح والعفو والمسامحة ، شرع في بيان إحسانه وكرمه ورحمته في قبول الأعمال الصالحة من عباده ، ذكرانهم وإناثهم بشرط الإيمان ، وأنه سيدخلهم الجنة ولا يظلمهم من حسناتهم ولا مقدار النقير ، وهو النقرة التي في ظهر نواة التمرة ، وقد تقدم الكلام على الفتيل ، وهو الخيط الذي في شق النواة ، وهذا النقير وهما في نواة التمرة والقطمير وهو اللفاقة التي على نوات التمرة ، والثلاثة في القرآن . ثم قال تعالى : { وَمَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لله } ؟ أي أخلص العمل لربه عز وجلَّ . فعمل إيماناً واحتساباً { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي اتبع في عمله ما شرعه الله له وما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق ، وهذان الشرطان لا يصح عمل عامل بدونهما أي يكون ( خالصاً صواباً ) والخالص أن يكون لله . والصواب أن يكون متابعاً للشريعة فيصح ظاهره بالمتابعة ، وباطنه بالإخلاص فمتى فقد العمل أحد هذين الشرطين فسد ، فمن فقد الإخلاص كان منافقاً وهم الذين يراؤون الناس ، ومن فقد المتابعة كان ضالاً جاهلاً ومتى جمعهما كان عمل المؤمنين { أولئك الذين نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ مَا عَمِلُواْ وَنَتَجَاوَزُ عَن سَيِّئَاتِهِمْ } [ الأحقاف : 16 ] ، ولهذا قال تعالى : { واتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } وهم محمد وأتباعه إلى يوم القيامة ، كما قال تعالى : { إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي } [ آل عمران : 68 ] الآية . وقال تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } [ النحل : 123 ] والحنيف هو المائل عن الشرك قصداً أي تاركاً له عن بصيرة ومقبل على الحق بكليته لا يصده عنه صاد ، ولا يرده عنه راد .
(1/558)
وقوله تعالى : { واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } وهذا من باب الترغيب في اتباعه ، لأنه إمام يقتدى به حيث وصل إلى غاية ما يتقرب به العباد فإنه انتهى إلى درجة الخلة التي هي أرفع مقامات المحبة ، وما ذاك إلا لكثرة طاعته لربه كما وصفه به في قوله : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } [ النجم : 37 ] قال كثير من علماء السلف : أي قام بجميع ما أمر به ، وفّى كل مقام من مقامات العبادة ، فكان لا يشغله أمر جليل عن حقير ، ولا كبير عن صغير ، وقال تعالى : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } [ البقرة : 124 ] الآية ، وقال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين } [ النحل : 120 ] الآية ، وقال البخاري عن عمرو بن ميمون قال : إن معاذاً لما قدم اليمن صلى بهم الصبح فقرأ : { واتخذ الله إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً } فقال رجل من القوم : لقد قرت عين أم إبراهيم . وإنما سمي خليل الله لشدة محبته لربه عزَّ وجلَّ لما قام به من الطاعة التي يحبها ويرضاها ، ولهذا ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما خطبهم في آخر خطبة خطبها قال : « أما بعد أيها الناس فلو كنت متخذاً من أهل الأرض خليلاً لاتخذت أبا بكر بن أبي قحافة خليلاً ولكن صاحبكم خليل الله » .
وروى أبو بكر بن مردويه عن عكرمة عن ابن عباس قال : جلس ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينتظرونه فخرج حتى إذا دنا منهم سمعهم يتذاكرون فسمع حديثهم وإذا بعضهم يقول : عجب إن الله اتخذ من خلقه خليلاً فإبراهيم خليله ، وقال آخر : ماذا بأعجب من أن الله كلم موسى تكليماً ، وقال آخر : فعيسى روح الله وكلمته ، وقال آخر : آدم اصطفاه الله ، فخرج عليهم فسلم وقال : « قد سمعت كلامكم وتعجبكم إن إبراهيم خليل الله وهو كذلك ، وموسى كليمه ، وعيسى روحه وكلمته ، وآدم اصطفاه الله ، وهو كذلك ، وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم قال : ألا وإني حبيب الله ولا فخر ، وأنا أول شافع وأول مشفع ولا فخر ، وأنا أول من يحرك حلقة الجنة فيفتح الله ويدخلنيها ، ومعي فقراء المؤمنين ولا فخر ، وأنا أكرم الأولين والآخرين يوم القيامة ولا فخر » وهذا حديث غريب ولبعضه شواهد في الصحاح وغيرها .
وعن إسحاق بن يسار قال : لما اتخذ الله إبراهيم خليلاً ألقى في قلبه الوجل حتى أن خفقان قلبه ليسمع من بعيد كما يسمع خفقان الطير في الهواء ، وهكذا جاء في صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يسمع لصدره أزيز كأزيز المرجل إذا اشتد غليانها من البكاء وقوله : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } أي الجميع ملكه وعبيده وخلقه ، وهو المتصرف في جميع ذلك ، لا راد لما قضى ، ولا معقب لما حكم ، ولا يسأل عما يفعل لعظمته وقدرته وعدله وحكمته ولطفه ورحمته وقوله : { وَكَانَ الله بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطاً } أي علمه نافذ في جميع ذلك لا تخفى عليه خافية من عباده ، ولا يعزب عن علمه مثقال ذرة في السموات ولا في الأرض ، ولا أصغر من ذلك ولا أكبر ، ولا تخفى عليه ذرة لما تراءى للناظرين وما توارى .
(1/559)
وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّسَاءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ فِي يَتَامَى النِّسَاءِ اللَّاتِي لَا تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ وَتَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَالْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدَانِ وَأَنْ تَقُومُوا لِلْيَتَامَى بِالْقِسْطِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِهِ عَلِيمًا (127)
روى البخاري عن عائشة رضي الله عنها : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ إلى قوله : وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } قالت عائشة : هو الرجل تكون عنده اليتيمه هو وليها ووارثها فأشركته في ماله حتى في العذق ، فيرغب أن ينكحها ويكره أن يزوجها رجلاً فيشركه في ماله بما شركته فيعضلها ، فنزلت هذه الآية ، وقال ابن أبي حاتم عن ابن شهاب أخبرني عروة بن الزبير قالت عائشة : ثم إن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فيهن ، فأنزل الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَمَا يتلى عَلَيْكُمْ فِي الكتاب } الآية ، قالت : والذي ذكر الله أنه يتلى عليه في الكتاب ، الآية الأولى التي قال الله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء } [ النساء : 3 ] وبهذا الإسناد عن عائشة قالت : وقول الله عزَّ وجلَّ : { وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } رغبة أحدكم عن يتيمته التي تكون في حجره ، حين تكون قليلة المال والجمال ، فنهوا أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من يتامى النساء إلا بالقسط ، من أجل رغبتهم عنهن . والمقصود أن الرجل إذا كان في حجره يتيمة يحل له تزويجها فتارة يرغب في أن يتزوجها فأمره الله أن يمهرها أسوة أمثالها من النساء ، فإن لم يفعل فليعدل إلى غيرها من النساء فقد وسع الله عزَّ وجلَّ ، وهذا المعنى في الآية الأولى التي في أول السورة ، وتارة لا يكون له فيها رغبة لدمامتها عنده أو في نفس الأمر فنهاه الله عزَّ وجلَّ أن يعضلها عن الأزواج ، خشية أن يشركوه في ماله الذي بينه وبينها ، كما قال علي بن ابي طلحة عن ابن عباس في الآية ، وهي قوله : { فِي يَتَامَى النسآء } ، كان الرجل في الجاهلية تكون عنده اليتيمة فيلقي عليها ثوبه ، فإذا فعل ذلك لم يقدر أن يتزوجها أبداً ، فإن كانت جميلة وهويها تزوجها وأكل مالها ، وإن كانت دميمة منعها الرجال أبداً حتى تموت ، فإذا ماتت ورثها ، فحرم الله ذلك ونهى عنه .
وقال ابن عباس : { والمستضعفين مِنَ الولدان } وكانوا في الجاهلية لا يورثون الصغار ولا البنات ، وذلك قوله : { لاَ تُؤْتُونَهُنَّ مَا كُتِبَ لَهُنَّ } فنهى الله عن ذلك وبين لكل ذي سهم سهمه فقال : { لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } [ النساء : 11 ] صغيراً أو كبيراً ، وقال سعيد بن جبير : { وَأَن تَقُومُواْ لليتامى بالقسط } كما إذا كانت ذات جمال ومال نكحتها واستأثرت بها ، كذلك إذا لم تكن ذات مال ولا جمال فأنكحها واستأثر بها . وقوله : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله كَانَ بِهِ عَلِيماً } تهييجهاً على فعل الخيرات وامتثالاً للأوامر ، وأن الله عزَّ وجلَّ عالم بجميع ذلك ، وسيجزي عليه أوفر الجزاء وأتمه .
(1/560)
وَإِنِ امْرَأَةٌ خَافَتْ مِنْ بَعْلِهَا نُشُوزًا أَوْ إِعْرَاضًا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحًا وَالصُّلْحُ خَيْرٌ وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَإِنْ تُحْسِنُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (128) وَلَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّسَاءِ وَلَوْ حَرَصْتُمْ فَلَا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوهَا كَالْمُعَلَّقَةِ وَإِنْ تُصْلِحُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا (129) وَإِنْ يَتَفَرَّقَا يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ وَكَانَ اللَّهُ وَاسِعًا حَكِيمًا (130)
يقول تعالى مخبراً ومشرعاً من حال الزوجين تارة في حال نفور الرجل عن المرأة ، وتارة في حال اتفاقه معها ، وتارة في حال فراقه لها ، فالحالة الأولى : ما إذا خافت المرأة من زوجها أن ينفر عنها أو يعرض عنها ، فلها أن تسقط عنه حقها أو بعضه من نفقة أو كسوة أو مبيت أو غير ذلك من حقوقها عليه ، وله أن يقبل ذلك منها فلا حرج عليها في بذلها ذلك له ، ولا عليه في قبوله منها ، ولهذا قال تعالى : { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً } . ثم قال : { والصلح خَيْرٌ } أي من الفراق ، وقوله : { وَأُحْضِرَتِ الأنفس الشح } : أي الصلح عند المشاحة خير من الفراق ، ولهذا لما كبرت ( سودة بنت زمعة ) عزم رسول الله صلى الله عليه وسلم على فراقها ، فصالحته على أن يمسكها وتترك يومها لعائشة ، فقبل ذلك منها أبقاها على ذلك . ( ذكر الرواية بذلك ) : عن عكرمة عن ابن عباس قال : خشيت سودة أن يطلقها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت يا رسول الله : لا تطلقني واجعل يومي لعائشة ، ففعل ونزلت هذه الآية : { وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ } الآية . قال ابن عباس : فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز . وفي الصحيحين عن عائشة قالت : لما كبرت سودة بنت زمعة وهبت يومها لعائشة فكان النبي صلى الله عليه وسلم يقسم لها بيوم سودة . وعن عروة عن عائشة ، أنها قالت له يا ابن أختي : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يفضل بعضاً على بعض في مكثه عندنا ، وكان قلَّ يوم إلا وهو يطوف علينا فيدنو من كل امرأة من غير مسيس ، حتى يبلغ إلى من هو يومها فيبيت عندها ، ولقد قالت سودة بنت زمعة حين أسنت ، وفرقت أن يفارقها رسول الله صلى الله عليه وسلم يا رسول الله يومي هذا لعائشة ، فقبل ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم . قالت عائشة ، ففي ذلك أنزل الله : { وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً } .
وروى ابن جرير عن عائشة : { وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً والصلح خَيْرٌ } قالت : هذا في المرأة تكون عند الرجل ، فلعله لا يكون بمستكثر منها ، ولا يكون لها ولد ، ويكون لها صحبة فتقول : لا تطلقني وأنت في حل من شأني ، وفي رواية أخرى عن عائشة : هو الرجل لها المرأتان إحداهما قد كبرت والآخرى دميمة وهو لا يستكثر منها فتقول : لا تطلقني وأنت في حل من شأني . وعن ابن سيرين قال : جاء رجل إلى عمر بن الخطاب فسأله عن آية فكرهه فضربه بالدرة ، فسأله آخر عن هذه الآية : { وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً } ثم قال مثل هذا فاسألوا : ثم قال : هذه المرأة تكون عند الرجل قد خلا من سنها فيتزوج المرأة الشابة يلتمس ولدها ، فما اصطلحا عليه من شيء فهو جائز .
(1/561)
وقال ابن أبي حاتم عن خالد بن عرعرة قال : جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فسأله عن قوله الله عزَّ وجلَّ : { وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ } قال علي : يكون الرجل عنده المرأة فتنبو عيناه عنها من دمامتها ، أو كبرها ، أو سوء خلقها ، أو قذذها فتكره فراقه ، فإن وضعت له من مهرها شيئاً حل له ، وإن جعلت له من أيامها فلا حرج .
وقال الحافظ أبو بكر البيهقي : عن الزهري أخبرني سعيد بن المسيب وسليمان بن يسار : أن السنّة في هاتين الآيتين اللتين ذكر الله فيهما نشوز الرجل وإعراضه عن امرأته في قوله : { وَإِنِ امرأة خَافَتْ مِن بَعْلِهَا نُشُوزاً أَوْ إِعْرَاضاً } إلى تمام الآيتين ، أن المرء إذا نشز عن امرأته وآثر عليها ، فإن من الحق أن يعرض عليها أن يطلقها أو تستقر عنده على ما كانت من أثرة في القسم من ماله ونفسه ، صلح له ذلك وكان صلحها عليه ، كذلك ذكر ( سعيد بن المسيب ) و ( سليمان ) الصلحَ الذي قاله الله عزَّ وجلَّ : { فَلاَ جُنَاْحَ عَلَيْهِمَآ أَن يُصْلِحَا بَيْنَهُمَا صُلْحاً والصلح خَيْرٌ } وقد ذكر لي أن رافع بن خديج الأنصاري - وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - كانت عنده امرأة حتى إذا كبرت تزوج عليها فتاة شابة وآثر عليها الشابة ، فناشدته الطلاق فطلقها تطليقة ، ثم أمهلها حتى إذا كادت تحل راجعها ، ثم عاد فآثر عليها الشابة فناشدته الطلاق ، فقال لها : ما شئت إنما بقيت لك تطليقة واحدة ، فإن شئت استقررت على ما ترين من الأثرة وإن شئت فارقتك ، فقالت : لا بل أستقر على الأثرة ، فأمسكها على ذلك فكان ذلك صلحهما ، ولم ير رافع عليه إثماً حين رضيت أن تستقر عنده على الأثرة فيما آثر به عليها .
وقوله تعالى : { والصلح خَيْرٌ } قال ابن عباس : يعني التخيير ، وهذه هي الحالة الثانية : أن يخير الزوج لها بين الإقامة والفراق خير من تمادي الزوج على أثرة غيرها عليها ، والظاهر من الآية أن صلحهما على ترك بعض حقها للزوج وقبول الزوج ذلك خير من المفارقة بالكلية ، كما أمسك النبي صلى الله عليه وسلم ( سودة بنت زمعة ) على أن تركت يومها لعائشة رضي الله عنها ولم يفارقها بل تركها من جملة نسائه ، وفعله ذلك لتتأسى به أمته في مشروعية ذلك وجوازه ، فهو أفضل في حقه عليه الصلاة والسلام ، ولما كان الوفاق أحب إلى الله من الفراق قال : { والصلح خَيْرٌ } ، بل الطلاق بغيض إليه سبحانه وتعالى ، ولهذا جاء في الحديث الذي رواه أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(1/562)
« أبغض الحلال إلى الله الطلاق » .
وقوله تعالى : { وَإِن تُحْسِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } ، وإن تتجشموا مشقة الصبر على ما تكرهون منهن ، وتقسموا لهن أسوة أمثالهن فإن الله عالم بذلك وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء ، وقوله تعالى : { وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } أي لن تستطيعوا أيها الناس أن تساووا بين النساء من جميع الوجوه ، فإنه وإن وقع القسم الصوري ليلة وليلة فلا بد من التفاوت في المحبة والشهوة والجماع كما قاله ابن عباس ومجاهد والضحاك . وجاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن عبد الله بن يزيد عن عائشة ، قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم بين نسائه فيعدل ، ثم يقول : « اللهم هذا قسمي فيما أملك فلا تلمني فيما تملك ولا أملك » ، يعني القلب . وقوله : { فَلاَ تَمِيلُواْ كُلَّ الميل } أي فإذا ملتم إلى واحدة منهن فلا تبالغوا في الميل بالكلية { فَتَذَرُوهَا كالمعلقة } أي فتبقى هذه الأخرى معلقة ، قال ابن عباس وآخرون : معناه لا ذات زوج ولا مطلقة؛ وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من كانت له امرأتان فمال إلى أحداهما جاء يوم القيامة وأحد شقيه ساقط » .
وقوله تعالى : { وَإِن تُصْلِحُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ الله كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً } أي وإن أصلحتم في أموركم ، وقسمتم بالعدل فيما تملكون ، واتقيتم الله في جميع الأحوال غفر الله لكم ما كان من ميل إلى بعض النساء دون بعض ، ثم قال تعالى : { وَإِن يَتَفَرَّقَا يُغْنِ الله كُلاًّ مِّن سَعَتِهِ وَكَانَ الله وَاسِعاً حَكِيماً } وهذه هي الحالة الثالثة : وهي حالة الفراق : وقد أخبر الله تعالى أنهما إذا تفرقا فإن الله يغنيه عنها ويغنيها عنه ، بأن يعوضه الله من هو خير له منها ويعوضها عنه بمن هو خير لها منه ، { وَكَانَ الله وَاسِعاً حَكِيماً } أي واسع الفضل عظيم المن حكيماً في جميع أفعاله وأقداره وشرعه .
(1/563)
وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيدًا (131) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (132) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ اللَّهُ عَلَى ذَلِكَ قَدِيرًا (133) مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا (134)
يخبر تعالى أنه مالك السموات والأرض وأنه الحاكم فيهما ولهذا قال : { وَلَقَدْ وَصَّيْنَا الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّاكُمْ } أي وصيناكم بما وصيناهم به من تقوى الله عزَّ وجلَّ بعبادته وحده لا شريك له ، ثم قال : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } الآية ، كما قال تعالى إخباراً عن موسى أنه قال لقومه : { إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ إبراهيم : 8 ] ، وقال : { فَكَفَرُواْ وَتَوَلَّواْ واستغنى الله والله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ التغابن : 6 ] أي غني عن عباده ، { حَمِيدٌ } أي محمود في جميع ما يقدره ويشرعه ، وقوله : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً } أي هو القائم على كل نفس بما كسبت ، الرقيب الشهيد على كل شيء ، وقوله : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً } أي هو قادر على إذهابكم وتبديلكم بغيركم إذا عصيتموه ، كما قال : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] قال بعض السلف : ما أهون العباد على الله إذا أضاعوا أمره!! وقال تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ } [ فاطر : 16-17 ] أي وما هو عليه بممتنع .
وقوله تعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدنيا فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة } أي يا من ليس له همة إلا الدنيا اعلم أن عند الله ثواب الدنيا والآخرة ، وإذا سألته من هذه وهذه أعطاك وأغناك وأقناك ، كما قال تعالى : { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } [ البقرة : 200 ] . وقال تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ } [ الشورى : 20 ] الآية ، وقال تعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ } [ الإسراء : 18 ] الآية . وقوله : { فَعِندَ الله ثَوَابُ الدنيا والآخرة } ظاهر في حصول الخير في الدنيا والآخرة ، أي بيده هذا وهذا ، فلا يقتصران قاصر الهمة على السعي للدنيا فقط ، بل لتكن همته سامية إلى نيل المطالب العالية في الدنيا والآخرة فإن مرجع ذلك كله إلى الذي بيده الضر والنفع ، وهو الله الذي لا إله إلا هو ، الذي قد قسم السعادة والشقاوة بين الناس في الدنيا والآخرة ، وعدل بينهم فيما علمه فيهم ممن يستحق هذا ، وممن يستحق هذا ، ولهذا قال : { وَكَانَ الله سَمِيعاً بَصِيراً } .
(1/564)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا (135)
يأمر تعالى عباده المؤمنين أن يكونوا قوامين بالقسط أي بالعدل فلا يعدلوا عنه يميناً ولا شمالاً ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ولا يصرفهم عنه صارف ، وأن يكونوا متعاونين متساعدين متعاضدين متناصرين فيه . وقوله : { شُهَدَآءَ للَّهِ } كما قال : { وَأَقِيمُواْ الشهادة لِلَّهِ } [ الطلاق : 2 ] أي أدوها ابتغاء وجه الله ، فحينئذ تكون صحيحة عادلة حقاً ، خالية من التحريف والتبديل والكتمان ، ولهذا قال : { وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ } أي اشهد الحق ولو عاد ضررها عليك ، وإذا سئلت عن الأمر فقل الحق فيه ولو عادت مضرته عليك ، فإن الله سيجعل لمن أطاعه فرجاً ومخرجاً من كل أمر يضيق عليه ، وقوله : { أَوِ الوالدين والأقربين } أي وإن كانت الشهادة على والديك وقرابتك فلا تراعهم فيها ، بل اشهد الحق وإن عاد ضررها عليهم فإن الحق حاكم على كل أحد ، وقوله : { إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا } أي لا ترعاه لغناه ولا تشفق عليه لفقره ، الله يتولاهما ، بل هو أولى بهما منك وأعلم بما فيه صلاحهما . وقوله : { فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ } أي فلا يحملنكم الهوى والعصبية وبغض الناس إليكم على ترك العدل في أموركم وشئونكم ، بل الزموا العدل على أي حال كان ، كما قال تعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] ، ومن هذا قول ( عبد الله بن رواحة ) لما بعثه النبي صلى الله عليه وسلم يخرص على أهل خيبر ثمارهم وزروعهم ، فأرادوا أن يرشوه ليرفق بهم فقال : والله لقد جئتكم من عند أحب الخلق إليّ ولأنتم أبغض إلي من أعدادكم من القردة والخنازير وما يحملني حبي إياه ، وبغضي لكم على أن لا أعدل فيكم ، فقالوا : بهذا قامت السموات والأرض .
وقوله تعالى : { وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ } ، قال مجاهد : تلووا أن تحرفوا الشهادة وتغيروها ، والليّ : هو التحريف وتعمد الكذب . قال تعالى : { وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب } [ آل عمران : 78 ] الآية ، والإعراض : هو كتمان الشهادة وتركها قال تعالى : { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } [ البقرة : 283 ] ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « خير الشهداء الذي يأتي بالشهادة قبل أن يُسألها » ، ولهذا توعدهم الله بقوله : { فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } أي وسيجازيكم بذلك .
(1/565)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا (136)
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالدخول في جميع شرائع الإيمان وشعبه وأركانه ودعائمه ، وليس هذا من باب تحصيل الحاصل ، بل من باب تكميل الكامل وتقريره وتثبيته الاستمرار عليه ، كما يقول المؤمن في كل صلاة { اهدنا الصراط المستقيم } [ الفاتحة : 6 ] أي بصّرنا وزدنا هدى ، وثبتنا عليه ، فأمرهم بالإيمان به وبرسوله ، كما قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ } [ الحديد : 28 ] ، وقوله : { والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ } يعني القرآن { والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ } وهذا جنس يشمل جميع الكتب المتقدمة ، وقال في القرآن { نَزَّلَ } لأنه نزل مفرقاً منجماً على الوقائع بحسب ما يحتاج إليه العباد في معاشهم ومعادهم ، وأما الكتب المتقدمة فكانت تنزل جملة واحدة ، لهذا قال تعالى : { والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ } ، ثم قال تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بالله وَمَلآئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ واليوم الآخر فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً } ، أي فقد خرج عن طريق الهدى ، وبعد عن القصد كل البعد .
(1/566)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137) بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا (139) وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا (140)
يخبر تعالى عمن دخل في الإيمان ثم رجع فيه ، ثم عاد فيه ، ثم رجع واستمر على ضلالة وازداد حتى مات ، فإنه لا توبة بعد موته ، ولا يغفر الله له ، ولا يجعل له مما هو فيه فرجاً ولا مخرجاً ولا طريقاً إلى الهدى ، ولهذا قال : { لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس ، في قوله تعالى : { ثُمَّ ازدادوا كُفْراً } قال : تمادوا على كفرهم حتى ماتوا . وعن علي رضي الله عنه أنه قال : يستتاب المرتد ثلاثاً ، ثم تلا هذه الآية : { إِنَّ الذين آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ آمَنُواْ ثُمَّ كَفَرُواْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّمْ يَكُنِ الله لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً } ، ثم قال : { بَشِّرِ المنافقين بِأَنَّ لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ، يعني أن المنافقين من هذه الصفة فإنهم آمنوا ثم كفروا ، فطبع على قلوبهم ، ثم وصفهم بأنهم يتخذون الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، بمعنى أنهم معهم في الحقيقة يوالونهم ويسرون إليهم بالمودة ، ويقولون لهم إذا خلوا بهم { إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } [ البقرة : 14 ] أي بالمؤمنين في إظهارنا لهم الموافقة قال الله تعالى منكراً عليهم فيما سلكوه من موالاة الكافرين { أَيَبْتَغُونَ عِندَهُمُ العزة } ثم أخبر الله تعالى بأن العزة كلها له وحده لا شريك له ولمن جعلها له كما قال تعالى في الآية الأخرى : { مَن كَانَ يُرِيدُ العزة فَلِلَّهِ العزة جَمِيعاً } [ فاطر : 10 ] وقال تعالى : { وَلِلَّهِ العزة وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ولكن المنافقين لاَ يَعْلَمُونَ } [ المنافقون : 8 ] ، والمقصود من هذا التهييج على طلب العزة من جناب الله ، والإقبال على عبوديته والانتظام في جملة عباده المؤمنين ، الذين لهم النصرة في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .
وقوله تعالى : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } ، أي إنكم إذا ارتكبتم النهي بعد وصوله إليكم ، ورضيتم بالجلوس معهم في المكان الذي يكفر فيه بآيات الله ويستهزأ وينتقص بها ، وأقررتموهم على ذلك فقد شاركتموهم في الذي هم فيه . فلهذا قال تعالى : { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } في المأثم كما جاء في الحديث : « من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس على مائدة يدار عليها الخمر » ، والذي أحيل عليه في هذه الآية من النهي في ذلك ، هو قوله تعالى في سورة الأنعام وهي مكية : { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ } [ الأنعام : 68 ] الآية . قال مقاتل بن حيان : نَسَختْ هذه الآية التي في سورة الأنعام ، يعني نسخ قوله : { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } ، لقوله : { وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ ولكن ذكرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ الأنعام : 69 ] ، وقوله : { إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً } ، أي كما أشركوهم في الكفر ، كذلك يشارك الله بينهم في الخلود في نار جهنم أبداً ، ويجمع بينهم في دار العقوبة والنكال والقيود والأغلال وشراب الحميم والغسلين .
(1/567)
الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا (141)
يخبر تعالى عن المنافقين أنهم يتربصون بالمؤمنين دوائر السوء ، بمعنى ينتظرون زوال دولتهم وظهور الكفرة عليهم وذهاب ملتهم ، { فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله } أي نصر وتأييد وظفر وغنيمة : { قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ } ؟ أي يتوددون إلى المؤمنين بهذه المقالة ، { وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ } : أي إدالة على المؤمنين في بعض الأحيان كما وقع يوم أُحد ، فإن الرسل تبتلى ثم يكون لها العاقبة ، { قالوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين } ؟ أي ساعدناكم في الباطن وما ألوناهم خبالاً وتخذيلاً حتى انتصرتم عليهم ، وقال السدي : نستحوذ عليكم : نغلب عليكم ، كقوله : { استحوذ عَلَيْهِمُ الشيطان } [ المجادلة : 19 ] ، وهذا أيضاً تودد منهم إليهم ، فإنهم كانوا يصانعون هؤلاء وهؤلاء ليحظوا عندهم ويأمنوا كيدهم ، وما ذاك إلا لضعف إيمانهم وقلة إيقانهم . قال تعالى : { فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة } أي بما يعلمه منكم أيها المنافقون من البواطن الرديئة ، فلا تغتروا بجريان الأحكام الشرعية عليكم ظاهراً في الحياة الدنيا ، لما له في ذلك من الحكمة ، فيوم القيامة لا تنفعكم ظواهركم ، بل هو يوم تبلى فيه السرائر ويحصل ما في الصدور .
وقوله تعالى : { ْوَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } . جاء رجل إلى علي بن أبي طالب فقال : كيف هذه الآية : { وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } ؟ فقال علي رضي الله عنه : ادنه ادنه { فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } قال ذاك يوم القيامة ، وكذا روى السدي : يعني يوم القيامة ، وقال السدي { سَبِيلاً } أي حجة ، ويحتمل أن يكون المعنى : ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً أي في الدنيا ، بأن يسلطوا عليهم استيلاء استئصال بالكلية ، وإن حصل لهم ظفر في بعض الأحيان على بعض الناس ، فإن العاقبة للمتقين في الدنيا والآخرة ، كما قال تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا } [ غافر : 51 ] الآية ، وعلى هذا يكون رداً على المافقين فيما أمَّلوه ورجوه وانتظروه من زوال دولة المؤمنين ، وفيما سلكوه من مصانعتهم الكافرين خوفاً على أنفسهم منهم ، إذا هم ظهروا على المؤمنين فاستأصلوهم ، كما قال تعالى : { فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ } [ المائدة : 52 ] إلى قوله : { نَادِمِينَ } [ المائدة : 52 ] ، وقد استدل كثير من العلماء بهذه الآية الكريمة على أصح قولي العلماء وهو المنع من بيع ( العبد المسلم ) للكافرين لما في صحة ابتياعه من التسليط له عليه والإذلال ، ومن قال منهم بالصحة يأمره بإزالة ملكه عنه في الحال لقوله تعالى : { وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً } .
(1/568)
إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا (143)
قد تقدم في أول سورة البقرة قوله تعالى : { يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا } [ الآية : 9 ] ، وقال هاهنا : { إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } ولا شك أن الله لا يخادع ، فإنه العالم بالسرائر والضمائر ، ولكن المنافقين لجهلهم وقلة علمهم وعقلهم ، يعتقدون أن أمرهم - كما راج عند الناس وجرت عليهم أحكام الشريعة ظاهراً - فكذلك يكون حكمهم عند الله يوم القيامة ، وأن أمرهم يروج عنده ، كما أخبر تعالى عنهم أنهم يوم القيامة يحلفون له أنهم كانوا على الاستقامة والسداد ، ويعتقدون أن ذلك نافع لهم عنده ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ الله جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ } [ المجادلة : 18 ] الآية ، وقوله : { وَهُوَ خَادِعُهُمْ } أي هو الذي يستدرجهم في طغيانهم وضلالهم ويخذلهم عن الحق والوصول إليه في الدنيا ، وكذلك يوم القيامة ، كما قال تعالى : { يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } [ الحديد : 13 ] إلى قوله : { وَبِئْسَ المصير } [ الحديد : 15 ] ، وقد ورد في الحديث : « من سمَّع سمع الله به ، ومن رايا رايا الله به » ، وفي الحديث الآخر : « إن الله يأمر بالعبد إلى الجنة فيما يبدو للناس ويعدل به إلى النار » عياذاً بالله من ذلك .
وقوله تعالى : { وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى } الآية ، هذه صفة المنافقين في أشرف الأعمال وأفضلها وخيرها ، وهي ( الصلاة ) إذا قاموا إليها قاموا وهم كسالى عنها ، لأنهم لا نية لهم فيها ولا إيمان لهم بها ولا خشية ، ولا يعقلون معناها كما روى ابن مردويه عن ابن عباس قال : يكره أن يقوم الرجل إلى الصلاة وهو كسلان ولكن يقوم إليها طلق الوجه ، عظيم الرغبة شديد الفرح ، فإنه يناجي الله ، وإن الله تجاهه يغفر له ويجيبه إذا دعاه ، ثم يتلو هذه الآية : { وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى } ، فقوله تعالى : { وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى } هذه صفة ظواهرهم كما قال : { وَلاَ يَأْتُونَ الصلاة إِلاَّ وَهُمْ كسالى } [ التوبة : 54 ] ، ثم ذكر تعالى صفة بواطنهم الفاسدة ، فقال : { يُرَآءُونَ الناس } أي لا إخلاص لهم ولا معاملة مع الله ، بل إنما يشهدون الناس تقية لهم ومصانعة ، ولهذا يتخلفون كثيراً عن الصلاة التي لا يرون فيها غالباً ك ( صلاة العشاء ) في وقت العتمة ، و ( صلاة الصبح ) في وقت الغلس ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أثقل الصلاة على المنافقين صلاة العشاء وصلاة الفجر ، ولو يعلمون ما فيهما لأتوهما ولو حبواً ، ولقد هممت أن آمر بالصلاة فتقام ثم آمر رجلاً فيصلي بالناس ، ثم انطلق معي برجال ومعهم حزم من حطب إلى قوم لا يشهدون الصلاة فأحرق عليهم بيوتهم بالنار » وفي رواية : « والذي نفسي بيده لو علم أحدهم أنه يجد عِرْقاً سميناً أو مرماتين حسنتين لشهد الصلاة ، ولولا ما في البيوت من النساء والذرية لحرقت عليهم بيوتهم بالنار »
(1/569)
وقال الحافظ أبو يعلى عن عبد الله قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أحسن الصلاة حيث يراه الناس ، وأساءها حيث يخلو ، فتلك استهانة استهان بها ربه عزَّ وجلَّ » وقوله : { وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } أي في صلاتهم لا يخشعون ولا يدرون ما يقولون ، بل هم في صلاتهم ساهون لاهون ، وعما يراد بهم من الخير معرضون . وقد روى الإمام مالك عن أنس بن مالك عن أنس بن مالك قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق ، تلك صلاة المنافق : يجلس يرقب الشمس حتى إذا كانت بين قرني الشيطان قام فنقر أربعاً لا يذكر الله فيها إلا قليلاً » .
وقوله تعالى : { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } يعني المنافقين محيرين بين الإيمان والكفر فلا هم مع المؤمنين ظاهراً وباطناً ولا مع الكافرين ظاهراً وباطناً ، بل ظواهرهم مع المؤمنين وبواطنهم مع الكافرين ، ومنهم من يعتريه الشك فتارة يميل إلى هؤلاء وتارة يميل إلى أولئك ، { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } [ البقرة : 20 ] وقال مجاهد { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء } يعني أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، { وَلاَ إِلَى هؤلاء } يعني اليهود ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مثل المنافق كمثل الشاة العاثرة بين الغنمين » .
وقال ابن جرير عن قتادة { مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلك لاَ إلى هؤلاء وَلاَ إِلَى هؤلاء } يقول : ليسوا بمؤمنين مخلصين ، ولا مشركين مصرحين بالشرك ، قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يضرب مثلاً للمؤمن وللمنافق وللكافر كمثل رهط ثلاثة دفعوا إلى نهر فوقع المؤمن فقطع ، ثم وقع المنافق حتى إذا كاد يصل إلى المؤمن ناداه الكافر : أن هلم إليّ فإني أخشى عليك ، وناداه المؤمن : أن هلم إلي فإن عندي وعندي يحصي له ما عنده ، فما زال المنافق يتردد بينهما حتى أتى عليه الماء فغرقه ، وإن المنافق لم يزل في شك وشبهة حتى أتى عليه الموت وهو كذلك ، قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : « مثل المنافق كمثل ثاغية بين غنمين رأت غنماً على نشز فأتتها وشامتها فلم تعرف ، ثم رأت غنماً على نشز فأتتها فشامتها فلم تعرف » ، ولهذا قال تعالى : { وَمَن يُضْلِلِ الله فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً } أي ومن صرفه عن طريق الهدى { فَلَن تَجِدَ لَهُ وَلِيّاً مُّرْشِداً } [ الكهف : 17 ] ، فإنه { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } [ الأعراف : 186 ] ، والمنافقون الذين أضلهم عن سبيل النجاة فلا هادي لهم ، ولا منقذ لهم مما هم فيه ، فإنه تعالى لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون .
(1/570)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا (144) إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا (145) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا (146) مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا (147)
ينهى الله تعالى عباده المؤمنين عن اتخاذ الكافرين أولياء من دون المؤمنين ، يعني مصاحبتهم ومصادقتهم ، ومناصحتهم وإسرار المودة إليهم ، وإفشاء أحوال المؤمنين الباطنة إليهم ، كما قال تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } [ آل عمران : 28 ] . ولهذا قال هاهنا : { أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } ؟ أي حجة عليكم في عقوبته إياكم ، قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس قوله : { سُلْطَاناً مُّبِيناً } قال : كل سلطان في القرآن حجة ، وهذا إسناد صحيح ، ثم أخبر تعالى : { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } أي يوم القيامة جزاء على كفرهم الغليظ ، قال ابن عباس : أي في أسفل النار ، وقال غيره النار ( دركات ) كما أن الجنة ( درجات ) وقال سفيان الثوري { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } قال : في توابيت تُرتَج عليهم .
وعن أبي هريرة قال { الدرك الأسفل } : بيوت لها أبواب تطبق عليهم فتوقد عليهم من تحتهم ومن فوقهم ، قال ابن جرير عن عبد الله بن مسعود { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } قال : في توابيت من نار تطبق عليهم أي مغلقة مقفلة ، { وَلَن تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً } أي ينقذهم مما هم فيه ويخرجهم من أليم العذاب ، ثم أخبر تعالى أن من تاب منهم في الدنيا تاب عليه وقبل ندمه إذا أخلص في توبته وأصلح عمله ، واعتصم بربه في جميع أمره ، فقال تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ واعتصموا بالله وَأَخْلَصُواْ دِينَهُمْ للَّهِ } أي بدلوا الرياء بالإخلاص ، فينفعهم العمل الصالح وإن قل . قال ابن ابي حاتم عن معاذ بن جبل : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أخلص دينك يكفك القليل من العمل » { فأولئك مَعَ المؤمنين } أي في زمرتهم يوم القيامة { وَسَوْفَ يُؤْتِ الله المؤمنين أَجْراً عَظِيماً } ، ثم قال تعالى مخبراً عن غناه عما سواه وأنه إنما يعذب العباد بذنوبهم { مَّا يَفْعَلُ الله بِعَذَابِكُمْ إِن شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ } ؟ أي أصلحتم العمل وآمنتم بالله ورسوله ، { وَكَانَ الله شَاكِراً عَلِيماً } أي من شكر شكر له ، ومن آمن قلبه به علمه وجازاه على ذلك أوفر الجزاء .
(1/571)
لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا (148) إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا (149)
قال ابن عباس في الآية يقول : لا يحب الله أن يدعوا أحد على أحد إلا أن يكون مظلوماً ، فإنه قد أرخص له يدعو على من ظلمه ، وذلك قوله : { إِلاَّ مَن ظُلِمَ } ، وإن صبر فهو خير له ، وقال الحسن البصري : لا يدع عليه ، وليقل : اللهم أعني عليه واستخرج حقي منه ، وفي رواية عنه قال : قد ارخص له أن يدعو على من ظلمه من غير أن يعتدي عليه ، وقال عبد الكريم الجزري في هذه الآية : هو الرجل يشتمك فتشتمه ، ولكن إن افترى عليك فلا تفتر عليه لقوله : { وَلَمَنِ انتصر بَعْدَ ظُلْمِهِ فأولئك مَا عَلَيْهِمْ مِّن سَبِيلٍ } [ الشورى : 41 ] ، وقال أبو داود عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « المستبان ما قالا فعلى البادىء منهما ما لم يعتد المظلوم » وعن مجاهد { لاَّ يُحِبُّ الله الجهر بالسواء مِنَ القول إِلاَّ مَن ظُلِمَ } قال ، قال : هو الرجل ينزل بالرجل فلا يحسن ضيافته فيخرج فيقول : أساء ضيافتي ولم يحسن . وقد روى الجماعة سوى النسائي والترمذي عن عقبة بن عامر قال ، قلنا : يا رسول الله إنك تبعثنا فننزل بقوم فلا يقرونا ، فما ترى في ذلك؟ « فقال : إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم بما ينبغي للضيف فاقبلوا منهم ، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغي لهم » ، وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أيما مسلم ضاف قوماً فأصبح الضيف محروماً فإن حقاً على كل مسلم نصره حتى يأخذ بقرى ليلته من زرعه وماله » تفرد به أحمد .
ومن هذه الأحاديث وأمثالها ذهب أحمد وغيره إلى وجوب الضيافة ، ومن هذا القبيل الحديث الذي رواه الحافظ أبو بكر البزار عن أبي هريرة ، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « إن لي جاراً يؤذيني ، فقال له : » أخرج متاعك فضعه على الطريق « ، فأخذ الرجل متاعه فطرحه على الطريق ، فكل من مر به قال : مالك؟ قال جاري يؤذيني ، فيقول : اللهم العنه ، اللهم أخزه قال ، فقال الرجل ارجع إلى منزلك والله لا أوذيك أبداً » وقوله : { إِن تُبْدُواْ خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُواْ عَن سواء فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } ، أي إن أظهرتم أيها الناس خيراً أو أخفيتموه أو عفوتم عمن أساء إليكم ، فإن ذلك مما يقربكم عند الله ويجزل ثوابكم لديه ، فإن من صفاته تعالى أن يعفو عن عباده مع قدرته على عقابهم ، ولهذا قال : { فَإِنَّ الله كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً } ، ولهذا ورد في الأثر أن حملة العرش يسبحون الله فيقول بعضهم : سبحانك على حلمك بعد علمك ، ويقول بعضهم : سبحانك على عفوك بعد قدرتك ، وفي الحديث الصحيح : « ما نقص مال من صدقة ولا زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ، ومن تواضع لله رفعه » .
(1/572)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا (150) أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا (151) وَالَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا (152)
يتوعد تبارك وتعالى الكافرين به وبرسله من اليهود والنصارى ، حيث فرقوا بين الله ورسله في الإيمان فآمنوا ببعض الأنبياء وكفروا ببعض ، بمجرد التشهي والعادة وما ألفوا عليه آباءهم ، لا عن دليل قادهم إلى ذلك ، فإنه لا سبيل لهم إلى ذلك ، بل بمجرد الهوى والعصبية ، فاليهود عليهم لعائن الله آمنوا بالأنبياء إلا عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، والنصارى آمنوا بالأنبياء وكفروا بخاتمهم وأشرفهم محمد صلى الله عليه وسلم ، والمقصود أن من كفر بنبيّ من الأنبياء فقد كفر بسائر الأنبياء ، فإن الإيمان واجب بكل نبي بعثه الله إلى أهل الأرض ، فمن رد نبوته للحسد أو العصبية أو التشهي تبيّن أن إيمانه بمن آمن به من الأنبياء ليس إيماناً شرعياً إنما هو عن غرض وهوى وعصبيه ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بالله وَرُسُلِهِ } فوسمهم بأنهم كفار بالله ورسله { وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ } أي في الإيمان ، { وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً } أي طريقاً ومسلكاً ، ثم أخبر تعالى عنهم فقال : { أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً } أي كفرهم محقق لا محالة بمن ادعوا الإيمان به لأنه ليس شرعياً ، إذا لو كانوا مؤمنين به لكونه رسول الله لآمنوا بنظيره ، وبمن هو أوضح دليلاً وأقوى برهاناً منه ، أو نظروا حق النظر في نبوته .
وقوله تعالى : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَاباً مُّهِيناً } أي كما استهانوا بمن كفروا به إما لعدم نظرهم فيما جاءهم به من الله وإعراضهم عنه وإقبالهم على جمع حطام الدنيا مما لا ضرورة إليه ، وإما بكفرهم به بعد علمهم بنبوته كما كان يفعله كثير من أحبار اليهود في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حيث حسدوه على ما آتاه الله من النبوة العظيمة ، وخالفوه وكذبوه وعادوه وقاتلوه ، فسلط الله عليهم الذل الدنيوي الموصول بالذل الأخروي ، { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } [ البقرة : 61 ] في الدنيا والآخرة ، وقوله : { والذين آمَنُواْ بالله وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُواْ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } يعني بذلك أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، فإنهم يؤمنون بكل كتاب أنزله الله بكل نبيّ بعثه الله ، كما قال تعالى : { ءَامَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله } [ البقرة : 285 ] الآية ، ثم أخبر تعالى بأنه قد أعد لهم الجزاء الجزيل والثواب الجليل والعطاء الجميل ، فقال : { أولئك سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ } على ما آمنوا بالله ورسله ، { وَكَانَ الله غَفُوراً رَّحِيماً } أي لذنوبهم ، أي إن كان لبعضهم ذنوب .
(1/573)
يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا (153) وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (154)
قال السدي وقتادة : سأل اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ينزل عليهم كتاباً من السماء كما نزلت التوراة على موسى مكتوبة وقال ابن جريج : سألوه أن ينزل عليهم صحفاً من الله مكتوبة إلى فلان وفلان وفلان بتصديقه فيما جاءهم به ، وهذا إنما قالوه على سبيل التعنت والعناد والكفر والإلحاد ، كما سأل كفار قريش قبلهم نظير ذلك كما هو مذكور في سورة الإسراء : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الآية : 90 ] الآيات ، ولهذا قال تعالى : { فَقَدْ سَأَلُواْ موسى أَكْبَرَ مِن ذلك فقالوا أَرِنَا الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة بِظُلْمِهِمْ } ، أي بطغيانهم وبغيهم ، وعتوهم وعنادهم وهذا مفسر في سورة البقرة حيث يقول تعالى : { وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } [ البقرة : 55 ] ، وقوله تعالى : { ثُمَّ اتخذوا العجل مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات } أي من بعد ما رأوا من الآيات الباهرة والأدلة القاهرة على يد موسى عليه السلام في بلاد مصر ، وما كان من إهلاك عدوهم فرعون وجميع جنوده في اليم ، فما جاوزوه إلا يسيراً حتى أتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم ، فقالوا لموسى : { اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ } [ الأعراف : 138 ] .
ثم ذكر تعالى قصة اتخاذهم العجل مبسوطة في سورة ( الأعراف ) وفي سورة ( طه ) بعد ذهاب موسى إلى مناجاة الله عزَّ وجلَّ ، ثم لما رجع وكان ما كان ، جعل الله توبتهم من الذي صنعوه وابتدعوه أن يقتل من لم يعبد العجل منهم من عبده فجعل يقتل بعضهم بعضاً ثم أحياهم الله عزَّ وجلَّ وقال الله تعالى : { فَعَفَوْنَا عَن ذلك وَآتَيْنَا موسى سُلْطَاناً مُّبِيناً } ، ثم قال : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور بِمِيثَاقِهِمْ } ، وذلك حين امتنعوا من الالتزام بأحكام التوراة وظهر منهم إباء عما جاءهم به موسى عليه السلام رفع الله على رؤوسهم جبلاً ، ثم ألزموا فالتزموا وسجدوا وجعلوا ينظرون إلى فوق رؤوسهم خشية أن يسقط عليهم ، كما قال تعالى : { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } [ الأعراف : 171 ] الآية { وَقُلْنَا لَهُمُ ادخلوا الباب سُجَّداً } أي فخالفوا ما أمروا به من القول والفعل ، فإنهم أمروا أن يدخلوا باب ( بيت المقدس ) سجداً وهم يقولون حطة ، أي « اللهم حط عنا ذنوبنا » في تركنا الجهاد ونكولنا عنه حتى تهنا في التيه أربعين سنة ، فدخلوا يزحفون على أستاههم ، وهم يقولون حنطة في شعرة { وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي السبت } أي وصيناهم بحفظ السبت والتزام ما حرم الله عليهم ما دام مشروعاً لهم ، { وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً } أي شديداً فخالفوا وعصوا وتحيلوا على ارتكاب ما حرم الله عزَّ وجلَّ ، كما هو مبسوط في سورة الأعراف عند قوله : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر } [ الأعراف : 163 ] الآيات ، وسيأتي حديث صفوان بن عسال في سورة سبحان عند قوله : { وَلَقَدْ آتَيْنَا موسى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } [ الإسراء : 101 ] ، وفيه « وعليكم خاصة يهود أن لا تعدوا في السبت » .
(1/574)
فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا (155) وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا (156) وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (158) وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا (159)
وهذا من الذنوب التي ارتكبوها مما أوجب لعنتهم ورطدهم وإبعادهم عن الهدى ، وهو نقضهم المواثيق والعهود التي أخذت عليهم { وَكُفْرِهِم بَآيَاتِ الله } أي حججه وبراهينه ، والمعجزات التي شاهدوها على يد الأنبياء عليهم السلام ، قوله : { وَقَتْلِهِمُ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } وذلك لكثرة إجرامهم واجترائهم على أنبياء الله ، فإنهم قتلوا جماً غفيراً من الأنبياء عليهم السلام { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } ، قال ابن عباس : أي في غطاء ، وهذا كقول المشركين : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فصلت : 5 ] الآية ، وقيل : معناه أنهم ادعوا أن قلوبهم غلف للعلم أي أوعية للعلم قد حوته وحصلته ، قال الله تعالى : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } ، فعلى القول الأول : كأنهم يعتذرون إليه بأن قلوبهم لا تعي ما يقول لأنها في غلف وفي أكنة قال الله بل هي مطبوع عليها بكفرهم ، وعلى القول الثاني : عكس عليهم ما ادعوه من كل وجه ، وقد تقدم الكلام على مثل هذا في سورة البقرة . { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } أي تمرنت قلوبهم على الكفر والطغيان ، وقلة الإيمان { وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ على مَرْيَمَ بُهْتَاناً عَظِيماً } قال ابن عباس : يعني أنهم رموها بالزنا . قال السدي : والظاهر من الآية أنهم رموها وابنها بالعظائم ، فجعلوها زانية وقد حملت بولدها من ذلك . زاد بعضهم وهي حائض ، فعليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ، وقوله : { إِنَّا قَتَلْنَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولَ الله } أي هذا الذي يدعي لنفسه هذا المنصب قتلناه وهذا منهم من باب ( التهكم والاستهزاء ) كقول المشركين : { ياأيها الذي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذكر إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ } [ الحجر : 6 ] .
وكان من خبر اليهود عليهم لعائن الله وسخطه وغضبه وعقابه أنه لما بعث الله عيسى بن مريم بالبينات والهدى ، حسدوه على ما آتاه الله تعالى من النبوة والمعجزات الباهرات ، التي كان يبرىء بها الأكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله ويصور من الطين طائراً ثم ينفخ فيه فيكون طائراً يشاهد طيرانه بإذن الله عزَّ وجلَّ ، إلى غير ذلك من المعجزات التي أكرمه الله بها وأجراها على يديه ومع هذا كذبوه وخالفوه ، وسعوا في أذاه بكل ما أمكنهم ، حتى جعل نبي الله عيسى عليه السلام لا يساكنهم في بلدة ، بل يكثر السياحة هو وأمه عليهما السلام ، ثم لم يقنعهم - ذلك حتى سعوا إلى ملك دمشق في ذلك الزمان وكان رجلاً مشركاً من عبدة الكواكب ، وكان يقال لأهل ملته اليونان ، وأنهوا إليه أن في بيت المقدس رجلاً يفتن الناس ويضلهم ويفسد على الملك رعاياه ، فغضب الملك من هذا وكتب إلى نائبه بالمقدس أن يحتاط على هذا المذكور ، وأن يصلبه ويضع الشوك على رأسه ويكف أذاه عن الناس ، فلما وصل الكتاب امتثل والي بيت المقدس ذلك وذهب هو طائفة من اليهود إلى المنزل الذي فيه عيسى عليه السلام وهو في جماعة من أصحابه اثني عشر أو ثلاثة عشر وقيل سبعة عشر نفراً - وكان ذلك يوم الجمعة بعد العصر ليلة السبت - فحصروه هنالك ، فلما أحس بهم وأنه لامحالة من دخولهم عليه أو خروجه إليهم ، قال لأصحابه : أيُكم يُلقى عليه شبهي وهو رفيقي في الجنة؟ فانتدب لذلك شاب منهم فكأنه استصغره عن ذلك ، فأعادها ثانية وثالثة ، وكل ذلك لا ينتدب إلا ذلك الشاب ، فقال : أنت هو! وألقى الله عليه شبه عيسى حتى كأنه هو ، وفتحت روزنة من سقف البيت وأخذت عيسى عليه السلام سَنَةٌ من النوم فرفع إلى السماء وهو كذلك كما قال الله تعالى :
(1/575)
{ إِذْ قَالَ الله ياعيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } [ آل عمران : 55 ] الآية ، فلما رفع خرج أولئك النفر ، فلما رأى أولئك ذلك الشاب ظنوا أنه عيسى فأخذوه في الليل وصلبوه ووضعوا الشوك على رأسه ، وأظهر اليهود أنهم سعوا في صلبه وتبجحوا بذلك ، وسلم لهم طوائف من النصارى ذلك ، لجهلهم وقلة عقلهم ، ما عدا من كان في البيت مع المسيح فإنهم شاهدوا رفعه ، وأما الباقون فإنهم ظنوا - كما ظن اليهود - أن المصلوب هو المسيح بن مريم ، حتى ذكروا أن مريم جلست تحت ذلك المصلوب وبكت ، ويقال إنه خاطبها والله أعلم ، وهذا كله من امتحان الله عباده لما له في ذلك من الحكمة البالغة ، وقد أوضح الله الأمر وجلاه وبينه وأظهره في القرآن العظيم الذي أنزله على رسوله الكريم ، المؤيد بالمعجزات والبينات والدلائل الواضحات ، فقال تعالى وهو أصدق القائلين : { وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ ولكن شُبِّهَ لَهُمْ } أي رأوا شبهه فظنوه إياه ولهذا قال : { وَإِنَّ الذين اختلفوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن } يعني ذلك من ادعى أنه قتله من اليهود ومن سلمه إليهم من جهال النصارى كلهم في شك من ذلك وحيرة وضلال . ولهذا قال : { وَمَا قَتَلُوهُ يَقِيناً } أي وما قتلوه متيقنين أنه هو ، بل شاكين متوهمين { بَل رَّفَعَهُ الله إِلَيْهِ وَكَانَ الله عَزِيزاً } أي منيع الجناب لا يرام جنابه ولا يضام من لاذ ببابه ، { حَكِيماً } أي في جميع ما يقدره ويقضيه من الأمور التي يخلقها ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة والسلطان العظيم .
روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : لما أراد الله أن يرفع عيسى إلى السماء خرج على اصحابه وفي البيت اثنا عشر رجلاً من الحواريين ، فخرج عليهم ورأسه يقطر ماء ، فقال : إن منكم من يكفر بي اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن بي ، قال ، ثم قال : أيكم يُلقى عليه شبهي فيقتل مكاني ويكون معي في درجتي؟ فقام شاب من أحدثم سناً ، فقال له : اجلس ، ثم أعاد عليهم ، فقام ذلك الشاب ، فقال : اجلس ، ثم أعاد عليهم ، فقام الشاب ، فقال : أنا ، فقال : هو أنت ذاك ، فأُلقي عليه شبه عيسى ورفع عيسى من روزنة في البيت إلى السماء ، قال : وجاء الطلب من اليهود ، فأخذوا الشبه فقتلوه ، ثم صلبوه ، فكفر به بعضهم اثنتي عشرة مرة بعد أن آمن به ، وافترقوا ثلاث فرق ، فقالت فرقة : كان الله فينا ما شاء ثم صعد إلى السماء وهؤلاء ( اليعقوبية ) وقالت فرقة : كان فينا ابن الله ما شاء ثم رفعه الله إليه ، وهؤلاء ( النسطورية ) وقالت فرقة : كان فينا عبد الله ورسوله ما شاء الله ثم رفعه الله إليه وهؤلاء ( المسلمون ) فتظاهرت الكافرتان على المسلمة فقتلوها ، فلم يزل الإسلام طامساً حتى يبعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم .
(1/576)
وروى ابن جرير عن ابن إسحاق قال : كان اسم ملك بني إسرائيل الذي بعث إلى عيسى ليقتله رجلاً منهم يقال له ( داود ) ، فلما أجمعوا لذلك منه لم يفظع عبد من عباد الله بالموت - فيما ذكر لي - فظعه ، ولم يجزع منه جزعه ولم يدع في صرفه عنه دعاءه ، حتى إنه ليقول فيما يزعمون : اللهم إن كنت صارفاً هذه الكأس عن أحد من خلقك فاصرفها عني ، وحتى إن جلده من كرب ذلك ليتفصد دماً ، فدخل المدخل الذي أجمعوا أن يدخلوا عليه فيه ليقتلوه هو وأصحابه وهم ثلاثة عشر بعيسى عليه السلام ، فلما أيقن أنهم داخلون عليه ، قال لأصحابه من الحواريين - وكانوا اثني عشر رجلاً سوى عيسى عليه السلام جحدته النصارى ، فجحدوه حين أقروا لليهود بصلب عيسى وكفروا بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم من الخبر .
قال ابن إسحاق : وحدثني رجل كان نصرانياً فأسلم أن عيسى حين جاءه من الله إني رافعك إليّ ، قال : يا معشر الحواريين أيكم يحب أن يكون رفيقي في الجنة حتى يشبه للقوم في صورتي فيقتلوه في مكاني؟ فقال ( سرجس ) : أنا يا روح الله ، قال : فاجلس في مجلسي فجلس فيه ، ورفع عيسى عليه السلام ، فدخلوا عليه فأخذوه فصلبوه ، فكان هو الذي صلبوه وشبه لهم به ، وكانت عدتهم حين دخلوا مع عيسى معلومة ، قد رأوهم فأحصوا عدتهم ، فلما دخلوا عليهم ليأخذوه وجدوا عيسى وأصحابه فيما يرون وفقدوا رجلاً من العدة ، فهو الذي اختلفوا فيه ، وكانوا لا يعرفون عيسى جعلوا ل ( ليودس ركريا يوطا ) ثلاثين درهماً على أن يدلهم عليه ويعرفهم إياه ، فقال لهم : إذا دخلتم عليه فإني سأقبله ، وهو الذي أقبل فخذوه ، فلما دخلوا وقد رفع عيسى ورأى سرجس في صورة عيسى فلم يشك أنه هو ، فأكب عليه فقبله ، فأخذوه فصلبوه ، ثم أن ( ليودس ركريا يوطا ) ندم على ما صنع ، فاختنق بحبل حتى قتل نفسه وهو ملعون في النصارى ، وقد كان أحد المعدودين من أصحابه ، وبعض النصارى يزعم أنه ( ليودس ركريا يوطا ) وهو الذي شبه لهم فصلبوه ، وهو يقول : إني لست بصاحبكم ، أنا الذي دللتكم عليه والله أعلم أي ذلك كان .
(1/577)
وقال ابن جرير عن مجاهد : صلبوا رجلاً شبه بعيسى ورفع الله عزَّ وجلَّ عيسى إلى السماء حياً ، واختار ابن جرير أن شبه عيسى ألقي على جميع أصحابه .
وقوله تعالى : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } قال ابن جرير : اختلف أهل التأويل في معنى ذلك ، فقال بعضهم معنى ذلك : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } يعني قبل موت عيسى ، يوجه ذلك إلى أن جميعهم يصدقون به إذا نزل لقتل الدجال ، فتصير الملل كلها واحدة ، وهي ملة ( الإسلام الحنيفية ) دين إبراهيم عليه السلام . عن ابن عباس { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : قبل موت عيسى بن مريم عليه السلام ، وقال أبو مالك في قوله : { إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : ذلك عند نزول عيسى وقبل موت عيسى بن مريم عليه السلام لا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا آمن به وقال : الحسن : قبل موت عيسى والله إنه لحي الآن عند الله ولكن إذا نزل آمنوا به أجمعون . قال ابن جرير وقال آخرون يعني بذلك { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ } بعيسى قبل موت صاحب الكتاب لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل في دينه . قال ابن عباس في الآية : لا يموت يهودي حتى يؤمن بعيسى . وعن مجاهد : كل صاحب كتاب يؤمن بعيسى قبل موته! قبل موت صاحب الكتاب .
وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } قال : هي في قراءة أبيّ ( قبل موتهم ) ليس يهودي يموت أبداً حتى يؤمن بعيسى ، قيل لابن عباس : أرأيت إن خر من فوق بيت؟ قال : يتكلم به في الهويّ قيل : أرأيت إن ضربت عنق أحدهم قال : يلجلج بها لسانه ، فهذه كلها أسانيد صحيحة إلى ابن عباس ، وكذا صح عن مجاهد وعكرمة وابن سيرين وبه يقول الضحاك وقال السدي وحكاه عن ابن عباس ، ونقل قراءة ( أبيّ بن كعب ) قبل موتهم . قال ابن جرير ، وقال آخرون معنى ذلك : وإن من أهل الكتاب إلا ليؤمنن بمحمد صلى الله عليه وسلم قبل موت الكتاب . قال عكرمة : لا يموت النصراني ولا اليهودي حتى يؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم .
ثم قال ابن جرير : وأولى هذه الأقوال بالصحة القول الأول ، وهو أنه لا يبقى أحد من أهل الكتاب بعد نزول عيسى عليه السلام إلا آمن به قبل موت عيسى عليه السلام .
(1/578)
ولا شك أن هذا الذي قاله ابن جرير هو الصحيح ، لأنه المقصود من سياق الآي في تقرير بطلان ما ادعته اليهود من قتل عيسى وصلبه ، وتسليم من سلم لهم من النصارى الجهلة ذلك ، فأخبر الله أنه لم يكن الأمر كذلك وإنما شبه لهم فقتلوا الشبه وهم لا يتبينون ذلك ، ثم إنه رفعه إليه وإنه باق حي ، وإنه سينزل قبل يوم القيامة ، كما دلت عليه الأحاديث المتواترة التي سنودرها إن شاء الله قريباً فيقتل مسيح الضلالة ، ويكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية يعني لا يقبلها من أحد من أهل الأديان ، بل لا يقبل إلا الإسلام أو السيف فأخبرت هذه الآية الكريمة أنه يؤمن به جميع أهل الكتاب حينئذ ولا يتخلف عن التصديق به واحد منهم ، ولهذا قال : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ } أي قبل موت عيسى عليه السلام الذي زعم اليهود ومن وافقهم من النصارى أنه قتل وصلب . { وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } أي بأعمالهم التي شاهدها منهم قبل رفعه إلى السماء وبعد نزوله إلى الأرض ، فأما من فسر هذه الآية بأن المعنى أن كل كتابي لا يموت حتى يؤمن بعيسى أو بمحمد عليهما الصلاة والسلام فهذا هو الواقع ، وذلك أن كل أحد عند احتضاره ينجلي له ما كان جاهلاً به فيؤمن به ، ولكن لا يكون ذلك إيماناً نافعاً له إذا كان قد شاهد الملك ، كما قال تعالى في أول هذه السورة : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت قَالَ إِنِّي تُبْتُ الآن } [ النساء : 18 ] الآية ، وقال تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ * فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 84-85 ] الآية .
( ذكر الأحاديث الواردة في نزول ( عيسى بن مريم ) إلى الأرض من السماء في آخر الزمان .
قال البخاري رحمه الله في ( كتاب ذكر الأنبياء ) عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده ليوشكن أن ينزل فيكم ابن مريم حكماً عدلاً ، فيكسر الصليب ، ويقتل الخنزير ، ويضع الجزية ، ويفيض المال حتى لا يقبله أحد ، وحتى تكون السجدة خيراً له من الدنيا وما فيها » ، ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } . وقال أحمد عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ينزل عيسى بن مريم فيقتل الخنزير ويمحو الصليب وتجمع له الصلاة ويعطى المال حتى لا يقبل ويضع الخراج وينزل الروحاء فيحج منها أو يعتمر أو يجمعهما » قال وتلا أبو هريرة : { وَإِن مِّنْ أَهْلِ الكتاب إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِه } الآية ، فزعم حنظلة أن أبا هريرة قال : يؤمن به قبل موت عيسى ، فلا أدري هذا كله حديث النبي صلى الله عليه وسلم أو شيء قاله أبو هريرة .
(1/579)
( طريق أخرى ) : قال البخاري عن نافع مولى أبي قتادة الأنصاري أن أبا هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كيف بكم إذا نزل فيكم المسيح بن مريم وإمامكم منكم » .
( طريق أخرى ) : قال الإمام أحمد عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد وإني أولى الناس بعيسى بن مريم لأنه لم يكن نبي بيني وبينه وإنه نازل ، فإذا رأيتموه فاعرفوه ، رجل مربوع إلى الحمرة والبياض عليه ثوبان ممصَّران كأن رأسه يقطر وإن لم يصبه بلل ، فيدق الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ، ويدعوا الناس إلى الإسلام ، ويهلك الله في زمانه الملل كلها إلا الإسلام ، ويهلك الله في زمانه المسيح الدجال ، ثم تقع الأمنة على الأرض حتى ترتع الأسود مع الإبل ، والنمار مع البقر ، والذئاب مع الغنم ، ويلعب الصبيان بالحيات لا تضرهم فيمكث أربعين سنة ، ثم يتوفى ويصلي عليه المسلمون » وقد روى البخاري عن أبي هريرة ، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « أنا أولى الناس بعيسى بن مريم والأنبياء أولاد علات ليس بين وبينه نبي » وفي رواية : « أنا أولى الناس بعيسى بن مريم في الدنيا والآخرة الأنبياء إخوة لعلات أمهاتهم شتى ودينهم واحد » .
( حديث آخر ) : وروى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تقوم الساعة حتى تنزل الروم بالأعماق أو بدابق ، فيخرج إليهم جيش من المدينة من خيار أهل الأرض يومئذ ، فإذا تصافوا قالت الروم : خلوا بيننا وبين الذين سبوا منا نقاتلهم ، فيقول المسلمون : لا والله لا نخلي بينكم وبين إخواننا ، فيقاتلوهم فيهزم ثلث لا يتوب الله عليهم أبداً ويقتل ثلث هم أفضل الشهداء عند الله ، ويفتح الثلث لا يفتنون أبداً فيفتحون ( قسنطينية ) فبينما هم يقسمون الغنائم قد علقوا سيوفهم بالزيتون إذ صاح فيهم الشيطان : إن المسيح قد خَلَفكم في أهليكم فيخرجون ، وذلك باطل ، فإذا جاءوا الشام خرج ، فبينما هم يعدون للقتال يسوون الصفوف ، إذا أقيمت الصلاة فينزل عيسى بن مريم فيؤمهم ، فإذا رآه عدو الله ذاب كما يذوب الملح في الماء ، فلو تركه لذاب حتى يهلك ، ولكن يقتله الله بيده فيريهم دمه في حربته » .
( حديث آخر ) : روى ابن ماجة في سننه عن أبي أمامة الباهلي قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان أكثر خطبته حديثاً حدثناه عن الدجال وحذرناه فكان من قوله أن قال : « لم تكن فتنة في الأرض منذ ذرأ الله ذرية آدم عليه السلام أعظم من فتنة الدجال وإن الله لم يبعث نبياً إلا حذر أمته الدجال وأنا آخر الأنبياء ، وأنتم آخر الأمم ، وهو خارج فيكم لا محالة ، فإن يخرج وأنا بين ظهرانيكم فأنا حجيج كل مسلم ، وإن يخرج من بعدي فكل حجيج نفسه ، وإن الله خليفتي على كل مسلم ، وإنه يخرج من خَلَّة بين الشام والعراق ، فيعيث يميناً ويعيث شمالاً ، ألا يا عباد الله : أيها الناس فاثبتوا وإني سأصفه لكم صفة لم يصفها إياه نبي قبلي : إنه يبدأ فيقول : أنا نبي فلا نبي بعدي ثم يثني فيقول : أنا ربكم ولا ترون ربكم حتى تموتوا . وإنه أعور وإن ربكم عزَّ وجلَّ ليس بأعور ، وإنه مكتوب بين عينيه كافر يقرؤه كل مؤمن كاتب وغير كاتب ، وإن من فتنته أن معه جنة وناراً فناره جنة وجنته نار فمن ابتلي بناره فليستغث بالله وليقرأ فواتح الكهف فتكون عليه برداً وسلاماً كما كانت النار برداً وسلاماً على إبراهيم . وإن من فتنته أن يقول للأعرابي : أرايت إن بعثت لك أمك وأباك أتشهد أني ربك؟ فيقول نعم ، فيتمثل له شيطان في صورة أبيه وأمه ، فيقولان : يا بُنَيَّ اتبعه فإنه ربك ، وإن من فتنته أن يسلط على نفس واحدة فينشرها بالمنشار حتى تلقى شقتين ، ثم يقول انظر إلى عبدي هذا فإني أبعثه الآن ، ثم يزعم أن له رباً غيري ، فيبعثه الله فيقول له الخبيث من ربك؟ فيقول : ربي الله وأنت عدو الله الدجال ، والله ما كنت بعد أشد بصيرة بك مني اليوم » .
(1/580)
وإن من فتنته : أن يأمر السماء أن تمطر فتمطر ، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت ، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيكذبونه فلا تبقى لهم سائمة إلا هلكت ، وإن من فتنته أن يمر بالحي فيصدقونه فيأمر السماء أن تمطر فتمطر ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت ، حتى تروح مواشيهم من يومهم ذلك أسمن ما كانت وأعظمه ، وأمده خواصر وأدره ضروعاً ، وأنه لا يبقى شيء من الأرض إلا وطئه وظهر عليه إلا ( مكة ) و ( المدينة ) فإنه لا يأتيهما من نقب من نقابهما إلا لقيته الملائكة بالسيوف صلتةً حتى ينزل عند الظريب الأحمر عند منقطع السبخة فترجف المدينة بأهلها ثلاث رجفات فلا يبقى منافق ولا منافقة إلا خرج إليه ، فينفى الخبث منها كما ينفي الكير خبث الحديد ، ويدعى ذلك اليوم ( يوم الخلاص ) فقالت أم شريك بنت أبي العكر : يا رسول الله فأين العرب يومئذ؟ قال : « هم قليل وجلهم يومئذ ببيت المقدس ، وإمامهم رجل صالح ، فبينما إمامهم قد تقدم يصلي بهم الصبح إذ نزل عليهم عيسى بن مريم عليه السلام ، فرجع ذلك الإمام يمشي القهقرى ليتقدم عيسى عليه السلام فيضع عيسى يده بين كتفيه ، ثم يقول : تقدم فصل فإنها لك أقيمت ، فيصلي بهم إمامهم ، فإذا انصرف قال عيسى : افتحوا الباب فيفتح ووراءه الدجال معه سبعون ألف يهودي كلهم ذو سيف محلى وتاج ، فإذا نظر إليه الدجال ذاب كما يذوب الملح في الماء وينطلق هارباً ، فيقول عيسى إن لي فيك ضربة لن تسبقني بها فيدركه عند ( باب لُدّ ) الشرقي فيقتله ، ويهزم الله اليهود فلا يبقى شيء مما خلق الله تعالى يتوارى به يهودي إلا أنطق الله ذلك الشيء - لا حجر ولا شجر ولا حائط ولا دابة ، إلا الغرقدة فإنها من شجرهم لا تنطق - إلا قال يا عبد الله المسلم : هذا يهودي فتعال اقتله .
(1/581)
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » وإن أيامه أربعون سنة ، السنة كنصف السنة ، والسنة كالشهر ، والشهر كالجمعة ، وآخر أيامه كالشررة يصبح أحدكم على باب المدينة فلا يبلغ بابها الآخر حتى يمسي « ، فقيل له : كيف نصلي يا نبي الله في تلك الأيام القصار؟ قال : » تقدرون الصلاة كما تقدرون في هذه الأيام الطوال ثم صلوا « ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فيكون عيسى بن مريم في أمتي حكماً عدلاً وإماماً مقسطاً ، يدق الصليب ويذبح الخنزير ويضع الجزية ويترك الصدقة ، فلا يسعى على شاة ولا بعير ، وترتفع الشحناء والتباغض ، وتنزح حمة كل ذات حمة حتى يدخل الوليد يده في الحية فلا تضره ، وتفر الوليدة الأسد فلا يضرها ، ويكون الذئب في الغنم كأنه كلبها ، وتملأ الأرض من السلم كما يملأ الأناء من الماء ، وتكون الكلمة واحدة فلا يعبد إلا الله ، وتضع الحرب أوزارها ، وتسلب قريش ملكها ، وتكون الأرض لها نور الفضة ، وتنبت نباتها كعهد آدم حتى يجتمع النفر على القطف من العنب فيشبعهم ، ويجتمع النفر على الرمانة فتشبعهم ، ويكون الثور بكذا وكذا من المال ويكون الفرس بالدريهمات « قيل يا رسول الله وما يرخص الفرس؟ قال : » لا تركب لحرب أبداً « ، قيل له فما يغلي الثور؟ قال : » يحرث الأرض كلها ، وإن قبل خروج الدجال ثلاث سنوات شداد يصيب الناس فيها جوع شديد ، ويأمر الله السماء في السنة الأولى أن تحبس ثلث مطرها ، ويأمر الأرض فتحبس ثلث نباتها ، ثم يأمر الله السماء في السنة الثانية فتحبس ثلثي مطرها ، ويأمر الأرض فتحبس ثلثي نباتها ، ثم يأمر الله عزَّ وجلَّ السماء في السنة الثالثة فتحبس مطرها كله فلا تقطر قطرة ، ويأمر الأرض أن تحبس نباتها كله فلا تنبت خضراء ، فلا تبقى ذات ظلف إلا هلكت إلا ما شاء الله « . قيل : فما يعيش الناس في ذلك الزمان؟ قال : » التهليل والتكبير والتسبيح والتحميد ويجري ذلك عليهم مجرى الطعام « » .
( حديث آخر ) : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(1/582)
« لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود ، فيقتلهم المسلمون حتى يختبيء اليهودي من وراء الحجر والشجر ، فيقول الحجر والشجر : يا مسلم يا عبد الله هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله - إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود » .
( حديث آخر ) : وقال مسلم في صحيحه عن النواس بن سمعان قال : ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدجال ذات غداة فخفض فيه ورفع حتى ظنناه في طائفة النخل ، فلما رحنا إليه عرف ذلك في وجوهنا فقال : « » ما شأنكم «؟ قلنا : يا رسول الله ذكرت الدجال غداة فخفضت فيه ورفعت حتى ظنناه في طائفة النخل ، قال : » غير الدجال أخوفني عليكم ، إن يخرج وأنا فيكم ، فأنا حجيجه دونكم ، وإن يخرج ولست فيكم فامرؤ حجيج نفسه ، والله خليفتي على كل مسلم ، إنه شاب قطط ، عينه طافية كأني أشبهه بعبد العزى بن قطن ، من أدركه منكم فليقرأ عليه فواتح سورة الكهف ، إنه خارج من خلة بين الشام والعراق ، فعاث يميناً وعاث شمالاً ، يا عباد الله فاثبتوا « . قلنا : يا رسول الله فما لبثه في الأرض؟ قال : » أربعون يوماً ، يوم كسنة ، ويوم كشهر ، ويوم كجمعة ، وسائر أيامه كأيامكم « . قلنا يا رسول الله وذلك اليوم الذي كسنة أتكفينا فيه صلاة يوم؟ قال : » لا ، اقدروا له قدره « ، قلنا يا رسول الله وما إسراعه في الأرض؟ قال : » كالغيث استدبرته الريح ، فيأتي على قوم فيدعوهم فيؤمنون به ويستجيبون له ، فيأمر السماء فتمطر ، والأرض فتنبت ، فتروح عليهم سارحتهم أطول ما كانت ذرى وأسبغه ضروعاً وأمده خواصر ، ثم يأتي القوم فيدعوهم فيردون عليهم قوله ، فينصرف عنهم ، فيصبحون ممحلين ليس بأيديهم شيء من أموالهم ، ويمر بالخربة فيقول لها : أخرجي كنوزك فتتبعه كنوزها كيعاسيب النحل ، ثم يدعو رجلاً ممتلئاً شباباً فيضربه بالسيف فيقطعه جزلتين رمية الغرض ، ثم يدعوه فيقبل وتهلل وجهه ويضحك . فبينما هو كذلك إذ بعث الله ( المسيح بن مريم ) عليه السلام ، فينزل عند المنارة البيضاء شرقي دمشق بين مهرودتين واضعاً كفيه على أجنحة ملكين ، إذا طأطأ رأسه قطر ، وإذا رفعه تحدَّر منه كجمان اللؤلؤ ، ولا يحل لكافر يجد ريح نفسه إلا مات ، ونفسه ينتهي حيث ينتهي طرفه ، فيطلبه حتى يدركه بباب لد ، فيقتله ، ثم يأتي عيسى عليه السلام قوماً قد عصمهم الله منه فيمسح عن وجوههم ، ويحدثهم بدرجاتهم في الجنة ، فبينما هو كذلك إذا أوحى الله إلى عيسى : إني قد أخرجت عباداً لي لا يدان لأحد بقتالهم فحرز عبادي إلى الطور .
ويبعث الله ( يأجوج ومأجوج ) وهم من كل حدب ينسلون ، فيمر أولهم على بحيرة طبرية فيشربون ما فيها ، ويمر آخرهم فيقولون : لقد كان بهذا مرة ماء ، ويحضر نبي الله عيسى وأصحابه حتى يكون رأس الثور لأحدهم خيراً من مائة دينار لأحدكم اليوم ، فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه فيرسل الله عليهم النغف في رقابهم فيصبحون فرسى كموت نفس واحدة ، ثم يهبط نبي الله عيسى وأصحابه إلى الأرض فلا يجدون في الأرض موضع شبر إلا ملأ زهمهم ونتنهم فيرغب نبي الله عيسى وأصحابه إلى الله فيرسل الله طيراً كأعناق البخت فتحملهم فتطرحهم حيث شاء الله ، ثم يرسل الله مطرا لا يَكُنُّ منه بيت مدر ولا وبر فيغسل الأرض حتى يتركها كالزَّلفَة .
ثم يقال للأرض أخرجي ثمرك وردي بركتك ، فيومئذ تأكل العصابة من الرمانة ويستظلون بقحفها ، ويبارك الله في الرسل حتى أن اللقحة من الإبل لتكفي الفئام من الناس فبينما هم كذلك إذ بعث الله ريحاً طيبة فتأخذهم تحت آباطهم ، فيقبض الله روح كل مؤمن وكل مسلم ، ويبقى شرار الناس يتهارجون فيها تهارج الحمر ، فعليهم تقوم الساعة « » .
(1/583)
( حديث آخر ) : قال مسلم في صحيحه عن يعقوب بن عاصم بن عروة بن مسعود الثقفي يقول ، سمعت عبد الله بن عمرو - وجاءه رجل - فقال : ما هذا الحديث الذي تحدث به؟ تقول : إن الساعة تقوم إلى كذا وكذا ، فقال : ( سبحان الله ) أو ( لا إله إلا الله ) أو كلمة نحوهما ، لقد هممت أن لا أحدث أحداً شيئاً أبداً إنما قلت : إنكم سترون بعد قليل أمراً عظيماً : يحرق البيت ويكون ويكون ، ثم قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » يخرج الدجال في أُمتي فيمكث أربعين ، لا أدري أربعين يوماً ، أو أربعين شهراً ، أو أربعين عاماً ، فيبعث الله تعالى عيسى بن مريم كأنه عروة بن مسعود ، فيطلبه فيهلكه ، ثم يمكث الناس سبع سنين ليس بين اثنين عداوة ، ثم يرسل الله ريحاً باردة من قبل الشام فلا يبقى على وجه الأرض أحد في قلبه مثقال ذرة من خير - أو إيمان - إلا قبضته ، حتى لو أن أحدكم دخل في كبد جبل لدخلته عليه حتى تقبضه « .
قال : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم : » فيبقى شرار الناس في خفة الطير وأحلام السباع ، لا يعرفون معروفاً ولا ينكرون منكراً ، فيتمثل لهم الشيطان ، فيقول : ألا تستجيبون؟ فيقولون : فما تأمرنا؟ فيأمرهم بعبادة الأوثان ، وهم في ذلك دارٌّ رزقهم ، حسنٌ عيشهم ، ثم ينفخ في الصور فلا يسمعه أحد إلا أصغى ليتا ورفع ليتا ، قال : وأول من يسمعه رجل يلوط حوض إبله ، فيصعق ويصعق الناس ، ثم يرسل الله - أو قال ينزل الله - مطراً كأنه الطل - أو قال الظل - نعمان الشاك - فتنبت منه أجساد الناس ، ثم ينفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون . ثم يقال : أيها الناس هلموا إلى ربكم { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ } [ الصافات : 24 ] ، ثم يقال : أخرجوا بعث النار ، فيقال من كم؟ فيقال : من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعين ، قال فذلك { يَوْماً يَجْعَلُ الولدان شِيباً } [ المزمل : 17 ] وذلك { يَوْمَ يُكْشَفُ عَن سَاقٍ } [ القلم : 42 ] « .
(1/584)
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد ، أخبرنا عبد الرزاق ، أخبرنا معمر عن الزهري ، عن عبد الله بن عبيد الله ابن ثعلبة الأنصاري ، عن عبد الله بن زيد الأنصاري ، عن مجمع بن جارية ، قال ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « يقتل ابن مريم المسيح الدجال بباب لد - أو إلى جانب لد - » ورواه أحمد أيضاً عن سفيان بن عيينة من حديث الليث والأوزاعي ، ثلاثتهم عن الزهري عن عبد الله بن عبيد الله بن ثعلبة ، عن عبد الرحمن بن يزيد عن عمه مجمع بن جارية ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يقتل ابن مريم الدجال بباب لد » ، وكذا رواه الترمذي عن قتيبة عن الليث به ، وقال : هذا حديث صحيح . قال : وفي الباب عن عمران بن حصين ونافع بن عيينة وأبي برزة وحذيفة بن أسيد وأبي هريرة ، وكيسان ، وعثمان بن أبي العاص ، وجابر وأبي أمامة ، وابن مسعود ، وعبد الله بن عمرو ، وسمرة بن جندب والنواس بن سمعان ، وعمرو بن عوف ، وحذيفة بن اليمان رضي الله عنهم . ومراده برواية هؤلاء ما فيه ذكر الدجال وقتل عيسى بن مريم عليه السلام له .
( حديث آخر ) : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، ونزول عيسى بن مريم ، والدجال ، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق - أو تحشر - الناس تبيت معهم حيث باتوا ، وتقيل معهم حيث قالوا » وذكر الحافظ أبو القاسم بن عساكر في ترجمة عيسى بن مريم من تاريخه عن بعض السلف : أنه يدفن مع النبي صلى الله عليه وسلم في حجرته فالله أعلم .
وقوله تعالى : { وَيَوْمَ القيامة يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً } ، قال قتادة : يشهد عليهم أنه قد بلغهم الرسالة من الله ، وأقر بعبودية الله عزَّ وجلَّ ، وهذا كقوله تعالى في آخر سورة المائدة : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ } [ الآية : 116 ] إلى قوله : { العزيز الحكيم } [ المائدة : 118 ] .
(1/585)
فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا (160) وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (161) لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا (162)
يخبر تعالى أنه بسبب ظلم اليهود بما ارتكبوه من الذنوب العظيمة حرم عليهم طيبات كان أحلها لهم ، كما قال ابن أبي حاتم عن عمرو ، قال قرأ ابن عباس : ( طيبات كانت أحلت لهم ) وهذا التحريم قد يكون ( قدرياً ) بمعنى أنه تعالى قيضهم لأن تأولوا في كتابهم ، وحرفوا وبدلوا أشياء كانت حلالاً لهم ، فحرموها على أنفسهم تشديداً منهم على أنفسهم وتضييقاً وتنطعاً ، ويحتمل أن يكون ( شرعياً ) بمعنى أنه تعالى حرم عليهم في التوراة أشياء كانت حلالاً لهم قبل ذلك ، كما قال تعالى : { كُلُّ الطعام كَانَ حِلاًّ لبني إِسْرَائِيلَ إِلاَّ مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ على نَفْسِهِ مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة } [ آل عمران : 93 ] . وقد قدمنا الكلام على هذه الآية وأن المراد أن الجميع من الأطعمة كانت حلالاً لهم ، من قبل أن تنزل التوراة ما عدا ما كان حرم إسرائيل على نفسه من لحوم الإبل وألبانها . ثم إنه تعالى حرم أشياء كثيرة في التوراة ، كما قال في سورة الأنعام : { وَعَلَى الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الحوايآ أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ الآية : 146 ] ، أي إنما حرمنا عليهم ذلك لأنهم يستحقون ذلك بسبب بغيهم وطغيانهم ، ومخالفتهم رسولهم واختلافهم عليه ، ولهذا قال : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَن سَبِيلِ الله كَثِيراً } ، أي صدوا الناس وصدوا أنفسهم عن اتباع الحق ، وهذه سجية لهم متصفون بها من قديم الدهر وحديثه ، ولهذا كانوا أعداء الرسل ، وقتلوا خلقاً من الأنبياء ، وكذبوا عيسى ومحمداً صلوات الله وسلامه عليهما .
وقوله تعالى : { وَأَخْذِهِمُ الربا وَقَدْ نُهُواْ عَنْهُ } ، أي أن الله قد نهاهم عن الربا فتناولوه وأخذوه واحتالوا عليه بأنواع من الحيل وصنوف من الشبه ، وأكلوا أموال الناس بالباطل ، قال تعالى : { وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَاباً أَلِيماً } ، ثم قال تعالى : { لكن الراسخون فِي العلم مِنْهُمْ } أي الثابتون في الدين ، لهم قدم راسخة في العلم النافع ، { والمؤمنون } عطف على الراسخين ، وخبره { يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } ، قال ابن عباس : أنزلت في عبد الله بن سلام وثعلبة بن سعيه وأسد بن سعيه وأسد بن عبيد الذين دخلوا في الإسلام وصدقوا بما أرسل الله به محمداً صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : { والمقيمين الصلاة } هكذا ، هو في جميع مصاحف الأئمة وكذا هو في مصحف ( أبي بن كعب ) ، وذكر ابن جرير أنها في مصحف ابن مسعود { والمقيمون الصلاة } ، قال : والصحيح قراءة الجميع ، رد على من زعم أن ذلك من غلط الكتاب ، ثم ذكر اختلاف الناس ، فقال بعضهم : هو منصوب على المدح ، كما جاء في قوله :
(1/586)
{ والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس } [ البقرة : 177 ] ، قال وهذا سائغ في كلام العرب كما قال الشاعر :
لا يبعدن قومي الذن همو ... أسد العداة وآفة الجزر
النازلين بكل معترك ... والطيبون معاقد الأزر
وقال آخرون : هو مخفوض عطفاً على قوله : { بِمَآ أُنزِلَ إِلَيكَ وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلِكَ } ، يعني وبالمقيمين الصلاة ، وكأنه يقول : وبإقامة الصلاة التي يعترفون بوجوبها وكتابتها عليهم . وقوله : { والمؤتون الزكاة } يحتمل أن يكون المراد زكاة الأموال ، ويحتمل زكاة النفوس ، ويحتمل الأمرين والله أعلم ، { والمؤمنون بالله واليوم الآخر } أي يصدقون بأنه ( لا إله إلا الله ) ويؤمنون بالبعث بعد الموت ، والجزاء على الأعمال خيرها وشرها ، وقوله : { أولئك } هو الخبر عما تقدم ، { سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً } يعني الجنة .
(1/587)
إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا (163) وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا (164) رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا (165)
قال ابن عباس ، قال سكن وعدي بن زيد : يا محمد ما نعلم أن الله أنزل على بشر من شيء بعد موسى ، فأنزل الله في ذلك من قولهما : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ } إلى آخر الآيات . ثم ذكر فضائحهم ومعايبهم وما كانوا عليه وما هم عليه الآن من الكذب والافتراء ، ثم ذكر تعالى أنه أوحي إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما أوحى إلي غيره من الأنبياء المتقدمين ، فقال : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ } ، إلى قوله : { وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } والزبور اسم الكتاب الذي أوحاه الله إلى داود عليه السلام ، وسنذكر ترجمة كل واحد من هؤلاء الأنبياء عليهم من الله أفضل الصلاة والسلام عند قصصهم من سورة الأنبياء إن شاء الله وبه الثقة وعليه التكلان .
وقوله تعالى : { وَرُسُلاً قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } ، أي من قبل هذه الآية ، يعني في السور المكية وغيرها وهذه تسمية الأنبياء الذين نص الله على أسمائهم في القرآن وهم : ( آدم ، وإدريس ونوح وهود وصالح وإبراهيم ولوط وإسماعيل وإسحاق ويعقوب ويوسف وأيوب وشعيب وموسى وهارون ويونس وداود وسليمان وإلياس واليسع وزكريا ويحيى وعيسى وكذا ذو الكفل ، عند كثير من المفسرين وسيدهم محمد صلى الله عليه وسلم ) وقوله : { وَرُسُلاً لَّمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ } أي خلقاً آخرين لم يذكروا في القرآن ، وقد اختلف في عدة الأنبياء والمرسلين ، والمشهور في ذلك حديث ابي ذر الطويل ، وذلك فيما رواه ابن مردويه رحمه الله في تفسيره عن أبي ذر قال ، قلت : « يا رسول الله كم الأنبياء؟ قال : » مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً « ، قلت : يا رسول الله كم الرسل منهم؟ قال : » ثلاثمائة وثلاثة عشر ، جم غفير « ، قلت : يا رسول الله من كان أولهم؟ قال : » آدم « ، قلت : يا رسول الله نبي مرسل؟ قال : » نعم خلقه الله بيده ثم نفخ فيه من روحه ثم سواه قبيلاً « وقد روي هذا الحديث من وجه آخر عن صحابي آخر ، فقال ابن أبي حاتم عن أبي أمامة ، قال ، قلت : » يا نبي الله كم الأنبياء؟ قال : « مائة ألف وأربعة وعشرون ألفاً ، والرسل من ذلك ثلثمائة وخمسة عشر ، جماً غفيراً » « .
وقوله تعالى : { وَكَلَّمَ الله موسى تَكْلِيماً } ، وهذا تشريف لموسى عليه السلام بهذه الصفة ، ولهذا يقال له الكليم ، وقد قال الحافظ أبو بكر بن مردويه : جاء رجل إلى أبي بكر بن عياش ، فقال : سمعت رجلاً يقرأ { وكلم الله موسى تكليماً } فقال أبو بكر : ما قرأ هذا إلا كافر .
(1/588)
قرأت على الأعمش ، وقرأ الأعمش على يحيى بن وثاب ، وقرأ يحيى بن وثاب على أبي عبد الرحمن السلمي ، وقرأ أبو عبد الرحمن السلمي على علي بن أبي طالب ، وقرأ علي بن أبي طالب على رسول الله : { وكلم اللَّهُ موسى تكليماً } ، وإنما اشتد غضب أبي بكر بن عياش رحمه الله على من قرأ كذلك ، لأنه حرّف لفظ القرآن ومعناه ، وكان هذا من المعتزلة الذين ينكرون أن يكون الله كلم موسى عليه السلام أو يكلم أحداً من خلقه كما رويناه عن بعض المعتزلة أنه قرأ على بعض المشايخ { وكلم الله موسى تكليماً } ، فقال له : يا ابن اللخناء! كيف تصنع بقوله تعالى : { وَلَمَّا جَآءَ موسى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ } [ الأعراف : 143 ] ؟ يعني أن هذا لا يحتمل التحريف ولا التأويل . وقد روى الحاكم في مستدركه وابن مردويه عن ابن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كان على موسى يوم كلمه ربه جبة صوف ، وكساء صوف ، وسراويل صوف ، ونعلان من جلد حمار غير ذكي » .
وقوله تعالى : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } أي يبشرون من أطاع الله ، واتبع رضوانه بالخيرات ، وينذرون من خالف أمره وكذب رسله بالعقاب والعذاب ، وقوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى الله حُجَّةٌ بَعْدَ الرسل وَكَانَ الله عَزِيزاً حَكِيماً } ، أي أنه تعالى أنزل كتبه وأرسل رسله بالبشارة والنذارة ، وبين ما يحبه ويرضاه مما يكرهه ويأباه ، لئلا يبقى لمعتذر عذر ، كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّآ أَهْلَكْنَاهُمْ بِعَذَابٍ مِّن قَبْلِهِ لَقَالُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ مِن قَبْلِ أَن نَّذِلَّ ونخزى } [ طه : 134 ] ، وكذا قوله : { ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ } [ القصص : 47 ] الآية ، وقد ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا أحد أغير من الله ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله عزَّ وجلَّ ، من أجل ذلك مدح نفسه ، ولا أحد أحب إليه العذر من الله ، من أجل ذلك بعث النبيين مبشرين ومنذرين » ، وفي لفظ آخر : « من أجل ذلك أرسل رسله وأنزل كتبه » .
(1/589)
لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا (168) إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا (169) يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (170)
لما تضمن قوله تعالى : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } [ النساء : 163 ] إلى آخر السياق إثبات نبوته صلى الله عليه وسلم والرد على من أنكر نبوته من المشركين وأهل الكتاب قال الله تعالى : { لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ } ، أي وإن كفر به من كفر به ممن كذبك وخالفك ، فالله يشهد لك بأنك رسوله الذي أنزل عليه الكتاب وهو القرآن العظيم الذي : { لاَّ يَأْتِيهِ الباطل مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلاَ مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ } [ فصلت : 42 ] ، ولهذا قال : { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } ، أي فيه علمه الذي أراد أن يطلع العباد عليه من البينات والهدى والفرقان ، وما يحبه الله ويرضاه ، وما يكرهه ويأباه ، وما فيه من العلم بالغيوب من الماضي والمستقبل ، وما فيه من ذكر صفاته تعالى المقدسة التي لا يعلمها نبي مرسل ولا ملك مقرب إلا أن يعلمه الله به ، كما قال تعالى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } [ البقرة : 255 ] وقال : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] .
وقال ابن أبي حاتم عن عطاء بن السائب قال : أقرأني أبو عبد الرحمن السلمي القرآن ، وكان إذا قرأ عليه أحدنا القرآن قال : قد أخذت علم الله ، فليس أحد اليوم أفضل منك إلا بعمل ، ثم يقرأ قوله : { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ والملائكة يَشْهَدُونَ وكفى بالله شَهِيداً } . قوله : { والملائكة يَشْهَدُونَ } أي بصدق ما جاءك وأوحى إليك وأنزل عليك مع شهادة الله تعالى بذلك ، { وكفى بالله شَهِيداً } قال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال : دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود ، فقال لهم : « إني لأعلم والله إنكم لتعلمون أني رسول الله » ، فقالوا : ما نعلم ذلك ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } الآية .
وقوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله قَدْ ضَلُّواْ ضلالا بَعِيداً } أي كفروا في أنفسهم فلم يتبعوا الحق ، وسعوا في صد الناس عن اتباعه والاقتداء به ، قد خرجوا عن الحق وضلوا عنه وبعدوا منه بعداً عظيماً شاسعاً ، ثم أخبر تعالى عن حكمه في الكافرين بآياته وكتابه ورسوله ، الظالمين لأنفسهم بذلك وبالصد عن سبيله ، وارتكاب مآثمه ، وانتهاك محارمه بأنه لا يغفر لهم { وَلاَ لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً } أي سبيلاً إلى الخير { إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ } ، وهذا استثناء منقطع { خَالِدِينَ فِيهَآ أَبَداً } الآية .
ثم قال تعالى { ياأيها الناس قَدْ جَآءَكُمُ الرسول بالحق مِن رَّبِّكُمْ فَآمِنُواْ خَيْراً لَّكُمْ } ، أي قد جاءكم محمد صلوات الله وسلامه عليه بالهدى ودين الحق والبيان الشافي من الله عزَّ وجلَّ ، فآمنوا بما جاءكم به واتبعوه يكن خيراً لكم ، ثم قال : { وَإِن تَكْفُرُواْ فَإِنَّ للَّهِ مَا فِي السماوات والأرض } أي فهو غني عنكم وعن إيمانكم ، ولا يتضرر بكفرانكم كما قال تعالى : { وَقَالَ موسى إِن تكفروا أَنتُمْ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً فَإِنَّ الله لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ } [ إبراهيم : 8 ] ، وقال هاهنا : { وَكَانَ الله عَلِيماً } أي بمن يستحق منكم الهداية فيهديه ، وبمن يستحق الغواية فيغويه { حَكِيماً } أي في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره .
(1/590)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا (171)
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والاطراء ، وهذا كثير في النصارى فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها ، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلهاً من دون الله يعبدونه كما يعبدونه ، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه ممن زعم أنه على دينه فادعوا فيهم العصمة ، واتبعوهم في كل ما قالوا سواء كان حقاً أو باطلاً ، أو ضلالاً ، أو رشاداً ، أو صحيحاً أو كذباً ، ولهذا قال الله تعالى : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] الآية ، وقال الإمام أحمد عن ابن عباس عن عمر ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى بن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا عبد الله ورسوله » وهكذا رواه البخاري عن الزهري به ولفظه : « فإنما أنا عبد فقولوا عبد الله ورسوله » ، وقال الإمام أحمد عن أنس بن مالك : أن رجلاً قال : يا محمد ، يا سيدنا ، وابن سيدنا ، وخيرنا ، وابن خيرنا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أيها الناس عليكم بقولكم ، ولا يستهوينكم الشيطان : أنا محمد بن عبد الله ، عبد الله ورسوله ، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منزلتي التي أنزلني الله عزَّ وجلَّ » ، تفرد به من هذا الوجه .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } أي لا تفتروا عليه وتجعلوا له صاحبة وولداً ، تعالى الله عزَّ وجلَّ عن ذلك علواً كبيراً ، وتنزه وتقدس وتوحد في سؤدده وكبريائه وعظمته ، فلا إله إلا هو ولا رب سواه ، ولهذا قال : { إِنَّمَا المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ رَسُولُ الله وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } أي إنما هو عبد من عباد الله وخلق من خلقه ، قال له كن فكان ، ورسول من رسله وكلمته ألقاها إلى مريم أي خلقه بالكلمة التي أرسل بها جبريل عليه السلام إلى مريم فنفخ فيها من روحه بإذن ربه عزَّ وجلَّ ، فكان عيسى بإذنه عزَّ وجلَّ ، وكانت تلك النفخة التي نفخها في جيب درعها ، فنزلت - حتى ولجت فرجها - بمنزلة لقاح الأب والأم ، والجميع مخلوق لله عزَّ وجلَّ ، ولهذا قيل لعيسى : إنه كلمة الله وروح منه ، لأنه لم يكن له أب تولد منه ، وإنما هو ناشىء عن الكلمة التي قال له بها كن فكان ، والروح التي أرسل بها جبريل .
قال الله تعالى : { مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } [ المائدة : 75 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] ، وقال تعالى : { وَمَرْيَمَ ابنت عِمْرَانَ التي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا }
(1/591)
[ التحريم : 12 ] إلى آخر السورة . وقال تعالى إخباراً عن المسيح : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } [ الزخرف : 59 ] الآية ، وقال قتادة : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } هو كقوله : { كُن فَيَكُونُ } [ آل عمران : 59 ] . وقال ابن أبي حاتم ، حدثنا أحمد بن سنان الوسطي قال : سمعت شاذ بن يحيى يقول في قول الله : { وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِّنْهُ } قال : ليس الكلمة صارت عيسى ، ولكن بالكلمة صار عيسى ، وهذا أحسن مما ادعاه ابن جرير في قوله { أَلْقَاهَا إلى مَرْيَمَ } أي أعلمها بها كما زعمه في قوله : { إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } [ آل عمران : 45 ] أي يعلمك بكلمة منه ، ويجعل ذلك كقوله تعالى : { وَمَا كُنتَ ترجوا أَن يلقى إِلَيْكَ الكتاب إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ } [ القصص : 86 ] ، بل الصحيح أنها الكلمة التي جاء بها جبريل إلى مريم فنفخ فيها بإذن الله فكان عيسى عليه السلام ، وقال البخاري عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « من شهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأن محمداً عبده ورسوله ، وأن عيسى عبد الله ورسوله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وإن الجنة حق والنار حق ، أدخله الله الجنة على ما كان من العمل » وقوله في الآية والحديث : « وروح منه » كقوله : { وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض جَمِيعاً مِّنْهُ } [ الجاثية : 13 ] أي من خلقه ومن عنده وليست ( من ) للتبعيض كما تقوله النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة ، بل هي لابتداء الغاية كما في الآية الأخرى ، وقد قال مجاهد في قوله : { وَرُوحٌ مِّنْهُ } أي ورسول منه ، وقال غيره : ومحبة منه ، والأظهر الأول ، وهو أنه مخلوق من روح مخلوقة ، وأضيفت الروح إلى الله على وجه التشريف ، كما أضيفت الناقة والبيت إلى الله في قوله : { هذه نَاقَةُ الله } [ الأعراف : 73 ، هود : 64 ] ، وفي قوله : { وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ } [ الحج : 26 ] ، وكما روي في الحديث الصحيح : « فأدخل على ربي في داره » أضافها إليه إضافة تشريف وهذا كله من قبيل واحد ونمط واحد .
وقوله تعالى : { فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } أي فصدقوا بأن الله واحد أحد لا ولد له ولا صاحبة ، واعلموا وتيقنوا بأن عيسى عبد الله ورسوله ، ولهذا قال تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ ثَلاَثَةٌ } أي لا تجعلوا عيسى وأمه مع الله شريكين ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً ، وهذه الآية والتي في سورة المائدة حيث يقول تعالى : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله وَاحِدٌ } [ المائدة : 73 ] ، وكما قال في آخر السورة المذكورة : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني } [ المائدة : 116 ] الآية . وقال في أولها : { لَقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله هُوَ المسيح ابن مَرْيَمَ } [ المائدة : 72 ] الآية ، والنصارى عليهم لعائن الله من جهلهم ليس لهم ضابط ، ولا لكفرهم حد ، بل أقوالهم وضلالهم منتشر ، فمنهم من يعتقده إلهاً ، ومنهم من يعتقده شريكاً ، ومنهم من يعتقده ولداً ، وهم طوائف كثيرة لهم آراء مختلفة ، وأقوال غير مؤتلفة ، ولقد أحسن بعض المتكلمين حيث قال : لو اجتمع عشرة من النصارى لافترقوا عن أحد عشر قولاً .
(1/592)
ولقد ذكر بعض علمائهم المشاهير عندهم وهو ( بترك الاسكندرية ) في حدود سنة أربعمائة من الهجرة النبوية ، أنهم اجتمعوا المجمع الكبير الذي عقدوا فيه الأمانة الكبيرة التي لهم - وإنما هي الخيانة الحقيرة الصغيرة - وذلك في أيام قسطنطين باني المدينة المشهورة ، وأنهم اختلفوا عليه اختلافاً لا ينضبط ولا ينحصر ، فكانوا أزيد من ألفين أسقفاً ، فكانوا أحزاباً كثيرة كل خمسين منهم على مقالة ، وعشرون على مقالة ، ومائة على مقالة وسبعون على مقالة وأزيد من ذلك وأنقص ، فلما رأى منهم عصابة قد زادوا على الثلثمائة بثمانية عشر نفر وقد توافقوا على مقالة ، فأخذها الملك ونصرها وأيدها ، وكان فيلسوفاً داهية ، ومحق ما عداها من الأقوال وانتظم دست أولئك الثلثمائة والثمانية عشر وبنيت لهم الكنائس ، ووضعوا لهم كتباً وقوانين وأحدثوا فيها الأمانة التي يلقنونها الولدان من الصغار ليعتقدوها ويعمدونهم عليها ، وأتباع هؤلاء هم ( الملكانية ) ، ثم إنهم اجتمعوا مجمعاً ثانياً فحدث فيهم ( اليعقوبية ) ، ثم مجمعاً ثالثاً فحدث فيهم ( النسطورية ) وكل هذه الفرق تثبت الأقانيم الثلاثة في المسيح ، ويختلفون في كيفية ذلك وفي اللاهوت والناسوت على زعمهم ، هل اتحدوا أو ما اتحدوا ، أو امتزجا أو حل فيه؟ على ثلاث مقالات ، وكل منهم يكفر الفرقة الأخرى ، ونحن نكفر الثلاثة ، ولهذا قال تعالى : { انتهوا خَيْراً لَّكُمْ } أي يكن خيراً لكم ، { إِنَّمَا الله إله وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَن يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ } أي تعالى وتقدس عن ذلك علواً كبيراً . { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وكفى بالله وَكِيلاً } أي الجميع ملكه وخلقه وجميع ما فيهما عبيده ، وهم تحت تدبيره وتصريفه ، وهو وكيل على كل شيء ، فكيف يكون له منهم صاحبة وولد كما قال في الآية الأخرى : { بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } [ الأنعام : 101 ] الآية ، وقال تعالى : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } [ مريم : 88-89 ] الآيات .
(1/593)
لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا (172) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا (173)
قال عطاء عن ابن عباس قوله : { لَّن يَسْتَنكِفَ } لن يستكبر ، وقال قتادة : لن يحتشم { المسيح أَن يَكُونَ عَبْداً للَّهِ وَلاَ الملائكة المقربون } ، وقد استدل بعض من ذهب إلى تفضيل الملائكة على البشر بهذه الآية حيث قال : { وَلاَ الملائكة المقربون } وليس له في ذلك دلالة ، لأنه إنما عطف الملائكة على المسيح ، لأن الاستنكاف هو الامتناع ، والملائكة أقدر على ذلك من المسيح ، فلهذا قال : { وَلاَ الملائكة المقربون } ، ولا يلزم من كونهم أقوى وأقدر على الامتناع أن يكونوا أفضل ، وقيل : إنما ذكروا لأنهم اتخذوا آلهة مع الله كما اتخذ المسيح ، فأخبر تعالى أنهم عبيد من عباده وخلق من خلقه ، كما قال تعالى : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ } [ الأنبياء : 26 ] الآيات ، ولهذا قال : { وَمَن يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيهِ جَمِيعاً } أي فيجمعهم إليه يوم القيامة ويفصل بينهم بحكمه العدل ، الذي لا يجور فيه ولا يحيف ، ولهذا قال : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ } ، أي فيعطيهم من الثواب على قدر أعمالهم الصالحة ويزيدهم على ذلك من فضله وإحسانه وسعة رحمته وامتنانه .
وقد روى ابن مردويه عن عبد الله مرفوعاً قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ } ، أجورهم ، قال : « أدخلهم الجنة » { وَيَزيدُهُمْ مِّن فَضْلِهِ } قال : « الشفاعة فيمن وجبت له النار ممن صنع إليهم المعروف في دنياهم » ، وهذا إسناد لا يثبت ، وإذا روي عن ابن مسعود موقوفاً فهو جيد ، { وَأَمَّا الذين استنكفوا واستكبروا } أي امتنعوا عن طاعة الله وعبادته واستكبروا عن ذلك { فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَلاَ يَجِدُونَ لَهُمْ مِّن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً } كقوله : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] أي صاغرين حقيرين ذليلين ، كما كانوا ممتنعين مستكبرين .
(1/594)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا (175)
يقول تعالى مخاطباً جميع الناس ومخبراً بأنه قد جاءهم منه برهان عظيم ، وهو الدليل القاطع للعذر والحجة المزيلة للشبه ، ولهذا قال : { وَأَنْزَلْنَآ إِلَيْكُمْ نُوراً مُّبِيناً } أي ضياء واضحاً على الحق قال ابن جريج وغيره : وهو القرآن { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ بالله واعتصموا بِهِ } أي جمعوا بين مقامي العبادة والتوكل على الله في جميع أمورهم ، وقال ابن جريج : آمنوا بالله واعتصموا بالقرآن { فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ } أي يرحمهم فيدخلهم الجنة ، ويزيدهم ثواباً مضاعفة ورفعاً في درجاتهم من فضله عليهم وإحسانه إليهم ، { وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطاً مُّسْتَقِيماً } أي طريقاً واضحاً قصداً قواماً لا اعوجاج فيه ولا انحراف ، وهذه صفة المؤمنين في الدنيا والآخرة ، فهم في الدنيا على منهاج الاستقامة وطريق السلامة في جميع الاعتقادات والعمليات ، وفي الآخرة على صراط الله المستقيم المفضي إلى روضات الجنات ، وفي حديث الحارث الأعور عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « القرآن صراط الله المستقيم ، وحبل الله المتين » ، وقد تقدم الحديث بتمامه في أول التفسير ، ولله الحمد والمنة .
(1/595)
يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (176)
قال البخاري عن أبي إسحاق قال : سمعت البراء ، قال آخر سورة نزلت براءة ، وآخر آية نزلت يستفتونك . وقال الإمام أحمد عن محمد بن المنكدر ، قال سمعت جابر بن عبد الله قال : دخل عليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا مريض لا أعقل ، قال فتوضأ ثم صب عليّ - أو قال صبوا عليه - فعقلت فقلت : إنه لا يرثني إلا كلالة فكيف الميراث؟ فأنزل الله آية الفرائض . وفي بعض الألفاظ فنزلت آية الميراث { يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ الله يُفْتِيكُمْ فِي الكلالة } الآية . وكأن معنى الكلام والله أعلم : يستفتونك عن الكلالة { قُلِ الله يُفْتِيكُمْ } فيها ، فدل المذكور على المتروك . وقد تقدم الكلام على الكلالة واشتقاقها ، وأنها مأخوذة من الإكليل الذي يحيط بالرأس من جوانبه ، ولهذا فسرها أكثر العلماء : بمن يموت وليس له ولد ولا والد . ومن الناس من يقول : الكلالة من لا ولد له كما دلت عليه هذه الآية : { إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } ، وقد أشكل حكم الكلالة على أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه كما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال : ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه : الجد ، والكلالة ، وباب من أبواب الربا . عن عمر قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الكلالة فقال : « يكفيك آية الصيف » فقال : لأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم . وكأن المراد بآية الصيف أنها نزلت في فصل الصيف والله أعلم ، ولما أرشده النبي صلى الله عليه وسلم إلى تفهمها فإن فيها كفاية ، نسي أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم عن معناها ، ولهذا قال : فلأن أكون سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنها أحب إلي من أن يكون لي حمر النعم .
وقال ابن جرير عن سعيد بن المسيب قال : سأل عمر بن الخطاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الكلالة ، فقال : « أليس قد بين الله ذلك » ؟ فنزلت : { يَسْتَفْتُونَكَ } الآية . قال قتادة : وذكر لنا أن أبا بكر الصديق قال في خطبته : ألا إن الآية التي نزلت في أول سورة النساء في شأن الفرائض أنزلها الله في الولد والوالد ، والآية الثانية أنزلها في الزوج والزوجة والإخوة من الأم ، والآية التي ختم بها سورة النساء أنزلها في الإخوة والأخوات من الأب والأم ، والآية التي ختم بها سورة الأنفال أنزلها في أولي الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله مما جرت الرحم من العصبة .
قوله تعالى : { إِن امرؤ هَلَكَ } أي مات ، قال الله تعالى :
(1/596)
{ كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] كل شي يفنى ولا يبقى إلا الله عز وجل ، كما قال : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام } [ الرحمن : 26-27 ] ، وقوله : { لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ } تمسك به من ذهب إلى أنه ليس من شرط الكلالة انتقاء الوالد ، بل يكفي في وجود الكلالة انتفاء الولد ، وهو رواية عن عمر بن الخطاب رواها ابن جرير عنه بإسناد صحيح إليه ، ولكن الذي يرجع إليه هو قول الجمهور ، وقضاء الصديق أنه الذي لا ولد له ولا والد . ويدل على ذلك قوله : { وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } ولو كان معها أب لم ترث شيئاً لأنه يحجبها بالإجماع ، فدل على أنه من لا ولد له بنص القرآن ، ولا والد بالنص عند التأمر أيضاً ، لأن الأخت لا يفرض لها النصف مع الوالد بل ليس لها ميراث بالكلية .
وقال الإمام أحمد عن زيد بن ثابت أنه سئل عن ( زوج وأخت لأب وأم ) فأعطى الزوج النصف والأخت النصف ، فكلم في ذلك ، فقال : حضرت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بذلك ، وقد روي عن ابن عباس وابن الزبير أنهما كانا يقولان في الميت ترك بنتاً وأختاً إنه لا شيء للأخت لقوله : { إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ } قال فإذا ترك بنتاً فقد ترك ولداً فلا شي للأخت ، وخالفهما الجمهور فقالوا في هذه المسألة للبنت النصف بالفرض ، وللأخت النصف الآخر بالتعصيب ، بدليل غير هذه الآية ، وهذه الآية نصت أن يفرض لها في هذه الصورة ، وأما وراثتها بالتعصيب ، فلما رواه البخاري عن الأسود ، قال : قضى فينا معاذ بن جبل على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم النصف للبنت والنصف للأخت .
وفي صحيح البخاري أيضاً عن هزيل بن شرحبيل قال سئل أبو موسى الأشعري عن ابنة وابنة ابن وأخت فقال : للابنة النصف وللأخت النصف وأت ابن مسعود فسيتابعني ، فسأل ابن مسعود فأخبره بقول أبي موسى فقال : لقد ضللت إذاً وما أنا من المهتدين ، أقضي فيها بما قضى النبي صلى الله عليه وسلم النصف للبنت ولبنت الأبن السدس تكملة الثلثين وما بقي فللأخت ، فأتينا أبا موسى فأخبرناه بقول ابن مسعود : فقال : لا تسألوني ما دام هذا الحبر فيكم .
وقوله تعالى : { وَهُوَ يَرِثُهَآ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَآ وَلَدٌ } أي والأخ يرث جميع مالها إذا ماتت كلالة وليس لها ولد أي ولا والد ، لأنها لو كان لها والد لم يرث الأخ شيئاً فإن فرض أن معه من له فرض صرف إليه فرضه كزوج أو أخ من أم ، وصرف الباقي إلى الأخ لما ثبت في الصحيحين عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ألحقوا الفرائض بأهلها ، فما أبقت الفرائض فلأولى رجل ذكر »
(1/597)
وقوله : { فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ } ، أي فإن كان لمن يموت كلالة أختان فرض لهما الثلثان وكذا ما زاد على الأختين في حكمهما ، ومن هاهنا أخذ الجماعة حكم البنتين كما استفيد حكم الأخوات من البنات في قوله : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } [ النساء : 11 ] . وقوله : { وَإِن كانوا إِخْوَةً رِّجَالاً وَنِسَآءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } هذا حكم العصبات من البنين وبني البنين والأخوة إذا اجتمع ذكورهم وإناثهم أعطي الذكر مثل حظ الأنثيين .
وقوله تعالى : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ } أي يفرض لكم فرائضه ، ويحد لكم حدوده ، ويوضح لكم شرائعه . وقوله : { أَن تَضِلُّواْ } أي لئلا تضلوا عن الحق بعد البيان ، { والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي هو عالم بعواقب الأمور ومصالحها وما فيها من الخير لعباده وما يستحقه كل واد من القرابات بحسب قربه من المتوفى . وقال ابن جرير عن سعيد ابن المسيب : أن عمر كتب في الجد والكلالة كتاباً فمكث يستخير الله يقول : اللهم إن علمت فيه خيراً فأمضه ، حتى إذا طعن دعا بكتاب فمحى ولم يدر أحد ما كتب فيه ، فقال : إني كنت كتبت كتاباً في الجد والكلالة ، وكنت أتسخير الله فيه ، فرأيت أن أترككم على ما كنتم عليه ، قال ابن جرير وقد روي عن عمر رضي الله عنه . أنه قال : إني لأستحي أن أخالف فيه أبا بكر ، وكان أبو بكر رضي الله عنه يقول : هو ما عدا الولد والوالد ، وهذا الذي قاله الصديق عليه جمهور الصحابة والتابعين ، وهو مذهب الأئمة الأربعة والفقهاء السبعة وقول علماء الأمصار قاطبة ، وهو الذي يدل عليه القرآن كما أرشد الله أنه قد بين ذلك ووضحه في قوله : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } والله أعلم .
(1/598)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعَامِ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ (1) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحِلُّوا شَعَائِرَ اللَّهِ وَلَا الشَّهْرَ الْحَرَامَ وَلَا الْهَدْيَ وَلَا الْقَلَائِدَ وَلَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ وَرِضْوَانًا وَإِذَا حَلَلْتُمْ فَاصْطَادُوا وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (2)
قال ابن أبي حاتم عن معن وعوف ، أو أحدهما : أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود ، فقال : اعهد إليّ ، فقال : إذا سمعت الله يقول : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } فأرعها سمعك ، فإنه خير يأمر به ، أو شر ينهى عنه . وعن خيثمة قال : كل شيء في القرآن { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } فهو في التوراة يا أيها المساكين . وكتب رسول الله صلى الله عليه وسلم كتاباً لعمرو بن حزم ، حين بعثه إلى اليمن يفقه أهلها ويعلمهم السنّة ، ويأخذ صدقاتهم ، فكتب له كتاباً وعهداً ، وأمره فيه بأمره ، فكتب : « بسم الله الرحمن الرحيم هذا كتاب من الله ورسوله { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ أَوْفُواْ بالعقود } عهد من محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم لعمرو ابن حزم حين بعثه إلى اليمن ، أمره بتقوى الله في أمره كله ، فإن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون » وقوله تعالى : { أَوْفُواْ بالعقود } ، قال ابن عباس يعني بالعقود : العهود؛ قال : والعهود : ما كانوا يتعاقدون عليه من الحلف وغيره؛ وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس العهود : يعني ما أحل الله وما حرم ، وما فرض وما حد في القرآن كله ، ولا تغدروا ولا تنكثوا ، ثم شدد في ذلك فقال تعالى : { والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } [ الرعد : 25 ] ، إلى قوله : { سواء الدار } [ الرعد : 25 ] وقال الضحاك : { أَوْفُواْ بالعقود } قال : ما أحل الله وحرم ، وما أخذ الله من الميثاق على من أقر بالإيمان بالنبي والكتاب أن يوفوا بما أخذ الله عليهم من الفرائض من الحلال والحرام ، وقال زيد بن أسلم : { أَوْفُواْ بالعقود } قال : هي ستة ، عهد الله ، وعقد الحلف ، وعقد الشركة ، وعقد البيع ، وعقد النكاح ، وعقد اليمين ، وقد استدل بعض من ذهب إلى أنه لا خيار في مجلس البيع بهذه الآية { أَوْفُواْ بالعقود } ، قال : فهذا يدل على لزوم العقد وثبوته ، ويقتضي نفي خيار المجلس ، وهذا مذهب أبي حنيفة ومالك ، وخالفهما في ذلك الشافعي وأحمد والجمهور ، والحجة في ذلك ما ثبت في الصحيحين عن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « البيِّعان بالخيار ما لم يتفرقا » ، وفي لفظ آخر للبخاري؛ « إذا تبايع الرجلان فكل واحد منهما بالخيار ما لم يتفرقا » ، وهذا صريح في إثبات خيار المجلس المتعقب لعقد البيع ، وليس هذا منافياً للزوم العقد ، بل هو من مقتضياته شرعاً ، فالتزامه من تمام الوفاء بالعقود .
وقوله تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام } هي الإبل والبقر والغنم ، قاله قتادة وغير واحد ، قال ابن جرير : وكذلك هو عند العرب ، وقد استدل ابن عمر وابن عباس وغير واحد بهذه الآية على إباحة الجنين إذا وجد ميتاً في بطن أمه إذا ذبحت ، وقد ورد في ذلك حديث في السنن .
(1/599)
عن أبي سعيد قال : « قلنا يا رسول الله ننحر الناقة ونذبح البقرة أو الشاة ، في بطنها الجنين ، أنلقيه أم نأكله؟ فقال : » كلوه إن شئتم فإن ذكاته ذكاة أمه « ، وقال أبو داود عن جابر بن عبد الله عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » ذكاة الجنين ذكاة أمه « وقوله : { إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } قال ابن عباس : يعني بذلك الميتة والدم ولحم الخنزير ، وقال قتادة : يعني بذلك الميتة وما لم يذكر اسم الله عليه ، والظاهر - والله أعلم - أن المراد بذلك قوله : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم وَلَحْمُ الخنزير وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع } [ المائدة : 3 ] ، فإن هذه وإن كانت من الأنعام ، إلا أنها تحرم بهذه العوارض ، ولهذا قال : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } [ المائدة : 3 ] يعني منها ، فإنه حرام لا يمكن استدراكه وتلاحقه ، ولهذا قال تعالى : { أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الأنعام إِلاَّ مَا يتلى عَلَيْكُمْ } أي إلا ما سيتلى عليكم من تحريم بعضها في بعض الأحوال ، والمراد بالأنعام ما تعم الإنسي من الإبل والبقر والغنم ، وما يعم الوحشي كالظباء والبقر والحمر ، فاستثني من الإنسي ما تقدم ، واستثنى من الوحشي الصيد في حال الإحرام : وقيل المراد ، أحللنا لكم الأنعام إلا ما استثني منها لمن التزم تحريم الصيد وهو حرام ، لقوله : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ النحل : 115 ] ، أي أبحنا تناول الميتة للمضطر بشرط أن يكون غير باغ ولا متعد ، وهكذا هنا ، أي كما أحللنا الأنعام في جميع الأحوال ، فحرموا الصيد في حال الإحرام ، فإن الله قد حكم بهذا ، وهو الحكيم في جميع ما يأمر به وينهى عنه ، ولهذا قال الله تعالى : { إِنَّ الله يَحْكُمُ مَا يُرِيدُ } .
ثم قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تُحِلُّواْ شَعَآئِرَ الله } قال ابن عباس : يعني بذلك مناسك الحج ، وقال مجاهد : الصفا والمروة ، والهدي والبدن من شعائر الله ، وقيل : شعائر الله محارمه ، أي لا تحلوا محارم الله التي حرمها الله تعالى ، ولهذا قال تعالى : { وَلاَ الشهر الحرام } يعني بذلك تحريمه والاعتراف بتعظيمه وترك ما نهى الله عن تعاطيه فيه من الابتداء بالقتال ، وتأكيد اجتناب المحارم ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } [ البقرة : 217 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْراً } [ التوبة : 36 ] الآية ، وفي صحيح البخاري : عن أبي بكرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في حجة الوداع : » إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض . السنة اثنا عشر شهراً منها أربعة حرم ، ثلاث متواليات : ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان «
(1/600)
وهذا يدل على استمرار تحريمها إلى آخر وقت كما هو مذهب طائفة من السلف . وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : { وَلاَ الشهر الحرام } يعني لا تستحلوا القتال فيه ، واختاره ابن جرير أيضاً ، وذهب الجمهور إلى أن ذلك منسوخ وأنه يجوز ابتداء القتال في الأشهر الحرم ، واحتجوا بقوله تعالى : { فَإِذَا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] قالوا : فلم يستثن شهراً حراماً من غيره ، وقد حكى الإمام أبو جعفر الإجماع على أن الله قد أحل قتال أهل الشرك في الأشهر الحرم وغيرها من شهور السنة .
وقوله تعالى : { وَلاَ الهدي وَلاَ القلائد } يعني لا تتركوا الإهداء إلى البيت الحرام ، فإن فيه تعظيم شعائر الله ولا تتركوا تقليدها في أعناقها لتتميز به عما عداها من الأنعام ، وليعلم أنها هدي إلى الكعبة فيجتنبها من يريدها بسوء ، وتبعث من يراها على الإتيان بمثلها ، فإن من دعا إلى هدي كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه من غير أن ينقص من أجورهم شيء ، ولهذا لما حج رسول الله صلى الله عليه وسلم بات بذي الحليفة وهو وادي العقيق ، فلما أصبح طاف على نسائه وكن تسعاً ، ثم اغتسل وتطيب وصلى ركعتين ، ثم أشعر هديه وقلده ، وأهلَّ للحج والعمرة ، وكان هديه إبلاً كثيرة تنيف على الستين من أحسن الأشكال والألوان؛ كما قال تعالى : { ذلك وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى القلوب } [ الحج : 32 ] . وقال بعض السلف : إعظامها استحسانها واستسمانها ، قال علي بن أبي طالب : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نستشرف العين والأذن . « رواه أهل السنن » ، وقال مقاتل بن حيان قوله : { وَلاَ القلائد } فلا تستحلوها ، وكان أهل الجاهلية إذا خرجوا من أوطانهم في غير الأشهر الحرم قلدوا أنفسهم بالشعر والوبر ، وتقلد مشركو الحرم من لحاء شجره فيأمنون به . وقوله تعالى : { ولا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } أي ولا تستحلوا قتال القاصدين إلى بيت الله الحرام الذي من دخله كان آمناً ، وكذا من قصده طالباً فضل الله ، وراغباً في رضوانه فلا تصدوه ولا تمنعوه ولا تهيجوه ، قال مجاهد وعطاء في قوله : { يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ } يعني بذلك التجارة ، وهذا كما تقدم في قوله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } [ البقرة : 198 ] وقوله : { وَرِضْوَاناً } قال ابن عباس : يترضون الله بحجهم ، وقد ذكر عكرمة والسدي وابن جرير أن هذه الآية نزلت في ( الحطيم بن هند البكري ) ، كان قد أغار على سرح المدينة ، فلما كان من العام المقبل اعتمر إلى البيت ، فأراد بعض الصحابة أن يعترضوا في طريقه إلى البيت ، فأنزل الله : { ولا آمِّينَ البيت الحرام يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِّن رَّبِّهِمْ وَرِضْوَاناً } .
(1/601)
وقد حكى ابن جرير الإجماع على أن المشرك يجوز قتله إذا لم يكن له أمان ، وإن أمَّ البيت الحرام أو بيت المقدس ، وأن هذا الحكم منسوخ في حقهم ، والله أعلم . فأما من قصده بالإلحاد فيه والشرك عنده والكفر به فهذا يمنع ، قال تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } [ التوبة : 28 ] ، ولهذا بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عام تسع لما أمَّر الصديقُ على الحجيج علياً ، وأمره أن ينادي على سبيل النيابة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ببراءة ، وأن لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان . وقال ابن عباس قوله : { ولا آمِّينَ البيت الحرام } : يعني من توجه قِبَل البيت الحرام ، فكان المؤمنون والمشركون يحجون ، فنهى الله المؤمنين أن يمنعوا أحداً من مؤمن أو كافر ، ثم أنزل الله بعدها : { إِنَّمَا المشركون نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ المسجد الحرام بَعْدَ عَامِهِمْ هذا } [ التوبة : 28 ] الآية ، وقال تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله } [ التوبة : 17 ] وقال : { إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ الله مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر } [ التوبة : 18 ] فنفى المشركين من المسجد الحرام . وقال قتادة في قوله { وَلاَ القلائد ولا آمِّينَ البيت الحرام } قال : منسوخ . كان الرجل في الجاهلية إذا خرج من بيته يريد الحج تقلد من الشجر ، فلم يعرض له أحد ، فإذا رجع تقلد قلادة من شعر ، فلم يعرض له أحد ، وكان المشرك يومئذ لا يصد عن البيت ، فأمروا أن لا يقاتلوا في الشهر الحرام ولا عند البيت ، فنسخها قوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] .
وقوله تعالى : { وَإِذَا حَلَلْتُمْ فاصطادوا } أي إذا فرغتم من إحرامكم وأحللتم منه ، فقد أبحنا لكم ما كان محرماً عليكم في حال الإحرام من الصيد ، وهذا أمر بعد الحظر ، وقوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَن صَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام أَن تَعْتَدُواْ } أي لا يحملنكم بغض قوم قد كانوا صدوكم عن الوصول إلى المسجد الحرام ، وذلك عام الحديبية على أن تعتدوا حكم الله فيهم فتقتصوا منهم ظلماً وعدواناً بل احكموا بما أمركم الله به من العدل في حق كل أحد ، وهذه الآية كما سيأتي من قوله : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } [ المائدة : 8 ] ، وقال بعض السلف : ما عاملت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه ، والعدل به قامت السماوات والأرض . وقال ابن أبي حاتم ، عن زيد بن أسلم قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحديبية وأصحابه حين صدهم المشركون عن البيت ، وقد اشتد ذلك عليهم ، فمر بهم أناس من المشركين من أهل المشرق يريدون العمرة ، فقال أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : نصد هؤلاء كما صدنا أصحابهم ، فأنزل الله هذه الآية . والشنآن : هو البغض ، قاله ابن عباس وغيره ، وهو مصدر من شنأته أشنؤه شنآناً بالتحريك ، وقال ابن جرير : من العرب من يسقط التحريك في شنآن فيقول : شنان ، ولم أعلم أحداً قرأ بها ومنه قول الشاعر :
(1/602)
وما العيش إلا ما تحب وتشتهي ... وإن لام فيه ذو الشنان وفنّدا
وقوله تعالى : { وَتَعَاوَنُواْ عَلَى البر والتقوى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإثم والعدوان } يأمر تعالى عباده المؤمنين بالمعاونة على فعل الخيرات وهو البر ، وترك المنكرات وهو التقوى ، وينهاهم عن التناصر على الباطل والتعاون على المآثم والمحارم ، قال ابن جرير الإثم : ترك ما أمر الله بفعله ، والعدوان مجاوزة ما حد الله في دينكم ومجاوزة ما فرض الله عليكم في أنفسكم وفي غيركم . وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » انصر أخاك ظالماً أو مظلوماً « ، قيل : يا رسول الله هذا نصرته مظلوماً فكيف أنصره إذا كان ظالماً؟ قال : » تحجزه وتمنعه من الظلم فذاك نصره « ، وقال أحمد عن يحيى بن وثاب - رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - قال : » المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم أعظم أجراً من الذي لا يخالط الناس ولا يصبر على أذاهم « وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » الدال على الخير كفاعله « وفي الصحيح : » من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً ، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من اتبعه إلى يوم القيامة لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً « .
(1/603)
حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)
يخبر تعالى عباده خبراً متضمناً النهي عن تعاطي هذه المحرمات من الميتة ، وهي ما مات من الحيوانات حتف أنفه من غير ذكاة ولا اصطياد ، وما ذاك إلا لما فيها من المضرة ، لما فيها من الدم المحتقن ، فهي ضارة للدين وللبدن ، فلهذا حرمها الله عزَّ وجلَّ ، ويستثنى من الميتة السمك فإنه حلال سواء مات بتذكية أو غيرها ، لما رواه مالك والترمذي والنسائي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن ماء البحر؟ فقال : « هو الطهور ماؤه ، والحل ميتته » وقوله : { والدم } يعني به المسفوح كقوله : { أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } [ الأنعام : 145 ] ، قال ابن أبي حاتم عن ابن عباس أنه سئل عن الطحال؟ فقال : كلوه . فقالوا : إنه دم ، فقال : إنما حرم عليكم الدم المسفوح . وعن عائشة قالت : إنما نهي عن الدم السافح ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أحل لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالسمك والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال » وقال ابن أبي حاتم عن أبي أمامة وهو ( صدي بن عجلان ) قال : بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قومي أدعوهم إلى الله ورسوله وأعرض عليهم شرائع الإسلام ، فأتيتهم؛ فبينما نحن كذلك إذ جاءوا بقصعة من دم ، فاجتمعوا عليها يأكلونها ، فقالوا : هلمَّ يا صدي ، فكل ، قال قلت : ويحكم إنما أتيتكم من عند من يحرم هذا عليكم ، فأقبلوا عليه ، قالوا : وما ذاك؟ فتلوت عليهم هذه الآية : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة والدم } الآية ، وما أحسن ما أنشد الأعشى في قصيدته التي ذكرها ابن إسحاق :
وإياك والميتات لا تقربَنَّها ... ولا تأخذن عظماً حديداً فتفصدا
أي لا تفعل فعل الجاهلية ، وذلك أن أحدهم كان إذا جاع يأخذ شيئاً محدداً من عظم ونحوه ، فيفصد به بعيره أو حيواناً من أي صنف كان ، فيجمع ما يخرج منه من الدم فيشربه ، ولهذا حرم الله الدم على هذه الأمة .
قوله تعالى : { وَلَحْمُ الخنزير } يعني إنسيه ووحشيه ، واللحم يعم جميع أجزائه حتى الشحم ، ولا يحتاج إلى تحذلق « الظاهرية » في جمودهم هاهنا ، وتعسفهم في الاحتجاج بقوله : { فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً } [ الأنعام : 145 ] يعنون قوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ } [ الأنعام : 145 ] أعادوا الضمير فيما فهموه على الخنزير حتى يعم جميع أجزائه ، وهذا بعيد من حيث اللغة ، فإنه لا يعود الضمير إلا إلى المضاف دون المضاف إليه ، والأظهر أن اللحم يعم جميع الأجزاء ، كما هو المفهوم من لغة العرب ومن العرف المطرد . وفي صحيح مسلم عن بريدة بن الخصيب الأسلمي رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم الخنزير ودمه »
(1/604)
، فإذا كان هذا التنفير لمجرد اللمس ، فكيف يكون التهديد والوعيد الأكيد على أكله والتغذي به!؟ وفيه دلالة على شمول اللحم لجميع الأجزاء من الشحم وغيره . وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » إن الله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام « فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها تطلى بها السفن وتدهن بها الجلود ويستصبح بها الناس؟ فقال : » لا ، هو حرام « وفي صحيح البخاري من حديث أبي سفيان أنه قال لهرقل ملك الروم : نهانا عن الميتة والدم . وقوله : { وَمَآ أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } أي ما ذبح فذكر عليه اسم غير الله ، فهو حرام ، لأن الله تعالى أوجب أن تذبح مخلوقات على اسمه العظيم ، فمتى عدل بها عن ذلك ، وذكر عليها اسم غيره من صنم أو طاغوت أو وثن أو غير ذلك من سائر المخلوقات ، فإنها حرام بالإجماع .
وقوله تعالى : { والمنخنقة } وهي التي تموت بالخنق ، إما قصداً ، وإما اتفاقاً ، بأن تتخبل في وثاقتها فتموت به فهي حرام؛ وأما { الموقوذة } فهي التي تضرب بشيء ثقيل غير محدد حتى تموت ، كما قال ابن عباس وغير واحد : هي التي تضرب بالخشبة حتى يوقذها فتموت ، قال قتادة : كان أهل الجاهلية يضربونها بالعصي حتى إذا ماتت أكلوها . وفي الصحيح أن عدي بن حاتم قال ، قلت : يا رسول الله إني أرمي بالمعراض الصيد فأصيب ، قال : » إذا رميت بالمعراض فخرق ، فكله ، وإن أصاب بعرضه فإنما هو وقيذ فلا تأكله « ، ففرق بين ما أصابه بالسهم أو بالمزراق ونحوه بحده فأحله ، وما أصاب بعرضه فجعله وقيذاً لم يحله ، وهذا مجمع عليه عند الفقهاء واختلفوا فيما إذا صدم الجارحة الصيد فقتله بثقله ولم يجرحه على قولين ، هما قولان للشافعي رحمه الله : ( أحدهما ) لا يحل كما في السهم والجامع أن كلا منهما ميت بغير جرح فهو وقيذ ، ( والثاني ) : أنه يحل لأنه حكم بإباحة ما صاده الكلب ولم يستفصل ، فدل على إباحة ما ذكرناه لأنه قد دخل في العموم . ( فإن قيل ) : فلم لا فصل في حكم الكلب ، فقال ما ذكرتم : إن جرحه فهو حلال وإن لم يجرحه فهو حرام؟ ( فالجواب ) : أن ذلك نادر لأن من شأن الكلب أن يقتل بظفره أو نابه أو بهما معاً ، وأما اصطدامه هو والصيد فنادر وكذا قتله إياه بثقله ، فلم يحتج إلى الإحتراز من ذلك لندوره ، أو لظهور حكمه عند من علم تحريم الميتة والمنخنقة والموقوذة والمترديه والنطيحة . وأما السهم والمعراض فتارة يخطىء لسوء رمي راميه أو للهو أو لنحو ذلك ، بل خطؤه أكثر من إصابته ، فلهذا ذكر كلا من حكميه مفصلاً ، والله أعلم . ولهذا لما كان الكلب من شأنه أنه قد يأكل من الصيد ذكر حكم ما إذا أكل من الصيد فقال : » إن أكل فلا تأكل ، فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه « ، وهذا صحيح ثابت في الصحيحين ، وهو أيضاً مخصوص من عموم آية التحليل عند كثيرين ، فقالوا : لا يحل ما أكل منه الكلب .
(1/605)
حكي ذلك عن أبي هريرة وابن عباس ، وإليه ذهب أبو حنيفة وصاحباه وأحمد بن حنبل والشافعي في المشهور عنه ، وروى ابن جرير في تفسيره عن ابن عمر وابن عباس : أن الصيد يؤكل وإن أكل منه الكلب ، حتى قال سعيد وسلمان وأبو هريرة وغيرهم : يؤكل ولو لم يبق منه إلا بضعة ، وإلى ذلك ذهب مالك والشافعي في قوله القديم ، وأومأ في الجديد إلى قولين ، وقد روى أبو داود بإسناد جيد قوي عن أبي ثعلبة الخشني عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال في صيد الكلب : « إذا أرسلت كلبك وذكرت اسم الله فكل وإن أكل منه ، وكل ما ردت عليك يدك » .
فأما الجوارح من الطيور ، فنص الشافعي على أنها كالكلب ، فيحرم ما أكلت منه عند الجمهور ، ولا يحرم عند الآخرين ، واختار المزني من أصحابنا أنه لا يحرم أكل ما أكلت منه الطيور والجوارح ، وهو مذهب أي حنيفة وأحمد ، قالوا : لأنه لا يمكن تعليمها كما يعلم الكلب بالضرب ونحوه ، وأيضاً فإنها لا تعلم إلا بأكلها من الصيد ، فيعفى عن ذلك ، وأيضاً فالنص إنما ورد في الكلب لا في الطير ، وأما { المتردية } فهي التي تقع من شاهق أو موضع عال فتموت بذلك فلا تحل ، قال ابن عباس : المتردية التي تسقط من جبل ، وقال قتادة : هي التي تتردى في بئر ، وقال السدي : هي التي تقع من جبل أو تتردى في بئر ، وأما { النطيحة } فهي التي ماتت بسبب نطح غيرها لها فهي حرام ، وإن جرحها القرن وخرج منها الدم ولو من مذبحها ، والنطيحة فعيلة بمعنى مفعولة أي منطوحة ، وأكثر ما ترد هذه البنية في كلام العرب بدون تاء التأنيث ، فيقولون : عين كحيل ، وكف خضيب ، ولا يقولون : كف خضيبة ، ولا عين كحيلة ، وأما هذه فقال بعض النحاة إنما استعمل فيها تاء التانيث لأنها أجريت مجرى الأسماء ، كما في قولهم طريقة طويلة ، وقال بعضهم : إنما أتى بتاء التأنيث فيها لتدل على التأنيث من أول وهلة ، بخلاف عين كحيل وكف خضيب ، لأن التأنيث مستفاد من أول الكلام . وقوله تعالى : { وَمَآ أَكَلَ السبع } أي ما عدا عليها أسد أو فهد أو نمر أو ذئب أو كلب فأكل بعضها فماتت بذلك فهي حرام ، وإن كان قد سال منها الدم ، ولو من مذبحها ، فلا تحل بالإجماع ، وقد كان أهل الجاهلية يأكلون ما أفضل السبع من الشاة أو البعير أو البقرة أو نحو ذلك ، فحرم الله ذلك على المؤمنين .
(1/606)
وقوله : { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } عائد على ما يمكن عوده عليه مما انعقد سبب موته ، فأمكن تداركه بذكاة وفيه حياة مستقرة ، وذلك إنما يعود على قوله : { والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وَمَآ أَكَلَ السبع } .
وقال ابن عباس في قوله { إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ } يقول : إلا ما ذبحتم من هؤلاء وفيه روح فكلوه فهو ذكي ، وقال ابن أبي حاتم عن علي في الآية قال : إن مصعت بذنبها أو ركضت برجلها أو طرفت بعينها فكل ، وقال ابن جرير ، عن علي قال : إذا أدركت ذكاة الموقوذة والمتردية والنطيحة وهي تحرك يداً أو رجلاً فكلها ، وهكذا روي عن طاووس والحسن : أن المُذكاة متى تحركت بحركة تدل على بقاء الحياة فيها بعد الذبح فهي حلال؛ وهذا مذهب جمهور الفقهاء ، وبه قال أبو حنيفة ، والشافعي ، وأحمد بن حنبل . وقال ابن وهب : سئل مالك عن الشاة التي يخرق جوفها السبع حتى تخرج أمعاؤها؟ فقال مالك : لا ارى أن تذكى ، أي شيء يذكى منها . وقال أشهب سئل مالك عن الضبع يعدو على الكبش فيدق ظهره أترى أن يذكى قبل أن يموت فيؤكل؟ فقال : إن كان قد بلغ السحر؟؟ فلا أرى أن يؤكل ، وإن كان أصاب أطرافه فلا أرى بذلك بأساً ، قيل له : وثب عليه فدق ظهره ، فقال : لا يعجبني ، هذا لا يعيش منه ، قيل له : فالذئب يعدو على الشاة فيثقب بطنها ولا يثقب الأمعاء ، فقال : إذا شق بطنها فلا أرى أن تؤكل ، هذا مذهب مالك رحمه الله؛ وظاهر الآية عام فيما استثناه مالك رحمه الله من الصور التي بلغ الحيوان فيها إلى حالة لا يعيش بعدها ، فيحتاج إلى دليل مخصص للآية والله أعلم . وفي الصحيحين عن رافع بن خديج أنه قال ، « قلت : يا رسول الله إنا لاقوا العدو غداً وليس معنا مُدَى أفنذبح بالقصب؟ فقال : » ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه ليس السن والظفر . وسأحدثكم عن ذلك : أما السن فعظم ، وأما الظفر فمدى الحبشة « ، وفي الحديث الذي رواه الدار قطني مرفوعاً ، وروي عن عمر موقوفاً وهو أصح : » ألا إن الذكاة في الحلق واللبة ولا تعجلوا الأنفس أن تزهق « وفي الحديث الذي رواه أحمد وأهل السنن عن أبي العشراء الدارمي عن أبيه قال ، » قلت : يا رسول الله أما تكون الذكاة إلا من اللبة والحلق؟ فقال : « لو طعنت في فخذها لأجزأ عنك » وهو حديث صحيح ، ولكنه محمول على ما لا يقدر على ذبحه في الحلق واللبة .
وقوله تعالى : { وَمَا ذُبِحَ عَلَى النصب } كانت النصب حجارة حول الكعبة ، قال ابن جريج : وهي ثلثمائة وستون نصباً ، كانت العرب في جاهليتها يذبحون عندها وينضحون ما أقبل منها إلى البيت بدماء تلك الذبائح ، ويشرحون اللحم ويضعونه على النصب ، فنهى الله المؤمنين عن هذا الصنيع ، وحرم عليهم أكل هذه الذبائح التي فعلت عند النصب ، حتى ولو كان يذكر عليها اسم الله .
(1/607)
فالذبح عند النصب من الشرك الذي حرمه الله ورسوله ، وينبغي أن يحمل هذا على هذا ، لأنه قد تقدم تحريم ما أُهِلَّ به لغير الله . وقوله تعالى : { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام } أي حرم عليكم أيها المؤمنون الاستقسام بالأزلام ، واحدها زلم ، وقد تفتح الزاي فيقال : زلم ، وقد كانت العرب في جاهليتها يتعاطون ذلك ، وهي عبارة عن قداح ثلاثة على أحدها مكتوب إفعل ، وعلى الآخر لا تفعل والثالث غفل ليس عليه شيء ، ومن الناس من قال : مكتوب على الواحد أمرني ربي ، وعلى الآخر نهاني ربي ، والثالث غفل ليس عليه شيء ، فإذا أجالها فطلع سهم الأمر فعله ، أو النهي تركه ، وإن طلع الفارغ أعاد ، والاستقسام مأخوذ من طلب القسم من هذه الأزلام ، هكذا قرر ابن جرير ، وعن ابن عباس { وَأَنْ تَسْتَقْسِمُواْ بالأزلام } قال : والأزلام قداح كانوا يستقسمون بها في الأمور ، وذكر محمد بن إسحاق وغيره : أن أعظم أصنام قريش صنم كان يقال له هبل منصوب على بئر داخل الكعبة فيها توضع الهدايا وأموال الكعبة فيه ، وكان عنده سبعة أزلام مكتوب فيها ما يتحاكمون فيه مما أشكل عليهم ، فلما خرج لهم منها رجعوا إليه ولم يعدلوا عنه ، وثبت في الصحيحين أن النبي صلى الله عليه وسلم لما دخل الكعبة وجد إبراهيم وإسماعيل مصورين فيها ، وفي أيديهما الأزلام فقال : « قاتلهم الله ، لقد علموا أنهما لم يستقسما بها أبداً » وفي الصحيحين أن ( سراقة بن مالك بن جعشم ) لما خرج في طلب النبي صلى الله عليه وسلم وأبي بكر وهما ذاهبان إلى المدينة مهاجرين قال : فاستقسمت بالأزلام هل أضرهم أم لا فخرج الذي أكره : لا تضرهم ، قال : فعصيت الأزلام ، واتبعتهم ، ثم إنه استقسم بها ثانية ، وثالثة ، كل ذلك يخرج الذي يكره : لا تضرهم ، وكان كذلك ، وكان سراقة لم يسلم إذ ذاك ثم أسلم بعد ذلك .
{ ذلكم فِسْقٌ } أي تعاطيه فسق وغي وضلالة وجهالة وشرك؛ وقد أمر الله المؤمنين إذا ترددوا في أمورهم أن يتسخيروه بأن يعبدوه ثم يسألوه الخيرة في الأمر الذي يريدونه ، كما روى الإمام أحمد والبخاري عن جابر بن عبد الله قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمنا الاستخارة في الأمور كما يعلمنا السورة من القرآن ، ويقول : « إذا هَمَّ أحدكم بالأمر فليركع ركعتين من غير الفريضة ، ثم ليقل : اللهم إني أستخيرك بعلمك ، وأستقدرك بقدرتك . وأسألك من فضلك العظيم ، فإنك تقدر ولا أقدر ، وتعلم ولا أعلم ، وأنت علام الغيوب ، اللهم إن كنت تعلم أن هذا الأمر - ويسميه باسمه - خير لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري - أو قال : عاجل أمري وآجله - فاقدره لي ، ويسره لي ، ثم بارك لي فيه ، اللهم! وإن كنت تعلم أنه شر لي في ديني ودنياي ومعاشي وعاقبة أمري فاصرفني عنه ، واصرفه عني ، واقدر لي الخير حيث كان ، ثم رَضِّني به » .
(1/608)
وقوله تعالى : { اليوم يَئِسَ الذين كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ } قال ابن عباس : يعني يئسوا أن يراجعوا دينهم ، وكذا روي عن عطاء ومقاتل وعلى هذا المعنى يرد الحديث الثابت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الشيطان قد يئس أن يعبده المصلون في جزيرة العرب ، ولكن بالتحريش بينهم » ويحتمل أن يكون المراد أنهم يئسوا من مشابهة المسلمين لما تميز به المسلمون من هذه الصفات المخالفة للشرك وأهله ، ولهذا قال تعالى آمراً لعباده المؤمنين أن يصبروا ويثبتوا في مخالفة الكفار ولا يخافوا أحداً إلاّ الله ، فقال : { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشون } أي لا تخافوهم في مخالفتكم إياهم واخشوني أنصركم عليهم وأوؤيدكم وأظفركم بهم ، وأشف صدوركم منهم ، وأجعلكم فوقهم في الدنيا والآخرة . وقوله : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } هذه أكبر نعم الله تعالى على هذه الأمة حيث أكمل تعالى لهم دينهم ، فلا يحتاجون إلى دين غيره ، ولا إلى نبي غير نبيهم صلوات الله وسلامه عليه ، ولهذا جعله الله تعالى خاتم الأنبياء ، وبعثه إلى الإنس والجن ، فلا حلال إلاّ ما أحله ولا حرام إلاّ ما حرمه ، ولا دين إلاّ ما شرعه ، وكل شيء أخبر به فهو حق وصدق لا كذب فيه ولا خلف ، كما قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] أي صدقاً في الأخبار ، وعدلاً في الأوامر والنواهي . فلما أكمل لهم الدين تمت عليهم النعمة ، ولهذا قال تعالى : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِيناً } أي فارضوه أنتم لأنفسكم فإنه الدين الذي أحبه الله ورضيه وبعث به أفضل الرسل الكرام ، وأنزل به أشرف كتبه ، وقال ابن عباس قوله : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وهو الإسلام أخبر الله نبيه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين أنه قد أكمل لهم الإيمان ، فلا يحتاجون إلى زيادة أبداً ، وقد أتمه الله فلا ينقصه أبداً ، وقد رضيه الله فلا يسخطه أبداً . وقال السدي : نزلت هذه الآية يوم عرفة ، ولم ينزل بعدها حلال ولا حرام . وقال ابن جرير : مات رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد يوم عرفة بأحد وثمانين يوماً .
لما نزلت { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وذلك يوم الحج الأكبر بكى عمر ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « ما يبكيك »؟ قال أبكاني أنا كنا في زيادة من ديننا ، فأما إذا أكمل فإنه لم يكمل شيء إلاّ نقص ، فقال : « صدقت » ، ويشهد لهذا المعنى الحديث الثابت :
(1/609)
« إن الإسلام بدأ غريباً وسيعود غريباً فطوبى للغرباء » ، وقال الإمام أحمد : جاء رجل من اليهود إلى عمر بن الخطاب ، فقال : يا أمير المؤمنين إنكم تقرأون آية في كتابكم لو علينا معشر اليهود نزلت لاتخذنا ذلك اليوم عيداً . قال : واي آية؟ قال قوله : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي } ، فقال عمر : والله إني لأعلم اليوم الذي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والساعة التي نزلت فيها على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، عشية عرفة في يوم جمعة . ولفظ البخاري قال ، قالت اليهود لعمر : إنكم تقرأون آية لو نزلت فينا لاتخذناها عيداً ، فقال عمر : إني لأعلم حين أنزلت ، وأين أنزلت ، وأين رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أنزلت : يوم عرفة وأنا والله بعرفة ، قال سفيان : وأشك كان يوم الجمعة أم لا { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } الآية ، وقال كعب : لو أن غير هذه الأمة نزلت عليهم هذه الآية لنظروا اليوم الذي أنزلت فيه عليهم فاتخذوه عيداً يجتمعون فيه ، فقال عمر : أي آية يا كعب؟ فقال : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } فقال عمر : قد علمت اليوم الذي أنزلت ، والمكان الذي أنزلت فيه : في يوم الجمعة ويوم عرفة ، وكلاهما بحمد الله لنا عيد . وعن علي قال : نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو قائم عشية عرفة { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } .
وقوله تعالى : { فَمَنِ اضطر فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي فمن احتاج إلى تناول شيء من هذه المحرمات التي ذكرها الله تعالى لضرورة ألجأته إلى ذلك ، فله تناوله ، والله غفور رحيم له ، لأنه تعالى يعلم حاجة عبده المضطر وافتقاره إلى ذلك فيتجاوز عنه ويغفر له . وفي المسند عن ابن عمر مرفوعاً قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله يحب أن تؤتى رخصته كما يكره أن تؤتى معصيته » لفظ ابن حبان؛ وفي لفظ لأحمد : « من لم يقبل رخصة الله كان عليه من الإثم مثل جبال عرفة » ، ولهذا قال الفقهاء : قد يكون تناول الميتة واجباً في بعض الأحيان ، وهو ما إذا خاف على نفسه ولم يجد غيرها ، وقد يكون مندوباً ، وقد يكون مباحاً بحسب الأحوال ، واختلفوا هل يتناول منها قدر ما يسد به الرمق ، أو له أن يشبع أو يشبع ويتزود؟ على أقوال؛ كما هو مقرر في كتاب الأحكام ، وليس من شرط جواز تناول الميتة أن يمضي عليه ثلاثة أيام لا يجد طعاماً ، كما قد يتوهمه كثير من العوام وغيرهم ، بل متى اضطر إلى ذلك جاز له . وقد قال الإمام أحمد ، عن أبي واقد الليثي ، أنهم قالوا :
(1/610)
« يا رسول الله ، إنا بأرض تصيبنا بها المخمصة فمتى تحل لنا بها الميتة؟ فقال : » إذا لم تصطبحوا ، ولم تغتبقوا ، ولم تحتفئوا بها بقلاً فشأنكم بها « ، وهو إسناد صحيح على شرط الصحيحين ومعنى قوله : » ما لم تصطبحوا « يعني به الغداء » وما لم تغتبقوا « يعني به العشاء » أو تحتفئوا بقلاً فشأنكم بها « فكلوا منها . وقال ابن جرير : يروى هذا الحرف يعني قوله » أو تحتفئوا « على أربعة أوجه : تحتفئوا بالهمزة ، وتحتفيوا : بتخفيف الياء والحاء ، وتحتفوا بتشديد الفاء ، وتحتفوا بالحاء والتخفيف ويحتمل الهمز ، كذا رواه في التفسير . ( حديث آخر ) : قال أبو داود عن النجيع العامري أنه أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : ما يحل لنا من الميتة؟ قال : » ما طعامكم؟ « قلنا : نصطبح ونغتبق . قال أبو نعيم : فسره لي عقبة ، قدح غدوة وقدح عشية ، قال : ذاك وأبي الجوع ، وأحل لهم الميتة على هذه الحال . تفرد به أبو داود ، وكأنهم كانوا يصطبحون ويغتبقون شيئاً لا يكفيهم ، فأحل لهم الميتة لتمام كفايتهم ، وقد يحتج به من يرى جواز الأكل منها حتى يبلغ حد الشبع ، ولا يتقيد ذلك بسد الرمق والله أعلم . ( حديث آخر ) : قال أبو داود عن جابر عن سمرة : أن رجلاً نزل الحرة ومعه أهل وولده ، فقال له رجل : إن ناقتي ضلت فإن وجدتها فأمسكها ، فوجدها ولم يجد صاحبها ، فمرضت فقالت له امرأته : انحرها ، فأبى ، فنفقت ، فقالت له امرأته : أسلخها حتى تقدد شحمها ولحمها فنأكله ، قال : لا ، حتى أسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأتاه فسأله ، فقال : » هل عندك غنى يغنيك « قال : لا ، قال : » فكلوها « ، قال : فجاء صاحبها فأخبره الخبر فقال : هلا كنت نحرتها؟ قال : استحييت منك . وقد يحتج به من يجوز الأكل والشبع والتزود منها مدة يغلب على ظنه الإحتياج إليها ، والله أعلم . وقوله : { غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لإِثْمٍ } أي متعاط لمعصية الله ، فإن الله قد أباح ذلك له ، وسكت عن الآخر ، كما قال في سورة البقرة : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الآية : 173 ] ، وقد استدل بهذه الآية من يقول بأن العاصي بسفره لا يترخص بشيء من رخص السفر لأن الرخص لا تنال بالمعاصي ، والله أعلم .
(1/611)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (4)
لما ذكر تعالى ما حرمه في الآية المتقدمة من الخبائث الضارة لمتناولها ، إما في بدنه أو في دينه أو فيهما ، واستثنى ما استثناه في حالة الضرورة كما قال تعالى : { وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 119 ] قال بعدها : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } كما في سورة الأعراف في صفة محمد صلى الله عليه وسلم أنه يحل لهم الطيبات ، ويحرم عليهم الخبائث . قال ابن أبي حاتم عن عدي بن حاتم وزيد بن مهلهل الطائيين سألا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله قد حرم الله الميتة فماذا يحل لنا منها؟ فنزلت : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } قال سعيد : يعني الذبائح الحلال الطيبة لهم . وقال مقاتل : الطيبات ما أحل لهم من كل شيء أن يصيبوه وهو الحلال من الرزق . وقوله تعالى : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ } أي أحل لكم الذبائح التي ذكر اسم الله عليها والطيبات من الرزق وأحل لكم ما صدتموه بالجوارح وهي : ( الكلاب والفهود والصقور وأشباهها ) ، كما هو مذهب الجمهور من الصحابة والتابعين والأئمة ، وممن قال ذلك ابن عباس في قوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ } ، وهن الكلاب المعلمة والبازي وكل طير يعلم للصيد ، والجوارح يعني الكلاب الضواري ، والفهود والصقور وأشباهها . رواه ابن أبي حاتم ، وروي عن الحسن أنه قال : البازي والصقر من الجوارح ، ثم روي عن مجاهد أنه كره صيد الطير كله ، وقرأ قوله : { وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ } ، ثم قال : أخبرنا ابن جريج عن نافع عن ابن عمر قال : أما ما صاد من الطير البازات وغيرها من الطير فما أدركت فهو لك وإلاّ فلا تطعمه . قلت : والمحكي عن الجمهور أن الصيد بالطيور كالصيد بالكلاب لأنها تكلب الصيد بمخالبها كما تكلبه الكلاب فلا فرق ، وهو مذهب الأئمة الأربعة وغيرهم ، واختاره ابن جرير . واحتج في ذلك بما رواه عن عدي بن حاتم قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صيد البازي فقال : « ما أمسك عليك فكل » ، وسميت هذه الحيوانات التي يصطاد بهن جوارح : من الجرح وهو الكسب ، كما تقول العرب : فلان جرح أهله خيراً أي كسبهم خيراً ، ويقولون . فلان لا جارح له أي لا كاسب له ، وقال الله تعالى : { وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } [ الأنعام : 60 ] أي ما كسبتم من خير وشر ، وقد ذكر في سبب نزول هذه الآية الشريفة الحديث الذي رواه ابن أبي حاتم عن أبي رافع مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر بقتل الكلاب ، فقلت ، فجاء الناس فقالوا : يا رسول الله ما يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت؛ فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ الجوارح مُكَلِّبِينَ } الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : إذا أرسل الرجل كلبه وسمى فأمسك عليه فليأكل ما لم يأكل » .
(1/612)
وقوله تعالى : { مُكَلِّبِينَ } يحتمل أن يكون حالاً من الضمير في { عَلَّمْتُمْ } فيكون حالاً من الفاعل ، ويحتمل أين يكون حالاً من المفعول وهو { الجوارح } أي وما علمتم من الجوارح في حال كونهن مكلبات للصيد ، وذلك أن تقتنصه بمخالبها أو أظفارها ، فيستدل بذلك والحالة هذه على أن الجارح إذا قتل الصيد بصدمته وبمخلابه وظفره أنه لا يحل له كما هو أحد قولي الشافعي وطائفة من العلماء ، ولهذا قال : { تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ الله } وهو أنه إذا أرسله استرسل ، وإذا أشلاه استشلى ، وإذا أخذ الصيد أمسكه على صاحبه حتى يجيء إليه ولا يمسكه لنفسه ، ولهذا قال تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } فمتى كان الجارح معلماً وأمسك على صاحبه ، وكان قد ذكر السم الله عليه وقت إرساله ، حل الصيد وإن قتله بالإجماع . وقد وردت السنّة بمثل ما دلت عليه هذه الآية الكريمة ، كما ثبت في الصحيحين عن عدي بن حاتم قال : « قلت يا رسول الله إني أرسل الكلاب المعلمة وأذكر اسم الله ، فقال : » إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك « قلت : وإن قتلن؟ قال : » وإن قتلن ، ما لم يشركها كلب ليس منها ، فإنك إنما سميت على كلبك ولم تسم على غيره « . قلت له : فإني ارمي بالمعراض الصيد فأصيب؟ فقال : » إذا رميت بالمعراض فخزق فكله ، وإن أصابه بعرض فإنه وقيذ فلا تأكله « ، وفي لفظ لهما » إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله فإن أمسك عليك فأدركته حياً فاذبحه ، وإن أدركته قد قتل ولم يأكل منه فكله فإن أخذ الكلب ذكاته « ، وفي رواية لهما : » فإن أكل فلا تأكل فإني أخاف أن يكون أمسك على نفسه « ، فهذا دليل للجمهور وهو الصحيح من مذهب الشافعي ، وهو أنه إذا أكل الكلب من الصيد يحرم مطلقاً ولم يستفصلوا ، كما ورد بذلك الحديث ، وحكي عن طائفة من السلف أنهم قال لا يحرم مطلقاً .
وقوله تعالى : { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } أي عند إرساله ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لعدي ابن حاتم : » إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله فكل ما أمسك عليك « ، وفي حديث أبي ثعلبة المخرج في الصحيحين أيضاً : » إذا أرسلت كلبك فاذكر اسم الله ، وإذا رميت بسهمك فاذكر اسم الله « ، ولهذا اشترط من اشترط من الأئمة ، كالإمام أحمد رحمه الله في المشهور عنه التسمية عند إرسال الكلب والرمي بالسهم لهذه الآية ، وهذا الحديث ، وهذا القول هو المشهور عن الجمهور ، أن المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الإرسال .
(1/613)
كما قال السدي وغيره . وقال ابن عباس في قوله : { واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } يقول : إذا أرسلت جارحك فقل باسم الله وإن نسيت فلا حرج ، وقال بعض الناس : المراد بهذه الآية الأمر بالتسمية عند الأكل ، كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علَّم ربيبه عمر بن أبي سلمة فقال : « سم الله وكل بيمينك وكل مما يليك » وفي صحيح البخاري عن عائشة أنهم قالوا : يا رسول الله إن قوماً يأتوننا حديث عهدهم بكفر بلحمان لا ندري أذكر اسم الله عليها أم لا؟ فقال : « سموا الله أنتم وكلوا » ( وحديث آخر ) : وقال الإمام أحمد عن عائشة : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يأكل الطعام في ستة نفر من أصحابه ، فجاء أعرابي فأكله بلقمتين ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » أما أنه لو كان ذكر اسم الله لكفاكم ، فإذا أكل أحدكم طعاماً فليذكر اسم الله ، فإن نسي أن يذكر اسم الله في أوله فليقل باسم الله أوله وآخره « ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن حذيفة ، قال : » كنا إذا حضرنا مع النبي على طعام لم نضع أيدينا حتى يبدأ رسول الله ، فيضع يده ، وإنا حضرنا معه طعاماً فجاءت جارية كأنما تدفع ، فذهبت تضع يدها في الطعام ، فأخذ رسول الله صلى الله عليه وسلم بيدها ، وجاء أعرابي كأنما يدفع فذهب يضع يده في الطعام فأخذ رسول الله [ صلى الله عليه وسلم ] بيده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الشيطان يستحل الطعام إذا لم يذكر اسم الله عليه ، وإنه جاء بهذه الجارية ليستحل بها فأخذت بيدها ، وجاء بهذا الأعرابي ليستحل به فأخذت بيده ، والذي نفسي بيده إن يده في يدي مع يديهما » ، يعني الشيطان وكذا رواه مسلم وأبو داود والنسائي . ( حديث آخر ) : روى مسلم وأهل السنن إلاّ الترمذي عن جابر بن عبد الله عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا دخل الرجل بيته فذكر اسم الله عند دخوله وعند طعامه ، قال الشيطان : لا مبيت لكم ولا عشاء ، وإذا دخل ولم يذكر اسم الله عند دخوله قال الشيطان : أدركتم المبيت ، فإذا لم يذكر اسم الله عند طعامه قال : أدركتم المبيت والعشاء » ، لفظ أبي داود . ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن وحشي بن حرب عن أبيه عن جده أن رجلاً قال للنبي صلى الله عليه وسلم : « إنا نأكل وما نشبع ، قال : » فلعلكم تأكلون متفرقين ، اجتمعوا على طعامكم ، واذكروا اسم الله يبارك لكم فيه « ، ورواه أبو داود وابن ماجه .
(1/614)
الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذَا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (5)
لما ذكر تعالى ما حرمه على عباده المؤمنين من الخبائث وما أحله لهم من الطيبات قال بعده : { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات } ، ثم ذكر حكم ذبائح أهل الكتابين من اليهود والنصارى ، فقال : { وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ } ، قال ابن عباس : يعني ذبائحهم ، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء ، إن ذبائحهم حلال للمسلمن لأنهم يعتقدون تحريم الذبح لغير الله ، ولا يذكرون على ذبائحهم إلاّ اسم الله ، وإن اعتقدوا فيه تعالى ما هو منزه عنه تعالى وتقدس . وقد ثبت في الصحيح عن عبد الله بن مغفل قال : أدلي بجراب من شحم يوم خيبر ، فحضنته ، وقلت : لا أعطي اليوم من هذا أحداً والتفت فإذا النبي صلى الله عليه وسلم يتبسم ، وفي الصحيح أن أهل خيبر أهدوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة مصلية وقد سموا ذراعها ، وكان يعجبه الذراع ، فتناوله فنهش منه نهشة ، فأخبره الذراع أنه مسموم فلفظه ، وأثر ذلك في ثنايا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفي أبهره ، وأكل معه منها بشر بن البراء بن معرور فمات ، فقتل اليهودية التي سمتها ، وكان اسمها زينب ، وقال ابن أبي حاتم ، عن مكحول قال : أنزل الله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } [ الأنعام : 121 ] ، ثم نسخه الرب عزَّ وجلَّ ورحم المسلمين فقال : { اليوم أُحِلَّ لَكُمُ الطيبات وَطَعَامُ الذين أُوتُواْ الكتاب حِلٌّ لَّكُمْ } فنسخها بذلك وأحل طعام أهل الكتاب ، وفي هذا الذي قاله مكحول رحمه الله نظر ، فإنه لا يلزم من إباحته طعام أهل الكتاب إباحة أكل ما لم يذكر اسم الله عليه لأنهم يذكرون اسم الله على ذبائحهم وقرابينهم وهم متعبدون بذلك ، ولهذا لم يبح ذبائح من عداهم من أهل الشرك ومن شابههم لأنهم لم يذكرا اسم الله على ذبائحهم ، بل ولا يتوقفون فيما يأكلونه من اللحم على ذكاة ، بل يأكلون الميتة بخلاف أهل الكتابين ومن شاكلهم من السامرة والصائبة ومن يتمسك بدين إبراهيم وشيث وغيرهما من الأنبياء على أحد قولي العلماء ، ونصارى العرب كبني تغلب وتنوخ وبهرا وجذام ولخم وعاملة ومن أشبههم ، لا تؤكل ذبائحهم عند الجمهور .
وقال أبو جعفر بن جرير عن محمد بن عبيدة قال ، قال علي : لا تأكلوا ذبائح بني تغلب لأنهم إنما يتمسكون من النصرانية بشرب الخمر ، وكذا قال غير واحد من الخلف والسلف . وقوله تعالى : { وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَّهُمْ } أي ويحل لكم أن تطعموهم من ذبائحكم ، وليس هذا إخباراً عن الحكم عندهم ، اللهم إلاّ أن يكون خبراً عما أمروا به من الأكل من كل طعام ذكر اسم الله عليه ، سواء كان من أهل ملتهم أو غيرها ، والأول أظهر في المعنى أي ولكم أن تطعموهم من ذبائحكم كما أكلتم من ذبائحهم ، وهذا من باب المكافأة والمقابلة والمجازاة ، كما ألبس النبي صلى الله عليه وسلم ثوبه لعبد الله بن أبي بن سلول حين مات ودفنه فيه ، قالوا : لأنه كان قد كسا العباس حين قدم المدينة ثوبه ، فجازاه النبي صلى الله عليه وسلم بذلك ، فأما الحديث الذي فيه : « لا تصحب إلا مؤمناً ولا يأكل طعامك إلاّ تقي » فمحمول على الندب والاستحباب ، والله أعلم .
(1/615)
وقوله تعالى : { والمحصنات مِنَ المؤمنات } أي وأحل لكم نكاح الحرائر العفائف من النساء المؤمنات ، وذكر هذا توطئة لما بعده وهو قوله تعالى : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } فقيل أراد بالمحصنات الحرائر دون الإماء حكاه ابن جرير عن مجاهد ، وإنما قال مجاهد : المحصنات الحرائر ، فيحتمل أن يكون أراد ما حكاه عنه ، ويحتمل أن يكون أراد بالحرة العفيفة ، كما قال في الرواية الأخرى عنه ، وهو قول الجمهور هاهنا ، وهو الأشبه لئلا يجتمع فيها أن تكون ذمية ، وهي مع ذلك غير عفيفة ، فيفسد حالها بالكلية ويتحصل زوجها على ما قيل في المثل : « حشفاً وسوء كيله » . والظاهر من الآية أن المراد من المحصنات : العفيفات عن الزنا كما قال تعالى في الآية الأخرى : { محصنات غَيْرَ مسافحات وَلاَ متخذات أَخْدَانٍ } [ النساء : 25 ] ؛ وقد كان عبد الله بن عمر لا يرى التزويج بالنصرانية ، ويقول : لا أعلم شركاً أعظم من أن تقول إن ربها عيسى ، وقد قال الله تعالى : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] الآية . وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس : نزلت هذه الآية { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } [ البقرة : 221 ] قال : فحجز الناس عنهن حتى نزلت الآية التي بعدها : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } فنكح الناس نساء أهل الكتاب ، وقد تزوج جماعة من الصحابة من نساء النصارى ولم يروا بذلك بأساً أخذاً بهذه الآية الكريمة { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ } فجعلوا هذه مخصصة للتي في سورة البقرة { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } [ الآية : 221 ] إن قيل بدخول الكتابيات في عمومها ، وإلا فلا معارضة بينها وبينها لأن أهل الكتاب قد انفصلوا في ذكرهم عن المشركين في غير موضع ، كقوله تعالى : { لَمْ يَكُنِ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب والمشركين مُنفَكِّينَ حتى تَأْتِيَهُمُ البينة } [ البينة : 1 ] ، وقوله : { إِذَآ آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ } أي مهورهن ، أي كما هن محصنات عفائف ، فابذلوا لهن المهور عن طيب نفس . وقد أفتى جابر بن عبد الله وإبراهيم النخعي والحسن البصري : بأن الرجل إذا نكح امرأة فزنت قبل دخوله بها أنه يفرق بينهما ، وترد عليه ما بذل لها من المهر ، رواه ابن جرير عنهم .
وقوله تعالى : { مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسَافِحِينَ وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ } . فكما شرط الإحصان في النساء ، وهي العفة عن الزنا ، كذلك شرطها في الرجال ، وهو أن يكون الرجل أيضاً محصناً عفيفاً ، ولهذا قال غير مسافحين ، وهم الزناة الذين لا يرتدعون عن معصية ولا يردون أنفسهم عمن جاءهم { وَلاَ متخذي أَخْدَانٍ } أي ذوي العشيقات الذين لا يفعلون إلاّ معهن ، ولهذا ذهب الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله إلى أنه لا يصح نكاح المرأة البغي حتى تتوب ، وما دامت كذلك لا يصح تزويجها من رجل عفيف ، وكذلك لا يصح عنده عقد الرجل الفاجر على عفيفة حتى يتوب ويقلع عما هو فيه من الزنا لهذا الآية ، وللحديث :
(1/616)
« لا ينكح الزاني المجلود إلاّ مثله » ، وقال ابن جرير عن الحسن قال ، قال عمر بن الخطاب : لقد هممت أن لا أدع أحداً أصاب فاحشة في الإسلام أن يتزوج محصنة ، فقال له أبي بن كعب : يا أمير المؤمنين الشرك أعظم من ذلك ، وقد يقبل منه إذا تاب ، وسيأتي الكلام على هذه المسألة مستقصى عند قوله : { الزاني لاَ يَنكِحُ إِلاَّ زَانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً } [ النور : 3 ] ولهذا قال تعالى هاهنا : { وَمَن يَكْفُرْ بالإيمان فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } .
(1/617)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِنْهُ مَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ وَلَكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)
قال كثيرون من السلف في قوله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } يعني وأنتم محدثون ، وقال آخرون إذا قمتم من النوم إلى الصلاة وكلاهما قريب . وقال آخرون : بل المعنى أعم من ذلك ، فالآية آمرة بالوضوء عند القيام إلى الصلاة ولكن هو في حق المحدث واجب ، وفي حق المتطهر ندب ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، فلما كان يوم الفتح توضأ ومسح على خفيه وصلى الصلوات بوضوء واحد ، فقال له عمر : يا رسول الله إنك فعلت شيئاً لم تكن تفعله ، قال : « إني عمداً فعلته يا عمر » رواه مسلم وأهل السنن .
وقال ابن جرير عن الفضل بن المبشر قال : رأيت جابر بن عبد الله يصلي الصلوات بوضوء واحد ، فإذا بال أو أحدث توضأ ومسح بفضل طهوره الخفين ، فقلت : أبا عبد الله أشيء تصنعه برأيك؟ قال : بل رأيت النبي صلى الله عليه وسلم يصنعه فأنا أصنعه كما رأيت رسول الله يصنعه ، وفي فعل ابن عمر ومداومته على إسباغ الوضوء لكل صلاة دلالة على استحباب ذلك كما هو مذهب الجمهور .
وكان علي رضي الله عنه يتوضأ عند كل صلاة ويقرأ هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } الآية .
وقال ابن جرير عن أنس قال : توضأ عمر بن الخطاب وضوءاً فيه تجوز خفيفاً فقال : هذا وضوء من لم يحدث ، وهذا إسناد صحيح . وقال محمد بن سيرين : كان الخلفاء يتوضأون لكل صلاة ، أما مشروعيته استحباباً فقد دلت السنّة على ذلك ، فعن أنس بن مالك قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم يتوضأ عند كل صلاة ، قال : قلت : فأنتم كيف كنتم تصنعون؟ قال : كنا نصلي الصلوات كلها بوضوء واحد ما لم نحدث . وقد رواه البخاري وأهل السنن . وقال ابن جرير عن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من توضأ على طهر كتب له عشر حسنات » .
وقال ابن جرير ، وقد قال قوم : إن هذه الآية نزلت إعلاماً من الله أن الوضوء لا يجب إلاّ عند القيام إلى الصلاة دون غيرها من الأعمال ، وذلك لأنه عليه السلام كان إذا أحدث امتنع من الأعمال كلها حتى يتوضأ ، وعن عبد الله بن علقمة بن وقاص عن أبيه قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أراق البول نكلمه فلا يكلمنا ونسلم عليه فلا يرد علينا ، حتى نزلت آية الرخصة : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة } الآية ، وقال أبو داود عن عبد الله بن عباس : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج من الخلاء فقدم إليه طعام فقالوا : ألا نأتيك بوضوء؟ فقال : » إنما أمرت بالوضوء إذا قمت إلى الصلاة «
(1/618)
وقوله : { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } قد استدل طائفة من العلماء بقوله تعالى : { إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } على وجوب النية في الوضوء ، لأن تقدير الكلام : إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم لها ، كما تقول العرب إذا رأيت الأمير فقم ، . أي له . وقد ثبت في الصحيحين حديث : « الأعمال بالنيات وإنما لكل امرىء ما نوى » ، ويستحب قبل غسل الوجه أن يذكر اسم الله تعالى على وضوئه ، لما ورد في الحديث من طرق جيدة عن جماعة من الصحابة ، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه » ، ويستحب أن يغسل كفيه قبل إدخالهما في الإناء ، ويتأكد ذلك عند القيام من النوم ، لما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إذا استيقظ أحدكم من نومه فلا يدخل يده في الإناء قبل أن يغسلها ثلاثاً ، فإن أحدكم لا يدري أين باتت يده » وحد الوجه عند الفقهاء ما بين منابت شعر الرأس ، ولا اعتبار بالصلع ولا بالغمم إلى منتهى اللحيين والذقن طولاً ، ومن الإذن إلى الإذن عرضاً ، ويستحب للمتوضىء أن يخلل لحيته إذا كانت كثيفة .
قال أبو داود عن أنس بن مالك : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا توضأ أخذ كفاً من ماء فأدخله تحت حنكه يخلل به لحيته ، وقال : » هكذا أمرني به ربي عزَّ وجلَّ « قال البيهقي : وروينا في تخليل اللحية عن عمار وعائشة وأم سلمة عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وروينا في الرخصة في تركه عن ابن عمر والحسن بن علي ، وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم من غير وجه في الصحاح وغيرها أنه كان إذا توضأ تمضمض واستنشق ، فاختلف الأئمة في ذلك ، هل هما واجبان في الوضوء والغسل كما هو مذهب أحمد بن حنبل رحمه الله ، أو مستحبان فيهما كما هو مذهب الشافعي ومالك ، أو يجبان في الغسل دون الوضوء ، كما هو مذهب أي حنيفة ، أو يجب الاستنشاق دون المضمضة كما هو رواية عن الإمام أحمد ، لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » من توضأ فليستنشق « ، وفي رواية : » إذا توضأ أحدكم فليجعل في منخريه من الماء ثم لينثر « والانتثار هو المبالغة في الاستنشاق .
وقال الإمام أحمد عن ابن عباس : أنه توضأ فغسل وجهه ، أخذ غرفة من ماء فتمضمض بها واستنثر ، ثم أخذ غرفة فجعل بها هكذا ، يعني أضافها إلى يده الأخرى فغسل بها وجهه ، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليمنى ، ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها يده اليسرى ، ثم مسح رأسه ثم أخذ غرفة من ماء ثم رش على رجله اليمنى حتى غسلها ثم أخذ غرفة من ماء فغسل بها رجله اليسرى ثم قال : هكذا رأيت رسول الله يعني يتوضأ .
(1/619)
ورواه البخاري . وقوله : { وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى المرافق } أي مع المرافق كما قال تعالى : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } [ النساء : 2 ] ويستحب للمتوضىء أن يشرع في العضد فيغسله مع ذراعيه لما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أمتي يدعون يوم القيامة غراً محجلين من آثار الوضوء فمن استطاع منكم أن يطيل غرته فليفعل » وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : سمعت خليلي يقول : « تبلغ الحلية من المؤمن حيث يبلغ الوضوء » .
وقوله تعالى : { وامسحوا بِرُؤُوسِكُمْ } اختلفوا في هذه الباء هل هي للإلصاق وهو الأظهر أو للتبعيض؟ وفيه نظر على قولين ومن الأصوليين من قال : هذا مجمل فليرجع في بيانه إلى السنة . وقد ثبت في الصحيحين عن عمرو بن يحيى المازني عن أبيه أن رجلاً قال لعبد الله بن زيد بن عاصم - وهو جد عمرو بن يحيى وكان من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم - : هل تستطيع أن تريني كيف كان رسول الله يتوضأ؟ فقال عبد الله بن زيد : نعم فدعا بوضوء فأفرغ على يديه فغسل يديه مرتين مرتين ثم مضمض واستنشق ثلاثاً وغسل وجهه ثلاثاً ثم غسل يديه مرتين إلى المرفقين ثم مسح رأسه بيديه فأقبل بهما وأدبر بدأ بمقدم رأسه ثم ذهب بهما إلى قفاه ثم ردهما حتى رجع إلى المكان الذي بدأ منه ثم غسل رجليه .
وروى أبو داود عن معاوية والمقداد بن معد يكرب في صفة وضوء رسول الله صلى الله عليه وسلم مثله ففي هذه الأحاديث دلالة لمن ذهب إلى وجوب تكميل مسح جميع الرأس كما هو مذهب الإمام مالك وأحمد بن حنبل لا سيما على قول من زعم أنها خرجت مخرج البيان لما أجمل في القرآن . وقد ذهب الحنفية إلى وجوب ربع الرأس وهو مقدار الناصية وذهب أصحابنا إلى أنه إنما يجب ما يطلق عليه اسم مسح ولا يتقدر ذلك بحد بل لو مسح بعض شعرة من راسه أجزأه لحديث المغيرة بن شعبة قال : تخلف النبي فتخلفت معه فلما قضى حاجته قال : هل معك ماء؟ فأتيته بمطهرة فغسل كفيه ووجهه ثم ذهب يحسر عن ذراعيه فضاق كم الجبة فأخرج يديه من تحت الجبة وألقى الجبة على منكبيه فغسل ذراعيه ومسح بناصيته وعلى العمامة وعلى خفيه . وذكر باقي الحديث وهو في صحيح مسلم وغيره ثم اختلفوا في أنه هل يستحب تكرار مسح الرأس ثلاثاً كما هو المشهور من مذهب الشافعي أو إنما يستحب مسحة واحدة كما هو مذهب أحمد بن حنبل ومن تابعه لحديث حمران بن أبان قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ فأفرغ على يديه ثلاثاً فغسلهما ثم تمضمض واستنشق ثم غسل وجهه ثلاثا ثم غسل يده اليمنى إلى المرفق ثلاثا ثم غسل اليسرى مثل ذلك ثم مسح براسه ثم غسل قدمه اليمنى ثلاثاً ثم اليسرى ثلاثاً مثل ذلك ثم قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ نحو وضوئي هذا ثم قال :
(1/620)
« من توضأ نحو وضوئي هذا ثم صلى ركعتين لا يحدث فيهما نفسه غفر له ما تقدم من ذنبه » وفي سنن أبي داود عن عثمان في صفة الوضوء ومسح برأسه مرة واحدة واحتج من استحب تكرار مسح الرأس بعموم الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن عثمان رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ ثلاثاً ثلاثاً ، وقال أبو داود عن حمران قال : رأيت عثمان بن عفان توضأ فذكر نحوه ولم يذكر المضمضة والاستنشاق قال فيه : ثم مسح رأسه ثلاثاً ثم غسل رجليه ثلاثاً ثم قال رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ هكذا ، وقال : « من توضأ هكذا كفاه » تفرد به أبو داود ، ثم قال : وأحاديث عثمان في الصحاح تدل على أنه مسح الرأس مرة واحدة .
وقوله تعالى : { وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الكعبين } قرىء { وَأَرْجُلَكُمْ } بالنصب عطفاً على { فاغسلوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ } رجعت إلى الغسل وهذه قراءة ظاهرة في وجوب الغسل ، كما قاله السلف . ومن هاهنا ذهب من ذهب إلى وجوب الترتيب في الوضوء كما هو مذهب الجمهور ، خلافاً لأبي حنيفة حيث لم يشترط الترتيب ، بل لو غسل قدميه ثم مسح رأسه وغسل يديه ووجهه أجزأه ذلك؛ لأن الآية أمرت بغسل هذه الأعضاء ، والواو لا تدل على الترتيب قال بعضهم : لما ذكر الله تعالى هذه الصفة في هذه الآية على هذا الترتيب ، فقطع النظير عن النظير ، وأدخل الممسوح بين المغسولين دل ذلك على إرادة الترتيب ، وأما القراءة الأخرى ، وهي قراءة من قرأ { وأرجلِكم } بالخفض ، فقد احتج بها الشيعة في قولهم بوجوب مسح الرجلين لأنها عندهم معطوفة على مسح الرأس . وإنما جاءت هذه القراءة بالخفض إما على المجاورة وتناسب الكلام ، كما في قول العرب : جحر ضب خرب ، وكقوله تعالى : { عَالِيَهُمْ ثِيَابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَإِسْتَبْرَقٌ } [ الإنسان : 21 ] وهذا ذائع شائع في لغة العرب سائغ ، ومنهم من قال : هي محمولة على مسح القدمين إذا كان عليهما الخفان ، قال الشافعي رحمه الله ، ومنهم من قال : هي دالة على مسح الرجلين . ولكن المراد بذلك الغسل الخفيف كما وردت به السنّة . وعلى كل تقدير فالواجب غسل الرجلين فرضاً لا بد منه للآية والأحاديث التي سنوردها ، ومن أحسن ما يستدل به على أن المسح يطلق على الغسل الخفيف ما رواه الحافظ البيهقي عن علي ابن أبي طالب أنه صلى الظهر ، ثم قعد في حوائج الناس في رحبة الكوفة حتى حضرت صلاة العصر ، ثم أتى بكوز من ماء ، فأخذ منه حفنة واحدة فمسح بها وجهه ويديه ورأسه ورجليه ، ثم قام فشرب فضلته وهو قائم ، ثم قال : إن ناساً يكرهون الشرب قائماً وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم صنع كما صنعت ، وقال :
(1/621)
« هذا وضوء من لم يحدث » ، رواه البخاري في الصحيح ببعض معناه . ومن أوجب من الشيعة مسحهما كما يمسح الخف فقد ضل وأضل ، وكذا من جوز مسحهما وجوز غسلهما فقد أخطأ أيضاً ، ومن نقل عن أبي جعفر بن جرير أنه أوجب غسلهما للأحاديث وأوجب مسحهما للآية فلم يحقق مذهبه في ذلك ، فإن كلامه في تفسيره إنما يدل على أنه أراد أنه يجب دلك الرجلين من دون سائر أعضاء الوضوء لأنهما يليان الأرض والطين وغير ذلك ، فأوجب دلكهما ليذهب ما عليهما ، ولكنه عبر عن الدلك بالمسح ، فاعتقد من لم يتأمل كلامه أنه أراد وجوب الجمع بين غسل الرجلين ومسحهما فحكاه من حكاه كذلك؛ ولهذا يستشكله كثير من الفقهاء وهو معذور ، فإنه لا معنى للجمع بين المسح والغسل سواء تقدمه أو تأخر عليه لاندارجه فيه ، وإنما أراد الرجل ما ذكرته والله أعلم ، ثم تأملت كلامه أيضاً فإذا هو يحاول الجمع بين القراءتين في قوله : { وأرجلكم } خفضاً على المسح وهو الدلك ، ونصباً على الغسل فأوجبهما أخذاً بالجمع بين هذه وهذه .
( ذكر الأحاديث الواردة في غسل الرجلين وأنه لا بد منه )
قد تقدم في حديث أمير المؤمنين عثمان رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم غسل الرجلين في وضوئه إما مرة وإما مرتين أو ثلاثاً على اختلاف رواياتهم ، وفي حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توضأ فغسل قدميه ثم قال : « هذا وضوء لا يقبل الله الصلاة إلا به » وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو قال : « تخلف عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفرة سافرناها فأدركنا ، وقد أرهقتنا الصلاة : صلاة العصر ، ونحن نتوضأ ، فجعلنا نمسح على أرجلنا ، فنادى بأعلى صوته : » أسبغوا الوضوء ويل للأعقاب من النار « ، وفي رواية : » ويل للأعقاب وبطون الأقدام من النار « ، رواه البيهقي والحاكم . وقال الإمام أحمد عن جابر بن عبد الله قال : » رأى النبي صلى الله عليه وسلم في رِجل رجلٍ مثل الدرهم لم يغسله فقال : « ويل للأعقاب من النار » وقال ابن جرير عن أبي أمامة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أبصر قوماً يصلون وفي عقب أحدهم أو كعب أحدهم مثل موضع الدرهم أو موضع الظفر لم يمسه الماء فقال :
(1/622)
« ويل للأعقاب من النار » ، قال : فجعل الرجل إذا رأى في عقبه شيئاً لم يصبه الماء أعاد وضوءه . ووجه الدلالة من هذه الأحاديث ظاهر ، وذلك أنه لو كان فرض الرجلين مسحهما أو أنه يجوز ذلك فيهما لما توعد على تركه ، لأن المسح لا يستوعب جميع الرجل بل يجري فيه ما يجري في مسح الخف ، وهكذا وجه هذه الدلالة على الشيعة الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله تعالى ، وقد روى مسلم في صحيحه عن عمر بن الخطاب : « أن رجلاً توضأ فترك موضع ظفر على قدمه فأبصره النبي صلى الله عليه وسلم وقال : » ارجع فأحسن وضوءك « وقال الإمام أحمد عن خالد بن معدان عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم أنه رأى رجلاً يصلي وفي ظهر قدمه لمعة قدر الدرهم لم يصبها الماء فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يعيد الوضوء . ورواه أبو داود وزاد » والصلاة « وهذا إسناد جيد قوي صحيح ، والله أعلم .
وقال الإمام أحمد ، قال أبو أمامة : حدثنا عمرو بن عبسة ، قال ، قلت : يا رسول الله أخبرني عن الوضوء؟ قال : » ما منكم من أحد يقرب وضوءه ثم يتمضمض ويستنشق وينتثر ، إلاّ خرت خطايه من فمه وخياشيمه مع الماء حين ينتثر ، ثم يغسل وجهه كما أمره الله إلا خرت خطايا وجهه من أطراف لحيته مع الماء ، ثم يغسل يديه إلى المرفقين إلاّ خرت خطايا يديه من أطراف أنامله ، ثم يمسح رأسه إلاّ خرت خطايا رأسه من أطراف شعره مع الماء ، ثم يغسل قدميه إلى الكعبين كما أمره الله إلاّ خرت خطايا قدميه من أطراف أصابعه مع الماء ثم يقوم فيحمد الله ويثني عليه بالذي هو له أهل ، ثم يركع ركعتين إلاّ خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه « قال أبو أمامة : يا عمرو انظر ما تقول ، سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أيعطي هذا الرجل كله في مقامه؟ فقال عمرو بن عبسة : يا أبا أمامة لقد كبرت سني ، ورق عظمي ، واقترب أجلي ، وما بي حاجة أن أكذب على الله وعلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لو لم أسمعه من رسول الله صلى الله عليه وسلم إلاّ مرة أو مرتين أو ثلاثاً لقد سمعته سبع مرات أو أكثر من ذلك ، وهذا إسناد صحيح ، وهو في صحيح مسلم من وجه آخر ، وفيه : ثم يغسل قدميه كما أمره الله فدل على أن القرآن يأمر بالغسل ، وهكذا روي عن علي بن ابي طالب رضي الله عنه أنه قال : اغسلوا القدمين إلى الكعبين كما أمرتم ، وقد روى أبو داود عن أوس بن ابي أوس ، قال : رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى سباطة قوم فبال وتوضأ ومسح على نعليه وقدميه .
(1/623)
وقد رواه ابن جرير من طريق شعبة ثم قال : وهذا محمول على أنه توضأ كذلك وهو غير محدث ، إذ كان غير جائز أن تكون فرائض الله وسنن رسوله متنافية متعارضة ، وقد صح عنه صلى الله عليه وسلم الأمر بعموم غسل القدمين في الوضوء بالماء بالنقل المستفيض القاطع عذر من انتهى إليه وبلغه ، ولما كان القرآن آمراً بغسل الرجلين كما في قراءة النصب ، وكما هو الواجب في حمل قراءة الخفض عليها توهم بعض السلف أن هذه الآية ناسخة لرخصة المسح على الخفين ، وقد روي ذلك عن علي بن أبي طالب ، ولكن لم يصح إسناده ، ثم الثابت عنه خلافه وليس كما زعموه ، فإنه قد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم مسح على الخفين بعد نزول هذه الآية الكريمة . وقال الإمام أحمد عن جرير بن عبد الله البجلي قال : أنا أسلمت بعد نزول المائدة ، وأنا رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يمسح بعدما أسلمت ، وفي الصحيحين عن همام قال : بال جرير ثم توضأ ومسح على خفيه فقيل : تفعل هذا؟ فقال : نعم ، رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بال ثم توضأ ومسح على خفيه . قال الأعمش ، قال إبراهيم : فكان يعجبهم هذا الحديث لأن إسلام جرير كان بعد نزول المائدة ، لفظ مسلم . وقد ثبت بالتواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مشروعية المسح على الخفين قولاً منه وفعلاً ، وقد خالفت الروافض في ذلك بلا مستند بل بجهل وضلال ، مع أنه ثابت في صحيح مسلم من رواية أمير المؤمنين علي ابن أبي طالب رضي الله عنه ، كما ثبت في الصحيحين عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن نكاح المتعة وهم يستبيحونها ، وكذلك هذه الآية الكريمة دالة على وجوب غسل الرجلين مع ما ثبت بالتواتر من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على وفق ما دلت عليه الآية الكريمة ، وهم مخالفون لذلك كله وليس لهم دليل صحيح في نفس الأمر ولله الحمد ، وهكذا خالفوا الأئمة والسلف في الكعبين اللذين في القدمين ، فعندهم أنهما في ظهر القدم فعندهم في كل رجل كعب ، وعند الجمهور أن الكعبين هما العظمان الناتئان عند مفصل الساق والقدم . قال الربيع ، قال الشافعي : لم أعلم مخالفاً في أن الكعبين اللذين ذكرهما الله في كتابه في الوضوء هما الناتئان وهما مجمع مفصل الساق والقدم هذا لفظه .
قوله تعالى : { وَإِن كُنتُم مرضى أَوْ على سَفَرٍ أَوْ جَآءَ أَحَدٌ مِّنْكُمْ مِّنَ الغائط أَوْ لاَمَسْتُمُ النسآء فَلَمْ تَجِدُواْ مَآءً فَتَيَمَّمُواْ صَعِيداً طَيِّباً فامسحوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ مِّنْهُ } كل ذلك قد تقدم الكلام عليه في تفسير آية النساء ، فلا حاجة بنا إلى إعادته لئلا يطول الكلام ، وقد ذكرنا سبب نزول آية التيمم هناك ، ولكن البخاري روى هاهنا حديثاً خاصاً بهذه الآية الكريمة ، فقال عن عائشة قالت : سقطت قلادة لي بالبيداء ونحن داخلون المدينة فأناخ رسول الله صلى الله عليه وسلم ونزل فثنى رأسه في حجري راقداً ، فأقبل ابو بكر فلكزني لكزة شديدة ، وقال : حبست الناس في قلادة فتمنيت الموت لمكان رسول الله مني؛ وقد أوجعني ، ثم إن النبي استيقظ وحضرت الصبح فالتمس الماء فلم يوجد فنزلت : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصلاة فاغسلوا وُجُوهَكُمْ } إلى آخر الآية ، فقال أسيد بن الحضير : لقد بارك الله للناس فيكم يا آل أبي بكر ما أنتم إلا بركة لهم .
(1/624)
وقوله تعالى : { مَا يُرِيدُ الله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُم مِّنْ حَرَجٍ } أي فلهذا سهل عليكم ويسر ولم يعسر بل أباح التيمم عند المرض وعند فقد الماء توسعة عليكم ورحمة بكم ، وجعله في حق من شرع له يقوم مقام الماء إلاّ من بعض الوجوه كما تقدم بيانه .
وقوله تعالى : { ولكن يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَلِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي لعلكم تشكرون نعمه عليكم فيما شرعه لكم من التوسعة والرأفة والرحمة والتسهيل والسماحة ، وقد وردت السنّة بالحث على الدعاء عقب الوضوء بأن يجعل فاعله من المتطهرين الداخلين في امتثال هذه الآية الكريمة ، كما رواه الإمام أحمد ومسلم وأهل السنن عن عقبة بن عامر قال : « كانت علينا رعاية الإبل فجاءت نوبتي فروحتها بعشي ، فأدركت رسول الله صلى الله عليه وسلم قائماً يحدث الناس ، فأدركت من قوله : » ما من مسلم يتوضأ فيحسن وضوءه ثم يقوم فيصلي ركعتين مقبلاً عليهما بقلبه ووجهه إلاّ وجبت له الجنة « قال ، قلت : ما أجود هذه! فإذا قائل بين يدي يقول : التي قبلها أجود منها ، فنظرت فإذا عمر رضي الله عنه فقال : إني قد رأيتك جئت آنفاً ، قال : » ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ أو فيسبغ الوضوء يقول أشهد أن لا إله إلا الله ، وأن محمداً عبده ورسوله إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء « لفظ مسلم . وروي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إذا توضأ العبد المسلم أو المؤمن فغسل وجهه خرج من وجهه كل خطيئة نظر إليها بعينيه مع الماء أو مع آخر قطر الماء ، فإذا غسل يديه خرج من يديه كل خطيئة بطشتها يداه مع الماء ، أو مع آخر قطر الماء ، فإذا غسل رجليه خرجت كل خطيئة مشتها رجلاه مع الماء أو مع آخر قطر الماء حتى يخرج نقياً من الذنوب «
(1/625)
رواه مسلم . وروى ابن جرير عن أبي أمامة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من توضأ فأحسن الوضوء ، ثم قام إلى الصلاة خرجت ذنوبه من سمعه وبصره ويديه ورجليه » وروى مسلم في صحيحه عن أبي مالك الأشعري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الطهور شطر الإيمان ، والحمد لله تملأ الميزان ، وسبحان الله والله أكبر تملأ ما بين السماء والأرض ، والصوم جنة ، والصبر ضياء ، والصدقة برهان ، والقرآن حجة لك أو عليك ، كل الناس يغدوا فبائع نفسه فمعتقها أو موبقها » وفي صحيح مسلم عن ابن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يقبل الله صدقة من غلول ، ولا صلاة بغير طهور » .
(1/626)
وَاذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الَّذِي وَاثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (7) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (8) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (10) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)
يقول تعالى مذكراً عباده المؤمنين نعمته عليهم في شرعه لهم هذا الدين العظيم ، وإرساله إليهم هذا الرسول الكريم ، وما أخذ عليهم من العهد والميثاق في مبايعته على متابعته ومناصرته ومؤازرته ، والقيام بدينه ، وإبلاغه عنه ، وقبوله منه فقال تعالى : { واذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ وَمِيثَاقَهُ الذي وَاثَقَكُم بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } وهذه هي البيعة التي كانوا يبايعون عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم عند إسلامهم كما قالوا : بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وأثرة علينا ، وأن لا ننازع الأمر أهله . وقال الله تعالى : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ الحديد : 8 ] وقيل هذا تذكار لليهود بما أخذ عليهم من المواثيق والعهود في متابعة محمد صلى الله عليه وسلم والانقياد لشرعه . وقيل : هو تذكار بما أخذ تعالى من العهد على ذرية آدم حين استخرجهم من صلبه وأشهدهم على أنفسهم { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ } [ الأعراف : 172 ] . قاله مجاهد والقول الأول أظهر ، وهو المحكي عن ابن عباس والسدي ، واختاره ابن جرير . ثم قال تعالى : { واتقوا الله } تأكيد وتحريض على مواظبة التقوى في كل حال ثم أعلمهم أنه يعلم ما يختلج في الضمائر من الأسرار والخواطر ، فقال : { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ } أي كونوا قوامين بالحق لله عزَّ وجلَّ لا لأجل الناس والسمعة ، وكونوا { شُهَدَآءَ بالقسط } أي بالعدل لا بالجور ، وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير أنه قال : « نحلني أبي نحلاً ، فقالت أمي عمرة بنت رواحة : لا أرضى حتى تشهد عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاءه ليشهده على صدقتي فقال : » أكلَّ ولدك نحلتَ مثله؟ « قال : لا ، فقال : » اتقوا الله واعدلوا في أولادكم « ، وقال : » إني لا أشهد على جور « قال فرجع أبي فرد تلك الصدقة » .
وقوله تعالى : { وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ على أَلاَّ تَعْدِلُواْ } أي لا يحملنكم بغض قوم على ترك العدل فيهم ، بل استعملوا العدل في كل أحد صديقاً كان أو عدواً ، ولهذا قال : { اعدلوا هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } أي عدلكم أقرب إلى التقوى من تركه ، ودلَّ الفعل على المصدر الذي عاد الضمير عليه ، كما في قوله : { وَإِن قِيلَ لَكُمْ ارجعوا فارجعوا هُوَ أزكى لَكُمْ } [ النور : 28 ] وقوله : { هُوَ أَقْرَبُ للتقوى } من باب استعمال أفعل التفضيل في المحل الذي ليس في الجانب الآخر منه شيء ، كما في قوله تعالى : { أَصْحَابُ الجنة يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُّسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً } [ الفرقان : 24 ] ، وكقول بعض الصحابيات لعمر : أنت أفظَّ وأغلظ من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال تعالى : { واتقوا الله إِنَّ الله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } أي وسيجزيكم على ما علم من أفعالكم التي عملتموها إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، ولهذا قال بعده : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَهُم مَّغْفِرَةٌ } أي لذنوبهم { وَأَجْرٌ عَظِيمٌ } وهو الجنة التي هي من رحمته على عباده ، لا ينالونها بأعمالهم بل برحمة منه وفضل ، وإن كان سبب وصول الرحمة إليهم أعمالهم ، وهو تعالى الذي جعلها أسباباً إلى نيل رحمته وفضله وعفوه ورضوانه ، فالكل منه وله ، فله الحمد والمنة ، ثم قال : { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ الجحيم } وهذا من عدله تعالى وحكمته وحكمه الذي لا يجوز فيه ، بل هو الحكم العدل الحكيم القدير .
(1/627)
وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ اذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَن يَبْسُطُواْ إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ } ، روي أن النبي صلى الله عليه وسلم نزل منزلاً وتفرق الناس في العضاه يستظلون تحتها ، وعلق النبي صلى الله عليه وسلم سلاحه بشجرة ، فجاء أعرابي إلى سيف رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذه فسله ، ثم أقبل على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : من يمنعك مني؟ قال : « الله عزَّ وجلَّ » قال الأعرابي مرتين أو ثلاثاً : من يمنعك مني؟ والنبي صلى الله عليه وسلم يقول : « الله » ، قال فَشَامَ الأعرابي السيف ، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ، فأخبرهم خبر الأعرابي وهو جالس إلى جنبه ولم يعاقبه . وقصة هذا الأعرابي وهو ( غورث ابن الحارث ) ثابتة في الصحيح . وقال ابن عباس : إن قوماً من اليهود صنعوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ولأصحابه طعاماً ليقتلوهم ، فأوحى الله إليه بشأنهم ، وقال أبو مالك : نزلت في كعب بن الأشرف وأصحابه حين أرادوا أن يغدروا بمحمد وأصحابه في دار كعب بن الأشرف وذكر محمد بن إسحاق بن يسار : أنها نزلت في شأن بني النضير حين أرادوا أن يلقوا على رأس رسول الله صلى الله عليه وسلم الرحى لما جاءهم يستعينهم في دية العامريين ، ووكلوا ( عمرو بن جحاش ) بذلك ، وأمروه إن جلس النبي صلى الله عليه وسلم تحت الجداء أن يلقي تلك الرحى من فوقه ، فأطلع الله النبي صلى الله عليه وسلم على ما تمالأوا عليه ، فرجع إلى المدينة وتبعه أصحابه ، فأنزل الله في ذلك هذه الآية . وقوله تعالى : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } يعني من توكل على الله كفاه الله ما أهمه ، وحفظه من شر الناس وعصمه .
(1/628)
وَلَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَبَعَثْنَا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيبًا وَقَالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلَاةَ وَآتَيْتُمُ الزَّكَاةَ وَآمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (12) فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13) وَمِنَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِمَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (14)
لما أمر تعالى عباده المؤمنين بالوفاء بعهده وميثاقه الذي أخذه عليهم على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وأمرهم بالقيام بالحق والشهادة بالعدل ، وذكرهم نعمه عليهم الظاهرة والباطنة فيما هداهم له من الحق والهدى ، شرع يبين لهم كيف أخذ العهود والمواثيق على من كان قبلهم من أهل الكتابين ( اليهود والنصارى ) فلما نقضوا عهوده ومواثيقه أعقبهم ذلك لعناً منه لهم ، وطرداً عن بابه وجنابه ، وحجاباً لقلوبهم عن الوصول إلى الهدى ودين الحق وهو العلم النافع والعمل الصالح فقال تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً } يعني عرفاء على قبائلهم بالمبايعة والسمع والطاعة لله ولرسوله ولكتابه ، وقد ذكر ابن عباس أن هذا كان لما توجه موسى عليه السلام لقتال الجبابرة ، فأمر بأن يقيم نقباء من كل سبط نقيب ، وهكذا لما بايع رسول الله الأنصار ليلة العقبة كان فيهم اثنا عشر نقيباً ، ثلاثة من الأوس وهم : أسيد بن الحضير وسعد بن خيثمة وأبو الهيثم بن التيهان رضي الله عنهم ، وتسعة من الخزرج وهم : أبو أمامة أسعد بن زرارة ، وسعد بن الربيع ، وعبد الله بن رواحة ، ورافع بن مالك بن العجلان ، والبراء بن معرور ، وعبادة بن الصامت ، وسعد بن عبادة ، وعبد الله بن عمرو بن حرام ، والمنذر بن عمر بن خنيس رضي الله عنهم ، وقد ذكرهم كعب بن مالك في شعر له ، كما أورده ابن إسحاق رحمه الله . والمقصود أن هؤلاء كانوا عرفاء على قومهم ليلتئذ عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم لهم بذلك ، وهم الذين ولوا المعاقدة والمبايعة عن قومهم للنبي صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة .
قال الإمام أحمد عن مسروق قال : « كنا جلوساً عند عبد الله بن مسعود ، وهو يقرئنا القرآن فقال له رجل : يا أبا عبد الرحمن هل سألتم رسول صلى الله عليه وسلم الله كم يملك هذه الأمة من خليفة؟ فقال عبد الله : ما سألني منها أحد منذ قدمت العراق قبلك ، ثم قال : نعم ، ولقد سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » إثنا عشر كعدة نقباء بني إسرائيل « وأصل هذا الحديث ثابت في الصحيحين من حديث جابر بن سمرة قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : » لا يزال أمر الناس ماضياً ما وليهم اثنا عشر رجلاً « ، ثم تكلم النبي صلى الله عليه وسلم بكلمة خفيت عليَّ ، فسألت ، أي ماذا قال النبي صلى الله عليه وسلم ؟ قال : » كلهم من قريش « . ومعنى هذا الحديث البشارة بوجود اثني عشر خليفة صالحاً يقيم الحق ويعدل فيهم ، ولا يلزم من هذا تواليهم وتتابع أيامهم ، بل قد وجد أربعة على نسق ، وهم الخلفاء الأربعة : أبو بكر وعمر وعثمان وعلي رضي الله عنهم ، ومنهم ( عمر بن عبد العزيز ) بلا شك عند الأئمة ، وبعض بني العباس ، ولا تقوم الساعة حتى تكون ولايتهم لا محالة ، والظاهر أن منهم ( المهدي ) المبشر به في الأحاديث الواردة بذكره ، فذكر أنه يواطىء اسمه اسم النبي صلى الله عليه وسلم واسم أبيه ، فيملأ الأرض عدلاً وقسطاً كما ملئت جوراً وظلماً ، وليس هذا بالمنتظر الذي تتوهم الرافضة وجوده ثم ظهوره من سرداب سامرا ، فإن ذلك ليس له حقيقة ولا وجود بالكلية بل هو من هوس العقول السخيفة ، وتوهم الخيالات الضعيفة وليس المراد بهؤلاء الخلفاء الاثني عشر الأئمة الاثني عشر الذين يعتقد فيهم الروافض لجهلهم وقلة عقلهم .
(1/629)
وفي التوراة البشارة بإسماعيل عليه السلام وأن الله يقيم من صلبه اثني عشر عظيماً وهم هؤلاء الخلفاء الاثنا عشر المذكورون في حديث ابن مسعود وجابر بن سمرة . وبعض الجهلة ممن أسلم من اليهود إذا اقترن بهم بعض الشيعة يوهمونهم أنهم الأئمة الاثنا عشر فيتشيع كثير منهم جهلاً وسفهاً لقلة علمهم وعلم من لقنهم ذلك بالسنن الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : { وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ } أي بحفظي وكلاءتي ونصري { لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمُ الزكاة وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي } أي صدقتموهم فيم يجيئونكم به من الوحي { وَعَزَّرْتُمُوهُمْ } أي نصرتموهم ووازرتموهم على الحق { وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً } وهو الإنفاق في سبيله وابتغاء مرضاته { لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ } أي ذنوبكم أمحوها وأسترها ولا أؤاخذكم بها { وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أي أدفع عنكم المحذور وأحصل لكم المقصود وقوله : { فَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذلك مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } أي فمن خالف هذا الميثاق بعد عقده وتوكيده فقد أخطأ الطريق الواضح وعدل عن الهدى إلى الضلال . ثم أخبر تعالى عما حل بهم من العقوبة عند مخالفتهم ميثاقه ونقضهم عهده فقال : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ } أي فبسبب نقضهم الميثاق الذي أخذ عليهم لعناهم أي أبعدناهم عن الحق وطردناهم عن الهدى { وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً } أي فلا يتعظون بموعظة لغلظها وقساوتها ، { يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } أي فسدت فهومهم وساء تصرفهم في آيات الله ، وتأولوا كتابه على غير ما أنزله وحملوه على غير مراده وقالوا عليه ما لم يقل ، عياذاً بالله من ذلك { وَنَسُواْ حَظًّا مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ } أي وتركوا العمل به رغبة عنه . وقال الحسن : تركوا عرى دينهم ووظائف الله تعالى التي لا يقبل العمل إلاّ بها . وقال غيره : تركوا العمل فصاروا إلى حالة رديئة فلا قلوب سليمة ولا فطر مستقيمة ولا أعمال قويمة { وَلاَ تَزَالُ تَطَّلِعُ على خَآئِنَةٍ مِّنْهُمْ } يعني مكرهم وغدرهم لك ولأصحابك . وقال مجاهد : يعني بذلك تمالؤهم على الفتك برسول الله صلى الله عليه وسلم : { فاعف عَنْهُمْ واصفح } ، وهذا هو عين النصر والظفر كما قال بعض السلف « ما عاملتَ من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه » وبهذا يحصل لهم تأليف وجمع على الحق ولعل الله أن يهديهم ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } يعني به الصفح عمن أساء إليك .
(1/630)
وقال قتادة : هذه الآية : { فاعف عَنْهُمْ واصفح } منسوخة بقوله : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } [ التوبة : 29 ] الآية .
وقوله تعالى : { وَمِنَ الذين قَالُواْ إِنَّا نصارى أَخَذْنَا مِيثَاقَهُمْ } أي ومن الذين ادعوا أنهم نصارى متابعون المسيح ابن مريم عليه السلام وليسو كذلك ، أخذنا عليهم العهود والمواثيق على متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ومناصرته وموازرته واقتفاء آثاره ، وعلى الإيمان بكل نبي يرسله الله إلى أهل الأرض ، ففعلوا كما فعل اليهود : خالفوا المواثيق ونقضوا العهود ، ولهذا قال تعالى : { فَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِرُواْ بِهِ فَأَغْرَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } أي فألقينا بينهم العداوة والبغضاء لبعضهم بعضاً ولا يزالون كذلك إلى قيام الساعة . وكذلك طوائف النصارى على اختلاف أجناسهم لا يزالون متباغضين متعادين يكفر بعضهم بعضاً ويلعن بعضهم بعضاً ، فكل فرقة تحرم الأخرى ولا تدعها تلج معبدها : فالملكية تكفر اليعقوبية ، وكذلك الآخرون ، وكذلك النسطورية والأريوسية ، كل طائفة تكفر الأخرى في هذه الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . ثم قال تعالى : { وَسَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ الله بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } وهذا تهديد ووعيد أكيد للنصارى على ما ارتكبوه من الكذب على الله وعلى رسوله ، وما نسبوه إلى الرب عزَّ وجلَّ وتقدس عن قولهم علواً كبيراً من جعلهم له صاحبة وولداً ، تعالى الواحد الأحد الفرد الصمد ، الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد .
(1/631)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيرًا مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جَاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)
يقول تعالى مخبراً عن نفسه الكريمة أنه قد أرسل رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى ودين الحق إلى جميع أهل الأرض ، عربهم وعجمهم ، أميهم وكتابيهم ، وأنه بعثه بالبينات والفرق بين الحق والباطل ، فقال تعالى : { يَا أَهْلَ الكتاب قَدْ جَآءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب وَيَعْفُواْ عَن كَثِيرٍ } أي يبين ما بدلوه وحرفوه وأولوه وافتروا على الله فيه ، ويسكت عن كثير مما غيروه ولا فائدة في بيانه . وقد روى الحاكم في مستدركه عن ابن عباس رضي الله عنه قال : من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب لقوله تعالى : { يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِّمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الكتاب } فكان الرجم مما أخفوه . ثم أخبر تعالى عن القرآن العظيم الذي أنزله على نبيه الكريم فقال : { قَدْ جَآءَكُمْ مِّنَ الله نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ الله مَنِ اتبع رِضْوَانَهُ سُبُلَ السلام } أي طرق النجاة والسلامة ومناهج الاستقامة { وَيُخْرِجُهُمْ مِّنِ الظلمات إِلَى النور بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي ينجيهم من المهالك ، ويوضح لهم أبين المسالك ، فيصرف عنهم المحذور ، ويحصل لهم أحب الأمور ، وينفي عنهم الضلالة ويرشدهم إلى أقوم حالة .
(1/632)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا إِنْ أَرَادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)
يقول تعالى مخبراً وحاكياً بكفر النصارى في ادعائهم في المسيح بن مريم وهو عبد من عباد الله ، وخلق من خلقه أنه هو الله ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً ، ثم قال مخبراً عن قدرته على الأشياء وكونها تحت قهره وسلطانه { قُلْ فَمَن يَمْلِكُ مِنَ الله شَيْئاً إِنْ أَرَادَ أَن يُهْلِكَ المسيح ابن مَرْيَمَ وَأُمَّهُ وَمَن فِي الأرض جَمِيعاً } أي لو أراد ذلك فمن ذا الذي كان يمنعه منه؟ أو من ذا الذي يقدر على صرفه عن ذلك؟ ثم قال : { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } أي جميع الموجودات ملكه وخلقه وهو القادر على ما يشاء لا يسأل عما يفعل بقدرته وسلطانه وعدله وعظمته ، هذا رد على النصارى عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة ، ثم قال تعالى راداً على اليهود والنصارى في كذبهم وافترائهم : { وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } أي نحن منتسبون إلى أنبيائه وهم بنوه وله بهم عناية وهو يحبنا ، ونقلوا عن كتابهم أن الله تعالى قال لعبده إسرائيل : أنت ابني بكري ، فحملوا هذا على غير تأويله وحرفوه ، وقد رد عليهم غير واحد ممن أسلم من عقلائهم . وقالوا : هذا يطلق عندهم على التشريف والإكرام ، كما نقل النصارى عن كتابهم أن عيسى قال لهم : إني ذاهب إلى أبي وأبيكم يعني ربي وربكم ، ومعلوم أنهم لم يدعوا لأنفسهم من البنوة ما ادعوها في عيسى عليه السلام ، وإنما أرادوا من ذلك معزتهم لديه وحظوتهم عنده ، ولهذا قالوا : نحن أبناء الله وأحباؤه . قال الله تعالى راداً عليهم : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } أي لو كنتم كما تدعون أبناءه وأحباءه فلم أعد لكم نار جهنم على كفركم وكذبكم وافترائكم؟ وقد قال بعض شيوخ الصوفية لبعض الفقهاء : أين تجد في القرآن أن الحبيب لا يعذب حبيبه؟ فلم يرد عليه ، فتلا عليه الصوفي هذه الآية : { قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم } ؟ وهذا الذي قال حسن .
{ بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ } أي لكم أسوة أمثالكم من بني آدم وهو سبحانه الحاكم في جميع عباده { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } أي هو فعال لما يريد لا معقب لحكمه وهو سريع الحساب ، { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا } أي الجميع ملكه وتحت قهره وسلطانه { وَإِلَيْهِ المصير } أي المرجع والمآب إليه فيحكم في عباده بما يشاء وهو العادل الذي لا يجوز . وروى محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال : أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم نعمانُ بن آصا ، وبحري بن عمرو ، وشاس بن عدي فكلموه وكلمهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ودعاهم إلى الله وحذرهم نقمته ، فقالوا : ما تخوفنا يا محمد! نحن والله أبناء الله وأحباؤه؛ كقول النصارى ، فأنزل الله فيهم : { وَقَالَتِ اليهود والنصارى نَحْنُ أَبْنَاءُ الله وَأَحِبَّاؤُهُ } الآية .
(1/633)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ قَدْ جَاءَكُمْ رَسُولُنَا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلَى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا مَا جَاءَنَا مِنْ بَشِيرٍ وَلَا نَذِيرٍ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (19)
يقول تعالى مخاطباً أهل الكتاب من اليهود والنصارى بأنه أرسل إليهم رسوله محمداً صلى الله عليه وسلم خاتم النبيين الذي لا نبي بعده ولا رسول بل هو المعقب لجميعهم ، ولهذا قال : على فترة من الرسل ، أي بعد مدة متطاولة ما بين إرساله وعيسى ابن مريم ، وقد اختلفوا في مقدار هذه الفترة كم هي ، فقال قتادة : كانت ستمائة سنة ، ورواه البخاري عن سلمان الفارسي وعن قتادة : خمسمائة وستون سنة ، وقال الضحاك : أربعمائة وبضع وثلاثون سنة ، وذكر ابن عساكر عن الشعبي أنه قال : ومن رفع المسيح إلى هجرة النبي صلى الله عليه وسلم تسعمائة وثلاث وثلاثون سنة . والمشهور هو القول الأول وهو أنها ستمائة سنة . وكانت الفترة بين عيسى بن مريم آخر أنبياء بني إسرائيل ، وبين محمد خاتم النبيين من بني آدم على الإطلاق ، كما ثبت في صحيح البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أنا أولى الناس بابن مريم لأنه ليس بيني وبينه نبي » وهذا فيه رد على من زعم أنه بعث بعد عيسى نبي يقال له خالد بن سنان ، والمقصود أن الله بعث محمداً صلى الله عليه وسلم على فترة من الرسل ، وطموس من السبل ، وتغير الأديان ، وكثرة عبادة الأوثان والنيران والصلبان ، فكانت النعمة به أتم النعم ، والحاجة إليه أمر عمم ، فإن الفساد كان قد عم جميع البلاد ، والطغيان والجهل قد ظهر في سائر العباد إلا قليلاً من المتمسكين ببقايا من دين الأنبياء الأقدمين ، من بعض أحبار اليهود والنصارى والصابئين ، كما قال الإمام أحمد : حدث يحيى بن سعيد عن عياض بن حماد المجاشعي أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ذات يوم فقال في خطبته : « وإن ربي أمرني أن أعلمكم ما جهلتم مما علمني في يومي هذا : كل مال نحلته عبادي حلال ، وإني خلقت عبادي حنفاء كلهم ، وإن الشياطين أتتهم فأضلتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم . وأمرتهم أن يشركوا بي ما لم أنزل به سلطاناً ، ثم إن الله عزَّ وجلَّ نظر إلى أهل الأرض ، فمقتهم عربهم وعجمهم ، إلاّ بقايا من بني إسرائيل . وقال : إنما بعثتك لأبتليك وأبتلي بك ، وأنزلت عليك كتاباً لا يغسله الماء تقرأه نائماً ويقظان . ثم إن الله أمرني أن أحرق قريشاً فقلت : يا رب إذن يثلغوا رأسي فيدعوه خبزة ، فقال : استخرجهم كما استخرجوك ، واعزهم نغزك ، وأنفق عليهم فسننفق عليك ، وابعث جيشاً نبعث خمسة أمثاله ، وقاتل بمن أطاعك من عصاك وأهل الجنة ثلاثة : ذو سلطان مقسط موفق متصدق ، ورجل رحيم رقيق القلب بكل ذي قربى ومسلم ، ورجل عفيف فقير ذو عيال . وأهل النار خمسة : الضعيف الذي لا دين له ، والذين هم فيكم تبع أو تبعاً - شك يحيى - لا يبتغون أهلاً ولا مالاً ، والخائن الذي لا يخفى له طمع وإن دق إلاّ خانه ، ورجل لا يصبح ولا يمسي إلاّ وهو يخادعك عن أهلك ومالك ، وذكر البخل أو الكذب ، والشنظير : الفاحش » .
(1/634)
والمقصود من إيراد هذا الحديث قوله : « وإن الله نظر إلى أهل الأرض فمقتهم عجمهم وعربهم إلاّ بقايا من بني إسرائيل » ، وفي لفظ مسلم - من أهل الكتاب ، وكان الدين قد التبس على الأرض حتى بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم ، فهدى الخلائق وأخرجهم الله به من الظلمات إلى النور ، وتركهم على المحجة البيضاء والشريعة الغراء ، ولهذا قال تعالى : { أَن تَقُولُواْ مَا جَآءَنَا مِن بَشِيرٍ وَلاَ نَذِيرٍ } أي لئلا تحتجوا وتقولوا : ما جاءنا من رسول يبشر بالخير وينذر من الشر ، { فَقَدْ جَاءَكُمْ بَشِيرٌ وَنَذِيرٌ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم ، { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } قال ابن جرير : معناه إني قادر على عقاب من عصاني وثواب من أطاعني .
(1/635)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَاءَ وَجَعَلَكُمْ مُلُوكًا وَآتَاكُمْ مَا لَمْ يُؤْتِ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (20) يَا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَرْتَدُّوا عَلَى أَدْبَارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (21) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّ فِيهَا قَوْمًا جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ (22) قَالَ رَجُلَانِ مِنَ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبَابَ فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قَالُوا يَا مُوسَى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَهَا أَبَدًا مَا دَامُوا فِيهَا فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ (24) قَالَ رَبِّ إِنِّي لَا أَمْلِكُ إِلَّا نَفْسِي وَأَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (25) قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (26)
يقول تعالى مخبراً عن عبده ورسوله وكليمه ( موسى بن عمران ) عليه السلام ، فيما ذكر به قومه من نعم الله عليه وآلائه لديهم في جمعه لهم خير الدنيا والآخرة لو استقاموا على طريقتهم المستقيمة ، فقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ } ، أي كلما هلك نبي قام فيكم نبي من لدن أبيكم إبراهيم إلى من بعده ، وكذلك كانوا لا يزال فيهم الأنبياء يدعون إلى الله ، ويحذرون نقمته حتى ختموا بعيسى ابن مريم عليه السلام ، ثم أوحى الله إلى خاتم الأنبياء والرسل على الإطلاق محمد بن عبد الله المنسوب إلى إسماعيل ابن إبراهيم عليه السلام وهو أشرف من كل من تقدمه منهم صلى الله عليه وسلم . وقوله : { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } قال عبد الرزاق عن ابن عباس في قوله { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } قال : الخادم والمرأة والبيت وعنه قال : كان الرجل من بني إسرائيل إذا كان له الزوجة والخادم والدار سمي ملكاً . وقال ابن جرير عن عبد الله بن عمرو بن العاص وساله رجل فقال : ألسنا من فقراء المهاجرين؟ فقال عبد الله : ألك امرأة تأوي إليها؟ قال : نعم ، قال : ألك مسكن تسكنه؟ قال : نعم ، قال : فأنت من الأغنياء . فقال : إن لي خادماً ، قال : فأنت من الملوك . وقال الحسن البصري : هل الملك إلاّ مركب وخادم ودار ، ورواه ابن جرير . وقال السدي قي قوله { وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } قال : يملك الرجل منكم نفسه وماله وأهله ، وقد ورد في الحديث : « من أصبح منكم معافى في جسده ، آمناً في سربه ، عنده قوت يومه ، فكأنهما حيزت له الدنيا بحذافيرها » .
وقوله تعالى : { وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين } يعني عالمي زمانكم ، فإنهم كانوا أشرف الناس في زمانهم من اليونان والقبط وسائر أصناف بني آدم كما قال : { وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى العالمين } [ الجاثية : 16 ] . وقال تعالى إخباراً عن موسى : { قَالَ أَغَيْرَ الله أَبْغِيكُمْ إلها وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى العالمين } [ الأعراف : 140 ] والمقصود أنهم كانوا أفضل أمم زمانهم ، وإلا فهذه الأمة أشرف منهم ، وأفضل عند الله ، وأكمل شريعة ، وأقوم منهاجاً ، وأكرم نبياً ، وأعظم ملوكاً ، وأغزر أرزاقاً ، وأكثر أموالاً وأولاداً ، وأوسع مملكة ، وأدوم عزاً . قال الله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] . وقد ذكرنا الأحاديث المتواترة في فضل هذه الأمة وشرفها وكرمها عند الله عند قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] ، وقيل : المراد { وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين } يعني بذلك ما كان تعالى نزله عليهم من المن والسلوى ، ويظللهم به من الغمام ، وغير ذلك مما كان تعالى يخصهم به من خوارق العادات ، فالله أعلم . ثم قال تعالى مخبراً عن تحريض موسى عليه السلام لبني إسرائيل على الجهاد ، والدخول إلى بيت المقدس الذي كان بأيديهم في زمان أبيهم يعقوب ، لما ارتحل هو وبنوه وأهله إلى بلاد مصر أيام يوسف عليه السلام ثم لم يزالوا بها ، حتى خرجوا مع موسى ، فوجدوا فيها قوماً من العمالقة الجبارين قد استحوذوا عليها وتملكوها ، فأمرهم رسول الله موسى عليه السلام بالدخول إليها ، وبقتال أعدائهم ، وبشرهم بالنصر والظفر عليهم ، فنكلوا بالذهاب وعصوا وخالفوا أمره ، فعوقبوا في التيه ، والتمادي في سيرهم حائرين لا يدرون كيف يتوجهون فيه إلى مقصد مدة أربعين سنة ، عقوبة لهم على تفريطهم في أمر الله تعالى ، فقال تعالى مخبراً عن موسى أنه قال : { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ } أي المطهرة .
(1/636)
عن ابن عباس قال : هي الطور وما حوله ، وكذا قال مجاهد وغير واحد .
وقوله تعالى : { الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ } أي التي وعدكموها الله على لسان أبيكم إسرائيل أنه وراثة من آمن منكم ، { وَلاَ تَرْتَدُّوا على أَدْبَارِكُمْ } أي تنكلوا عن الجهاد { فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ * قَالُوا ياموسى إِنَّ فِيهَا قَوْماً جَبَّارِينَ وَإِنَّا لَن نَّدْخُلَهَا حتى يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِن يَخْرُجُواْ مِنْهَا فَإِنَّا دَاخِلُونَ } أي اعتذروا بأن في هذه البلدة التي أمرتنا بدخولها وقتال أهلها قوماً جبارين ذوي خلق هائلة وقوى شديدةأ وإنا لا نقدر على مقاومتهم ولا مصاولتهم ، ولا يمكننا الدخول إليها ما داموا فيها ، فإن يخرجوا منها دخلناها ، وإلا فلا طاقة لنا بهم .
وقوله تعالى : { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ أَنْعَمَ الله عَلَيْهِمَا } أي فلما نكل بنوا إسرائيل عن طاعة الله ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم موسى حرضهم رجلان ، لله عليهما نعمة عظيمة وهما ممن يخاف أمر الله ويخشى عقابه . وقرأ بعضهم : { قَالَ رَجُلاَنِ مِنَ الذين يَخَافُونَ } أي ممن لهم مهابة وموضع من الناس ، ويقال إنهما ( يوشع بن نون ) و ( كالب بن يوفنا ) ؛ قاله ابن عباس ومجاهد عكرمة وغير واحد من السلف والخلف رحمهم الله ، فقالا : { ادخلوا عَلَيْهِمُ الباب فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ وَعَلَى الله فتوكلوا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي إن توكلتم على الله واتبعتم أمره ووافقتم رسوله نصركم الله على أعدائكم ، وأيدكم وظفركم بهم ، ودخلتم البلد التي كتبها الله لكم؛ فلم ينفع ذلك فيهم شيئاً { قَالُواْ ياموسى إِنَّا لَنْ نَّدْخُلَهَآ أَبَداً مَّا دَامُواْ فِيهَا فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ، وهذا نكول منهم عن الجهاد ومخالفة لرسولهم ، وتخلف عن مقاتلة الأعداء ، ويقال : إنهم لما نكلوا على الجهاد ، وعزموا على الإنصراف والرجوع إلى مصر ، سجد موسى وهارون عليهما السلام قدام ملأ من بني إسرائيل إعظاماً لما هموا به ، وشق يوشع بن نون وكالب بن يوفنا ثيابهما ، ولاما قومهما على ذلك ، فيقال : إنهم رجموهما ، وجرى أمر عظيم وخطر جليل .
وما أحسن ما أجاب به الصحابة رضي الله عنهم يوم بدر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين استشارهم في قتال النفير فتكلم أبو بكر رضي الله عنه فأحسن ، ثم تكلم من تكلم من الصحابة من المهاجرين ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(1/637)
« أشيروا عليَّ أيها المسلمون » وما يقول ذلك إلاّ ليستعلم ما عند الأنصار لأنهم كانوا جمهور الناس يومئذ ، فقال سعد بن معاذ : كأنك تعرض بنا يا رسول الله فوالذي بعثك بالحق لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك ، ما تخلَّف منا رجل واحد ، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً ، إنا لصبرٌ في الحرب ، صُدق في اللقاء لعل الله أن يريك منا ما تقر به عينك ، فسر بنا على بركة الله . فسُرَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم بقول سعد ونشطه ذلك . وممن أجاب يومئذ ( المقداد بن عمرو الكندي ) رضي الله عنه ، كما قال عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : لقد شهدت من المقداد مشهداً ، لأن أكون أنا صاحبه أحب إليّ مما عدل به ، أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يدعو على المشركين فقال : والله يا رسول الله لا نقول كما قالت بنوا إسرائيل لموسى { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ولكنا نقاتل عن يمينك وعن يسارك ومن بين يديك ومن خلفك ، فرأيت وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم أشرق لذلك وسره ذلك ، وهكذا رواه البخاري في المغازي ، ولفظه في كتاب التفسير عن عبد الله قال ، قال المقداد يوم بدر يا رسول الله لا نقول لك كما قالت بنو إسرائيل لموسى { فاذهب أَنتَ وَرَبُّكَ فقاتلا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ } ، ولكن امض ونحن معك . فكأنه سري عن رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : { قَالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين } يعني لما نكل بنو إسرائيل عن القتال غضب عليهم موسى عليه السلام ، وقال داعياً عليهم : { رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي } أي ليس أحد يطيعني منهم فيمتثل أمر الله ويجيب إلى ما دعوت إليه إلا أنا وأخي هارون { فافرق بَيْنَنَا وَبَيْنَ القوم الفاسقين } قال ابن عباس : يعني اقض بيني وبينهم ، وكذا قال الضحاك : اقض بيننا وبينهم ، وافتح بيننا وبينهم ، وقال غيره : افرق افصل بيننا وبينهم ، كما قال الشاعر :
يا رب فافرق بينه وبيني ... أشد ما فرَّقت بين اثنين
وقوله تعالى : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } الآية ، لما دعا عليهم موسى عليه السلام حين نكلوا عن الجهاد حكم الله بتحريم دخولها عليهم قدر مدة أربعين سنة ، فوقعوا في التيه يسيرون دائماً لا يهتدون للخروج منه . وفيه كانت أمور عجيبة وخوارق كثيرة : من تظليلهم بالغمام ، وإنزال المن والسلوى عليهم ، ومن إخراج الماء الجاري من صخرة صماء تحمل معهم على دابة ، فإذا ضربها موسى بعصاه انفجرت من ذلك الحجر اثنتا عشرة عيناً : تجري لكل شعب عين ، وغير ذلك من المعجزات التي أيد الله بها موسى بن عمران .
(1/638)
وهناك نزلت التوراة ، وشرعت لهم الأحكام . عن سعيد بن جبير : سألت ابن عباس عن قوله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } الآية . قال : فتاهوا في الأرض أربعين سنة يصبحون كل يوم يسيرون ليس لهم قرار ، ثم ظلل عليهم الغمام في التيه ، وأنزل عليهم المن والسلوى . وهذا قطعة من حديث الفتون . ثم كانت وفاة هارون عليه السلام ، ثم بعده بمدة ثلاث سنين وفاة موسى الكليم عليه السلام ، وأقام الله فيهم ( يوشع بن نون ) عليه السلام نبياً خليفة عن موسى بن عمران ، ومات أكثر بني إسرائيل هناك في تلك المدة ، ويقال : إنه لم يبق منهم أحد سوى يوشع وكالب ، فلما انقضت المدة خرج بهم يوشع بن نون عليه السلام ، أو بمن بقي منهم وبسائر بني إسرائيل من الجيل الثاني ، فقصد بهم بيت المقدس فحاصرها ، فكان فتحها يوم الجمعة بعد العصر . فلما تضيفت الشمس للغروب وخشي دخول السبت عليهم قال : إنك مأمورة وأنا مأمور ، اللهم احبسها علي؛ فحبسها الله تعالى حتى فتحها . وأمر الله ( يوشع بن نون ) أن يأمر بني إسرائيل حين يدخلون بيت المقدس أن يدخلوا بابها سجداً ، وهم يقولون حطة : أي حط عنا ذنوبنا ، فبدلوا ما أمروا به ، ودخلوا يزحفون على أستاههم ، هم يقولون : حبة في شعرة ، وقد تقدم هذا كله في سورة البقرة .
وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنه قوله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الأرض } قال : فتاهوا أربعين سنة ، قال : فهلك موسى وهارون في التيه وكل من جاوز الأربعين سنة ، فلما مضت الأربعون سنة ناهضهم يوشع بن نون ، وهو الذي قام بالأمر بعد موسى ، وهو الذي افتتحها ، فوجد فيها من الأموال ما لم ير مثله قط ، فقربوه إلى النار ، فلم تأته ، فقال : فيكم الغلول ، فدعا رؤوس الأسباط ، وهم اثنا عشر رجلاً ، فبايعهم ، والتصقت يد رجل منهم بيده ، فقال : الغلول عندك ، فأخرجه ، فأخرج رأس بقرة من ذهب فوضعه مع القربان فأتت النار فأكلته . وهذا السياق له شاهد في الصحيح . وقد اختار ابن جرير أن قوله : { فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ } هو العامل في أربعين سنة ، وأنهم مكثوا لا يدخلونها أربعين سنة ، وهم تائهون في البرية لا يهتدون لمقصد ، قال : خرجوا مع موسى عليه السلام ففتح بهم بيت المقدس ، ثم احتج على ذلك بإجماع علماء أخبار الأولين أن ( عوج ابن عنق ) قتله موسى عليه السلام قال : فلو كان قتله إياه قبل التيه لما رهبت بنو إسرائيل من العماليق ، فدل على أنه كان بعد التيه قال : وأجمعوا على أن ( بلعام بن باعورا ) أعان الجبارين بالدعاء على موسى ، قال : وما ذاك إلاّ بعد التيه ، لأنهم كانوا قبل التيه لا يخافون من موسى وقومه .
(1/639)
وقوله تعالى : { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الفاسقين } تسلية لموسى عليه السلام عنهم ، أي لا تأسف ولا تحزن عليهم فيما حكمت عليهم به فإنهم مستحقون ذلك ، وهذه القصة تضمنت تقريع اليهود بينا فضائحم ومخالفتهم لله ولرسوله ، ونكولهم عن طاعتهما فيما أمرهم به من الجهاد فضعفت أنفسهم عن مصابرة الأعداء ومجالدتهم ومقاتلتهم ، مع أن بين أظهرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وكليمه وصفيه من خلقه في ذلك الزمان ، وهو يعدهم بالنصر والظفر بأعدائهم ، هذا مع ما شهدوا من فعل الله بعدوهم فرعون من العذاب والنكال والغرق له ولجنوده في اليم ، وهم ينظرون لتقر به أعينهم وما بالعهد من قدم ، ثم ينكلون عن مقاتلة أهل بلد هي بالنسبة إلى ديار مصر لا توازي عشر المعشار في عدة أهلها وعددهم ، فظهرت قبائح صنيعهم للخاص والعام ، وافتضحوا فضيحة لا يغطيها الليل ، ولا يسترها الذيل ، هذا وهم في جهلهم يعمهون ، وفي غيهم يترددون ، وهم البغضاء إلى الله وأعداؤه ، ويقولون مع ذلك نحن أبناء الله وأحباؤه ، فقبح الله وجوههم التي مسخ منها الخنازير والقرود ، وألزمهم لعنة تصحبهم إلى النار ذات الوقود ، ويقضي لهم فيه بتأبيد الخلود ، وقد فعل ، وله الحمد من جميع الوجود .
(1/640)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)
يقول تعالى مبيناً وخيم عاقبة البغي والحسد والظلم في خبر ابني آدم وهما ( قابيل وهابيل ) ، كيف عدا أحدهم على الآخر ، فقتله بغياً عليه وحسداً له ، فيما وهبه الله من النعمة وتقبل القربان الذي أخلص فيه لله عزَّ وجلَّ ، ففاز المقتول بوضع الآثان والدخول إلى الجنة ، وخاب القاتل ورجع بالصفقة الخاسرة في الدارين ، فقال تعالى : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابني ءَادَمَ بالحق } أي اقصص على هؤلاء البغاة الحسدة أخوان الخنازير والقردة من اليهود وأمثالهم وأشباههم خبر ابني آدم . وهما ( هابيل وقابيل ) فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف . وقوله : { بالحق } أي على الجلية والأمر الذي لا لبس فيه ولا كذب ، ولا وهم ولا تبديل ، ولا زيادة ولا نقصان ، كقوله تعالى : { إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق } [ آل عمران : 62 ] ، وقوله تعالى : { نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نبَأَهُم بالحق } [ الكهف : 13 ] ، كان من خبرهما فيما ذكره غير واحد من السلف والخلف ، أن الله تعالى شرع لآدم عليه السلام أن يزوج بناته من بنيه لضرورة الحال ، ولكن قالوا : كان يولد له في كل بطن ذكر وأنثى ، فكان يزوج أنثى هذا البطن لذكر البطن الآخر ، وكانت أخت ( هابيل ) دميمة وأخت ( قابيل ) وضيئة ، فأراد أن يستأثر بها على أخيه ، فأبى آدم ذلك إلاّ أن يقربا قرباناً ، فمن تقبل منه فهي له ، فتقبل من هابيل ، ولم يتقبل من قابيل ، فكان من أمرهما ما قصه الله في كتابه .
قال السدي عن ابن عباس وعن ابن مسعود : أنه كان لا يولد لآدم مولود إلاّ ومعه جارية ، فكان يزوج غلام هذا البطن جارية هذا البطن الآخر ، ويزوج جارية هذا البطن غلام هذا البطن الآخر . حتى ولد له ابنان يقال لهما هابيل وقابيل ، كان قابيل صاحب زرع ، وكان هابيل صاحب ضرع ، وكان قابيل أكبرهما ، وكان له أخت أحسن من أخت هابيل ، وأن هابيل طلب أن ينكح أخت قابيل ، فأبى عليه ، وقال هي أختي ولدت معي ، وهي أحسن من أختك ، وأنا أحق أن أتزوج بها ، وأنهما قربا قرباناً إلى الله عزَّ وجلَّ أيهما أحق بالجارية ، قرب هابيل جذعة سمينة ، وقرب قابيل حزمة سنبل ، فوجد فيها سنبلة عظيمة ففركها وأكلها ، فنزلت النار فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، فغضب ، وقال لأقتلنك حتى لا تنكح أختي ، فقال هابيل : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } . وقال ابن جرير عن عبد الله بن عمرو قال : إن ابني آدم اللذين قربا قرباناً فتقبل من أحدهما ولم يتقبل من الآخر ، كان أحدهما صاحب حرث ، والآخر صاحب غنم ، وإنهما أمرا أن يقربا قرباناً ، وإن صاحب الغنم قرب أكرم غنمه وأسمنها وأحسنها طيبة بها نفسه ، وإن صاحب الحرث قرب أشر حرثه الكوزن والزوان ، غير طيبة بها نفسه ، وإن الله تقبل قربان صاحب الغنم ، ولم يتقبل قربان صاحب الحرث ، وكان من قصتهما ما قص الله في كتابه ، قال : وايم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ، ولكن منعه التحرج أن يبسط يده إلى أخيه .
(1/641)
وروى محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول : أن آدم أمر ابنه قابيل أن ينكح أخته توأمة هابيل ، وأمر هابيل أن ينكح أخته توأمة قابيل ، فسلم لذلك هابيل ورضي ، وأبى ذلك قابيل وكره تكرماً عن هابيل ، ورغب بأخته عن هابيل ، وقال : نحن من ولادة الجنة ، وهما من ولادة الأرض ، وأنا أحق بأختي ويقول بعض أهل العلم بالكتاب الأول : كانت أخت قابيل من أحسن الناس ، فضن بها على أخيه وأرادها لنفسه فقال له أبوه : يا بني إنها لا تحل لك ، فأبى قابيل أن يقبل ذلك من قول أبيه ، قال له أبوه : يا بني قرب قرباناً ويقرب أخوك هابيل قرباناً فأيكما تقبل قربانه فهو أحق بها ، وكان قابيل على بذر الأرض ، وكان هابيل على رعاية الماشية ، فقرب قابيل قمحاً وقرب هابيل أبكاراً من أبكار غنمه ، وبعضهم يقول : قرب بقرة ، فأرسل الله ناراً بيضاء فأكلت قربان هابيل ، وتركت قربان قابيل ، وبذلك كان يقبل القربان إذا قبله . رواه ابن جرير ، ثم المشهور عند الجمهور أن الذي قرب الشاة هو هابيل ، وأن الذي قرب الطعام هو قابيل ، وأنه تقبل من هابيل شاته ، حتى قال ابن عباس وغيره : إنها الكبش الذي فدي به الذبيح وهو مناسب ، والله أعلم . ولم يتقبل من قابيل ، كذلك نص عليه غير واحد من السلف والخلف وهو المشهور عن مجاهد أيضاً .
ومعنى قوله : { إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ الله مِنَ المتقين } أي ممن اتقى الله في فعله ذلك . وفي الحديث عن معاذ بن جبل ، قال : يحبس الناس في بقيع واحد ينادي مناد ، أي المتقون؟ فيقومون في كنف من الرحمن لا يحتجب الله منهم ولا يستتر ، قلت : من المتقون؟ قال : قوم اتقوا الشرك وعبادة الأوثان ، وأخلصوا العبادة فيمرون إلى الجنة .
وقوله تعالى : { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } يقول له أخوه الرجل الصالح الذي تقبل الله قربانه لتقواه ، حين توعده أخوه بالقتل عن غير ما ذنب منه إليه { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ } أي لا أقابلك على صنيعك الفاسد بمثله ، فأكون أنا وأنت سواء في الخطيئة { إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } أي من أن أصنع كما تريد أن تصنع بل أصبر وأحتسب ، قال عبد الله بن عمرو : وايم الله إن كان لأشد الرجلين ولكن منعه التحرج يعني الورع؛ ولهذا ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :
(1/642)
« » إذا تواجه المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار « قالوا : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : » إنه كان حريصاً على قتل صاحبه « وقال الإمام أحمد عن بشر بن سعيد أن سعد بن أبي وقاص قال ، عند فتنة عثمان : أشهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » « إنها ستكون فتنة القاعد فيها خير من القائم ، والقائم خير من الماشي ، والماشي خير من الساعي » قال : أفرأيت إن دخل على بيتي فبسط يده إليَّ ليقتلني؟ فقال : « كن كابن آدم » قال أيوب السختياني : إن أول من أخذ بهذه الآية من هذه الأمة { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَآ أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لأَقْتُلَكَ إني أَخَافُ الله رَبَّ العالمين } لعثمان بن عفان رضي الله عنه ، رواه ابن أبي حاتم .
وقوله تعالى : { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النار وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين } قال ابن عباس ومجاهد : أي بإثم قتلي وإثمك الذي عليك قبل ذلك ، وقال آخرون : يعني بذلك إني أريد أن تبوء بخطيئتي فتتحمل وزرها وإثمك في قتلك إياي . عن مجاهد { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } يقول : إني أريد أن يكون عليك خطيئتي ودمي فتبوء بهما جميعاً . ( قلت ) : وقد يتوهم كثير من الناس هذا القول ويذكرون في ذلك حديثاً لا أصل له « ما ترك القاتل على المقتول من ذنب » . وقد روى الحافط أبو بكر البزار حديثاً يشبه هذا ولكن ليس به فقال عن عائشة ، قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قتل الصبر لا يمر بذنب إلاّ محاه » ، وهذا بهذا لا يصح ، ولو صح فمعناه أن الله يكفر عن المقتول بألم القتل ذنوبه ، فأما أن تحمل على القاتل فلا ، ولكن قد يتفق هذا في بعض الأشخاص وهو الغالب ، فإن المقتول يطالب القاتل في العرصات ، فيؤخذ له من حسناته بقدر مظلمته ، فإن نفدت ولم يستوف حقه أخذ من سيئات المقتول فطرحت على القاتل ، فربما لا يبقى على المقتول خطيئة إلاّ وضعت على القاتل . وقد صح الحديث بذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في المظالم كلها ، والقتل من أعظمها وأشدها والله أعلم . فإن قيل : كيف أراد هابيل أن يكون على أخيه قابيل إثم قتله؟ والجواب أن هابيل أخبر عن نفسه بأنه لا يقاتل أخاه إن قاتله بل يكف عنه يده طالباً إن وقع قتل أن يكون من أخيه لا منه . وهذا الكلام متضمن موعظة له لو اتعظ وزجراً لو انزجر ، ولهذا قال : { إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } أي تتحمل إثمي وإثمك { فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النار وَذَلِكَ جَزَآءُ الظالمين } وقال ابن عباس : خوفه بالنار فلم ينته ولم ينزجر .
(1/643)
وقوله تعالى : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين } أي فحسنت وسولت له نفسه وشجعته على قتل أخيه فقتله أي بعد هذه الموعظة ، وهذا الزجر . وقد تقدم أنه قتله بحديدة في يده ، وقال السدي : { فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ } فطلبه ليقتله فراغ الغلام منه في رؤوس الجبال ، فأتاه يوماً من الأيام ، وهن يرعى غنماً له ، وهو نائم ، فرفع صخرة فشدخ بها رأسه فمات ، فتركه بالعراء . رواه ابن جرير . وعن بعض أهل الكتاب أنه قتله خنقاً وعضاً كما تقتل السباع . وقال ابن جرير : لما أراد أن يقتله جعل يلوي عنقه ، فأخذ إبليس دابة ووضع رأسها على حجر ثم أخذ حجراً آخر فضرب به رأسها حتى قتلها ، وابن آدم ينظر ، ففعل بأخيه مثل ذلك . وقال عبد الله ابن وهب : أخذ برأسه ليقتله فاضطجع له وجعل يغمز رأسه وعظامه ولا يدري كيف يقتله ، فجاءه إبليس فقال : أتريد أن تقتله قال : نعم قال : فخذ هذه الصخرة فاطرحها على رأسه ، قال : فأخذها فألقاها عليه فشدخ رأسه ، ثم جاء إبليس إلى حواء مسرعاً ، فقال : يا حواء إن قابيل قتل هابيل فقالت له : ويحك وأي شيء يكون القتل؟ قال : لا يأكل ولا يشرب ولا يتحرك ، قالت : ذلك الموت؟ قال : فهو الموت ، فجعلت تصيح حتى دخل عليها آدم وهي تصيح ، فقال : مالك؟ فلم تكلمه فرجع إليها مرتين فلم تكلمه ، فقال : عليك الصيحة وعلى بناتك ، وأنا وبني منها برآء . رواه ابن أبي حاتم . وقوله : { فَأَصْبَحَ مِنَ الخاسرين } أي في الدنيا والآخرة وأي خسارة أعظم من هذه . عن عبد الله بن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تقتل نفس ظلماً إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه كان أول من سن القتل » ، وقد أخرجه الجماعة سوى أبي داود .
وقوله تعالى : { فَبَعَثَ الله غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأرض لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } قال السدي : لما مات الغلام تركه بالعراء ولا يعلم كيف يدفن ، فبعث الله غرابين أخوين ، فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه ، فحفر له ثم حثى عليه ، فلما رآه قال : { يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي } ؟ وقال ابن عباس : جاء غراب إلى غراب ميت فبحث عليه من التراب حتى وراه ، فقال الذي قتل أخاه { يَاوَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي } ، وقال الضحاك عن ابن عباس : مكث يحمل أخاه في جراب على عاتقه سنة حتى بعث الله الغرابين فرآهما يبحثان فقال : { أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذا الغراب } فدفن أخاه . وزعم أهل التوراة أن قابيل لما قتل أخاه هابيل قال له الله عزَّ وجلَّ : يا قابيل أين أخوك هابيل؟ قال : ما أدري ما كنت عليه رقيباً ، فقال الله : إن صوت دم أخيك ليناديني من الأرض الآن ، أنت ملعون من الأرض التي فتحت فاها ، فتلقت دم أخيك من يدك ، فإن أنت عملت في الأرض فإنها لا تعود تعطيك حرثها ، حتى تكون فزعاً تائهاً في الأرض .
(1/644)
وقوله تعالى : { فَأَصْبَحَ مِنَ النادمين } قال الحسن البصري : علاه الله بندامة بعد خسران . فهذه أقوال المفسرين في هذه القصة ، وكلهم متفقون على أن هذين ابنا آدم لصلبه كما هو ظاهر القرآن ، وكما نطق به الحديث في قوله : « إلاّ كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل » ، وهذا ظاهر جلي . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله ضرب لكم ابني آدم مثلاً فخذوا من خيرهم ودعوا شرهم » ، والظاهر أن قابيل عوجل بالعقوبة ، كما ذكره مجاهد وابن جبير : أنه علقت ساقه بفخذه يوم قتله وجعل الله وجهه إلى الشمس حيث دارت عقوبة له وتنكيلاً به . وقد ورد في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من ذنب أجدر أن يعجل الله عقوبته في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه في الآخرة من البغي وقطيعة الرحم » ، وقد اجتمع في فعل قابيل هذا وهذا ، فإنا لله وإنا إليه راجعون .
(1/645)
مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ بَعْدَ ذَلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)
يقول تعالى من أجل قتل ابن آدم أخاه ظلماً وعدواناً { كَتَبْنَا على بني إِسْرَائِيلَ } أي شرعنا لهم وأعلمناهم { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } أي من قتل نفساً بغير سبب من قصاص أو فساد في الأرض ، واستحل قتلها بلا سبب ولا جناية ، فكأنما قتل الناس جميعاً ، لأنه لا فرق عنده بين نفس ونفس ، ومن أحياها أي حرم قتلها واعتقد ذلك فقد سلم الناس كلهم منه بهذا الاعتبار ، ولهذا قال : { فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } . وقال الأعمش عن أبي هريرة قال : دخلت على عثمان يوم الدار فقلت : جئت لأنصرك ، وقد طاب الضرب يا أمير المؤمنين ، فقال : يا أبا هريرة أيسرك أن تقتل الناس جميعاً وإياي معهم؟ قلت : لا . قال : فإنك إن قتلت رجلاً واحداً فكأنهما قتلت الناس جميعاً ، فانصرف مأذوناً لك ، مأجوراً غير مأزور ، قال : فانصرفت ولم أقاتل . وقال ابن عباس هو كما قال الله تعالى : { مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً } وإحياؤها ألا يقتل نفساً حرمها الله فذلك الذي أحيا الناس جميعاً ، يعني أنه من حرم قتلها إلاّ بحق حيي الناس منه؛ وهكذا قال مجاهد ، ومن أحياها أي كف عن قتلها . وقال العوفي عن ابن عباس في قوله { فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } يقول : من قتل نفساً واحدة حرمها الله فهو مثل من قتل الناس جميعاً . وقال سعيد بن جبير : من استحل دم مسلم فكأنما استحل دماء الناس جميعاً ، ومن حرم دم مسلم فكأنما حرم دماء الناس جميعاً ، هذا قول وهو الأظهر ، وقال مجاهد في رواية أخرى عنه : من قتل نفساً بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعاً وذلك لأن من قتل النفس فله النار فهو كما لو قتل الناس كلهم . وقال مجاهد في رواية { وَمَنْ أَحْيَاهَا } أي أنجاها من غرق أو حرق أو هلكة . وقال الحسن وقتادة في قوله : أنه { أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأرض فَكَأَنَّمَا قَتَلَ الناس جَمِيعاً } هذا تعظيم لتعاطي القتل . قال قتادة عظيم والله وزرها ، وعظيم والله أجرها . وقال ابن المبارك عن سليمان الربعي قال ، قلت للحسن : هذه الآية لنا يا أبا سعيد كما كانت لبني إسرائيل؟ فقال : أي والذي لا إله غيره كما كانت لبني إسرائيل ، وما جعل دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا . وقال الإمام أحمد : « جاء حمزة بن عبد المطلب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم : فقال : يا رسول الله اجعلني على شيء أعيش به ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا حمزة نفس تحييها أحب إليك أم نفس تميتها « قال : بل نفس أحييها ، قال : » عليك بنفسك «
(1/646)
، وقوله تعالى : { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا بالبينات } أي بالحجج والبراهين والدلائل الواضحة { ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ بَعْدَ ذلك فِي الأرض لَمُسْرِفُونَ } وهذا تقريع لهم وتوبيخ على ارتكابهم المحارم بعد علمهم بها ، كما كانت ( بنو قريظة ) و ( النضير ) يقاتلون مع الأوس والخزرج إذا وقعت بينهم الحروب في الجاهلية ، ثم إذا وضعت الحروب أوزارها فدوا من أسروه وودوا من قتلوه ، وقد أنكر الله عليهم ذلك في سورة البقرة حيث يقول : { ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بالإثم وَالْعُدْوَانِ } [ الآية : 85 ] .
وقوله تعالى : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } الآية . المحاربة هي المضادة والمخالفة ، وهي صادقة على الكفر وعلى قطع الطريق وإخافة السبيل ، وكذا الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر ، حتى قال كثير من السلف منهم سعيد بن المسيب : إن قبض الدراهم والدنانير من الإفساد في الأرض ، وقد قال الله تعالى : { وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد } [ البقرة : 205 ] ، ثم قال بعضهم : نزلت هذه الآية الكريمة في المشركين ، كما قال ابن جرير عن عكرمة والحسن البصري قالا : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ إلى - أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } نزلت هذه الآية في المشركين ، فمن تاب منهم من قبل أن تقدروا عليه لم يكن عليه سبيل ، وليست تحرز هذه الآية الرجل المسلم من الحد إن قتل أو أفسد في الأرض أو حارب الله ورسوله ثم لحق بالكفار قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصاب . ورواه ابو داود والنسائي من طريق عكرمة عن ابن عباس : إنما جزاء الذين يحاربون الله ورسوله ويسعون في الأرض فساداً : نزلت في المشركين ، فمن تاب منهم قبل أن يقدر عليه لم يمنعه ذلك أن يقام عليه الحد الذي أصابه . وقال ابن عباس في قوله : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً } الآية . قال : كان قوم من أهل الكتاب بينهم وبين النبي صلى الله عليه وسلم عهد وميثاق فنقضوا العهد وأفسدوا في الأرض ، فخيّر الله رسوله إن شاء أن يقتل وإن شاء أن تقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف . رواه ابن جرير .
وروي عن مصعب بن سعد عن أبيه قال : نزلت في الحرورية { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً } رواه ابن مردويه ، والصحيح أن هذه الآية عامة في المشركين وغيرهم ممن ارتكب هذه الصفات كما رواه البخاري ومسلم عن أنس بن مالك : أن نفراً من عكل ثمانية قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فبايعوه على الإسلام فاستوخموا المدينة ، وسقمت أجسامهم ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك ، فقال : « ألا تخرجون مع راعينا في إبله فتصيبوا من أبوالها وألبانها » فقالوا : بلى ، فخرجوا فشربوا من أبوالها وألبانها ، فصحوا ، فقتلوا الراعي وطردوا الإبل ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فبعث في آثارهم فأدركوا فجيء بهم ، فأمر بهم فقطعت أيديهم وأرجلهم ، وسمرت أعينهم ، ثم نبذوا في الشمس حتى ماتوا ، لفظ مسلم .
(1/647)
وفي لفظ : وألقوا في الحرة فجعلوا يستسقون فلا يسقون ، وعند البخاري ، قال أبو قلابة : فهؤلاء سرقوا وقتلوا وكفروا بعد إيمانهم وحاربوا الله ورسوله .
وقال حماد بن سلمة عن أنس بن مالك : أن ناساً من عرينة قدموا المدينة فاجتووها ، فبعثهم رسول الله صلى الله عليه وسلم في إبل الصدقة ، وأمرهم أن يشربوا من أبوالها وألبانها ، ففعلوا ، فصحوا ، فارتدوا عن الإسلام ، وقتلوا الراعي ، وساقوا الإبل ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فجيء بهم فقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وسمر أعينهم ، وألقاهم في الحرة؛ قال أنس : فلقد رأيت أحدهم يكدم الأرض بفيه عطشاً حتى ماتوا ، ونزلت : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } الآية . وقد رواه ابن مردويه عن أنس بن مالك قال : ما ندمت على حديث ما ندمت على حديث سألني عنه الحجاج ، قال : أخبرني عن أشد عقوبة عاقب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : قلت : قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم قوم من عرينة من البحرين ، فشكوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لقوا من بطونهم ، وقد اصفرت ألوانهم ، وضمرت بطونهم ، فأمرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأتوا إبل الصدقة ، فيشربوا من أبوالها وألبانها ، حتى إذا رجعت إليهم ألوانهم وانخمصت بطونهم ، عمدوا إلى الراعي فقتلوه ، واستاقوا الإبل ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم ، فقطع أيديهم وأرجلهم وسمر أعينهم ، ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا ، فكان الحجاج إذا صعد المنبر يقول : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع أيدي قوم وأرجلهم ثم ألقاهم في الرمضاء حتى ماتوا ، بحال ذود من الإبل ، فكان الحجاج يحتج بهذا الحديث على الناس .
وقد اعتنى الحافظ الجليل أبو بكر بن مردويه بتطريق هذا الحديث من وجوه كثيرة جداً فرحمه الله وأثابه . وقال ابن جرير : كان أناس أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : نبايعك على الإسلام ، فبايعوه وهم كذبة وليس الإسلام يريدون ، ثم قالوا : إنا نجتوي المدينة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : هذه اللقاح تغدو عليكم وتروح ، فاشربوا من أبوالها وألبانها ، قال : فبينما هم كذلك إذا جاءهم الصريخ ، فصرخ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : قتلوا الراعي ، واستاقوا النعم ، فأمر النبي صلى الله عليه وسلم فنودي في الناس : « أن يا خيل الله اركبي » قال : فركبوا ، لا ينتظر فارس فارساً ، قال : وركب رسول الله صلى الله عليه وسلم على أثرهم ، فلم يزالوا يطلبونهم ، حتى أدخلوهم مأمنهم ، فرجع صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أسروا منهم ، فأتوا بهم النبي صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله : { إِنَّمَا جَزَآءُ الذين يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ } الآية ، قال : فكان نفيهم أن نفوهم حتى أدخلوهم مأمنهم وأرضهم ونفوهم من أرض المسلمين ، وقتل نبي الله صلى الله عليه وسلم منهم ، وصلب ، وقطع ، وسمر الأعين ، قال : فما مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل ولا بعد ، قال : ونهى عن المثلة ، وقال : « ولا تمثلوا بشيء » .
(1/648)
وقد اختلف الأئمة في حكم هؤلاء العرنيين هل هو منسوخ أو محكم؟ فقال بعضهم : هو منسوخ بهذه الآية ، وزعموا أن فيها عتاباً للنبي صلى الله عليه وسلم ، ومنهم من قال : هو منسوخ بنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن المثلة ، وهذا القول فيه نظر . ثم قائله مطالب ببيان تأخر الناسخ الذي ادعاه عن المنسوخ ، وقال بعضهم : كان هذا قبل أن تنزل الحدود ، وفيه نظر ، فإن قصته متأخرة . ومنهم من قال : لم يسمل النبي صلى الله عليه وسلم أعينهم ، وإنما عزم على ذلك حتى نزل القرآن فبين حكم المحاربين ، وهذا القول أيضاً فيه نظر . فإنه قد تقدم في الحديث المتفق عليه أنه سمل ، وفي رواية سمر أعينهم .
ثم قد احتج بعموم هذه الآية جمهور العلماء في ذهابهم إلى أن حكم المحاربة في الأمصار وفي السبلان على السواء لقوله : { وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً } ، وهذا مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل ، حتى قال مالك في الذي يغتال الرجل فيخدعه حتى يدخله بيتاً فيقتله ويأخذ ما معه : إن هذه محاربة ودمه إلى السلطان لا إلى ولي المقتول ، ولا اعتبار بعفوه عنه في إسقاط القتل . وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا تكون المحاربة إلاّ في الطرقات ، فأما في الأمصار فلا ، لأنه يلحقه الغوث إذا استغاث ، بخلاف الطريق لبعده ممن يغيثه ويعينه . وقوله تعالى : { أَن يقتلوا أَوْ يصلبوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } قال ابن عباس في الآية : من شهَرَ السلاح في فئة الإسلام ، وأخاف السبيل ، ثم ظُفِرَ به وقدر عليه ، فإمام المسلمين فيه بالخيار إن شاء قتله وإن شاء صلبه ، وإن شاء قطع يده ورجله ، وكذا قال سعيد بن المسيب ومجاهد والضحاك ، ومستند هذا القول أن ظاهر ( أو ) للتخيير كما في نظائر ذلك في القرآن ، كقوله في كفارة الفدية :
(1/649)
{ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } [ البقرة : 196 ] ، وكقوله في كفارة اليمين : { إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } [ المائدة : 89 ] وهذه كلها على التخيير ، فكذلك فلتكن هذه الآية . وقال الجمهور : هذه الآية منزلة على أحوال ، كما قال الشافعي عن ابن عباس في قطاع الطريق : إذا قتلوا وأخذوا المال قتلوا وصلبوا ، وإذا قتلوا ولم يأخذوا المال قتلوا ولم يصلبوا ، وإذا أخذوا المال ولم يقتلوا قطعت أيديهم وأرجلهم من خلاف ، وإذا أخافوا السبيل ولم يأخذوا المال نفوا من الأرض . وهكذا قال غير واحد من السلف والأئمة . واختلفوا ، هل يصلب حياً ويترك حتى يموت بمنعه من الطعام والشراب ، أو يقتله برمح أو نحوه ، أو يقتل أولاً ثم يصلب ، تنكيلاً وتشديداً لغيره من المفسدين؟ في ذلك كله خلاف محرر في موضعه ، وبالله الثقة ، وعليه التكلان . وأما قوله تعالى : { أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأرض } قال بعضهم : هو أن يطلب حتى يقدر عليه فيقام عليه الحد أو يهرب من دار الإسلام ، رواه ابن جرير عن ابن عباس ، وقال آخرون : هو أن ينفى من بلده إلى بلد آخر ، أو يخرجه السلطان أو نائبه من معاملته بالكلية . وقال عطاء الخراساني : ينفى من جند إلى جند سنين ولا يخرج من دار الإسلام ، وكذا قال سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان : أنه ينفى ولا يخرج من أرض الإسلام . وقال آخرون : المراد بالنفي هاهنا السجن ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه ، واختار ابن جرير : أن المراد بالنفي هاهنا أن يخرج من بلده إلى بلد آخر فيسجن فيه .
وقوله تعالى : { ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي هذا الذي ذكرته من قتلهم ومن صلبهم وقطع أيديهم وأرجلهم من خلاف ونفيهم ، خزيٌ لهم بين الناس في هذه الحياة الدنيا ، مع ما ادخر الله لهم من العذاب العظيم يوم القيامة ، وهذا يؤيد قول من قال : إنها نزلت في المشركين ، فأما أهل الإسلام ففي صحيح مسلم عن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال : أخذ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم كما أخذ على النساء ألا نشرك بالله شيئاً ولا نسرق ولا نزني ولا نقتل أولادنا ولا يَعْضَهُ بعضنا بعضاً ، فمن وفى منكم فأجره على الله تعالى ، ومن أصاب من ذلك شيئاً فعوقب فهو كفارة له ، ومن ستره الله فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه . وعن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أذنب ذنباً في الدنيا فعوقب به فالله أعدل من أن يثني عقوبته على عبده ، ومن أذنب ذنباً في الدنيا فستره الله عليه وعفا عنه ، فالله أكرم من أن يعود عليه في شيء قد عفا عنه » وقال ابن جرير { ذلك لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدنيا } : يعني شر وعار ونكال وذلة وعقوبة في عاجل الدنيا قبل الآخرة { وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } أي إذا لم يتوبوا من فعلهم ذلك حتى هلكوا فلهم في الآخرة مع الجزاء الذي جازيتهم به في الدنيا والعقوبة التي عاقبتهم بها في الدنيا عذاب عظيم يعني عذاب جهنم .
(1/650)
وقوله تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فاعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أما على قول من قال : إنها في أهل الشرك ، فظاهر . وأما المحاربون المسلمون فإذا تابوا قبل القدرة عليهم فإنه يسقط عنهم انحتام القتل والصلب وقطع الرجل ، وهل يسقط قطع اليد أم لا؟ فيه قولان للعلماء ، وظاهر الآية يقتضي سقوط الجميع وعليه عمل الصحابة .
وروى ابن جرير عن عامر الشعبي قال : جاء رجل من مراد إلى أبي موسى ، وهو على الكوفة في إمارة عثمان رضي الله عنه بعدما صلى المكتوبة ، فقال : يا أبا موسى هذا مقام العائذ بك ، أنا فلان بن فلان المرادي ، وإني كنت حاربت الله ورسوله وسعيت في الأرض فساداً ، وإني تبت من قبل أن تقدروا علي ، فقال أبو موسى : إن هذا فلان بن فلان ، وإنه كان حارب الله ورسوله وسعى في الأرض فساداً ، وإنه تاب من قبل أن نقدر عليه ، فمن لقيه فلا يعرض له إلاّ بخير . فإن يك صادقاً فسبيل من صدق ، وإن يك كاذباً تدركه ذنوبه ، فأقام الرجل ما شاء الله ، ثم إنه خرج فأدركه الله تعالى بذنوبه فقتله . ثم روى ابن جرير أن علياً الأسدي حارب ، وأخاف السبيل ، وأصاب الدم والمال ، فطلبه الأئمة والعامة فامتنع ، ولم يقدروا عليه حتى جاء تائباً ، وذلك أنه سمع رجلاً يقرأ هذه الآية : { قُلْ ياعبادي الذين أَسْرَفُواْ على أَنفُسِهِمْ لاَ تَقْنَطُواْ مِن رَّحْمَةِ الله إِنَّ الله يَغْفِرُ الذنوب جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الغفور الرحيم } [ الزمر : 53 ] فوقف عليه ، فقال : يا عبد الله أعد قراءتها فأعادها عليه ، فغمد سيفه ، ثم جاء تائباً ، حتى قدم المدينة من السحر ، فاغتسل ، ثم أتى مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى الصبح ، ثم قعد إلى أبي هريرة في أغمار أصحابه ، فلما أسفروا عرفه الناس ، فقاموا إليه ، فقال : لا سبيل لكم علي ، جئت تائباً من قبل أن تقدروا علي ، فقال أبو هريرة : صدق ، وأخذ بيده حتى أتى مروان بن الحكم ، وهو أمير على المدينة في زمن معاوية فقال : هذا جاء تائباً ولا سبيل لكم عليه ، ولا قتل ، فترك من ذلك كله ، قال : وخرج علي تائباً مجاهداً في سبيل الله في البحر ، فلقوا الروم ، فقربوا سفينته إلى سفينة من سفنهم ، فاقتحم على الروم في سفينتهم فهربوا منه إلى شقها الآخر ، فمالت به وبهم ، فغرقوا جميعاً .
(1/651)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ (37)
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه ، وهي إذا قرنت بطاعته كان المراد بها الانكفاف من المحارم وترك المنهيات ، وقد قال بعدها { وابتغوا إِلَيهِ الوسيلة } قال ابن عباس : أي القربة ، وقال قتادة : أي تقربوا إليه بطاعته والعمل بما يرضيه ، والوسيلة هي التي يتوصل بها إلى تحصيل المقصود ، والوسيلة أيضاً عَلَمٌ على أعلى منزلة في الجنة ، وهي منزلة رسول الله صلى الله عليه وسلم وداره في الجنة ، وهي أقرب أمكنة الجنة إلى العرش ، وقد ثبت في صحيح البخاري عن جابر بن عبد الله قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمداً الوسيلة والفضيلة وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته ، إلاّ حلت له الشفاعة يوم القيامة » ، ( حديث آخر ) : في صحيح مسلم قال صلى الله عليه وسلم : « إذا سمعتم المؤذن فقولوا مثل ما يقول ، ثم صلوا عليّ فإنه من صلى عليّ صلاة صلى الله عليه عشراً ، ثم سلوا لي الوسيلة فإنها منزلة في الجنة لا تنبغي إلاّ لعبد من عباد الله ، وأرجوا أن أكون أنا هو ، فمن سأل لي الوسيلة حلت عليه الشفاعة » ( حديث آخر ) : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » إذا صليتم عليّ فسلوا لي الوسيلة « ، قيل : يا رسول الله وما الوسيلة؟ قال : » أعلى درجة في الجنة لا ينالها إلاّ رجل واحد ، وأرجوا أن أكون أنا هو « عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » سلوا الله لي الوسيلة فإنه لم يسألها لي عبد في الدنيا إلاّ كنت له شهيداً أو شفيعاً يوم القيامة « .
وقوله تعالى : { وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } لما أمرهم بترك المحارم وفعل الطاعات أمرهم بقتال الأعداء ، من الكفار والمشركين الخارجين عن الطريق المستقيم . والتاركين للدين القويم ، ورغبهم في ذلك بالذي أعده للمجاهدين في سبيله يوم القيامة ، من الفلاح والسعادة العظيمة الخالدة المستمرة ، التي لا تبيد ولا تحول ولا تزول في الغرف العالية الرفيعة ، الآمنة الحسنة مناظرها ، الطيبة مساكنها ، التي من سكنها ينعم لا ييأس ، ويحيى لا يموت لا تبلى ثيابه ولا يفنى شبابه ، ثم أخبر تعالى بما أعد لأعدائه الكفار من العذاب والنكال يوم القيامة فقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي لو أن أحدهم جاء يوم القيامة بملء الأرض ذهباً وبمثله ليفتدي بذلك من عذاب الله الذي قد أحاط به ، وتيقن وصوله إليه ما تقبل ذلك منه بل لا مندوحة عنه ولا محيص ولا مناص ولهذا قال .
(1/652)
{ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي موجع ، { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } ، كما قال تعالى : { كُلَّمَآ أرادوا أَن يَخْرُجُواْ مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُواْ فِيهَا } [ الحج : 22 ] الآية . فلا يزالون يريدون الخروج مما هم فيه من شدته وأليم مسه ولا سبيل لهم إلى ذلك ، كلما رفعهم اللهب فصاروا في أعلى جهنم ضربتهم الزبانية بالمقامع الحديد فيردوهم إلى أسفلها { وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ } أي دائم مستمر لا خروج لهم منها ، ولا محيد لهم عنها ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يؤتى بالرجل من أهل النار ، فيقال له يا ابن آدم كيف وجدت مضجعك؟ فيقول شر مضجع ، فيقال له تفتدي بقراب الأرض ذهباً؟ قال فيقول : نعم يا رب ، فيقول الله تعالى : كذبت قد سألتك أقل من ذلك فلم تفعل فيؤمر به إلى النار » وعن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يخرج من النار قوم فيدخلون الجنة » قال : فقلت لجابر بن عبد الله يقول الله : { يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النار وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا } قال : أتل أول الآية { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ } الآية ، ألا إنهم الذين كفروا . وعن طلق بن حبيب قال : كنت من أشد الناس تكذيباً بالشفاعة ، حتى لقيت جابر بن عبد الله ، فقرأت عليه كل آية أقدر عليها يذكر الله فيها خلود أهل النار فقال : يا طلق أتراك أقرأ لكتاب الله وأعلم بسنّة رسول الله مني؟ إن الذين قرأت هم أهلها هم المشركون ، ولكن هؤلاء قوم أصابوا ذنوباً فعذبوا ثم أخرجوا منها ثم أهوى بيديه إلى أذنيه ، فقال : صمَّتا إن لم أكن سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « يخرجون من النار بعدما دخلوا » ونحن نقرأ كما قرأت . رواه ابن مردويه .
(1/653)
وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تَابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40)
يقول تعالى حاكماً وآمراً بقطع يد السارق والسارقة ، وقد كان القطع معمولاً به في الجاهلية ، فقرر في الإسلام وزيدت شروط أخر ، كما سنذكره إن شاء الله تعالى ، كما كانت القسامة والدية والقراض وغير ذلك من الأشياء التي ورد الشرع بتقريرها على ما كانت عليه وزيادات هي من تمام المصالح ، وقد ذهب بعض الفقهاء من أهل الظاهر إلى أنه متى سرق السارق شيئاً قطعت يده به ، سواء كان قليلاً أو كثيراً لعموم هذه الآية { والسارق والسارقة فاقطعوا أَيْدِيَهُمَا } فلم يعتبروا نصاباً ولا حرزاً ، بل أخذوا بمجرد السرقة ، وتمسكوا بما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لعن الله السارق ، يسرق البيضة فتقطع يده ، ويسرق الحبل فتقطع يده » ، وأما الجمهور فاعتبروا النصاب في السرقة ، وإن كان قد وقع بينهم الخلاف في قدره ، فذهب كل من الأئمة الأربعة إلى قول على حدة ، فعند الإمام مالك رحمه الله النصاب ثلاثة دراهم مضروبة خالصة فمتى سرقها أو ما يبلغ ثمنها فما فوقه وجب القطع واحتج في ذلك بما رواه عن نافع عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قطع في مجن ثمنه ثلاثة دراهم ، أخرجاه في الصحيحين ، وذهب الشافعي رحمه الله إلى أن الاعتبار في قطع يد السارق بربع دينار أو ما يساويه من الأثمان أو العروض فصاعداً ، والحجة في ذلك ما أخرجه البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « تقطع يد السارق في ربع دينار فصاعداً » ، ولمسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تقطع يد السارق إلاّ في ربع دينار فصاعداً » قال أصحابنا : فهذا الحديث فاصل في المسألة ، ونص في اعتبار ربع الدينار لا ما ساواه . قالوا : وحديث ثمن المجن ، وأنه كان ثلاثة دراهم لا ينافي هذا ، لأنه إذ ذاك كان الدينار باثني عشر درهماً فهي ثمن ربع دينار ، فأمكن الجمع بهذا الطريق .
وذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى أن كل واحد من ربع الدينار والثلاثة دراهم مرد شرعي ، فمن سرق واحداً منهما أو ما يساويه قطع ، عملاً بحديث ابن عمر وبحديث عائشة رضي الله عنها ، ووقع في لفظ عند الإمام أحمد عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اقطعوا في ربع دينار ولا تقطعوا فيما هو أدنى من ذلك » وكان ربع الدينار يومئذ ثلاثة دراهم اثني عشر درهماً ، وفي لفظ للنسائي : « لا تقطع يد السارق فيما دون ثمن المجن » قيل لعائشة : ما ثمن المجن؟ قالت : ربع دينار .
(1/654)
فهذه كلها نصوص دالة على عدم اشتراط عشرة دراهم ، والله أعلم .
وأما الإمام أبو حنيفة وزفر وسفيان الثوري رحمهم الله فإنهم ذهبوا إلى أن النصاب به عشرة دراهم مضروبة غير مغشوشة ، واحتجوا بأن ثمن المجن الذي قطع فيه السارق على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كان ثمنه عشرة دراهم . وقد روى أبو بكر بن أبي شيبة عن ابن عباس قال : كان ثمن المجن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم عشرة دراهم . ثم قال : حدثنا عبد الأعلى عن محمد بن إسحاق عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تقطع يد السارق في دون ثمن المجن » وكان ثمن المجن عشرة دراهم قالوا : فهذا ابن عباس وعبد الله بن عمرو قد خالفا ابن عمر في ثمن المجن ، فالاحتياط الأخذ بالأكثر لأن الحدود تدرأ بالشبهات . وذهب بعض السلف إلى أنه تقطع يد السارق في عشرة دراهم أو دينار أو ما يبلغ قيمته واحداً منهما يحكي هذا عن علي وابن مسعود وإبراهيم النخعي رحمهم الله تعالى .
وقال بعض السلف : لا تقطع الخمس إلاّ في خمس أي في خمسة دنانير أو خمسين درهماً ، وينقل هذا عن سعيد بن جبير رحمه الله ، وقد أجاب الجمهور عما تمسك به الظاهرية من حديث أبي هريرة : « يسرق البيضة فتقطع يده ويسرق الحبل فتقطع يده » بأجوبة ( أحدها ) : أنه منسوخ بحديث عائشة ، ( والثاني ) : أنه مؤول ببيضة الحديد وحبل السفن قاله الأعمش فيما حكاه البخاري وغيره عنه ، ( والثالث ) : أن هذه وسيلة إلى التدرج في السرقة من القليل إلى الكثير الذي تقطع فيه يده ، ويحتمل أن يكون هذا خرج مخرج الإخبار عما كان الأمر عليه في الجاهلية ، حيث كانوا يقطعون في القليل والكثير ، فلعن السارق الذي يبذل يده الثمينة في الأشياء المهينة ، وقد ذكروا أن ابا العلاء المعري لما قدم بغداد اشتهر عنه أنه أورد إشكالاً على الفقهاء في جعلهم نصاب السرقة ربع دينار ونظم في ذلك شعراً دل على جهله ، وقلة عقله فقال :
يد بخمس مئين عسجد وديت ... ما بالها قطعت في ربع دينار؟
تناقض مالنا إلاّ السكوت له ... وأن نعوذ بمولانا من النار
ولما قال ذلك واشتهر عنه تطلبه الفقهاء فهرب منهم ، وقد أجابه الناس في ذلك ، فكان جواب القاضي عبد الوهاب المالكي رحمه الله أن قال : لما كانت أمينة كانت ثمينة ، ولما خانت هانت ، ومنهم من قال : هذا من تمام الحكمة والمصلحة وأسرار الشريعة العظيمة ، فإن في باب الجنايات ناسب أن تعظم قيمة اليد بخمسمائة دينار لئلا يجنى عليها ، وفي باب السرقة ناسب أن يكون القدر الذي تقطع فيه ربع دينار لئلا يسارع الناس في سرقة الأموال ، فهذا هو عين الحكمة عند ذوي الألباب ، ولهذا قال : { جَزَآءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ الله والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي مجازاة على صنيعها السيء في أخذها أموال الناس بأيديهم فناسب أن يقطع ما استعانا به في ذلك { نَكَالاً مِّنَ الله } أي تنكيلاً من الله بهما على ارتكاب ذلك ، { والله عَزِيزٌ } أي في انتقامه { حَكِيمٌ } أي في أمره ونهية وشرعه وقدره .
(1/655)
ثم قال تعالى : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي من تاب بعد سرقته وأناب إلى الله ، فإن الله يتوب عليه فيما بينه وبينه ، فأما أموال الناس فلا بد من ردها إليهم أو بدلها عند الجمهور ، وقال أبو حنيفة : متى قطع ، وقد تلفت في يده فإنه لا يرد بدلها .
وقد روى الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو : « أن امرأة سرقت على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم ، فجاء بها الذين سرقتهم ، فقالوا : يا رسول الله إن هذه المرأة سرقتنا ، قال قومها : فنحن نفديها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » اقطعوا يدها « ، قالوا : نحن نفديها بخمسمائة دينار ، فقال : » اقطعوا يدها « ، فقطعت يدها اليمنى ، فقالت المرأة هل لي من توبة يا رسول الله؟ قال : » نعم أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك « ، فأنزل الله في سورة المائدة : { فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ الله يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، وهذه المرأة المخزومية التي سرقت ، وحديثها ثابت في الصحيحين . وعن ابن عمر قال : كانت امرأة مخزومية تستعير متاعاً على ألسنة جارتها وتجحده فأمر النبي صلى الله عليه وسلم بقطع يدها . رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي . وقد ورد في أحكام السرقة أحاديث كثيرة مذكورة في كتاب الأحكام ، ولله الحمد والمنة . ثم قال تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } أي هو المالك لجميع ذلك الحاكم فيه الذي لا معقب لحكمه وهو الفعال لما يريد ، { يُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } .
(1/656)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هَادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جَاءُوكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئًا وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُولَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ فَلَا تَخْشَوُا النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44)
نزلت هذه الآيات الكريمات في المسارعين في الكفر ، الخارجين عن طاعة الله ورسوله ، المقدمين آراءهم وأهواءهم على شرائع الله عزَّ وجلَّ { مِنَ الذين قالوا آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ } ، أي أظهروا بألسنتهم وقلوبهم خراب خاوية منه وهؤلاء هم المنافقون ، { وَمِنَ الذين هَادُواْ } أعداء الإسلام وأهله وأهله وهؤلاء كلهم { سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي مستجيبون له منفعلون عنه ، { سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ } أي يستجيبون لأقوام آخرين لا يأتون مجلسك يا محمد ، وقيل : المراد أنهم يتسمعون الكلام وينهونه إلى قوم آخرين ممن لا يحضر عندك من أعدائك ، { يُحَرِّفُونَ الكلم مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ } أي يتأولونه على غير تأويله ويبدلونه من بعد ما عقلوه وهم يعلمون ، { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا } . قيل : نزلت في قوم من اليهود قتلوا قتيلاً ، وقالوا : تعالوا حتى نتحاكم إلى محمد ، فإن حكم بالدية فاقبلوه ، وإن حكم بالقصاص فلا تسمعوا منه . والصحيح أنها نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، وكانوا قد بدلوا كتاب الله الذي بأيديهم ، من الأمر برجم من أحصن منهم ، فحرفوه ، واصطلحوا فيما بينهم على الجلد مائة جلدة ، والتحميم ، والإركاب على حمار مقلوبين ، فلما وقعت تلك الكائنة بعد الهجرة قالوا فيما بينهم : تعالوا حتى نتحاكم إليه ، فإن حكم بالجلد والتحميم ، فخذوا عنه ، واجعلوه حجة بينكم وبين الله ، يكون نبي من أنبياء الله قد حكم بينكم بذلك ، وإن حكم بالرجم فلا تتبعوه في ذلك .
وقد وردت الأحاديث بذلك ، فقال مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما : « أن اليهود جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكروا له أن رجلاً منهم وامرأة زنيا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما تجدون في التوراة في شأن الرجم؟ « فقالو : نفضحهم ويجلدون ، قال عبد الله بن سلام : كذبتم إن فيها الرجم ، فأتوا بالتوراة فنشروها فوضع أحدهم يده على آية الرجم ، فقرأ ما قبلها وما بعدها ، فقال له عبد الله بن سلام : ارفع يدك ، فرفع يده ، فإذا آية الرجم ، فقالوا : صدق يا محمد ، فيها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما ، فرأيت الرجل يحني على المرأة يقيها الحجارة » أخرجاه ، وهذا لفظ البخاري وعند مسلم « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتي بيهودي ويهودية قد زنيا ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جاء يهود فقال : » ما تجدون في التوراة على من زنى؟ « قالوا : نسود وجوههما ونحممها ونحملهما ، ونخالف بين وجوههما ويطاف بهما قال : { فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عمران : 93 ] قال فجاءوا بها فقرأوها ، حتى إذا مر بآية الرجم وضع الفتى الذي يقرأ يده على آية الرجم ، وقرأ ما بين يديها وما وراءها . فقال له عبد الله بن سلام وهو مع رسول الله صلى الله عليه وسلم : مره فليرفع يده ، فرفع يده فإذا تحتها آية الرجم ، فأمر بهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فرجما . قال عبد الله بن عمر : كنت فيمن رجمهما ، فلقد رأيته يقيها من الحجارة بنفسه »
(1/657)
عن البراء بن عازب قال : « مر على رسول الله صلى الله عليه وسلم يهودي محمّم مجلود ، فدعاهم ، فقال : » أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ « فقالوا : نعم ، فدعا رجلاً من علمائهم ، فقال : » أنشدك بالذي أنزل التوراة على موسى! أهكذا تجدون حد الزاني في كتابكم؟ « فقال : لا والله ، ولولا أنك نشدتني بهذا لم أخبرك ، نجد حد الزاني في كتابنا : الرجم ، ولكنه كثر في أشرافنا فكنا إذا أخذنا الشريف تركناه وإذا أخذنا الضعيف أقمنا عليه الحد ، فقلنا : تعالوا حتى نجعل شيئاً نقيمه على الشريف والوضيع فاجتمعنا على التحميم والجلد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » اللهم إني أول من أحيا أمرك إذ أماتوه « ، قال : فأمر به فرجم » ، قال : فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { ياأيها الرسول لاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر } إلى قوله : { يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ } أي يقولون : ائتوا محمداً فإن أفتاكم بالتحميم والجلد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذورا إلى قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } قال في اليهود ، إلى قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } [ المائدة : 45 ] قال في اليهود : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون } [ المائدة : 47 ] قال : في الكفار كلها ، انفرد بإخراجه مسلم دون البخاري .
فهذه الأحاديث دالة على أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حكم بموافقة حكم التوراة ، وليس هذا من باب الإكرام لهم بما يعتقدون صحته ، لأنهم مأمورون باتباع الشرع المحمدي لا محالة ، ولكن هذا بوحي خاص من الله عزَّ وجلَّ إليه بذلك وسؤاله إياهم عن ذلك ليقررهم على ما بأيديهم مما تواطأوا على كتمانه وجحده ، وعدم العمل به تلك الدهور الطويلة . فلما اعترفوا به مع عملهم على خلافه ، بان زيغهم وعنادهم وتكذيبهم لما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، وعدولهم إلى تحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم ، إنما كان عن هوى منهم وشهوة لموافقة آرائهم لا لاعتقادهم صحة ما يحكم به ، ولهذا قالوا : { إِنْ أُوتِيتُمْ هذا } أي الجلد والتحميم فخذوه أي اقبلوه { وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فاحذروا } أي من قبوله واتباعه . قال الله تعالى : { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً أولئك الذين لَمْ يُرِدِ الله أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدنيا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ * سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ } أي الباطل { أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ } أي الحرام وهو الرشوة كما قاله ابن مسعود وغير واحد ، أي ومن كانت هذه صفته كيف يطهر الله قلبه وأنى يستجيب له؟ ثم قال لنبيه : { فَإِن جَآءُوكَ } أي يتحاكمون إليك { فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً } أي فلا عليك أن لا تحكم بينهم ، لأنهم لا يقصدون بتحاكمهم إليك اتباع الحق بل ما يوافق أهواءهم .
(1/658)
قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة وغير واحد هي منسوخة بقوله : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله } [ المائدة : 49 ] ، { وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط } أي بالحق والعدل ، وإن كانوا ظلمة خارجين عن طريق العدل { إِنَّ الله يُحِبُّ المقسطين } .
ثم قال تعالى منكراً عليهم في آرائهم الفاسدة ومقاصدهم الزائغة ، في تركهم ما يعتقدون صحته من الكتاب الذي بأيديهم ، الذي يزعمون إنهم مأمورون بالتمسك به أبداً ، ثم خرجوا عن حكمه وعدلوا إلى غيره مما يعتقدون في نفس الأمر بطلانه وعدم لزومه لهم ، فقال : { وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِنْدَهُمُ التوراة فِيهَا حُكْمُ الله ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذلك وَمَآ أولئك بالمؤمنين } ثم مدح التوراة التي أنزلها على عبده ورسوله موسى بن عمران فقال : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ } أي لا يخرجون عن حكمها ولا يبدلونها ولا يحرفونها ، { والربانيون والأحبار } أي وكذلك الربانيون منهم وهم العلماء والعبّاد ، والأحبار وهم العلماء { بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله } أي بما استودعوا من كتاب الله الذي أمروا أن يظهروه ويعملوا به { وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ فَلاَ تَخْشَوُاْ الناس واخشون } أي لا تخافوا منهم وخافوا مني { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } فيه قولان سيأتي بيانهما .
( سبب آخر في نزول هذه الآيات الكريمات )
قال أبو جعفر بن جرير ، عن عكرمة عن ابن عباس : إن الآيات التي في المائدة قوله : { فاحكم بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ - إلى المقسطين } إنما أنزلت في الدية في ( بني النضير ) و ( بني قريظة ) ، وذلك أن قتلى بني النضير كان لهم شرف تؤدي الدية كاملة ، وأن قريظة كانوا يؤدى لهم نصف الدية ، فتحاكموا في ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله ذلك فيهم فحملهم رسول الله صلى الله عليه وسلم على الحق في ذلك ، فجعل الدية في ذلك سواء ، والله أعلم أي ذلك كان ، ورواه أحمد وأبو داود والنسائي ، ثم قال ابن جرير ، عن ابن عباس قال : كانت قريظة والنضير ، وكانت النضير أشرف من قريظة ، فكان إذا قتل القريظي رجلاً من النضير قتل به ، وإذا قتل النضيري رجلاً من قريظة ودي بمائة وسق من تمر ، فلما بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل رجل من النضير رجلاً من قريظة فقالوا : ادفعوه إليه ، فقالوا : بيننا وبينكم رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت : { وَإِنْ حَكَمْتَ فاحكم بَيْنَهُمْ بالقسط } ورواه أبو داود والنسائي ، وابن حبان ، والحاكم في المستدرك .
(1/659)
وقد روى العوفي عن ابن عباس : أن هذه الآيات نزلت في اليهوديين اللذين زنيا ، كما تقدمت الأحاديث بذلك . وقد يكون اجتمع هذان السببان في وقت واحد ، فنزلت هذه الآيات في ذلك كله ، والله أعلم . ولهذا قال بعد ذلك : { وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَآ أَنَّ النفس بالنفس والعين بالعين } [ المائدة : 45 ] إلى آخرها ، وهذا يقوي أن سبب النزول قضية القصاص ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
وقوله تعالى : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } قال البراء بن عازب ، وابن عباس ، والحسن البصري ، وغيرهم : نزلت في أهل الكتاب . زاد الحسن البصري : وهي علينا واجبة ، وقال عبد الرزاق عن إبراهيم ، قال : نزلت هذه الآيات في بني إسرائيل ورضي الله لهذه الأمة بها ، وقال السدي : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } يقول : من لم يحكم بما أنزلت فتركه عمداً ، أو جار وهو يعلم ، فهو من الكافرين . وقال ابن عباس قوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } قال : من جحد ما أنزل الله فقد كفر ، ومن أقر به ولم يحكم به فهو ظالم فاسق . رواه ابن جرير ثم اختار أن الآية المراد بها أهل الكتاب ، أو من جحد حكم الله المنزل في الكتاب . وقال ابن جرير عن الشعبي { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } قال : هذا في المسلمين ، { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } [ المائدة : 45 ] قال : هذا في اليهود { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون } [ المائدة : 47 ] قال : هذا في النصارى ، وقال الثوري عن عطاء أنه قال : كفر دون كفر وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق ، وقال وكيع عن طاووس { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } قال : ليس بكفر ينقل عن الملة .
(1/660)
وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَالْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)
وهذا أيضاً مما وبخت به اليهود وقرعوا عليه ، فإن عندهم في نص التوراة أن النفس بالنفس ، وهم يخالفون حكم ذلك عمداً وعناداً ، ويقيدون النضري من القرظي ، ولا يقيدون القرظي من النضري ، بل يعدلون إلى الدية ، كما خالفوا حكم التوارة المنصوص عندهم في رجم الزاني المحصن ، وعدلوا إلى ما اصطلحوا عليه من الجلد والتحميم والإشهار ، ولهذا قال هناك : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الكافرون } [ المائدة : 44 ] لأنهم جحدوا حكم الله قصداً منهم وعناداً وعمداً ، وقال هاهنا { فأولئك هُمُ الظالمون } لأنهم لم ينصفوا المظلوم من الظالم في الأمر الذي أمر الله بالعدل والتسوية بين الجميع فيه ، فخالفوا وظلمو وتعدوا بعضهم على بعض . وقد استدل كثير ممن ذهب من الأصوليين والفقهاء إلى أن شرع من قبلنا شرع لنا ، إذا حكي مقرراً ولم ينسخ كما هو المشهور عند الجمهور ، والحكم عندنا على وفقها في الجنايات عند جميع الأئمة . وقال الحسن البصري : هي عليهم على الناس عامة ، وقد احتج الأئمة كلهم على أن الرجل يقتل بالمرأة بعموم هذه الآية الكريمة ، وكذا ورد في الحديث الذي رواه النسائي وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتب في كتاب عمرو بن حزم : « أن الرجل يقتل بالمرأة » ، وفي الحديث الآخر : « المسلمون تتكافأ دماؤهم » ، وهذا قول جمهور العلماء ، وعن أمير المؤمنين ( علي بن أبي طالب ) أن الرجل إذا قتل المرأة لا يقتل بها إلاّ أن يدفع وليها إلى أوليائه نصف الدية ، لأن ديتها على النصف من دية الرجل ، وإليه ذهب أحمد في رواية ، واحتج أبو حنيفة رحمه الله تعالى بعموم هذه الآية على أنه يقتل المسلم بالكافر الذمي ، وعلى قتل الحر بالعبد ، وقد خالفه الجمهور فيهما . ففي الصحيحين قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يقتل مسلم بكافر » ، وأما العبد ففيه عن السلف آثار متعددة ، أنهم لم يكونوا يقيدون العبد من الحر ، ولا يقتلون حراً بعبد ، وجاء في ذلك أحاديث لا تصح ، وحكى الشافعي الإجماع على خلاف قول الحنفية في ذلك ، ولكن لا يلزم من ذلك بطلان قولهم إلاّ بدليل مخصص للآية الكريمة .
ويؤيد الاحتجاج بهذه الآية الكريمة الحديث الثابت عن أنس بن مالك ، « أن الربيع عمة أنس كسرت ثنية جارية ، فطلبوا إلى القوم العفو ، فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » القصاص « ، فقال أخوها أنس بن النضر : يا رسول الله تكسر ثنية فلانة؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا أنس كتاب الله القصاص « قال ، فقال : لا والذي بعثك بالحق لا تكسر ثنية فلانة ، قال : فرضي القوم ، فعفوا ، وتركوا القصاص . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن من عباد الله من لو أقسم على الله لأبره «
(1/661)
أخرجاه في الصحيحين . وروى أبو داود عن عمران بن حصين : أن غلاماً لأناس فقراء قطع أذن غلام لأناس أغنياء ، فأتى أهله النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا رسول الله إنا أناس فقراء فلم يجعل عليه شيئاً وهو حديث مشكل ، اللهم إلاّ أن يقال : إن الجاني كان قبل البلوغ فلا قصاص عليه ، ولعله تحمل أرش ما نقص من غلام الأغنياء عن الفقراء أو استعفاهم عنه .
وقوله تعالى : { والجروح قِصَاصٌ } قال ابن عباس : تقتل النفس بالنفس ، وتفقأ العين بالعين ، ويقطع الأنف بالأنف ، وتنزع السن بالسن ، وتقتص الجراح بالجراح ، فهذا يستوي فيه أحرار المسلمين فيما بينهم رجالهم ونساؤهم إذا كان عمداً في النفس وما دون النفس ، ويستوي فيه العبيد رجالهم ونساؤهم فيما بينهم إذا كان عمداً في النفس وما دون النفس ، رواه ابن جرير .
( قاعدة مهمة )
الجراح تارة تكون في مفصل ، فيجب فيه القصاص بالإجماع كقطع اليد والرجل والكف والقدم ونحو ذلك؛ وأما إذا لم تكن الجراح في مفصل بل في عظم ، فقال مالك رحمه الله : فيه القصاص إلاّ في الفخذ وشبهها لأنه مخوف خطر . وقال أبو حنيفة وصاحباه : لا يجب القصاص في شيء من العظام إلاّ في السن . وقال الشافعي : لا يجب القاص في شيء من العظام مطلقاً . وهو مروي عن عمر بن الخطاب وابن عباس . وهو المشهور من مذهب أحمد . وقد احتج أبو حنيفة رحمه الله بحديث ( الربيع بنت النضر ) على مذهبه أنه لا قصاص في عظم إلاّ في السن . وحديث الربيع لا حجة فيه لأنه ورد بلفظ كسرت ثنية جارية ، وجائز أن تكون سقطت من غير كسر فيجب القصاص والحالة هذه بالإجماع ، وتمموا الدلالة بما رواه ابن ماجة عن ( جارية بن ظفر الحنفي ) أن رجلاً ضرب رجلاً على ساعده بالسيف من غير المفصل ، فقطعها ، فاستعدى النبي صلى الله عليه وسلم ، فأمر له بالدية ، فقال : يا رسول الله اريد القصاص فقال : خذ الدية بارك الله لك فيها . ولم يقض بالقصاص ، ثم قالوا : لا يجوز أن يقتص من الجراحة حتى تندمل جراحة المجنى عليه ، فإن اقتص منه قبل الاندمال ثم عاد جرحه فلا شيء له . والدليل على ذلك ما رواه الإمام أحمد عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده : « أن رجلاً طعن رجلاً بقرن في ركبته فجاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : أقدني ، فقال : » حتى تبرأ « ، ثم جاء إليه ، فقال : أقدني فأقاده ، فقال : يا رسول الله عرجت ، فقال : » قد نهيتك فعصيتني فأبعدك الله وبطل عرجك « ثم نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يقتص من جرح حتى يبرأ صاحبه »
(1/662)
، تفرد به أحمد .
( مسالة ) : فلو اقتص المجنى عليه من الجاني فمات من القصاص فلا شيء عليه عند مالك والشافعي وأحمد ابن حنبل ، وهو قول الجمهور من الصحابة والتابعين وغيرهم . وقال أبو حنيفة : تجب الدية في مال المقتص . وقال عطاء : تجب الدية على عاقلة المقتص له . وقال ابن مسعود والنخعي : يسقط عن المقتص له قدر تلك الجراحة ، ويجب الباقي في ماله . وقوله تعالى : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } . قال ابن عباس : أي فمن عفا عنه وتصدق عليه فهو كفارة للمطلوب وأجر للطالب . وقال سفيان الثوري : فمن تصدق به فهو كفارة للجارح ، وأجر المجروح على الله عزَّ وجلَّ . ( الوجه الثاني ) : قال ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله في قول الله عزَّ وجلَّ : { فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ } قال : للمجروح . وقال ابن مسعود : يهدم عنه من ذنوبه بقدر ما تصدق به . وروى الإمام أحمد عن أبي السفر قال : كسر رجل من قريش سن رجل من الأنصار فاستعدى عليه معاوية فقال معاوية : إنا سنرضيه فألح الأنصاري ، فقال معاوية : شأنك بصاحبك ، وأبو الدرداء جالس ، فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيتصدق به إلاّ رفعه الله به درجة وحط به عنه خطيئة ، فقال الأنصاري : فإني قد عفوت » ، وهكذا رواه الترمذي . وعن عبادة بن الصامت قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من رجل يجرح من جسده جراحه فيتصدق بها إلاّ كفر الله عنه مثل ما تصدق به » ، رواه النسائي . وقوله : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أنزَلَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } ، قد تقدم عن طاووس وعطاء أنهما قالا : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق .
(1/663)
وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47)
يقول تعالى : { وَقَفَّيْنَا } أي اتبعنا على آثارهم يعني أنبياء بني إسرائيل { بِعَيسَى ابن مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة } أي مؤمناً بها حاكماً بما فيها ، { وَآتَيْنَاهُ الإنجيل فِيهِ هُدًى وَنُورٌ } أي هدى إلى الحق ونور يستضاء به في إزالة الشبهات وحل المشكلات { وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التوراة } أي متبعاً لها غير مخالف لما فيها إلاّ في القليل مما بين لبني إسرائيل بعض ما كانوا يختلفون فيه ، كما قال تعالى إخباراً عن المسيح أنه قال لبني إسرائيل : { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } [ آل عمران : 50 ] ولهذا كان المشهور من قولي العلماء أن الإنجيل نسخ بعض أحكام التوراة .
وقوله تعالى : { وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } أي وجعلنا الإنجيل هدى يهتدى به ، وموعظة أي زاجراً عن ارتكاب المحارم والمآثم للمتقين ، أي لمن اتقى الله وخاف وعيده وعقابه . وقوله تعالى : { وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإنجيل بِمَآ أَنزَلَ الله فِيهِ } قرىء { ولِيَحكُم } أهل الإنجيل بالنصب على أن اللام لام كي أي وآتيناه الإنجيل ليحكم أهل ملته به في زمانهم ، وقرىء { وليحكم } بالجزم على أن اللام لام الأمر ، أي ليؤمنوا بجميع ما فيه وليقيموا ما أمروا به فيه وبما فيه البشارة ببعثة محمد والأمر باتباعه وتصديقه إذا وجد ، كما قال تعالى : { قُلْ ياأهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } [ المائدة : 68 ] الآية ، وقال تعالى : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة } [ الأعراف : 157 ] إلى قوله : { المفلحون } [ الأعراف : 157 ] ولهذا قال هاهنا : { وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَآ أَنزَلَ الله فأولئك هُمُ الفاسقون } أي الخارجون عن طاعة ربهم ، المائلون إلى الباطل ، والتاركون للحق ، وقد تقدم أن هذه الآية نزلت في النصارى وهو ظاهر من السياق .
(1/664)
وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيرًا مِنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)
لما ذكر تعالى التوراة التي أنزلها على موسى كليمه ، ومدحها وأثنى عليها وأمر باتباعها حيث كانت سائغة الاتباع ، وذكر الإنجيل ومدحه وأمر أهله بإقامته واتباع ما فيه كما تقدم بيانه ، شرع في ذكر القرآن العظيم الذي أنزله على عبده ورسوله الكريم ، قال تعالى : { وَأَنزَلْنَآ إِلَيْكَ الكتاب بالحق } أي بالصدق الذي لا ريب فيه أنه من عند الله { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب } أي من الكتب المتقدمة المتضمنة ذكره ومدحه ، وأنه سينزل من عند الله على عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان نزوله كما أخبرت به مما زادها صدقاً عند حامليها من ذوي البصائر ، الذين انقادوا لأمر الله واتبعوا شرائع الله ، وصدقوا رسل الله ، كما قال تعالى : { إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء : 107-108 ] أي إن كان ما وعدنا الله على ألسنة رسله المتقدمة من مجيء محمد عليه السلام لمفعولاً أي لكائناً لا محالة ولا بد . وقوله تعالى : { وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ } قال ابن عباس : أي مؤتمناً عليه ، وعنه أيضاً المهيمن : الأمين ، قال : القرآن أمين على كل كتاب قبله . وقال ابن جريج : القرآن أمين على الكتب المتقدمة قبله ، فما وافقه منها فهو حق ، وما خالفه منها فهو باطل . وعن الوالبي عن ابن عباس { وَمُهَيْمِناً } أي شهيداً ، وكذا قال مجاهد وقتادة والسدي ، وقال العوفي عن ابن عباس { وَمُهَيْمِناً } أي حاكماً على ما قبله من الكتب . وهذه الأقوال كلها متقاربة المعنى فإن اسم المهيمن يتضمن هذا كله ، فهو : أمين ، وشاهد ، وحاكم على كل كتاب قبله ، جعل الله هذا الكتاب العظيم الذي أنزله آخر الكتب وخاتمها أشملها وأعظمها وأكملها ، حيث جمع فيه محاسن ما قبله ، وزاده من الكمالات ما ليس في غيره ، فلهذا جعله شاهداً وأميناً وحاكماً عليها كلها ، وتكفل تعالى بحفظه بنفسه الكريمة ، فقال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذكر وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } [ الحجر : 9 ] .
وقوله تعالى : { فاحكم بَيْنَهُم بِمَآ أَنزَلَ الله } أي فاحكم يا محمد بين الناس بما أنزل الله إليك في هذا الكتاب العظيم ، وبما قرره لك من حكم من كان قبلك من الأنبياء ولم ينسخه في شرعك ، { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } فأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يحكم بينهم بما في كتابنا ، وقوله : { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } أي آراءهم التي اصطلحوا عليها وتركوا بسببها ما أنزل الله على رسله ، ولهذا قال تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ عَمَّا جَآءَكَ مِنَ الحق } أي لا تنصرف عن الحق الذي أمرك الله به إلى أهواء هؤلاء من الجهلة الأشقياء . وقوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } عن ابن عباس : { شِرْعَةً } قال : سبيلاً ، { وَمِنْهَاجاً } قال : وسنة ، وعن ابن عباس أيضاً ومجاهد { شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } : أي سنة وسبيلاً والأول أنسب ، فإن الشرعة وهي الشريعة أيضاً هي ما يبتدأ فيه إلى الشيء ، ومنه يقال شرع في كذا : أي ابتدأ فيه ، وكذا الشريعة وهي ما يشرع فيها إلى الماء ، أما المنهاج فهو الطريق الواضح السهل ، والسنن الطرائق .
(1/665)
فتفسير قوله : { شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } بالسبيل والسنة أظهر في المناسبة من العكس والله أعلم . ثم هذا إخبار عن الأمم المختلفة الأديان باعتبار ما بعث الله به رسله الكرام من الشرائع المختلفة في الأحكام المتفقة في التوحيد ، كما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « نحن معاشر الأنبياء إخوة لعلات ديننا واحد » ، يعني بذلك التوحيد الذي بعث الله به كل رسول أرسله وضمنه كل كتاب أنزله كما قال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] .
وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل : 36 ] الآية ، وأما الشرائع فمختلفة في الأوامر والنواهي ، فقد يكون الشيء في هذه الشريعة حراماً ، ثم يحل في الشريعة الأخرى ، وبالعكس ، وخفيفاً فيزاد في الشدة في هذه دون هذه ، وذلك لما له تعالى في ذلك من الحكمة البالغة ، والحجة الدامغة ، قال قتادة قوله : { شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً } يقول : سبيلاً وسنة ، والسنن مختلفة هي في التوراة شريعة ، وفي الإنجيل شريعة وفي الفرقان شريعة . يحل الله فيها ما يشاء ويحرم ما يشاء ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، والدين الذي لا يقبل الله غيره التوحيد والإخلاص لله الذي جاءت به جميع الرسل عليهم الصلاة والسلام ، { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً } هذا خطاب لجميع الأمم وإخبار عن قدرته تعالى العظيمة التي لو شاء لجمع الناس كلهم على دين واحد وشريعة واحدة لا ينسخ شيء منها . ولكنه تعالى شرّع لكل رسول شريعة على حدة ، ثم نسخها أو بعضها برسالة الآخر الذي بعده ، حتى نسخ الجميع بما بعث به عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم الذي ابتعثه إلى أهل الأرض قاطبة وجعله خاتم الأنبياء كلهم ، ولهذا قال تعالى : { ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم } أي أنه تعالى شرع الشرائع مختلفة ليختبر عباده فيما شرع لهم ويثيبهم أو يعاقبهم على طاعته ومعصيته بما فعلوه أو عزموا عليه من ذلك كله { فِي مَآ آتَاكُم } يعني من الكتاب ، ثم إنه تعالى ندبهم إلى المسارعة إلى الخيرات والمبادرة إليها فقال : { فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ } وهي طاعة الله واتباع شرعه الذي جعله ناسخاً لما قبله والتصديق بكتابة القرآن الذي هو آخر كتاب أنزله ، ثم قال تعالى : { إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } أي معادكم أيها الناس ومصيركم إليه يوم القيامة { فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي فيخبركم بما اختلفتم فيه من الحق فيجزي الصادقين بصدقهم ، ويعذب الكافرين الجاحدين المكذبين بالحق العادلين عنه بلا دليل ولا برهان .
(1/666)
وقوله تعالى : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ } تأكيد لما تقدم من الأمر بذلك والنهي عن خلافه . ثم قال : { واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } أي واحذر أعداءك اليهود أن يدلسوا عليك الحق فيما ينهونه إليك من الأمور ، فلا تغتر بهم فإنهم كذبة كفرة خونة ، { فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي عما تحكم به بينهم من الحق وخالفوا شرع الله { فاعلم أَنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ } ، أي فاعلم أن ذلك كائن عن قدرة الله وحكمته فيهم أن يصرفهم عن الهدى لما لهم من الذنوب السالفة التي اقتضت إضلالهم ونكالهم ، { وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ الناس لَفَاسِقُونَ } أي إن أكثر الناس لخارجون عن طاعة ربهم مخالفون للحق ناكبون عنه ، كما قال تعالى : { وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] وقال تعالى : { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله } [ الأنعام : 116 ] الآية . وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد ، وعبد الله بن صوريا ، وشاس بن قيس ، بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود وأشرافهم وساداتهم ، وإنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا ، وإن بيننا وبين قومنا خصومة ، فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ، ونؤمن لك ونصدقك ، فأبى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله عزَّ وجلَّ فيهم : { وَأَنِ احكم بَيْنَهُمْ بِمَآ أَنزَلَ الله وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَهُمْ واحذرهم أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَآ أَنزَلَ الله إِلَيْكَ } إلى قوله : { لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } . رواه ابن جرير .
وقوله تعالى : { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } ينكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير الناهي عن كل شر ، وعدل إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات التي وضعها الرجل بلا مستند من شريعة الله ، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات ، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم ، فمن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله ، حتى يرجع إلى حكم الله ورسوله ، فلا يحكم سواه في قليل ولا كثير . قال تعالى : { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } أي يبتغون ويريدون ، وعن حكم الله يعدلون { وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ الله حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي ومن أعدل من الله في حكمه ، لمن عقل عن الله شرعه وآمن به وأيقن ، وعلم أن الله أحكم الحاكمين وأرحم بخلقه من الوالدة بولدها ، فإنه تعالى هو العالم بكل شيء ، القادر على كل شيء ، عن الحسن قال : من حكم بغير حكم الله فحكم الجاهلية ، وكان طاووس إذا سأله رجل : أفضل بين ولدي في النحل؟ قرأ : { أَفَحُكْمَ الجاهلية يَبْغُونَ } الآية ، وقال الحافظ الطبراني عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أبغض الناس إلى الله عزَّ وجلَّ من يبتغي في الإسلام سنة الجاهلية ، وطالب دم امرىء بغير حق ليريق دمه » وروى البخاري بإسناده نحوه بزيادة .
(1/667)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَنْ تُصِيبَنَا دَائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلَى مَا أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ (53)
ينهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن موالاة اليهود والنصارى الذين هم أعداء الإسلام وأهله قاتلهم الله ، ثم أخبر أن بعضهم أولياء بعض ، ثم تهدد وتوعد من يتعاطى ذلك ، فقال : { وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } الآية . قال ابن أبي حاتم ، عن سماك بن حرب عن عياض : أن عمر أمر أبا موسى الأشعري أن يرفع إليه ما أخذ وما أعطى في أديم واحد ، وكان له كاتب نصراني ، فرفع إليه ذلك ، فعجب عمر ، وقال : إن هذا لحفيظ ، هل أنت قارىء لنا كتاباً في المسجد جاء من الشام؟ فقال : إنه لا يستطيع ، فقال عمر : أجنب هو؟ قال : لا ، بل نصراني ، قال : فانتهرني وضرب فخذي ، ثم قال : أخرجوه ، ثم قرأ : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ } الآية . وقوله تعالى : { فَتَرَى الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي شك وريب ونفاق يسارعون فيهم أي يبادرون إلى موالاتهم ومودتهم في الباطن والظاهر { يَقُولُونَ نخشى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ } أي يتأولون في مودتهم ، وموالاتهم أنهم يخشون أن يقع أمر من ظفر الكافرين بالمسلمين ، فتكون لهم أياد عند اليهود والنصارى فينفعهم ذلك عند ذلك قال الله تعالى : { فَعَسَى الله أَن يَأْتِيَ بالفتح } يعني فتح مكة ، وقيل : يعني القضاء والفصل { أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ } قال السدي : يعني ضرب الجزية على اليهود والنصارى { فَيُصْبِحُواْ } يعني الذين والوا اليهود والنصارى من المنافقين { على مَآ أَسَرُّواْ في أَنْفُسِهِمْ } من الموالاة { نَادِمِينَ } أي على ما كان منهم مما لم يجد عنهم شيئاً ، ولا دفع عنهم محذوراً ، بل كان عين المفسدة فإنهم فضحوا وأظهر الله أمرهم في الدنيا لعباده المؤمنين ، بعد أن كانوا مستورين لا يدري كيف حالهم ، فلما انعقدت الأسباب الفاضحة لهم تبين أمرهم لعباد الله المؤمنين ، فتعجبوا منهم كيف كانوا يظهرون أنهم من المؤمنين ويحلفون على ذلك ويتأولون ، فبان كذبهم وافتراؤهم ، ولهذا قال تعالى : { وَيَقُولُ الذين آمَنُواْ أهؤلاء الذين أَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ } .
اختلف المفسرون في سبب نزول هذه الآيات الكريمات ، فذكر السدي : أنها نزلت في رجلين قال أحدهما لصاحبه بعد وقعة أحد : أما أنا فإني ذاهب إلى ذلك اليهودي فآوي إليه وأتهوَّد معه ، لعله ينفعني إذا وقع أمر أو حدث حادث ، وقال الآخر : أما أنا فإني ذاهب إلى فلان النصراني بالشام فآوي إليه وأتنصر معه ، فأنزل الله : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ } الآيات . وقال عكرمة : نزلت في ( أبي لبابة بن عبد المنذر ) حين بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بني قريظة فسألوه ماذا هو صانع بنا؟ فأشار بيده إلى حلقه ، أي أنه الذبح . قيل : نزلت في عبد الله بن أبي بن سلول كما قال ابن جرير :
(1/668)
« جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثير عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله ، فقال عبد الله بن أبي : إني رجل أخاف الدوائر لا أبرأ من ولاية موالي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعبد الله بن أبي : » يا أبا الحباب ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو لك دونه « ، قال : قد قبلت » ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ } الآيتين . وقال محمد ابن إسحاق : لما حاربت بنو قينقاع رسول الله صلى الله عليه وسلم تشبث بأمرهم ( عبد الله بن أبي ) وقام دونهم ومشى ( عبادة بن الصامت ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكان أحد بني عوف بن الخزرج له من حلفهم مثل الذي لعبد الله بن أبي ، فجعلهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وتبرأ إلى الله ورسوله من حلفهم ، وقال : يا رسول الله أبرأ إلى الله وإلى رسوله من حلفهم ، وأتولى الله ورسوله والمؤمنين ، وأبرأ من حلف الكفار وولايتهم ، ففيه وفي عبد الله بن أبي نزلت الآيات في المائدة : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ } إلى قوله : { وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون } [ المائدة : 56 ] . وقال الإمام أحمد عن أسامة بن زيد قال : دخلت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم على عبد الله بن أبي نعوده ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « قد كنت أنهاك عن حبّ يهود » ، فقال عبد الله : فقد أبغضهم أسعد بن زرارة فمات ، وكذا رواه أبو داود .
(1/669)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا يَخَافُونَ لَوْمَةَ لَائِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56)
يقول تعالى مخبراً عن قدرته العظيمة : إنه من تولى عن نصرة دينه وإقامة شريعته ، فإن الله سيستبدل به من هو خير لها منه ، وأشد منعة وأقوم سبيلاً كما قال تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] ، وقال تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ } [ النساء : 133 ] ، وقال تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ وَمَا ذلك عَلَى الله بِعَزِيزٍ } [ إبراهيم : 19-20 ] أي بممتنع ولا صعب . وقال تعالى هاهنا : { ياأيها الذين آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ } أي يرجع عن الحق إلى الباطل . قال محمد بن كعب : نزلت في الولاة من قريش ، وقال الحسن البصري : نزلت في أهل الردة أيام أبي بكر . { فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال الحسن : هو والله أبو بكر وأصحابه ، وقال ابن أبي حاتم عن أبي موسى الأشعري قال : لما نزلت { فَسَوْفَ يَأْتِي الله بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هم قوم هذا » ، ورواه ابن جرير بنحوه . وقوله تعالى : { أَذِلَّةٍ عَلَى المؤمنين أَعِزَّةٍ عَلَى الكافرين } هذه صفات المؤمنين الكُمَّل ، أن يكون أحدكم متواضعاً لأخيه ووليه متعززاً على خصمه وعدوه كما قال تعالى : { مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ الله والذين مَعَهُ أَشِدَّآءُ عَلَى الكفار رُحَمَآءُ بَيْنَهُمْ } [ الفتح : 29 ] ، وفي صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه الضحوك القتال ، فهو ضحوك لأوليائه ، قتال لأعدائه . وقوله عزَّ وجل : { يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لائم } أي لا يردهم عما هم فيه من طاعة الله ، وإقامة الحدود ، وقتال أعدائه ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، لا يردهم عن ذلك رادّ ولا يصدهم عنه صاد . قال الإمام أحمد عن عبد الله بن الصامت عن أبي ذر قال : « أمرني خليلي صلى الله عليه وسلم بسبع : أمرني بحب المساكين والدنو منهم ، وأمرني أن أنظر إلى من هو دوني ، ولا أنظر إلى من هو فوقي ، وأمرني أن أصل الرحم وإن أدبرت ، وأمرني أن لا أسال أحداً شيئاً ، وأمرني أن أقول الحق وإن كان مراً ، وأمرني أن لا أخاف في الله لومة لائم ، وأمرني أن أكثر من قول : لا حول ولا قوة إلاّ بالله ، فإنهن من كنز تحت العرش » وقال الإمام أحمد أيضاً عن أبي سعيد الخدري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ألا لا يمنعن أحدكم رهبة الناس أن يقول بحق إذا رآه أو شهده ، فإنه لا يقرّب من أجل ، ولا يباعد من رزق أن يقول بحق أو أن يذكر بعظيم » وقال أحمد عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمراً لله فيه مقال فلا يقول فيه ، فيقال له يوم القيامة : ما منعك أن تكون قلت في كذا وكذا؟ فيقول : مخافة الناس : فيقول : إياي أحق أن تخاف »
(1/670)
، وثبت في الصحيح : « » ما ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه « قالوا : وكيف يذل نفسه يا رسول الله؟ قال : » يتحمل من البلاء ما لا يطيق « ، { ذلك فَضْلُ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } أي من اتصف بهذه الصفات فإنما هو من فضل الله عليه وتوفيقه له ، { والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي واسع الفضل عليم بمن يستحق ذلك ممن يحرمه إياه .
وقوله تعالى : { إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ الله وَرَسُولُهُ والذين آمَنُواْ } أي ليس اليهود بأوليائكم ، بل ولايتكم راجعة إلى الله ورسوله والمؤمنين ، وقوله : { الذين يُقِيمُونَ الصلاة وَيُؤْتُونَ الزكاة } أي المؤمنون المتصفون بهذه الصفات من إقام الصلاة التي هي أكبر أركان الإسلام ، وهي له وحده لا شريك له ، وإيتاء الزكاة التي هي حق المخلوقين ومساعدة للمحتاجين من الضعفاء والمساكين ، وأما قوله : { وَهُمْ رَاكِعُونَ } فقد توهم بعض الناس أن هذه الجملة في موضع الحال من قوله : { وَيُؤْتُونَ الزكاة } أي في حال ركوعهم ، ولو كان هذا كذلك لكان دفع الزكاة في حال الركوع أفضل من غيره لأنه ممدوح ، وليس الأمر كذلك عند أحد من العلماء . قال السدي : نزلت هذه الآية في جميع المؤمنين ولكن عليّ بن أبي طالب مر به سائل وهو راكع في المسجد فأعطاه خاتمه ، وقد تقدم في الأحاديث التي أوردناها أن هذه الآيات نزلت في عبادة بن الصامت رضي الله عنه حين تبرأ من حلف اليهود ، ورضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين ، ولهذا قال تعالى بعد هذا كله : { وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون } كما قال تعالى : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ * لاَّ تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر يُوَآدُّونَ مَنْ حَآدَّ الله وَرَسُولَهُ وَلَوْ كانوا آبَآءَهُمْ أَوْ أَبْنَآءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أولئك كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الإيمان } [ المجادلة : 21-22 ] الآية . فكل من رضي بولاية الله ورسوله والمؤمنين فهو مفلح في الدنيا والآخرة ومنصور في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال تعالى في هذه الآية الكريمة : { وَمَن يَتَوَلَّ الله وَرَسُولَهُ والذين آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ الله هُمُ الغالبون } .
(1/671)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ (58)
هذا تنفير من موالاة أعداء الإسلام الذين يتخذون شرائع الإسلام المطهرة المحكمة ، المشتملة على كل خير دنيوي وأخروي ، يتخذونها هزواً ويستهزئون بها ، ولعباً يعتقدون أنها نوع من اللعب في نظرهم الفاسد ، وفكرهم البارد ، وقوله تعالى : { مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ والكفار } « من » هاهنا لبيان الجنس كقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] ، والمراد بالكفار هاهنا ( المشركون ) ، { واتقوا الله إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ } أي اتقوا الله أن تتخذوا هؤلاء الأعداء لكم ولدينكم أولياء ، أن كنتم مؤمنين بشرع الله الذي اتخذه هؤلاء هزواً ولعباً ، كما قال تعالى : { لاَّ يَتَّخِذِ المؤمنون الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين } [ آل عمران : 28 ] ، وقوله : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً } أي وكذلك إذا أذنتم داعين إلى الصلاة التي هي أفضل الأعمال لمن يعقل ويعلم من ذوي الألباب { اتخذوها } أيضاً { هُزُواً وَلَعِباً ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } معاني عبادة الله وشرائعه ، وهذه صفات اتباع الشيطان الذي إذا سمع الأذان أدبر ، فإذا قضى التأذين أقبل ، فإذا ثوَّب للصلاة أدبر ، فإذى قضى التثويب أقبل ، حتى يخطر بين المرء وقلبه ، فيقول : اذكر كذا ، اذكر كذا ، ما لم يكن يذكر ، حتى يظل الرجل لا يدري كم صلى ، فإذا وجد أحدكم ذلك فليسجد سجدتين قبل السلام . كما هو في الصحيحين ، وقال الزهري : قد ذكر الله التأذين في كتابه فقال : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً ذلك بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ } .
وقال السدي في قوله : { وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصلاة اتخذوها هُزُواً وَلَعِباً } قال : كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي : أشهد أن محمداً رسول الله ، قال : حرق الكذاب ، فدخلت خادمه ليلة من الليالي بنار وهو نائم وأهله نيام فسقطت شرارة ، فأحرقت البيت ، فاحترق هو وأهله . رواه ابن جرير وابن أبي حاتم . وذكر محمد بن إسحاق في السيرة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل الكعبة عام الفتح ومعه بلال ، فأمره أن يؤذن وأبو سفيان بن حرب وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة ، فقال عتاب بن أسيد : لقد أكرم الله أسيداً أن لا يكون سمع هذا فيسمع منه ما يغيظه ، وقال الحارث بن هشام : أما والله لو أعلم أنه محق لاتبعته ، فقال أبو سفيان لا أقول شيئاً لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصى ، فخرج عليه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : » قد علمت الذي قلتم « ، ثم ذكر ذلك لهم فقال الحارث وعتاب : نشهد أنك رسول ، ما اطلع على هذا أحد كان معنا فنقول أخبرك » وقال الإمام أحمد « عن عبد الله بن محيريز وكان يتيماً في حجر أبي محذورة قال : قلت لأبي محذورة يا عم إني خارج إلى الشام ، وأخشى أن أسأل عن تأذينك ، فأخبرني أن أبا محذورة قال له : نعم ، خرجت في نفر وكنا في بعض طريق حنين ، مقفل رسول الله صلى الله عليه وسلم من حنين ، فلقينا رسول الله صلى الله عليه وسلم ببعض الطريق ، فأذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فسمعنا صوت المؤذن ونحن متنكبون ، فصرخنا نحكيه ونستهزىء به ، فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل إلينا إلى أن وقفنا بين يديه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أيكم الذي سمعت صوته قد ارتفع «؟ فأشار القوم كلهم إلي ، وصدقوا ، فأرسل كلهم وحبسني ، وقال : » قم فأذن « . فقمت ولا شيء أكره إلي من رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولا مما يأمرني به ، فقمت بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فألقي عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم التأذين هو بنفسه ، قال : » قل : الله أكبر ، أشهد أن لا إله إلاّ الله ، أشهد أن لا إله إلا الله ، أشهد أن محمداً رسول الله أشهد أن محمداً رسول الله ، حي على الصلاة ، حي على الصلاة ، حي على الفلاح ، حي على الفلاح ، الله أكبر ، الله أكبر ، لا إله إلاّ الله « ، ثم دعاني حين قضيت التأذين ، فأعطاني صرة فيها شيء من فضة ، ثم وضع يده على ناصية أبي محذورة ، ثم أمرَّها على وجهه ، ثم بين ثدييه ، ثم على كبده حتى بلغت يد رسول الله صلى الله عليه وسلم سرة أبي محذورة ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » بارك الله فيك وبارك عليك « ، فقلت : يا رسول الله مرني بالتأذين بمكة ، فقال : » قد أمرتك به « ، وذهب كل شيء كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم من كراهة ، وعاد ذلك كله محبة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقدمت على عتاب بن أسيد عامل رسول الله صلى الله عليه وسلم فأذنت معه بالصلاة عن أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأخبرني ذلك من أدركت من أهلي ممن أدرك ابا محذروة على نحو ما أخبرني عبد الله بن محيريز »
(1/672)
هكذا رواه الإمام أحمد ، وقد أخرجه مسلم في صحيحه وأهل السنن الأربعة .
(1/673)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولَئِكَ شَرٌّ مَكَانًا وَأَضَلُّ عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ (63)
يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء الذين اتخذوا دينكم هزواً ولعباً من أهل الكتاب : { هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّآ إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ } أي هل لكم علينا مطعن أو عيب إلاّ هذا؟ وهذا ليس بعيب ولا مذمة ، فيكون الاستثناء منقطعاً كما في قوله تعالى : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد } [ البروج : 8 ] وكقوله : { وَمَا نقموا إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ الله وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ } [ التوبة : 74 ] . وقوله : { وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ } معطوف على { أَنْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَآ أُنزِلَ مِن قَبْلُ } أي وآمنا بأن أكثركم فاسقون أي خارجون عن الطريق المستقيم .
ثم قال : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله } أي هل أخبركم بشر جزاء عند الله يوم القيامة مما تظنونه بنا؟ وهم أنتم المتصفون بهذه الصفات المفسرة بقوله : { مَن لَّعَنَهُ الله } أي أبعده من رحمته ، { وَغَضِبَ عَلَيْهِ } أي غضباً لا يرضى بعده أبداً ، { وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير } كما تقدم بيانه في سورة البقرة ، وقد قال سفيان الثوري عن ابن مسعود قال : « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي مما مسخ الله؟ فقال : » إن الله لم يهلك قوماً - أو قال لم يمسخ قوماً - فيجعل لهم نسلاً ولا عقباً ، وإن القردة والخنازير كانت قبل ذلك « ، رواه مسلم ، وقال أبو داود الطيالسي عن ابن مسعود قال : » سألنا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القردة والخنازير أهي من نسل اليهود؟ فقال : « لا ، إن الله لم يلعن قوماً قط فيمسخهم فكان لهم نسل ، ولكن هذا خلق كان ، فلما غضب الله على اليهود فمسخهم جعلهم مثلهم » وقوله تعالى : { وَعَبَدَ الطاغوت } قرىء { وعَبَدَ الطاغوتَ } على أنه فعل ماض ، والطاغوت منصوب به ، أي وجعل منهم من عبد الطاغوت ، وقرىء { وعَبَدِ الطاغوت } بالإضافة ، على أن المعنى وجعل منهم خدم الطاغوت أي خدامه وعبيده ، والمعنى يا أهل الكتاب الطاعنين في ديننا الذي هو توحيد الله وإفراده بالعبادات دون ما سواه ، كيف يصدر منكم هذا وأنتم قد وجد منكم جميع ما ذكر؟ ولهذا قال { أولئك شَرٌّ مَّكَاناً } أي مما تظنون بنا { وَأَضَلُّ عَن سَوَآءِ السبيل } وهذا من باب استعمال أفعال التفضيل فيما ليس في الطرف الآخر مشاركة .
وقوله تعالى : { وَإِذَا جَآءُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَقَدْ دَّخَلُواْ بالكفر وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } ، وهذه صفة المنافقين منهم أنهم يصانعون المؤمنين في الظاهر وقلوبهم منطوية على الكفر ، ولهذا قال : { وَقَدْ دَّخَلُواْ } أي عندك يا محمد { بالكفر } أي مستصحبين الكفر في قلوبهم ثم خرجوا وهو كامن فيها لم ينتفعوا بما قد سمعوا منك من العلم ، ولا نجعت فيهم المواعظ ولا الزواجر ، ولهذا قال : { وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ } فخصهم به دون غيرهم ، وقوله تعالى : { والله أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ } أي عالم بسرائرهم وما تنطوي عليه ضمائرهم وإن أظهروا لخلقه خلاف ذلك وتزينوا بما ليس فيهم ، فإن الله عالم الغيب والشهادة أعلم بهم منهم ، وسيجزيهم على ذلك أتم الجزاء .
(1/674)
وقوله : { وترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثم والعدوان وَأَكْلِهِمُ السحت } أي يبادرون إلى ذلك من تعاطي المآثم والمحارم والاعتداء على الناس وأكلهم أموالهم بالباطل { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي لبئس العمل كان عملهم وبئس الاعتداء اعتداؤهم .
وقوله تعالى : { لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الربانيون والأحبار عَن قَوْلِهِمُ الإثم وَأَكْلِهِمُ السحت لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } يعني : هلا كان ينهاهم الربانيون والأحبار منهم عن تعاطي ذلك؟ و { الربانيون } هم العلماء العمال ، أرباب الولايات عليهم . والأحبار هم العلماء فقط { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ } يعني من تركهم ذلك ، قاله ابن عباس . وقال ابن جرير عن ابن عباس قال : ما في القرآن آية أشد توبيخاً من هذه الآية : { لولا ينهاهم الربانيون والأحبار عن قولهم الإثم وأكلهم السحت لبئس ما كانوا يعملون } ، قال : كذا قرأ . وكذا قال الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها إنا لا ننهى . وقال ابن أبي حاتم عن يحيى بن يعمر قال : خطب ( علي بن أبي طالب ) فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : « أيها الناس إنما هلك من كان قبلكم بركوبهم المعاصي ، ولم ينههم الربانيون والأحبار ، فلما تمادوا في المعاصي أخذتهم العقوبات ، فمروا بالمعروف وأنهوا عن المنكر ، قبل أن ينزل بكم مثل الذي نزل بهم ، واعلموا أن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لا يقطع رزقاً ولا يقرب أجلاً » وروى أبو داود عن جرير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من رجل يكون في قوم يعمل فيهم بالمعاصي يقدرون أن يغيروا عليه فلا يغيرون إلاّ أصابهم الله بعقاب قبل أن يموتوا » .
(1/675)
وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَمِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ سَاءَ مَا يَعْمَلُونَ (66)
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله المتتابعة بأنهم وصفوه بأنه بخيل كما وصفوه بأنه فقير ، وهم أغنياء وعبروا عن البخل بأن قالوا : { يَدُ الله مَغْلُولَةٌ } ، قال ابن عباس : { مَغْلُولَةٌ } : أي بخيلة . لا يعنون بذلك أن يد الله موثقة ، ولكن يقولون : بخيل ، يعني أمسك ما عنده بخلاً ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً . وقد قال عكرمة إنها نزلت في ( فنحاص اليهودي ) عليه لعنة الله ، وقد تقدم أنه الذي قال : { إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } [ آل عمران : 181 ] ، فضربه أبو بكر الصديق رضي الله عنه . وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال ، قال رجل من اليهود يقال له شاس بن قيس : إن ربك بخيل لا ينفق ، فأنزل الله : { وَقَالَتِ اليهود يَدُ الله مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } وقد رد الله عزَّ وجلَّ عليهم ما قالوه وقابلهم فيما اختلقوه وافترواه وائتفكوه فقال : { غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ } ، وهكذا وقع لهم ، فإن عندهم من البخل والحسد والجبن والذلة أمر عظيم ، كما قال تعالى : { أَمْ يَحْسُدُونَ الناس على مَآ آتاهم الله مِن فَضْلِهِ } [ النساء : 54 ] ، وقال تعالى : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة } [ آل عمران : 112 ] الآية ، ثم قال تعالى : { بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَآءُ } أي بل هو الواسع الجزيل العطاء الذي ما من شيء إلا عنده خزائنه الذي خلق لنا كل شيء مما نحتاج إليه ، كما قال : { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] والآيات في هذا كثيرة . وقد قال أبو هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن يمين الله ملأى لا يغيضها نفقة سحاء الليل والنهار ، أرأيتم ما أنفق منذ خلق السماوات والأرض ، فإنه لم يغض ما في يمينه - قال - وعرشه على الماء وفي يده الأخرى الفيض - أو القبض - يرفع ويخفض ، وقال : يقول الله تعالى : » أنفق أنفق عليك « أخرجاه في الصحيحين . وقوله تعالى : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } أي يكون ما آتاك الله يا محمد من النعمة نقمة في حق أعدائك من اليهود وأشباههم ، فكما يزداد به المؤمنون تصديقاً وعملاً صالحاً وعلماً نافعاً ، يزداد به الكافرون الحاسدون لك ولأمتك طغياناً وهو المبالغة والمجاوزة للحد في الأشياء { وَكُفْراً } أي تكذيباً كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أولئك يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ } [ فصلت : 44 ] ، وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] ، وقوله تعالى : { وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ العداوة والبغضآء إلى يَوْمِ القيامة } يعني أنه لا تجتمع قلوبهم ، بل العداوة واقعة بين فرقهم بعضهم في بعض دائماً ، لأنهم لا يجتمعون على حق وقد خالفوك وكذبوك .
(1/676)
وقوله تعالى : { كُلَّمَآ أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا الله } أي كلما عقدوا أسباباً يكيدونك بها ، وكلما أبرموا أموراً يحاربونك بها أبطلها الله ورد كيدهم عليهم وحاق مكرهم السيء بهم ، { وَيَسْعَوْنَ فِي الأرض فَسَاداً والله لاَ يُحِبُّ المفسدين } أي من سجيتهم أنهم دائما يسعون في الإفساد في الأرض فساداً ، والله لا يحب من هذه صفته ، ثم قال جلَّ وعلا : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الكتاب آمَنُواْ واتقوا } أي لو أنهم آمنوا بالله ورسوله ، واتقوا ما كانوا يتعاطونه من المآثم والمحارم { لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأَدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النعيم } ، أي لأزلنا عنهم المحذور وأنلناهم المقصود ، { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ } قال ابن عباس : هو القرآن ، { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } ، أي لو أنهم عملوا بما في الكتب التي بأديهم عن الأنبياء ، على ما هي عليه من غير تحريف ولا تبديل ولا تغيير ، لقادهم ذلك إلى اتباع الحق والعمل بمقتضى ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم ، فإن كتبهم ناطقة بتصديقه والأمر باتباعه حتماً لا محالة . وقوله تعالى : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } يعني بذلك كثرة الرزق النازل عليهم من السماء ، والنابت لهم من الأرض ، وقال ابن عباس : { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ } يعني لأرسل السماء عليهم مدراراً ، { وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } يعني يخرج من الأرض بركاتها ، كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } [ الأعراف : 96 ] الآية ، وقال تعالى : { ظَهَرَ الفساد فِي البر والبحر بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي الناس } [ الروم : 41 ] الآية . وقال بعضهم : معناه { لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } يعني من غير كد ولا تعب ولا شقاء ولا عناء .
وقد ذكر ابن أبي حاتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » يوشك أن يرفع العلم « ، فقال زياد بن لبيد يا رسول الله وكيف يرفع العلم وقد قرأنا القرآن وعلمناه أبناءنا فقال : » ثكلتك أمك يا ابن لبيد إن كنت لأراك من أفقه أهل المدينة ، أو ليست التوراة والإنجيل بأيدي اليهود والنصارى فما أغنى عنهم حين تركوا أمر الله « ، ثم قرأ : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل } ، وقوله تعالى : { مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَآءَ مَا يَعْمَلُونَ } كقوله : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] فجعل أعلى مقاماتهم الاقتصاد وهو أوسط مقامات هذه الأمة ، وفوق ذلك رتبة السابقين ، كما في قوله عزَّ وجلَّ : { ثُمَّ أَوْرَثْنَا الكتاب الذين اصطفينا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بالخيرات بِإِذُنِ الله ذَلِكَ هُوَ الفضل الكبير * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا } [ فاطر : 32-33 ] الآية ، والصحيح أن الأقسام الثلاثة من هذه الأمة كلهم يدخلون الجنة .
(1/677)
يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67)
يقول تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم باسم الرسالة ، وآمراً بإبلاغ جميع ما أرسله الله به ، وقد امتثل عليه أفضل الصلاة والسلام ذلك وقام به أتم القيام ، قال البخاري عند تفسير هذه الآية عن عائشة رضي الله عنها قالت : من حدثك أن محمداً كتم شيئاً مما أنزل الله عليه فقد كذب ، وهو يقول : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } الآية ، وفي الصحيحين عنها أيضاً أنها قالت : لو كان محمد صلى الله عليه وسلم كاتماً شيئاً من القرآن لكتم هذه الآية : { وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا الله مُبْدِيهِ وَتَخْشَى الناس والله أَحَقُّ أَن تَخْشَاهُ } [ الأحزاب : 37 ] . وقال ابن أبي حاتم عن هارون بن عنترة عن أبيه قال : كنت عند ابن عباس فجاء رجل فقال له : إن ناساً يأتونا فيخبرونا أن عندكم شيئاً لم يبده رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس ، فقال ابن عباس : ألم تعلم أن الله تعالى قال : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } ، والله ما ورَّثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم سوداء في بيضاء . وهذا إسناد جيد . وفي صحيح البخاري عن وهب بن عبد الله السوائي قال : قلت لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه : هل عندكم شيء من الوحي مما ليس في القرآن؟ فقال : لا ، والذي فلق الحبة وبرأ النسمة إلاّ فهماً يعطيه الله رجلاً في القرآن ، وما في هذه الصحيفة . قلت : وما في هذه الصحيفة؟ قال : العقل ، وفكاك الأسير ، وأن لا يقتل مسلم بكافر .
وقال البخاري ، قال الزهري : من الله الرسالة ، وعلى الرسول البلاغ ، وعلينا التسليم ، وقد شهدت له أمته بإبلاغ الرسالة وأداء الأمانة ، واستنطقهم بذلك في أعظم المحافل في خطبته يوم حجة الوداع ، وقد كان هناك من أصحابه نحو من أربعين ألفاً ، كما ثبت في صحيح مسلم عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته يومئذٍ : « » أيها الناس إنكم مسؤولون عني ، فما أنتم قائلون؟ « قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فجعل يرفع إصبعه إلى السماء وينكسها إليهم ، ويقول : » اللهم هل بلغت «!؟ » .
وقوله تعالى : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } يعني وإن لم تؤد إلى الناس ما أرسلتك به فما بلغت رسالته قال ابن عباس : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } : يعني إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلغ رسالته ، وعن مجاهد قال : لما نزلت : { ياأيها الرسول بَلِّغْ مَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } قال : يا رب كيف أصنع وأنا وحدي يجتمعون علي؟ فنزلت : { وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ } وقوله تعالى : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } أي بلغ أنت رسالتي وأنا حافظك وناصرك ومؤيدك على أعدائك ومظفرك بهم ، فلا تخف ولا تحزن ، فلن يصل أحد منهم إليك بسوء يؤذيك .
(1/678)
وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم قبل نزول هذه الآية يحرس . كما قال الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها كانت تحدث « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سهر ذات ليلة وهي إلى جنبه قالت ، فقلت : ما شأنك يا رسول الله؟ قال : » ليت رجلاً صالحاً من أصحابي يحرسني الليلة « قالت : فبينا أنا على ذلك إذ سمعت صوت السلاح ، فقال : » من هذا «؟ فقال : أنا سعد بن مالك ، فقال : » ما جاء بك «؟ قال : جئت لأحرسك يا رسول الله ، قالت : فسمعت غطيط رسول الله صلى الله عليه وسلم في نومه » ، أخرجاه في الصحيحين . وفي لفظ : سهر رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات ليلة مقدمة المدينة ، يعني على أثر هجرته بعد دخوله بعائشة رضي الله عنها وكان ذلك في سنة ثنتين منها ، وعنها قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرس حتى نزلت هذه الآية : { والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس } قالت فأخرج النبي صلى الله عليه وسلم رأسه من القبة ، وقال : « يا أيها الناس انصرفوا فقد عصمنا الله عزَّ وجلَّ » .
ومن عصمة الله لرسوله حفظه له من أهل مكة وصناديدها وحسادها ومعانديها ومترفيها ، مع شدة العداوة والبغضة ونصب المحاربة له ليلاً ونهاراً ، بما يخلقه الله من الأسباب العظيمة بقدرته وحكمته العظيمة ، فصانه في ابتداء الرسالة بعمه ابي طالب إذ كان رئيساً مطاعاً كبيراً في قريش ، وخلق الله في قلبه محبة طبيعية لرسول الله صلى الله عليه وسلم لا شرعية ، ولو كان أسلم لاجترأ عليه كفارها وكبارها ، ولكن لما كان بينه وبينهم قدر مشترك في الكفر هابوه واحترموه ، فلما مات عمه ( أبو طالب ) نال منه المشركون أذى يسيراً ثم قيض الله له الأنصار فبايعوه على الإسلام ، وعلى أن يتحول إلى دارهم وهي المدينة ، فلما صار إليها منعوه من الأحمر والأسود ، وكلما همَّ أحد من المشركين وأهل الكتاب بسوء كاده الله ورد كيده عليه ، كما كاده اليهود بالسحر ، فحماه الله منهم ، وأنزل عليه سورتي المعوذتين دواء لذلك الداء ، ولما سمّه اليهود في ذراع تلك الشاة بخيبر أعلمه الله به وحماه منه ، ولهذا أشباه كثيرة جداً يطول ذكرها . وقوله : { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } أي بلغ أنت والله هو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، كما قال تعالى : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 272 ] ، وقال : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } [ الرعد : 40 ] .
(1/679)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا فَلَا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالصَّابِئُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (69)
يقول تعالى : قل يا محمد : { ياأهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ } أي من الدين حتى تقيموا التوراة والإنجيل ، أي حتى تؤمنوا بجميع ما بأيديكم من الكتب المنزلة من الله على الأنبياء ، وتعملوا بما فيها ، ومما فيها الإيمان بمحمد والأمر باتباعه صلى الله عليه وسلم والإيمان بمبعثه والاقتداء بشريعته ، ولهذا قال ليث بن أبي سليم عن مجاهد في قوله { وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } : يعني القرآن العظيم ، وقوله : { وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ مَّآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً } تقدم تفسيره ، { فَلاَ تَأْسَ عَلَى القوم الكافرين } : أي فلا تحزن عليهم ولا يهيبنك ذلك منهم ، ثم قال : { إِنَّ الذين آمَنُواْ } وهم المسلمون ، { والذين هَادُواْ } وهم حملة التوراة ، { والصابئون } ، لما طال الفصل حسن العطف بالرفع ، والصابئون طائفة من النصارى والمجوس ، قاله مجاهد ، وعنه : من اليهود والمجوس . وقال قتادة : هم قوم يعبدون الملائكة ويصلون إلى غير القبلة ويقرأون الزبور . وقيل : غير ذلك . وأما النصارى فمعروفون وهم حملة الإنجيل ، والمقصود أن كل فرقة آمنت بالله وباليوم الآخر ، وهو الميعاد والجزاء يوم الدين ، وعملت عملاً صالحاً ، ولا يكون ذلك كذلك حتى يكون موافقاً للشريعة المحمدية بعد إرسال صاحبها المبعوث إلى جميع الثقلين ، فمن اتصف بذلك فلا خوف عليهم فيما يستقبلونه ، ولا على ما تركوا وراء ظهورهم ولا هم يحزنون . وقد تقدم الكلام على نظيرتها في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ها هنا .
(1/680)
لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلًا كُلَّمَا جَاءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقًا كَذَّبُوا وَفَرِيقًا يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَصَمُّوا ثُمَّ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَصَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71)
يذكر تعالى أنه أخذ العهود والمواثيق على بني إسرائيل على السمع والطاعة لله ولرسوله فنقضوا تلك العهود والمواثيق واتبعوا آراءهم وأهواءهم وقدموها على الشرائع فما وافقهم منها قبلوه وما خالفهم ردوه ولهذا قال تعالى : { كُلَّمَا جَآءَهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ * وحسبوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي وحسبوا أن لا يترتب لهم شر على ما صنعوا ، فترتب ، وهو أنهم عموا عن الحق وصموا فلا يسمعون حقاً ولا يهتدون إليه ، ثم تاب الله عليهم أي مما كانوا فيه ، { ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ } أي بعد ذلك ، { كَثِيرٌ مِّنْهُمْ والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي مطلع عليهم وعليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الغواية منهم .
(1/681)
لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلَا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74) مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75)
يقول تعالى حاكماً بتكفير فرق النصارى ممن قال منهم بأن المسيح هو الله ، - تعالى الله عن قولهم وتنزه وتقدس علواً كبيراً - هذا وقد تقدم لهم أن المسيح عبد الله ورسوله ، وكان أول كلمة نطق بها وهو صغير في المهد أن قال : { إِنِّي عَبْدُ الله } [ مريم : 30 ] ، ولم يقل إني أنا الله ولا ابن الله ، بل قال : { إِنِّي عَبْدُ الله آتَانِيَ الكتاب وَجَعَلَنِي نَبِيّاً } [ مريم : 30 ] ، وكذلك قال لهم في حلا كهولته ونبوته آمراً لهم بعبادة الله ربه وربهم وحده لا شريك له ، ولهذا قال تعالى : { وَقَالَ المسيح يابني إِسْرَائِيلَ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بالله } أي فيعبد معه غيره { فَقَدْ حَرَّمَ الله عَلَيهِ الجنة وَمَأْوَاهُ النار } أي فقد أوجب له النار وحرم عليه الجنة ، كما قال تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ، 116 ] وفي الصحيح أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث منادياً ينادي في الناس : « إن الجنة لا يدخلها إلاّ نفس مسلمة » وفي لفظ « مؤمنة » ، ولهذا قال تعالى : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ } أي وما له عند الله ناصر ولا معين ولا منقذ مما هو فيه . وقوله : { لَّقَدْ كَفَرَ الذين قالوا إِنَّ الله ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ } ، الصحيح أنها أنزلت في النصارى خاصة ، قاله مجاهد وغير واحد ، ثم اختلفوا في ذلك ، فقيل : المراد بذلك كفارهم في قولهم بالأقانيم الثلاثة ، وهو أقنوم الأب ، وأقنوم الابن ، وأقنوم الكلمة المنبثقة من الأب إلى الابن ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً . قال ابن جرير وغيره : والطوائف الثلاثة من الملكية واليعقوبية والنسطورية تقول بهذه الأقانيم ، وهم مختلفون فيها اختلافاً متبايناً ، ليس هذا موضع بسطه ، وكل فرقة منهم تكفر الأخرى ، والحق أن الثلاثة كافرة . وقال السدي وغيره : نزلت في جعلهم المسيح وأمه إلهين مع الله ، فجعلوا الله ثالث ثلاثة بهذا الاعتبار ، وهي كقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله قَالَ سُبْحَانَكَ } [ المائدة : 116 ] الآية ، وهذا القول هو الأظهر ، والله أعلم .
قال الله تعالى : { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ إله وَاحِدٌ } أي ليس متعدداً بل هو وحده لا شريك له ، إله جميع الكائنات وسائر الموجودت ، ثم قال تعالى متوعداً لهم ومتهددا : { وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ } أي من هذا الإفتراء والكذب { لَيَمَسَّنَّ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } أي في الآخرة من الأغلال والنكال ، ثم قال : { أَفَلاَ يَتُوبُونَ إلى الله وَيَسْتَغْفِرُونَهُ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ؟ وهذا من كرمه تعالى وجوده ولطفه ورحمته بخلقه مع هذا الذنب العظيم ، وهذا الافتراء والكذب والإفك يدعوهم إلى التوبة والمغفرة ، فكل من تاب إليه تاب عليه .
(1/682)
وقوله تعالى : { مَّا المسيح ابن مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } أي له أسوة أمثاله من سائر المرسلين المتقدمين عليه ، وأنه عبد من عباد الله ورسول من رسله الكرام ، كما قال : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لبني إِسْرَائِيلَ } [ الزخرف : 59 ] ، وقوله : { وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ } أي مؤمنة به مصدقة له ، وهذا أعلى مقاماتها ، فدل على أنها ليست بنبية كما زعمه ابن حزم وغيره ممن ذهب إلى نبوة سارة ( أم إسحاق ) ونبوة ( أم موسى ) ونبوة ( أم عيسى ) استدلالاً منهم بخطاب الملائكة لسارة ومريم ، وبقوله : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ } [ القصص : 7 ] ، وهذا معنى النبوة ، والذي عليه الجمهور أن الله لم يبعث نبياً إلاّ من الرجال ، قال الله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى } [ يوسف : 109 ] ، وقد حكى الشيخ أبو الحسن الأشعري رحمه الله الإجماع على ذلك ، وقوله تعالى : { كَانَا يَأْكُلاَنِ الطعام } أي يحتاجان إلى التغذية به وإلى خروجه منهما ، فهما عبدان كسائر الناس ، وليسا بإلهين كما زعمت فرق النصارى الجهلة عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة . ثم قال تعالى : { انظر كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيات } أي نوضحها ونظهرها ، { ثُمَّ انظر أنى يُؤْفَكُونَ } أي ثم انظر بعد هذا البيان والوضوح والجلاء أين يذهبون ، وبأي قول يتمسكون ، وإلى أي مذهب من الضلال يذهبون؟ .
(1/683)
قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَاللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ (77)
يقول تعالى منكراً على من عبد غيره من الأصنام والأنداد والأوثان ، ومبيناً له أنها لا تستحق شيئاً من الإلهية ، فقال تعالى : { قُلْ } أي يا محمد لهؤلاء العابدين غير الله من سائر فرق بني آدم ودخل في ذلك النصارى وغيرهم { أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } أي لا يقدر على دفع ضر عنكم ولا إيصال نفع إليكم ، { والله هُوَ السميع العليم } أي السميع لأقوال عباده العليم بكل شيء ، فلمَ عدلتم عنه إلى عبادة جماد لا يسمع ولا يبصر ولا يعلم شيئاً ولا يملك ضراً ولا نفعاً لغيره ولا لنفسه؟ ثم قال : { قُلْ ياأهل الكتاب لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الحق } أي لا تجاوزوا الحد في اتباع الحق ، ولا تطروا من أمرتم بتعظيمه ، فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلهية ، كما صنعتم في المسيح وهو نبي من الأنبياء ، فجعلتموه إلهاً من دون الله ، وما ذاك إلاّ لاقتدائكم بشيوخكم شيوخ الضلال الذين هم سلفكم ممن ضل قديماً { وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } أي وخرجوا عن طريق الاستقامة والاعتدال إلى طريق الغواية والضلال .
(1/684)
لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (78) كَانُوا لَا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاءَ وَلَكِنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ فَاسِقُونَ (81)
يخبر تعالى أنه لعن الكافرين من بني إسرائيل من دهر طويل فيما أنزله على داود نبيه عليه السلام ، وعلى لسان عيسى ابن مريم بسبب عصيانهم لله واعتداءهم على خلقه . قال ابن عباس : لعنوا في التوراة والإنجيل وفي الزبور ، وفي الفرقان ، ثم بين حالهم فيما كانوا يعتمدونه في زمانهم ، فقال تعالى : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } أي كان لا ينهى أحد منهم أحداً عن ارتكاب المآثم والمحارم ، ثم ذمهم على ذلك ليحذر أن يركب مثل الذي ارتكبوه فقال : { لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } ، وقال الإمام أحمد عن عبد الله قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما وقعت بنوا إسرائيل في المعاصي نهتهم علماؤهم فلم ينتهوا ، فجالسوهم في مجالسهم ، وواكلوهم وشاربوهم ، فضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ولعنهم على لسان داود وعيسى بن مريم ، { ذلك بِمَا عَصَوْا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } » وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس فقال : « لا والذي نفسي بيده حتى تأطروهم على الحق أطراً » وقال أبو داود عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن أول ما دخل النقص على بني إسرائيل كان الرجل يلقى الرجل فيقول : يا هذا اتق الله ودع ما تصنع ، فإنه لا يحل لك ، ثم يلقاه من الغد فلا يمنعه ذلك أن يكون أكيله وشريبه وقعيده ، فلما فعلوا ذلك ضرب الله قلوب بعضهم ببعض ، ثم قال : { لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } إلى قوله : { فَاسِقُونَ } ، ثم قال : كلا والله لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر ، ولتأخذن على يد الظالم ولتأطرنه على الحق أطراً ، أو تقصرنه على الحق قصراً » .
والأحاديث في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر كثيرة جداً ، ولنذكر منها ما يناسب هذا المقام عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ولتنهون عن المنكر أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم » وعن عائشة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « مروا بالمعروف وانهوا عن المنكر قبل أن تدعوا فلا يستجاب لكم » ، وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من رأى منكم منكراً فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان » ، رواه مسلم ، وقال صلى الله عليه وسلم : « إن الله لا يعذب العامة بعمل الخاصة حتى يروا المنكر بين ظهرانيهم وهم قادرون على أن ينكروه ، فلا ينكرونه ، فإذا فعلوا ذلك عذب الله الخاصة والعامة »
(1/685)
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إذا عملت الخطيئة في الأرض كان من شهدها فكرهها ، كان كمن غاب عنها ، ومن غاب عنها فرضيها ، كان كمن شهدها » وعن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام خطيباً فكان فيما قال : « ألا لا يمنعن رجلاً هيبة الناس أن يقول الحق إذا علمه » ، فبكى أبو سعيد ، وقال : قد والله رأينا أشياء فهبنا وفي الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر » وعن أنس بن مالك قال : قال : قيل : « يا رسول الله متى يترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟ قال : » إذا ظهر فيكم ما ظهر في الأمم قبلكم « ، قلنا يا رسول الله وما ظهر في الأمم قبلنا؟ قال : » الملك في صغاركم ، والفاحشة في كباركم ، والعلم في رذالكم « قال زيد : تفسير معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم والعلم في رذالكم : إذا كان العلم في الفساق . وقوله تعالى : { ترى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الذين كَفَرُواْ } قال مجاهد : يعني بذلك المنافقين . وقوله : { لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ } يعني بذلك موالاتهم للكافرين وتركهم موالاة المؤمنين التي أعقبتهم نفاقاً في قلوبهم وأسخطت الله عليهم سخطاً مستمراً إلى يوم معادهم ، ولهذا قال : { أَن سَخِطَ الله عَلَيْهِمْ } وفسر بذلك ما ذمهم به ثم أخبر عنهم أنهم { وَفِي العذاب هُمْ خَالِدُونَ } يعني يوم القيامة . وقوله تعالى : { وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَآءَ } أي لو آمنوا حق الإيمان بالله والرسول والقرآن لما ارتكبوا من موالاة الكافرين في الباطن ومعاداة المؤمنين بالله والنبي وما أنزل إليه ، { ولكن كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } أي خارجون عن طاعة الله ورسوله مخالفون لآيات وحيه وتنزيله .
(1/686)
لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لَا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللَّهُ بِمَا قَالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86)
قال ابن عباس : نزلت هذه الآيات في النجاشي وأصحابه ، الذين حين تلا عليهم ( جعفر بن أبي طالب ) بالحبشة القرآن بكوا ، حتى أخضلوا لحاهم . وهذا القول فيه نظر ، لأن هذه الآية مدنية ، وقصة جعفر مع النجاشي قبل الهجرة ، وقال سعيد بن جبير والسدي وغيرهما : نزلت في وفد بعثهم النجاشي إلى النبي صلى الله عليه وسلم ليسمعوا كلامه ويروا صفاته ، فلما رأوه وقرأ عليهم القرآن أسلموا وبكوا وخشعوا . ثم رجعوا إلى النجاشي فأخبروه . وقال عطاء بن أبي رباح : هم قوم من أهل الحبشة أسلموا حين قدم عليهم مهاجرة الحبشة من المسلمين ، وقال قتادة : هم قوم كانوا على دين عيسى بن مريم فلما رأوا المسلمين وسمعوا القرآن أسلموا ولم يتلعثموا ، واختار ابن جرير أن هذه الآيات نزلت في صفة أقوام بهذه المثابة سواء كانوا من الحبشة أو غيرها . فقوله تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ } ما ذاك إلاّ لأن كفر اليهود كفر عناد وجحود ، ومباهتة للحق ، وغمط للناس ، وتنقص بحملة العلم ، ولهذا قتلوا كثيراً من الأنبياء ، حتى هموا بقتل رسول الله صلى الله عليه وسلم غير مرة وسمّوه وسحروه ، وألبوا عليه أشباههم من المشركين عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما خلا يهودي بمسلم قط إلاّ هم بقتله » .
وقوله تعالى : { وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى } أي الذين زعموا أنهم نصارى من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة ، وما ذاك إلاّ لما في قلوبهم إذ كانوا على دين المسيح من الرقة والرأفة ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي قُلُوبِ الذين اتبعوه رَأْفَةً وَرَحْمَةً وَرَهْبَانِيَّةً } [ الحديد : 27 ] ، وفي كتابهم : من ضربك على خدك الإيمن فأدر له خدك الأيسر ، وليس القتال مشروعاً في ملتهم ، ولهذا قال تعالى : { ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } أي يوجد فيهم القسيسون ، وهم خطباؤهم وعلماؤهم ، واحدهم قسيس وقس أيضاً ، وقد يجمع على قسوس ، والرهبان جمع راهب وهو العابد ، مشتق من الرهبة وهي الخوف كراكب وركبان وفارس وفرسان . قال ابن جرير : وقد يكون الرهبان واحداً وجملة ، رهابين ، مثل قربان وقرابين ، وقد يجمع على رهابنة ، ومن الدليل على أنه يكون عند العرب واحداً قول الشاعر :
لو عاينت رهبان دير في القلل ... لانحدر الرهبان يمشي ونزل
وقال ابن أبي حاتم عن جاثمة بن رئاب قال : سمعت سلمان ، وسئل عن قوله : { ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً } فقال : هم الرهبان الذين هم في الصوامع والخرب ، فدعوهم فيها ، قال سلمان : وقرأت على النبي صلى الله عليه وسلم : { ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ } ، فأقرأني : « ذلك بأن منهم صدّيقين ورهباناً » .
(1/687)
فقوله : { ذلك بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ } ، تضمن وصفهم بأن فيهم العلم والعبادة والتواضع ، ثم وصفهم بالانقياد للحق واتباعه والإنصاف ، فقال : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق } أي مما عندهم من البشارة ببعثة محمد صلى الله عليه وسلم { يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين } أي مع من يشهد بصحة هذا ويؤمن به ، وقد روى النسائي عن عبد الله بن الزبير قال : نزلت هذه الآية في النجاشي وفي أصحابه : { وَإِذَا سَمِعُواْ مَآ أُنزِلَ إِلَى الرسول ترى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدمع مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الحق يَقُولُونَ رَبَّنَآ آمَنَّا فاكتبنا مَعَ الشاهدين } . عن ابن عباس في قوله : { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } أي مع محمد صلى الله عليه وسلم وأمته ، هم الشاهدون يشهدون لنبيهم صلى الله عليه وسلم أنه قد بلغ وللرسل أنهم قد بلغوا ، وكانوا ( كرّابين ) يعني فلاحين قدموا مع جعفر بن أبي طالب من الحبشة ، فلما قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم عليهم القرآن آمنوا وفاضت أعينهم . قال تعالى : { وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بالله وَمَا جَآءَنَا مِنَ الحق وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ القوم الصالحين } ، وهذا الصنف من النصارى هم المذكورون في قوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خاشعين للَّهِ } [ آل عمران : 199 ] الآية ، وهم الذين قال الله فيهم : { وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } [ القصص : 53 ] ، ولهذا قال تعالى هاهنا : { فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أي فجازاهم على إيمانهم وتصديقهم واعترافهم بالحق ، { جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا } أي ماكثين فيها أبداً لا يحولون ولا يزولون ، { وذلك جَزَآءُ المحسنين } أي في اتباعهم الحق وانقيادهم له حيث كان وأين كان ومع من كان ، ثم أخبر عن حال الإشقياء فقال : { والذين كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } أي جحدوا بها وخالفوها ، { أولئك أَصْحَابُ الجحيم } أي هم أهلها والداخلون فيها .
(1/688)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُحَرِّمُوا طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلَالًا طَيِّبًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88)
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في رهط من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا : نقطع مذاكيرنا ، ونترك شهوات الدنيا ، ونسيح في الأرض كما يفعل الرهبان ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأرسل إليهم فذكر لهم ذلك ، فقالوا : نعم ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لكني أصوم وأفطر ، وأصلي وأنام ، وأنكح النساء ، فمن أخذ بسنتي فهو مني ومن لمن يأخذ بسنتي فليس مني » ، وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أن ناساً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم سألوا أزواج النبي صلى الله عليه وسلم عن عمله في السر ، فقال بعضهم : لا آكل اللحم ، وقال بعضهم : لا أتزوج النساء ، وقال بعضهم : لا أنام على فراش ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « ما بال أقوام يقول أحدهم كذا وكذا ، لكني أصوم وأفطر ، وأنام واقوم وآكل اللحم وأتزوج النساء ، فمن رغب عن سنتي فليس مني » وعن ابن عباس : أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني إذا أكلت من هذا اللحم انتشرت للنساء ، وإني حرمت عليَّ اللحم ، فنزلت : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } ، وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن مسعود قال : كنا نغزو مع النبي صلى الله عليه وسلم ، وليس معنا نساء فقلنا : ألا نستخصي ، فنهانا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك ، ورخص لنا أن ننكح المرأة بالثوب إلى أجل ، ثم قرأ عبد الله : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } الآية ، وهذا كان قبل تحريم نكاح المتعة ، والله أعلم . وعن مسروق قال : كنا عند عبد الله بن مسعود فجيء بضرع فتنحّى رجل ، فقال له عبد الله : أدن . فقال : إني حرمت أن آكله ، فقال عبد الله : ادن فأطعم وكفر عن يمينك ، وتلا هذه الآية : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } الآية .
وقد ذهب بعض العلماء كالشافعي وغيره إلى أن من حرم مأكلاً أو ملبساً أو شيئاً ما عدا النساء أنه لا يحرم عليه ولا كفارة عليه أيضاً لقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } ، ولأن الذي حرّم اللحم على نفسه لم يأمره النبي صلى الله عليه وسلم بكفارة ، وذهب آخرون منهم الإمام ( أحمد بن حنبل ) إلى أن من حرّم مأكلاً أو مشرباً أو ملبساً أو شيئاً من الأشياء فإنه يجب عليه بذلك كفارة يمين كما إذا التزم تركه باليمين ، فكذلك يؤاخذ بمجرد تحريمه على نفسه إلزاماً له بما التزمه كما أفتى بذلك ابن عباس ، وكما في قوله تعالى :
(1/689)
{ ياأيها النبي لِمَ تُحَرِّمُ مَآ أَحَلَّ الله لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ التحريم : 1 ] ثم قال : { قَدْ فَرَضَ الله لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ } [ التحريم : 2 ] الآية . وكذلك ها هنا لما ذكر هذا الحكم عقبة بالآية المبينة لتكفير اليمين ، فدل على أن هذا منزل منزلة اليمين في اقتضاء التكفير ، والله أعلم . وقال ابن جرير : أراد رجالا منهم عثمان بن مظعون وعبد الله بن عمرو أن يتبتلوا ويخصوا أنفسهم ويلبسوا المسوح ، فنزلت هذه الآية . وقال ابن جريج عن عكرمة : إن عثمان بن مظعون ، وعلي بن أي طالب ، وابن مسعود ، والمقداد بن الأسود ، وسالماً مولى أبي حذيفة في أصحابه تبتلوا ، فجلسوا في البيوت ، واعتزلوا النساء ، ولبسوا المسوح ، وحرموا طيبات الطعام واللباس إلاّ ما يأكل ويلبس أهل السياحة من بني إسرائيل ، وهموا بالاختصاء ، وأجمعوا لقيام الليل وصيام النهار ، فنزلت هذه الآية : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } ، يقول : لا تسيروا بغير سنّة المسلمين ، يريد ما حرموا من النساء والطعام واللباس وما أجمعوا له من قيام الليل وصيام النهار وما هموا به من الاختصاء ، فلما نزلت فيهم ، بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « إن لأنفسكم حقاً ، وإن لأعينكم حقاً ، صوموا وأفطروا ، وصلوا وناموا ، فليس منا من ترك سنتنا » فقالوا : اللهم سلمنا واتبعنا ما أنزلت .
وقوله تعالى : { وَلاَ تعتدوا } يحتمل أن يكون المراد منه : لا تبالغوا في التضييق على أنفسكم بتحريم المباحات عليكم كما قاله من قاله من السلف ، ويحتمل أن يكون المراد كما لا تحرموا الحلال فلا تعتدوا في تناول الحلال ، بل خذوا منه بقدر كفايتكم وحاجتكم ولا تجاوزوا الحد فيه ، كما قال تعالى : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } [ الأعراف : 21 ] وقال : { والذين إِذَآ أَنفَقُواْ لَمْ يُسْرِفُواْ وَلَمْ يَقْتُرُواْ وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً } [ الفرقان : 67 ] فشرع الله عدل بين الغالي فيه والجافي عنه ، لا إفراط ولا تفريط . ولهذا قال : { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } ثم قال : { وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله حَلاَلاً طَيِّباً } أي في حال كونه حلالاً طيباً ، { واتقوا الله } أي في جميع أموركم واتبعوا طاعته ورضوانه واتركوا مخالفته وعصيانه { الذي أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ } .
(1/690)
لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا عَقَّدْتُمُ الْأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُوا أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)
قد تقدم الكلام على اللغو في اليمين في سورة البقرة بما أغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد والمنة؛ وأنه قول الرجل في الكلام من غير قصد ( لا والله ، وبلى والله ) . وهذا مذهب الشافعي ، وقيل : هو في الهزل ، وقيل : في المعصية ، وقيل : على غلبة الظن ، وهو قول أبي حنيفة وأحمد ، وقيل : في اليمين في الغضب ، وقيل : في النسيان ، وقيل : هو الحلف على ترك المأكل والمشرب والملبس ونحو ذلك ، واستدلوا بقوله : { لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَآ أَحَلَّ الله لَكُمْ } ، والصحيح أنه اليمين من غير قصد بدليل قوله : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } أي بما صممتم عليه منها وقصدتموها { فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ } يعني محاويج من الفقراء ومن لا يجد ما يكفيه . وقوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال ابن عباس : أي من أعدل ما تطعمون أهليكم ، وقال عطاء : من أمثل ما تطعمون أهليكم . وقد كان الرجل يقوت بعض أهله قوت دون ، وبعضهم قوتاً فيه سعة ، فقال الله تعالى : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } أي من الخبز والزيت . عن ابن عمر في قوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } قال : الخبز والسمن ، والخبز واللبن ، والخبز والزيت ، والخبز والتمر . ومن أفضل ما تطعمون أهليكم : الخبز واللحم . واختار ابن جرير أن المراد بقوله : { مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ } ، أي في القلة والكثرة ، ثم اختلف العلماء في مقدار ما يطعمهم ، فقال علي : يغديهم ويعشيهم ، وقال الحسن ومحمد بن سيرين : يكفيه أن يطعم عشرة مساكين أكلةً واحدة خبزاً ولحماً فإن لم يجد ، فخبزاً وسمناً ولبناً ، فإن لم يجد فخبزاً وزيتاً وخلاً حتى يشبعوا . وقال آخرون : يطعم كل واحد من العشرة نصف صاع من بر أو تمر ونحوهما . وقال أبو حنيفة : نصف صاع بر وصاع مما عداه ، لما روي عن ابن عباس قال : كفّر رسول الله صلى الله عليه وسلم بصاع من تمر وأمر الناس به ومن لم يجد فنصف صاع من بر؛ وقال الشافعي : الواجب في كفارة اليمين مد بمد النبي صلى الله عليه وسلم لكل مسكين ولم يتعرض للأدم ، واحتج بأمر النبي صلى الله عليه وسلم للذي جامع في رمضان بأن يطعم ستين مسكيناً من مكتل يسع خمسة عشر صاعاً لكل واحد منهم ، وقال أحمد : مد من بر أو مدان من غيره والله أعلم .
وقوله تعالى : { أَوْ كِسْوَتُهُمْ } قال الشافعي رحمه الله : لو دفع إلى كل واحد من العشرة ما يصدق عليه اسم الكسوة من قميص أو سراويل أو إزار أو عمامة أو مقنعة أجزأه ذلك ، وقال مالك وأحمد بن حنبل : لا بد أن يدفع إلى كل واحد منهم من الكسوة ما يصح أن يصلي فيه إن كان رجلاً أو امرأة كل بحسبه والله أعلم ، وقال الحسن : ثوب ثوب ، وقال الثوري : عمامة يلف بها رأسه وعباءة يلتحف بها .
(1/691)
وقوله : { أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ } أخذ أبو حنيفة بإطلاقها فقال : تجزىء الكافرة كما تجزىء المؤمنة ، وقال الشافعي وآخرون : لا بد أن تكون مؤمنة ، وأخذ تقييدها بالإيمان من كفارة القتل لاتحاد الموجب ، وإن اختلف السبب ، ومن حديث معاوية بن الحكم السلمي أنه ذكر أن عليه عتق رقبة وجاء معه بجارية سوداء ، فقال لها رسول الله : « » أين الله؟ « قالت : في السماء ، قال : » من أنا « قالت : رسول الله ، قال : » أعتقها فإنها مؤمنة « الحديث بطوله ، فهذه خصال ثلاث في كفارة اليمنين أيها فعل الحانث أجزأ عنه بالإجماع ، وقد بدأ بالأسهل فالأسهل ، فالإطعام أسهل ، وأيسر من الكسوة ، كما أن الكسوة أيسر من العتق ، فيرقى فيها من الأدنى إلى الأعلى ، فإن لم يقدر الملكف على واحدة من هذه الخصال الثلاث كفّر بصيام ثلاثة أيام ، كما قال تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } ، وروى ابن جرير عن سعيد بن جبير والحسن البصري أنهما قالا : من وجد ثلاثة دراهم لزمه الإطعام وإلاّ صام ، واختلف العلماء هل يجب فيها التتابع أو يستحب ويجزىء التفريق؟ قولان : أحدهما لا يجب ، ولهذا منصوص الشافعي في كتاب الأيمان ، وهو قول مالك لإطلاف قوله : { فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ } ، وهو صادق على المجموعة والمفرقة كما في قضاء رمضان لقوله : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } [ البقرة : 184 ، 185 ] ونص الشافعي في موضع آخر في » الأم « على وجوب التتابع كما هو قول الحنفية والحنابلة ، لأنه قد روي عن أبي بن كعب وغيره أنهم كانوا يقرأونها : ( فصيام ثلاثة أيام متتابعات ) . وهذه إذا لم يثبت كونها قرآناً متواتراً فلا أقل أن يكون خبر واحد ، أو تفسيراً من الصحابة ، وهو في حكم المرفوع . وقوله : { ذلك كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ } أي هذه كفارة اليمين الشرعية { واحفظوا أَيْمَانَكُمْ } قال ابن جرير : لا تتركوها بغير تكفير ، { كذلك يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ } أي يوضحها ويفسرها { لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } .
(1/692)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)
يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الخمر والميسر وهو القمار ، وقد ورد عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه أنه قال : الشطرنج من الميسر ، رواه ابن أبي حاتم ، قال مجاهد وعطاء : كل شيء من القمار فهو من الميسر ، حتى لعب الصبيان بالجوز . وروي عن راشد بن سعد وضمرة بن حبيب مثله ، وقالا : حتى الكعاب والجوز والبيض التي تلعب بها الصبيان ، وقال ابن عمر وابن عباس : الميسر هو القمار ، كانوا يتقامرون في الجاهلية إلى مجيء الإسلام ، فنهاهم الله عن هذه الأخلاق القبيحة . وقال مالك : كان ميسر أهل الجاهلية بيع اللحم بالشاة والشاتين وقال الزهري : الميسر الضرب بالقداح على الأموال والثمار . وقال القاسم بن محمد : كل ما ألهى عن ذكر الله وعن الصلاة فهو من الميسر ، وكأن المراد بهذا هو النرد الذي ورد الحديث به في صحيح مسلم . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من لعب بالنردشير فكأنما صبغ يده في لحم خنزير ودمه » ، وفي موطأ مالك عن أبي موسى الأشعري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من لعب النرد فقد عصى الله ورسوله » ، وأما الشطرنج فقد قال عبد الله بن عمر : إنه شر من النرد ، وتقدم عن علي أنه قال : هو من الميسر ، ونص على تحريمه مالك وأبو حنيفة وأحمد ، وكرهه الشافعي رحمهم الله تعالى ، وأما الأنصاب فقال ابن عباس ومجاهد : هي حجارة كانوا يذبحون قرابينهم عندها ، وأما الأزلام فقالوا أيضاً : هي قداح كانوا يستقسمون بها ، وقوله تعالى : { رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان } ، قال ابن عباس : أي سخط من عمل الشيطان ، وقال سعيد بن جبير : إثم ، وقال زيد بن أسلم : أي شر من عمل الشيطان ، { فاجتنبوه } الضمير عائد على الرجس أي اتركوه ، { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وهذا ترغيب ، ثم قال تعالى : { إِنَّمَا يُرِيدُ الشيطان أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ العداوة والبغضآء فِي الخمر والميسر وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ الله وَعَنِ الصلاة فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } وهذا تهديد وترهيب .
( ذكر الأحاديث الواردة في بيان تحريم الخمر )
قال الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : حرمت الخمر ثلاث مرات : قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ } [ البقرة : 219 ] إلى آخر الآية ، فقال الناس ما حرما علينا ، إنما قال : { فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ ومنافع لِلنَّاسِ } [ البقرة : 219 ] وكانوا يشربون الخمر حتى كان يوماً من الأيام صلى رجل من المهاجرين ، أم أصحابه في المغرب ، فخلط في قراءته ، فأنزل الله آية أغلظ منها : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ } ، فكان الناس يشربون حتى يأتي أحدهم الصلاة وهو مغبق ، ثم أنزلت آية أغلظ منها : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } قالوا : انتهينا ربنا ، وقال الناس : يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على سرفهم ، كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، وقد جعله الله رجساً من عمل الشيطان فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا } إلى آخر الآية ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم :
(1/693)
« لو حرم عليهم لتركوه كما تركتم » ، وقال الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب أنه قال : لما نزل تحريم الخمر قال : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت الآية في البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } [ الآية : 219 ] ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت الآية التي في سورة النساء : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاوة وَأَنْتُمْ سكارى } [ الآية : 43 ] ، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قال : حي على الصلاة نادى : لا يقربن الصلاة سكران . فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فلما بلغ قول الله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } قال عمر : انتهينا انتهينا . وقد ثبت في الصحيحين عن عمر بن الخطاب أنه قال في خطبته على منبر رسول الله : أيها الناس إنه نزل تحريم الخمر ، وهي من خمسة : العنب ، والتمر ، والعسل ، والحنطة ، والشعير . والخمر ما خامر العقل . وقال البخاري عن ابن عمر قال : نزل تحريم الخمر وإن بالمدينة يومئذ لخمسة أشربه ما فيها شراب العنب .
( حديث آخر ) : عن عبد الرحمن بن وعلة قال : « سألت ابن عباس عن بيع الخمر؟ فقال : كان لرسول الله صلى الله عليه وسلم صديق من ثقيف أو من دوس ، فلقيه يوم الفتح براوية خمر يهديها إليه . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا فلان أما علمت أن الله حرمها « فأقبل الرجل على غلامه فقال : اذهب فبعها . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا فلان بماذا أمرته «؟ فقال : أمرته أن يبيعها . قال : » إن الذي حرم شربها حرم بيعها « فأمر بها فأفرغت في البطحاء » .
( حديث آخر ) قال الحافظ أبو يعلى الموصلي عن تميم الداري : « أنه كان يهدى لرسول الله صلى الله عليه وسلم كل عام راوية من خمر فلما أنزل الله تحريم الخمر جاء بها ، فلما رآها رسول الله صلى الله عليه وسلم ضحك وقال : » إنها قد حرمت بعدك « قال : يا رسول الله فأبيعها وأنتفع بثمنها؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لعن الله اليهود حرمت عليهم شحوم البقر والغنم فأذابوه وباعوه والله حرم الخمر وثمنها « » .
(1/694)
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن نافع بن كيسان : « أن أباه أخبره أنه كان يتجر في الخمر في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه أقبل من الشام ومعه خمر في الزقاق ، يريد بها التجارة ، فأتى بها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني جئتك بشراب طيب ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا كيسان إنها قد حرمت بعدك « ، قال : فأبيعها يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنها قد حرمت وحرم ثمنها « فانطلق كيسان إلى الزقاق فأخذ بأرجلها ثم أهراقها » .
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن أنس . قال : كنت أسقي أبا عبيدة بن الجراح وأبي بن كعب وسهيل بن بيضاء ونفراً من أصحابه عند أبي طلحة ، حتى كاد الشراب يأخذ منهم ، فأتى آت من المسلمين فقال : أما شعرتم أن الخمر قد حرمت؟ فقالوا : حتى ننظر ، ونسأل ، فقالوا : يا أنس اسكب ما بقي في إنائك فوالله ما عادوا فيها ، وما هي إلاّ التمر والبسر وهي خمرهم يومئذ . وفي رواية عن أنس قال : كنت ساقي القوم يوم حرمت الخمر في بيت أبي طلحة وما شرابهم إلى الفضيخ البسر والتمر ، فإذا مناد ينادي قال : اخرج فانظر ، فإذا مناد ينادي : ألا إن الخمر قد حرمت ، فجريت في سكك المدينة ، قال : فقال لي أبو طلحة : أخرج فأهرقها فهرقتها ، فقالوا : أو قال بعضهم قتل فلان وفلان وهي في بطونهم ، قال : فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا } الآية . وعنه قال : بينما أنا أدير الكأس على أبي طلحة وأبي عبيدة بن الجراح وأبي دجانة ومعاذ بن جبل وسهيل ابن بيضاء حتى مالت رؤوسهم من خليط بسر وتمر ، فسمعت منادياً ينادي : ألا إن الخمر حرمت ، قال : فما دخل علينا داخل ولا خرج منا خارج حتى أهرقنا الشراب ، وكسرنا القلال ، وتوضأ بعضنا ، واغتسل بعضنا ، وأصبنا من طيب أم سليم ، ثم خرجنا إلى المسجد ، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه } ، إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } فقال رجل : يا رسول الله فما ترى فيمن مات وهو يشربها؟ فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا } الآية ، فقال رجل لقتادة : أنت سمعته من أنس بن مالك؟ قال : نعم ، وقال رجل لأنس بن مالك أنت سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : نعم .
(1/695)
ما كنا نكذب ولا ندري ما الكذب .
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله حرم الخمر والميسر والكوبة والغبيراء وكل مسكر حرام » ، وعن أبي طعمة سمعت ابن عمر يقول : « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المربد ، فخرجت معه فكنت عن يمنيه ، وأقبل أبو بكر فتأخرت عنه فكان عن يمينه؟ وكنت عن يساره ، ثم أقبل عمر فتنحيت له فكان عن يساره ، فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم المربد ، فإذا بزقاق على المربد فيها خمر ، قال ابن عمر : فدعاني رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدية ، قال ابن عمر : وما عرفت المدية إلاّ يومئذٍ ، فأمر بالزقاق فشقت ، ثم قال : » لعنت الخمر وشاربها وساقيها وبائعها ومبتاعها وحاملها والمحمولة إليه وعاصرها ومعتصرها وآكل ثمنها « » .
( حديث آخر ) عن مصعب بن سعد عن سعد قال : أنزلت في الخمر أربع آيات ، فذكر الحديث ، قال : وضع رجل من الأنصار طعاماً فدعانها فشربنا الخمر ، قبل أن تحرم حتى انتشينا فتفاخرنا ، فقالت الأنصار : نحن أفضل ، وقالت قريش : نحن أفضل ، فأخذ رجل من الأنصار لحي جزور ، فضرب به أنف سعد ففزره ، وكانت أنف سعد مفزورة ، فنزلت : { إِنَّمَا الخمر والميسر } ، إلى قوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } . ( حديث آخر ) : عن ابن عباس قال : إنما نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار شربوا ، فلما أن ثمل القوم عبث بعضهم ببعض ، فلما أن صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ورأسه ولحيته ، فيقول : صنع بي هذا أخي فلان ، وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن ، فيقول : والله لو كان بي رؤوفاً رحيماً ما صنع بي هذا ، حتى وقعت الضغائن في قلوبهم ، فأنزل الله تعالى هذه الآية : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان } إلى قوله تعالى : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } فقال أناس من المتكلفين : هي رجس وهي في بطن فلان ، وقد قتل يوم أحد ، فأنزل الله تعالى : { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا } إلى آخر الآية ( حديث آخر ) : قال ابن جرير عن أبي بريدة عن أبيه قال : بينما نحن قعود على شراب لنا ، ونحن على رملة ، ونحن ثلاثة أو أربعة وعندنا باطية لنا ونحن نشرب الخمر حلاً ، إذ قمت حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فأسلم عليه ، إذ نزل تحريم الخمر : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر } إلى آخر الآيتين { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } ، فجئت إلى أصحابي ، فقرأتها عليهم ، إلى قوله : { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } قال : وبعض القوم شربته في يده قد شرب بعضها ، وبقي بعض في الإناء تحت شفته العليا كما يفعل الحجام ثم صبوا ما في باطيتهم ، فقالوا : انتهينا ربنا .
(1/696)
( حديث آخر ) قال البخاري عن جابر قال : صبّح أناس غداة أُحُد فقتلوا من يومهم جميعاً شهداء ، وذلك قبل تحريمها .
( حديث آخر ) : قال أبو داود الطيالسي عن البراء بن عازب قال : لما نزل تحريم الخمر قالوا : كيف بمن كان يشربها قبل أن تحرم؟ فنزلت { لَيْسَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات جُنَاحٌ فِيمَا طعموا } الآية . ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن أنس بن مالك : « أن أبا طلحة سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أيتام في حجره ورثوا خمراً ، فقال : » أهرقها « قال : أفلا نجعلها خلاً؟ قال : » لا « » .
( حديث آخر ) : عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من شرب الخمر في الدنيا ثم لم يتب منها حرمها في الآخرة » وعن نافع عن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل مسكر حرام ، ومن شرب الخمر فمات وهو يدمنها ولم يتب منها لم يشربها في الآخرة » ( حديث آخر ) : عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يدخل الجنة منّان ، ولا عاق ، ولا مدمن خمر » وقال الزهري عن عثمان بن عفان قال : « اجتنبوا الخمر فإنها أم الخبائث ، إنه كان رجل فيمن خلا قبلكم يتعبد ويعتزل الناس فعلقته امرأة غوية ، فأرسلت إليه جاريتها أن تدعوه لشهادة فدخل معها ، فطفقت كلما دخل باباً أغلقته دونه ، حتى أفضى إلى امرأة وضيئة عندها غلام وباطية خمر ، فقالت : إني والله ما دعوتك لشهادة ، ولكن دعوتك لتقع علي ، أو تقتل هذا الغلام ، أو تشرب هذا الخمر . فسقته كأساً فقال : زيدوني ، فلم يرم حتى وقع عليها ، وقتل النفس . فاجتنبوا الخمر ، فإنها لا تجتمع هي والإيمان أبداً إلاّ أوشك أحدهما أن يخرج صاحبه » . وله شاهد في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن ، ولا يسرق سرقة حين يسرقها وهو مؤمن ، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن » قال الإمام أحمد عن أسماء بنت يزيد أنها سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « » من شرب الخمر لم يرض الله عنه أربعين ليلة إن مات؛ مات كافراً ، وإن تاب تاب الله عليه ، وإن عاد كان حقاً على الله أن يسقيه من طينة الخبال « ، قالت ، قلت : يا رسول الله! وما طينة الخبال؟ قال : » صديد أهل النار « » .
(1/697)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْيًا بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَوْ عَدْلُ ذَلِكَ صِيَامًا لِيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95)
قال ابن عباس في قوله : { لَيَبْلُوَنَّكُمُ الله بِشَيْءٍ مِّنَ الصيد تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ } قال : هو الضعيف من الصيد وصغيره . يبتلي الله به عباده في إحرامهم حتى لو شاءوا لتناولوه بأيديهم فنهاهم الله أن يقربوه ، وقال مجاهد : { تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ } يعني صغار الصيد وفراخه . { وَرِمَاحُكُمْ } يعني كباره ، وقال مقاتل بن حيان : أنزل هذه الآية في عمرة الحديبية ، فكانت الوحش والطير والصيد تغشاهم في رحالهم لم يروا مثله قط فيما حلا ، فنهاهم الله عن قتله وهم محرمون ، { لِيَعْلَمَ الله مَن يَخَافُهُ بالغيب } يعني أنه تعالى يبتليهم بالصيد يغشاهم في رحالهم يتمكنون من أخذه بالأيدي والرماح سراً وجهراً ، لتظهر طاعة من يطيع منهم في سره أو جهره ، كما قال تعالى : { إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ } [ الملك : 12 ] وقوله ها هنا : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك } ، قال السدي وغيره : يعني بعد هذا الإعلام والإنذار والتقدم { فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، أي لمخالفته أمر الله وشرعه ، ثم قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصيد وَأَنْتُمْ حُرُمٌ } ، وهذا تحريم منه تعالى لقتل الصيد في حال الإحرام ونهي عن تعاطيه فيه ، وهذا إنما يتناول من حيث المعنى المأكول ، ولو ما تولد منه ومن غيره ، فأما غير المأكول من حيوانات البر ، فعند الشافعي يجوز للمحرم قتلها ، والجمهور على تحريم قتلها أيضاً ، ولا يستثنى من ذلك إلاّ ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أم المؤمنين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغراب والحدأة والعقرب والفأرة والكلب العقور » وقال مالك عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « خمس من الدواب ليس على المحرم في قتلهن جناح : الغراب والحدأة والفأرة والكلب العقور » قال أيوب : فقلت لنافع فالحية؟ قال : الحية لا شك فيها ولا يختلف في قتلها ، ومن العلماء كمالك وأحمد من ألحق بالكلب العقور « الذئب والسبع والفهد » لأنها أشد ضرراً منه . فالله أعلم . وقال زيد بن أسلم : الكلب العقور يشمل هذه السباع العادية كلها ، واستأنس من قال بهذا بما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دعا على عتبة بن أبي لهب قال : « اللهم سلط عليه كلبك بالشام ، فأكله السبع بالزرقاء » .
وقوله تعالى : { وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } . الذي عليه الجمهور أن العامد والناسي سواء في وجوب الجزاء عليه ، وقال الزهري : دل الكتاب على العامد وجرت السنّة على الناسي ، ومعنى هذا أن القرآن دل على وجوب الجزاء على المتعمد وعلى تأثيمه بقوله : { لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا الله عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } وجاءت السنّة من أحكام النبي صلى الله عليه وسلم وأحكام أصحابه بوجوب الجزاء في الخطأ كما دل الكتاب عليه في العمد ، وأيضاً فإن قتل الصيد إتلاف والإتلاف مضمون في العمد وفي النسيان ، لكن المتعمد مأثوم والمخطىء غير ملوم ، وقوله تعالى : { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } قرأ بعضهم بالإضافة ، وقرأ آخرون بعطفها ، وحكى ابن جرير أن ابن مسعود قرأ : ( فجزاؤه مثلُ ما قتل من النعم ) ، وفي قوله : { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم } على كل من القراءتين دليل لما ذهب إليه الجمهور من وجوب الجزاء من مثل ما قتله المحرم إذا كان له مثل من الحيوان الإنسي ، خلافاً لأبي حنيفة رحمه الله حيث أوجب القيمة سواء كان الصيد المقتول مثلياً أو غير مثلي .
(1/698)
وقوله تعالى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } يعني أنه يحكم بالجزاء في المثل أو بالقيمة من غير المثل عدلان من المسلمين ، واختلف العلماء في القاتل هل يجوز أن يكون أحد الحكمين على قولين ( أحدهما ) : لا ، لأنه قد يتهم في حكمه على نفسه وهذا مذهب مالك ، ( والثاني ) : نعم لعموم الآية وهو مذهب الشافعي وأحمد ، قال ابن أبي حاتم عن ميمون بن مهران : أن أعرابياً أتى أبا بكر فقال : قتلت صيداً وأنا محرم ، فما ترى علي من الجزاء؟ فقال أبو بكر رضي الله عنه لأبي بن كعب وهو جالس عنده : ما ترى فيها؟ قال فقال الأعرابي : أتيتك وأنت خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أسألك ، فإذا أنت تسأل غيرك؟ فقال أبو بكر : وما تنكر؟ يقول الله تعالى : { فَجَزَآءٌ مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النعم يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } ، فشاورت صاحبي ، حتى إذا اتفقنا على أمر أمرناك به . فبين له الصديق الحكم برفق وتؤدة لما رآه أعرابياً جاهلاً ، وإنما دواء الجهل التعليم . وقال ابن جرير عن أبي وائل . أخبرني ابن جرير البجلي قال : اصبت ظبياً وأنا محرم ، فذكرت ذلك لعمر ، فقال : ائت رجلين من إخوانك فليحكما عليك ، فأتيت عبد الرحمن وسعداً فحكما علي بتيس أعفر .
واختلفوا : هل تستأنف الحكومة في كل ما يصيبه المحرم ، فيجب أن يحكم فيه ذوا عدل ، وإن كان قد حكم في مثله الصحابة ، أو يكتفي بأحكام الصحابة المتقدمة؟ على قولين : فقال الشافعي وأحمد : يتبع في ذلك ما حكمت به الصحابة وجعلاه شرعاً مقرراً لا يعدل عنه وما لم يحكم فيه الصحابة يرجع فيه إلى عدلين ، وقال مالك وابو حنيفة : بل يجب الحكم في كل فرد فرد سواء وجد للصحابة في مثله حكم أم لا لقوله تعالى : { يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } . وقوله تعالى : { هَدْياً بَالِغَ الكعبة } أي واصلاً إلى الكعبة ، والمراد وصوله إلى الحرم بأن يذبح هناك ويفرق لحمه على مساكين الحرم ، وهذا أم متفق عليه في هذه الصورة .
(1/699)
وقوله : { أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذلك صِيَاماً } أي إذا لم يجد المحرم مثل ما قتل من النعم أو لم يكن الصيد المقتول من ذوات الأمثال ، أو قلنا بالتخيير في هذ المقام بين الجزاء والإطعام والصيام ، كما هو قول مالك وأبي حنيفة وأحد قولي الشافعي والمشهور عن أحمد رحمهم الله ، لظاهر « أو » بأنها للتخيير . والقول الآخر على الترتيب : فصورة ذلك أن يعدل إلى القيمة ، فيقوّم الصيد المقتول عند مالك وابي حنيفة وأصحابه ، وقال الشافعي : يقوم مثله من النعم لو كان موجوداً ، ثم يشتري به طعام فيتصدق به فيصرف لكل مسكين مد منه عند الشافعي ومالك وفقهاء الحجاز واختاره ابن جرير وقال أبو حنيفة وأصحابه : يطعم كل مسكين مُدَيْن ، وهو قول مجاهد . وقال أحمد : مد من حنطة أو مدان من غيره ، فإن لم يجد أو قلنا بالتخيير صام عن إطعام كل مسكين يوماً ، واختلفوا في مكان هذا الإطعام ، فقال الشافعي : مكانه الحرم وهو قول عطاء ، وقال مالك : يطعم في المكان الذي أصاب فيه الصيد أو أقرب الأماكن إليه ، وقال أبو حنيفة : إن شاء أطعم في الحرم وإن شاء أطعم في غيره .
وقوله تعالى : { لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ } أي أوجبنا عليه الكفارة ليذوق عقوبة فعله الذي ارتكب فيه المخالفة ، { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } أي في زمان الجاهلية لمن أحسن في الإسلام واتبع شرع الله ولم يرتكب المعصية ، ثم قال : { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } أي ومن فعل ذلك بعد تحريمه في الإسلام وبلوغ الحكم الشرعي إليه { فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } . قال ابن جريج : قلت لعطاء : ما { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } ؟ قال : عما كان في الجاهلية . قال ، قلت : وما { وَمَنْ عَادَ فَيَنْتَقِمُ الله مِنْهُ } ؟ قال : ومن عاد في الإسلام فينتقم الله منه ، وعليه مع ذلك الكفارة ، قال ، قلت : فهل في العود من حد تعلمه! قال : لا ، قال ، قلت : فترى حقاً على الإمام أن يعاقبه؟ قال : لا ، هو ذنب أذنبه فيما بينه وبين الله عزَّ وجلَّ ، ولكن يفتدي ، رواه ابن جرير . وقيل : معناه : فينتقم الله منه بالكفارة؛ قاله سعيد بن جبير وعطاء ثم الجمهور من السلف والخلف : على أنه متى قتل المحرم الصيد وجب الجزاء ، ولا فرق بين الأولى والثانية والثالثة ، وإن تكرر سواء الخطأ في ذلك والعمد . وقال ابن جرير عن ابن عباس فيمن أصاب صيداً يحكم عليه ثم عاد ، قال : لا يحكم عليه ، ينتقم الله منه . قوله { والله عَزِيزٌ ذُو انتقام } أي : والله منيع في سلطانه لا يقهره قاهر ، ولا يمنعه من الإنتقام ممن انتقم منه ، ولا من عقوبة من أرد عقوبته مانع لأن الخلق خلقه ، والأمر أمره ، له العزة والمنعة . وقوله : { ذُو انتقام } يعني أنه ذو معاقبة لمن عصاه على معصيته إياه .
(1/700)
أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99)
قال ابن عباس وسعيد بن جبير في قوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر } يعني ما يصطاد منه طرياً { وَطَعَامُهُ } ما يتزود منه مليحاً يابساً ، وقال ابن عباس في الرواية المشهورة عنه : صيده ما أخذ منه حياً { وَطَعَامُهُ } ما لفظه ميتاً . قال سفيان بن عيينة عن أبي بكر الصديق أنه قال : { طَعَامُهُ } كل ما فيه . وقال ابن جرير خطب أبو بكر الناس فقال : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ } وطعامه ما قذف . وقال عكرمة عن ابن عباس قال : طعامه ما لفظ من ميتة . وقال ابن جرير إن عبد الرحمن بن أبي هريرة سأل ابن عمر فقال : إن البحر قد قذف حيتاناً كثيرة ميتة أفنأكلها كلها؟ فقال : لا تأكلوها ، فلما رجع عبد الله إلى أهله أخذ المصحف فقرأ سورة المائدة ، فأتى هذه الآية : { وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } فقال : اذهب ، فقل له فليأكله فإنه طعامه . وهكذا اختار ابن جرير أن المراد بطعامه ما مات فيه . وقوله : { مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ } أي منفعة وقوتاً لكم أيها المخاطبون ، { وَلِلسَّيَّارَةِ } ، وهم جمع سيار ، قال عكرمة : لمن كان بحضرة البحر والسفر . وقال غيره . والطري منه لمن يصطاده من حاضرة البحر ، وطعامه ما مات فيه أو اصطيد منه وملح ، وقد يكون زاداً للمسافرين والنائين عن البحر . وقد استدل الجمهور على حل ميتته بهذه الآية الكريمة ، وبما رواه الإمام مالك عن جابر بن عبد الله قال : بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بعثاً قِبَل الساحل ، فأمّر عليهم أبا عبيدة بن الجراح ، وهم ثلثمائة ، وأنا فيهم ، قال : فخرجنا حتى إذا كنا ببعض الطريق فني الزاد ، فأمر أبو عبيدة بأزواد ذلك الجيش ، فجمع ذلك كله ، فكان مزودي تمر ، قال : فكان يقوتنا كل يوم قليلاً قليلاً حتى فني ، فلم يكن يصيبنا إلاّ تمرة تمرة ، فقال : فقد وجدنا فقدها حين فنيت ، قال : ثم انتهينا إلى البحر ، فإذا حوت مثل الظَّرِب ، فأكل منه ذلك الجيش ثماني عشرة ليلة ، ثم أمر أبو عبيدة بضلعين من أضلاعه فنصبنا ، ثم أمر براحلة ، فرحلت ومرت تحتهما فلم تصبهما . وهذا الحديث مخرج في الصحيحين ، وله طرق عن جابر .
وفي صحيح مسلم عن جابر : فإذا على ساحل البحر مثل الكثيب الضخم ، فأتيناه فإذا بدابة يقال لها العنبر ، قال : قال أبو عبيدة : ميتة ، ثم قال : لا ، نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد اضطررتم فكلوا ، قال : فأقمنا عليه شهراً ونحن ثلثمائة حتى سمنا ، ولقد رايتنا نغترف من وقب عينيه بالقلال الدهن ، ويقتطع منه القدر كالثور ، قال : ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً ، فأقعدهم في وقب عينيه ، وأخذ ضلعاً من أضلاعه فأقامها ، ثم رحّل أعظم بعير معنا فمر من تحته ، وتزودنا من لحمه وشائق ، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له ، فقال :
(1/701)
« هو رزق أخرجه الله لكم ، هل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ » قال : فأرسلنا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه فأكله . وقال مالك سأل رجل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال : يا رسول الله إنا نركب البحر ، ونحمل معنا القليل من الماء فإن توضأنا عطشنا ، أفنتوضأ بماء البحر؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » .
وقد احتج بهذه الآية الكريمة من ذهب من الفقهاء إلى أنه تؤكل دواب البحر ، ولم يستثن من ذلك شيئاً ، وقد تقدم عن الصديق أنه قال : طعامه كل ما فيه ، وقد استثنى بعضهم الضفادع واباح ما سواها ، لما رواه الإمام أحمد وأبو داود والنسائي عن أبي عبد الرحمن بن عثمان التيمي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن قتل الضفدع ، وللنسائي عن عبد الله بن عمرو قال : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قتل الضفدع ، وقال : نقيقها تسبيح . وقال آخرون : يؤكل من صيد البحر السمك . ولا يؤكل الضفدع ، واختلفوا فيما سواهما فقيل : يؤكل سائر ذلك ، وقيل : لا يؤكل ، وقيل : ما أكل شبهه من البر أكل مثله في البحر ، وما لا يؤكل شبهه لا يؤكل . وهذه كلها وجوه في مذهب الشافعي رحمه الله تعالى ، وقال أبو حنيفة رحمه الله تعالى : لا يؤكل ما مات في البحر كما لا يؤكل ما مات في البر ، لعموم قوله تعالى : { حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الميتة } [ المائدة : 3 ] ، وقد ورد حديث بنحو ذلك . فقال ابن مردويه عن جابر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما صدتموه وهو حي فمات فكلوه وما ألقى البحر ميتاً طافياً فلا تأكلوه » .
وقد احتج الجمهور من أصحاب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل بحديث العنبر المتقدم ذكره ، وبحديث : « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » ، وقد تقدم أيضاً . وروى الإمام الشافعي عن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أحلت لنا ميتتان ودمان ، فأما الميتتان فالحوت والجراد ، وأما الدمان فالكبد والطحال » ، وقوله : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً } أي في حال إحرامكم يحرم عليكم الاصطياد ، ففيه دلالة على تحريم ذلك ، فإذا اصطاد المحرم الصيد متعمداً أثم وغرم ، أو مخطئاً غرم وحرم عليه أكله لأنه في حقه كالميتة ، وكذا في حق غيره من المحرمين والمحلين عند مالك والشافعي في أحد قوليه . فإن أكله أو شيئاً منه فهل يلزمه جزاء ثان؟ فيه قولان للعلماء ( أحدهما ) : نعم وإليه ذهب طائفة . ( والثاني ) : لا جزاء عليه في أكله ، نص عليه مالك بن أنس .
(1/702)
قال أبو عمر بن عبد البر : وعلى هذا مذاهب فقهاء الأمصار وجمهور العلماء ، وقال أبو حنيفة : عليه قيمة ما أكل . وأما إذا صاد حلال صيداً فأهداه إلى محرم ، فقد ذهب ذاهبون إلى إباحته مطلقاً ، ولم يستفصلوا بين أن يكون قد صاده من أجله أم لا ، وبه قال الكوفيون ، قال ابن جرير عن أبي هريرة : أنه سئل عن لحم صيد صاده حلال أيأكله المحرم؟ قال : فأفتاهم بأكله ، ثم لقي عمر بن الخطاب فأخبره بما كان من أمره ، فقال : لو أفتيتهم بغير هذا لأوجعت لك رأسك . وقال آخرون : لا يجوز أكل الصيد للمحرم بالكلية ، ومنعوا من ذلك مطلقاً لعموم هذه الآية الكريمة .
روي عن ابن عباس : أنه كره أكل الصيد للمحرم ، وقال : هي مبهمة ، يعني قوله : { وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ البر مَا دُمْتُمْ حُرُماً } . وعن ابن عمر أنه كان يكره للمحرم أن يأكل من لحم الصيد على كل حال . وقد روي أن علياً كره أكل لحم الصيد للمحرم على كل حال . وقال مالك والشافعي وأحمد بن حنبل والجمهور : إن كان الحلال قد قصد المحرم بذلك الصيد لم يجز للمحرم أكله ، لحديث الصعب بن جثامة « أنه أهدى للنبي صلى الله عليه وسلم حماراً وحشياً ، وهو بالأبواء أو بودّان فرده عليه ، فلما رأى ما في وجهه قال : » إنا لم نرده عليك إلاّ أنا حُرُم « قالوا : فوجهه أن النبي صلى الله عليه وسلم ظن أن هذا إنما صاده من أجله فرده لذلك ، فأما إذا لم يقصده بالاصطياد ، فإنه يجوز له الأكل منه ، لحديث أبي قتادة » حين صاد حمار وحش وكان حلالاً لم يحرم وكان أصحابه محرمين . فتوقفوا في أكله ، ثم سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « هل كان منكم أحد أشار إليها أو أعان في قتلها »؟ قالوا : لا قال : « فكلوا » ، وأكل منها رسول الله صلى الله عليه وسلم « ، وهذه القصة ثابتة أيضاً في الصحيحين بألفاظ كثيرة .
(1/703)
قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَسْأَلُوا عَنْ أَشْيَاءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِنْ تَسْأَلُوا عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْهَا وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِهَا كَافِرِينَ (102)
يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { قُل } يا محمد { لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ } أي يا أيها الإنسان { كَثْرَةُ الخبيث } يعني أن القليل الحلال النافع خير من الكثير الحرام الضار كما جاء في الحديث : « ما قل وكفى خير مما كثر وألهى » وقال أبو القاسم البغوي عن أبي أمامة : إن ثعلبة بن حاطب الأنصاري قال : يا رسول الله ادع الله أن يرزقني مالاً ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « قليل تؤدي شكره خير من كثير لا تطيقه » ، { فاتقوا الله ياأولي الألباب } أي يا ذوي العقول الصحيحة المستقيمة وتجنبوا الحرام ودعوه واقنعوا بالحلال واكتفوا به { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي في الدنيا والآخرة . ثم قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } هذا تأديب من الله تعالى لعباده المؤمنين ، ونهي لهم عن أن يسألوه عن أشياء مما لا فائدة لهم في السؤال والتنقيب عنها ، لأنها إن أظهرت لهم تلك الأمور ربما ساءتهم وشق عليهم سماعها ، كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً ، إني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر » ، وقال البخاري عن أنس بن مالك قال : خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم خطبة ما سمعت مثلها قط ، وقال فيها : « لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلاً ولبكيتم كثيراً » قال فغطى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وجوههم ، لهم حنين ، فقال رجل : من أبي؟ قال : « فلان » ، فنزلت هذه الآية : { لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ } ، وعن أبي هريرة قال : « خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو غضبان محمار وجهه ، حتى جلس على المنبر فقام إليه رجل ، فقال : أين أبي؟ قال : » في النار « ، فقام آخر فقال : من أبي؟ فقال : » أبوك حذافة « ، فقام عمر بن الخطاب فقال : رضينا بالله رباً ، وبالإسلام ديناً ، وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ، وبالقرآن إماماً ، إنَّا يا رسول الله حديثو عهد بجاهلية وشرك . والله أعلم من آباؤنا . قال : فسكن غضبه . ونزلت هذه الآية : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } الآية » ، إسناده جيد ، وقد ذكر هذه القصة مرسلة غير واحد من السلف ، منهم السدي . قال البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما ، قال : كان قوم يسألون رسول الله صلى الله عليه وسلم استهزاء ، فيقول الرجل : من أبي؟ ويقول الرجل تضل ناقته : أين ناقتي؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ } ، حتى فرغ من الآية كلها .
(1/704)
وظاهر الآية النهي عن السؤال عن الأشياء التي إذا علم بها الشخص ساءته ، فالأولى الإعراض عنها وتركها ، وما أحسن الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه : « لا يبلغني أحد عن أحد شيئاً فإني أحب أن أخرج إليكم وأنا سليم الصدر » ، الحديث .
وقوله تعالى : { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ } أي وإن تسألوا عن هذه الأشياء التي نهيتم عن السؤال عنها حين ينزل الوحي على رسول الله صلى الله عليه وسلم تبين لكم ، وذلك على الله يسير ، ثم قال : { عَفَا الله عَنْهَا } أي عما كان منكم قبل ذلك { والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } ، وقيل المراد بقوله : { وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ } أي لا تسألوا عن أشياء تستأنفون السؤال عنها فلعله قد ينزل بسبب سؤالكم تشديد أو تضييق ، وقد ورد في الحديث : « أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحرم من أجل مسألته » ، ولكن إذا نزل القرآن بها مجملة فسألتم عن بيانها بينت لكم حينئذٍ لاحتياجكم إليها ، { عَفَا الله عَنْهَا } أي ما لم يذكره في كتابه ، فهو مما عفا عنه فاسكتوا أنتم عنها كما سكت عنها . وفي الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ذروني وما تركتكم ، فإنما أهلك من كان قبلكم كثرة سؤالهم ، واختلافهم على أنبيائهم » ، وفي الحديث الصحيح أيضاً : « إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها ، وحدّ حدوداً فلا تعتدوها ، وحرم أشياء فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة بكم غير نسيان فلا تسألوا عنها » ، ثم قال تعالى : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } أي قد سأل هذه المسائل المنهى عنها قوم من قبلكم فأجيبوا عنها ثم لم يؤمنوا بها فأصبحوا بها كافرين ، أي بسببها ، أي بينت لهم فلم ينتفعوا بها ، لأنهم لم يسألوا على وجه الاسترشاد بل على وجه الاستهزاء والعناد . وقال العوفي عن ابن عباس في الآية : « إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أذّن في الناس فقال : » يا قوم كتب عليكم الحج « فقام رجل من بني أسد فقال : يا رسول الله أفي كل عام؟ فأغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم غضباً شديداً فقال : » والذي نفسي بيده لو قلت : نعم ، لوجبت ، ولو وجبت ما استطعتم ، وإذا لكفرتم فاتركوني ما تركتكم ، وإذا أمرتكم بشيء فافعلوا ، وإذا نهيتكم عن شيء فانتهوا عنه « ، فأنزل الله هذه الآية نهاهم أن يسألوا عن مثل الذي سألت عنه النصارى من المائدة فأصبحوا بها كافرين ، فنهى الله عن ذلك ، وقال : لا تسألوا عن أشياء إن نزل القرآن فيها بتغليظ ساءكم ذلك ، ولكن انتظروا ، فإذا نزل القرآن فإنكم لا تسألون عن شيء إلاّ وجدتم بيانه .
(1/705)
ثم قال : { قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ } . روي عن عكرمة رحمه الله : أن المراد بهذا النهي عن سؤال وقوع الآيات ، كما سألت قريش أن يجري لهم أنهاراً وأن يجعل لهم الصفا ذهباً وغير ذلك ، وكما سألت اليهود أن ينزل عليهم كتاباً من السماء ، وقد قال الله تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } [ الإسراء : 59 ] الآية . وقال تعالى : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 109 ] .
(1/706)
مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (104)
قال البخاري عن ابن شهاب عن سعيد بن المسيب قال : البحيرة التي يمنع درُّها للطواغيت فلا يحلبها أحد من الناس ، والسائبة : كانوا يسيبونها لآلهتهم لا يحمل عليها شيء . قال ، وقال أبو هريرة ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجر قُصْبَه في النار كان أول من سيَّب السوائب » والوصيلة : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإبل ، ثم تثني بعد بأنثى ، وكانوا يسيبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر ، والحام : فحل الإبل يضرب الضراب المعدود ، فإذا قضى ضرابه ودعوه للطواغيت ، وأعفوه عن الحمل ، فلم يحمل عليه شيء ، وسموه الحامي . ثم قال البخاري عن الزهري عن عروة ، أن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « رأيت جهنم يحطم بعضها بعضاً ، ورأيت عمراً يجر قصبه وهو أول من سيَّب السوائب » وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « إن أول من سيَّب السوائب وعبد الأصنام أبو خزاعة عمرو بن عامر ، وإني رأيته يجر أمعاءه في النار » وقال عبد الرزاق عن زيد بن أسلم قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني لأعرف أول من سيَّب السوائب ، وأول من غيَّر دين إبراهيم عليه السلام ، قالوا : ومن هو يا رسول الله؟ قال : » عمرو بن لحي أخو بني كعب ، لقد رأيته يجر قصبه في النار تؤذي رائحته أهل النار ، وإني لأعرف أول من بحر البحائر « ، قالوا : ومن هو يا رسول الله؟ قال : » رجل من بني مدلج ، كانت له ناقتان ، فجدع آذانهما ، وحرم ألبانهما ، ثم شرب ألبانهما ، بعد ذلك ، فلقد رأيته في النار وهما يعضانه بأفواههما ويطآنه فأخفافهما « ، فعمرو هذا هو ابن لحي بن قمعة أحد رؤساء خزاعة الذين ولوا البيت بعد جرهم ، وكان أول من غيَّر دين إبراهيم الخليل ، فأدخل الأصنام إلى الحجاز ، ودعا الرعاع من الناس إلى عبادتها والتقرب بها ، وشرع لهم هذه الشرائع الجاهلية في الأنعام وغيرها ، كما ذكره الله تعالى في سورة الأنعام عند قوله تعالى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً } [ الأنعام : 136 ] إلى آخر الآيات في ذلك .
فأما البحيرة فقال ابن عباس رضي الله عنهما : هي الناقة إذا نتجت خمسة أبطن نظروا إلى الخامس ، فإن كان ذكراً ذبحوه فأكله الرجال دون النساء ، وإن كان أنثى جدعوا آذانها ، فقالوا : هذه بحيرة . وذكر السدي وغيره قريباً من هذا؛ وأما السائبة : فقال مجاهد : هي من الغنم نحو ما فسر من البحيرة ، إلا أنها ما ولدت من ولد كان بينها وبينه ستة أولاد كانت على هيئتها ، فإذا ولدت السابع ذكراً أو ذكرين ذبحوه فأكله رجالهم دون نسائهم ، وقال محمد بن إسحاق : السائبة : هي الناقة إذا ولدت عشر إناث من الولد ليس بينهن ذكر سيبت فلم تركب ولم يجزّ وبرها ولم يحلب لبنها إلاّ لضيف .
(1/707)
وقال أبو روق : السائبة ، كان الرجل إذا خرج فقضيت حاجته سيب من ماله ناقة أو غيرها فجعلها للطواغيت ، فما ولدت من شيء كان لها . وقال السدي : كان الرجل منهم إذا قضيت حاجته أو عوفي من مرض أو كثر ماله سيَّب شيئاً من ماله للأوثان ، فمن عرض له من الناس عوقب بعقوبة في الدنيا .
وأما الوصيلة فقال ابن عباس : هي الشاة إذا نتجت سبعة أبطن نظروا إلى السابع ، فإن كان ذكراً وهو ميت اشترك فيه الرجال دون النساء ، وإن كان أنثى استحيوها ، وإن كان ذكراً وأنثى في بطن واحد استحيوهما وقالوا وصلته أخته فحرمته علينا . وقال محمد بن إسحاق : الوصيلة من الغنم إذا ولدت عشر إناث في خمسة أبطن توأمين توأمين في كل بطن سميت الوصيلة وتركت ، فما ولدت بعد ذلك من ذكر أو أنثى جعلت للذكور دون الإناث ، وإن كانت ميته اشتركوا فيها . وأما الحامي ، فقال ابن عباس : كان الرجل إذا لقح فحله عشراً قيل حام فاتركوه ، وكذا قال قتادة ، وروي عنه أن الحام : الفحل من الإبل إذا ولد لولده ، قالوا حمى هذا ظهره فلا يحملون عليه شيئاً ولا يجزون له وبراً ، ولا يمنعونه من حمى رعي ومن حوض يشرب منه ، وإن كان الحوض لغير صاحبه . وقال ابن وهب ، سمعت مالكاً يقول : أما الحام فمن الإبل كان يضرب في الإبل ، فإذا انقضى ضرابه جعلوا عليه ريش الطواويس وسيبوه . وقد قيل غير ذلك في تفسير هذه الآية . وقوله تعالى : { ولكن الذين كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ على الله الكذب وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } أي ما شرع الله هذه الأشياء ولا هي عنده قربة . ولكن المشركون افتروا ذلك وجعلوه شرعاً لهم وقربة يتقربون بها إليه ، وليس ذلك بحاصل بل هو وبال عليهم { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إلى مَآ أَنزَلَ الله وَإِلَى الرسول قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَآ } أي إذا دعوا إلى دين الله وشرعه وما أوجبه وتكر ما حرمه قالوا : يكفينا ما وجدنا عليه الآباء والأجداد من الطرائق والمسالك ، قال الله تعالى : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } أي لا يفهمون حقاً ولا يعرفونه ولا يهتدون إليه . فكيف يتبعونها والحالة هذه لا يتبعهم إلاّ من هو أجهل منهم وأضل سبيلاً؟ .
(1/708)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين أن يصلحوا أنفسهم ويفعلوا الخير بجهدهم وطاقتهم ، ومخبراً لهم أنه من أصلح أمره لا يضره فساد من فسد من الناس ، سواء كان قريباً منه أو بعيداً . قال ابن عباس في تفسير هذه الآية يقول تعالى : إذا ما العبد أطاعني فيما أمرته به من الحلال ، ونهيته عنه من الحرام ، فلا يضره من ضل بعده إذا عمل بما أمرته به ، وهكذا قال مقاتل بن حيان . فقوله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } نصب على الإغراء { لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ } أي فيجازي كل عامل بعمله إن خيراً فخير وإن شراً فشر . وليس فيها دليل على ترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إذا كان فعل ذلك ممكناً ، وقد قام أبو بكر الصديق رضي الله عنه فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال : أيها الناس إنكم تقرأون هذه الآية : { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } ، وإنكم تضعونها على غير موضعها ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الناس إذا رأو المنكر ولا يغيرونه يوشك الله عزَّ وجلَّ أن يعمهم بعقابه » قال الترمذي عن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني ، فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية؟ قال : أية آية؟ قلت : قول الله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } قال : أما والله لقد سألت عنها خبيراً ، سألت عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « بل ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحاً مطاعاً وهوى متبعاً ودنيا مؤثرة وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، فعليك بخاصة نفسك ، ودع العوام ، فإن من ورائكم أياماً ، الصابر فيهن مثل القابض عن الجمر ، للعامل فيهن أجر خمسين رجلاً يعملون كعملكم » ، وفي رواية قيل : « يا رسول الله أجر خمسين رجلاً منا أو منهم؟ قال : » بل أجر خمسين منكم « » .
وروى الرازي عن أبي العالية عن ابن مسعود في قوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ } الآية ، قال : كانوا عند عبد الله بن مسعود جلوساً فكان بين رجلين بعض ما يكون بين الناس ، حتى قام كل واحد منهما إلى صاحبه فقال رجل من جلساء عبد الله : ألا أقوم فآمرهما بالمعروف وأنهاهما عن المنكر ، فقال آخر إلى جنبه : عليك بنفسك ، فإن الله يقول : { عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ } الآية ، قال : فسمعها ابن مسعود ، قال : مه لم يجيء تأويل هذه بعد؛ إن القرآن أنزل حيث أنزل ، ومنه آي قد مضى تأويلهن قبل أن ينزلن ومنه آي قد وقع تأويلهن على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ومنه آي قد وقع تأويلهن بعد النبي صلى الله عليه وسلم بيسير ، ومنه آي يقع تأويلهن بعد اليوم ، ومنه آي تأويلهن عند الساعة وما ذكر من الساعة ، ومنه آي يقع تأويلهن يوم الحساب ما ذكر من الحساب والجنة والنار فما دامت قلبوكم واحدة وأهواؤكم واحدة ولم تلبسوا شيعاً ، ولم يذق بعضكم بأس بعض ، فامروا وانهوا ، وإذا اختلفت القلوب والأهواء وألبستم شيعاً ، وذاق بعضكم بأس بعض فامرؤ ونفسه ، وعند ذلك جاءنا تأويل هذه الآية رواه ابن جرير ، وقال ابن جرير تلا الحسن هذه الآية : { ياأيها الذين آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُمْ مَّن ضَلَّ إِذَا اهتديتم } فقال الحسن : الحمد لله بها ، والحمد لله عليها ، ما كان مؤمن فيما مضى ولا مؤمن فيما بقي إلاّ وإلى جنبه منافق يكره عمله .
(1/709)
وقال سعيد بن المسيب : إذا أمرت بالمعروف ونهيت عن المنكر ، فلا يضرك من ضل إذا اهتديت .
(1/710)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِنْ بَعْدِ الصَّلَاةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لَا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَنًا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلَا نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذًا لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْمًا فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاسْمَعُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108)
اشتملت هذه الآية الكريمة على حكم عزيز ، قيل إنه منسوخ ، وقال آخرون وهم الأكثرون بل هو محكم ، ومن ادعى نسخه فعليه البيان ، فقوله تعالى : { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان } . هذا هو الخبر لقوله شهادة بينكم . فقيل : تقديره شهادة اثنين شهادة اثنين حذف المضاف وأقيم المضاف إليه مقامه . وقيل : دل الكلام على تقدير : أن يشهد اثنان ، وقوله تعالى : { ذَوَا عَدْلٍ } وصف الاثنين بأن يكونا عدلين ، وقوله : { مِّنْكُمْ } أي من المسلمين ، قاله الجمهور . قال ابن عباس رضي الله عنه في قوله { ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } ، قال : من المسليمن . قال ابن جرير : وقال آخرون عنى ذلك { ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } أي من أهل الموصي ، وقوله : { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال ابن أبي حاتم ، قال ابن عباس في قوله { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } قال : من غير المسلمين ، يعني أهل الكتاب ، وعلى ما حكاه ابن جرير عن عكرمة وعبيدة في قوله : { مِّنْكُمْ } أن المراد من قبيلة الموصي ، يكون المراد هاهنا { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } أي من غير قبيلة الموصي ، وقوله تعالى : { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض } أي سافرتم { فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت } وهذان شرطان لجواز استشهاد الذميين عند فقد المؤمنين أن يكون ذلك في سفر ، وأن يكون في وصية ، كما قال ابن جرير عن شريح : لا تجوز شهادة شهادة اليهود والنصارى إلاّ في سفر ، ولا تجوز في سفر إلاّ في الوصية ، وروي نحوه عن الإمام أحمد بن حنبل وخالفه الثلاثة ، فقالوا : لا تجوز شهادة أهل الذمة على المسلمين ، وأجازها أبو حنيفة فيما بين بعضهم بعضاً .
وقال ابن جرير عن الزهري قال : مضت السنة أن لا تجوز شهادة الكافر في حضر ولا سفر ، إنما هي في المسلمين . وقال ابن زيد : نزلت هذه الآية في رجل توفي وليس عنده أحد من أهل الإسلام ، وذلك في أول الإسلام والأرض حرب ، والناس كفار ، وكان الناس يتوارثون بالوصية ، ثم نسخت الوصية وفرضت الفرائض وعمل الناس بها ، رواه ابن جرير . وفي هذا نظر والله أعلم . وقال ابن جرير : اختلف في قوله : { شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } هل المراد به أن يوصي إليهما أو يشهدهما؟ على قولين ( أحدهما ) : أن يوصي إليهما ، سئل ابن مسعود رضي الله عنه عن هذه الآية قال : هذا رجل سافر ومعه مال فأدركه قدره ، فإن وجد رجلين من المسلمين دفع إليهما تركته وأشهد عليهما عدلين من المسلمين ، ( والقول الثاني ) : أنهما يكونا شاهدين ، وهو ظاهر سياق الآية الكريمة ، فإن لم يكن وصي ثالث معهما اجتمع فيهما الوصفان الوصاية والشهادة ، كما في قصة تميم الداري وعدي بن بداء كما سيأتي ذكرها إن شاء الله وبه الوفيق .
(1/711)
وقوله تعالى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة } قال ابن عباس : يعني صلاة العصر ، وقال الزهري : يعني صلاة المسلمين ، وقال السدي عن ابن عباس : يعني صلاة أهل دينهما ، والمقصود أن يقام هذان الشاهدان بعد صلاة اجتمع الناس فيها بحضرتهم ، { فَيُقْسِمَانِ بالله } أي فيحلفان بالله أي فيحلفان بالله { إِنِ ارتبتم } أي إن ظهرت لكم منهما ريبة أنهما خانا أو غلا فيحلفان حينئذٍ بالله { لاَ نَشْتَرِي بِهِ } أي بأيماننا { ثَمَناً } أي لا نعتاض عنه بعوض قليل من الدنيا الفانية الزائلة { وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } أي ولو كان المشهود عليه قريباً لنا لا نحابيه ، { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله } أضافها إلى الله تشريفاً لها وتعظيماً لأمرها .
{ إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين } أي فعلنا شيئاً من ذلك من تحريف الشهادة أو تبديلها أو تغييرها أو كتمها بالكلية ، ثم قال تعالى : { فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً } أي فإن اشتهر وظهر وتحقق من الشاهدين الوصيين أنهما خانا أو غلا شيئاً من المال الموصى به إليهما وظهر عليهما بذلك { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الذين استحق عَلَيْهِمُ الأوليان } أي متى تحقق بالخبر الصحيح خيانتهما ، فليقم اثنان من الورثة المستحقين للتركة وليكونا من أولى من يرث ذلك المال { فَيُقْسِمَانِ بالله لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا } ، أي لقولنا إنهما خانا أحق وأصح وأثبت من شهادتهما المتقدمة ، { وَمَا اعتدينآ } أي فيما قلنا فيهما من الخيانة { إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظالمين } ، أي إن كنا قد كذبنا عليهما ، وهذا التحليف للورثة والرجوع إلى قولهما والحالة هذه كما يحلف أولياء المقتول إذا ظهر لوث في جانب القاتل ، فيقسم المتسحقون على القاتل فيدفع برمته إليم كما هو مقرر في باب القسامة من الأحكام .
وقد روي عن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري ، وعدي بن بداء ، فمات السهمي بأرض ليس بها مسلم ، فلما قدما بتركته ، فقدوا جاما من فضة مخوصاً بالذهب ، فأحلفهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ووجدوا الجام بمكة ، فقيل : اشتريناه من تميم وعدي ، فقام رجلان من أولياء السهمي ، فحلفا بالله لشهادتنا أحق من شهادتهما ، وإن الجام لصاحبهم ، وفيهم نزلت : { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ } الآية ، ومن الشواهد لصحة هذه القصة ما رواه أبو جعفر بن جرير عن الشعبي أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه ، قال فحضرته الوفاة ولم يجد أحداً من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب ، قال : فقدما الكوفة ، فأتيا الأشعري يعني ( أبا موسى الأشعري ) رضي الله عنه ، فأخبراه وقدما الكوفة بتركته ووصيته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : فأحلفهما بعد العصر ، بالله ما خانا ولا كذبا ولا بدلا ولا كتما ولا غيّرا ، وإنها لوصية الرجل وتركته ، قال : فأمضى شهادتهما ، فقوله : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم الظاهر - والله أعلم - أنه إنما أراد بذلك قصة تميم وعدي بن بداء ، وقد ذكروا أن إسلام تميم بن أوس الداري رضي الله عنه كان سنة تسع من الهجرة ، فعلى هذا يكون هذا الحكم متأخراً يحتاج مدعي نسخه إلى دليل فاصل في هذا المقام ، والله أعلم .
(1/712)
وقال السدي في الآية { يِا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الموت حِينَ الوصية اثنان ذَوَا عَدْلٍ مِّنْكُمْ } قال : هذا في الوصية عند الموت يوصي ويشهد رجلين من المسلمين على ماله وما عليه ، قال : هذا في الحضر { أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ } في السفر { إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الموت } هذا الرجل يدركه الموت في سفره وليس بحضرته أحد من المسلمين ، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس ، فيوصي إليهما ويدفع إليهما ميراثه فيقبلان به ، فإن رضي أهل الميت الوصية وعرفوا ما لصاحبهم تركوهما ، وإن ارتابوا رفعوهما إلى السلطان ، فذلك قوله تعالى : { تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصلاة فَيُقْسِمَانِ بالله إِنِ ارتبتم } ، قال ابن عباس رضي الله عنه : كأني أنظر إلى العلجين حين انتهي بهما إلى أبي موسى الأشعري في داره ، ففتح الصحيفة ، فأنكر أهل الميت وخوفوهما ، فأراد أبو موسى أن يستحفلهما بعد العصر ، فقلت : إنهما لا يباليان صلاة العصر ولكن استحلفهما بعد صلاتهما في دينهما فيحلفان بالله لا نشتري به ثمناً قليلاً ولو كان ذا قربى ولا نكتم شهادة الله إنا إذا لمن الآثمين : أن صاحبهم لهذا أوصى ، وأن هذه لتركته ، فيقول لهما الإمام قبل أن يحلفا : إنكما إن كتمتما أو خنتما فضحتكما في قومكما ولم نجز لكما شهادة وعاقبتكما ، فإذا قال لهما ذلك فإن { ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ } ، رواه ابن جرير ، وقال ابن عباس في تفسير هذه الآية : فإن ارتيب في شهادتهما استحلفا - بعد العصر - بالله ما اشترينا بشهادتنا ثمناً قليلاً ، فإن اطلع الأولياء على ان الكافرين كذبا في شهادتهما قام رجلان من الأولياء فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة ، وإنا لم نعتد ، فذلك قوله تعالى : { فَإِنْ عُثِرَ على أَنَّهُمَا استحقآ إِثْماً } يقول : إن اطلع على أن الكافرين كذبا { فَآخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا } يقول من الأولياء ، فحلفا بالله أن شهادة الكافرين باطلة ، وإنا لم نعتد ، فترد شهادة الكافرين : وتجوز شهادة الأولياء ، وهكذا قرر هذا الحكم على مقتضى هذه الآية غير واحد من أئمة التابعين والسلف رضي الله عنهم ، وهو مذهب الإمام أحمد رحمه الله .
وقوله تعالى : { ذلك أدنى أَن يَأْتُواْ بالشهادة على وَجْهِهَآ } أي شرعية هذه الحكم على هذا الوجه المرضي من تحليف الشاهدين الذميين إن استريب بهما أقرب إلى إقامتهما الشهادة على الوجه المرضي . وقوله : { أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } أي يكون الحامل لهم على الإتيان بها على وجهها هو تعظيم الحلف بالله مراعاة جانبه وإجلاله ، والخوف من الفضيحة بين الناس ، وإن ردت اليمين على الورثة ، فيحلفون ويستحقون ما يدعون ، ولهذا قال : { أَوْ يخافوا أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ } ثم قال : { واتقوا الله } أي في جميع أموركم ، { واسمعوا } أي وأطيعوا ، { والله لاَ يَهْدِي القوم الفاسقين } أي الخارجين عن طاعته ومتابعة شريعته .
(1/713)
يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُوا لَا عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (109)
هذا إخبار عما يخاطب الله به المرسلين يوم القيامة عما أجيبوا به من أممهم الذين أرسلهم إليهم ، كما قال تعالى : { فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين } [ الأعراف : 6 ] ، وقال تعالى : { فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ الحجر : 92-93 ] وقول الرسل { لاَ عِلْمَ لَنَآ } . قال مجاهد والحسن البصري والسدي : إنما قالوا ذلك من هو ذلك اليوم ، وقال الأعمش عن مجاهد يفزعون فيقولون { لاَ عِلْمَ لَنَآ } ، وقال السدي : نزلوا منزلاً ذهلت فيه العقول فلما سئلوا قالوا : { لاَ عِلْمَ لَنَآ } ، ثم نزلوا منزلاً آخر فشهدوا على قومهم ، وقال ابن عباس { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } يقولون للرب عزَّ وجلَّ : لا عِلْمَ لنَا إلاّ عِلْمٌ أَنْتَ أَعْلَمْ به منا ، رواه ابن جرير واختاره على هذه الأقوال ولا شك أنه قول حسن ، وهو من باب التأدب مع الرب جلَّ جلاله : أي لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء ، فنحن وإن كنا أجبنا وعرفنا من أجابنا ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره لا علم لنا بباطنه ، وأنت العليم بكل شيء ، المطلع على كل شيء ، فعلمنا بالنسبة إلى علمك كلا عِلْم فإنك { أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } .
(1/714)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111)
يذكر تعالى ما من به على عبده ورسوله عيسى بن مريم عليه السلام مما أجراه على يديه من المعجزات وخوارق العادات ، فقال : { اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ } أي في خلقي إياك من أم بلا ذكر ، وجعلي إياك آية ودلالة قاطعة على كمال قدرتي على الأشياء ، { وعلى وَالِدَتِكَ } حيث جعلتك لها برهاناً على براءتها مما نسبه الظالمون والجاهلون إليها من الفاحشة ، { إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ القدس } ، وهو جبريل عليه السلام ، وجعلتك نبياً داعياً إلى الله في صغرك وكبرك ، فأنطقتك في المهد صغيراً فشهدت ببراءة أمك من كل عيب ، واعترفت لي بالعبودية ، وأخبرت عن رسالتي إياك ، ودعوت إلى عبادتي . ولهذا قال : { تُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً } أي تدعو إلى الله الناس في صغرك وكبرك ، وضمن { تُكَلِّمُ } تدعو ، لأن كلامه الناس في كهولته ليس بأمر عجيب ، وقوله : { وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الكتاب والحكمة } أي الخط والفهم ، { والتوراة } وهي المنزلة على موسى الكليم ، وقوله : { وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير بِإِذْنِي } أي تصورة وتشكله على هيئة الطائر بإذني لك في ذلك ، فتنفخ فيها فتكون طيراً بإذني ، أي فتنفخ في تلك الصورة التي شكلتها بإذني لك في ذلك ، فتكون طيراً ذا روح تطير بإذن الله وخلقه .
وقوله تعالى : { وَتُبْرِىءُ الأكمه والأبرص بِإِذْنِي } قد تقدم الكلام عليه في سورة آل عمران بما أغنى عن إعادته . وقوله : { وَإِذْ تُخْرِجُ الموتى بِإِذْنِيِ } أي تدعوهم فيقومون من قبورهم بإذن الله وقدرته وإرادته ومشيئته ، وقوله تعالى : { وَإِذْ كَفَفْتُ بني إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بالبينات فَقَالَ الذين كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } أي واذكر نعمتي عليك في كفي إياهم عنك حين جئتهم بالبراهين والحجج القاطعة على نبوتك ورسالتك من الله إليهم ، فكذبوك ، واتهموك بأنك ساحر ، وسعوا في قتلك وصلبك ، فنجيتك منهم ، ورفعتك إليّ ، وطهرتك من دنسهم ، وكفيتك شرهم ، وهذا يدل على أن هذا الامتنان كان من الله إليه بعد رفعه إلى السماء أو يكون هذا الامتنان واقعاً يوم القيامة ، وعبر عنه بصيغة الماضي دلالة على وقوعه لا محالة ، وهذا من أسرار الغيوب التي أطلع الله عليها نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم وقوله : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي } وهذا أيضاً من الامتنان عليه ، عليه السلام بأن جعل له أصحاباً وأنصاراً ، ثم قيل : إن المراد بهذا الوحي وحي إلهام كما قال تعالى : { وَأَوْحَيْنَآ إلى أُمِّ موسى أَنْ أَرْضِعِيهِ } [ القصص : 7 ] الآية ، وهو وحي إلهام بلا خلاف ، وكما قال تعالى : { وأوحى رَبُّكَ إلى النحل أَنِ اتخذي مِنَ الجبال بُيُوتاً } [ النحل : 68 ] الآية ، وهكذا قال بعض السلف في هذه الآية { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } ، أي ألهموا ذلك فامتثلوا ما ألهموا ، قال الحسن البصري : ألهمهم الله عزَّ وجلَّ ذلك . وقال السدي : قذف في قلوبهم ذلك ، ويحتمل أن يكون المراد : وإذا أوحيت إليهم بواسطتك فدعوتهم إلى الإيمان بالله وبرسوله ، واستجابوا وانقادوا وتابعوك ، فقالوا : { آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } .
(1/715)
إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قَالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنْزِلْ عَلَيْنَا مَائِدَةً مِنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيدًا لِأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِنْكَ وَارْزُقْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115)
هذه قصة المائدة ، وإليها تنسب السورة ، فيقال سورة المائدة ، وهي مما امتن الله به على عبده ورسوله عيسى لما أجاب دعاءه بنزولها ، فأنزل الله آية باهرة وحجة قاطعة ، وقد ذكر بعض الأئمة أن قصتها ليست مذكروة في الإنجيل ولا يعرفها النصارى إلا من المسلمين فالله أعلم ، فقوله تعالى : { إِذْ قَالَ الحواريون } وهم أتباع عيسى عليه السلام { ياعيسى ابن مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ } : هذه قراءة كثيرين ، { أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء } والمائدة هي الخوان عليه طعام ، وذكر بعضهم أنهم إنما سألوا ذلك لحاجتهم وفقرهم فسألوه أن ينزل عليهم مائدة كل يوم يقتاتون بها ، ويتقوون بها على العبادة ، { قَالَ اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } أي فأجابهم المسيح عليه السلام قائلاً لهم : اتقوا الله ولا تسألوا هذا فعساه أن يكون فتنه لكم ، وتوكلوا على الله في طلب الرزق إن كنتم مؤمنين { قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا } أي نحن محتاجون إلى الأكل منها { وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا } إذا شاهدنا نزولها رزقاً لنا من السماء { وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا } أي ونزداد إيماناً بك وعلماً برسالتك { وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين } أي ونشهد أنها آية من عند الله ، ودلالة وحجة على نبوتك وصدق ما جئت به ، { قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا } ، قال السدي : أي نتخذ ذلك اليوم الذي نزلت فيه عيداً نعظمه نحن ومن بعدنا ، وقال سفيان الثوري : يعني يوماً نصلي فيه ، وقال قتادة ، أرادوا أن يكون لعقبهم من بعدهم ، وعن سلمان الفارسي : عظة لنا ولمن بعدنا ، وقيل : كافية لأولنا وآخرنا { وَآيَةً مِّنْكَ } أي دليلاً تنصبه على قدرتك على الأشياء وعلى إجابتك لدعوتي فيصدقوني فيما أبلغه عنك ، { وارزقنا } أي من عندك رزقاً هنيئاً بلا كلفة ولا تعب ، { وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين * قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ } ، أي فمن كذب بها من أمتك يا عيسى وعاندها { فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين } ، أي من عالمي زمانكم كقوله تعالى : { وَيَوْمَ تَقُومُ الساعة أدخلوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ العذاب } [ غافر : 46 ] ، وكقوله : { إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار } [ النساء : 145 ] . وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن عمرو قال : إن أشد الناس عذاباً يوم القيامة ثلاثة : المنافقون ، ومن كفر من أصحاب المائدة ، وآل فرعون .
( ذكر أخبار في نزول المائدة على الحواريين )
قال أبو جعفر بن جرير عن ابن عباس ، أنه كان يحدث عن عيسى ، أنه قال لبني إسرائيل : هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يوماً ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم ، فإن أجر العامل على من عمل له ، ففعلوا ، ثم قالوا : يا معلم الخير قلت لنا : إن أجر العامل على من عمل له ، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يوماً ففعلنا ، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يوماً إلاّ أطعمنا حين نفرغ طعاماً ، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء؟ قال عيسى : { اتقوا الله إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشاهدين قَالَ عِيسَى ابن مَرْيَمَ اللهم رَبَّنَآ أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السمآء تَكُونُ لَنَا عِيداً لأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنْكَ وارزقنا وَأَنتَ خَيْرُ الرازقين قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين } ، قال : فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء ، عليها سبعة حيتان وسبعة أرغفه حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم .
(1/716)
كذا رواه ابن جرير ، ورواه ابن أبي حاتم فذكر نحوه . وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس : أن عيسى بن مريم قالوا له : ادع الله أن ينزل علينا مائدة من السماء ، قال : فنزلت الملائكة بالمائدة يحملونها عليها سبعة حيتان وسبعة أرغفة ، حتى وضعتها بين أيديهم فأكل منها آخر الناس ، كما أكل منها أولهم . وقال ابن أبي حاتم عن عمار بن ياسر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : نزلت المائدة من السماء عليها خبز ولحم ، وأمروا أن لا يخونوا ، ولا يرفعوا لغد ، فخانوا وادخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير . وكل الآثار دالة على أن المائدة نزلت على بني إسرائيل أيام عيسى ابن مريم إجابة من الله لدعوته كما دل على ذلك ظاهر هذا السياق من القرآن العظيم { قَالَ الله إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ } الآية .
وقال قائلون : إنها لم تنزل ، روي عن قتادة قال : كان الحسن يقول : لما قيل لهم { فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين } قالوا : لا حاجة لنا فيها فلم تنزل ، ولكن الذي عليه الجمهور أنها نزلت ، وهو الذي اختاره ابن جرير ، لأن الله تعالى أخبر بنزولها في قوله تعالى : { إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فإني أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ العالمين } ، قال : ووعد الله ووعيده حق وصدق ، وهذا القول هو - والله أعلم - الصواب ، كما دلت عليه الأخبار والآثار عن السلف وغيرهم . وقد قال الإمام أحمد عن ابن عباس قال : « قالت قريش للنبي صلى الله عليه وسلم : ادع لنا ربك أن يجعل لنا الصفا ذهباً ونؤمن بك ، قال : » وتفعلون « قالوا : نعم ، قال : فدعا ، فأتاه جبريل ، فقال : إن ربك يقرأ عليك السلام ويقول لك : أن شئت أصبح لهم الصفا ذهباً ، فمن كفر منهم بعد ذلك عذبته عذاباً لا أعذبه أحداً من العالمين ، وإن شئت فتحت لهم باب التوبة والرحمة . قال : » بل باب التوبة والرحمة « » .
(1/717)
وَإِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلَا أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118)
هذا أيضاً مما يخاطب الله به عبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام قائلاً له يوم القيامة بحضرة من اتخذه وأمه إلهين من دون الله { ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } وهذا تهديد للنصارى وتوبيخ وتقريع على رؤوس الأشهاد ، هكذا قاله قتادة وغيره ، واستدل قتادة على ذلك بقوله تعالى : { هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ } ، وقال السدي : هذا الخطاب والجواب في الدنيا ، وصوبه ابن جرير ، قال : وكان ذلك حين رفعه إلى السماء واحتج ابن جرير على ذلك بمعنيين ( أحدهما ) : أن الكلام بلفظ المضي ، ( والثاني ) قوله : { إِن تُعَذِّبْهُمْ } { وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ } وهذان الدليلان فيهما نظر ، لأن كثيراً من أمور يوم القيامة ذكر بلفظ المضي ليدل على الوقوع والثبوت . ومعنى قوله : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ } الآية . التبري منهم ورد المشيئة فيهم إلى الله ، وتعليق ذلك على الشرط لا يقتضي وقوعه ، كما في نظائر ذلك من الآيات ، والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر - والله أعلم - أن ذلك كائن يوم القيامة ليدل على تهديد النصارى وتقريعهم وتوبيخهم على رؤوس الأشهاد يوم القيامة . وقد روي بذلك حديث مرفوع ، ررواه الحافظ ابن عساكر عن أبي موسى الأشعري قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا كان يوم القيامة دعي بالأنبياء وأممهم ، ثم يدعى بعيسى فيذكره الله نعمته عليه فيقر بها ، فيقول { ياعيسى ابن مَرْيَمَ اذكر نِعْمَتِي عَلَيْكَ وعلى وَالِدَتِكَ } [ المائدة : 110 ] الآية ، ثم يقول : { أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } فينكر أن يكون قال ذلك ، فيؤتى بالنصارى فيسألون فيقولون : نعم هو أمرنا بذلك قال : فيطول شعر عيسى عليه السلام فيأخذ كل ملك من الملائكة بشعرة من شعرة من شعر رأسه وجسده ، فيجاثيهم بين يدي الله عزَّ وجلَّ مقدار ألف عام حتى ترفع عليهم الحجة ، ويرفع لهم الصليب ، وينطلق بهم إلى النار » .
وقوله تعالى : { سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } ، هذا توفيق للتأدب في الجواب الكامل ، كما قال ابن أبي حاتم : حدثنا أبي ، حدثنا ابن أبي عمر ، حدثنا سفيان عن عمرو عن طاووس عن أبي هريرة قال : يلقي عيسى حجته ، ولقاه الله تعالى في قوله : { إِذْ قَالَ الله ياعيسى ابن مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتخذوني وَأُمِّيَ إلهين مِن دُونِ الله } ، قال أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم فلقاه الله { سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ } إلى آخر الآية ، وقد رواه الثوري عن معمر عن ابن طاووس عن طاووس بنحوه . وقوله : { إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ } أي إن كان صدر مني هذا فقد علمته يا رب فإنه لا يخفى عليك شيء ، فما قلته ولا أردته في نفسي لا أضمرته ، ولهذا قال : { تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب * مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَآ أَمَرْتَنِي بِهِ } بإبلاغه { أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ } أي ما دعوتهم إلاّ إلى الذي أرسلتني به وأمرتني بإبلاغه { أَنِ اعبدوا الله رَبِّي وَرَبَّكُمْ } أي هذا هو الذي قلت لهم .
(1/718)
وقوله : { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ } أي كنت أشهد على أعمالهم حين كنت بين أظهرهم ، { فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } .
قال أبو داود الطيالسي عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : « أيها الناس إنكم محشورون إلى الله عزَّ وجلَّ حفاة عراة غرلا { كَمَا بَدَأْنَآ أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } [ الأنبياء : 104 ] ، وإن أول الخلائق يكسى يوم القيامة إبراهيم ، ألا وإنه يجاء برجال من أمتي فيؤخذ بهم ذات الشمال فأقول : أصحابي ، فيقال : إنك لا تدري ما أحدثوا بعدك ، فأقول كما قال العبد الصالح { وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } فيقال : إن هؤلاء لم يزالوا مرتدين على أعقابهم منذ فارقتهم » .
وقوله تعالى : { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } هذا الكلام يتضمن رد المشيئة إلى الله عزَّ وجلَّ ، فإنه الفعال لما يشاء الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، ويتضمن التبري من النصارى الذين كذبوا على الله وعلى رسوله ، وجعلوا لله نداً وصاحبة وولداً ، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً ، وهذه الآية لها شأن عظيم ونبأ عجيب ، وقد ورد في الحديث « أن النبي صلى الله عليه وسلم قام بها ليلة حتى الصباح يرددها ، قال الإمام أحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال : صلى النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة فقرأ بآية حتى أصبح يركع بها ويسجد بها { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } فلما أصبح ، قلت : يا رسول الله ما زلت تقرأ هذه الآية حتى أصبحت تركع بها وتسجد بها؟ قال : » إني سالت ربي عز وجلَّ الشفاعة لأمتي فأعطانيها وهي نائلة إن شاء الله لمن لا يشرك بالله شيئاً « وقال ابن أبي حاتم عن عبد الله بن عمرو بن العاص » أن النبي صلى الله عليه وسلم تلا قول عيسى { إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } فرفع يديه فقال : « اللهم أمتي » وبكى ، فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد - وربك أعلم - فاسأله ما يبكيه! فأتاه جبريل فساله فأخبره رسول الله صلى الله عليه وسلم بما قال وهو أعلم ، فقال الله : يا جبريل اذهب إلى محمد فقال : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك . وقال الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان قال غاب عنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فلم يخرج ، حتى ظننا أن لن يخرج ، فلما خرج سجد سجدة ، ظننا أن نفسه قد قبضت فيها فلما رفع رأسه قال : « إن ربي عزَّ وجلَّ استشارني في أمتي ماذا أفعل بهم؟ فقلت : ما شئت يا رب هم خلقك وعبادك فاستشارني الثانية فقلت له كذلك ، فقال لي : لا أخزيك في أمتك يا محمد ، وبشرني أن أول من يدخل الجنة من أمتي معي سبعون ألفاً مع كل ألف سبعون ألفاً ليس عليهم حساب ، ثم أرسل إليّ فقال : ادع تجب وسل تعط ، فقلت لرسوله : أو معطي ربي سؤلي؟ فقال : ما ارسلني إليك إلاّ ليعطيك ، ولقد أعطاني ربي - ولا فخر - وغفر لي ما تقدم من ذنبي وما تأخر . وأنا أمشي حياً صحيحاً ، وأعطاني أن لا تجوع أمتي ولا تغلب ، وأعطاني الكوثر وهو نهر في الجنة يسيل في حوضي . وأعطاني العز ، والنصر ، والرعب يسعى بين يدي أمتي شهراً ، وأعطاني أني أول الأنبياء يدخل الجنة ، وطيب لي ولأمتي الغنيمة ، وأحل لنا كثيراً مما شدد على من قبلنا ، ولم يجعل علينا في الدين من حرج . »
(1/719)
قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120)
يقول تعالى مجيباً لعبده ورسوله عيسى ابن مريم عليه السلام فيما أنهاه إليه من التبري من النصارى الملحدين الكاذبين على الله وعلى رسوله ، ومن رد المشيئة فيهم إلى ربه عزَّ وجلَّ ، فعند ذلك يقول تعالى : { هذا يَوْمُ يَنفَعُ الصادقين صِدْقُهُمْ } قال ابن عباس : يوم ينفع الموحدين توحيدهم { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] وسيأتي ما يتعلق بتلك الآية من الحديث ، وروى ابن أبي حاتم عن أنس مرفوعاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه : « ثم يتجلى لهم الرب جل جلاله فيقول : سلوني سلوني أعطكم - قال - فيسألونه الرضا فيقول : رضاي أحلكم داري ، وأنالكم كرامتي ، فسلوني أعطكم فيسألونه الرضا - قال فيشهدهم أنه قد رضي عنهم . سبحانه وتعالى » ، وقوله : { ذلك الفوز العظيم } أي هذا الفوز الكبير الذي لا أعظم منه ، كما قال تعالى : { لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ العاملون } [ الصافات : 61 ] ، وكما قال : { وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ المتنافسون } [ المطففين : 26 ] .
وقوله تعالى : { للَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي هو الخالق للأشياء المالك لها ، المتصرف فيها ، القادر عليها . فالجميع ملكه وتحت قهره وقدرته وفي مشئيته ، فلا نظير له ولا وزير ولا عديل ولا والد ولا ولد ولا صاحبة ، ولا إله غيره ولا رب سواه . قال ابن وهب : آخر سورة أنزل سورة المائدة .
(1/720)
الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلًا وَأَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللَّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3)
يقول الله تعالى مادحاً نفسه الكريمة ، حامداً لها على خلقه السماوات والأرض قراراً لعباده ، وجعل الظلمات والنور منفعة لعباده في ليلهم ونهارهم ، فجمع لفظ الظلمات ، ووحد لفظ النور لكونه أشرف ، كقوله تعالى : { عَنِ اليمين والشمآئل } [ النحل : 48 ] ، وكما قال في آخر السورة : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } [ الأنعام : 153 ] . ثم قال تعالى : { ثْمَّ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي ومع هذا كله كفر به بعض عباده ، وجعلوا له شريكاً وعدلاً ، واتخذوا له صاحبة وولداً . تعالى الله عزَّ وجلَّ عن ذلك علواً كبيراً ، وقوله تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ } يعني أباهم آدم الذي هو أصلهم . ومنه خرجوا فانتشروا في المشارق والمغارب ، وقوله : { ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ } قال ابن عباس : { ثُمَّ قضى أَجَلاً } يعني الموت ، { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ } يعني الآخرة . وقال الحسن في رواية عنه : { ثُمَّ قضى أَجَلاً } وهو ما بين أن يخلق إلى أن يموت { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ } وهو ما بين أن يموت إلى أن يبعث وهو يرجع إلى ما تقدم ، وهو تقدير الأجل الخاص ، وهو عمر كل إنسان ، وتقدير الأجل العام وهو عمر الدنيا بكمالها ثم انتهائها وانقضائها وزوالها وانتقالها والمصير إلى الدار الآخرة ، وعن ابن عباس ومجاهد : { ثُمَّ قضى أَجَلاً } يعني مدة الدنيا { وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ } يعني عمر الإنسان إلى حين موته ، وكأنه مأخوذ من قوله تعالى بعد هذا { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم باليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } [ الأنعام : 60 ] الآية . ومعنى قوله : { عِندَهُ } أي لا يعلمه إلاّ هو ، كقوله : { إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } [ الأعراف : 187 ] وكقوله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة أَيَّانَ مُرْسَاهَا فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا إلى رَبِّكَ مُنتَهَاهَآ } [ النازعات : 42-44 ] وقوله تعالى : { ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ } ، قال السدي وغيره : يعني تشكون في أمر الساعة .
وقوله تعالى : { وَهُوَ الله فِي السماوات وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } اختلف مفسرو هذه الآية على اقوال بعد اتفاقهم على إنكار قول الجهمية القائلين - تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً - بأنه في كل مكان حيث حملوا الآية على ذلك ، فالأصح من الأقوال : أنه المدعو الله في السماوات وفي الأرض : أي يعبده ويوحده ويقر له بالإلهية من في السماوات ومن في الأرض ، ويسمونه الله ، ويدعونه رغباً ورهباً إلا من كفر من الجن والإنس ، وهذه الآية على هذا القول كقوله تعالى : { وَهُوَ الذي فِي السمآء إله وَفِي الأرض إله } [ الزخرف : 84 ] أي هو إله من في السماء وإله من في الأرض ، وعلى هذا فيكون قوله : { يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } خبراً أو حالاً ( والقول الثاني ) : أن المراد أنه الله الذي يعلم ما في السماوات وما في الأرض من سر وجهر ، فيكون قوله « يعلم » متعلقاً بقوله : { فِي السماوات وَفِي الأرض } تقديره : وهو الله يعلم سركم وجهركم في السماوات وفي الأرض ويعلم ما تكسبون ، ( والقول الثالث ) : أن قوله { وَهُوَ الله فِي السماوات } وقف تام ، ثم استأنف الخبر فقال : { وَفِي الأرض يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهْرَكُمْ } ، وهذا اختيار ابن جرير ، وقوله : { وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ } أي جميع أعمالكم خيرها وشرها .
(1/721)
وَمَا تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كَانُوا عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنَا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاءَ عَلَيْهِمْ مِدْرَارًا وَجَعَلْنَا الْأَنْهَارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْنًا آخَرِينَ (6)
يقول تعالى مخبراً عن المشركين المكذبين المعاندين : أنهم كلما أتتهم من آية أي دلالة ومعجزة وحجة من الدلالات على وحدانية الله وصدق رسله الكرام ، فإنهم يعرضون عنها فلا ينظرون إليها ولا يبالون بها . قال الله تعالى : { فَقَدْ كَذَّبُواْ بالحق لَمَّا جَآءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْبَاءُ مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } ، وهذا تهديد لهم ووعيد شديد على تكذيبهم بالحق ، بأنه لا بد أن يأتيهم خبر ما هم فيه من التكذيب ، وليجدن غبه ، وليذوقن وباله . ثم قال تعالى واعظاً لهم ومحذراً لهم أن يصيبهم من العذاب والنكال الدنيوي ما حل بأشباههم ونظرائهم من القرون السالفة . الذين كانوا أشد منهم قوة وأكثر جمعاً ، وأكثر أموالاً وأولاداً واستعلاء في الأرض ، وعمارة لها فقال : { أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأرض مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ } أي من الأموال والأولاد والأعمار والجاه العريض والسعة والجنود ، ولهذا قال : { وَأَرْسَلْنَا السمآء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً } أي شيئاً بعد شيء ، { وَجَعَلْنَا الأنهار تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ } أي أكثرنا عليهم أمطار السماء وينابيع الأرض أي استدراجاً وإملاء لهم ، { فَأَهْلَكْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } أي بخطاياهم وسيئاتهم التي اجترحوها ، { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } أي فذهب الأولون كأمس الذاهب وجعلناهم أحاديث { وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ } أي جيلاً آخر لنختبرهم ، فعملوا مثل أعمالهم فأهلكوا كإهلاكهم ، فاحذروا أيها المخاطبون أن يصيبكم مثل ما أصابهم ، فما أنتم بأعز على الله منهم والرسول الذي كذبتموه أكرم على الله من رسولهم ، فأنت أولى بالعذاب ومعاجلة العقوبة منهم لولا لطفه وإحسانه .
(1/722)
وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَابًا فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكًا لَجَعَلْنَاهُ رَجُلًا وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِمْ مَا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11)
يقول تعالى مخبراً عن المشركين وعنادهم ومكابرتهم للحق ومباهاتهم ومنازعتهم فيه ، { وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ } أي عاينوه ورأوا نزوله وباشروا ذلك ، { لَقَالَ الذين كَفَرُواْ إِنْ هاذآ إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ } ، وهذا كما قال تعالى مخبراً عن مكابرتهم للمحسوسات ، { وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السماء فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ } [ الحجر : 14-15 ] وكقوله تعالى : { وَإِن يَرَوْاْ كِسْفاً مِّنَ السمآء سَاقِطاً يَقُولُواْ سَحَابٌ مَّرْكُومٌ } [ الطور : 44 ] ، { وَقَالُواْ لولا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ } أي ليكون معه نذيراً ، قال الله تعالى : { وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمر ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ } أي لو نزلت الملائكة على ما هم عليه لجاءهم من الله العذاب ، كما قال الله تعالى : { مَا نُنَزِّلُ الملائكة إِلاَّ بالحق وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ } [ الحجر : 8 ] ، وقوله : { يَوْمَ يَرَوْنَ الملائكة لاَ بشرى يَوْمَئِذٍ لِّلْمُجْرِمِينَ } [ الفرقان : 22 ] الآية وقوله تعالى : { وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } أي ولو أنزلنا مع الرسول البشري ملكاً ، أي لو بعثنا إلى البشر رسولاً ملكياً ، لكان على هيئة الرجل ليمكنهم مخاطبته والانتفاع بالأخذ عنه ، ولو كان كذلك لالتبس عليهم الأمر كما هم يلبسون على أنفسهم في قبول رسالة البشريّ ، كقوله تعالى : { قُل لَوْ كَانَ فِي الأرض ملائكة يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السمآء مَلَكاً رَّسُولاً } [ الإسراء : 95 ] ، فمن رحمته تعالى بخلقه أنه يرسل إلى كل صنف من الخلائق رسلاً منهم ليدعو بعضهم بعضاً ، وليمكن بعضهم أن ينتفع ببعض في المخاطبة والسؤال ، كما قال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } [ آل عمران : 164 ] الآية .
قال الضحاك عن ابن عباس في الآية يقول : لو أتاهم ملك ما أتاهم إلا في صورة رجل لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة من النور . { وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ } أي ولخلطنا عليهم ما يخلطون . وقيل : ولشبهنا عليهم . وقوله : { وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم في تكذيب من كذبه من قومه . ووعد له وللمؤمنين به بالنصرة والعاقبة الحسنة في الدنيا والآخرة ، ثم قال تعالى : { قُلْ سِيرُواْ فِي الأرض ثُمَّ انظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } أي فكروا في أنفسكم ، وانظروا ما أحل الله بالقرون الماضية الذين كذبوا رسله وعاندوهم من العذاب والنكال ، والعقوبة في الدنيا مع ما أدخر لهم من العذاب الأليم في الآخرة وكيف نجَّى رسله وعباده المؤمنين .
(1/723)
قُلْ لِمَنْ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لَا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلَا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)
يخبر تعالى أنه مالك السماوات والأرض وما فيهما ، وأنه قد كتب على نفسه المقدسة الرحمة ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله لما خلق الخلق كتب كتاباً عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي » ، وقوله : { لَيَجْمَعَنَّكُمْ إلى يَوْمِ القيامة لاَ رَيْبَ فِيهِ } هذه اللام هي الموطئة للقسم ، فأقسم بنفسه الكريمة ليجمعن عباده { إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [ الواقعة : 50 ] وهو يوم القيامة الذي لا ريب فيه أي لا شك عند عباده المؤمنين ، فأما الجاحدون المكذبون فهم في ريبهم يترددون . عن ابن عباس قال : « سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوقوف بين يدي رب العالمين هل فيه ماء؟ قال : » والذي نفسي بيده إن فيه لماء ، إن أولياء الله ليردون حياض الأنبياء ، ويبعث الله تعالى سبعين ألف ملك في أيديهم عصي من نار يذودون الكفار عن حياض الأنبياء « ، هذا حديث غريب ، وفي الترمذي : » إن لكل نبي حوضا وأرجو أن أكون أكثرهم واردة « وقوله : { الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ } أي يوم القيامة { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } أي لا يصدقون بالمعاد ولا يخافون شر ذلك اليوم ، ثم قال تعالى : { وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي الليل والنهار } أي كل دابة في السماوات والأرض ، الجميع عباده وخلقه وتحت قهره وتصرفه وتدبيره . لا إله إلاّ هو { وَهُوَ السميع العليم } أي السميع لأقوال عباده ، العليم بحركاتهم وضمائرهم وسرائرهم ، ثم قال تعالى لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم الذي بعثه بالتوحيد العظيم وبالشرع القويم ، وأمره أن يدعو الناس إلى صراط الله المستقيم : { قُلْ أَغَيْرَ الله أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السماوات والأرض } ، كقوله : { قُلْ أَفَغَيْرَ الله تأمروني أَعْبُدُ أَيُّهَا الجاهلون } [ الزمر : 64 ] والمعنى : لا أتخذ ولياً إلاّ الله وحده لا شريك له فإنه فاطر السماوات والأرض أي خالقهما ومبدعهما على غير مثال سبق . { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } أي وهو الرزاق لخلقه من غير احتياج إليهم . كما قال تعالى : { وَمَا خَلَقْتُ الجن والإنس إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ } [ الذاريات : 56 ] الآية ، وقرأ بعضهم { وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ } : أي لا يأكل .
وفي الحديث عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : دعا رجل من الأنصار من أهل قباء النبي صلى الله عليه وسلم على طعام ، فانطلقنا معه فلما طعم النبي صلى الله عليه وسلم وغسل يديه قال : » الحمد لله الذي يطعم ولا يطعم . ومنَّ علينا فهدانا وأطعمنا وسقانا من الشراب . وكسانا من العري . وكل بلاء حسن أبلانا . الحمد لله غير مودع ربي ولا مكفي ولا مكفور ولا مستغنى عنه . الحمد لله الذي أطعمنا من الطعام وسقانا من الشراب ، وكسانا من العري ، وهدانا من الضلال . وبصرنا من العمى ، وفضلنا على كثير ممن خلق تفضيلاً . الحمد لله رب العالمين « { قُلْ إني أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ } أي من هذه الأمة ، { وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ المشركين * قُلْ إني أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } يعني يوم القيامة { مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ } أي العذاب { يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ } يعني فقد رحمه الله { وَذَلِكَ الفوز المبين } ، كقوله : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } [ آل عمران : 185 ] والفوز حصول الربح ونفي الخسارة .
(1/724)
وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلَا كَاشِفَ لَهُ إِلَّا هُوَ وَإِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُلْ لَا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21)
يقول تعالى مخبراً : أنه مالك الضر والنفع ، وأنه المتصرف في خلقه بما يشاء لا معقب لحكمه ولا راد لقضائه ، { وَإِن يَمْسَسْكَ الله بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ } ، كقوله تعالى : { مَّا يَفْتَحِ الله لِلنَّاسِ مِن رَّحْمَةٍ فَلاَ مُمْسِكَ لَهَا وَمَا يُمْسِكْ فَلاَ مُرْسِلَ لَهُ مِن بَعْدِهِ } [ فاطر : 2 ] الآية . وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : « اللهم لا مانع لما أعطيت ، ولا معطي لما منعت ، ولا ينفع ذا الجد منك الجد » ولهذا قال تعالى : { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ } : أي هو الذي خضعت له الرقاب ، وذلت له الجبابرة ، وعنت له الوجوه ، وقهر كل شيء ، ودانت له الخلائق ، وتواضعت لعظمة جلاله وكبريائه وعظمته وعلوه وقدرته على الأشياء ، واستكانت وتضاءلت بين يديه وتحت قهره وحكمه ، { وَهُوَ الحكيم } : أي في جميع أفعاله ، { الخبير } بمواضع الأشياء ومحالها فلا يعطي إلاّ من يستحق ، ولا يمنع إلاّ من يستحق . ثم قال : { قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً } أي من أعظم الأشياء شهادة ، { قُلِ الله شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي هو العالم بما جئتكم به وما أنتم قائلون لي { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } أي وهو نذير لكل من بلغه ، كقوله تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] ، قال ابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في قوله : { وَمَن بَلَغَ } ومن بلغه القرآن ، فكأنما رأى النبي صلى الله عليه وسلم . وروى ابن جرير عن محمد بن كعب قال : من بلغه القرآن فقد أبلغه محمد صلى الله عليه وسلم . وقال عبد الرزاق عن قتادة في قوله تعالى : { لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « بلغوا عن الله فمن بلغته آية من كتاب الله فقد بلغه أمر الله » ، وقال الربيع بن أنس : حق على من اتبع رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يدعو كالذي دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأن ينذر بالذي أنذر . وقوله : { أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ } أيها المشركون { أَنَّ مَعَ الله آلِهَةً أخرى قُل لاَّ أَشْهَدُ } كقوله : { فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } [ الأنعام : 150 ] ، { قُلْ إِنَّمَا هُوَ إله وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ } ، ثم قال تعالى مخبراً عن أهل الكتاب أنهم يعرفون هذا الذي جئتهم به كما يعرفون أبناءهم بما عندهم من الأخبار والأنباء عن المرسلين المتقدمين والأنبياء ، فإن الرسل كلهم بشروا بوجود محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته وبلده ومهاجره وصفة أمته ، ولهذا قال بعده : { الذين خسروا أَنْفُسَهُمْ } أي خسروا كل الخسارة ، { فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } بهذا الأمر الجلي الظاهر الذي بشرت به الأنبياء ونوهت به في قديم الزمان وحديثه ، ثم قال : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } أي لا أظلم ممن تقول على الله فادعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله ، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله وحججه وبراهينه ودلالاته { إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } أي لا يفلح هذا ولا هذا ، لا المفتري ولا المكذب .
(1/725)
وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا وَاللَّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا حَتَّى إِذَا جَاءُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26)
يقول تعالى مخبراً عن المشركين { وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } يوم القيامة فيسألهم عن الأصنام والأنداد التي كانوا يعبدونها من دونه ، قائلاً لهم : { أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } ، كقوله تعالى في سورة القصص : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ القصص : 62 ، 74 ] ، وقوله تعالى : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } أي حجتهم { إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ، قال ابن عباس : أي حجتهم ، وقال عطاء عنه : أي معذرتهم ، وكذا قال قتادة ، وقال عطاء الخراساني : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ } بليتهم حين ابتلوا { إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } وقال ابن جرير : والصواب : ثم لم يكن قيلهم عند فتنتنا إياهم اعتذاراً عما سلف منهم من الشرك بالله { إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } ، وقال ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال : أتاه رجل . فقال : يا ابن عباس سمعت الله يقول : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } قال : أما قوله : { والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ } فإنهم رأوا أنه لا يدخل الجنة إلاّ أهل الصلاة ، فقالوا : تعالوا فلنجحد فيجحدون ، فيختم الله على أفواههم ، وتشهد أيديهم وأرجلهم ، ولا يكتمون الله حديثاً فهل في قلبك الآن شيء؟ إنه ليس من القرآن شيء إلاّ ونزل فيه شيء ، ولكن لا تعلمون وجهه ، ولهذا قال في حق هؤلاء : { انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } ، كقوله : { ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تُشْرِكُونَ مِن دُونِ الله قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا } [ غافر : 73-74 ] الآية ، وقوله : { وَمِنْهُمْ مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وفي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } : أي يجيئون ليستمعوا قراءتك ولا تجزي عنهم شيئاً لأن الله جعل { على قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً } أي أغطية لئلا يفقهوا القرآن ، { وفي آذَانِهِمْ وَقْراً } أي صمماً عن السماع النافع لهم . كما قال تعالى : { وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً } [ البقرة : 171 ] الآية .
وقوله تعالى : { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } أي مهما رأوا من الآيات والدلالات والحجج البينات والبراهين لا يؤمنوا بها ، فلا فهم عندهم ولا إنصاف ، كقوله تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ } [ الأنفال : 23 ] الآية . وقوله تعالى : { حتى إِذَا جَآءُوكَ يُجَادِلُونَكَ } أي يحاجونك ويناظرونك في الحق بالباطل ، { يَقُولُ الذين كفروا إِنْ هاذآ إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأولين } أي ما هذا الذي جئت به إلاّ مأخوذ من كتب الأوائل ومنقول عنهم . وقوله : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } في معنى ينهون عنه قولان ، ( أحدهما ) : أن المراد أنهم ينهون الناس عن اتباع الحق وتصديق الرسول والانقياد للقرآن { وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } أي ويبعدون هم عنه فيجمعون بين الفعلين القبيحين لا ينتفعون ولا يدعون أحداً ينتفع .
(1/726)
قال ابن عباس : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } يردون الناس عن محمد صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به . وقال محمد بن الحنفيه : كان كفار قريش لا يأتون النبي صلى الله عليه وسلم وينهون عنه ، وهذا القول أظهر وهو اختيار ابن جرير . ( والقول الثاني ) : رواه سفيان عن ابن عباس قال : نزلت في أبي طالب ، كان ينهى الناس عن النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤذى ، وقال سعيد بن أبي هلال : نزلت في عمومة النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا عشرة ، فكانوا أشد الناس معه في العلانية وأشد الناس عليه في السر . وقال محمد بن كعب القرظي : { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ } أي ينهون الناس عن قتله . وقوله : { وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ } أي يتباعدون منه ، { وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أي وما يهلكون بهذا الصنيع ولا يعود وباله إلاّ عليهم وهم لا يشعرون .
(1/727)
وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقَالُوا يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلَا نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُمْ مَا كَانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَلَوْ رُدُّوا لَعَادُوا لِمَا نُهُوا عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُوا إِنْ هِيَ إِلَّا حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30)
يذكر تعالى حال الكفار إذا وقفوا يوم القيامة على النار وشاهدوا ما فيها من السلاسل والأغلال ورأوا بأعينهم تلك الأمور العظام والأهوال ، فعند ذلك قالوا : { ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } يتمنون أن يردوا إلى الدار الدنيا ليعملوا عملاً صالحاً ولا يكذبوا بآيات ربهم ويكونوا من المؤمنين ، قال الله تعالى : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ } أي بل ظهر لهم حينئذٍ ما كانوا يخفون في أنفسهم من الكفر والتكذيب والمعاندة وإن أنكروها في الدنيا أو في الآخرة ، كما قال قبله بيسير : { ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ والله رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ * انظر كَيْفَ كَذَبُواْ على أَنفُسِهِمْ } [ الأنعام : 23-24 ] ، ويحتمل أنهم ظهر لهم ما كانوا يعلمونه من أنفسهم من صدق ما جاءتهم به الرسل في الدنيا ، وإن كانوا يظهرون لأتباعهم خلافه كقوله مخبراً عن موسى أنه قال لفرعون : { لَقَدْ عَلِمْتَ مَآ أَنزَلَ هؤلاء إِلاَّ رَبُّ السماوات والأرض بَصَآئِرَ } [ الإسراء : 102 ] الآية . وقوله تعالى مخبراً عن فرعون وقومه : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً } [ النمل : 14 ] ، ويحتمل أن يكون المراد بهؤلاء المنافقين الذين كانوا يظهرون الإيمان للناس ويبطنون الكفر ، ويكون هذا إخباراً عما يكون يوم القيامة من كلام طائفة من الكفار ، ولا ينافي هذا كون هذه السورة مكية ، والنفاق إنما كان من بعض أهل المدينة ومن حولها من الأعراب ، فقد ذكر الله وقوع النفاق في سورة مكية وهي العنكبوت فقال : { وَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين آمَنُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ المنافقين } [ الآية : 11 ] ، وعلى هذا فيكون إخباراً عن قول المنافقين في الدار الآخرة حين يعاينون العذاب ، فظهر لهم حينئذٍ غِبُّ ما كانوا يبطنون من الكفر والنفاق والشقاق ، والله أعلم .
وأما معنى الإضراب في قوله : { بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ } فإنهم ما طلبوا العود إلى الدنيا رغبة ومحبة في الإيمان ، بل خوفاً من العذاب الذي عاينوه جزاء على ما كانوا عليه من الكفر ، فسألوا الرجعة إلى الدنيا ليتخلصوا مما شاهدوا من النار ، ولهذا قال : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي في طلبهم الرجعة رغبة ومحبة في الإيمان ، ثم قال مخبراً عنهم : إنهم لو ردوا إلى الدار الدنيا لعادوا لما نهوا عنه من الكفر والمخالفة ، { وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } أي في قولهم : { ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين } { وقالوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدنيا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } أي لعادوا لما نهو عنه ، ولقالوا إن هي إلاّ حياتنا الدنيا ، أي ما هي إلاّ هذه الحياة الدنيا ثم لا معاد بعدها ، ولهذا قال : { وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ } ، ثم قال { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ على رَبِّهِمْ } أي أوقفوا بين يديه { قَالَ أَلَيْسَ هذا بالحق } ؟ أي أليس هذا المعاد بحق وليس بباطل كما كنتم تظنون { قَالُواْ بلى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ } أي بما كنتم تكذبون به فذوقوا اليوم مسه { أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } [ الطور : 15 ] .
(1/728)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُوا يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلَا سَاءَ مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (32)
يقول تعالى مخبراً عن خسارة من كذب بلقائه وعن خيبته إذا جاءته الساعة بغتة ، وعن ندامته على ما فرط من العمل ، وما أسلف من قبيح الفعل ، ولهذا قال : { حتى إِذَا جَآءَتْهُمُ الساعة بَغْتَةً قَالُواْ ياحسرتنا على مَا فَرَّطْنَا فِيهَا } وهذا الضمير يحتمل عوده على الحياة وعلى الأعمال وعلى الدار الآخرة أي في أمرها ، وقوله : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } أي يحملون . وقال قتادة : يعملون ، وقال ابن أبي حاتم عن أبي مرزوق قال : يستقبل الكافر أو الفاجر عند خروجه من قبره كأقبح صورة رأيتها وأنتنه ريحاً ، فيقول : من أنت؟ فيقول : أو ما تعرفني؟ فيقول : لا والله ، إلاَّ أنَّ الله قبح وجهك وأنتن ريحك ، فيقول : أنا عملك الخبيث ، هكذا كنت في الدنيا خبيث العمل منتنه ، فطالما ركبتني في الدنيا ، هلم أركبك ، فهو قوله : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ } الآية ، وقال السدي : « ليس من رجل ظالم يدخل قبره إلاّ جاءه رجل قبيح الوجه أسود اللون منتن الريح ، وعليه ثياب دنسة حتى يدخل معه قبره ، فإذا رآه قال : ما أقبح وجهك! قال : كذلك كان عملك قبيحاً ، قال : ما أنتن ريحك ، قال : كذلك كان عملك منتناً ، قال : ما أدنس ثيابك! قال ، فيقول : إن عملك كان دنساً ، قال له : من أنت؟ قال : عملك ، قال : فيكون معه في قبره ، فإذا بعث يوم القيامة قال له : إني كنت أحملك في الدنيا باللذات والشهوات ، وأنت اليوم تحملني ، قال : فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخله النار ، فذلك قوله : { وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ على ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } ، وقوله : { وَمَا الحياة الدنيآ إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ } ، أي إنما غالبها كذلك ، { وَلَلدَّارُ الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؟ .
(1/729)
قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلَى مَا كُذِّبُوا وَأُوذُوا حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ وَلَقَدْ جَاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِنْ كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقًا فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّمًا فِي السَّمَاءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)
يقول تعالى مسلياً لنبيه صلى الله عليه وسلم في تكذيب قومه له ومخالفتهم إياه : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ } أي قد أحطنا علماً بتكذيبهم لك وحزنك وتأسفك عليهم ، كقوله : { فَلاَ تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ } [ فاطر : 8 ] ، كما قال تعالى في الآية الأخرى : { لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ } [ الشعراء : 3 ] ، { فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَّفْسَكَ على آثَارِهِمْ إِن لَّمْ يُؤْمِنُواْ بهذا الحديث أَسَفاً } [ الكهف : 6 ] وقوله : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } أي لا يتهمونك بالكذب في نفس الأمر ، { ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } أي ولكنهم يعاندون الحق ويدفعونه بصدورهم ، كما قال أبو جهل للنبي صلى الله عليه وسلم : إنا لا نكذبك ، ولكن نكذب ما جئت به ، فأنزل الله : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } . وقال ابن أبي حاتم عن أبي يزيد المدني أن النبي صلى الله عليه وسلم لقي أبا جهل فصافحه ، فقال له رجل : ألا أراك تصافح هذا الصابىء؟ فقال : والله إني لأعلم إنه لنبي ، ولكن متى كنا لبني عبد مناف تبعاً؟ وتلا أبو يزيد : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } .
وذكر محمد بن إسحاق عن الزهري في قصة أبي جهل حين جاء يستمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم من الليل هو ( وأبو سفيان ) و ( الأخنس بن شريق ) ولا يشعر أحد منهم بالآخر ، فاستمعوها إلى الصباح ، فلما هجم الصبح ، تفرقوا فجمعتهم الطريق فقال كل منهم للآخر : ما جاء بك؟ فذكر له ما جاء به ، ثم تعاهدوا أن لا يعودوا لما يخافون من علم شباب قريش بهم ، لئلا يفتتنوا بمجيئهم ، فلما كانت الليلة الثانية جاء كل منهم ظناً أن صاحبيه لا يجيئان لما سبق من العهود ، فلما أصبحوا جمعتهم الطريق ، فتلاوموا ، ثم تعاهدوا أن لا يعودوا ، فلما كانت الليلة الثالثة جاءوا أيضاً ، فلما أصبحوا تعاهدوا أن لا يعودوا لمثلها ، ثم تفرقوا ، فلما أصبح الأخنس بن شريق أخذ عصاه ، ثم خرج حتى أتى أبا سفيان بن حرب في بيته ، فقال : أخبرني يا أبا حنظلة عن رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال يا أبا ثعلبة : والله لقد سمعت أشياء أعرفها وأعرف ما يراد بها ، وسمعت أشياء ما عرفت معناها وما يراد بها ، قال الأخنس : وأنا والذي حلفت به ، ثم خرج من عنده حتى أتى أبا جهل فدخل عليه بيته ، فقال : يا أبا الحكم ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ قال : ماذا سمعت؟ قال : تنازعنا نحن وبنوا عبد مناف الشرف : أطعموا فأطعمنا ، وحملوا فحملنا ، وأعطوا فأعطينا ، حتى إذا تجاثينا على الركب وكنا كفرسي رهان قالوا : منا نبي يأتيه الوحي من السماء فمتى ندرك هذا؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا نصدقه ، قال : فقام عنه الأخنس وتركه .
(1/730)
وروى ابن جرير عن السدي في قوله : { قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الذي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } ، لما كان يوم بدر قال الأخنس بن شريق لبني زهرة : يا بني زهرة إن محمداً ابن أختكم ، فأنتم أحق من ذبَّ عن ابن أخته ، فإنه إن كان نبياً لم تقاتلوه اليوم ، وإن كان كاذباً كنتم أحق من كف عن ابن أخته ، قفوا حتى ألقى أبا الحكم فإن غلب محمد رجعتم سالمين ، وإن غلب محمداً فإن قومكم لم يصنعوا بكم شيئاً . فالتقى الأخنس وأبو جهل ، فخلا الأخنس بأبي جهل . فقال : يا أبا الحكم أخبرني عن محمد أصادق هو أم كاذب؟ فإنه ليس ها هنا من قريش غيري وغيرك يستمع كلامنا؟ فقال أبو جهل : ويحك! والله إن محمداً لصادق وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهبت بنو قصي باللواء والسقاية والحجابة والنبوة فماذا يكون لسائر قريش؟ فذلك قوله : { فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ ولكن الظالمين بِآيَاتِ الله يَجْحَدُونَ } فآيات الله محمد صلى الله عليه وسلم .
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حتى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا } ، هذه تسلية للنبي صلى الله عليه وسلم وتعزية له فيمن كذبه من قومه ، وأمر له بالصبر كما صبر أولو العزم من الرسل ، ووعد له بالنصر كما نصروا ، وبالظفر حتى كانت لهم العاقبة بعدما نالهم من التكذيب من قومهم والأذى البليغ ، ثم جاءهم النصر في الدنيا كما لهم النصر في الآخر ، ولهذا قال : { وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ الله } أي التي كتبها بالنصر في الدنيا والآخرة لعباده المؤمنين ، كما قال : { وَلَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنَا لِعِبَادِنَا المرسلين * إِنَّهُمْ لَهُمُ المنصورون * وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الغالبون } [ الصافات : 171-173 ] وقال تعالى : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] ، وقوله : { وَلَقدْ جَآءَكَ مِن نَّبَإِ المرسلين } أي من خبرهم كيف نصروا وأيدوا على من كذبهم من قومهم فلك فيهم أسوة وبهم قدوة ، ثم قال تعالى : { وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ } أي إن كان شق عليك إعراضهم عنك { فَإِن استطعت أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأرض أَوْ سُلَّماً فِي السمآء } ، قال ابن عباس : النفق : السرب فتذهب فيه فتأتيهم بآية ، أو تجعل لك سلماً في السماء ، فتصعد فيه ، فتأتيهم بآية أفضل مما أتيتهم به فافعل ، وقوله : { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الجاهلين } ، كقوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض كُلُّهُمْ جَمِيعاً } [ يونس : 99 ] الآية ، قال ابن عباس : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله أنه لا يؤمن إلاّ من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول . وقوله تعالى : { إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الذين يَسْمَعُونَ } أي إنما يستجيب لدعائك يا محمد من يسمع الكلام ويعيه ويفهمه ، كقوله : { لِّيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ القول عَلَى الكافرين } [ يس : 70 ] . وقوله : { والموتى يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } يعني بذلك الكفار لأنهم موتى القلوب ، فشبههم الله بأموات الأجساد ، فقال : { والموتى يَبْعَثُهُمُ الله ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } ، وهذا من باب التهكم بهم والإزراء عليهم .
(1/731)
وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَنْ يَشَإِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَمَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)
يقول تعالى : مخبراً عن المشركين أنهم كانوا يقولون لولا نزل عليه آية من ربه أي خارق على مقتضى ما كانوا يريدون ومما يتعنتون ، كقولهم : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] الآيات ، { قُلْ إِنَّ الله قَادِرٌ على أَن يُنَزِّلٍ آيَةً ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } أي هو تعالى قادر على ذلك ولكن حكمته تعالى تقتضي تأخير ذلك ، لأنه لو أنزلها وفق ما طلبوا ثم لم يؤمنوا لعاجلهم بالعقوبة كما فعل بالأمم السالفة ، كما قال تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بالآيات إِلاَّ تَخْوِيفاً } [ الإسراء : 59 ] ، وقال تعالى : { إِن نَّشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِّنَ السمآء آيَةً فَظَلَّتْ أَعْنَاقُهُمْ لَهَا خَاضِعِينَ } [ الشعراء : 4 ] ، وقوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } ، قال مجاهد : أي أصناف مصنفة تعرف بأسمائها . وقال قتادة : الطير أمة ، والإنس أمة ، والجن أمة . وقال السدي : { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ } أي خلق أمثالكم . وقوله : { مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ } أي الجميع علمهم عند الله ولا ينسى واحداً من جميعها من رزقه وتدبيره سواء كان برياً أو بحرياً ، كقوله : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ هود : 6 ] أي مفصح بأسمائها ، وأعدادها ، ومظانها ، وحاصر لحركاتها وسكناتها ، وقال تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن دَآبَّةٍ لاَّ تَحْمِلُ رِزْقَهَا الله يَرْزُقُهَا وَإِيَّاكُمْ وَهُوَ السميع العليم } [ العنكبوت : 60 ] ، وقوله : { ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } . عن ابن عباس قال : حشرها الموت ، ( والقول الثاني ) : إن حشرها هو بعثها يوم القيامة ، لقوله : { وَإِذَا الوحوش حُشِرَتْ } [ التكوير : 5 ] .
عن أبي ذر قال : « بينما نحن عند رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا انتطحت عنزان ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أتدرون فيم انتطحتا؟ « قالوا : لا ندري ، قال : » لكن الله يدري وسيقضي بينهما « ، قال أبو ذر : ولقد تركنا رسول الله وما يقلب طائر جناحيه في السماء إلاّ ذكر لنا منه علماً » وفي الحديث : « إن الجمعاء لتقتص من القرناء يوم القيامة » وقال عبد الرزاق عن أبي هريرة في قوله : { إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَّا فَرَّطْنَا فِي الكتاب مِن شَيْءٍ ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ } قال : يحشر الخلق كلهم يوم القيامة ، البهائم والدواب والطير وكل شيء ، فيبلغ من عدل الله يومئذٍ أن يأخذ للجماء من القرناء ، ثم يقول : كوني تراباً . فلذلك يقول الكافر : { ياليتني كُنتُ تُرَاباً } [ النبأ : 40 ] . وقوله : { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظلمات } أي مثلهم في جهلهم وقلة علمهم وعدم فهمهم كمثل أصم وهو الذي لا يسمع ، أبكم : وهو الذي لا يتكلم . وهو مع هذا في ظلمات لا يبصر . فكيف يهتدي مثل هذا إلى الطريق أو يخرج مما هو فيه؟ كقوله : { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 17-18 ] ، وكما قال تعالى : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ يَغْشَاهُ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ مَوْجٌ مِّن فَوْقِهِ سَحَابٌ ظُلُمَاتٌ بَعْضُهَا فَوْقَ بَعْضٍ إِذَآ أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَرَاهَا وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ الله لَهُ نُوراً فَمَا لَهُ مِن نُورٍ } [ النور : 40 ] ، ولهذا قال : { مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي هو المتصرف في خلقه بما يشاء .
(1/732)
قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاءَ وَتَنْسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45)
يخبر تعالى أنه الفعال لما يريد ، المتصرف في خلقه بما يشاء ، وأنه لا معقب لحكمه ، ولا يقدر أحد على صرف حكمه خلقه بل هو وحده لا شريك له ، الذي إذا سئل يجيب لمن يشاء ، ولهذا قال : { قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله أَوْ أَتَتْكُمْ الساعة } أي أتاكم هذا أو هذا { أَغَيْرَ الله تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي لا تدعون غيره لعلمكم أنه لا يقدر أحد على رفع ذلك سواه ، ولهذا قال : { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي في اتخاذكم آلهة معه { بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَآءَ وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ } أي في وقت الضرورة لا تدعون أحداً سواه وستذهب عنكم أصنامكم وأندادكم كقوله : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] الآية . وقوله : { وَلَقَدْ أَرْسَلنَآ إلى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بالبأسآء } يعني الفقر والضيق في العيش ، { والضرآء } وهي الأمراض والأسقام والآلام ، { لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ } أي يدعون الله ويتضرعون إليه ويخشعون . قال الله تعالى : { فلولا إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ } أي فهلا إذ ابتليناهم بذلك تضرعوا إلينا وتمسكوا لدينا ، { ولكن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ } أي ما رقت ولا خشعت ، { وَزَيَّنَ لَهُمُ الشيطان مَا كَانُواّ يَعْمَلُونَ } أي من الشرك والمعاندة والمعاصي ، { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } أي أعرضوا عنه وتناسوه وجعلوه وراء ظهورهم ، { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } أي فتحنا عليهم أبواب الرزق من كل ما يختارون ، وهذا استدراج منه تعالى وإملاء لهم ، عياذاً بالله من مكره ، ولهذا قال : { حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا } أي من الأموال والأولاد والأرزاق { أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً } أي على غفلة { فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } أي آيسون من كل خير . قال ابن عباس المبلس : الآيس ، وقال الحسن البصري : من وسّع الله عليه فلم ير أنه يمكر به فلا رأي له ، ومن قتر عليه فلم ير أنه ينظر له فلا رأي له ، ثم قرأ : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } قال : مكر بالقوم ورب الكعبة ، أعطوا حاجتهم ثم أخذوا . وقال قتادة : بغت القوم أمر الله وما أخذ الله قوماً قط إلاّ عند سكرتهم وغرتهم ونعمتهم ، فلا تغتروا بالله ، فإنه لا يغتر بالله إلاّ القوم الفاسقون .
وقال مالك عن الزهري { فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ } قال : رخاء الدنيا ويسرها ، . وقد قال الإمام أحمد عن عقبة بن عامر ، عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « إذا رأيت الله يعطي العبد من الدنيا على معاصيه ما يحب فإنما هو استدراج » ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } . وعن عباده بن الصامت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : إذا أراد الله بقوم بقاء أو نماء رزقهم القصد والعفاف وإذا اراد الله بقوم اقتطاعاً فتح لهم - أو فتح عليهم - باب خيانة { حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } ، كما قال : { فَقُطِعَ دَابِرُ القوم الذين ظَلَمُواْ والحمد للَّهِ رَبِّ العالمين } .
(1/733)
قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (49)
يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم قل لهؤلاء المكذبين المعاندين { أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ الله سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ } أي سلبكم إياها كما أعطاكموها ، كما قال تعالى : { هُوَ الذي أَنشَأَكُمْ وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار } [ الملك : 23 ] الآية ، ويحتمل أن يكون هذا عبارة عن منع الانتفاع بهما الانتفاع الشرعي ، ولهذا قال : { وَخَتَمَ على قُلُوبِكُمْ } ، كما قال : { أَمَّن يَمْلِكُ السمع والأبصار } [ يونس : 31 ] وقال : { وَاعْلَمُواْ أَنَّ الله يَحُولُ بَيْنَ المرء وَقَلْبِهِ } [ الأنفال : 24 ] وقوله : { مَّنْ إله غَيْرُ الله يَأْتِيكُمْ بِهِ } أي هل أحد غير الله يقدر على رد ذلك إليكم إذا سلبه الله منكم؟ لا يقدر على ذلك أحد سواه ، ولهذا قال : { انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات } أي نبينها ونوضحها ونفسرها دالة على أنه لا إله إلا الله ، وأن ما يعبدون من دونه باطل وضلال ، { ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ } أي ثم هم مع البيان يصدفون ، أي يعرضون عن الحق ويصدون الناس عن اتباعه . قال ابن عباس : يصدفون أي يعدلون . وقال مجاهد وقتادة : يعرضون ، وقال السدي : يصدون . وقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ الله بَغْتَةً } أي وأنتم لا تشعرون به حتى بغتكم وفجأكم ، { أَوْ جَهْرَةً } أي ظاهراً عياناً ، { هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ القوم الظالمون } أي إنما كان يحيط بالظالمين أنفسهم بالشرك بالله وينجو الذين كانوا يعبدون الله وحده لا شريك له فلا خوف عليهم ولا هم يحزنون ، وقوله : { وَمَا نُرْسِلُ المرسلين إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } أي مبشرين عباد الله المؤمنين بالخيرات ، ومنذرين من كفر بالله النقمات والعقوبات ، ولهذا قال : { فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ } أي فمن آمن قلبه بما جاءوا به وأصلح عمله باتباعه إياهم { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي بالنسبة لما يستقبلونه ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي بالنسبة إلى ما فاتهم وتركوه وراء ظهورهم من أمر الدنيا وصنيعها ، الله وليهم فيما خلفوه ، وحافظهم فيما تركوه ، ثم قال : { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ العذاب بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } أي ينالهم العذاب بما كفروا بما جاءت به الرسل ، وخرجوا عن أوامر الله وطاعته ، وارتكبوا من مناهيه ومحارمه وانتهاك حرماته .
(1/734)
قُلْ لَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلَا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)
يقول الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم : { قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ الله } أي لستُ أملكها ولا أتصرف فيها ، { ولا أَعْلَمُ الغيب } أي ولا أقول لكم إني أعلم الغيب إنما ذاك من علم الله عزَّ وجلَّ ، ولا أطلع منه إلا على ما أطلعني عليه ، { ولا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ } أي ولا أدعي أني ملك ، إنما أنا بشر من البشر يوحى إليَّ من الله عزَّ وجلَّ ، شرفني بذلك وأنعم عليّ به ، ولهذا قال : { إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يوحى إِلَيَّ } أي لست أخرج عنه قيد شبر ولا أدنى منه ، { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأعمى والبصير } أي هل يستوي من اتبع الحق وهدي إليه ، ومن ضل عنه فلم ينقد له { أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ } ؟ وهذه كقوله تعالى : { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } [ الرعد : 19 ] . وقوله : { وَأَنذِرْ بِهِ الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } أي وأنذر بهذا القرآن يا محمد ، { إِنَّ الذين هُم مِّنْ خَشْيةِ رَبِّهِمْ مُّشْفِقُونَ } [ المؤمنون : 57 ] ، { وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ } [ الرعد : 21 ] ، { الذين يَخَافُونَ أَن يحشروا إلى رَبِّهِمْ } أي يوم القيامة { لَيْسَ لَهُمْ } أي يومئذٍ { مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } أي لا قريب لهم ولا شفيع فيهم من عذابه إن أراده بهم { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي أنذر هذا اليوم الذي لا حاكم فيه إلاّ الله عزَّ وجلَّ { لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } فيعملون في هذه الدار عملاً ينجيهم الله به يوم القيامة من عذابه ، ويضاعف لهم به الجزيل من ثوابه ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي لا تبعد هؤلاء المتصفين بهذه الصفات عنك بل اجعلهم جلساءك وأخصاءك ، كقوله : { واصبر نَفْسَكَ مَعَ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُم بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلاَ تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الحياة الدنيا وَلاَ تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا واتبع هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطاً } [ الكهف : 28 ] ، وقوله : { يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } أي يعبدونه ويسألونه { بالغداة والعشي } ، قال سعيد ابن المسيب : المراد به الصلاة المكتوبة ، وهذا كقوله : { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] أي أتقبل منكم ، وقوله : { يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } أي يريدون بذلك العمل وجه الله الكريم وهم مخلصون فيما هم فيه من العبادات والطاعات وقوله : { مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِمْ مِّن شَيْءٍ } ، كقول نوح عليه السلام في جواب الذين { قالوا أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون * قَالَ وَمَا عِلْمِي بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * إِنْ حِسَابُهُمْ إِلاَّ على رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ } [ الشعراء : 111-113 ] أي إنما حسابهم على الله عزَّ وجلَّ ، وليس عليّ من حسابهم من شيء ، كما أنه ليس عليهم من حسابي من شيء ، وقوله : { فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظالمين } أي إن فعلت هذا والحالة هذه .
(1/735)
روى ابن جرير عن ابن مسعود قال : مر الملأ من قريش برسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده صهيب وبلال وعمار وخباب وغيرهم من ضعفاء المسلمين فقالوا يا محمد : أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أهؤلاء الذين منَّ الله عليهم من بيننا؟ أنحن نصير تبعاً لهؤلاء؟ اطردهم فلعلك إن طردتهم نتبعك ، فنزلت هذه الآية : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي يُرِيدُونَ وَجْهَهُ } ، { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } إلى آخر الآية ، وقال ابن أبي حاتم عن خباب في قول الله عزَّ وجلَّ : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } قال : جاء الأقرع بن حابس التميمي وعيينة بن حصن الفزاري فوجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم مع صهيب وبلال وعمار وخباب قاعداً في ناس من الضعفاء من المؤمنين ، فلما رأوهم حول النبي صلى الله عليه وسلم حقّروهم في نفر من أصحابه فأتوه فخلوا به ، وقالوا : إنا نريد أن تجعل لنا منك مجلساً تعرف لنا به العرب فضلنا : فإن وفود العرب تأتيك فنستحيي أن ترانا العرب مع هذه الأعبد ، فإذا نحن جئناك فأقمهم عنا ، فإذا نحن فرغنا فاقعد معهم إن شئت . قال : « نعم » ، قالوا : فاكتب لنا عليك كتاباً ، قال : فدعا بصحيفة ودعا علياً ليكتب ونحن قعود في ناحية ، فنزل جبريل فقال : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ } الآية ، فرمى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالصحيفة من يده ، ثم دعانا فأتيناه . وقال سعد نزلت هذه الآية في ستة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ، منهم ابن مسعود قال : كنا نستبق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وندنو منه ، فقالت قريش : تدني هؤلاء دوننا ، فنزلت : { وَلاَ تَطْرُدِ الذين يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بالغداة والعشي } .
وقوله تعالى : { وكذلك فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ } أي ابتلينا واختبرنا ، وامتحنا بعضهم ببعض { ليقولوا أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان غالب من اتبعه في أول بعثته ضعفاء الناس من الرجال والنساء والعبيد والإماء ولم يتبعه من الأشراف إلا قليل ، كما قال نوح لنوح : { وَمَا نَرَاكَ اتبعك إِلاَّ الذين هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرأي } [ هود : 27 ] الآية ، وكما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان حين سأله عن تلك المسائل فقال له فأشراف الناس يتبعونه أم ضعفاؤهم؟ فقال : بل ضعفاؤهم ، فقال : هم أتباع الرسل ، والغرض أن مشركي قريش كانوا يسخرون بمن آمن من ضعفائهم ويعذبون من يقدرون عليه منهم ، وكانوا يقولون : أهؤلاء من الله عليهم من بيننا؟ أي ما كان الله ليهدي هؤلاء إلى الخير لو كان ما صاروا إليه خيراً ويدعنا كقولهم : { لَوْ كَانَ خَيْراً مَّا سَبَقُونَآ إِلَيْهِ } [ الأحقاف : 11 ] وكقوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بينات قَالَ الذين كَفَرُواْ لِلَّذِينَ آمنوا أَيُّ الفريقين خَيْرٌ مَّقَاماً وَأَحْسَنُ نَدِيّاً }
(1/736)
[ مريم : 73 ] قال الله تعالى في جواب ذلك : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِءْياً } [ مريم : 74 ] ، وقال في جوابهم حين قالوا : { أهؤلاء مَنَّ الله عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَآ } ، { أَلَيْسَ الله بِأَعْلَمَ بالشاكرين } ؟ أي أليس هو أعلم بالشاكرين له بأقوالهم وأفعالهم وضمائرهم فيوفقهم ويهديهم سبل السلام ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ويهديهم إلى صراط مستقيم كما قال تعالى : { والذين جَاهَدُواْ فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ الله لَمَعَ المحسنين } [ العنكبوت : 69 ] . وفي الحديث الصحيح : « إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى ألوانكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » .
وقوله تعالى : { وَإِذَا جَآءَكَ الذين يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ } أي فأكرمهم برد السلام عليهم وبشرهم برحمة الله الواسعة الشاملة لهم ، ولهذا قال : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } أي أوجبها على نفسه الكريمة تفضلاً منه وإحساناً وامتناناً { أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سواءا بِجَهَالَةٍ } ، قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل . وقال بعضهم : الدنيا كلها جهالة . { ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ } أي رجع عما كان عليه من المعاصي وأقلع ، وعزم على أن لا يعود وأصلح العمل في المستقبل { فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . قال الإمام أحمد عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما قضى الله على الخلق كتب في كتاب فهو عنده فوق العرش إن رحمتي غلبت غضبي » أخرجاه في الصحيحين .
(1/737)
وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لَا أَتَّبِعُ أَهْوَاءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَكَذَّبْتُمْ بِهِ مَا عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لَا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُهَا وَلَا حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الْأَرْضِ وَلَا رَطْبٍ وَلَا يَابِسٍ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُبِينٍ (59)
يقول تعالى : وكما بينا ما تقدم بيانه من الحجج والدلائل على طريق الهداية والرشاد وذم المجادلة والعناد ، { وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات } أي التي يحتاج المخاطبون إلى بيانها ، { وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين } أي ولتظهر طريق المجرمين المخالفين للرسل ، وقوله : { قُلْ إِنِّي على بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي } أي على بصيرة من شريعة الله التي أوحاها الله إليّ ، { وَكَذَّبْتُم بِهِ } أي بالحق الذي جاءني من الله ، { مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ } أي من العذاب ، { إِنِ الحكم إِلاَّ للَّهِ } أي إنما يرجع أمر ذلك إلى الله إن شاء عجل لكم ما سألتموه من ذلك ، وإن شاء أنظركم وأجلكم لما له في ذلك من الحكمة العظيمة ، ولهذا قال : { يَقُصُّ الحق وَهُوَ خَيْرُ الفاصلين } أي وهو خير من فصل القضايا وخير الفاصلين في الحكم بين عباده ، وقوله : { قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ } أي لو كان مرجع ذلك إليّ لأوقعت لكم ما تستحقونه من ذلك ، والله أعلم بالظالمين . فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية وبين ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا رسول الله هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أُحُد؟ فقال : » لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منه يوم العقبة ، إذ عرضت نفسي على ( ابن عبد ياليل بن عبد كلال ) فلم يجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفق إلاّ بقرن الثعالب ، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد ظللتني ، فنظرت فإذا فيها جبريل عليه السلام ، فناداني ، فقال : إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم ، قال : فناداني ملك الجبال وسلم عليَّ ، ثم قال : يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك ، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فيما شئت ، إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله لا يشرك به شيئاً » ، فقد عرض عليه عذابهم واستئصالهم فاستأنى بهم ، وسأل لهم التأخير لعل الله أن يخرج من أصلابهم من لا يشرك به شيئاً ، فما الجمع بين هذا وبين قوله تعالى في هذه الآية الكريمة : { قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأمر بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ والله أَعْلَمُ بالظالمين } ؟ فالجواب - والله أعلم - أن هذه الآية دلت على أنه لو كان إليه وقوع العذاب الذي يطلبونه حال طلبهم له لأوقعه بهم . وأما الحديث فليس فيه إنهم سألوه وقوع العذاب بهم بل عرض عليه ملك الجبال ، أنه إن شاء أطبق عليهم الأخشبين ، وهما جبلا مكة اللذان يكتنفانها جنوباً وشمالاً ، فلهذا استأنى بهم وسأل الرفق لهم .
(1/738)
وقوله تعالى : { وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الغيب لاَ يَعْلَمُهَآ إِلاَّ هُوَ } قال البخاري عن سالم بن عبد الله عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « مفاتح الغيب خمس لا يعلمهن إلاّ الله » ثم قرأ : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة وَيُنَزِّلُ الغيث وَيَعْلَمُ مَا فِي الأرحام وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَّاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ الله عَلَيمٌ خَبِيرٌ } [ لقمان : 34 ] ، وفي حديث عمر أن جبريل حين تبدى له في صورة أعرابي ، فسأل عن الإيمان والإسلام والإحسان . فقال له النبي صلى الله عليه وسلم فيما قال له : « خمس لا يعلمهن إلاّ الله » ثم قرأ : { إِنَّ الله عِندَهُ عِلْمُ الساعة } الآية . وقوله : { وَيَعْلَمُ مَا فِي البر والبحر } أي يحيط علمه الكريم بجميع الموجودات بريها وبحريها لا يخفى عليه من ذلك شيء ولا مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، وما أحسن ما قاله الصرصري :
فلا يخفى عليه الذر إما ... تراءى للنواظر أو توارى
وقوله تعالى : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } أي ويعلم الحركات حتى من الجمادات ، فما ظنك بالحيوانات ولا سيما بالمكلفون منهم من جنهم وإنسهم ، كما قال تعالى : { يَعْلَمُ خَآئِنَةَ الأعين وَمَا تُخْفِي الصدور } [ غافر : 19 ] . وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا } قال : ما من شجرة في بر ولا بحر إلاّ وملك موكل بها يكتب ما يسقط منها ، وقوله : { وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } قال عبد الله بن الحارث : ما في الأرض من شجرة ولا مغرز إبرة إلاّ وعليها ملك موكل يأتي الله بعلمها رطوبتها إذا رطبت ويبوستها إذا يبست .
(1/739)
وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لَا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ أَلَا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62)
يقول تعالى : إنه يتوفى عباده في منامهم بالليل ، وهذا هو التوفي الأصغر ، كما قال تعالى : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ الزمر : 42 ] فذكر في هذه الآية الوفاتين الكبرى والصغرى ، وهكذا ذكر في هذا المقام حكم الوفاتين الصغرى ثم الكبرى ، فقال : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم باليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } أي ويعلم ما كسبتم من الأعمال بالنهار ، وهذه جملة معترضة دلت على إحاطة علمه تعالى بخلقه في ليلهم ونهارهم في حال سكونهم حال حركتهم ، كما قال : { سَوَآءٌ مِّنْكُمْ مَّنْ أَسَرَّ القول وَمَنْ جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ باليل وَسَارِبٌ بالنهار } [ الرعد : 10 ] ، وكما قال تعالى : { وَمِن رَّحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اليل والنهار لِتَسْكُنُواْ فِيهِ } [ القصص : 73 ] أي في الليل ، { وَلِتَبتَغُواْ مِن فَضْلِهِ } [ القصص : 73 ] أي في النهار ، كما قال : { وَجَعَلْنَا اليل لِبَاساً وَجَعَلْنَا النهار مَعَاشاً } [ النبأ : 10-11 ] ، ولهذا قال تعالى ها هنا : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم باليل وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بالنهار } أي ما كسبتم من الأعمال فيه ، { ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ } أي في النهار ، قاله مجاهد وقتادة والسدي ، وقال ابن جريج : أي في المنام والأول أظهر ، وقد روى ابن مردويه بسنده عن الضحاك عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « مع كل إنسان ملك إذا نام أخذ نفسه ويرد إليه ، فإن أذن الله في قبض روحه قبضة وإلاّ رد إليه » فذلك قوله : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم باليل } وقوله : { ليقضى أَجَلٌ مُّسَمًّى } يعني به أجل كل واحد من الناس ، { ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ } أي يوم القيامة ، { ثُمَّ يُنَبِّئُكُم } أي يخبركم { بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ } ويجزيكم على ذلك إن خيراً فخير وإن شراً فشر ، وقوله : { وَهُوَ القاهر فَوْقَ عِبَادِهِ } أي وهو الذي قهر كل شيء وخضع لجلاله وعظمته وكبريائه كل شيء ، { وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً } أي من الملائكة يحفظون بدن الإنسان كقوله : { لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ الله } [ الرعد : 11 ] وحفظة يحفظون عمله ويحصونه كقوله : { وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ } [ الانفطار : 10 ] الآية ، وكقوله : { مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } [ ق : 18 ] وكقوله : { إِذْ يَتَلَقَّى المتلقيان } [ ق : 17 ] الآية .
وقوله تعالى : { حتى إِذَا جَآءَ أَحَدَكُمُ الموت } أي احتضر وحان أجله { تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا } أي ملائكة موكلون بذلك . قال ابن عباس وغير واحد : لملك الموت أعوان من الملائكة يخرجون الروح من الجسد فيقبضها ملك الموت إذا انتهت إلى الحلقوم ، وسيأتي عند قوله تعالى : { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت } [ إبراهيم : 27 ] الأحاديث المتعلقة بذلك الشاهدة لهذا بالصحة ، وقوله : { وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ } أي في حفظ روح المتوفى بل يحفظونها وينزلونها حيث شاء الله عزَّ وجلَّ ، إن كان من الأبرار ففي عليين ، وإن كان من الفجار ففي سجين عياذاً بالله من ذلك ، وقوله : { ثُمَّ ردوا إلى الله مَوْلاَهُمُ الحق } .
(1/740)
قال ابن جرير : { ثُمَّ ردوا } يعني الملائكة ، ونذكر ها هنا الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الميت تحضره الملائكة ، فإذا كان الرجل الصالح قالوا : اخرجي أيتها النفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ، اخرجي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان ، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ثم يعرج بها إلى السماء ، فيستفتح لها فيقال : من هذا؟ فيقال : فلان ، فيقال : مرحباً بالنفس الطيبة كانت في الجسد الطيب ، ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان ، فلا تزال يقال لها ذلك حتى ينتهي بها إلى السماء التي فيها الله عزَّ وجلَّ ، وإذا كان الرجل السوء قالوا : اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ، اخرجي ذميمة ، وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج ، فلا تزال يقال لها ذلك حتى تخرج ، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال : من هذا؟ فيقال : فلان ، فيقال : لا مرحباً بالنفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث ارجعي ذميمة فإنه لا يفتح لك أبواب السماء ، فترسل من السماء ، ثم تصير إلى القبر ، فيجلس الرجل الصالح فيقال له : مثل ما قيل في الحديث الأول ، ويجلس الرجل السوء فيقال له : مثل ما قيل في الحديث الثاني » ويحتمل أن يكون المراد بقوله : { ثُمَّ ردوا } يعني الخلائق كلهم إلى يوم القيامة فيحكم فيهم بعدله كما قال : { قُلْ إِنَّ الأولين والآخرين لَمَجْمُوعُونَ إلى مِيقَاتِ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [ الواقعة : 49-50 ] وقال : { وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً } [ الكهف : 47 ] ولهذا قال : { مَوْلاَهُمُ الحق أَلاَ لَهُ الحكم وَهُوَ أَسْرَعُ الحاسبين } .
(1/741)
قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنْجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)
يقول تعالى ممتناً على عباده في إنجائه المضطرين منهم من ظلمات البر والبحر أي الحائرين الواقعين في المهامه البرية ، وفي اللجج البحرية إذا هاجت الرياح العاصفة ، فحينئذ يفردون الدعاء له وحده له شريك له ، كقوله : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ } [ الإسراء : 67 ] الآية ، وقوله : { هُوَ الذي يُسَيِّرُكُمْ فِي البر والبحر حتى إِذَا كُنتُمْ فِي الفلك وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَآءَتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَآءَهُمُ الموج مِن كُلِّ مَكَانٍ وظنوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ الله مُخْلِصِينَ لَهُ الدين لَئِنْ أَنْجَيْتَنَا مِنْ هذه لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } [ يونس : 22 ] الآية ، وقوله : { أَمَّن يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر وَمَن يُرْسِلُ الرياح بُشْرَاً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أإله مَّعَ الله تَعَالَى الله عَمَّا يُشْرِكُونَ } [ النمل : 63 ] . وقال في هذه الآية الكريمة : { قُلْ مَن يُنَجِّيكُمْ مِّن ظُلُمَاتِ البر والبحر تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } أي جهراً وسراً ، { لَّئِنْ أَنجَانَا } أي من هذه الضائقة { لَنَكُونَنَّ مِنَ الشاكرين } أي بعدها ، قال الله : { قُلِ الله يُنَجِّيكُمْ مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ } أي بعد ذلك ، { تُشْرِكُونَ } أي تدعون معه في حال الرفاهية آلهة أخرى ، وقوله : { قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } لما قال : { ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ } عقبه بقوله : { قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً } أي بعد إنجائه إياكم كقوله : { وَإِذَا مَسَّكُمُ الضر فِي البحر ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى البر أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإنسان كَفُوراً } [ الإسراء : 67 ] . قال الحسن : هذه للمشركين ، وقال مجاهد : لأمة محمد صلى الله عليه وسلم وعفا عنهم ، ونذكر هنا الأحاديث الواردة في ذلك .
قال البخاري رحمه الله تعالى : يلبسكم : يخلطكم من الالتباس ، يلبسوا : يخلطوا ، شيعاً : فرقاً . ثم روى بسنده عن جابر بن عبد الله قال : « لما نزلت هذه الآية : { قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أعوذ بوجهك « ، { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال : » أعوذ بوجهك « { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هذه أهون - أو - أيسر « ( طريق آخر ) : قال الحافظ أبو بكر بن مردويه في تفسيره عن جابر قال : » لما نزلت { قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } قال رسول الله : « أعوذ بالله من ذلك » ، { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعوذ بالله من ذلك » ، { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } قال : « هذا أيسر » ولو استعاذه لأعاذه . ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن سعد بن أبي وقاص قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى مررنا على مسجد بني معاوية ، فدخل فصلى ركعتين ، فصلينا معه ، فناجى ربه عزَّ وجلَّ طويلاً ثم قال :
(1/742)
« سألت ربي ثلاثاً ، سألته : أن لا يهلك أمتي بالغرق فأعطانيها ، وسألته : أن لا يهلك أمتي بالسنة فأعطانيها ، وسألته : أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعنيها » ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن عبد الله بن عبد الله بن جابر بن عتيك أنه قال : جاءنا عبد الله بن عمر في حرة بني معاوية - قرية من قرى الأنصار - فقال لي : هل تدري أين صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجدكم هذا؟ فقلت : نعم ، فقال : فأشرت إلى ناحية منه ، فقال : هل تدري ما الثلاث التي دعاهن فيه؟ فقلت : أخبرني بهن ، فقلت : دعا أن لا يظهر عليهم عدواً من غيرهم ولا يهلكهم بالسنين فأعطيهما ، ودعا بأن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعها قال : صدقت فلا يزال الهرج إلى يوم القيامة .
( حديث آخر ) قال الإمام أحمد عن أنس بن مالك أنه قال : « رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفر صلى سبحة الضحى ثماني ركعات فلما انصرف قال : » إني صليت صلاة رغبة ورهبة « وسألت ربي ثلاثاً فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة : سألته أن لا يبتلي أمتي بالسنين ففعل ، وسألته أن لا يظهر عليهم عدوهم ففعل ، وسألته أن لا يلبسهم شيعاً فأبى عليّ » ورواه النسائي في الصلاة . ( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن خباب بن الأرت مولى بني زهرة وكان قد شهد بدراً مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « وافيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة صلاها كلها حتى كان مع الفجر فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم من صلاته فقلت : يا رسول الله لقد صليت الليلة صلاة ما رأيتك صليت مثلها! فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أجل إنها صلاة رغب ورهب ، سألت ربي عزَّ وجلَّ فيها ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة ، سألت ربي عزَّ وجلَّ أن لا يهلكنا بما أهلك به الأمم قبلنا فأعطانيها ، وسألت ربي عزَّ وجلَّ أن لا يظهر علينا عدواً من غيرنا فأعطانيها ، وسألت ربي عزَّ وجلَّ أن لا يلبسنا شيعاً فمنعنيها « ( حديث آخر ) : عن شداد بن أوس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إن الله زوى لي الأرض حتى رأيت مشارقها ومغاربها ، وإن ملك أمتي سيبلغ ما زوى لي منها ، وإني أعطيت الكنزين الأبيض والأحمر ، وإني سألت ربي عزَّ وجلَّ أن لا يهلك أمتي بسنة عامة وأن لا يسلط عليهم عدواً فيهلكهم بعامة ، وأن لا يلبسهم شيعاً ، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض ، فقال : يا محمد إني إذا قضيت قضاء فإنه لا يرد ، وإني أعطيتك لأمتك أن لا أهلكهم بسنة عامة ، وان لا أسلط عليهم عدواً ممن سواهم فيهلكهم بعامة حتى يكون بعضهم يهلك بعضاً وبعضهم يقتل بعضاً وبعضهم يسبي بعضاً «
(1/743)
قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني لا أخاف على أمتي إلا الأئمة المضلين ، فإذا وضع السيف في أمتي لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة » .
( حديث آخر ) : قال الطبراني عن جابر بن سمرة السوائي عن علي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « سألت ربي ثلاث خصال فأعطاني اثنتين ومنعني واحدة ، فقلت : يا رب لا تهلك أمتي جوعاً فقال : هذه لك . قلت : يا رب لا تسلط عليهم عدواً من غيرهم يعني أهل الشرك فيجتاحهم قال : ذلك لك ، قلت : يا رب لا تجعل بأسهم بينهم - قال - فمنعني هذه » ( حديث آخر ) : قال الحافظ أبو بكر بن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « دعوت ربي عزَّ وجلَّ أن يرفع عن أمتي أربعاً فرفع الله عنهم اثنتين ، وأبى عَليَّ أن يرفع عنهم اثنتين : دعوت ربي أن يرفع الرجم من السماء والغرق من الأرض ، وأن لا يلبسهم شيعاً ، وأن لا يذيق بعضهم بأس بعض ، فرفع الله عنهم الرجم من السماء والغرق من الأرض ، وأبى أن يرفع اثنتين القتل والهرج » ( طريق أخرى ) : عن ابن عباس قال : « لما نزلت هذه الآية : { قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } قال : فقام النبي - صلى الله عليه وسلم فتوضا ثم قال : » اللهم لا ترسل على أمتي عذاباً من فوقهم ولا من تحت أرجلهم ولا تلبسهم شيعاً ، ولا تذق بعضهم بأس بعض « قال : فأتاه جبريل فقال : يا محمد إن الله قد أجار أمتك أن يرسل عليهم عذاباً من فوقهم أو من تحت أرجلهم » قال مجاهد وسعيد بن جبير والسدي وابن زيد وغير واحد في قوله : { عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } يعني الرجم ، { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } يعني الخسف وهذا هو اختيار ابن جرير .
وكان عبد الله بن مسعود يصيح وهو في المسجد أو على المنبر يقول : الا أيها الناس إنه قد نزل بكم ، إن الله يقول : { قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } لو جاءكم عذاب من السماء لم يبق منكم أحد { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } لو خسف بكم الأرض أهلككم ولم يبق منكم أحداً ، { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } ، ألا إنه نزل بكم أسوأ الثلاث . وقال ابن جرير عن ابن عباس { عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } يعني أمراءكم ، { أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ } يعني عبيدكم وسفلتكم ، قال ابن جرير : وهذا القول وإن كان له وجه صحيح لكن الأول أظهر وأقوى ، ويشهد له بالصحة قوله تعالى :
(1/744)
{ أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِيَ تَمُورُ أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السمآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [ الملك : 16-17 ] وفي الحديث : « ليكونن في هذه الأمة قذف وخسف ومسخ » ، وذلك مذكور مع نظائره في أمارات الساعة وأشراطها وظهور الآيات قبل يوم القيامة ، وستأتي في موضعها إن شاء الله تعالى . وقوله : { أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً } يعني يجعلكم ملتبسين شيعاً فرقاً متخالفين . قال ابن عباس : يعني الأهواء ، وكذا قال مجاهد وقد ورد في الحديث عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلاّ واحدة » وقوله تعالى : { وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ } ، قال ابن عباس وغير واحد : يعني يسلط بعضكم على بعض بالعذاب والقتل ، وقوله تعالى : { انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات } أي نبينها ونوضحها مرة ونفسرها { لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ } أي يفهمون ويتدبرون عن الله آياته وحججه وبراهينه . قال زيد ابن أسلم : لما نزلت { قُلْ هُوَ القادر على أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ } الآية ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » لا ترجعوا بعدي كفاراً يضرب بعضكم رقاب بعض بالسيف « قالوا : ونحن نشهد أن لا إله إلاّ الله وأنك رسول الله؟ قال : » نعم « ، فقال بعضهم : لا يكون هذا أبداً أن يقتل بعضنا بعضاً ونحن مسلمون ، فنزلت { انظر كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيات لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الحق قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } [ الأنعام : 65-67 ] » .
(1/745)
وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلَا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)
يقول تعالى : { وَكَذَّبَ بِهِ } أي بالقرآن الذي جئتهم به والهدى والبيان { قَوْمُكَ } يعني قريشاً ، { وَهُوَ الحق } أي الذي ليس وراءه حق ، { قُل لَّسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ } ، أي لست عليكم بحفيظ ، ولست بموكل بكم كقوله : { وَقُلِ الحق مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَآءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَآءَ فَلْيَكْفُرْ } [ الكهف : 29 ] ، أي إنما عليَّ البلاغ وعليكم السمع والطاعة ، فمن اتبعني سعد في الدنيا والآخرة ، ومن خالفني فقد شقي في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال : { لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ } قال ابن عباس : أي لكل نبأ حقيقة ، أي لكل خبر وقوع ولو بعد حين ، كما قال : { وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينِ } [ ص : 88 ] وقال : { لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ } [ الرعد : 38 ] ، وهذا تهديد ووعيد أكيد ، ولهذا قال بعده : { وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } ، وقوله : { وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا } أي بالتكذيب والاستهزاء { فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ } أي حتى يأخذوا في كلام آخر غير ما كانوا فيه من التكذيب { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان } ، والمراد بذلك كل فرد فرد من آحاد الأمة ، أن لا يجلس مع المكذبين الذين يحرفون آيات الله ويضعونها على غير مواضعها ، فإن جلس أحد معهم ناسياً { فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذكرى } بعد التذكر { مَعَ القوم الظالمين } ، ولهذا ورد في الحديث : « رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » وقال السدي في قوله : { وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشيطان } ، قال : إن نسيت فذكرت { فَلاَ تَقْعُدْ } معهم ، وكذا قال مقاتل بن حيان ، وهذه الآية هي المشار إليها في قوله : { وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } [ النساء : 140 ] الآية ، أي إنكم إذا جلستم معهم وأقررتموهم على ذلك فقد ساويتموهم فيما هم فيه ، وقوله : { وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } أي إذا تجنبوهم فلم يجلسوا معهم في ذلك فقد برئوا من عهدتهم وتخلصوا من إثمهم ، قال ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير ، قوله : { وَمَا عَلَى الذين يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ } قال : ما عليك أن يخوضوا في آيات الله إذا فعلت ذلك ، أي إذا تجنبتم وأعرضت عنهم ، وقال آخرون : بل معناه : وإن جلسوا معهم فليس عليهم من حسابهم من شيء ، وزعموا أن هذا منسوخ بآية النساء المدنية وهي قوله : { إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ } [ النساء : 140 ] ، قاله مجاهد والسدي وابن جريج وغيرهم . وعلى قولهم يكون قوله : { ولكن ذكرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي ولكن أمرناكم بالإعراض عنهم حينئذٍ تذكيراً لهم عما هم فيه لعلهم يتقون ذلك ولا يعودون إليه .
(1/746)
وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلَا شَفِيعٌ وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لَا يُؤْخَذْ مِنْهَا أُولَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ (70)
يقول تعالى : { وَذَرِ الَّذِينَ اتخذوا دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } أي دعهم وأعرض عنهم وأمهلهم قليلاً فإنهم صائرون إلى عذاب عظيم ، ولهذا قال : { وَذَكِّرْ بِهِ } أي ذكر الناس بهذا القرآن وحذرهم نقمة الله وعذابه الأليم يوم القيامة ، وقوله تعالى : { أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ } أي لئلا تبسل ، قال ابن عباس والحسن والسدي : تبسل : تسلم ، وقال الوالبي عن ابن عباس تفتضح . وقال قتادة : تحبس ، وقال ابن زيد : تؤاخذ ، وقال الكلبي : تجزى ، وكل هذا الأقوال والعبارات متقاربة في المعنى ، وحاصلها الإسلام للهلكة ، والحبس عن الخير ، والارتهان عن درك المطلوب ، كقوله : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين } [ المدثر : 38-39 ] ، وقوله : { لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ الله وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ } أي لا قريب ولا أحد يشفع فيها ، كقوله : { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ والكافرون هُمُ الظالمون } [ البقرة : 254 ] ، وقوله : { وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ } أي ولو بذلت كل مبذول ما قبل منها كقوله : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً } [ آل عمران : 91 ] الآية ، وكذا قال هاهنا : { أولئك الذين أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } .
(1/747)
قُلْ أَنَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنْفَعُنَا وَلَا يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)
قال السدي : قال المشركون للمسلمين اتبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد ، فأنزل الله عزَّ وجلَّ : { قُلْ أَنَدْعُواْ مِن دُونِ الله مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ على أَعْقَابِنَا } أي في الكفر { بَعْدَ إِذْ هَدَانَا الله } فيكون مثلنا مثل الذي استهوته الشياطين في الأرض ، يقول : مثلكم إن كفرتم بعد إيمانكم كمثل رجل خرج مع قوم على الطريق ، فضَّل الطريق ، فحيرته الشياطين واستهوته في الأرض وأصحابه على الطريق ، فجعلوا يدعونه إليهم يقولون : ائتنا فإنا على الطريق ، فأبى أن يأتيهم ، فذلك مثل من يتبعهم بعد المعرفة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومحمد هو الذي يدعو إلى الطريق ، والطريق هو الإسلام . وقال قتادة { استهوته الشياطين فِي الأرض } أضلته في الأرض : يعني استهوته سيرته ، كقوله : { تهوي إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] ، وقال ابن عباس : هذا مثل ضربه الله للآلهة ومن يدعو إليها ، والدعاة الذين يدعون إلى هدى الله عزَّ وجلَّ ، كمثل رجل ضل عن طريق تائهاً ، إذ ناداه مناد : يا فلان ابن فلان هلم إلى الطريق ، وله أصحاب يدعونه يا فلان هلم إلى الطريق ، فإن اتبع الداعي الأول انطلق به حتى يلقيه إلى الهلكة ، وإن أجاب من يدعوه إلى الهدى اهتدى إلى الطريق ، يقول : مثل من يعبد هذه الآلهة من دون الله فإنه يرى أنه في شيء حتى يأتيه الموت فيستقبل الندامة والهلكة .
وقوله تعالى : { كالذي استهوته الشياطين فِي الأرض } هم الغيلان يدعونه باسمه واسم أبيه وجده ، فيتبعها ، وهو يرى أنه في شيء فيصبح وقد رمته في هلكة ، وربما أكلته ، أو تلقيه في مضلة من الأرض يهلك فيها عطشاً ، فهذا مثل من أجاب الآلهة التي تعبد من دون الله عزَّ وجلَّ رواه ابن جرير . وقال مجاهد : { كالذي استهوته الشياطين فِي الأرض حَيْرَانَ } قال : رجل حيران يدعوه أصحابه إلى الطريق ، وذلك مثل من يضل من بعد أن هدي . وقال العوفي عن ابن عباس : هو الذي لا يستجيب لهدى الله ، وهو رجل أطاع الشيطان ، وعمل في الارض بالمعصية ، وحاد من الحق ، وضل عنه ، وله أصحاب يدعونه إلى الهدى ويزعمون أن الذي يأمرونه به هدى ، يقول الله ذلك لأوليائهم من الإنس { إِنَّ الهدى هُدَى الله } [ آل عمران : 73 ] والضلال ما يدعو إليه الجن ، رواه ابن جرير ، ثم قال : وهذا يقتضي أن أصحابه يدعونه إلى الضلال ويزعمون أنه هدى ، قال : وهذا خلاف ظاهر الآية ، فإن الله أخبر أنهم يدعونه إلى الهدى ، فغير جائز أن يكون ضلالاً وقد أخبر الله أنه هدى ، وهو كما قال ابن جرير ، فإن السياق يقتضي أن هذا الذي استهوته الشياطين في الارض حيران ، وهو منصوب على الحال أي في حال حيرته وضلاله وجهله وجه المحجة ، وله أصحاب على المحجة سائرون ، فجعلوا يدعونه إليهم وإلى الذهاب معهم على الطريقة المثلى وتقدير الكلام .
(1/748)
فيأبى عليهم ولا يلتفت إليهم ولو شاء الله لهداه ولرد به إلى الطريق ، ولهذا قال : { قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } كما قال : { وَمَن يَهْدِ الله فَمَا لَهُ مِن مُّضِلٍّ } [ الزمر : 37 ] ، وقال : { إِن تَحْرِصْ على هُدَاهُمْ فَإِنَّ الله لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [ النحل : 37 ] وقوله : { وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ العالمين } أي نخلص له العبادة وحده لا شريك له { وَأَنْ أَقِيمُواْ الصلاة واتقوه } أي وأمرنا بإقامة الصلاة وبتقواه في جميع الأحوال ، { وَهُوَ الذي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } أي يوم القيامة ، { وَهُوَ الذي خَلَقَ السماوات والأرض بالحق } أي بالعدل فهو خالقهما ومالكهما والمدبر لهما ولمن فيهما ، وقوله : { وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ } يعني يوم القيامة الذي يقول الله كن فيكون عن أمره كلمح البصر أو هو أقرب ، واختلف المفسرون في قوله : { يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصور } ، فقال بعضهم : المراد بالصور هنا جمع صورة أي يوم ينفخ فيها فتحيا . قال ابن جرير كما يقال : سور لسور البلد ، وهو جمع سورة ، والصحيح أن المراد بالصور القرن الذي ينفخ فيه إسرافيل عليه السلام ، قال ابن جرير : والصواب عندنا ما تظاهرت به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن إسرافيل قد التقم الصور وحتى جبهته متى يؤمر فينفخ » وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن عمرو قال ، « قال أعرابي : يا رسول الله ما الصور؟ قال : » قرن ينفخ فيه « .
(1/749)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَامًا آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)
قال الضحاك عن ابن عباس : إن أبا إبراهيم لم يكن اسمه آزر ، وإنما كان اسمه تارخ ، وقال مجاهد والسدي : آزر اسم صنم ، قلت : كأنه غلب عليه آزر لخدمته ذلك الصنم فالله أعلم ، وقال ابن جرير : هو سب وعيب بكلامهم ، ومعناه معوج ، وهي أشد كلمة قالها إبراهيم عليه السلام ، ثم قال ابن جرير : والصواب أن اسم أبيه أزر ، وقد يكون له اسمان كما لكثير من الناس ، أو يكون أحدهما لقباً ، وهذا الذي قاله جيد قوي والله أعلم . وقرأ الجمهور بالفتح ، إما على أنه علم أعجمي لا ينصرف ، وهو بدل من قوله لأبيه ، أو عطف بيان وهو أشبه ، والمقصود أن إبراهيم وعظ أباه في عبادة الأصنام وزجره عنها فلم ينته كما قال : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً } أي أتتأله لصنم تعبده من دون الله { إني أَرَاكَ وَقَوْمَكَ } أي السالكين مسلكك { فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي تائهين ، لا يهتدون أين يسلكون بل في حيرة وجهل ، وأمركم في الجهالة والضلال بين واضح لكل ذي عقل سليم ، وقال تعالى : { واذكر فِي الكتاب إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقاً نَّبِيّاً * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ ياأبت لِمَ تَعْبُدُ مَا لاَ يَسْمَعُ وَلاَ يُبْصِرُ وَلاَ يُغْنِي عَنكَ شَيْئاً * ياأبت إِنِّي قَدْ جَآءَنِي مِنَ العلم مَا لَمْ يَأْتِكَ فاتبعني أَهْدِكَ صِرَاطاً سَوِيّاً } [ مريم : 41-43 ] ، فكان إبراهيم عليه السلام يستغفر لأبيه مدة حياته ، فلما مات على الشرك وتبين إبراهيم ذلك رجع عن الاستغفار له وتبرأ منه ، كما قال تعالى : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 114 ] ، وثبت في الصحيح أن إبراهيم يلقى أباه آزر يوم القيامة ، فيقول له آزر : يا بني اليوم لا أعصيك ، فيقول إبراهيم أي رب ألم تعدني أنك لا تُخزني يوم يبعثون ، وأي خزي أخزى من أبي الأبعد؟ فيقال : يا إبراهيم انظر ما ورءاك ، فإذا هو بذبح متلطخ فيؤخذ بقوائمه فيلقى في النار ، وقوله : { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض } أي نبين له وجه الدلالة في نظره إلى خلقهما على وحدانية الله في ملكه وخلقه وأنه لا إله غيره ولا رب سواه ، كقوله : { قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض } [ يونس : 101 ] .
وقوله تعالى : { أَوَلَمْ يَنْظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السماوات والأرض } [ الأعراف : 185 ] ، وقال : { أَفَلَمْ يَرَوْاْ إلى مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ مِّنَ السمآء والأرض } [ سبأ : 9 ] وروى ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله : { وَكَذَلِكَ نري إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السماوات والأرض وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } ، فإنه تعالى جلى له الأمر سره وعلانيته ، فلم يخف عليه شيء من أعمال الخلائق ، فيحتمل أن يكون كشف له عن « بصره » حتى رأى ذلك عياناً ، ويحتمل أن يكون عن « بصيرته » حتى شاهده بفؤاده وتحققه وعرفه وعلم ما في ذلك من الحكم الباهرة والدلالات القاطعة ، كما رواه الإمام أحمد والترمذي عن معاذ بن جبل في حديث المنام :
(1/750)
« أتاني ربي في أحسن صورة فقال : يا محمد فيم يختصم الملأ الأعلى؟ فقلت : لا أدري يا رب ، فوضع يده بين كتفي حتى وجدت برد أنامله بين ثديي فتجلى لي كل شيء وعرفت ذلك » وذكر الحديث . وقوله : { وَلِيَكُونَ مِنَ الموقنين } قيل الواو زائدة تقديره : وكذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات والأرض ليكون من الموقنين ، كقوله : { وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيات وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ المجرمين } [ الأنعام : 55 ] وقيل : بل هي على بابها أي نريه ذلك ليكون عالماً وموقناً .
وقوله تعالى : { فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ الليل } أي تغشاه وستره { رَأَى كَوْكَباً } أي نجماً ، { قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ } أي غاب . قال محمد بن إسحاق الأفول : الذهاب ، وقال ابن جرير : يقال أفل النجم يأفِل ويأفلُ أفولاً وأفلاً : إذا غاب ، ومنه قول ذي الرمة :
مصابيح ليست باللواتي نقودها ... دياج ولا بالآفلات الزوائل
ويقال : أين أفلت عنا؟ بمعنى أين غبت عنا . { قَالَ لا أُحِبُّ الآفلين } ، قال قتادة : علم أن ربه دائم لا يزول { فَلَمَّآ رَأَى القمر بَازِغاً } أي طالعاً ، { قَالَ هذا رَبِّي فَلَمَّآ أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأَكُونَنَّ مِنَ القوم الضالين * فَلَماَّ رَأَى الشمس بَازِغَةً قَالَ هذا رَبِّي } أي هذا المنير الطالع ربي { هاذآ أَكْبَرُ } أي جرماً من النجم والقمر وأكثر إضاءة ، { فَلَمَّآ أَفَلَتْ } أي غابت { قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض } أي خلقهما { حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين } أي أخلصت ديني وأفردت عبادتي { لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض } أي خلقهما وابتدعهما على غير مثال سبق { حَنِيفاً } أي في حال كوني حنيفاً أي مائلاً عن الشرك إلى التوحيد ، ولهذا قال : { وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين } . وقد اختلف المفسرون في هذا المقام : هل هو مقام نظر أو مناظرة؟ فروى ابن جرير عن ابن عباس ما يقتضي أنه مقام نظر ، واختاره ابن جرير مستدلاً بقوله : { لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي } الآية . وقال محمد بن إسحاق : قال ذلك حين خرج من السرب الذي ولدته فيه أمه حين تخوفت عليه من نمروذ بن كنعان ، لما كان قد أخبر بوجود مولود يكون ذهاب ملكه على يديه ، فأمر بقتل الغلمان عامئذ ، فلما حملت أم إبراهيم به وحان وضعها ذهبت به إلى سرب ظاهر البلد ، فولدت فيه إبراهيم وتركته هناك ، وذكر أشياء من خوارق العادات ، كما ذكرها غيره من المفسرين من السلف والخلف .
والحق أن إبراهيم عليه السلام كان في هذا المقام مناظراً لقومه مبينا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام ، فبين في المقام الأول مع أبيه خطأهم في عبادة الأصنام الأرضية التي هي على صور الملائكة السماوية ليشفعوا لهم عنده في الرزق والنصر وغير ذلك مما يحتاجون إليه ، وبين في هذا المقام خطأهم وضلالهم في عبادة الهياكل وهي الكواكب السيارة السبعة المتحيرة ، وهي ( القمر وعطارد والزهرة والشمس والمريخ والمشتري وزحل ) وأشدهن إضاءة وأشرفهن عندهم الشمس ثم القمر ، ثم الزهرة ، فبين أولاً صلوات الله وسلامه عليه أن هذه الزهرة لا تصلح للإلهية ، فإنها مسخرة مقدرة بسير معين لا تزيع عنه يميناً ولا شمالاً ، ولا تملك لنفسها تصرفاً ، بل هي جرم من الأجرام خلقها الله منيرة لما له في ذلك من الحكم العظيمة ، وهي تطلع من الشرق ثم تسير فيما بينه وبين المغرب حتى تغيب عن الأبصار فيه ، ثم تبدو في الليلة القابلة على هذا المنوال ، ومثل هذه لا تصلح للإلهية ، ثم انتقل إلى القمر ، فبين فيه مثل ما بين في النجم ، ثم انتقل إلى الشمس كذلك ، فلما انتفت الإلهية عن هذه الأجرام الثلاثة التي هي أنور ما تقع عليه الأبصار وتحقق ذلك بالدليل القاطع { قَالَ ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ } أي أنا بريء من عبادتهن وموالاتهن ، فإن كانت آلهة فكيدوني بها جميعاً ثم لا تنظرون { إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين } أي إنما أعبد خالق هذه الأشياء ومسخرها ومقدرها ومدبرها الذي بيده ملكوت كل شيء وخالق كل شيء وربه وملكيه وإلهه ، كما قال تعالى :
(1/751)
{ إِنَّ رَبَّكُمُ الله الذي خَلَقَ السماوات والأرض فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } [ الأعراف : 54 ] وكيف يجوز أن يكون إبراهيم ناظراً في هذا المقام وهو الذي قال الله في حقه : { وَلَقَدْ آتَيْنَآ إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِن قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ * إِذْ قَالَ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا هذه التماثيل التي أَنتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ } [ الأنبياء : 51-52 ] الآيات ، وقال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجتباه وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ النحل : 120-121 ] .
وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 161 ] ، وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « كل مولود يولد على الفطرة » ، وفي صحيح مسلم عن عياض بن حماد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « قال الله إني خلقت عبادي حنفاء » ، وقال الله في كتابه العزيز : { فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } [ الروم : 30 ] وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى }
(1/752)
[ الأعراف : 172 ] ، ومعناه على أحد القولين كقوله : { فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا } [ الروم : 30 ] ، كما سيأتي بيانه ، فإذا كان هذا في حق سائر الخليقة ، فكيف يكون إبراهيم الخليل الذي جعله الله أمة قانتاً لله حنيفاً ولم يك من المشركين ناظراً في هذا المقام ، بل هو أولى بالفطرة السليمة والسجية المستقيمة بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بلا شك ولا ريب ، ومما يؤيد أنه كان في هذا المقام مناظراً لقومه فيما كانوا فيه من الشرك لا ناظراً قوله تعالى : { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً . . . } .
(1/753)
وَحَاجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلَا أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلَّا أَنْ يَشَاءَ رَبِّي شَيْئًا وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلَا تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولَئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)
يقول تعالى مخبراً عن خليله إبراهيم حين جادله قومه فيما ذهب إليه من التوحيد ، وناظروه بشبه من القول أنه قال : { أتحاجواني فِي الله وَقَدْ هَدَانِ } أي أتجادلونني في أمر الله وأنه لا إله إلاّ هو وقد بصّرني وهداني إلى الحق وأنا على بينة منه ، فكيف ألتفت إلى أقوالكم الفاسدة وشبهكم الباطلة؟ وقوله : { وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً } أي ومن الدليل على بطلان قولكم فيما ذهبتم إليه أن هذه الآلهة التي تعبدونها لا تؤثر شيئاً وأنا لا أخافها ولا أباليها ، فإن كان لها كيد فكيدوني بها ولا تنظرون بل عاجلوني بذلك ، وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَشَآءَ رَبِّي شَيْئاً } ، استثناء منقطع أي لا يضر ولا ينفع إلاّ الله عزَّ وجلَّ { وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً } أي أحاط علمه بجميع الأشياء فلا تخفى عليه خافية ، { أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ } أي فيما بينته لكم ، أفلا تعتبرون أن هذه الآلهة باطلة فتنزجروا عن عبادتها؟ وهذه الحجة نظير ما احتج بها نبي الله هود عليه السلام على قومه عاد فيما قص عنهم في كتابه حيث يقول : { قَالُواْ ياهود مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بتاركي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعتراك بَعْضُ آلِهَتِنَا بسواء قَالَ إني أُشْهِدُ الله واشهدوا أَنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ * مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ * إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى الله رَبِّي وَرَبِّكُمْ مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَآ } [ هود : 53-56 ] الآية ، وقوله : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ } أي كيف أخاف من هذه الأصنام التي تعبدونها من دون الله { وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً } ، قال ابن عباس وغير واحد من السلف : أي حجة ، وهذا كقوله تعالى : { أَمْ لَهُمْ شُرَكَاءُ شَرَعُواْ لَهُمْ مِّنَ الدين مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ الله } [ الشورى : 21 ] .
وقوله تعالى : { إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْمَآءٌ سَمَّيْتُمُوهَآ أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّآ أَنزَلَ الله بِهَا مِن سُلْطَانٍ } [ النجم : 23 ] وقوله : { فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ } أي فأيّ طائفتين أصوب ، الذي عبد من بيده الضر والنفع ، أو الذي عبد من لا يضر ولا ينفع بلا دليل؟ أيهما أحق بالأمن من عذاب الله يوم القيامة المؤمن أم المشرك؟ قال الله تعالى : { الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } أي هؤلاء الذين أخلصوا العبادة لله وحده لا شريك له ولم يشركوا به شيئاً هم الآمنون يوم القيامة المهتدون في الدنيا والآخرة . عن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت هذه الآية : { الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شق ذلك على الناس ، فقالوا : « يا رسول الله أينا لا يظلم نفسه؟ قال : » إنه ليس الذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : { يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] إنما هو الشرك «
(1/754)
وفي رواية لما نزلت : « { وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } شق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قالوا : وأينا لم يظلم نفسه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ليس كما تظنون إنما هي كما قال العبد الصالح لإبنه : { يابني لاَ تُشْرِكْ بالله إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } « وفي لفظ قالوا : » أينا لم يظلم نفسه؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ليس بالذي تعنون ، ألم تسمعوا ما قال العبد الصالح : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } إنما هو الشرك » ولابن أبي حاتم عن عبد الله مرفوعاً قال : { وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } قال : « بشرك » . وعن عبد الله قال : « لما نزلت : { الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » قيل لي أنت منهم « » .
وقال الإمام أحمد ، حدثنا إسحاق بن يوسف ، حدثنا أبو جناب عن زاذان عن جرير بن عبد الله قال : « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما برزنا من المدينة إذا راكب يوضع نحونا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » كأن هذا الراكب إياكم يريد « فانتهى إلينا الرجل ، فسلم فرددنا عليه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » من أين أقبلت؟ « قال : من أهلي وولدي وعشيرتي قال : » فأين تريد؟ « قال : أريد رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » فقد أصبته « قال : يا رسول الله علمني ما الإيمان؟ قال : » أن تشهد أن لا إله إلاّ الله وأن محمداً رسول الله ، وتقيم الصلاة ، وتؤتي الزكاة ، وتصوم رمضان ، وتحج البيت « قال : قد أقررت ، قال : ثم إن بعيره دخلت يده في جحر جرذان فهوى بعيره ، وهوى الرجل فوقع على هامته فمات . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » عليَّ بالرجل « فوثب إليه عمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان فأقعداه ، فقالا : يا رسول الله قبض الرجل ، قال : فأعرض عنهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أما رأيتما إعراضي عن الرجل ، فإني رأيت ملكين يدسان في فيه من ثمار الجنة ، فعلمت أنه مات جائعاً « ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هذا من الذين قال الله عزَّ وجلَّ فيهم : { الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ } الآية ، ثم قال : « دونكم أخاكم » فاحتملناه إلى الماء فغسلناه وحنطناه وكفناه وحملناه إلى القبر ، فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى جلس على شفير القبر ، فقال : « ألحدوا ولا تشقوا فإن اللحد لنا والشق لغيرنا »
(1/755)
وفي بعض الروايات هذا ممن عمل قليلاً وأجر كثيراً .
وروى ابن مردويه عن عبد الله بن سخبرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » من أعطي فشكر ومنع فصبر وظلم فاستغفر وظلم فغفر « وسكت قال : فقالوا : يا رسول الله ما له؟ قال : { أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } » وقوله : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ } أي وجهنا حجته عليهم . قال مجاهد وغيره يعني بذلك قوله : { وَكَيْفَ أَخَافُ مَآ أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الفريقين أَحَقُّ بالأمن } الآية . وقد صدقه الله وحكم له بالأمن والهداية فقال : { الذين آمَنُواْ وَلَمْ يلبسوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أولئك لَهُمُ الأمن وَهُمْ مُّهْتَدُونَ } ، ثم قال بعد ذلك كله : { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ آتَيْنَاهَآ إِبْرَاهِيمَ على قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَآءُ } قرىء بالإضافة وبلا إضافة ، وكلاهما قريب في المعنى . وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } أي حكيم في أقواله وأفعاله ، عليم : أي بمن يهديه ومن يضله وإن قامت عليه الحجج والبراهين ، كما قال : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 96-97 ] ، ولهذا قال هاهنا : { إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ } .
(1/756)
وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (88) أُولَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلَاءِ فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْمًا لَيْسُوا بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90)
يذكر تعالى أنه وهب لإبراهيم ( إسحاق ) بعد أن طعن في السن ، وأيس هو وامرأته ( سارة ) من الولد ، فجاءته الملائكة وهم ذاهبون إلى قوم لوط ، فبشروهما بإسحاق ، فتعجبت المرأة من ذلك ، وقالت : { ياويلتى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وهذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ } [ هود : 72 ] ، فبشروهما مع وجوده بنبوته وبأن له نسلاً وعقباً ، كما قال تعالى : { وَبَشَّرْنَاهُ بِإِسْحَاقَ نَبِيّاً مِّنَ الصالحين } [ الصافات : 112 ] ، وهذا أكمل في البشارة وأعظم في النعمة ، وقال : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] أي ويولد لهذا المولود ولد في حياتكما فتقر أعينكما به كما قرت بوالده ، فإن الفرح بولد الولد شديد ، لبقاء النسل والعقب ، ولما كان ولد الشيخ والشيخة قد يتوهم أنه لا يعقب لضعفه وقعت البشارة به وبولده باسم يعقوب الذي فيه اشتقاق العقب والذرية ، وكان هذا مجازاة لإبراهيم عليه السلام حين اعتزل قومه وتركهم ونزح عنهم ، وهاجر من بلادهم ذاهباً إلى عبادة الله في الأرض ، فعوضه الله عزَّ وجلَّ عن قومه وعشيرته بأولاد صالحين من صلبه على دينه لتقر بهم عينه ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا اعتزلهم وَمَا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلاًّ جَعَلْنَا نَبِيّاً } [ مريم : 49 ] وقال هاهنا : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا } ، وقوله : { وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ } أي من قبله هديناه كما هديناه ووهبنا له ذرية صالحة ، وكل منهما له خصوصية عظيمة ، أما نوح عليه السلام فإن الله تعالى لما أغرق أهل الأرض إلاّ من آمن به - وهم الذين صحبوه في السفينة - جعل الله ذريته هم الباقين فالناس كلهم من ذريته ، وأما الخليل إبراهيم عليه السلام فلم يبعث الله عزَّ وجلَّ بعده نبياً إلاّ من ذريته كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب } [ العنكبوت : 27 ] الآية ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإِبْرَاهِيمَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النبوة والكتاب } [ الحديد : 26 ] .
وقال تعالى : { أولئك الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين مِن ذُرِّيَّةِ ءَادَمَ وَمِمَّنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ وَمِن ذُرِّيَّةِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْرَائِيلَ وَمِمَّنْ هَدَيْنَا واجتبينآ } [ مريم : 58 ] ، وقوله في هذه الآية الكريمة : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ } أي وهدينا من ذريته { دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } الآية ، وعود الضمير إلى نوح لأنه أقرب المذكورين ظاهر لا إشكال فيه ، وهو اختيار ابن جرير ، وعوده إلى إبراهيم لأنه الذي سيق الكلام من أجله حسن ، لكن يشكل عليه لوط ، فإنه ليس من ذرية إبراهيم ، بل هو ابن أخيه هاران بن آزر ، اللهم إلاّ أن يقال : إنه دخل في الذرية تغليباً ، كما في قوله : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الموت إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إلها وَاحِداً وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } [ البقرة : 133 ] فإسماعيل عمه دخل في آبائه تغليباً ، وكما قال في قوله :
(1/757)
{ فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ } [ ص : 73-74 ] . فدخل إبليس في أمر الملائكة بالسجود وذم على المخالفة ، لأنه كان في تشبه بهم فعومل معاملتهم ودخل معهم تغليباً ، وإلاّ فهو كان من الجن وطبيعته من النار والملائكة من النور ، وفي ذكر عيسى عليه السلام في ذرية إبراهيم أو نوح على القول الآخر دلالة على دخول ولد البنات في ذرية الرجل ، لأن عيسى عليه السلام إنما ينسب إلى إبراهيم عليه السلام بأمه ( مريم ) عليها السلام فإنه لا أب له .
روي أن الحجاج أرسل إلى يحيى بن يعمر فقال : بلغني أنك تزعم أن الحسن والحسين من ذرية النبي صلى الله عليه وسلم تجده في كتاب الله ، وقد قرأته من أوله إلى آخره ، فلم أجده ، قال : أليس تقرأ سورة الأنعام : { وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ } حتى بلغ { ويحيى وعيسى } ؟ قال : بلى ، قال : أليس عيسى من ذرية إبراهيم وليس له أب؟ قال : صدقت . فلهذا إذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته ، أو وهبهم دخل أولاد البنات فيهم ، فأما إذا أعطى الرجل بنيه أو وقف عليهم فإنه يختص بذلك بنوه لصلبه وبنو بنيه ، واحتجوا بقول الشاعر العربي :
بنونا بنو أبنائنا ، وبناتنا ... بنوهن أبناء الرجال الأجانب
وقال آخرون : ويدخل بنو البنات فيهم أيضاً ، لما ثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للحسن بن علي : « إن ابني هذا سيد ، ولعل الله أن يصلح به بين فئتين عظيمتين من المسلمين » فسماه ابناً فدل على دخوله في الأبناء ، وقال آخرون : هذا تجوز . وقوله : { وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ } ذكر أصولهم وفروعهم ، وذوي طبقتهم وأن الهداية أو الاجتباء شملهم كلهم ، ولهذا قال : { واجتبيناهم وَهَدَيْنَاهُمْ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، ثم قال تعالى : { ذلك هُدَى الله يَهْدِي بِهِ مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } أي إنما حصل لهم ذلك بتوفيق الله وهدايته إياهم { وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } تشديد لأمر الشرك وتغليظ لشأنه وتعظيم لملابسته كقوله تعالى : { وَلَقَدْ أُوْحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الذين مِن قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ } [ الزمر : 65 ] الآية ، وهذا شرط ، والشرط لا يقتضي جواز الوقوع كقوله : { قُلْ إِن كَانَ للرحمن وَلَدٌ فَأَنَاْ أَوَّلُ العابدين } [ الزخرف : 81 ] ، وكقوله : { لَوْ أَرَدْنَآ أَن نَّتَّخِذَ لَهْواً لاَّتَّخَذْنَاهُ مِن لَّدُنَّآ إِن كُنَّا فَاعِلِينَ } [ الأنبياء : 17 ] ، وكقوله : { لَّوْ أَرَادَ الله أَن يَتَّخِذَ وَلَداً لاصطفى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ سُبْحَانَهُ هُوَ الله الواحد القهار } [ الزمر : 4 ] .
وقوله تعالى : { أولئك الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب والحكم والنبوة } أي أنعمنا عليهم بذلك رحمة للعباد بهم ولطفاً منا بالخليقة ، { فَإِن يَكْفُرْ بِهَا } أي بالنبوة ، ويحتمل أن يكون الضمير عائداً على هذه الأشياء الثلاثة : الكتاب والحكم والنبوءة { هؤلاء } يعني أهل مكة ، { فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } أي إن يكفر بهذه النعم من كفر بها من قريش وغيرهم من سائر أهل الأرض من عرب وعجم ومليين وكتابيين ، فقد وكلنا بها قوماً آخرين ، أي المهاجرين والأنصار وأتباعهم إلى يوم القيامة ، { لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ } أي لا يجحدون منها شيئاً ولا يردون منها حرفاً واحداً بل يؤمنون بجميعها محكمها ومتشابهها ، جعلنا الله منهم بمنه وكرمه وإحسانه .
(1/758)
ثم قال تعالى مخاطباً عبده ورسوله محمداً صلى الله عليه وسلم : { أولئك } يعني الأنبياء المذكورين مع من أضيف إليهم من الآباء والذرية والإخوان وهم الأشباه { الذين هَدَى الله } أي هم أهل الهدى لا غيرهم { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } أي اقتد واتبع ، وإذا كان هذا للرسول صلى الله عليه وسلم فأمته تبع له فيما يشرعه ويأمرهم به ، قال البخاري عند هذه الآية عن سليمان الأحول أن مجاهداً أخبره أنه سأل ابن عباس : أفي ( ص ) سجدة؟ فقال : نعم ، ثم تلا : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } إلى قوله : { فَبِهُدَاهُمُ اقتده } ثم قال : هو منهم ، زاد يزيد بن هارون ومحمد بن عبيد وسهيل بن يوسف عن العوام عن مجاهد قلت لابن عباس ، فقال : نبيكم صلى الله عليه وسلم ممن أُمِرَ أن يقتدى بهم ، وقوله تعالى : { قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً } أي لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القرآن أجراً أي أجرة ولا أريد منكم شيئاً ، { إِنْ هُوَ إِلاَّ ذكرى لِلْعَالَمِينَ } أي يتذكرون به فيرشدوا من العمى إلى الهدى ، ومن الغي إلى الرشاد ، ومن الكفر إلى الإيمان .
(1/759)
وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92)
يقول الله تعالى : وما عظموا الله حق تعظيمه إذ كذبوا رسله إليهم . قال ابن عباس ومجاهد : نزلت في قريش ، واختاره ابن جرير ، وقيل : نزلت في طائفة من اليهود . وقيل : في فنحاص رجل منهم . وقيل : في مالك بن الصيف { إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } ، والأول أصح ، لأن الآية مكية واليهود لا ينكرون إنزال الكتب من السماء ، وقريش والعرب قاطبة كانوا ينكرون إرسال محمد صلى الله عليه وسلم لأنه من البشر ، كما قال : { أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَآ إلى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ الناس } [ يونس : 2 ] ، وكقوله تعالى : { وَمَا مَنَعَ الناس أَن يؤمنوا إِذْ جَآءَهُمُ الهدى إِلاَّ أَن قالوا أَبَعَثَ الله بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 94 ] ، وقال ها هنا : { وَمَا قَدَرُواْ الله حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَآ أَنزَلَ الله على بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ } ، قال الله تعالى : { قُلْ مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ } أي قل يا محمد لهؤلاء المنكرين لإنزال شيء من الكتب من عند الله في جواب سلبهم العام بإثبات قضية جزئية موجبة { مَنْ أَنزَلَ الكتاب الذي جَآءَ بِهِ موسى } وهو التوراة التي قد علمتم وكل أحد أن الله قد أنزلها على موسى بن عمران { نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ } أي ليستضاء بها في كشف المشكلات ويهتدى بها من ظلم الشبهات ، وقوله : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } أي تجعلون جملتها قراطيس ، أي قطعاً تكتبونها من الكتاب الأصلي الذي بأيديكم ، وتحرفون منها ما تحرفون ، وتبدلون وتتأولون وتقولون : هذا من عند الله أي في كتابه المنزل وما هو من عند الله ، ولهذا قال : { تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً } . وقوله تعالى : { وَعُلِّمْتُمْ مَّا لَمْ تعلموا أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ } أي ومن أنزل القرآن الذي علمكم الله فيه من خبر ما سبق ، ونبأ ما يأتي ما لم تكونوا تعلمون ذلك لا أنتم ولا آباؤكم ، وقد قال قتادة : هؤلاء مشركو العرب ، وقال مجاهد : هذه للمسلمين .
وقوله تعالى : { قُلِ الله } ، قال ابن عباس : أي قل الله أنزله ، وهذا الذي قاله ابن عباس هو المتعين في تفسير هذه الكلمة ، لا ما قاله بعض المتأخرين من أن معنى { قُلِ الله } أي لا يكون خطابك لهم إلاّ هذه الكلمة كلمة « الله » ، وهذا الذي قاله هذا القائل يكون أمراً بكلمة مفردة من غير تركيب ، والإتيان بكلمة مفردة لا يفيد في لغة العرب فائدة يحسن السكوت عليها . وقوله : { ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ } أي ثم دعهم في جهلهم وضلالهم يلعبون حتى يأتيهم من الله اليقين ، فسوف يعلمون ألهم العاقبة أم لعباد الله المتقين؟ وقوله : { وهذا كِتَابٌ } يعني القرآن { أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الذي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ القرى } يعني مكة { وَمَنْ حَوْلَهَا } من أحياء العرب ومن سائر طوائف بني آدم من عرب وعجم ، كما قال في الآية الأخرى :
(1/760)
{ قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] ، وقال : { لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] وقال : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] ، وقال : { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي » وذكر منهن : « وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة » ، ولهذا قال : { والذين يُؤْمِنُونَ بالآخرة يُؤْمِنُونَ بِهِ } أي كل من آمن بالله واليوم الآخر يؤمن بهذا الكتاب المبارك الذي أنزلناه إليك يا محمد وهو القرآن ، { وَهُمْ على صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ } أي يقيمون بما فرض عليهم من أداء الصلوات في أوقاتها .
(1/761)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ قَالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَنْ قَالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلَائِكَةُ بَاسِطُو أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنْتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)
يقول تعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً } أي لا أحد أظلم ممن كذب على الله فجعل له شركاء أو ولداً ، أو ادعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يرسله ، ولهذا قال تعالى : { أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ } ، قال عكرمة وقتادة : نزلت في مسليمة الكذاب ، { وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَآ أَنَزلَ الله } أي ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي مما يفتريه من القول ، كقوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَآءُ لَقُلْنَا مِثْلَ هذا } [ الأنفال : 31 ] الآية . قال الله تعالى : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون فِي غَمَرَاتِ الموت } أي في سكراته وغمراته وكرباته ، { والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ } أي بالضرب ، كقوله : { لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي } [ المائدة : 28 ] الآية ، وقوله : { ويبسطوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُمْ بالسواء } [ الممتحنة : 2 ] الآية ، وقال الضحاك : { باسطوا أَيْدِيهِمْ } أي بالعذاب ، كقوله : { وَلَوْ ترى إِذْ يَتَوَفَّى الذين كَفَرُواْ الملائكة يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ } [ الأنفال : 50 ] ، ولهذا قال : { والملائكة باسطوا أَيْدِيهِمْ } أي بالضرب لهم حتى تخرج أنفسهم من أجسادهم ، ولهذا يقولون لهم : { أخرجوا أَنْفُسَكُمُ } ، وذلك أن الكافر إذا احتضر بشرته الملائكة بالعذاب والنكال والأغلال والسلاسل والجحيم والحميم وغضب الرحمن الرحيم ، فتتفرق روحه في جسده ، وتعصى ، وتأبى الخروج ، فتضربهم الملائكة حتى تخرج أرواحهم من أجسادهم ، قائلين لهم : { أخرجوا أَنْفُسَكُمُ اليوم تُجْزَوْنَ عَذَابَ الهون بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى الله غَيْرَ الحق } الآية ، أي اليوم تهانون غاية الإهانة كما كنتم تكذبون على الله وتستكبرون اتباع آياته ، والانقياد لرسله ، وقد وردت الأحاديث المتواترة في كيفية احتضار المؤمن والكافر ، وهي مقررة عند قوله تعالى : { يُثَبِّتُ الله الذين آمَنُواْ بالقول الثابت فِي الحياة الدنيا وَفِي الآخرة } [ إبراهيم : 27 ] .
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ، أي يقال لهم يوم معادهم هذا ، كما قال : { وَعُرِضُواْ على رَبِّكَ صَفَّاً لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الكهف : 48 ] أي كما بدأناكم أعدناكم ، وقد كنتم تنكرون ذلك وتستبعدونه فهذا يوم البعث ، وقوله : { وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } أي من النعم والأموال التي اقتنيتموها في الدار الدنيا وراء ظهوركم ، وثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يقول ابن آدم : مالي مالي! وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدقت فأبقيت؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس » وقال الحسن البصري : يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بَذَج فيقول الله عزَّ وجلَّ : أين ما جمعت؟ فيقول : يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان ، فيقول له : يا ابن آدم أين ما قدمت لنفسك؟ فلا يراه قدم شيئاً ، وتلا هذه الآية : { وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فرادى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ } الآية ، وقوله : { وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ } تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد والأصنام والأوثان ، ظانين أنها تنفعهم في معاشهم ومعادهم إن كان ثم معاد ، فإن كان يوم القيامة تقطعت بهم الأسباب وانزاح الضلال ، وضل عنهم ما كانوا يفترون ، ويناديهم الرب جلَّ جلاله على رؤوس الخلائق :
(1/762)
{ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الذين كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } [ القصص : 62 ، 74 ] ؟ ويقال لهم : { أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله هَلْ يَنصُرُونَكُمْ أَوْ يَنتَصِرُونَ } [ الشعراء : 92-93 ] ؟ ولهذا قال هاهنا : { وَمَا نرى مَعَكُمْ شُفَعَآءَكُمُ الذين زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَآءُ } أي في العبادة ، لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم ، ثم قال تعالى : { لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ } قرىء بالرفع أي شملكم ، وبالنصب أي لقد تقطع ما بينكم من الأسباب والوصلات والوسائل ، { وَضَلَّ عَنكُم } أي ذهب عنكم ، { مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ } من رجاء الأصنام والأنداد ، كقوله تعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب } [ البقرة : 166 ] ، وقال تعالى : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ، وقال تعالى : { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَمَأْوَاكُمُ النار وَمَا لَكُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } [ العنكبوت : 25 ] ، وقال : { وَقِيلَ ادعوا شُرَكَآءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُمْ } [ القصص : 64 ] الآية ، والآيات في هذا كثيرة جداً .
(1/763)
إِنَّ اللَّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الْإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَنًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَانًا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97)
يخبر تعالى أنه فالق الحب والنوى ، أي يشقه في الثرى فتنبت منه الزروع على اختلاف أصنافها من الحبوب والثمار على اختلاف ألوانها وأشكالها وطعمومها من النوى ، ولهذا فسر قوله : { فَالِقُ الحب والنوى } بقوله : { يُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } أي يخرج النبات الحي من الحب والنوى الذي هو كالجماد الميت كقوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } [ يس : 33 ] وقوله : { وَمُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } معطوف على { فَالِقُ الحب والنوى } ، وقد عبروا عن هذا وهذا بعبارات كلها متقاربة مؤدية للمعنى ، فمن قائل يخرج الدجاجة من البيضة وعكسه ، ومن قائل يخرج الولد الصالح من الفاجر وعكسه ، وغير ذلك من العبارات التي تنتظمها الآية وتشملها ، ثم قال تعالى : { ذلكم الله } أي فاعل هذا هو الله وحده لا شريك له ، { فأنى تُؤْفَكُونَ } أي كيف تصرفون عن الحق وتعدلون عنه إلى الباطل فتعبدون معه غيره؟ وقوله : { فَالِقُ الإصباح وَجَعَلَ الليل سَكَناً } أي خالق الضياء والظلام كما قال في أول السورة { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] أي فهو سبحانه يفلق ظلام الليل عن غرة الصباح فيضيء الوجود ، ويستنير الأفق ، ويضمحل الظلام ، ويذهب الليل بسواده وظلام رواقه ، ويجيء النهار بضيائه وإشراقه ، كقوله : { يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } [ الأعراف : 54 ] ، فبين تعالى قدرته على خلق الأشياء المتضادة المختلفة الدالة على كمال عظمته وعظيم سلطانه ، فذكر أنه فالق الإصباح ، وقابل ذلك بقوله { وَجَعَلَ الليل سَكَناً } أي ساجياً مظلماً لتسكن فيه الأشياء كما قال : { والضحى والليل إِذَا سجى } [ الضحى : 1-2 ] ، وقال : { والليل إِذَا يغشى والنهار إِذَا تجلى } [ الليل : 1-2 ] ، وقال : { والنهار إِذَا جَلاَّهَا والليل إِذَا يَغْشَاهَا } [ الشمس : 3-4 ] ، وقال صهيب الرومي رضي الله عنه لامرأته وقد عاتبته في كثرة سهره : إن الله جعل الليل سكنا ، إلاّ لصهيب ، إن صهيباً إذا ذكر الجنة طال شوقه ، وإذا ذكر النار طال نومه . وقوله : { والشمس والقمر حُسْبَاناً } أي يجريان بحساب مقنن مقدر لا يتغير ولا يضطرب ، بل لكل منهما منازل يسلكها في الصيف والشتاء ، فيترتب على ذلك اختلاف الليل والنهار طولاً وقصراً كما قال : { هُوَ الذي جَعَلَ الشمس ضِيَآءً والقمر نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ } [ يونس : 5 ] الآية ، وكما قال : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] ، وقال : { والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ } [ الأعراف : 54 ، النحل : 12 ] وقوله : { ذلك تَقْدِيرُ العزيز العليم } أي الجميع جار بتقدير العزيز الذي لا يمانع ولا يخالف ، العليم بكل شيء فلا يعزب عن علمه مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ، وكثيراً ما إذا ذكر الله تعالى خلق الليل والنهار والشمس والقمر يختم الكلام بالعزة والعلم كما ذكر في هذه الآية ، وكما في قوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ * والشمس تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم } [ يس : 37-38 ] ، ولما ذكر خلق السماوات الأرض وما فيهن في أول سورة حم السجدة قال : { وَزَيَّنَّا السمآء الدنيا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً ذَلِكَ تَقْدِيرُ العزيز العليم } [ فصلت : 12 ] ، وقوله تعالى : { وَهُوَ الذي جَعَلَ لَكُمُ النجوم لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ البر والبحر } ، قال بعض السلف : من اعتقد في هذه النجوم غير ثلاث فقد أخطأ وكذب على الله سبحانه : أن الله جعلها زينة للسماء ، ورجوماً للشياطين ، ويهتدي بها في ظلمات البر والبحر . وقوله : { قَدْ فَصَّلْنَا الآيات } أي قد بيناها ووضحناها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } أي يعقلون ويعرفون الحق ويتجنبون الباطل .
(1/764)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)
يقول تعالى : { وَهُوَ الذي أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } يعني آدم عليه السلام ، كما قال : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } [ النساء : 1 ] ، وقوله : { فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ } اختلفوا في معنى ذلك : فعن ابن مسعود { فَمُسْتَقَرٌّ } : أي في الأرحام { وَمُسْتَوْدَعٌ } أي في الأصلاب ، وعن ابن مسعود وطائفة : فمستقر في الدنيا ومستودع حيث يموت . وقال سعيد بن جبير : فمستقر في الأرحام وعلى ظهر الأرض وحيث يموت . وقال الحسن البصري : المستقر الذي مات فاستقر به عمله ، وعن ابن مسعود : ومستودع في الدار الآخرة ، والقول الأول أظهر ، والله أعلم . وقوله تعالى : { قَدْ فَصَّلْنَا الآيات لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ } أي يفهمون ويعون كلام الله ومعناه ، وقوله تعالى : { وَهُوَ الذي أَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } أي بقدر مباركاً ورزقاً للعباد وإحياء وغياثاً للخلائق ، رحمة من الله بخلقه { فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ } كقوله : { وَجَعَلْنَا مِنَ المآء كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ } [ الأنبياء : 30 ] ، { فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً } أي زرعاً وشجراً أخضر ، ثم بعد ذلك نخلق فيه الحب والثمر . ولهذا قال تعالى : { نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً } أي يركب بعضه بعضاً كالسنابل ونحوها { وَمِنَ النخل مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ } أي جمع قنو وهي عذوق الرطب ، { دَانِيَةٌ } أي قريبة من المتناول ، كما قال ابن عباس { قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ } يعني بالقنوان الدانية قصار النخل اللاصقة عذوقها بالأرض رواه ابن جرير .
وقوله تعالى : { وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ } أي ونخرج منه جنات من أعناب وهذان النوعان هما أشرف الثمار عند أهل الحجاز ، وربما كانا خيار الثمار في الدنيا ، كما امتن الله بهما على عباده في قوله تعالى : { وَمِن ثَمَرَاتِ النخيل والأعناب تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً } [ النحل : 67 ] ، وكان ذلك قبل تحريم الخمر ، وقال : { وَجَعَلْنَا فِيهَا جَنَّاتٍ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } [ يس : 34 ] ، وقوله تعالى : { والزيتون والرمان مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } ، قال قتادة وغيره : متشابه في الورق والشكل قريب بعضه من بعض ، ومتخالف في الثمار شكلاً وطعماً وطبعاً ، { انظروا إلى ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ } أي نضجه ، قال البراء وابن عباس والضحاك وغيرهم ، أي فكروا في قدرة خالقه من العدم إلى الوجود بعد أن كان حطباً صار عنباً ورطباً ، وغير ذلك مما خلق سبحانه وتعالى من الألوان والأشكال والطعوم والروائح كقوله تعالى : { يسقى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا على بَعْضٍ فِي الأكل } [ الرعد : 4 ] الآية ، ولهذا قال ها هنا : { إِنَّ فِي ذلكم } أيها الناس { لآيَاتٍ } أي دلالات على كمال قدرة خالق هذه الأشياء وحمكته ورحمته { لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ } أي يصدقون به ويتبعون رسله .
(1/765)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكَاءَ الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100)
هذا رد على المشركين الذين عبدوا مع الله غيره وأشركوا به في عبادته أن عبدوا الجن فجعلوهم شركاء له في العبادة ، تعالى الله عن شركهم وكفرهم . فإن قيل : فكيف عبدت الجن مع أنهم إنما كانوا يعبدون الأصنام؟ فالجواب أنهم ما عبدوها إلاّ عن طاعة الجن وأمرهم إياهم بذلك ، كقوله : { إِن يَدْعُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ إناثا وَإِن يَدْعُونَ إِلاَّ شيطانا مَّرِيداً * لَّعَنَهُ الله وَقَالَ لأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً * وَلأُضِلَّنَّهُمْ وَلأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلأَمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الأنعام } [ النساء : 117-119 ] الآية ، وكقوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي } [ الكهف : 50 ] الآية ، وقال إبراهيم لأبيه : { ياأبت لاَ تَعْبُدِ الشيطان إِنَّ الشيطان كَانَ للرحمن عَصِيّاً } [ مريم : 44 ] ، وكقوله : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } [ يس : 60 ] ولهذا قال تعالى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ شُرَكَآءَ الجن وَخَلَقَهُمْ } أي وقد خلقهم فهو الخالق وحده لا شريك له فكيف يعبد معه غيره؟ كقول إبراهيم : { أَتَعْبُدُونَ مَا تَنْحِتُونَ والله خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ } [ الصافات : 95-96 ] ومعنى الآية أنه سبحانه وتعالى هو المستقل بالخلق وحده ، فلهذا يجب أن يفرد بالعبادة وحده لا شريك له وقوله تعالى : { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } ينبه به تعالى على ضلال من ضل في وصفه تعالى بأن له ولداً ، كما يزعم من قاله من اليهود في عزير ، ومن قال من النصارى في عيسى ، ومن قال من مشركي العرب في الملائكة إنها بنات الله : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً } [ الإسراء : 43 ] . ومعنى { وَخَرَقُواْ } أي اختلقوا وائتفكوا وتخرصوا وكذبوا ، كما قال علماء السلف ، قال ابن عباس : { وَخَرَقُواْ } يعني تخرصوا ، وقال العوفي عنه { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } قال : جعلوا له بنين وبنات ، وقال مجاهد : كذبوا ، وقال الضحاك : وضعوا ، وقال السدي : قطعوا ، قال ابن جرير : وتأويله إذاً : وجعلوا لله الجن شركاء في عبادتهم إياهم ، وهو المتفرد بخلقهم بغير شريك ولا معين ولا ظهير ، { وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ } بحقيقة ما يقولون ولكن جهلاً بالله وبعظمته ، فإنه لا ينبغي لمن كان إلهاً أن يكون له بنون وبنات ولا صاحبة ، ولا أن يشركه في خلقه شريك ، ولهذا قال : { سُبْحَانَهُ وتعالى عَمَّا يَصِفُونَ } أي تقدس وتنزه وتعاظم عما يصفه هؤلاء الجهلة الضالون من الأولاد والأنداد والنظراء والشركاء .
(1/766)
بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101)
{ بَدِيعُ السماوات والأرض } أي مبدعهما وخالقهما ومنشئهما ومحدثهما على غير مثال سبق ، ومنه سميت البدعة بدعة ، لأنه لا نظير لها فيما سلف ، { أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ } أي كيف يكون له ولد { وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ } أي والولد إنما يكون متولداً بين شيئين متناسبين ، والله تعالى لا يناسبه ولا يشابهه شيء من خلقه لأنه خالق كل شيء ، فلا صاحبة له ولا ولد كما قال تعالى : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } [ مريم : 88-89 ] ، { وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } ، فبين تعالى أنه الذي خلق كل شيء وأنه بكل شيء عليم ، فكيف يكون له صاحبة من خلقه تناسبه وهو الذي لا نظير له ، فأنّى يكون له ولد؟ تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
(1/767)
ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)
يقول تعالى : { ذلكم الله رَبُّكُمْ } أي الذي خلق كل شيء ولا ولد له ولا صاحبة ، { لا إله إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فاعبدوه } أي فاعبدوه وحده لا شريك له ، وأقروا له بالوحدانية ، وأنه لا إله إلا هو وأنه لا ولد له ولا والد ولا صاحبة له ، ولا نظير ولا عديل { وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ } أي حفيظ ورقيب يدبر كل ما سواه ويرزقهم ويكلأهم بالليل والنهار . وقوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } فيه أقوال للأئمة من السلف ( أحدها ) : لا تدركه في الدنيا وإن كانت تراه في الآخرة ، كما تواترات به الأخبار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير ما طريق ثابت في الصحاح والمسانيد والسنن ، كما قال مسروق عن عائشة أنها قالت : من زعم أن محمداً أبصر ربه فقد كذب على الله ، فإن الله تعالى قال : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } ، وخالفها ابن عباس ، فعنه : إطلاق الرؤية ، وعنه : أنه رآه بفؤاده مرتين ، والمسألة تذكر في أول سورة النجم إن شاء الله ، وقال يحيى بن معين سمعت إسماعيل بن علية يقول في قول الله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } قال هذا في الدنيا ، وقال آخرون : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } أي جميعها ، وهذا مخصص بما ثبت من رؤية المؤمنين له في الدار الآخرة ، وقال آخرون من المعتزلة بمقتضى ما فهموه من هذه الآية أنه لا يرى في الدنيا ولا في الآخرة ، فخالفوا أهل السنّة والجماعة في ذلك ، مع ما ارتكبوه من الجهل بما دل عليه كتاب الله وسنّة رسوله ، أما الكتاب فقوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22-23 ] ، وقال تعالى عن الكافرين : { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] ، قال الإمام الشافعي : فدل هذا على أن المؤمينن لا يحجبون عنه تبارك وتعالى ، أما السنّة فقد تواترت الأخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم : أن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة في العرصات ، وروضات الجنات ، جعلنا الله تعالى منهم بمنه وكرمه آمين .
وقال آخرون : لا منافاة بين إثبات الرؤية ونفي الإدراك ، فإن الإدراك أخص من الرؤية ، ولا يلزم من نفي الأخص انتفاء الأعم ، ثم اختلف هؤلاء في الإدراك المنفي ما هو؟ فقيل معرفة الحقيقة ، فإن هذا لا يعلمه إلاّ هو وإن رآه المؤمنون ، كما أن من رأى القمر ، فإنه لا يدرك حقيقته وكنهه وماهيته فالعظيم أولى بذلك وله المثل الأعلى ، وقال آخرون : الإدراك هو الإحاطة ، قالوا : ولا يلزم من عدم الإحاطة عدم الرؤية ، كما لا يلزم من عدم إحاطة العلم عدم العلم ، قال تعالى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] ، وفي صحيح مسلم : « لا أحصي ثناء عليك أنت كما أثنيت على نفسك »
(1/768)
، ولا يلزم منه عدم الثناء ، فكذلك هذا . قال ابن عباس { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } قال : لا يحيط بصر أحد بالملك ، وعن عكرمة أنه قيل له : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار } قال : ألست ترى السماء؟ قال : بلى ، قال : فكلها ترى؟ وقال قتادة : هو أعظم من أن تدركه الأبصار ، وقال ابن جرير عن عطية العوفي في قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22-23 ] قال : هم ينظرون إلى الله لا تحيط أبصارهم به من عظمته وبصره محيط بهم ، فذلك قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } .
وقال آخرون في الآية عن عكرمة قال ، سمعت ابن عباس يقول : رأى محمد ربه تبارك وتعالى فقلت : أليس الله يقول : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } الآية فقال لي : لا أمَّ لك ، ذلك نوره الذي هو نوره ، إذا تجلى بنوره لا يدركه شيء . وفي رواية : لا يقوم له شيء ، وفي معنى هذا الأثر ما ثبت في الصحيحين من حديث أبي موسى الأشعري رضي الله عنه مرفوعاً : « إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه . يرفع إليه عمل النهار قبل الليل ، وعمل الليل قبل النهار ، حجابه النور - أو النار - لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه » ، وفي الكتب المتقدمة : إن الله تعالى قال لموسى لما سأل الرؤية : يا موسى إنه لا يراني حي إلاّ مات ، ولا يابس إلاّ تدهده : أي تدعثر ، وقال تعالى : { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً فَلَمَّآ أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } [ الأعراف : 143 ] ، ونفي الإدراك الخاص لا ينفي الرؤية يوم القيامة . يتجلى لعباده المؤمنين كما يشاء ، فأما جلاله وعظمته على ما هو عليه تعالى وتقدس وتنزه ، فلا تدركه الأبصار . ولهذا كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها تثبت الرؤية في الدار الآخرة ، وتنفيها في الدنيا ، وتحتج بهذه الآية : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } ، فالذي نفته الإدراك الذي هو بمعنى رؤية العظمة والجلال على ما هو عليه ، فإن ذلك غير ممكن للبشر ولا للملائكة ولا لشيء . وقوله : { وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } أي يحيط بها ويعلمها على ما هي عليه لأنه خلقها ، كما قال تعالى : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللطيف الخبير } [ الملك : 14 ] ، وقد يكون عبر بالأبصار عن المبصرين كما قال السدي في قوله : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } لا يراه شيء وهو يرى الخلائق ، وقال أبو العالية { وَهُوَ اللطيف الخبير } اللطيف لاستخراجها ، الخبير بمكانها ، والله أعلم .
(1/769)
قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ وَلِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)
البصائر : هي البينات والحجج التي اشتمل عليها القرآن وما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، { فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ } كقوله : { فَمَنِ اهتدى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا } [ يونس : 108 ] ، ولهذا قال : { وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا } لما ذكر البصائر قال : { وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا } أي إنما يعود وباله عليه ، كقوله : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] ، { وَمَآ أَنَاْ عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ } أي بحافظ ولا رقيب ، بل إنما أنا مبلغ والله يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وقوله : { وكذلك نُصَرِّفُ الآيات } أي فصلنا الآيات في هذه السورة من بيان التوحيد وأنه لا إله إلا هو ، هكذا نوضح الآيات ونفسرها ونبينها في كل موطن لجهالة الجاهلين ، وليقول المشركون والكافرون المكذبون دارست يا محمد من قبلك من أهل الكتاب ، وقارأتهم ، وتعلمت منهم . روي عن عمرو بن كيسان قال : سمعت ابن عباس يقول : دارست : تلوت خاصمت جادلت ، وهذا كقوله تعالى إخباراً عن كذبهم وعنادهم : { وقالوا أَسَاطِيرُ الأولين اكتتبها } [ الفرقان : 5 ] الآية ، وقال تعالى إخباراً عن زعيمهم وكاذبهم { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ } [ المدثر : 18-20 ] ، وقوله : { وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ولنوضحه لقوم يعلمون الحق فيتبعونه ، والباطل فيجتنبونه ، فلله تعالى الحكمة البالغة في إضلال أولئك وبيان الحق لهؤلاء ، كقوله تعالى : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً } [ البقرة : 26 ] الآية وكقوله : { لِّيَجْعَلَ مَا يُلْقِي الشيطان فِتْنَةً لِّلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والقاسية قُلُوبُهُمْ . . . وَإِنَّ الله لَهَادِ الذين آمنوا إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الحج : 53-54 ] .
وقال تعالى : { كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] ، وقال : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] ، وقال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [ فصلت : 44 ] ، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى أنزل القرآن هدى للمتقين وأنه يضل به من يشاء ويهدي به من يشاء ، ولهذا قال ها هنا : { وكذلك نُصَرِّفُ الآيات وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } ، وقرأ بعضهم { درسْتَ } أي قرأت وتعلمت ، قال الحسن { وَلِيَقُولُواْ دَرَسَتْ } يقول : تقادمت وانمحت ، وقال عبد الرزاق إن صبياناً يقرأون { دارست } وإنما هي درست . وقال شعبة هي في قراءة ابن مسعود : دَرَسَت ، يعني بغير ألف بنصب السين ووقف على التاء ، قال ابن جرير ومعناه : انمحت وتقادمت ، أي أن هذا الذي تتلوه علينا قد مر بنا قديماً وتطاولت مدته .
(1/770)
اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)
يقول تعالى آمراً لرسوله صلى الله عليه وسلم ولمن اتبع طريقته : { اتبع مَآ أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ } أي اقتد به واقتف أثره واعمل به ، فإن ما أوحي إليك من ربك هو الحق الذي لا مرية فيه ، لأنه لا إله إلاّ هو { وَأَعْرِضْ عَنِ المشركين } أي اعف عنهم واصفح واحتمل أذاهم حتى يفتح الله لك وينصرك ويظفرك عليهم ، واعلم أن لله حكمة في إضلالهم ، فإنه لو شاء لهدى الناس جميعاً ولو شاء لجمعهم على الهدى { وَلَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكُواْ } ، أي بل له المشيئة والحكمة فيما يشاؤه ويختاروه لا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وقوله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً } أي حافظاً تحفظ أقوالهم وأعمالهم ، { وَمَآ أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ } أي موكل على أرزاقهم وأمورهم ، { إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ البلاغ } [ الشورى : 48 ] كما قال تعالى : { فَذَكِّرْ إِنَّمَآ أَنتَ مُذَكِّرٌ لَّسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ } [ الغاشية : 21-22 ] وقال : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } [ الرعد : 40 ] .
(1/771)
وَلَا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْوًا بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (108)
يقول الله تعالى ناهياً لرسوله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين عن سب آلهة المشركين ، وإن كان فيه مصلحة إلاّ أنه يترتب عليه مفسدة أعظم منها ، وهي مقابلة المشركين بسب إله المؤمنين ، وهو { الله لا إله إِلاَّ هُوَ } [ البقرة : 255 ، آل عمران : 2 ] ، كما قال ابن عباس في هذه الآية : قالوا : يا محمد لتنتهين عن سب آلهتنا أو لنهجون ربك ، فنهاهم الله أن يسبوا أوثانهم ، { فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } ، وقال قتادة : كان المسلمون يسبون أصنام الكفار ، فيسب الكفار الله عدواً بغير علم ، فأنزل الله : { وَلاَ تَسُبُّواْ الذين يَدْعُونَ مِن دُونِ الله } ، وروى ابن جرير عن السدي أنه قال : لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش : انطلقوا فلندخل على هذا الرجل ، فلنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه ، فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته ، فتقول العرب : كان يمنعهم ، فلما مات قتلوه ، فانطلق أبو سفيان وأبو جهل ، والنضر بن الحارث ، وأمية وأُبي ابنا خلف ، وعقبة بن أبي معيط ، وعمرو بن العاص ، والأسود بن البختري ، « وبعثوا رجلاً منهم يقال له المطلب ، قالوا : استأذن لنا على أبي طالب ، فأتى أبا طالب فقال : هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك ، فأذن لهم عليه فدخلوا ، فقالوا : يا أبا طالب أنت كبيرنا وسيدنا ، وإن محمداً قد آذانا وآذى آلهتنا ، فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا ، ولندعه وإلهه ، فدعاه فجاء النبي صلى الله عليه وسلم فقال له أبو طالب : هؤلاء قومك وبنو عمك ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما تريدون؟ « قالوا : نريد أن تدعنا وآلهتنا ولندعك وإلهك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » أرأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة إن تكلمتم بها ملكتم بها العرب ودانت لكم بها العجم ، وأدت لكم الخراج «؟ قال أبو جهل : وأبيك لنعطينكها وعشرة أمثالها قالوا : فما هي؟ قال : » قولوا لا إله إلاّ الله « ، فأبوا واشمأزوا ، قال أبو طالب : يا ابن أخي ، قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها ، قال : » يا عم ما أنا بالذي يقول غيرها ، حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي ، ولو أتوا بالشمس فوضعوها في يدي ما قلت غيرها « إرادة أن يؤيسهم ، فغضبوا ، وقالوا : لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك ونشتم من يأمرك ، فذلك قوله : { فَيَسُبُّواْ الله عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ } » ومن هذا القبيل ، وهو ترك المصلحة لمفسدة أرجح منها ، ما جاء في الصحيح « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » ملعون من سب والديه « ، قالوا : يا رسول الله وكيف يسب الرجل والديه؟ قال : » يسب أبا الرجل فيسب أباه ويسب أمه فيسب أمه « ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم . وقوله : { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ } أي وكما زينا لهؤلاء القوم حب أصنامهم والمحاماة لها والانتصار { كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ } أي من الأمم الخالية على الضلال { عَمَلَهُمْ } الذي كانوا فيه ، ولله الحجة البالغة والحكمة التامة فيما يشاؤه ويختاره { ثُمَّ إلى رَبِّهِمْ مَّرْجِعُهُمْ } أي معادهم ومصيرهم { فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي يجازيهم بأعمالهم إن خيراً فخير وإن شراً فشر .
(1/772)
وَأَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِنْ جَاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الْآيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لَا يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)
يقول تعالى إخباراً عن المشركين أنهم أقسموا بالله جهد أيمانهم أي حلفوا أيماناً مؤكدة { لَئِن جَآءَتْهُمْ آيَةٌ } أي معجزة وخارق { لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا } أي ليصدقنها ، { قُلْ إِنَّمَا الآيات عِندَ الله } أي قل يا محمد لهؤلاء الذين يسألونك الآيات تعنتاً وكفراً وعناداً لا على سبيل الهدى والاسترشاد ، إنما مرجع هذه الآيات إلى الله إن شاء جاءكم بها وإن شاء ترككم ، قال ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال : كلم رسول الله صلى الله عليه وسلم قريش فقالوا : يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً ، وتخبرنا أن عيسى كان يحيي الموتى ، وتخبرنا أن ثمود ، كانت لهم ناقة ، فأتنا من الآيات حتى نصدقك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ » قالوا : تجعل لنا الصفا ذهباً ، فقال لهم : « فإن فعلت تصدقوني »؟ قالوا : نعم والله لئن فعلت لنتبعك أجمعون ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو فجاءه جبريل عليه السلام ، فقال له : ما شئت ، إن شئت أصبح الصفا ذهباً ، ولئن أرسل آية فلم يصدقوا عند ذلك ليعذبنهم وإن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بل يتوب تائبهم » ، فأنزل الله تعالى : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ } إلى قوله تعالى : { ولكن أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ } ، وقال الله تعالى : { وَمَا مَنَعَنَآ أَن نُّرْسِلَ بالآيات إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأولون } [ الإسراء : 59 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } ، قيل المخاطب بما يشعركم ، المشركون ، وإليه ذهب مجاهد وقيل : المخاطب بقوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ } المؤمنون ، ويقول : وما يدريكم أيها المؤمنون أنها إذا جاءت لا يؤمنون . وقوله تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ، قال ابن عباس في هذه الآية : لما جحد المشركون ما أنزل الله لم تثبت قلوبهم على شيء وردت عن كل أمر . وقال مجاهد في قوله { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ } ونحول بينهم وبين الإيمان ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنون كما حلنا بينهم وبين الإيمان أول مرة ، وقال ابن أبي طلحة عن ابن عباس : أخبر الله ما العباد قائلون قبل أن يقولوه وعملهم قبل أن يعملوه ، وقال : { وَلاَ يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ } [ فاطر : 14 ] جل وعلا { أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله } [ الزمر : 56 ] إلى قوله : { لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ المحسنين } [ الزمر : 58 ] فأخبر الله سبحانه وتعالى أنهم لو ردوا لم يكونوا على الهدى ، وقال : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 28 ] ، وقال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } ، وقال : ولو ردوا إلى الدنيا لحيل بينهم وبين الهدى كما حلنا بينهم وبينه أول مرة وهم في الدنيا ، وقوله : { وَنَذَرُهُمْ } أي نتركهم { فِي طُغْيَانِهِمْ } ، قال ابن عباس والسدي : في كفرهم . وقال أبو العالية وقتادة : في ضلالهم { يَعْمَهُونَ } قال الأعمش يلعبون ، وقال ابن عباس ومجاهد : في كفرهم يترددون .
(1/773)
وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)
يقول تعالى ولو أننا أجبنا سؤال هؤلاء الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها فنزلنا عليهم الملائكة تخبرهم بالرسالة من الله بتصديق الرسل كما سألوا فقالوا : { أَوْ تَأْتِيَ بالله والملائكة قَبِيلاً } [ الإسراء : 92 ] و { قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله } [ الأنعام : 124 ] ، { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا لَقَدِ استكبروا في أَنفُسِهِمْ وَعَتَوْا عُتُوّاً كَبِيراً } [ الفرقان : 21 ] ، { وَكَلَّمَهُمُ الموتى } أي فأخبروهم بصدق ما جاءتهم به الرسل ، { وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً } ، قرأ بعضهم ( قِبَلاً ) بكسر القاف وفتح الباء من المقابلة والمعاينة ، وقرأ آخرون بضمهما قيل : معناه من المقابلة والمعاينة أيضاً كما رواه العوفي عن ابن عباس ، وقال مجاهد : قبلا أي أفواجاً قبيلاً قبيلاً أي تعرض عليهم كل أمة بعد أمة فيخبرونهم بصدق الرسل فيما جاءوهم به { مَّا كَانُواْ ليؤمنوا إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله } أي إن الهداية إليه لا إليهم بل يهدي ويضل من يشاء وهو الفعال لما يريد { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] لعلمه وحكمته وسلطانه وقهره وغلبته . وهذه الآية كقوله تعالى : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 96-97 ] .
(1/774)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)
يقول تعالى : وكما جعلنا لك يا محمد أعداء يخالفونك ويعادونك ويعاندونك ، جعلنا لكل نبي من قبلك أيضاً أعداء فلا يحزنك ذلك ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ على مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ } [ الأنعام : 34 ] الآية ، وقال تعالى : { مَّا يُقَالُ لَكَ إِلاَّ مَا قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِن قَبْلِكَ } [ فصلت : 43 ] ، وقال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين } [ الفرقان : 31 ] الآية . وقال ورقة بن نوفل لرسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنه لم يأت أحد بمثل ما جئت به إلاَّ عودي » ، والشيطان كل من خرج عن نظيره بالشر ، ولا يعادي الرسل إلاّ الشياطين من هؤلاء وهؤلاء قبحهم الله ولعنهم ، قال عبد الرزاق عن قتادة في قوله : { شَيَاطِينَ الإنس والجن } قال : من الجن شياطين ، ومن الإنس شياطين ، يوحي بعضهم إلى بعض . قال قتادة : « وبلغني أن أبا ذر كان يوماً يصلي فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » تعوذ يا أبا ذر من شياطين الإنس والجن « فقال : أو إن من الإنس شياطين؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » نعم « وقال ابن جرير عن أبي ذر قال : » أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجلس قد أطال فيه الجلوس قال ، فقال : « يا أبا ذر هل صليت؟ قلت : لا ، يا رسول الله . قال : » قم فاركع ركعتين « قال : ثم جئت فجلست إليه ، فقال : » يا أبا ذر هل تعوذت بالله من شياطين الجن والإنس «؟ قال ، قلت : لا يا رسول الله وهل للإنس من شياطين؟ قال : » نعم هم شر من شياطين الجن « » .
( طريق أخرى للحديث ) روى ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » يا أبا ذر تعوذت من شياطين الجن والإنس «؟ قال : يا رسول الله وهل للإنس من شياطين؟ قال : » نعم « { شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً } ، فهذه طرق لهذا الحديث ومجموعها يفيد قوته وصحته ، والله أعلم ، وعن عكرمة في قوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً } قال : للإنس شياطين وللجن شياطين ، فيلقى شيطان الإنس شيطان الجن ، فيوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً ، وقال السدي عن عكرمة : أما شياطين الإنس فالشياطين التي تضل الإنس ، وشياطين الجن التي تضل الجن ، يلتقيان فيقول كل واحد منهما لصاحبه : إني أضللت صاحبي بكذا وكذا فأضل أنت صاحبك بكذا وكذا ، فيعلم بعضهم بعضاً ، وقد روي نحو هذا عن ابن عباس فقال : إن للجن شياطين يضلونهم مثل شياطين الإنس يضلونهم ، قال : فيلتقي شياطين الإنس وشياطين الجن ، فيقول هذا لهذا أضلله بكذا ، فهو قوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً } ولما أخبر عبد الله بن عمر أن المختار يزعم أنه يوحى إليه ، فقال : صدق ، قال الله تعالى :
(1/775)
{ وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ } [ الأنعام : 121 ] .
وقوله تعالى : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً } أي يلقي بعضهم إلى بعض القول المزين المزخرف وهو المزوق الذي يغتر سامعه من الجهلة بأمره ، { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ } أي وذلك كله بقدر الله وقضائه وإرادته ومشيئته أن يكون لكل نبي عدو من هؤلاء ، { فَذَرْهُمْ } أي فدعهم ، { وَمَا يَفْتَرُونَ } أي يكذبون . أي دع أذاهم وتوكل على الله فإن الله كافيك وناصرك عليهم . وقوله تعالى : { ولتصغى إِلَيْهِ } أي ولتميل إليه قاله ابن عباس ، { أَفْئِدَةُ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة } أي قلوبهم وعقولهم وأسماعهم ، وقال السدي : قلوب الكافرين { وَلِيَرْضَوْهُ } أي يحبوه ويريدوه ، وإنما يستجيب لذلك من لا يؤمن بالآخرة ، كما قال تعالى : { فَإِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ * مَآ أَنتُمْ عَلَيْهِ بِفَاتِنِينَ * إِلاَّ مَنْ هُوَ صَالِ الجحيم } [ الصافات : 161-163 ] ، وقال تعالى : { إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُّخْتَلِفٍ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [ الذاريات : 8-9 ] ، وقوله : { وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ } ، قال ابن عباس : وليكتسبوا ما هم مكتسبون ، وقال السدي وابن زيد : وليعملوا ما هم عاملون .
(1/776)
أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَمًا وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلًا وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقًا وَعَدْلًا لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)
يقول الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم : قل لهؤلاء المشركين بالله الذين يعبدون غيره { أَفَغَيْرَ الله أَبْتَغِي حَكَماً } ؟ أي بيني وبينكم ، { وَهُوَ الذي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الكتاب مُفَصَّلاً } أي مبيناً ، { والذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب } أي من اليهود والنصارى يعلمون أنه منزل من ربك بالحق أي بما عندهم من البشارات بك من الأنبياء المتقدمين ، { فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } كقوله : { فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الذين يَقْرَءُونَ الكتاب مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَآءَكَ الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } [ يونس : 94 ] وهذا شرط ، والشرط لا يقتضى وقوعه ، ولهذا جاء عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا أشك ولا أسأل » ، وقوله تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } ، قال قتادة : صدقاً فيما قال ، وعدلاً فيما حكم ، يقول : صدقاً في الأخبار وعدلاً في الطلب ، فكل ما أخبر به فحق لا مرية فيه ، ولا شك ، وكل ما أمر به فهو العدل الذي لا عدل سواه ، وكل ما نهى عنه فباطل ، فإنه لا ينهى إلاّ عن مفسدة ، كما قال تعالى : { يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر } [ الأعراف : 157 ] إلى آخر الآية ، { لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ } أي ليس أحد يعقب حكمه تعالى لا في الدنيا ولا في الآخرة { وَهُوَ السميع } لأقوال عباده { العليم } بحركاتهم وسكناتهم الذي يجازي كل عامل بعمله .
(1/777)
وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)
يخبر تعالى عن حال أكثر أهل الأرض من بني آدم أنه الضلال كما قال تعالى : { وَلَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الأولين } [ الصافات : 71 ] وقال تعالى : { وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] وهم في ضلالهم ليسوا على يقين من أمرهم وإنما هم في ظنون كاذبة وحسبان باطل { إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ } ، فإن الخرص هو الحزر ومنه خرص النخل وهو حزر ما عليها من التمر ، وذلك كله عن قدر الله ومشيئته { هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ } فييسره لذلك ، { وَهُوَ أَعْلَمُ بالمهتدين } فييسرهم لذلك وكل ميسر لما خلق له .
(1/778)
فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيرًا لَيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119)
هذا إباحة من الله لعباده المؤمنين أن يأكلوا من الذبائح ما ذكر عليه اسمه ، ومفهومه أنه لا يباح ما لم يذكر اسم الله عليه ، كما كان يستبيحه كفار قريش من أكل الميتات وأكل ما ذبح على النصب وغيرها ، ثم ندب إلى الأكل مما ذكر اسم الله عليه فقال : { وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسم الله عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ } أي قد بين لكم ما حرم عليكم ووضحه { إِلاَّ مَا اضطررتم إِلَيْهِ } أي إلاّ في حال الاضطرار ، فإنه يباح لكم ما وجدتم . ثم بين تعالى جهالة المشركين في آرائهم الفاسدة من استحلالهم الميتات وما ذكر عليه غير اسم الله تعالى ، فقال : { وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بالمعتدين } أي هو أعلم باعتدائهم وكذبهم وافترائهم .
(1/779)
وَذَرُوا ظَاهِرَ الْإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُوا يَقْتَرِفُونَ (120)
قال مجاهد : { وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ } المعصية في السر والعلانية ، وقال قتادة : أي سره وعلانيته ، قليله وكثيره ، وقال السدي : ظاهره الزنا مع البغايا ذوات الرايات ، وباطنه الزنا مع الخليلة والصدائق والأخدان ، وقال عكرمة : ظاهره نكاح ذوات المحارم . والصحيح أن هذه الآية عامة في ذلك كله ، وهي كقوله : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأعراف : 33 ] الآية ، ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الذين يَكْسِبُونَ الإثم سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ } أي سواء كان ظاهراً أو خفياً ، فإن الله سيجزيهم عليه ، عن النواس بن سمعان قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الإثم فقال : « الإثم ما حاك في صدرك وكرهت أن يطّلع الناس عليه » .
(1/780)
وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121)
استدل بهذه الآية الكريمة من ذهب إلى أن الذبيحة لا تحل إذا لم يذكر اسم الله عليها وإن كان الذابح مسلماً ، وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في هذه المسألة على ثلاثة أقوال : فمنهم من قال لا تحل هذه الذبيحة بهذه الصفة وسواء ترك التسمية عمداً أو سهواً ، وهو رواية عن الإمام مالك وأحمد بن حنبل ، وهو اختيار أبي ثور وداود الظاهري واحتجوا لمذهبهم هذا بهذه الآية وبقوله في آية الصيد : { فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ واذكروا اسم الله عَلَيْهِ } [ المائدة : 4 ] ، ثم أكد في هذه الآية بقوله : { وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } ، والضمير قيل : عائد على الأكل وقيل : عائد على الذبح لغير الله ، وبالأحاديث الواردة في الأمر بالتسمية عند الذبيحة والصيد كحديثي عدي بن حاتم : « إذا أرسلت كلبك المعلم وذكرت اسم الله عليه فكل مما أمسك عليك » وهو في الصحيحين ، وحديث رافع بن خديج : « ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه » وهو في الصحيحين أيضاً ، وحديث ابن مسعود أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للجن : « لكم كل عظم ذكر اسم الله عليه » ؛ وعن عائشة رضي الله عنها « أن ناساً قالوا : يا رسول الله إن قوماً يأتوننا باللحم لا ندري أذكر اسم الله عليه أم لا؟ قال : » سموا عليه أنتم وكلوا « قالت : وكانوا حديثي عهد بالكفر » ووجه الدلالة أنهم فهموا أن التسمية لا بد منها وخشوا أن لا تكون وجدت من أولئك لحداثة إسلامهم ، فأمرهم بالاحتياط بالتسمية عند الأكل لتكون كالعوض عن المتروكة عند الذبح إن لم تكن وجدت ، وأمرهم بإجراء أحكام المسلمين على السداد ، والله أعلم .
والمذهب الثاني في المسألة : أنه لا يشترط في التسمية ، بل هي مستحبة ، فإن تركت عمداً أو نسياناً لا يضر ، وهذا مذهب الإمام الشافعي رحمه الله وجميع أصحابه ، ورواية عن الإمام أحمد نقلها عنه حنبل ، وهو رواية عن الإمام مالك ، وحمل الشافعي الآية الكريمة : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } على ما ذبح لغير الله كقوله تعالى : { أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ الله بِهِ } [ الأنعام : 145 ] ، وقال عطاء { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } ينهي عن ذبائح كانت تذبحها قريش للأوثان وينهى عن ذبائح المجوس ، وهذا المسلك الذي طرقه الإمام الشافعي قوي ، وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } قال : هي الميتة . وقد استدل لهذا المذهب بما رواه أبو داود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ذبيحة المسلم حلال ذكر اسم الله أو لم يذكر إنه أن ذكر ، لم يذكر إلاّ اسم الله »
(1/781)
وهذا مرسل يعضد بما رواه الدارقطني عن ابن عباس أنه قال : « إذا ذبح المسلم ولم يذكر اسم الله فليأكل فإن المسلم فيه اسم من أسماء الله » ، واحتج البيهقي أيضاً بحديث عائشة رضي الله عنها المتقدم أن ناساً قالوا : « يا رسول الله إن قوماً حديثي عهد بجاهلية يأتوننا بلحم لا ندري أذكروا اسم الله عليه أم لا؟ فقال : » سموا أنتم وكلوا « قال : فلو كان وجود التسمية شرطاً لم يرخص لهم إلاّ مع تحققها والله أعلم .
المذهب الثالث في المسألة : إن ترك البسملة على الذبيحة نسياناً لم يضر ، وإن تركها عمداً لم تحل ، هذا هو المشهور من مذهب الإمام مالك وأحمد وبه يقول أبو حنيفة وإسحاق بن راهويه ، وقال ابن جرير رحمه الله : من حرم ذبيحة الناسي فقد خرج من قول جميع الحجة ، وخالف الخبر الثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك ، يعني ما رواه الحافظ البيهقي عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » المسلم يكفيه اسمه إن نسي أن يسمي حين يذبح فليذكر اسم الله وليأكله « ، ثم نقل ابن جرير وغيره عن الشعبي ومحمد بن سيرين : أنهما كرها متروك التسمية نسياناً ، والسلف يطلقون الكراهة على التحريم كثيراً ، والله أعلم ، إلاّ أن من قاعدة ابن جرير أنه لا يعتبر قول الواحد ولا الاثنين مخالفاً لقول الجمهور فيعده إجماعاً ، فليعلم هذا ، والله الموفق . واحتج لهذا المذهب بالحديث المروي من طرق عند ابن ماجه عن النبي صلى الله عليه وسلم : » إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه « ، وعن أبي هريرة قال : » جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : أرأيت الرجل منا يذبح وينسى أن يسمي؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « اسم الله على كل مسلم » « .
وقوله تعالى : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ } ، قال ابن أبي حاتم عن أبي زميل قال : كنت قاعداً عند ابن عباس وحج ( المختار بن أبي عبيد ) فجاءه رجل ، فقال : يا ابن عباس زعم أبو إسحاق أنه أوحي إليه الليلة ، فقال ابن عباس : صدق ، فنفرت ، وقلت : يقول ابن عباس صدق؟ فقال ابن عباس : هما وحيان ، وحي الله ، ووحي الشيطان ، فوحي الله إلى محمد صلى الله عليه وسلم ووحي الشيطان إلى أوليائه ، ثم قرأ : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ } . وقد تقدم عن عكرمة في قوله : { يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] نحو هذا . وقوله : { لِيُجَادِلُوكُمْ } ، عن سعيد بن جبير قال : خاصمت اليهود النبي صلى الله عليه وسلم فقالوا : نأكل مما قتلنا ولا نأكل مما قتل الله؟ فأنزل الله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ } ، وعن عكرمة عن ابن عباس قال : لما نزلت : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } أرسلت فارس إلى قريش أن خاصموا محمداً وقولوا له : فما تذبح أنت بيدك بسكين فهو حلال وما ذبح الله عزَّ وجلَّ بشمشير من ذهب يعني الميته فهو حرام؟ فنزلت هذه الآية : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } أي وإن الشياطين من فارس ليوحون إلى أوليائهم من قريش ، وقال أبو داود عن ابن عباس في قوله : { وَإِنَّ الشياطين لَيُوحُونَ إلى أَوْلِيَآئِهِمْ } يقولون : ما ذبح الله فلا تأكلوه وما ذبحتم أنتم فكلوه ، فأنزل الله : { وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسم الله عَلَيْهِ } ، وقال السدي في تفسير هذه الآية : إن المشركين قالوا للمسلمين : كيف تزعمون أنكم تتبعون مرضاة الله فما قتل الله فلا تأكلونه وما ذبحتم أنتم تأكلونه؟ فقال الله تعالى : وإن أطعتموهم - في أكل الميتة { إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } وهكذا قال مجاهد والضحاك وغير واحد من علماء السلف .
(1/782)
وقوله تعالى : { وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ } أي حيث عدلتم عن أمر الله لكم وشرعه إلى قول غيره فقدمتم عليه غيره ، فهذا هو الشرك ، كقوله تعالى : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] الآية وقد روى الترمذي في تفسيرها عن عدي بن حاتم أنه قال : يا رسول الله ما عبدوهم فقال : « بلى إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم » .
(1/783)
أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (122)
هذا مثل ضربه الله تعالى للمؤمن الذي كان ميتاً أي في الضلالة هالكاً حائراً ، فأحياه الله ، أي أحيا قلبه بالإيمان وهداه ووفقه لاتباع رسله ، { وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي الناس } أي يهتدي كيف يسلك وكيف يتصرف به ، والنور هو القرآن ، كما روي عن ابن عباس ، وقال السدي : الإسلام والكل صحيح ، { كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظلمات } أي الجهالات والأهواء والضلالات المتفرقة { لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا } أي لا يهتدي إلى منفذ ولا مخلص مما هو فيه . وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الله خلق خلقة في ظلمة ، ثم رش عليهم من نوره ، فمن أصابه ذلك النور اهتدى ، ومن أخطأه ضل » كما قال تعالى : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ البقرة : 257 ] ، وقال تعالى : { أَفَمَن يَمْشِي مُكِبّاً على وَجْهِهِ أهدى أَمَّن يَمْشِي سَوِيّاً عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الملك : 22 ] ؟ وقال تعالى : { مَثَلُ الفريقين كالأعمى والأصم والبصير والسميع هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ } [ هود : 24 ] وقال تعالى : { وَمَا يَسْتَوِي الأعمى والبصير * وَلاَ الظلمات وَلاَ النور * وَلاَ الظل وَلاَ الحرور * وَمَا يَسْتَوِي الأحيآء وَلاَ الأموات إِنَّ الله يُسْمِعُ مَن يَشَآءُ وَمَآ أَنتَ بِمُسْمِعٍ مَّن فِي القبور * إِنْ أَنتَ إِلاَّ نَذِيرٌ } [ فاطر : 19-23 ] ، والآيات في هذه كثيرة ، ووجه المناسبة في ضرب المثلين هاهنا بالنور والظلمات ما تقدم في أول السورة { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] ، وزعم بعضهم : أن المراد بهذا المثل رجلان معينان ، فقيل عمر بن الخطاب هو الذي كان ميتاً فأحياه الله وجعل له نوراً يمشي به في الناس ، وقيل : عمار بن ياسر ، وأما الذي في الظلمات ليس بخارج منها أبو جهل ( عمرو بن هشام ) لعنه الله . والصحيح أن الآية عامة يدخل فيها كل مؤمن وكافر ، وقوله تعالى : { كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي حسناً لهم ما كانوا فيه من الجهالة والضلالة قدراً من الله وحكمة بالغة ، لا إله إلاّ هو وحده لا شريك له .
(1/784)
وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُوا فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغَارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُوا يَمْكُرُونَ (124)
يقول تعالى : وكما جعلنا في قريتك يا محمد أكابر من المجرمين ، ورؤساء ودعاة إلى الكفر والصد عن سبيل الله وإلى مخالفتك وعداوتك ، كذلك كانت الرسل من قبلك يبتلون بذلك ثم تكون لهم العاقبة ، كما قال تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً مِّنَ المجرمين } [ الفرقان : 31 ] الآية ، وقوله تعالى : { أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا } ، قال ابن عباس : سلطنا شرارهم فعصوا فيها ، فإذا فعلوا ذلك أهلكناهم بالعذاب . وقال مجاهد وقتادة : { أَكَابِرَ مُجْرِمِيهَا } عظماؤها ، قلت : وهكذا قوله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا بِمَآ أُرْسِلْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ } [ سبأ : 34 ] ، وقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ مَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلاَّ قَالَ مُتْرَفُوهَآ إِنَّا وَجَدْنَآ آبَآءَنَا على أُمَّةٍ وَإِنَّا على آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ } [ الزخرف : 23 ] والمراد بالمكر هاهنا دعاؤهم إلى الضلالة بزخرف من المقال والفعال ، كقوله تعالى إخباراً عن قوم نوح : { وَمَكَرُواْ مَكْراً كُبَّاراً } [ نوح : 22 ] ، وقوله تعالى : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } [ سبأ : 31 ] ، قال سفيان : كل مكر في القرآن فهو عمل ، وقوله تعالى : { وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ } أي وما يعود وبال مكرهم وإضلالهم إلاّ على أنفسهم ، كما قال تعالى : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] ، وقال : { وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَآءَ مَا يَزِرُونَ } [ النحل : 25 ] . وقوله تعالى : { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله } أي إذا جاءتهم آية وبرهان وحجة قاطعة { قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله } أي حتى تأتينا الملائكة من الله بالرسالة كما تأتي إلى الرسل كقوله جلَّ وعلا : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا } [ الفرقان : 21 ] الآية .
وقوله تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } أي هو أعلم حيث يضع رسالته ومن يصلح لها من خلقه ، كقوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ * أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } [ الزخرف : 31-32 ] الآية ، يعنون لو نزل هذا القرآن على رجل عظيم كبير جليل مبجل في أعينهم { مِّنَ القريتين } أي من مكة والطائف ، وذلك أنهم قبحهم الله كانوا يزدرون بالرسول صلوات الله وسلامه عليه بغياً وحسداً وعناداً واستكباراً ، كقوله تعالى مخبراً عنه : { وَإِذَا رَآكَ الذين كفروا إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أهذا الذي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَهُمْ بِذِكْرِ الرحمن هُمْ كَافِرُونَ } [ الأنبياء : 36 ] ، وقال تعالى : { وَإِذَا رَأَوْكَ إِن يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أهذا الذي بَعَثَ الله رَسُولاً } [ الفرقان : 41 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ } [ الأنبياء : 41 ] ، هذا وهم معترفون بفضله وشرفه ونسبه ، وطهارة بيته ومرباه ، ومنشئه صلى الله وملائكته والمؤمنون عليه ، حتى إنهم يسمونه بينهم قبل أن يوحى إليه « الأمين » ، وقد اعترف بذلك رئيس الكفار ( أبو سفيان ) حين سأله هرقل ملك الروم : وكيف نسبه فيكم؟ قال : هو فينا ذو نسب ، قال : هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال؟ قال : لا .
(1/785)
. الحديث بطوله الذي استدل ملك الروم بطهارة صفاته عليه السلام على صدق نبوته وصحة ما جاء به ، وقال الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله اصطفى من ولد إبراهيم إسماعيل ، واصطفى من بني إسماعيل بني كنانة ، واصطفى من بني كنانة قريشاً ، واصطفى من قريش بني هاشم ، واصطفاني من بني هاشم » ، وفي صحيح البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بعثت من خير قرون بني آدم قرناً فقرناً حتى بعثت من القرن الذي كنت فيه » وقال الإمام أحمد قال العباس : « بلغه صلى الله عليه وسلم بعض ما يقول الناس فصعد المنبر فقال : » من أنا؟ « قالوا أنت رسول الله ، فقال : » أنا محمد بن عبد الله بن عبد المطلب ، إن الله خلق الخلق فجعلني في خير خلقه ، وجعلهم فريقين فجعلني في خير فرقة ، وخلق القبائل فجعلني في خير قبيلة ، وجعلهم بيوتاً فجعلني في خيرهم بيتاً ، فأنا خيركم بيتاً وخيركم نفساً « صدق صلوات الله وسلامه عليه .
وفي الحديث أيضاً المروي عن عائشة رضي الله عنها قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » قال لي جبريل قلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد رجلاً أفضل من محمد ، وقلبت الأرض مشارقها ومغاربها فلم أجد بني أب أفضل من بني هاشم « ، وقال الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال : إن الله نظر في قلوب العباد فوجد قلب محمد خير قلوب العباد فاصطفاه لنفسه ، فبعثه برسالته ، ثم نظر في قلوب العباد بعد قلب محمد فوجد قلوب أصحابه خير قلوب العباد فجعلهم وزراء نبيه يقاتلون على دينه ، فما رآه المسلمون حسناً فهو عند الله حسن ، وما رآه المسلمون سيئاً فهو عند الله سيء . وأبصر رجل ابن عباس وهو داخل من باب المسجد ، فلما نظر إليه راعه فقال : من هذا؟ قالوا : ابن عباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم . فقال : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } . وقوله تعالى : { سَيُصِيبُ الذين أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ الله وَعَذَابٌ شَدِيدٌ } الآية ، هذا وعيد شديد من الله وتهديد أكيد لمن تكبر عن اتباع رسله والانقياد لهم فيما جاءوا به ، فإنه سيصيبه يوم القيامة بين يدي الله { صَغَارٌ } وهو الذلة الدائمة كما أنهم استكبروا فأعقبهم ذلك ذلاً يوم القيامة لما استكبروا في الدنيا ، كقوله تعالى :
(1/786)
{ إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] أي صاغرين ذليلين حقيرين . وقوله تعالى : { وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ } لما كان المكر غالباً إنما يكون خفياً وهو التلطف في التحيل والخديعة قوبلوا بالعذاب الشديد من الله يوم القيامة جزاء وفاقاً { وَلاَ يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً } [ الكهف : 49 ] ، كما قال تعالى : { يَوْمَ تبلى السرآئر } [ الطارق : 9 ] أي تظهر المستترات والمكنونات والضمائر ، وجاء في الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ينصب لكل لواء غادر لواء عند استه يوم القيامة فيقال هذه غدرة فلان بن فلان » ، والحكمة في هذا أنه لما كان الغدر خفياً لا يطلع عليه الناس فيوم القيامة يصير علماً منشوراً على صاحبه بما فعل .
(1/787)
فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (125)
يقول تعالى : { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } أي ييسره له وينشطه ويسهله لذلك ، فهذه علامات على الخير ، كقوله تعالى : { أَفَمَن شَرَحَ الله صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ فَهُوَ على نُورٍ مِّن رَّبِّهِ } [ الزمر : 22 ] الآية ، وقال تعالى : { ولكن الله حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإيمان وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ } [ الحجرات : 7 ] ، وقال ابن عباس معناه يوسع قلبه للتوحيد والإيمان به وهو ظاهر . سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي المؤمنين أكيس؟ قال : « أكثرهم ذكراً للموت وأكثرهم لما بعده استعداداً » ، وسئل عن هذه الآية : { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } قالوا : « كيف يشرح صدره يا رسول الله؟ قال : » نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح « ، وقالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها؟ قال : » الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت قبل لقاء الموت « وعن عبد الله بن مسعود قال : » تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { فَمَن يُرِدِ الله أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ } قالوا : يا رسول الله ما هذا الشرح؟ قال : « نور يقذف به في القلب » قالوا يا رسول الله فهل لذلك من أمارة تعرف؟ قال : « نعم » ، قالوا : وما هي قال : « الإنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور والاستعداد للموت قبل الموت » « .
وقوله تعالى : { وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } حرجاً بفتح الحاء والراء ، وهو الذي لا يتسع لشيء من الهدى ، ولا يخلص إليه شيء من الإيمان ولا ينفذ فيه ، وقد سأل عمر بن الخطاب رضي الله عنه رجلاً من الأعراب من أهل البادية من مدلج عن الحرجة؟ فقال : هي الشجرة تكون بين الأشجار لا تصل إليها راعية ولا وحشية ولا شيء ، فقال عمر رضي الله عنه : كذلك قلب المنافقين لا يصل إليه شيء من الخير ، وقال ابن عباس : يجعل الله عليه الإسلام ضيقاً والإسلام واسع ، وذلك حين يقول : { وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ } [ الحج : 78 ] يقول : ما جعل عليكم في الإسلام من ضيق . وقال مجاهد والسدي : { ضَيِّقاً حَرَجاً } شاكاً ، وقال عطاء الخراساني : { ضَيِّقاً حَرَجاً } أي ليس للخير فيه منفذ ، وقال ابن المبارك : { ضَيِّقاً حَرَجاً } بلا إله إلاّ الله حتى لا تستطيع أن تدخل قلبه ، { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء } من شدة ذلك عليه . وقال سعيد بن جبير : { يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً } لا يجد فيه مسلكاً إلاّ صعد . وقال عطاء الخراساني : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء } يقول : مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد إلى السماء ، وقال ابن عباس : { كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السمآء } يقول : فكما لا يستطيع ابن آدم أن يبلغ السماء فكذلك لا يستطيع أن يدخل التوحيد والإيمان في قلبه حتى يدخله الله في قلبه ، وقال الأوزاعي : كيف يستطيع من جعل الله صدره ضيقاً أن يكون مسلماً .
(1/788)
وقال ابن جرير : وهذا مثل ضربه الله لقلب هذا الكافر في شدة ضيقه عن وصول الإيمان إليه يقول : فمثله في امتناعه عن قبول الإيمان وضيقه عن وصوله إليه مثل امتناعه عن الصعود إلى السماء وعجزه عنه ، لأنه ليس في وسعه وطاقته ، وقال في قوله : { كذلك يَجْعَلُ الله الرجس عَلَى الذين لاَ يُؤْمِنُونَ } يقول : كما يجعل الله صدر من أراد إضلاله ضيقاً وحرجاً ، كذلك يسلط الله الشيطان عليه وعلى أمثاله ممن أبى الإيمان بالله ورسوله فيغويه ويصده عن سبيل الله ، وقال ابن عباس : { الرجس } الشيطان ، وقال مجاهد : { الرجس } كل ما لا خير فيه .
(1/789)
وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (127)
لما ذكر تعالى طريق الضالين عن سبيله الصادين عنها ، نبّه على شرف ما أرسل به رسوله من الهدى ودين الحق ، فقال تعالى : { وهذا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً } أي هذا الدين الذي شرعناه لك يا محمد بما أوحينا إليك هذا القرآن هو صراط الله المستقيم ، كما تقدم في الحديث في نعت القرآن : « هو صراط الله المستقيم وحبل الله المتين وهو الذكر الحكيم » ، { قَدْ فَصَّلْنَا الآيات } أي وضحناها وبيناها وفسرناها { لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ } أي لمن له فهم ووعي يعقل عن الله ورسوله ، { لَهُمْ دَارُ السلام } وهي الجنة { عِندَ رَبِّهِمْ } أي يوم القيامة ، وإنما وصف الله الجنة هاهنا بدار السلام لسلامتهم فيما سلكوه من الصراط المستقيم ، المقتفي أثر الأنبياء وطرائقهم فكما سلموا من آفات الإعوجاج أفضوا إلى دار السلام ، { وَهُوَ وَلِيُّهُمْ } أي حافظهم وناصرهم ومؤيدهم ، { بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } أي جزاء على أعمالهم الصالحة تولاهم وأثابهم الجنة بمنه وكرمه .
(1/790)
وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَقَالَ أَوْلِيَاؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128)
يقول تعالى : { وَ } اذكر يا محمد فيما تقصه عليهم وتنذرهم به ، { يَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً } يعني الجن وأولياءهم من الإنس الذين كانوا يعبدونهم في الدنيا ويعوذون بهم ويطيعونهم ، ويوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً { يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس } أي يقول يا معشر الجن ، وسياق الكلام يدل على المحذوف ، ومعنى قوله : { استكثرتم مِّنَ الإنس } أي من إغوائهم وإضلالهم ، كقوله تعالى : { أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يابني ءَادَمَ أَن لاَّ تَعْبُدُواْ الشيطان إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ وَأَنِ اعبدوني هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } [ يس : 60-61 ] ، وقال ابن عباس : { يَامَعْشَرَ الجن قَدِ استكثرتم مِّنَ الإنس } يعني أضللتم منهم كثيراً ، { وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإنس رَبَّنَا استمتع بَعْضُنَا بِبَعْضٍ } : يعني أولياء الجن من الإنس قالوا مجيبين لله تعالى عن ذلك بهذا ، قال ابن أبي حاتم عن الحسن في هذه الآية قال : استكثرتم من أهل النار يوم القيامة ، فقال أولياؤهم من الإنس : ربنا استمتع بعضنا ببعض ، قال الحسن : وما كان استمتاع بعضهم ببعض إلاّ أن الجن أمرت وعملت الإنس . وقال ابن جريج : كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول : أعوذ بكبير هذا الوادي ، فذلك استمتاعهم فاعتذروا به يوم القيامة ، وأما استمتاع الجن بالإنس فإنه كان - فيما ذكر - ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إياهم في استعانتهم بهم ، فيقولون : قد سدنا الإنس والجن { وَبَلَغْنَآ أَجَلَنَا الذي أَجَّلْتَ لَنَا } قال السدي : يعني الموت ، { قَالَ النار مَثْوَاكُمْ } أي مأواكم ومنزلكم أنتم وإياهم وأولياؤكم ، { خَالِدِينَ فِيهَآ } أي ماكثين فيها مكثاً مخلداً إلاّ ما شاء الله ، قال بعضهم : يرجع معنى الاستثناء إلى البرزخ ، وقال بعضهم : هذا رد إلى مدة الدنيا ، وقيل : غير ذلك من الأقوال ، وقد روى ابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس : { قَالَ النار مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَآ إِلاَّ مَا شَآءَ الله إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ } قال : إن هذه الآية آية لا ينبغي لأحد أن يحكم على الله في خلقه ، ولا ينزلهم جنة ولا ناراً .
(1/791)
وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضًا بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (129)
قال قتادة في تفسيرها : إنما يولي الله الناس بأعمالهم ، فالمؤمن ولي المؤمن أين كان وحيث كان ، والكافر ولي الكافر أينما كان وحيثما كان ، ليس الإيمان بالتمني ولا بالتحلي ، واختاره ابن جرير ، وعنه في تفسير الآية : يولي الله بعض الظالمين بعضاً في النار يتبع بعضهم بعضاً . وقال مالك بن دينار : قرأت في الزبور : إني أنتقم من المنافقين بالمنافقين ، ثم أنتقم من المنافقين جميعاً ، وذلك في كتاب الله قول الله تعالى : { وكذلك نُوَلِّي بَعْضَ الظالمين بَعْضاً } ، وقال ابن أسلم : قال ظالمي الجن وظالمي الإنس ، وقرأ : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] أي ونسلط ظلمة الجن على ظلمة الإنس ، وعن ابن مسعود مرفوعاً : « من أعان ظالماً سلطه الله عليه » وقال بعض الشعراء :
وما من يد إلاّ يد الله فوقها ... ولا ظالم إلاّ سيبلى بظالم
ومعنى الآية الكريمة : كما ولينا هؤلاء الخاسرين من الإنس تلك الطائفة التي أغوتهم من الجن ، كذلك نفعل بالظالمين نسلط بعضهم على بعض ونهلك بعضهم ببعض ، وننتقم من بعضهم ببعض جزاء على ظلمهم وبغيهم .
(1/792)
يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا شَهِدْنَا عَلَى أَنْفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (130)
وهذا أيضاً مما يقرع الله به كافري الجن والإنس يوم القيامة حيث يسألهم وهو أعلم : هل بلغتهم الرسل رسالاته ، وهذا استفهام تقرير ، { يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ } أي من جملتكم والرسل من الإنس فقط وليس من الجن رسل ، كما قد نص على ذلك مجاهد وابن جريج وغير واحد من الأئمة من السلف والخلف . وقال ابن عباس : الرسل من بني آدم ومن الجن نزر . وحكى ابن جرير عن الضحاك : أنه زعم أن في الجن رسلاً ، واحتج بهذه الآية الكريمة ، وفيه نظر ، لأنها محتملة وليست بصريحة وهي ، والله أعلم ، كقوله : { مَرَجَ البحرين يَلْتَقِيَانِ * بَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ لاَّ يَبْغِيَانِ } [ الرحمن : 19-20 ] ، إلى أن قال : { يَخْرُجُ مِنْهُمَا الُّلؤْلُؤُ وَالمَرْجَانُ } [ الرحمن : 22 ] ومعلوم أن اللؤلؤ والمرجان إنما يستخرجان من الملح لا من الحلو ، وهذا واضح ولله الحمد . وقد ذكر هذا الجواب بعينه ابن جرير ، والدليل على أن الرسل إنما هم من الإنس قوله تعالى : { إِنَّآ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ كَمَآ أَوْحَيْنَآ إلى نُوحٍ والنبيين مِن بَعْدِهِ } [ النساء : 163 ] . وقوله تعالى عن إبراهيم : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب } [ العنكبوت : 27 ] فحصر النبوة والكتاب بعد إبراهيم في ذريته ، ولم يقل أحد من الناس إن النبوة كانت في الجن قبل إبراهيم الخليل ثم انقطعت عنهم ببعثته . وقال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق } [ الفرقان : 20 ] ، وقال : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى } [ يوسف : 109 ] ومعلوم أن الجن تبع للإنس في هذا الباب ، ولهذا قال تعالى إخباراً عنهم : { وَإِذْ صَرَفْنَآ إِلَيْكَ نَفَراً مِّنَ الجن يَسْتَمِعُونَ القرآن فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالوا أَنصِتُواْ فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْاْ إلى قَوْمِهِم مُّنذِرِينَ * قَالُواْ ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يهدي إِلَى الحق وإلى طَرِيقٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الأحقاف : 29-30 ] ، وقال تعالى في هذه الآية الكريمة : { يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا } أي أقررنا أن الرسل قد بلغونا رسالاتك وأنذرونا لقاءك ، وأن هذا اليوم كائن لا محالة . وقال تعالى : { وَغَرَّتْهُمُ الحياة الدنيا } أي وقد فرطوا في حياتهم الدنيا وهلكوا بتكذيبهم الرسل ومخالفتهم للمعجزات ، لما اغتروا به من زخرف الحياة الدنيا وزينتها وشهواتها ، { وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ } أي يوم القيامة { أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } أي في الدنيا بما جاءتهم به الرسل صلوات الله وسلامه عليهم .
(1/793)
ذَلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)
يقول تعالى : { ذلك أَن لَّمْ يَكُنْ رَّبُّكَ مُهْلِكَ القرى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ } أي إنما أعذرنا إلى الثقلين بإرسال الرسل وإنزال الكتب لئلا يؤاخذ أحد بظلمه وهو لم تبلغه دعوة ، ولكن أعذرنا إلى الأمم وما عذبنا أحد إلاّ بعد إرسال الرسل إليهم ، كما قال تعالى : { وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلاَ فِيهَا نَذِيرٌ } [ فاطر : 24 ] ، وقوله : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، وقال تعالى : { كُلَّمَا أُلْقِيَ فِيهَا فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُهَآ أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ قَالُواْ بلى قَدْ جَآءَنَا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنَا } [ الملك : 8-9 ] والآيات في هذا كثيرة . قال ابن جرير : ويحتمل قوله تعالى : { بِظُلْمٍ } وجهين ( أحدهما ) : أي بظلم أهلها بالشرك ونحوه وهم غافلون ، يقول : لم يكن يعاجلهم بالعقوبة حتى يبعث إليهم رسولاً ينبههم على حجج الله عليهم وينذرهم عذاب الله يوم معادهم ، ولم يكن بالذي يؤاخذهم غفلة ، فيقولوا ما جاءنا من بشير ولا نذير . ( والوجه الثاني ) : لم يكن ربك ليهلكهم دون التنبيه والتذكير بالرسل والآيات والعبر فيظلمهم بذلك ، والله غير ظلام لعبيده ، ثم شرع يرجح الوجه الأول ولا شك أنه أقوى والله أعلم ، قال : وقوله تعالى : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } أي ولكل عامل من طاعة الله أو معصيته مراتب ومنازل من عمله يبلغه إياها ويثيبه بها إن خيراً فخير وإن شراً فشر . ( قلت ) : ويحتمل أن يعود قوله : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } أي من كافري الجن والإنس ، أي لكل درجة في النار بحسبه ، كقوله : { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ } [ الأعراف : 38 ] ، وقوله : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ } [ النحل : 88 ] ، { وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } ، قال ابن جرير : أي وكل ذلك من عملهم يا محمد بعلم من ربك يحصيها ويثبتها لهم عنده ليجازيهم عند لقائهم إياه ومعادهم إليه .
(1/794)
وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ مَا يَشَاءُ كَمَا أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لَآتٍ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)
يقول تعالى : { وَرَبُّكَ } يا محمد { الغني } أي عن جميع خلقه من جميع الوجوه ، وهم الفقراء إليه في جميع أحوالهم ، { ذُو الرحمة } أي وهو مع ذلك رحيم بهم كما قال تعالى : { إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ البقرة : 143 ، الحج : 65 ] { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ } أي إذا خالفتم أمره ، { وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُمْ مَّا يَشَآءُ } أي قوماً آخرين أي يعملون بطاعته ، { كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } أي هو قادر على ذلك سهل عليه يسير لديه كما أذهب القرون الأولى وأتى بالذي بعدها ، كذلك هو قادر على إذهاب هؤلاء والإتيان بآخرين كما قال تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا الناس وَيَأْتِ بِآخَرِينَ وَكَانَ الله على ذلك قَدِيراً } [ النساء : 133 ] ، وقال تعالى : { إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ * وَمَا ذَلِكَ عَلَى الله بِعَزِيزٍ } [ فاطر : 16-17 ] ، وقال تعالى : { وَإِن تَتَوَلَّوْاْ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لاَ يكونوا أَمْثَالَكُم } [ محمد : 38 ] ، وقوله تعالى : { إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } أي أخبرهم يا محمد أن الذي يوعدون به من أمر المعاد كائن لا محالة ، { وَمَآ أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } أي ولا تعجزون الله ، بل هو قادر على إعادتكم وإن صرتم تراباً رفاتاً وعظاماً هو قادر لا يعجزه شيء . وقال ابن أبي حاتم في تفسيرها عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يا بني آدم إن كنتم تعقلون فعدوا أنفسكم من الموتى ، والذي نفسي بيده إنما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين » .
وقوله تعالى : { قُلْ يَاقَوْمِ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ } هذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، أي استمروا على طريقتكم وناحيتكم إن كنتم تظنون أنكم على هدى فأنا مستمر على طريقتي ومنهجي ، كقوله : { وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعملوا على مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ وانتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ } [ هود : 121-122 ] ، قال ابن عباس : { على مَكَانَتِكُمْ } ناحيتكم ، { فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدار إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظالمون } أي أتكون لي أو لكم؟ وقد أنجز الله موعده لرسوله صلوات الله عليه ، فإنه تعالى مكنه في البلاد ، وحكمه في نواصي مخالفيه من العباد ، وفتح له مكة ، وأظهره على من كذبه من قومه وعاده وناوأه ، واستقر أمره على سائر جزيرة العرب ، وكل ذلك في حياته ، ثم فتحت الأمصار والأقاليم بعد وفاته في أيام خلفائه رضي الله عنهم أجمعين كما قال الله تعالى : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] وقال : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار } [ غافر : 51-52 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزبور مِن بَعْدِ الذكر أَنَّ الأرض يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصالحون } [ الأنبياء : 105 ] ، وقال تعالى إخباراً عن رسله : { فأوحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظالمين وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأرض مِن بَعْدِهِمْ ذلك لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ } [ إبراهيم : 13-14 ] ، وقال تعالى : { وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ } [ النور : 55 ] الآية ، وقد فعل الله ذلك بهذه الأمة المحمدية وله الحمد والمنة أولاً وآخراً وظاهراً وباطناً .
(1/795)
وَجَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالْأَنْعَامِ نَصِيبًا فَقَالُوا هَذَا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَائِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَائِهِمْ فَلَا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَمَا كَانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَائِهِمْ سَاءَ مَا يَحْكُمُونَ (136)
هذا ذم وتوبيخ من الله للمشركين الذين ابتدعوا بدعاً وكفراً وشركاً ، وجعلوا لله شركاء ، وهو خالق كل شيء سبحانه وتعالى ، ولهذا قال تعالى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ } أي مما خلق وبرأ { مِنَ الحرث } أي من الزرع والثمار ، { والأنعام نَصِيباً } أي جزءاً وقسماً ، { فَقَالُواْ هذا للَّهِ بِزَعْمِهِمْ وهذا لِشُرَكَآئِنَا } وقوله : { فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إلى الله وَمَا كَانَ للَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إلى شُرَكَآئِهِمْ } قال ابن عباس : إن أعداء الله كانوا إذا حرثوا حرثاً أو كانت لهم ثمرة جعلوا لله منه جزءاً وللوثن جزءاً ، فما كان من حرث أو ثمرة أو شيء من نصيب الأوثان حفظوه وأحصوه ، وإن سقط منه شيء فيما سمي للصمد ردوه إلى ما جعلوه للوثن ، وإن سقط شيء من الحرث والثمرة الذي جعلوه لله فاختلط بالذي جعلوه للوثن قالوا : هذا فقير ولم يردوه إلى ما جعلوه لله ، وكانوا يحرمون من أموالهم ( البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ) فيجعلونه للأوثان ، ويزعمون أنهم يحرمونه قربة لله ، فقال الله تعالى : { وَجَعَلُواْ للَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الحرث والأنعام نَصِيباً } الآية ، وقال ابن أسلم في الآية : كل شيء يجعلونه لله من ذبح يذبحونه لا يأكلونه أبداً ، حتى يذكروا معه أسماء الآلهة ، وما كان للآلهة لم يذكروا اسم الله معه ، وقرأ الآية حتى بلغ { سَآءَ مَا يَحْكُمُونَ } أي ما يقسمون فإنهم أخطأوا أولاً في القسم ، لأن الله تعالى هو رب كل شيء ومليكه وخالقه وله الملك ، وكل شيء له وفي تصرفه وتحت قدرته ومشيئته لا إله غيره ولا رب سواه ، ثم لما قسموا فيما زعموا القسمة الفاسدة لم يحفظوها ، بل جاروا فيها كقوله جلَّ وعلا : { وَيَجْعَلُونَ لِلَّهِ البنات سُبْحَانَهُ وَلَهُمْ مَّا يَشْتَهُونَ } [ النحل : 57 ] ، وقال تعالى : { وَجَعَلُواْ لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءًا إِنَّ الإنسان لَكَفُورٌ مُّبِينٌ } [ الزخرف : 15 ] ، وقال تعالى : { أَلَكُمُ الذكر وَلَهُ الأنثى * تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضيزى } [ النجم : 21-22 ] .
(1/796)
وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلَادِهِمْ شُرَكَاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137)
يقول تعالى : كما زينت الشياطين لهؤلاء أن يجعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيباً ، كذلك زينوا لهم قتل أولادهم خشية الإملاق ووأد البنات خشية العار ، قال ابن عباس : وكذلك زين لكثير من المشركين قتل أولادهم شركاؤهم ، زينوا لهم قتل أولادهم . وقال مجاهد : شركاؤهم شياطينهم ، يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خشية العيلة . وقال السدي : أمرتهم الشياطين أن يقتلوا البنات إما ليردوهم فيهلكوهم ، وإما ليلبسوا عليهم دينهم ، أي فيخلطوا عليهم دينهم ، ونحو ذلك ، قال ابن أسلم وقتادة : وهذا كقوله تعالى : { وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ } [ النحل : 58 ] ، وكقوله : { وَإِذَا الموءودة سُئِلَتْ بِأَىِّ ذَنبٍ قُتِلَتْ } [ التكوير : 8-9 ] ، وقد كانوا أيضاً يقتلون الأولاد من الإملاق وهو الفقر أو خشية الإملاق أن يحصل لهم في تلف المال ، وقد نهاهم عن قتل أولادهم لذلك ، وإنما كان هذا كله من تزيين الشياطين وشرعهم ذلك ، قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله مَا فَعَلُوهُ } أي كل هذا واقع بمشيئته تعالى وإرادته واختياره لذلك كوناً وله الحكمة التامة في ذلك فلا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، { فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ } أي فدعهم واجتنبهم وما هم فيه فسيحكم الله بينك وبينهم .
(1/797)
وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لَا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لَا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (138)
قال ابن عباس الحِجْر : الحرام مما حرموا من الوصيلة وتحريم ما حرموا ، وقال قتادة : تحريم كان عليهم من الشياطين في أموالهم وتغليظ وتشديد ، ولم يكن من الله تعالى ، وقال ابن أسلم : { حِجْرٌ } إنما احتجروها لآلهتهم ، وقال السدي : { لاَّ يَطْعَمُهَآ إِلاَّ مَن نَّشَآءُ بِزَعْمِهِمْ } يقولون : حرام أن يطعم إلا من شئنا ، وهذه الآية الكريمة كقوله تعالى : { قُلْ أَرَأَيْتُمْ مَّآ أَنزَلَ الله لَكُمْ مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ ءَآللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى الله تَفْتَرُونَ } [ يونس : 59 ] ، وكقوله تعالى : { مَا جَعَلَ الله مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ } [ المائدة : 103 ] ، وقال السدي : أما الأنعام التي حرمت ظهورها فهي البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ، وقال مجاهد : كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ولا في شيء من شأنها لا إن ركبوا ولا إن حلبوا ولا إن حملوا ولا إن نتجوا ولا إن عملت شيئاً ، { افترآء عَلَيْهِ } أي على الله وكذباً منهم في إسنادهم ذلك إلى دين الله وشرعه ، فإنه لم يأذن لهم في ذلك ولا رضيه منهم ، { سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي عليه ويسندون إليه .
(1/798)
وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)
قال ابن عباس : { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا } الآية ، قال : اللبن كانو يحرمونه على إناثهم ويشربه ذكرانهم ، وكانت الشاة إذا ولدت ذكراً ذبحوه ، وكان للرجال دون النساء ، وإن كانت أنثى تركت فلم تذبح ، وإن كانت ميتة فهم فيه شركاء ، فنهى الله عن ذلك ، وقال الشعبي : البحيرة لا يأكل من لبنها إلاّ الرجال ، وإن مات منها شيء أكله الرجال والنساء ، وقال مجاهد في قوله : { وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا } قال : هي السائبة والبحيرة ، { سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ } أي قولهم الكذب في ذلك ، كقوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الكذب هذا حَلاَلٌ وهذا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ على الله الكذب } [ النحل : 116 ] الآية ، { إِنَّهُ حِكِيمٌ } أي في أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ، { عَلِيمٌ } بأعمال عباده من خير وشر وسيجزيهم عليها أتم الجزاء .
(1/799)
قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلَادَهُمْ سَفَهًا بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُوا مَا رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِرَاءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (140)
يقول تعالى : قد خسر الذين فعلوا هذه الأفاعيل في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فخسروا أولادهم بقتلهم وضيقوا عليهم في أموالهم فحرموا أشياء ابتدعوها من تلقاء أنفسهم ، وأما في الآخرة فيصيرون إلى أسوأ المنازل بكذبهم على الله وافترائهم . كقوله تعالى : { إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69-70 ] ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : إذا سرك أن تعلم جهل العرب فاقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام : { قَدْ خَسِرَ الذين قتلوا أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ الله افترآء عَلَى الله قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } .
(1/800)
وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفًا أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الْأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشًا كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142)
يقول تعالى مبيناً أنه الخالق لكل شيء من الزروع والثمار والأنعام التي تصرف فيها هؤلاء المشركون بآرائهم الفاسدة ، وقسموها وجزؤوها فجعلوا منها حراماً وحلالاً ، فقال : { وَهُوَ الذي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ } ، قل ابن عباس : { مَّعْرُوشَاتٍ } مسموكات . وفي رواية : فالمعروشات ما عرش الناس ، وغير معروشات ما خرج في البر والجبال من الثمرات ، وعنه : معروشات ما عرش من الكرم ، وغير معروشات ما لم يعرش من الكرم . وقال ابن جريج : { مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ } قال : متشابهاً في المنظر ، وغير متشابه في المطعم ، { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ } من رطبه وعنبه ، وقوله تعالى : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال بعضهم : هي الزكاة المفروضة . قال ابن عباس { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } : يعني الزكاة المفروضة يوم يكال ويعلم كيله ، وعنه قال : إن الرجل كان إذا زرع فكان يوم حصاده لم يخرج مما حصد شيئاً ، فقال الله تعالى : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } وذلك أن يعلم ما كيله وحقه من كل عشرة واحد وما يلقط الناس من سنبله ، وقد روي عن جابر بن عبد الله أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر من كل جاذّ عشرة أوسق من التمر بقنو يعلق في المساجد للمساكين . وقال الحسن البصري : هي الصدقة من الحب والثمار ، وقال آخرون : هو حق آخر سوى الزكاة ، روى نافع عن ابن عمر في قوله : { وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } قال : كانوا يعطون شيئاً سوى الزكاة ، وقال مجاهد : إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه ، وعنه قال : عند الزرع يعطى القبضة ، وعند الصرام يعطى القبضة ، ويتركهم فيتبعون آثار الصرام ، وقال سعيد بن جبير : كان هذا قبل الزكاة للمساكين القبضة والضغث لعلف دابته ، وقال آخرون ، هذا شيء كان واجباً ، ثم نسخه الله بالعشر أو نصف العشر . وقد ذم الله سبحانه الذين يصرمون ولا يتصدقون ، كما ذكر عن أصحاب الجنة في سورة « ن » : { إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَآ أَصْحَابَ الجنة إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ * وَلاَ يَسْتَثْنُونَ * فَطَافَ عَلَيْهَا طَآئِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَآئِمُونَ * فَأَصْبَحَتْ كالصريم } [ القلم : 17-20 ] أي كالليل المدلهم سوداء محترقة .
وقوله تعالى : { وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } قيل : معناه لا تسرفوا في الإعطاء فتعطوا فوق المعروف . قال ابن جريج : نزلت في ثابت بن قيس بن شماس جذّ نخلاً له فقال : لا يأتيني اليوم أحد إلاّ أطعمته فأطعم حتى أمسى وليست له ثمرة ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تسرفوا إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } ، وقال عطاء : نهوا عن السرف في كل شيء ، وقال إياس بن معاوية : ما جاوزت به أمر الله فهو سرف ، وقال السدي : لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء . وقال سعيد ابن المسيب في قوله : { وَلاَ تسرفوا } قال : لا تمنعوا الصدقة فتعصوا ربكم ، والمختار عند ابن جرير قول عطاء : أنه نهى عن الإسراف في كل شيء ، ولا شك أنه صحيح ، لكن الظاهر والله أعلم من سياق الآية حيث قال تعالى : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تسرفوا } أن يكون عائداً على الأكل أي لا تسرفوا في الأكل لما فيه من مضرة العقل والبدن ، كقوله تعالى :
(1/801)
{ وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } [ الأعراف : 31 ] الآية . وفي صحيح البخاري تعليقاً : « كلوا واشربوا والبسوا من غير إسراف ولا مخيلة » ، وهذا من هذا ، والله أعلم . وقوله عزَّ وجلَّ : { وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً } أي وأنشأ لكم من الأنعام ما هو حمولة وما هو فرش قيل : المراد بالحمولة ما يحمل عليه من الإبل ، والفرش الصغار منها ، روي عن ابن مسعود في قوله : { حَمُولَةً } ما حمل عليه من الإبل . { وَفَرْشاً } الصغار من الإبل ، قال ابن عباس : الحمولة هي الكبار ، والفرش الصغار من الإبل ، وكذا قال مجاهد .
وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { وَمِنَ الأنعام حَمُولَةً وَفَرْشاً } أما الحمولة فالإبل والخيل والبغال والحمير وكل شيء يحمل عليه ، وأما الفرش فالغنم ، واختاره ابن جرير ، قال وأحسبه إنما سمي فرشاً لدنوه من الأرض ، وقال الضحاك وقتادة . الحمولة الإبل والبقر ، والفرش الغنم . وقال السدي : أما الحمولة فالإبل ، وأما الفرش فالفصلان والعجاجيل والغنم ، وما حمل عليه فهو حمولة . وقال ابن أسلم : الحمولة ما تركبون ، والفرش ما تأكلون وتحلبون : شاة لا تحمل تأكلون لحمها وتتخذون من صوفها لحافاً وفرشاً ، وهذا الذي قاله عبد الرحمن في تفسير هذه الآية الكريمة حسن ويشهد له قوله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا خَلَقْنَا لَهُم مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينَآ أَنْعاماً فَهُمْ لَهَا مَالِكُونَ * وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ فَمِنْهَا رَكُوبُهُمْ وَمِنْهَا يَأْكُلُونَ } [ يس : 71-72 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأنعام لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُمْ مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ } [ النحل : 66 ] إلى أن قال : { وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَآ أَثَاثاً وَمَتَاعاً إلى حِينٍ } [ النحل : 80 ] ، وقال تعالى : { الله الذي جَعَلَ لَكُمُ الأنعام لِتَرْكَبُواْ مِنْهَا وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ } [ غافر : 79 ] ، وقوله تعالى : { كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } أي من الثمار والزروع والأنعام فكلها خلقها الله وجعلها رزقاً لكم { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } أي طريقه وأوامره كما اتبعها المشركون الذين حرموا ما رزقهم الله أي من الثمار والزروع افتراء على الله ، { إِنَّهُ لَكُمْ } أي إن الشيطان أيها الناس لكم { عَدُوٌّ مُّبِينٌ } أي بين ظاهر العداوة كما قال تعالى : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً } [ فاطر : 6 ] ، وقال تعالى : { يابني ءَادَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشيطان كَمَآ أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِّنَ الجنة } [ الأعراف : 27 ] الآية ، وقال تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } [ الكهف : 50 ] والآيات في هذا كثيرة في القرآن .
(1/802)
ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)
هذا بيان لجهل العرب قبل الإسلام فيما كانوا حرموا من الأنعام ، وجعلوها أجزاء وأنواعاً بحيرة وسائبة ووصيلة وغير ذلك من الأنواع التي ابتدعوها في الأنعام والزروع والثمار ، فبين تعالى أنه أنشأ جنات معروشات وغير معروشات ، وأنه أنشأ من الأنعام حمولة وفرشاً ، ثم بين أصناف الأنعام ، وأنه تعالى لم يحرم شيئاً من ذلك ولا شيئاً من أولادها بل كلها مخلوقة لبني آدم أكلاً وركوباً وحمولة وحلباً وغير ذلك من وجوه المنافع ، كما قال : { وَأَنزَلَ لَكُمْ مِّنَ الأنعام ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ } [ الزمر : 6 ] الآية ، وقوله تعالى : { أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين } رد عليهم في قولهم : { مَا فِي بُطُونِ هذه الأنعام خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ على أَزْوَاجِنَا } [ الأنعام : 139 ] الآية ، وقوله تعالى : { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أي أخبروني عن يقين كيف حرم الله عليكم ما زعمتم تحريمه من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك ، قال ابن عباس : يقول لم أحرم شيئاً من ذلك ، { أَمَّا اشتملت عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأنثيين } يعني هل يشتمل الرحم إلاّ على ذكر أو أنثى فلم تحرمون بعضاً وتحلون بعضاً؟ { نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } يقول تعالى : كله حلال ، وقوله تعالى : { أَمْ كُنتُمْ شُهَدَآءَ إِذْ وَصَّاكُمُ الله بهذا } تهكم بهم فيما ابتدعوه وافتروه على الله من تحريم ما حرموه من ذلك ، { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً لِيُضِلَّ الناس بِغَيْرِ عِلْمٍ } أي لا أحد أظلم منه ، { إِنَّ الله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } وأول من دخل في هذه الآية ( عمرو بن لحي بن قمعة ) لأنه أول من غيّر دين الأنبياء ، وأول من سيّب السوائب ووصل الوصيلة ، وحمى الحامي ، كما ثبت ذلك في الصحيح .
(1/803)
قُلْ لَا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّمًا عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَمًا مَسْفُوحًا أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقًا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)
يقول تعالى آمراً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم : { قُل } يا محمد لهؤلاء الذين حرموا ما رزقهم الله افتراء على الله ، { لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } أي آكل يأكله ، قيل : معناه لا أجد شيئاً مما حرمتم حراماً سوى هذه ، وقيل : معناه لا أجد من الحيوانات شيئاً حراماً سوى هذه ، وقال ابن عباس : { أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً } يعني المهراق ، وقال عكرمة : لولا هذه الآية لتتبع الناس ما في العروق كما تتبعه اليهود ، وقال حماد : إنما نهى الله عن الدم المسفوح ، وقال قتادة : حرم من الدماء ما كان مسفوحاً ، فأما اللحم خالطه الدم فلا بأس به ، عن عائشة رضي الله عنها : أنها كانت لا ترى بلحوم السباع بأساً والحمرة والدم يكونان على القدر بأساً ، وقرأت هذه الآية . وقال الحميدي عن عمرو بن دينار قال ، قلت لجابر بن عبد الله : إنهم يزعمون أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى عن لحوم الحمر الأهلية زمن خيبر ، فقال : قد كان يقول ذلك ( الحكم بن عمرو ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولكن أبى ذلك البحر يعني ( ابن عباس ) وقرأ : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } الآية ، وعن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يأكلون أشياء ويتركون أشياء تقذراً ، فبعث الله نبيه وأنزل كتابه وأحل حلاله وحرم حرامه ، فما أحل فهو حلال ، وما حرم فهو حرام ، وما سكت عنه فهو عفو ، وقرأ هذه الآية : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } الآية . روى الإمام أحمد عن ابن عباس قال : « ماتت شاة لسودة بنت زمعة ، فقالت يا رسول الله ماتت فلانة تعني الشاة ، قال : » فلم لا أخذتم مسكها « قالت : نأخذ مسك شاة قد ماتت؟ فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنما قال الله : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ } وإنكم لا تطعمونه ، أن تدبغوه فتنتفعوا به « ، فأرسلت فسلخت مسكها ، فدبغته ، فاتخذت منه قربة حتى تخرقت عندها » وقال سعيد بن منصور عن نميلة الفزاريُّ قال : كنت عند ابن عمر ، فسأله رجل عن أكل القنفذ فقرأ عليه : { قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَآ أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً على طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ } الآية ، فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول : ذكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « خبيث من الخبائث » ، فقال ابن عمر : إن كان النبي صلى الله عليه وسلم قاله فهو كما قال .
(1/804)
وقوله تعالى : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } أي فمن اضطر إلى أكل شيء مما حرم الله في هذه الآية الكريمة وهو غير متلبس ببغي ولا عدوان ، { فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي غفور له رحيم به ، وقد تقدم تفسير هذه الآية في سورة البقرة بما فيه كفاية ، والغرض من سياق هذه الآية الكريمة الرد على المشركين الذين ابتدعوا ما ابتدعوه من تحريم المحرمات على أنفسهم بآرائهم الفاسدة من البحيرة والسائبة والوصيلة والحام ونحو ذلك ، فأمر رسوله أن يخبرهم أنه لا يجد فيما أوحاه الله إليه أن ذلك محرم ، وإنما حرم ما ذكر في هذه الآية من الميتة والدم المسفوح ولحم الخنزير ، وما أهل لغير الله به ، وما عدا ذلك فلم يحرم ، وإنما هو عفو مسكوت عنه ، فكيف تزعمون أنتم أنه حرام ومن أين حرمتموه ولم يحرمه الله؟ وعلى هذا فلا يبقى تحريم أشياء أخرى فيما بعد هذا ، كما جاء النهي عن لحوم الحمر الأهلية ولحوم السباع وكل ذي مخلب من الطير على المشهور من مذاهب العلماء .
(1/805)
وَعَلَى الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلَّا مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (146)
يقول تعالى : وحرمنا على اليهود كل ذي ظفر ، وهو البهائم والطير ما لم يكن مشقوق الأصابع كالإبل والنعام والأوز والبط ، قال ابن عباس : هو البعير والنعامة ، وقال سعيد بن جبير : هو الذي ليس منفرج الأصابع ، وفي رواية عنه : كل متفرق الأصابع ، ومنه الديك ، وقال مجاهد { كُلَّ ذِي ظُفُرٍ } قال : النعامة والبعير شقاً شقاً . قلت للقاسم بن أبي بزة وحدثته ما شقاً شقاً؟ قال : كل ما لا ينفرج من قوائم البهائم ، قال : وما انفرج أكلته ، قال : انفرجت قوائم البهائم والعصافير ، قال : فيهود تأكله ، قال : ولم تتفرج قائمة البعير - خفه - ولا خف النعامة ولا قائمة الوز ، فلا تأكل اليهود الإبل ولا النعامة ولا الوز ، ولا كل شيء لم تنفرج قائمته ، ولا تأكل حمار الوحش ، وقوله تعالى : { وَمِنَ البقر والغنم حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَآ } قال السدي : يعني الترب وشحم الكليتين ، وكانت اليهود تقول : إن حرمه إسرائيل فنحن نحرمه ، وكذا قال ابن زيد ، وقال قتادة الثرب وكل شحم كان كذلك ليس في عظم ، وقال ابن عباس : { إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا } يعني ما علق بالظهر من الشحوم ، وقال السدي : الألية مما حملت ظهورهما ، وقوله تعالى : { أَوِ الحوايآ } الحوايا جمع واحدها حاوياء وحاوية وحوية ، وهو ما تحوي من البطن ، وهي المباعر ، وتسمى المرابض ، وفيها الأمعاء ، ومعنى الكلام : ومن البقر والغنم حرمنا عليهم شحومهما إلا ما حملت ظهورهما وما حملت الحوايا . قال ابن عباس ومجاهد : الحوايا المبعر والمربض . وقوله تعالى : { أَوْ مَا اختلط بِعَظْمٍ } يعني إلاّ ما اختلط من الشحوم بعظم فقد أحللناه لهم ، وقال ابن جريج : شحم الألية ما اختلط بالعصعص ، فهو حلال ، وكل شيء في القوائم والجنب والرأس والعين ، وما اختلط بعظم فهو حلال ونحوه قاله السدي .
وقوله تعالى : { ذلك جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ } أي هذا التضييق إنما فعلناه بهم وألزمناهم به مجازاة على بغيهم ومخالفتهم أوامرنا ، كما قال تعالى : { فَبِظُلْمٍ مِّنَ الذين هَادُواْ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ } [ النساء : 160 ] ، وقوله : { وِإِنَّا لَصَادِقُونَ } أي وإنا لعادلون فيما جازيناهم به ، وقال ابن جرير : وإنا لصادقون فيما أخبرناك به يا محمد من تحريمنا ذلك عليهم ، لا كما زعموا من أن إسرائيل هو الذي حرمه على نفسه ، والله أعلم . وقال عبد الله بن عباس : بلغ عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن سمرة باع خمراً ، فقال : قاتل الله سمرة ألم يعلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها » ؟ أخرجاه . وعن جابر بن عبد الله قال : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول عام الفتح : » إن الله ورسوله حرم بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام « ، فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنها يدهن بها الجلود وتطلى بها السفن ويستصبح بها الناس؟ فقال : » لا ، هو حرام «
(1/806)
ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم عند ذلك : « قاتل الله اليهود إن الله لما حرم عليهم شحومهما جملوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه » ، وعن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قاتل الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها » ، وقال ابن مردويه عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قاعداً خلف المقام فرفع بصره إلى السماء فقال : « لعن الله اليهود - ثلاثاً - إن الله حرم عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا ثمنها وإن الله لم يحرم على قوم أكل شيء إلاّ حرم عليهم ثمنه » وقال الإمام أحمد عن ابن عباس قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قاعداً في المسجد مستقبلاً الحجر ، فنظر إلى السماء فضحك فقال : » لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فباعوها وأكلوا أثمانها ، وإن الله إذا حرم على قوم أكل شيء حرم عليهم ثمنه « » .
(1/807)
فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلَا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)
يقول تعالى : فإن كذبك يا محمد مخالفوك من المشركين واليهود ومن شابههم فقل : { رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ } وهذا ترغيب لهم في ابتغاء رحمة الله الواسعة واتباع رسوله ، { وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ القوم المجرمين } ترهيب لهم من مخالفتهم الرسول خاتم النبيين ، وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين ( الترغيب والترهيب ) في القرآن كما قال تعالى في آخر هذه السورة : { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 165 ] ، وقال : { وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ على ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ العقاب } [ الرعد : 6 ] وقال تعالى : { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم } [ الحجر : 49-50 ] ، وقال تعالى : { غَافِرِ الذنب وَقَابِلِ التوب شَدِيدِ العقاب } [ غافر : 3 ] ، وقال : { إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ * إِنَّهُ هُوَ يُبْدِىءُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الغفور الودود } [ البروج : 12-14 ] والآيات في هذا كثيرة جداً .
(1/808)
سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا وَلَا حَرَّمْنَا مِنْ شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذَاقُوا بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِنْ شَهِدُوا فَلَا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَهُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)
هذه مناظرة ذكرها الله تعالى ، وشبهة تشبث بها المشركون في شركهم وتحريم ما حرموا ، فإن الله مطلع على ما هم فيه من الشرك والتحريم لما حرموه ، وهو قادر على تغييره بأن يلهمنا الإيمان ويحول بيننا وبين الكفر ، فلم يغيره ودل على أنه بمشيئته وإرادته ورضاه منا بذلك ، ولهذا قالوا : { لَوْ شَآءَ الله مَآ أَشْرَكْنَا } كما في قوله تعالى : { وَقَالُواْ لَوْ شَآءَ الرحمن مَا عَبَدْنَاهُمْ } [ الزخرف : 20 ] الآية ، قال الله تعالى : { كذلك كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِم } أي بهذه الشبهة ضل من ضل قبل هؤلاء وهي حجة داحضة باطلة ، لأنها لو كانت صحيحة لما أذاقهم الله بأسه ودمر عليهم وأدال عليهم رسله الكرام ، وأذاق المشركين من أليم الانتقام ، { قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ } أي بأن الله راض عنكم فيما أنتم فيه ، { فَتُخْرِجُوهُ لَنَآ } أي فتظهروه لنا وتبينوه وتبرزوه ، { إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظن } أي الوهم والخيال والمراد بالظن ها هنا الاعتقاد الفاسد ، { وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ } تكذبون على الله فيما ادعيتموه ، وقوله تعالى : { قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } ، يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم { قُلْ } لهم يا محمد { فَلِلَّهِ الحجة البالغة } أي له الحكمة التامة والحجة البالغة في هداية من هدى وإضلال من ضل { فَلَوْ شَآءَ لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ } فكل ذلك بقدرته ومشيئته واختياره ، وهو مع ذلك يرضى عن المؤمنين ويبغض الكافرين ، كما قال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لَجَمَعَهُمْ عَلَى الهدى } [ الأنعام : 35 ] ، وقال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأرض } [ يونس : 99 ] ، وقال : { وَلَوْ شَآءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } [ هود : 118 ] ، قال الضحاك : لا حجة لأحد عصى الله ولكن لله الحجة البالغة على عباده ، قوله تعالى : { قُلْ هَلُمَّ شُهَدَآءَكُمُ } أي أحضروا شهداءكم { الذين يَشْهَدُونَ أَنَّ الله حَرَّمَ هذا } أي هذا الذي حرمتموه وكذبتم وافتريتم على الله فيه ، { فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ } أي لأنهم إنما يشهدون والحالة هذه كذباً وزوراً ، { وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَآءَ الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا والذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ } أي يشركون به ويجعلون له عديلاً .
(1/809)
قُلْ تَعَالَوْا أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُمْ مِنْ إِمْلَاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151)
قال ابن مسعود رضي الله عنه : من أراد أن ينظر إلى وصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً - إلى قوله - لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } . وقال الحاكم في مستدركه عن عبد الله بن خليفة قال : سمعت ابن عباس يقول : في الأنعام آيات محكمات هن أم الكتاب ، ثم قرأ : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } الآيات ، وعن عبادة بن الصامت قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » أيكم يبايعني على ثلاث « ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } حتى فرغ من الآيات . . » فمن أوفى فأجره على الله ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله به في الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخر إلى الآخرة فأمره إلى الله إن شاء عذبه وإن شاء عفا عنه « يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم قل يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله وحرموا ما رزقهم الله وقتلوا أولادهم ، وكل ذلك فعلوه بآرائهم وتسويل الشياطين لهم { قُلْ } لهم { تَعَالَوْاْ } أي هلموا وأقبلوا { أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } أي أقص عليكم وأخبركم بما حرم ربكم عليكم حقاً لا تخرصاً ولا ظناً ، بل وحياً منه وأمراً من عنده { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } وكأن في الكلام محذوفاً دل عليه السياق وتقديره : وأوصاكم { أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً } ولهذا قال في آخر الآية : { ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } .
وفي الصحيحين من حديث أبي ذر رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أتاني جبريل فبشرني أنه من مات لا يشرك بالله شيئاً من أمتك دخل الجنة ، قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال : وإن زنى وإن سرق ، قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال : وإن زنى وإن سرق ، قلت : وإن زنى وإن سرق؟ قال : وإن زنى وإن سرق ، وإن شرب الخمر « ؛ وفي بعض الروايات أنه عليه الصلاة والسلام قال في الثالثة : » وإن رغم أنف أبي ذر « ، فكان أبو ذر يقول بعد تمام الحديث : » وإن رغم أنف أبي ذر « ، وفي بعض المسانيد والسنن عن أبي ذر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول تعالى : » يا ابن آدم إنك ما دعوتني ورجوتني فإني أغفر لك على ما كان منك ولا أبالي ، ولو أتيتني بقراب الأرض خطيئة أتيتك بقرابها مغفرة ما لم تشرك بي شيئاً ، وإن أخطأت حتى تبلغ خطاياك عنان السماء ثم استغفرتني غفرت لك «
(1/810)
، ولهذا شاهد في القرآن قال الله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَآءُ } [ النساء : 48 ، 116 ] ، وفي صحيح مسلم عن ابن مسعود : « من مات لا يشرك بالله شيئاً دخل الجنة » . والآيات والأحاديث في هذا كثيرة جداً ، وعن عبادة بن الصامت قال : أوصانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع خصال : « ألا تشركوا بالله شيئاً وإن حرقتم وقطعتم وصلبتم » ، وقوله تعالى : { وبالوالدين إِحْسَاناً } أي أوصاكم وأمركم بالوالدين إحساناً أي أن تحسنوا إليهم ، كما قال تعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] ، والله تعالى كثيراً ما يقرن بين طاعته وبر الوالدين كما قال : { أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير } [ لقمان : 14 ] ، فأمر بالإحسان إليهما وإن كانا مشركين بحسبهما ، وقال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بني إِسْرَائِيلَ لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله وبالوالدين إِحْسَاناً } [ البقرة : 83 ] والآيات في هذا كثيرة .
وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي العمل أفضل؟ قال : « الصلاة على وقتها » قلت : ثم أيّ؟ قال : « بر الوالدين » قلت : ثم أيّ؟ قال : « الجهاد في سبيل الله » ، قال ابن مسعود : حدثني بهن رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو استزدته لزادني . وقوله تعالى : { وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لما أوصى تعالى بالوالدين والأجداد ، عطف على ذلك الإحسان إلى الأبناء والأحفاد فقال تعالى : { وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ } ، وذلك أنهم كانوا يقتلون أولادهم كما سولت لهم الشياطين ذلك ، فكانوا يئدون البنات خشية العار ، وربما قتلوا بعض الذكور خشية الافتقار ، ولهذا ورد في الصحيحين من حديث عبد الله ابن مسعود رضي الله عنه أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أي الذنب أعظم؟ قال : » أن تجعل لله نداً وهو خلقك « قلت : ثم أي؟ قال : » أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك « ، قلت : ثم أي؟ قال : » أن تزاني حليلة جارك « ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { والذين لاَ يَدْعُونَ مَعَ الله إلها آخَرَ وَلاَ يَقْتُلُونَ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق وَلاَ يَزْنُونَ } [ الفرقان : 68 ] » الآية . وقوله تعالى : { مِّنْ إمْلاَقٍ } ، قال ابن عباس : هو الفقر أي ولا تقتلوهم من فقركم الحاصل ، وقال في سورة الإسراء : { وَلاَ تقتلوا أَوْلاَدَكُمْ مِّنْ إمْلاَقٍ } أي لا تقتلوهم خوفاً من الفقر في الآجل ، ولهذا قال هناك : { نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم } [ الإسراء : 31 ] فبدأ برزقهم للاهتمام بهم أي لا تخافوا من فقركم بسبب رزقهم فهو على الله وأما هنا فلما كان الفقر حاصلاً قال : { نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ } لأنه الأهم هاهنا والله أعلم .
(1/811)
وقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } ، كقوله تعالى : { قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق } [ الأعراف : 33 ] . قد تقدم تفسيرها في قوله تعالى : { وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإثم وَبَاطِنَهُ } [ الأنعام : 120 ] وفي الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا أحد أغير من الله من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن » .
وفي الصحيحين « قال سعد بن عبادة لو رأيت مع امرأتي رجلاً لضربته بالسيف غير مصفح ، فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » أتعجبون من غيرة سعد؟ فوالله لأنا أغير من سعد ، والله أغير مني ، من أجل ذلك حرم الفواحش ما ظهر منها وما بطن « ، وقوله تعالى : { وَلاَ تَقْتُلُواْ النفس التي حَرَّمَ الله إِلاَّ بالحق } ، وهذا مما نص تبارك وتعالى على النهي عنه تأكيداً وإلاّ فهو داخل في النهي عن الفواحش ما ظهر منها وما بطن ، فقد جاء في الصحيحين عن ابن مسعود رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا يحل دم امرىء مسلم يشهد أن لا إله إلاّ الله وأني رسول الله إلاّ بإحدى ثلاث : الثيب الزاني ، والنفس بالنفس ، والتارك لدينه المفارق للجماعة « ، وفي لفظ لمسلم : » والذي لا إله غيره لا يحل دم رجل مسلم « وذكره ، وروى أبو داود والنسائي عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » لا يحل دم امرىء مسلم إلا بإحدى ثلاث خصال زان محصن يرجم ، ورجل قتل متعمداً فيقتل ، ورجل يخرج من الإسلام وحارب الله ورسوله فيقتل أو يصلب أو ينفى من الأرض « وعن أمير المؤمنين عثمان بن عفان رضي الله عنه أنه قال وهو محصور : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » لا يحل دم امرىء مسلم إلاّ بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه ، أو زنى بعد إحصانه ، أو قتل بغير نفس « فوالله ما زنيت في جاهلية ولا إسلام ، ولا تمنيت أن لي بديني بدلاً منه بعد إذ هداني الله ، ولا قتلت نفساً ، فبم تقتلوني؟ وقد جاء النهي والزجر والوعيد في قتل المعاهد وهو المستأمن من أهل الحرب ، فروى البخاري عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم مرفوعاً : » من قتل معاهداً لم يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً « وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » من قتل معاهداً له ذمة الله وذمة رسوله فقد أخفر بذمة الله فلا يرح رائحة الجنة وإن ريحها ليوجد من مسيرة سبعين خريفاً « وقوله : { ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي هذا مما وصاكم به لعلكم تعقلون عن الله وأمره ونهيه .
(1/812)
وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152)
عن ابن عباس قال لما أنزل الله : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } و { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } [ النساء : 10 ] الآية ، انطلق من كان عنده يتيم ، فعزل طعامه من طعامه وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل الشيء فيحبس له حتى يأكله أو يفسد فاشتد ذلك عليهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } [ البقرة : 220 ] قال : فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم بشرابهم . وقوله تعالى : { حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ } ، قال الشعبي ومالك : يعني حتى يحتلم ، وقال السدي : حتى يبلغ ثلاثين سنة ، وقيل : أربعون سنة ، وقوله تعالى : { وَأَوْفُواْ الكيل والميزان بالقسط } يأمر تعالى بإقامة العدل في الأخذ والإعطاء كما توعد على تركه في قوله تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ الذين إِذَا اكتالوا عَلَى الناس يَسْتَوْفُونَ وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَّزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ } [ المطففين : 1-3 ] وقد أهلك الله أمة من الأمم كانوا يبخسون المكيال والميزان ، وفي كتاب الجامع لأبي عيسى الترمذي عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحاب الكيل والميزان : « إنكم وليتم أمراً هلكت فيه الأمم السابقة قبلكم » وقد رواه ابن مردويه في تفسيره ، عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنكم معشر الموالي قد بشركم الله بخصلتين بها هلكت القرون المتقدمة : المكيال ، والميزان » وقوله تبارك وتعالى : { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } أي من اجتهد في أداء الحق وأخذه ، فإن أخطأ بعد استفراغ وسعه وبذل جهده فلا حرج عليه . وقوله : { وَإِذَا قُلْتُمْ فاعدلوا وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } ، كقوله : { يَا أَيُّهَآ الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ للَّهِ شُهَدَآءَ بالقسط } [ المائدة : 8 ] الآية ، يأمر تعالى بالعدل في الفعال والمقال على القريب والبعيد ، والله تعالى يأمر بالعدل لكل أحد في كل وقت وفي كل حال ، وقوله : { وَبِعَهْدِ الله أَوْفُواْ } ، قال ابن جرير : يقول : وبوصية الله التي أوصاكم بها فأوفوا ، وإيفاء ذلك أن تطيعوه فيما أمركم ونهاكم ، وتعملوا بكتابه وسنّة رسوله ، وذلك هو الوفاء بعهد الله { ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، يقول تعالى : هذا أوصاكم به وأمركم به وأكد عليكم فيه { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } أي تتعظون وتنتهون عما كنتم فيه .
(1/813)
وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)
قال ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } أمر الله المؤمنين بالجماعة ونهاهم عن الاختلاف والتفرقة ، وأخبرهم أنه إنما هلك من كان قبلهم بالمراء والخصومات في دين الله ، وقال الإمام أحمد بن حنبل عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : « خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً بيده ثم قال : » هذا سبيل الله مستقيماً « ، وخط عن يمينه وشماله ثم قال : » هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه « ثم قرأ : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } » وعن جابر قال : « كنا جلوساً عند النبي صلى الله عليه وسلم فخط خطاً هكذا أمامه فقال : » هذا سبيل الله « وخطين عن يمينه وخطين عن شماله وقال : » هذه سبل الشيطان « ثم وضع يده في الخط الأوسط ثم تلا هذه الآية : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } » وعنه قال : « خط رسول الله صلى الله عليه وسلم خطاً ، وخط عن يمينه خطاً ، وخط عن يساره خطاً ، ووضع يده على الخط الأوسط ، وتلا هذه الآية : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه } » قال ابن جرير عن أبان بن عثمان أن رجلاً قال لابن مسعود : ما الصراط المستقيم؟ قال تركنا محمد صلى الله عليه وسلم في أدناه وطرفه في الجنة ، وعن يمينه جواد ، وعن يساره جواد ، ثم رجال يدعون من مر بهم ، فمن أخذ في تلك الجواد انتهت به إلى النار ، ومن أخذ على الصراط انتهى به إلى الجنة ، ثم قرأ ابن مسعود : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ } الآية ، وعن النواس بن سمعان عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعن جنبتي الصراط سوران فيهما أبواب مفتحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داع يقول : يا أيها الناس هلم أدخلوا الصراط المستقيم جميعاً ، ولا تفرقوا وداع يدعو من فوق الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال : ويحك لا تفتحه ، فإنك إن فتحته تلجه ، فالصراط الإسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم » وقوله تعالى : { فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل } إنما وحد سبيله لأن الحق واحد ، ولهذا جمع السبل لتفرقها وتشعبها كما قال تعالى : { الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ يُخْرِجُهُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور والذين كفروا أَوْلِيَآؤُهُمُ الطاغوت يُخْرِجُونَهُمْ مِّنَ النور إِلَى الظلمات أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ، وقال ابن أبي حاتم عن عبادة بن الصامت قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث « ، ثم تلا : { قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ } [ الأنعام : 151 ] حتى فرغ من ثلاث آيات ، ثم قال : » ومن وفى بهن فأجره على الله ، ومن انتقص منهن شيئاً فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه « » .
(1/814)
ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَامًا عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقَاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155)
لما أخبر الله سبحانه عن القرآن بقوله : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه } [ الأنعام : 153 ] عطف بمدح التوراة ورسولها ، فقال : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب } وكثيراً ما يقرن سبحانه بين ذكر القرآن والتوراة كقوله تعالى : { وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ موسى إِمَاماً وَرَحْمَةً وهذا كِتَابٌ مُّصَدِّقٌ لِّسَاناً عَرَبِيّاً } [ الأحقاف : 12 ] .
وقال تعالى مخبراً عن المشركين : { فَلَمَّا جَآءَهُمُ الحق مِنْ عِندِنَا قَالُواْ لولا أُوتِيَ مِثْلَ مَآ أُوتِيَ موسى } [ القصص : 48 ] .
وقال تعالى مخبراً عن الجن : { ياقومنآ إِنَّا سَمِعْنَا كِتَاباً أُنزِلَ مِن بَعْدِ موسى مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يهدي إِلَى الحق } [ الأحقاف : 30 ] الآية .
وقوله تعالى : { تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً } أي آتيناه الكتاب الذي أنزلناه إليه تماماً كاملاً جامعاً لما يحتاج إليه في شريعته ، كقوله : { وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الألواح مِن كُلِّ شَيْءٍ } [ الأعراف : 145 ] الآية .
وقوله تعالى : { عَلَى الذي أَحْسَنَ } أي جزاء على إحسانه في العمل وقيامة بأوامرنا وطاعتنا ، كقوله : { هَلْ جَزَآءُ الإحسان إِلاَّ الإحسان } [ الرحمن : 60 ] ، وكقوله : { وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُواْ وَكَانُواْ بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ } [ السجدة : 24 ] .
وقال الربيع بن أنس { تَمَاماً عَلَى الذي أَحْسَنَ } يقول : أحسن فيما أعطاه الله ، وقال قتادة : من أحسن في الدنيا تم له ذلك في الآخرة ، واختار ابن جرير أن تقديره : { ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب تَمَاماً } على إحسانه ، فكأنه جعل الذي مصدرية ، كما قيل في قوله تعالى : { وَخُضْتُمْ كالذي خاضوا } [ التوبة : 69 ] أي كخوضهم ، وقال ابن رواحة :
وثبت الله ما آتاك من حسن ... في المرسلين ونصراً كالذي نصروا
وقال آخرون : الذي هاهنا بمعنى الذين ، وذكر عن عبد الله بن مسعود أنه كان يقرؤها : { تماماً على الذين أحسنوا } ، وقال مجاهد : تماماً على الذي أحسن : على المؤمنين والمحسنين .
وقال البغوي : المحسنون الأنبياء والمؤمنون ، يعني أظهرنا فضله عليهم .
قلت : كقوله تعالى : { قَالَ ياموسى إِنِّي اصطفيتك عَلَى الناس بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي } [ الأعراف : 144 ] ولا يلزم اصطفاؤه على محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والخليل عليهما السلام لأدلة أخرى . وقوله تعالى : { وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً } فيه مدح لكتابه الذي أنزله الله عليه { لَّعَلَّهُمْ بِلِقَآءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وهذا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فاتبعوه واتقوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } فيه الدعوة إلى اتباع القرآن يرغب سبحانه عباده في كتابه ويأمرهم بتدبره والعمل به والدعوة إليه ، ووصفه بالبركة لمن اتبعه وعمل به في الدنيا والآخرة لأنه حبل الله المتين .
(1/815)
أَنْ تَقُولُوا إِنَّمَا أُنْزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنَا وَإِنْ كُنَّا عَنْ دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُوا يَصْدِفُونَ (157)
قال ابن جرير : معناه وهذا كتاب أنزلناه لئلا تقولوا { إِنَّمَآ أُنزِلَ الكتاب على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } يعني لينقطع عذركم كقوله تعالى : { ولولا أَن تُصِيبَهُم مُّصِيبَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُواْ رَبَّنَا لولا أَرْسَلْتَ إِلَيْنَا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آيَاتِكَ } [ القصص : 47 ] الآية ، وقوله تعالى : { على طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا } قال ابن عباس : هم اليهود والنصارى ، وقوله : { وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ } أي وما كنا نفهم ما يقولون لأنهم ليسوا بلساننا ونحن في غفلة وشغل مع ذلك عما هم فيه ، وقوله : { أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّآ أُنزِلَ عَلَيْنَا الكتاب لَكُنَّآ أهدى مِنْهُمْ } أي وقطعنا تعللكم أن تقولوا لو أنا نزل علينا ما أنزل عليهم لكنا أهدى منهم فيما أوتوه ، كقوله : { وَأَقْسَمُواْ بالله جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَآءَهُمْ نَذِيرٌ لَّيَكُونُنَّ أهدى مِنْ إِحْدَى الأمم } [ فاطر : 42 ] الآية ، وهكذا قال هاهنا : { فَقَدْ جَآءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ } يقول : فقد جاءكم من الله على لسان محمد صلى الله عليه وسلم النبي العربي قرآن عظيم ، فيه بيان للحلال والحرام ، وهدى لما في القلوب ورحمة من الله لعباده الذين يتبعونه ويقتفون ما فيه ، وقوله تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله وَصَدَفَ عَنْهَا } أي لم ينتفع بما جاء به الرسول ولا اتبع ما أرسل به ولا ترك غيره ، بل صدف عن اتباع آيات الله أي صرف الناس وصدهم عن ذلك ، قاله السدي ، وعن ابن عباس ومجاهد وقتادة : وصدف عنها أعرض عنها ، وقول السدي هاهنا فيه قوة ، لأنه قال : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله وَصَدَفَ عَنْهَا } كما تقدم في أول السورة ، { وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ } [ الأنعام : 26 ] ، وقال تعالى : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ العذاب } [ النحل : 88 ] وقال في هذه الآية الكريمة : { سَنَجْزِي الذين يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سواء العذاب بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ } ، وقد يكون المراد فيما قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ الله وَصَدَفَ عَنْهَا } أي لا آمن بها ، ولا عمل بها كقوله تعالى : { فَلاَ صَدَّقَ وَلاَ صلى ولكن كَذَّبَ وتولى } [ القيامة : 31-32 ] وغير ذلك من الآيات الدالة على اشتمال الكافر على التكذيب بقلبه وترك العمل بجوارحه ، ولكن كلام السدي أقوى وأظهر ، والله أعلم .
(1/816)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلَائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)
يقول تعالى متوعداً للكافرين والمخالفين لرسله والمكذبين بآياته والصادين عن سبيله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ } ، وذلك كائن يوم القيامة { أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا } وذلك قبل يوم القيامة كائن من أمارات الساعة وأشراطها ، حين يرون شيئاً من أشراط الساعة ، كما قال البخاري في تفسير هذه الآية . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا رآها الناس آمن من عليها » ، فذلك حين { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ } ، وفي رواية : « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل » ، ثم قرأ هذه الآية . وقد ورد هذا الحديث من طرق أخر عن أبي هريرة ، وقال ابن جرير عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث إذا خرجن لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً : طلوع الشمس من مغربها والدجال ودابة الأرض » ، وقال ابن جرير عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت آمن الناس كلهم وذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل » .
( حديث آخر ) : عن أبي ذر الغفاري قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » أتدري أين تذهب الشمس إذا غربت؟ « قلت لا أدري ، قال : » إنها تنتهي دون العرش فتخر ساجدة ثم تقوم حتى يقال لها ارجعي فيوشك يا أبا ذر أن يقال لها ارجعي من حيث جئت ، وذلك حين { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ } « ( حديث آخر ) : عن حذيفة بن أسيد الغفاري قال أشرف علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم من غرفة ونحن نتذاكر الساعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغاربها ، والدخان والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى بن مريم ، وخروج الدجال ، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق ، أو تحشر الناس ، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا « ( حديث آخر ) : عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم : » { يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا } - قال طلوع الشمس من مغربها «
(1/817)
، وفي لفظ : « إن أول الآيات طلوع الشمس من مغربها » ، وفي حديث صفوان بن عسال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إن الله فتح باباً قبل المغرب عرضه سبعون عاماً للتوبة لا يغلق حتى تطلع الشمس منه » .
( حديث آخر ) : عن عبد الله بن عمرو وعبد الرحمن بن عوف ومعاوية بن أبي سفيان رضي الله عنهم أجمعين قال الإمام أحمد : حدثنا الحكم بن نافع ، حدثنا إسماعيل بن عياش عن ضمضم بن زرعة عن شريح بن عبيد يرده إلى مالك بن يخامر عن ابن السعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تنقطع الهجرة ما دام العدو يقاتل » فقال معاوية وعبد الرحمن بن عوف وعبد الله بن عمرو بن العاص ، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الهجرة خصلتان إحداهما تهجر السيئات ، والأخرى تهاجر إلى الله ورسوله ، ولا تنقطع ما تقبلت التوبة ، ولا تزال التوبة تقبل حتى تطلع الشمس من مغربها فإذا طلعت طبع على كل قلب بما فيه ، وكفي الناس العمل » فقوله تعالى : { لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ } أي إذا أنشأ الكافر إيماناً يومئذ لا يقبل منه ، فأما من كان مؤمناً قبل ذلك ، فإن كان مصلحاً في عمله فهو بخير عظيم ، وإن لم يكن مصلحاً فأحدث توبة حينئذٍ لم تقبل منه توبته ، كما دلت عليه الأحاديث المتقدمة ، وعليه يحمل قوله تعالى : { أَوْ كَسَبَتْ في إِيمَانِهَا خَيْراً } أي ولا يقبل منها كسب عمل صالح إذا لم يكن عاملاً به قبل ذلك ، وقوله تعالى : { قُلِ انتظروا إِنَّا مُنتَظِرُونَ } تهديد شديد للكافرين ووعيد أكيد لمن سوَّف إيمانه وتوبته إلى وقت لا ينفعه ذلك ، وإنما كان هذا الحكم عند طلوع الشمس من مغربها لاقتراب الساعة وظهور أشراطها كما قال : { فَهَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ الساعة أَن تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جَآءَ أَشْرَاطُهَا فأنى لَهُمْ إِذَا جَآءَتْهُمْ ذِكْرَاهُمْ } [ محمد : 18 ] ، وقوله تعالى : { فَلَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا قالوا آمَنَّا بالله وَحْدَهُ وَكَفَرْنَا بِمَا كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ فَلَمْ يَكُ يَنفَعُهُمْ إِيمَانُهُمْ لَمَّا رَأَوْاْ بَأْسَنَا } [ غافر : 84-85 ] الآية .
(1/818)
إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَكَانُوا شِيَعًا لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (159)
نزلت هذه الآية في اليهود والنصارى ، وقال ابن عباس : إن اليهود والنصارى اختلفوا قبل مبعث محمد صلى الله عليه وسلم فتفرقوا ، فلما بعث محمد صلى الله عليه وسلم أنزل الله عليه : { نَّ الذين فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } الآية ، قوله { وَكَانُواْ شِيَعاً } قال : هم الخوارج ، وقيل : هم أصحاب البدع ، والظاهر أن الآية عامة في كل من فارق دين الله وكان مخالفاً له ، فإن الله بعث رسوله بالهدى ودين الحق ليظهره على الدين كله وشرعه واحد لا اختلاف فيه ولا افتراق ، فمن اختلف فيه { وَكَانُواْ شِيَعاً } أي فرقاً كأهل الملل والنحل والأهواء والضلالات ، فإن الله تعالى قد برأ رسول الله صلى الله عليه وسلم مما هم فيه ، وهذه الآية كقوله تعالى : { شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدين مَا وصى بِهِ نُوحاً والذي أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ } [ الشورى : 13 ] الآية . وفي الحديث : « نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد » ، فهذا هو الصراط المستقيم وهو ما جاءت به الرسل من عبادة الله وحده لا شريك له ، والتمسك بشريعة الرسول المتأخر ، وما خالف ذلك فضلالات وجهالات وآراء وأهواء والرسل برآء منها كما قال الله تعالى : { لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ } ، وقوله تعالى : { إِنَّمَآ أَمْرُهُمْ إِلَى الله ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ } ، كقوله تعالى : { إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة } [ الحج : 17 ] الآية ، ثم بين لطفه سبحانه في حكمه وعدله يوم القيامة فقال تعالى : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا . . . } .
(1/819)
مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)
وهذه الآية الكريمة مفصلة لما أجمل في الآية الأخرى وهي قوله : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ خَيْرٌ مِّنْهَا } [ النمل : 89 ، القصص : 84 ] ، وقد وردت الأحاديث مطابقة لهذه الآية ، كما قال الإمام أحمد بن حنبل عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى : « إن ربكم عزَّ وجلَّ رحيم ، من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت له عشراً إلى سبعمائة إلى أضعاف كثيرة ، ومن هم بسيئة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له واحدة أو يمحوها الله عزَّ وجلَّ ، ولا يهلك على الله إلاّ هالك » وقال أحمد أيضاً عن أبي ذر رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يقول الله عزَّ وجلَّ من عمل حسنة فله عشر أمثالها وأزيد ، ومن عمل سيئة فجزاؤه مثلها أو أغفر ، ومن عمل قراب الأرض خطيئة ثم لقيني لا يشرك بي شيئاً جعلت له مثلها مغفرة ، ومن اقترب إليَّ شبراً اقتربت إليه ذراعاً ، ومن اقترب إلي ذراعاً اقتربت إليه باعاً ومن أتاني يمشي أتيته هرولة » وعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من هم بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة فإن عملها كتبت له عشراً ، ومن هم بسيئة فلم يعملها لم يكتب عليه شيء فإن عملها كتبت عليه سيئة واحدة » ، واعلم أن تارك السيئة الذي لا يعملها على ثلاثة أقسام : تارة يتركها لله ، فهذا تكتب له حسنة على كفه عنها لله تعالى وهذا عمل ونية ، ولهذا جاء أنه يكتب له حسنة كما جاء في بعض ألفاظ الصحيح ، فإنما تركها من جرائي أي من أجلي ، وتارة يتركها نسياناً وذهولاً عنها فهذا لا له ولا عليه لأنه لم ينو خيراً ولا فعل شراً ، وتارة يتركها عجزاً وكسلاً عنها بعد السعي في أسبابها والتلبس بما يقرب منها ، فهذا بمنزلة فاعلها كما جاء في الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « » إذا التقى المسلمان بسيفيهما فالقاتل والمقتول في النار « قالوا : يا رسول الله هذا القاتل فما بال المقتول؟ قال : » إنه كان حريصاً على قتل صاحبه « » .
وعن خريم بن فاتك الأسدي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الناس أربعة والأعمال ستة . فالناس موسع له في الدنيا والآخرة ، وموسع له في الدنيا مقتور عليه في الآخرة ، ومقتور عليه في الدنيا موسع له في الآخرة ، وشقي في الدنيا والآخرة ، والأعمال موجبتان ، ومثل بمثل ، وعشرة أضعاف وسبعمائة ضعف ، فالموجبتان من مات مسلماً مؤمناً لا يشرك بالله شيئاً وجبت له الجنة ، ومن مات كافراً وجبت له النار ، ومن هم بحسنة فلم يعملها فعلم الله أنه قد أشعرها قلبه وحرص عليها كتبت له حسنة ، ومن هم بسيئة لم تكتب عليه ومن عملها كتبت واحدة ولم تضاعف عليه ، ومن عمل حسنة كانت عليه بعشر أمثالها ، ومن أنفق نفقة في سبيل الله عزَّ وجلَّ كانت بسبعمائة ضعف »
(1/820)
، وقال ابن أبي حاتم عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يحضر الجمعة ثلاثة نفر : رجل حضرها بلغو فهو حظه منها ، ورجل حضرها بدعاء فهو رجل دعا الله فإن شاء أعطاه وإن شاء منعه ، ورجل حضرها بإنصات وسكوت ولم يتخط رقبة مسلم ولم يؤذ أحداً فهو كفارة له إلى الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام ، وذلك لأن الله عزَّ وجلَّ يقول : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } » وقال الحافظ الطبراني عن أبي مالك الأشعري قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الجمعة كفارة لما بينها وبين الجمعة التي تليها وزيادة ثلاثة أيام ، وذلك لأن الله تعالى قال : { مَن جَآءَ بالحسنة فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا } » والأحاديث والآثار في هذا كثيرة جداً وفيما ذكر كفاية إن شاء الله وبه الثقة .
(1/821)
قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ دِينًا قِيَمًا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)
يقول تعالى آمراً نبيه سيد صلى الله عليه وسلم المرسلين أن يخبر بما أنعم به عليه من الهداية إلى صراطه المستقيم الذي لا اعوجاج فيه ولا انحراف { دِيناً قِيَماً } أي قائماً ثابتاً { مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } ، كقوله : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } [ البقرة : 130 ] ، وقوله : { وَجَاهِدُوا فِي الله حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ } [ الحج : 78 ] ، وقوله : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجتباه وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ النحل : 120-121 ] ، وليس يلزمه من كونه صلى الله عليه وسلم أمر باتباع ملة إبراهيم الحنيفية أن يكون إبراهيم أكمل منه فيها لأنه عليه السلام قام بها قياماً عظيماً ، وأكملت له إكمالاً تاماً لم يسبقه أحد إلى هذا الكمال ، ولهذا كان خاتم الأنبياء وسيد ولد آدم على الإطلاق ، وصاحب المقام المحمود الذي يرغب إليه الخلق حتى الخليل عليه السلام . وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أصبح قال : « أصبحنا على ملة الإسلام وكلمة الإخلاص ودين نبينا محمد وملة أبينا إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين » ، وقال الإمام أحمد عن ابن عباس رضي الله عنهما أنه قال : « قيل لرسول الله صلى الله عليه وسلم أي الأديان أحب إلى الله تعالى؟ قال : » الحنيفية السمحة « » .
وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي للَّهِ رَبِّ العالمين } يأمره تعالى أن يخبر المشركين الذين يعبدون غير الله ويذبحون لغير اسمه أنه مخالف لهم في ذلك ، فإن صلاته لله ونسكه على اسمه وحده لا شريك له ، وهذا كقوله تعالى : { فَصَلِّ لِرَبِّكَ وانحر } [ الكوثر : 2 ] أي أخلص له صلاتك وذبحك ، فإن المشركين كانوا يعبدون الأصنام ويذبحون لها ، فأمره الله تعالى بمخالفتهم والانحراف عما هم فيه ، والإقبال بالقصد والنية والعزم على الإخلاص لله تعالى ، قال مجاهد : النسك : الذبح في الحج والعمرة ، وقال سعيد بن جبير { وَنُسُكِي } قال : ذبحي ، وكذا قال السدي والضحاك ، وعن جابر بن عبد الله قال : ضحّى رسول الله صلى الله عليه وسلم في يوم عيد النحر بكبشين ، وقال حين ذبحهما : « وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين » وقوله عزَّ وجلَّ : { وَأَنَاْ أَوَّلُ المسلمين } قال قتادة : أي من هذه الأمة ، وهو كما قال : فإن جميع الأنبياء قبله كلهم كانت دعوتهم إلى الإسلام ، وأصله عبادة الله وحده لا شريك له ، وقد أخبرنا تعالى عن نوح أنه قال لقومه :
(1/822)
{ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُمْ مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الله وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المسلمين } [ يونس : 72 ] ، وقال تعالى : { يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } [ البقرة : 132 ] ، وقال يوسف عليه السلام : { رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الملك وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأحاديث فَاطِرَ السماوات والأرض أَنتَ وَلِيِّي فِي الدنيا والآخرة تَوَفَّنِى مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بالصالحين } [ يوسف : 101 ] ، وقال موسى : { ياقوم إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بالله فَعَلَيْهِ توكلوا إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ } [ يونس : 84 ] .
وقال تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار } [ المائدة : 44 ] الآية وقال تعالى : { وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الحواريين أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قالوا آمَنَّا واشهد بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ } [ المائدة : 111 ] ، فأخبر تعالى أنه بعث رسله بالإسلام ولكنهم متفاوتون فيه بحسب شرائعهم الخاصة ، التي ينسخ بعضها بعضاً إلى أن نسخت بشريعة محمد صلى الله عليه وسلم التي لا تنسخ أبد الآبدين ، ولا تزال قائمة منصورة وأعلامها منشورة إلى قيام الساعة ، ولهذا قال عليه السلام : « نحن معاشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد » فإن أولاد العلات هم الإخوة من أب واحد وأمهات شتى ، فالدين واحد وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، وإن تنوعت الشرائع التي هي بمنزلة الأمهات وقد قال الإمام أحمد عن علي رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا كبر استفتح ثم قال : « وجهت وجهي للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين ، إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين » إلى آخر الآية : « اللهم أنت الملك لا إله إلاّ أنت ، أنت ربي وأنا عبدك ، ظلمت نفسي واعترفت بذنبي فاغفر لي ذنوبي جميعاً لا يغفر الذنوب إلاّ أنت ، واهدني لأحسن الأخلاق لا يهدي لأحسنها إلاّ أنت ، واصرف عني سيئها لا يصرف عني سيئها إلاّ أنت ، تباركت وتعاليت ، أستغفرك وأتوب إليك » ، ثم ذكر تمام الحديث فيما يقوله في الركوع والسجود والتشهد .
(1/823)
قُلْ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْهَا وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164)
يقول تعالى : { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين بالله في إخلاص العبادة له والتوكل عليه { أَغَيْرَ الله أَبْغِي رَبّاً } أي أطلب رباً سواه ، { وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ } يربيني ويحفظني ويكلؤني ويدبر أمري ، أي لا أتوكل إلاّ عليه ولا أنيب إلاّ إليه لأنه رب كل شيء ومليكه وله الخلق والأمر ، ففي هذه الآية الأمر بإخلاص التوكل كما تضمنت التي قبلها إخلاص العبادة لله وحده لا شريك له ، وهذا المعنى يقرن بالآخر كثيراً في القرآن كقوله تعالى مرشداً لعباده أن يقولوا له : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } [ الفاتحة : 5 ] ، وقوله : { فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] ، وقوله : { قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [ الملك : 29 ] ، وقوله : { رَّبُّ المشرق والمغرب لاَ إله إِلاَّ هُوَ فاتخذه وَكِيلاً } [ المزمل : 9 ] وأشباه ذلك من الآيات . وقوله تعالى : { وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أخرى } إخبار عن الواقع يوم القيامة في جزاء الله تعالى وحكمه وعدله أن النفوس إنما تجازى بأعمالها إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، وأنه لا يحمل من خطيئة أحد على أحد ، وهذا من عدله تعالى كما قال : { وَإِن تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إلى حِمْلِهَا لاَ يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قربى } [ فاطر : 18 ] ، وقوله تعالى : { فَلاَ يَخَافُ ظُلْماً وَلاَ هَضْماً } [ طه : 112 ] قال علماء التفسير أي فلا يظلم بأن يحمل عليه سيئات غيره ولا يهضم بأن ينقص من حسناته ، وقال تعالى : { كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ إِلاَّ أَصْحَابَ اليمين } [ المدثر : 38-39 ] معناه كل نفس مرتهنة بعملها السيىء إلاّ أصحاب اليمين فإنه قد يعود بركة أعمالهم الصالحة على ذرياتهم وقراباتهم كما قال في سورة الطور : { والذين آمَنُواْ واتبعتهم ذُرِّيَّتُهُم بِإِيمَانٍ أَلْحَقْنَا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَمَآ أَلَتْنَاهُمْ مِّنْ عَمَلِهِم مِّن شَيْءٍ } [ الآية : 21 ] أي ألحقنا بهم ذريتهم في المنزلة الرفيعة في الجنة وإن لم يكونوا قد شاركوهم في الأعمال ، بل في أصل الإيمان ، وما ألتناهم أي نقصنا أولئك السادة الرفعاء من أعمالهم شيئاً حتى ساويناهم ، وهؤلاء الذين هم أنقص منهم منزلة ، بل رفعهم تعالى إلى منزلة الآباء ببركة أعمالهم بفضله ومنته ، ثم قال : { كُلُّ امرىء بِمَا كَسَبَ رَهَينٌ } [ الطور : 21 ] أي من شر ، وقوله : { ثُمَّ إلى رَبِّكُمْ مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ } أي اعملوا على مكانتكم إنا عاملون على ما نحن عليه ، فستعرضون ونعرض عليه ، وينبئنا وإياكم بأعمالنا وأعمالكم ، وما كنا نختلف فيه في الدار الدنيا كقوله : { قُل لاَّ تُسْأَلُونَ عَمَّآ أَجْرَمْنَا وَلاَ نُسْأَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ * قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق وَهُوَ الفتاح العليم } [ سبأ : 25-26 ] .
(1/824)
وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)
يقول تعالى : { وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض } أي جعلكم تعمرونها جيلاً بعد جيل ، وقرناً بعد قرن وخلفاً بعد سلف ، كقوله تعالى : { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ } [ الزخرف : 60 ] ، وكقوله تعالى : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض } [ النمل : 62 ] ، وقوله : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } [ البقرة : 30 ] ، وقوله : { عسى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأرض فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ الأعراف : 129 ] ، وقوله : { وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ } ، أي فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق والمحاسن والمساوي ، والمناظر والأشكال والألوان ، وله الحكمة في ذلك ، كقوله تعالى : { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً } [ الزخرف : 32 ] ، وقوله : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً } [ الإسراء : 21 ] ، وقوله تعالى : { لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُمْ } أي ليختبركم في الذي أنعم به عليكم وامتحنكم به ليختبر الغني في غناه ، ويسأله عن شكره ، والفقير في فقره ويسأله عن صبره . وفي صحيح مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الدنيا حلوة خضرة ، وإن الله مستخلفكم فيها فناظر ماذا تعملون ، فاتقوا الدنيا واتقوا النساء ، فإن أول فتنة بني إسرائيل كانت في النساء » وقوله تعالى : { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } ترهيب وترغيب أن حسابه وعقابه سريع فيمن عصاه وخالف رسله ، { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } لمن والاه واتبع رسله فيما جاءوا به من خبر وطلب . وقال محمد بن إسحاق : ليرحم العباد على ما فيهم . وكثيراً ما يقرن الله تعالى في القرآن بين هاتين الصفتين ، كقوله : { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم } [ الحجر : 49-50 ] إلى غير ذلك من الآيات المشتملة على الترغيب والترهيب . فتارة يدعو عباده إليه بالرغبة وصفة الجنة والترغيب فيما لديه ، وتارة يدعوهم إليه بالرهبة وذكر النار وأنكالها وعذابها والقيامة وأهوالها ، وتارة بهما لينجع في كل بحسبه ، جعلنا الله ممن أطاعه فيما أمر ، وترك ما عنه نهى وزجر ، وصدقه فيما أخبر ، إنه قريب مجيب سميع الدعاء ، جواد كريم وهاب . وقد روى الإمام أحمد عن أبي هريرة مرفوعاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبة ما طمع بجنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط أحد من الجنة . خلق الله مائة رحمة فوضع واحدة بين خلقه ، يتراحمون بها وعند الله تسعة وتسعون » ، وعنه أيضاً قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « جعل الله الرحمة مائة جزء فأمسك عنده تسعة وتسعين جزءاً وأنزل في الأرض جزءاً واحداً ، فمن ذلك تتراحم الخلائق ، حتى ترفع الدابة حافرها عن ولدها خشية أن تصيبه » .
(1/825)
المص (1) كِتَابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلَا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ (3)
تقدم الكلام في أول سورة البقرة على ما يتعلق بالحروف وبسطه واختلاف الناس فيه ، قال ابن جرير عن ابن عباس { المص } : أنا الله أفصل ، { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ } أي هذا الكتاب أنزل إليك أي من ربك ، { فَلاَ يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ } شك منه ، وقيل : لا تتحرج به في إبلاغه والإنذار به ، { فاصبر كَمَا صَبَرَ أُوْلُواْ العزم مِنَ الرسل } [ الأنعام : 35 ] ، ولهذا قال : { لِتُنذِرَ بِهِ } أي أنزلناه إليك لتنذر به الكافرين { وذكرى لِلْمُؤْمِنِينَ } ، ثم قال تعالى مخاطباً للعالم : { اتبعوا مَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } أي اقتفوا آثار النبي الأمي الذي جاءكم بكتاب أنزل إليكم من رب كل شيء ومليكه ، { وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَآءَ } أي لا تخرجوا عما جاءكم به الرسول إلى غيره فتكونوا قد عدلتم عن حكم الله إلى حكم غيره ، { قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ } ، كقوله : { وَمَآ أَكْثَرُ الناس وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ } [ يوسف : 103 ] ، وقوله : { وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأرض يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ الله } [ الأنعام : 116 ] ، وقوله : { وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 106 ] .
(1/826)
وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتًا أَوْ هُمْ قَائِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا إِلَّا أَنْ قَالُوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَائِبِينَ (7)
يقول الله تعالى : { وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا } أي بمخالفة رسلنا وتكذيبهم فأعقبهم ذلك خزي الدنيا موصولاً بذل الآخرة كما قال تعالى : { وَلَقَدِ استهزىء بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بالذين سَخِرُواْ مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِءُونَ } [ الأنعام : 10 ] ، وكقوله : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } [ الحج : 45 ] ، وقال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَهَا فَتِلْكَ مَسَاكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَن مِّن بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَكُنَّا نَحْنُ الوارثين } [ القصص : 58 ] ، وقوله : { فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } أي فكان منهم من جاءه أمر الله وبأسه ونقمته { بَيَاتاً } أي ليلاً { أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ } من القيلولة وهي الاستراحة وسط النهار ، وكلا الوقتين وقت غفلة ولهو ، كما قال : { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } [ الأعراف : 97-98 ] ، وقال { أَفَأَمِنَ الذين مَكَرُواْ السيئات أَن يَخْسِفَ الله بِهِمُ الأرض أَوْ يَأْتِيَهُمُ العذاب مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ } [ النحل : 45-46 ] ، وقوله : { فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَآءَهُمْ بَأْسُنَآ إِلاَّ أَن قالوا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ } أي فما كان قولهم عند مجيء العذاب إلا أن اعترفوا بذنوبهم وأنهم حقيقون بهذا ، كقوله تعالى : { وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ كَانَتْ ظَالِمَةً } [ الأنبياء : 11 ] إلى قوله { خَامِدِينَ } [ الأنبياء : 15 ] ، قال ابن جرير : في هذه الآية الدالة الواضحة على صحة ما جاءت به الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما هلك قوم حتى يعذروا من أنفسهم » ، وقوله : { فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ } الآية ، كقوله : { وَيَوْمَ يُنَادِيهِمْ فَيَقُولُ مَاذَآ أَجَبْتُمُ المرسلين } [ القصص : 65 ] ، وقوله : { يَوْمَ يَجْمَعُ الله الرسل فَيَقُولُ مَاذَآ أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الغيوب } [ المائدة : 109 ] فيسأل الله الأمم يوم القيامة عما أجابوا رسله فيما أرسلهم به ، ويسأل الرسل أيضاً عن إبلاغ رسالاته ، ولهذا قال ابن عباس في تفسير هذه الآية { فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين } قال : عما بلغوا .
وعن ابن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته فالإمام يسأل عن رعيته والرجل يسأل عن أهله والمرأة تسأل عن بيت زوجها والعبد يسأل عن مال سيده » ، ثم قرأ : { فَلَنَسْأَلَنَّ الذين أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ المرسلين } ، وقال ابن عباس في قوله { فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } : يوضع الكتاب يوم القيامة فيتكلم بما كانوا يعملون ، { وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ } يعني أنه تعالى يخبر عباده يوم القيامة بما قالوا وبما عملوا من قليل وكثير وجليل وحقير ، لأنه تعالى الشهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ، ولا يغفل عن شيء بل هو العالم بخائنة الأعين وما تخفي الصدور { وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأرض وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ الأنعام : 59 ] .
(1/827)
وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُولَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَظْلِمُونَ (9)
يقول تعالى : { والوزن } أي للأعمال يوم القيامة { الحق } أي لا يظلم تعالى أحداً ، كقوله : { وَنَضَعُ الموازين القسط لِيَوْمِ القيامة فَلاَ تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وكفى بِنَا حَاسِبِينَ } [ الأنبياء : 47 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الله لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 40 ] ، وقال تعالى : { فَأَمَّا مَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ * فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَّاضِيَةٍ } [ القارعة : 6-7 ] ، وقال تعالى : { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فأولئك هُمُ المفلحون * وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فأولئك الذين خسروا أَنفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خَالِدُونَ } [ المؤمنون : 102-103 ] .
( فصل ) والذي يوضع في الميزان يوم القيامة قيل : الأعمال وإن كانت أعراضاً ، إلا أن الله تعالى يقبلها يوم القيامة أجساماً ، يروى هذا عن ابن عباس ، كما جاء في « الصحيح » من أن البقرة وآل عمران يأتيان يوم القيامة كأنهما غمامتان أو غيايتان أو فرقان من طير صواف ، وقيل : يوزن كتاب الأعمال ، كما جاء في حديث البطاقة ، في الرجل الذي يؤتى به ويوضع له في كفة تسعة وتسعون سجلاً كل سجل مد البصر ، ثم يؤتى بتلك البطاقة فيها : لا إله إلا الله ، الحديث ، وقيل : يوزن صاحب العمل كما في الحديث : « يؤتى يوم القيامة بالرجل السمين فلا يزن عند الله جناح بعوضة » ، ثم قرأ : { فَلاَ نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ القيامة وَزْناً } [ الكهف : 105 ] ، وفي مناقب عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أتعجبون من دقة ساقية والذي نفسي بيده لهما في الميزان أثقل من أحد » ، وقد يمكن الجمع بين هذه الآثار بأن يكون ذلك كله صحيحاً ، فتارة توزن الأعمال ، وتارة توزن محالها ، وتارة يوزن فاعلها ، والله أعلم .
(1/828)
وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ (10)
يقول تعالى : ممتناً على عبيده فيما مكَّن لهم من أنه جعل الأرض قراراً ، وجعل فيها رواسي وأنهاراً وجعل لهم فيها منازل وبيوتاً ، وأباح لهم منافعها وسخّر لهم السحاب لإِخراج أرزاقهم منها ، وجعل لهم فيها { مَعَايِشَ } أي مكاسب وأسباباً يكسبون بها ويتجرون فيها ويتسببون أنواع الأسباب ، وأكثرهم مع هذا قليل الشكر على ذلك ، كقوله : { وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ الله لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإنسان لَظَلُومٌ كَفَّارٌ } [ إبراهيم : 34 ] .
(1/829)
وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11)
ينبه تعالى بني آدم في هذا المقام على شرف أبيهم آدم ، ويبين لهم عداوة عدوهم إبليس وما هو منطو عليه من الحسد لهم ولأبيهم آدم ليحذروه ولا يتبعوا طرائقه ، فقال تعالى : { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ فسجدوا } ، وهذا كقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلآئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 26-27 ] ، وذلك أنه تعالى لما خلق آدم عليه السلام بيده من طين لازب وصوره بشراً سوياً ونفخ فيه من روحه ، أمر الملائكة بالسجود له تعظيماً لشأن الله تعالى وجلاله ، فسمعوا كلهم وأطاعوا إلا إبليس لم يكن من الساجدين ، والمراد بذلك كله آدم عليه السلام ، وقال سفيان الثوري عن ابن عباس { وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ } قال : خلقوا في أصلاب الرجال وصوروا في أرحام النساء ، ونقل ابن جرير عن بعض السلف أيضاً أن المراد ب { خَلَقْنَاكُمْ } ثم { صَوَّرْنَاكُمْ } الذرية ، وقال أي خلقنا آدم ثم صورنا الذرية ، وهذا فيه نظر لأنه قال بعده : { ثُمَّ قُلْنَا للملائكة اسجدوا لأَدَمَ } ، فدل على أن المراد بذلك آدم ، وإنما قيل ذلك بالجمع لأنه أبو البشر ، كما يقول الله تعالى لبني إسرائيل الذين كانوا في زمن النبي صلى الله عليه وسلم { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } [ البقرة : 57 ] ، والمراد آباؤهم الذين كانوا في زمن موسى ولكن لما كان ذلك منة على الآباء الذين هم أصل ، صار كأنه واقع على الأبناء ، وهذا بخلاف قوله : { وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان مِن سُلاَلَةٍ مِّن طِينٍ } [ المؤمنون : 12 ] الآية ، فإن المراد منه آدم المخلوق من السلالة وذريته مخلوقون من نطفة ، وصح هذا لأن المراد من خلقنا الإنسان الجنس لا معيناً ، والله أعلم .
(1/830)
قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12)
قال بعض النحاة ( لا ) هنا زائدة ، زيدت لتأكيد الجحد ، كقول الشاعر : ما إن رأيت ولا سمعت بمثله ، فأدخل ( إن ) وهي للنفي على ( ما ) النافية لتأكيد النفي ، قالوا : وكذا هنا { قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ } مع تقدم قوله : { لَمْ يَكُنْ مِّنَ الساجدين } [ الأعراف : 11 ] ، واختار ابن جرير أن { مَنَعَكَ } مضمن معنى فعل آخر تقديره : ما ألزمك واضطرك أن لا تسجد إذ أمرتك ونحو هذا ، وهذا القول قوي حسن ، والله أعلم . وقول إبليس لعنه الله : { أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ } من العذر الذي هو أكبر من الذنب ، كأنه امتنع من الطاعة لأنه لا يؤمر الفاضل بالسجود للمفضول ، يعني لعنه الله وأنا خير منه فكيف تأمرني بالسجود له؟ ثم بيّن أنه خير منه بأنه خلق من نار والنار أشرف مما خلقته منه وهو الطين ، فنظر اللعين إلى أصل العنصر ولم ينظر إلى التشريف العظيم ، وهو أن الله تعالى خلق آدم بيده ونفخ فيه من روحه ، وقاس قياساً فاسداً في مقابلة نص قوله تعالى : { فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ } [ الحجر : 29 ] فشذ من بين الملائكة لترك السجود ، فلهذا أبلس من الرحمة أي أويس من الرحمة ، فأخطأ قبحه الله في قياسه ، ودعواه أن النار أشرف من الطين أيضاً ، فإن الطين من شأنه الرزانة والحلم والأناة والتثبت ، والطين محل النبات والنمو والزيادة والإصلاح ، والنار من شأنها الإحراق والطيش والسرعة ، ولهذا خان إبليس عنصره ونفع آدم عنصره بالرجوع والإنابة والاستكانة والانقياد والاستسلام لأمر الله والاعتراف وطلب التوبة والمغفرة : وفي « صحيح مسلم » عن عائشة رضي الله عنها قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خلقت الملائكة من نور وخلق إبليس من مارج من نار وخلق آدم مما وصف لكم » ، وعن عائشة قالت ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خلق الله الملائكة من نور العرش ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم » ، وفي بعض ألفاظ هذا الحديث في غير الصحيح : « وخلقت الحور العين من الزعفران » وقال الحسن : قاس إبليس وهو أول من قاس ، وعن ابن سيرين قال : أول من قاس إبليس ، وما عبدت الشمس والقمر إلا بالمقاييس ، إسناد صحيح أيضاً .
(1/831)
قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنْظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)
يقول تعالى مخاطباً لإبليس بأمر قدري كوني { فاهبط مِنْهَا } أي بسبب عصيانك لأمري وخروجك عن طاعتي فما يكون لك أن تتكبر فيها ، قال كثير من المفسرين : الضمير عائد إلى الجنة ، ويحتمل أن يكون عائداً إلى المنزلة التي هو فيها في الملكوت الأعلى { فاخرج إِنَّكَ مِنَ الصاغرين } أي الذليلين الحقيرين ، معاملة له بنقيض قصده ومكافأة لمراده بضده ، فعند ذلك استدرك اللعين وسأل النظرة إلى يوم الدين ، قال : { أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ } أجابه تعالى إلى ما سأل لما له في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة التي لا تخالف ولا تمانع ولا معقب لحكمه وهو سريع الحساب .
(1/832)
قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17)
يخبر تعالى أنه لما أنظر إبليس { إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ } [ الأعراف : 14 ] واستوثق إبليس بذلك أخذ في المعاندة والتمرد ، فقال : { فَبِمَآ أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ المستقيم } أي كما أغويتني ، قال ابن عباس : كما أضللتني ، وقال غيره : كما أهلكتني لأقعدن لعبادك الذين تخلقهم من ذرية هذا الذي أبعدتني بسببه على { صِرَاطَكَ المستقيم } أي طريق الحق وسبيل النجاة ولأضلنهم عنها لئلا يعبدوك ولا يوحدوك بسبب إضلالك إياي ، وقال بعض النحاة : الباء هنا قسمية ، كأنه يقول فبإغوائك إياي لأقعدن لهم صراطك المستقيم ، قال مجاهد : { صِرَاطَكَ المستقيم } يعني الحق ، والصحيح أن الصراط المستقيم أعم من ذلك ، روى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قالل : « إن الشيطان قعد لابن آدم بطرقه ، فقعد له بطريق الإسلام فقال : أتسلم وتذر دينك ودين آبائكك قال فعصاه وأسلم قال : وقعد له بطريق الهجرة فقال : أتهاجر وتدع أرضك وسماءك وإنما مثل المهاجر كالفرس في الطول ، فعصاه وهاجر ، ثم قعد له بطريق الجهاد وهو جهاد النفس والمال ، فقال تقاتل فتقتل فتنكح المرأة ويقسم المال ، قال فعصاه وجاهد ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : فمن فعل ذلك منهم فمات كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ، وإن قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة ، أو وقصته دابة كان حقاً على الله أن يدخله الجنة » وقوله : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ } الآية ، قال ابن عباس : { ثُمَّ لآتِيَنَّهُمْ مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ } أشككهم في آخرتهم { وَمِنْ خَلْفِهِمْ } أرغبهم في دنياهم { وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } أشبه عليهم أمر دينهم { وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } أشهي لهم المعاصي ، وعنه : أما من بين أيديهم فمن قبل دنياهم ، وأما من خلفهم فأمر آخرتهم ، وأما عن أيمانهم فمن قبل حسناتهم ، وأما عن شمائلهم فمن قبل سيئاتهم ، وقال قتادة : أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ، ومن خلفهم من أمر الدنيا فزينها لهم ودعاهم إليها ، وعن أيمانهم من قبل حسناتهم بطأهم عنها ، وعن شمائلهم زين لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها وأمرهم بها ، أتاك يا ابن آدم من كل وجه غير أنه لم يأتك من فوقك ، لم يستطع أن يحول بينك وبين رحمة الله .
وقال مجاهد : { مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ } من حيث يبصرون ، { وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ } حيث لا يبصرون ، واختار ابن جرير أن المراد جميع طرق الخير والشر ، فالخير يصدهم عنه ، والشر يحسنه لهم ، وقال ابن عباس { وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ } قال : موحدين ، وقول إبليس هذا إنما هو ظن منه وتوهم ، وقد وافق في هذا الواقع كما قال تعالى :
(1/833)
{ وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فاتبعوه إِلاَّ فَرِيقاً مِّنَ المؤمنين } [ سبأ : 20 ] ، ولهذا ورد في الحديث : الاستعاذة من تسلط الشيطان على الإنسان كما قال الحافظ البزار . عن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو : « اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي ، وآمن روعاتي ، واحفظني من بين يدي ومن خلفي ، وعن يميني وعن شمالي ، ومن فوقي ، وأعوذ بك اللهم أن أغتال من تحتي » وعن عبد الله بن عمر قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يدع هؤلاء الدعوات حين يصبح وحين يمسي : « اللهم إني أسألك العافية في الدنيا والآخرة ، اللهم إني أسألك العفو والعافية في ديني ودنياي وأهلي ومالي ، اللهم استر عوراتي وآمن روعاتي ، اللهم احفظني من بين يدي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي ومن فوقي ، وأعوذ بعظمتك أن أغتال من تحتي » .
(1/834)
قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَدْحُورًا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18)
أكد تعالى على الشيطان اللعنة والطرد والإبعاد والنفي عن محل الملأ الأعلى بقوله : { قَالَ اخرج مِنْهَا مَذْءُوماً مَّدْحُوراً } ، قال ابن جرير : أما المذؤوم فهو المعيب ، والذأم : العيب يقال ذأمه ذأماً فهو مذؤوم ، والذام والذيم أبلغ في العيب من الذم ، قال : والمدحور المقصيّ وهو المبعد المطرود . وقال ابن أسلم : ما نعرف المذؤوم والمذموم إلا واحداً ، وقال ابن عباس : صغيراً مقيتاً ، وقال السدي : مقيتاً مطروداً ، وقال قتادة : لعيناً مقيتاً ، وقال مجاهد : منفياً مطروداً ، وقال الربيع بن أنس : مذؤوماً منفياً والمدحور المصغر . وقوله تعالى : { لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ } ، كقوله : { قَالَ اذهب فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاءً مَّوْفُوراً } [ الإسراء : 63 ] .
(1/835)
وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلَا مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21)
يذكر تعالى أنه أباح لآدم عليه السلام ولزوجته حواء الجنة أن يأكلا منها من جميع ثمارها إلا شجرة واحدة ، وقد تقدم الكلام على ذلك في سورة البقرة ، فعند ذلك حسدهما الشيطان ، وسعى في المكر والوسوسة والخديعة ليسلبهما ما هما فيه من النعمة واللباس الحسن ( وقال ) كذباً وافتراء : { مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذه الشجرة إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ } أي لئلا تكونا ملكين أو خالدين هاهنا ، ولو أنكما أكلتما منها لحصل لكما ذلكما ، كقوله : { قَالَ ياآدم هَلْ أَدُلُّكَ على شَجَرَةِ الخلد وَمُلْكٍ لاَّ يبلى } [ طه : 120 ] أي لئلا تكونا ملكين ، كقوله : { يُبَيِّنُ الله لَكُمْ أَن تَضِلُّواْ } [ النساء : 176 ] ، أي لئلا تضلوا { وألقى فِي الأرض رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ } [ النحل : 15 ] أي لئلا تميد بكم ، { وَقَاسَمَهُمَآ } أي حلف لهما بالله { إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } ، أي حلف لهما بالله على ذلك حتى خدعهما وقد يخدع المؤمن بالله ، وقال قتادة في الآية : حلف بالله إني خلقت قبلكما وأنا أعلم منكما فاتبعاني أرشدكما ، وكان بعض أهل العلم يقول : من خدعنا بالله انخدعنا له .
(1/836)
فَدَلَّاهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ (22) قَالَا رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنْفُسَنَا وَإِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23)
عن ابن عباس قال : كانت الشجرة التي نهى الله عنها آدم وزوجته السنبلة ، فلما أكلا منها بدت لهما سوآتهما ، وكان الذي وارى عنهما من سوآتهما أظفارهما ، وطفقا يخصفان عليهما من ورق الجنة ورق التين ، يلزقان بعضه إلى بعض ، فانطلق آدم عليه السلام مولياً في الجنة ، فعلقت برأسه شجرة من الجنة ، فناداه الله : يا آدم أمني نفر؟ قال : لا ، ولكني أستحييك يا رب ، قال : أما كان لك فيما منحتك وأبحتك منها مندوحة عما حرمت عليك؟ قال : بلى يا رب ، ولكن وعزتك ما حسبت أن أحداً يحلف بك كاذباً ، قال : وهو قول الله عزّ وجلّ { وَقَاسَمَهُمَآ إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ الناصحين } [ الأعراف : 21 ] قال : فبعزتي لأهبطنك إلى الأرض ، ثم لا تنال العيش إلا كداً قال : فاهبط من الجنة ، وكانا يأكلان منها رغداً فأهبط إلى غير رغد من طعام وشراب ، فعلم صنعة الحديد ، وأمر بالحرث ، فحرث وزرع ثم سقى ، حتى إذا بلغ حصد ، ثم داسه ثم ذراه ، ثم طحنه ، ثم عجنه ، ثم خبزه ، ثم أكله ، فلم يبلغه حتى بلغ منه ما شاء الله أن يبلغ ، وقال سعيد بن جبير عبن ابن عباس { وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الجنة } قال : ورق التين ، وقال مجاهد : جعلا يخصفان عليهما من ورق الجنة قال كهيئة الثوب ، وقال وهب بن منبه في قوله : { يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا } [ الأعراف : 27 ] قال : كان لباس آدم وحواء نوراً على فروجهما ، لا يرى هذا عروة هذه ، ولا هذه عورة هذا ، فلما أكلا من الشجر بدت لهما سوآتهما . وقال قتادة : قال آدم : أي رب أرأيت إن تبت واستغفرت ، قال : إذاً أدخلك الجنة ، وأما إبليس فلم يسأله التوبة وسأله النظرة ، فأعطى كل واحد منهما الذي سأله . وقال ابن جرير عن ابن عباس قال : لما أكل آدم من الشجرة قيل له : لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها؟ قال : حواء أمرتني ، قال : فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كُرهاً ، ولا تضع إلا كُرهاً ، قال : فرنت عند ذلك حواء ، فقيل لها : الرنة عليك وعلى ولدك؛ وقال الضحاك بن مزاحم في قوله : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } هي الكلمات التي تلقاها آدم من ربه .
(1/837)
قَالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25)
قيل المراد بالخطاب في { اهبطوا } آدم وحواء وإبليس ، ، والعمدة في العداوة آدم وإبليس ، ولهذا قال تعالى في سورة طه قال : { اهبطا مِنْهَا جَمِيعاً } [ طه : 123 ] الآية ، وحواء تبع لآدم ، وقد ذكر المفسرون الأماكن التي هبط فيها كل منهم ، ويرجع حاصل تلك الأخبار إلى الإسرائيليات والله أعلم بصحتها ، ولو كان في تعيين تلك البقاع فائدة تعود على المكلفين في أمر دينهم أو دنياهم لذكرها الله تعالى في كتابه أو رسوله صلى الله عليه وسلم ، وقوله : { وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } أي قرار وأعمار مضروبة إلى آجال معلومة ، قد جرى بها القلم وأحصاها القدر ، وسطرت في الكتاب الأول ، قال ابن عباس : { مُسْتَقَرٌّ } القبور ، وعنه قال { مُسْتَقَرٌّ } فوق الأرض وتحتها رواهما ابن أبي حاتم ، وقوله : { قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ } ، كقوله تعالى : { مِنْهَا خَلَقْنَاكُمْ وَفِيهَا نُعِيدُكُمْ وَمِنْهَا نُخْرِجُكُمْ تَارَةً أخرى } [ طه : 55 ] ، يخبر تعالى أنه جعل الأرض داراً لبني آدم مدة الحياة الدنيا ، فيها محياهم وفيها مماتهم وقبورهم ، ومنها نشورهم ليوم القيامة الذي يجمع الله فيه الأولين والآخرين ويجازي كلا بعمله .
(1/838)
يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاسًا يُوَارِي سَوْآتِكُمْ وَرِيشًا وَلِبَاسُ التَّقْوَى ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)
يمتن تعالى على عباده بما جعل لهم من اللباس والريش ، فاللباس ستر العورات وهي السوآت ، والرياش والريش ما يتجمل به ظاهراً ، فالأول من الضروريات ، والريش من التكملات والزيادات ، قال ابن جرير : الرياش في كلام العرب الأثاث وما ظهر من الثياب ، وقال ابن عباس : الريش : اللباس ، والعيش والنعيم ، وقال ابن أسلم : الرياش الجمال؛ ولبس أبو أمامة ثوباً جديداً ، فلما بلغ ترقوته قال الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي ، وأتجمل به في حياتي ، ثم قال : سمعت عمر بن الخطاب يقول : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من استجد ثوباً فلبسه فقال حين يبلغ ترقوته : الحمد لله الذي كساني ما أواري به عورتي واتجمل به في حياتي ، ثم عمد إلى الثوب الخلق فتصدق به ، كان في ذمة الله وفي جوار الله وفي كنف الله حياً وميتاً » وقوله تعالى : { وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ } ، اختلف المفسرون في معناه ، فقال عكرمة : يقال هو ما يلبسه المتقون يوم القيامة ، وقال قتادة وابن جريج : { وَلِبَاسُ التقوى } الإيمان ، وقال ابن عباس : العمل الصالح ، وعنه : هو السمت الحسن في الوجه ، وعن عروة بن الزبير { لِبَاسُ التقوى } خشية الله ، وقال ابن أسلم : ولباس التقوى يتقي الله فيواري عورته ، فذاك لباس التقوى ، وكلها متقاربة ، ويؤيد ذلك الحديث الذي رواه ابن جرير عن الحسن قال : رأيت عثمان بن عفان رضي الله عنه على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عليه قميص فوهي محلول الزر ، وسمعته يأمر بقتل الكلاب ، وينهى عن اللعب بالحمام ، ثم قال : يا أيها الناس اتقوا الله في هذه السرائر ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « والذي نفس محمد بيده ما أسر أحد سريرة إلا ألبسه الله رداءها علانية إن خيراً فخير وإن شراً فشر » ، ثم قرأ هذه الآية : { وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ ذلك مِنْ آيَاتِ الله } قال : السمت الحسن « .
(1/839)
يَا بَنِي آدَمَ لَا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْآتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لَا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ (27)
يحذر تعالى بني آدم من إبليس وقبيله مبيناً لهم عداوته القديمة لأبي البشر آدم عليه السلام في سعيه في إخراجه من الجنة ، التي هي دار النعيم إلى دار التعب والعناء ، والتسبب في هتك عورته بعدما كانت مستورة عنه ، وما هذا إلا عن عداوة أكيدة ، وهذا كقوله تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } [ الكهف : 50 ] .
(1/840)
وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءَنَا وَاللَّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقًا هَدَى وَفَرِيقًا حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلَالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)
كانت العرب ما عدا قريشاً لا يطوفون بالبيت في ثيابهم التي لبسوها ، يتأولون في ذلك أنهم لا يطوفون في ثياب عصوا الله فيها ، وكانت قريش - وهم الخمس - يطوفون في ثيابهم ، ومن أعاره أحمسي ثوباً طاف فيه ، ومن معه ثوب جديد طاف فيه ، ثم يلقيه فلا يتملكه أحد ، ومن لم يجد ثوباً جديداً ولا أعاره أحمسي ثوباً طاف عرياناً ، وربما كانت امرأة فتطوف عريانة فتجعل على فرجها شيئاً ليستره بعض الستر فتقول :
اليوم يبدو بعه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
وأكثر ما كان النساء يطفن عراة بالليل ، وكان هذا شيئاً قد ابتدعوه من تلقاء أنفسهم ، واتبعوا فيه آباءهم ، ويعتقدون أن فعل آبائهم مستند إلى أمر من الله وشرع ، فأنكر الله تعالى عليهم ذلك فقال : { وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَآ آبَاءَنَا والله أَمَرَنَا بِهَا } ، فقال تعالى رداً عليهم : { قُلْ } أي يا محمد لمن ادعى ذلك { إِنَّ الله لاَ يَأْمُرُ بالفحشآء } أي هذا الذي تصنعونه فاحشة منكرة والله لا يأمر بمثل ذلك ، { أَتَقُولُونَ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ؟ أي أتسندون إلى الله من الأقوال ما لا تعلمون صحته ، وقوله تعالى : { قُلْ أَمَرَ رَبِّي بالقسط } أي بالعدل والاستقامة ، { وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وادعوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدين } أي أمركم بالاستقامة في عبادته في محالها ، وهي متابعة المرسلين المؤيدين بالمعجزات فيما أخبروا به عن الله ، وما جاءوا به من الشرائع وبالإخلاص له في عبادته ، فإنه تعالى لا يتقبل العمل حتى يجمع هذين الركنين أن يكون صواباً موافقاً للشريعة ، وأن يكون خالصاً من الشرك .
واختلف في معنى قوله : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } ، فقال مجاهد : يحييكم بعد موتكم ، وقال الحسن البصري : كما بدأكم في الدنيا كذلك تعودون يوم القيامة أحياء ، وقال قتادة : بدأ فخلقهم ولم يكونوا شيئاً ثم ذهبوا ثم يعيدهم ، وقال ابن أسلم : كما بدأكم أولاً كذلك يعيدكم آخراً ، واختار هذا القول أبو جعفر بن جرير ، وأيده بما رواه عن ابن عباس قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال : « يا أيها الناس إنكم تحشرون إلى الله حفاة عراة غرلا ، كما بدأنا أول خلق نعيده وعداً علينا إنا كنا فاعلين » وعن مجاهد قال : يبعث المسلم مسلماً والكافر كافراً ، وقال محمد بن كعب القرظي : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } من ابتدأ الله خلقه على الشقاوة صار إلى ما ابتدئ عليه خلقه وإن عمل بأعمال أهل السعادة ، ومن ابتدأ خلقه على السعادة صار إلى ما ابتدئ خلقه عليه ، وإن عمل بأعمال أهل الشقاء كما أن السحرة عملوا بأعمال أهل الشقاء ، ثم صاروا إلى ما ابتدأوا عليه ، وقال السدي : { كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ } كما خلقناكم فريق مهتدون وفريق ضلال كذلك تعودون وتخرجون من بطون أمهاتكم ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : إن الله تعالى بدأ خلق ابن آدم مؤمناً وكافراً ، كما قال :
(1/841)
{ هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] ثم يعيدهم يوم القيامة كما بدأ خلقهم مؤمناً وكافراً ، قلت : ويتأيد هذا القول بحديث ابن مسعود في « صحيح البخاري » : « فوالذي لا إله غيره إن أحدكم ليعمل يعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن أحدكم ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع ، فيسبق عليه الكتاب ، فيعمل بعمل أهل الجنة ، فيدخل الجنة » .
وعن سهل بن سعد قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن العبد ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل الجنة وإنه من أهل النار ، وإنه ليعمل فيما يرى الناس بعمل أهل النار ، وإنه من أهل الجنة ، وإنما الأعمال بالخواتيم » وفي الحديث : « يبعث كل عبد على ما مات عليه » قلت : ولا بد من الجمع بين هذا القول إن كان هو المراد من الآية وبين قوله تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا } [ التغابن : 30 ] ، وما جاء في « الصحيحين » عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه » ووجه الجمع على هذا : أنه تعالى خلقهم ليكون منهم مؤمن وكافر في ثاني الحال ، وإن كان قد فطر الخلق كلهم على معرفته وتوحيده والعلم بأنه لا إله غيره ، كما أخذ عليهم الميثاق بذلك ، وجعله في غرائزهم وفطرهم ، ومع هذا قدر أن منهم شقياً ومنهم سعيداً ، { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ فَمِنكُمْ كَافِرٌ وَمِنكُمْ مُّؤْمِنٌ } [ التغابن : 2 ] ، وفي الحديث : « كل الناس يغدو فبائع نفسه فمعنقها أو موبقها » وقدر الله تعالى بريته ، فإنه هو : { والذي قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 3 ] و { الذي أعطى كُلَّ شَيءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هدى } [ طه : 50 ] ، وفي « الصحيحين » : « فأما من كان منكم من أهل السعادة فسييسر لعمل أهل السعادة ، وأما من كان من أهل الشقاوة ، فسييسر لعمل أهل الشقاوة » ، ولهذا قال تعالى : { فَرِيقاً هدى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضلالة } ، ثم علل ذلك فقال : { إِنَّهُمُ اتخذوا الشياطين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ الله } الآية .
(1/842)
يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)
هذه الآية الكريمة رد على المشركين فيما كانوا يعتمدونه من الطواف بالبيت عراة ، كما روي عن ابن عباس ، قال : كانوا يطوفون بالبيت عراة الرجال والنساء ، الرجال بالنهار ، والنساء بالليل ، وكانت المرأة تقول :
اليوم يبدو بعضه أو كله ... وما بدا منه فلا أحله
فقال الله تعالى : { خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ } ، وقال العوفي عن ابن عباس : كان رجال يطوفون بالبيت عراة ، فأمرهم الله بالزينة ، والزينةُ اللباس ، وهو ما يواري السوأة ، وما سوى ذلك من جيد البز والمتاع ، فأمروا أن يأخذوا زينتهم عند كل مسجد . ولهذه الآية وما ورد في معناها من السنّة يستحب التجمل عند الصلاة ، ولا سيما يوم الجمعة ، ويوم العيد ، والطيب لأنه من الزينة ، والسواك لأنه من تمام ذلك ، ومن أفضل اللباس البياض ، كما قال الإمام أحمد عن ابن عباس مرفوعاً قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إلبسوا من ثيابكم البياض فإنها من خير ثيابكم ، وكفنوا فيها موتاكم ، وإن خير أكحالكم الإثم فإنه يجلو البصر ، وينبت الشعر » ، وللإمام أحمد أيضاً وأهل السنن ، عن سمرة بن جندب قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « عليكم بثياب البياض فالبسوها فإنها أطهر وأطيب وكفنوا فيها موتاكم » ويروى أن تميماً الداري اشترى رداء بألف وكان يصلي فيه .
وقوله تعالى : { وكُلُواْ واشربوا } الآية ، قال بعض السلف : جمع الله الطب كله في نصف آية : { وكُلُواْ واشربوا وَلاَ تسرفوا } ، وقال البخاري ، قال ابن عباس : كل ما شئت ، والبس ما شئت ، ما أخطأتك خصلتان : سرف ومخيلة ، وقال ابن عباس : أحل الله الأكل والشرب ، ما لم يكن سرفاً أو مخيلة ، وفي الحديث : « كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير مخيلة ولا سرف ، فإن الله يحب أن يرى نعمته على عبده » ، وقال الإمام أحمد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما ملأ ابن آدم وعاء شراً من بطنه ، حسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه ، فإن كان فاعلاً لا محالة ، فثلث لطعامه ، وثلث لشرابه ، وثلث لنفسه » ، وفي الحديث : « إن من السرف أن تأكل كل ما اشتهيت » وقال السدي : كان الذين يطوفون بالبيت عراة يحرمون عليهم الودك ( الدسم ) ما أقاموا في الموسم ، فقال الله تعالى لهم : { وكُلُواْ واشربوا } الآية ، يقول : لا تسرفوا في التحريم ، وقال مجاهد : أمرهم أن يأكلوا ويشربوا مما رزقهم الله ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { وَلاَ تسرفوا } ولا تأكلوا حراماً ذلك الإسراف ، وقال ابن جرير ، وقوله : { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المسرفين } ، يقول الله تعالى : { إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } [ البقرة : 190 ] حده في حلال أو حرام ، الغالين فيما أحل بإحلال الحرام أو بتحريم الحلال ، ولكنه يحب أن يحلل ما أحل ويحرم ما حرم ، وذلك العدل الذي أمر به .
(1/843)
قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)
يقول تعالى رداً على حرم شيئاً من المأكل أو المشارب أو الملابس من تلقاء نفسه من غير شرع من الله { قُلْ } يا محمد لهؤلاء المشركين الذين يحرمون ما يحرمون بآرائهم الفاسدة وابتداعهم { مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } الآية ، أي هي مخلوقة لمن آمن بالله وعبده في الحياة الدنيا ، وإن شركهم فيها الكفار حساً في الدنيا ، فهي لهم خاصة يوم القيامة لا يشركهم فيها أحد من الكفار ، فإن الجنة محرمة على الكافرين . عن ابن عباس قال : كانت قريش يطوفون بالبيت وهم عراة يصفرون ويصفقون فأنزل الله : { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ الله التي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ } فأمروا بالثياب .
(1/844)
قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (33)
عن عبد الله بن مسعود قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا أحد أغير من الله ، فلذلك حرم الفواحش ما ظهر وما بطن ، ولا أحد أحب إليه المدح من الله » ، وقد تقدم الكلام على ما يتعلق بالفواحش ما ظهر منها وما بطن في سورة الأنعام . وقوله : { والإثم والبغي بِغَيْرِ الحق } ، قال السدي : أما الإثم فالمعصية ، والبغي أن تبغي على الناس بغير الحق ، وقال مجاهد : الإثم المعاصي كلها وأخبر أن الباغي بغيه على نفسه ، وحاصل ما فسر به الإثم : أنه الخطايا المتعلقة بالفاعل نفسه ، والبغي هو التعدي إلى الناس فحرم الله هذا وهذا . وقوله تعالى : { وَأَن تُشْرِكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً } أي اتجعلوا له شركاء في عبادته ، { وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من الافتراء والكذب من دعوى أن له ولداً ، ونحو ذلك مما لا علم لكم به ، كقوله : { فاجتنبوا الرجس مِنَ الأوثان } [ الحج : 30 ] الآية .
(1/845)
وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36)
يقول تعالى : { وَلِكُلِّ أُمَّةٍ } أي قرن وجيل { أَجَلٌ فَإِذَا جَآءَ أَجَلُهُمْ } أي ميقاتهم المقدر لهم { لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ } ، ثم أنذر تعالى بني آدم أنه سيبعث إليهم رسلاً يقصون عليهم آياته وبشر وحذر فقال : { فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ } أي ترك المحرمات وفعل الطاعات { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ * والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا واستكبروا عَنْهَآ } أي كذبت بها قلوبهم واستكبروا عن العمل بها ، { أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي ماكثون فيها مكثاً مخلداً .
(1/846)
فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُولَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُوا أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قَالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَشَهِدُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُوا كَافِرِينَ (37)
يقول تعالى : { فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ } أي لا أحد أظلم ممن افترى الكذب على الله أو كذب بآياته المنزلة { أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب } ، اختلف المفسرون في معناه ، فقال ابن عباس : ينالهم ما كتب عليهم ، وكتب لمن كذب على الله أن وجهه مسود ، وعنه قال : نصيبهم من الأعمال ، من عمل خيراً جزي به ، ومن عمل شراً جزي به ، وقال مجاهد : ما وعدوا به من خير وشر ، واختاره ابن جرير ، وقال محمد القرظي { أولئك يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الكتاب } قال : عمله ورزقه وعمره ، وهذا القول قوي في المعنى ، والسياق يدل عليه ، وهو قوله : { حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ } ونظير المعنى في هذه الآية ، كقوله : { إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69-70 ] وقوله : { وَمَن كَفَرَ فَلاَ يَحْزُنكَ كُفْرُهُ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُم بِمَا عملوا } [ لقمان : 23 ] الآية ، وقوله : { حتى إِذَا جَآءَتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ } الآية : يخبر تعالى أن الملائكة إذا توفت المشركين تفزعهم عند الموت وقبض أرواحهم إلى النار ، يقولون لهم : أين الذين كنتم تشركون بهم في الحياة الدنيا وتدعونهم وتعبدونهم من دون الله ادعوهم يخلصوكم مما أنتم فيه ، قالوا : { ضَلُّواْ عَنَّا } أي ذهبوا عنا فلا نرجوا نفعهم ولا خيرهم { وَشَهِدُواْ على أَنْفُسِهِمْ } أي أقروا واعترفوا على أنفسهم { أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ } .
(1/847)
قَالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لِأُولَاهُمْ رَبَّنَا هَؤُلَاءِ أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مِنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِنْ لَا تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولَاهُمْ لِأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)
يقول تعالى مخبراً عما يقول لهؤلاء المشركين به المفترين عليه المكذبين بآياته { ادخلوا في أُمَمٍ } أي من أمثالكم وعلى صفاتكم ، { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ } أي من الأمم السالفة الكافرة ، { مِّن الجن والإنس فِي النار } ويحتمل أن يكون { في أُمَمٍ } أي مع أمم . وقوله : { كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا } كما قال الخليل عليه السلام ، { ثُمَّ يَوْمَ القيامة يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ } [ العنكبوت : 25 ] الآية . وقوله تعالى : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب } [ البقرة : 166 ] ، وقوله : { حتى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعاً } أي اجتمعوا فيها كلهم { قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ } أي أخراهم دخولاً وهم ( الأتباع ) لأولادهم وهم ( المتبرعون ) لأنهم أشد جرماً من أتباعهم فدخلوا قبلهم فيشكوهم الأتباع إلى الله يوم القيامة لأنهم هم الين أضلوهم عن سواء السبيل ، فيقولون : { رَبَّنَا هؤلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار } أي أضعف عليهم ، كما قال تعالى : { وَقَالُواْ رَبَّنَآ إِنَّآ أَطَعْنَا سَادَتَنَا وَكُبَرَآءَنَا فَأَضَلُّونَا السبيلا * رَبَّنَآ آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب } [ الأحزاب : 67-68 ] الآية : وقوله : { قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ } أي قد فعلنا ذلك وجازينا كلاً بحسبه ، كقوله : { الذين كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ الله زِدْنَاهُمْ عَذَاباً } [ النحل : 88 ] الآية ، وقوله : { وَلَيَحْمِلُنَّ أَثْقَالَهُمْ وَأَثْقَالاً مَّعَ أَثْقَالِهِمْ } [ العنكبوت : 13 ] ، وقوله : { وَمِنْ أَوْزَارِ الذين يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ } [ النحل : 25 ] الآية ، { وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ } أي قال المتبوعون للأتباع : { فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ } ، قال السدي : لقد ضللتم كما ضللنا ، { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ } ، وهذه الحال كما أخبر الله تعالى عنهم في حال محشرهم في قوله تعالى : { وَلَوْ ترى إِذِ الظالمون مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ القول يَقُولُ الذين استضعفوا لِلَّذِينَ استكبروا لَوْلاَ أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ } [ سبأ : 31 ] الآيات .
(1/848)
إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)
وقوله تعالى : { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء } قيل : المراد لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء ، وقيل : المراد لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء ، ويؤيده ما رواه الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال : « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ولما يلحد ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وجلسنا حوله كأن على رؤوسنا الطير ، وفي يده عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه فقال : » استعيذوا بالله من عذاب القبر - مرتين أو ثلاثاً - ثم قال : إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه ، كأن وجوههم الشمس معهم كفن من أكفان الجنة ، وحنوط من حنوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه ، فيقول : أيتها النفس المطمئنة اخرجي إلى مغفرةٍ من الله ورضوان - قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطر في السقاء ، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها ، فيجعلوها في ذلك الكفن ، وفي ذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الطيبة؟ فيقولون : فلان بن فلان بأحسن أسمائه التي كانوا يسمونه بها في الدنيا ، حتى ينتهوا به إلى السماء الدنيا ، فيستفتحون له فيفتح له ، فيشيعه من كل سماء مقربوها إلى السماء التي تليها حتى ينتهى بها إلى السماء السابعة ، فيقول الله عزَّ وجلَّ : اكتبوا كتاب عبدي في عليين ، وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى ، قال : فتعاد روحه ، فيأتيه ملكان يجلسان فيقولان له : من ربك؟ فيقول : ربي الله ، فيقولان له : ما دينك؟ فيقول : ديني الإسلام ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم؟ فيقول : هو رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فيقولون له : وما عملك؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدقت ، فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة ، وافتحو له باباً إلى الجنة ، فيأتيه من روحها وطيبها ، ويفسح له قبره مد البصر - قال : ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح ، فيقول : أبشر بالذي يسرك ، هذا يومك الذي كنت توعد فيقول له : من أنت فوجهك الوجه يجيء بالخير؟ فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقول : رب أقم الساعة ، رب أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي .
قال : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة ، نزل إليه من السماء ملائكة سود الوجوه معهم المسوح ، فيجلسون منه مد البصر ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب ، قال : فتفرق في جسده ، فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول ، فيأخذها ، فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين ، حتى يجعلوها في تلك المسوح ، ويخرج منها كأنتن ريح رجيفة وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها ، فلا يمرون بها على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الخبيثة؟ فيقولون : فلان بن فلان ، بأقبح أسمائه التي كان يسمى بها في الدنيا ، حتى ينتهى بها إلى السماء الدنيا ، فيستفتح فلا يفتح له - ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السمآء وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط } فيقول الله عزَّ وجل : اكتبوا كتابه في سجين في الأرض السفلى ، فتطرح روحه طرحاً - ثم قرأ : { حُنَفَآءَ للَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَمَن يُشْرِكْ بالله فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السمآء فَتَخْطَفُهُ الطير أَوْ تَهْوِي بِهِ الريح فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ } [ الحج : 31 ] ، فتعاد روحه في جسده ، ويأتيه ملكان فيجلسانه ، فيقولان له : من ربك؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيقولان : ما دينك؟ هاه هاه لا أدري ، فيقولان : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ، فيقول هاه هاه لا أدري ، فينادي مناد من السماء أن كذب عبدي ، فأفرشوه من النار ، وافتحو له باباً إلى النار ، فيأتيه من حرها وسمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه ، قبيح الثياب ، منتن الريح فيقول : أبشر بالذي يسوؤك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : من أنت فوجهك الوجه يجيء بالشر؟ فيقول : أنا عملك الخبيث ، فيقول : رب لا تقم الساعة « .
(1/849)
وفي الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الميت تحضره الملائكة فإذا كان الرجل الصالح قالوا : اخرجي أيتها النفس المطمئنة كانت في الجسد الطيب ، اخرجي حميدة ، وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان ، فيقولون ذلك حتى يعرج بها إلى السماء ، فيستفتح لها فيقال : من هذا؟ فيقولون : فلان ، فيقال : مرحباً بالنفس الطيبة التي كانت في الجسد الطيب ، ادخلي حميدة وأبشري بروح وريحان ورب غير غضبان ، فيقال لها ذلك ، حتى ينتهى بها إلى السماء التي فيها الله عزَّ وجلَّ ، وإذا كان الرجل السوء قالوا : اخرجي أيتها النفس الخبيثة كانت في الجسد الخبيث اخرجي ذميمة وأبشري بحميم وغساق وآخر من شكله أزواج ، فيقولون ذلك حتى تخرج ، ثم يعرج بها إلى السماء فيستفتح لها فيقال : من هذا؟ فيقولون : فلان ، فيقولون : لا مرحباً بالنفس الخبيثة التي كانت في الجسد الخبيث ، ارجعي ذميمة ، فإنه لم يفتح لك أبواب السماء ، فترسل بين السماء والأرض ، فتصير إلى القبر » وقد قال ابن جريج : لا تفتح لأعمالهم ولا لأرواحهم ، وهذا فيه جمع بين القولين ، والله أعلم ، وقوله تعالى : { وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِي سَمِّ الخياط } هكذا قرأه الجمهور ، وفسروه بأنه البعير ، قال الحسن البصري : حتى يدخل البعير في خرق الإبرة . وقرأ ابن عباس : بضم الجيم وتشديد الميم : يعني الحبل الغليظ في خرق الإبرة . وهذا اختيار سعيد بن جبير ، وفي رواية أنه قرأ : حتى يلج الجمل ، يعني قلوس السفن وهي الحبال الغلاظ . وقوله : { لَهُمْ مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ } المراد : الفرش ، { وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ } اللحف ، وكذا قال الضحاك بن مزاحم والسدي { وكذلك نَجْزِي الظالمين } .
(1/850)
وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهَارُ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلَا أَنْ هَدَانَا اللَّهُ لَقَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)
لما ذكر تعالى حال الأشقياء عطف بذكر حال السعداء فقال : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي آمنت قلوبهم وعملوا الصالحات بجوارحهم ضد أولئك الذين كفروا بآيات الله واستكبروا عنها نبه تعالى على أن الإيمان والعمل به سهل لأنه تعالى قال : { لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } أي من حسد وبغض ، كما جاء في « صحيح البخاري » عن أبي سعيد الخدري قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا خلص المؤمنون من النار حبسوا على قنطرة بين الجنة والنار ، فاقتص لهم مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هذبوا ونقوا ، أذن لهم في دخول الجنة فوالذي نفسي بيده إن أحدهم بمنزلة في الجنة أدل منه بمسكنه كان في الدنيا » وقال السدي في الآية : إن أهل الجنة إذا سيقوا إلى الجنة وجدوا عند بابها شجرة ، في أصل ساقها عينان ، فشربوا من إحداهما ، فينزع ما في صدورهم من غل فهو الشراب الطهور ، واغتسلوا من الأخرى فجرت عليهم نضرة النعيم ، فلم يشعثوا ولم يشحبوا بعدها أبداً . وقال علي رضي الله عنه : إني لأرجو أن أكون أنا وعثمان وطلحة والزبير ن الذيؤن قال الله تعالى فيهم : { وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ } . وروى النسائي وابن مردويه عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل أهل الجنة يرى مقعده من النار فيقول : لولا أن الله هداني فيكون له شكراً ، وكل أهل النار يرى مقعده من الجنة فيقول : لو أن الله هداني فيكون له حسرة » ، ولهذا لما أورثوا مقاعد أهل النار من الجنة نودوا أن تلكم الجنة التي أورثتموها بما كنتم تعملون ، أي بسبب أعمالكم نالتكم الرحمة فدخلتم الجنة وتبوأتم منازلكم بحسب أعمالكم ، وإنما وجب الحمل على هذا الحمل لما ثبت في « الصحيحين » عنه صلى الله عليه وسلم : « واعلموا أن أحدكم لن يدخله عمله الجنة » ، قالوا : ولا أنت يا رسول الله؟ قال : « ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته منه وفضل » .
(1/851)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ مَا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قَالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالْآخِرَةِ كَافِرُونَ (45)
يخبر تعالى بما يخاطلب به أهل النار على التقريع والتوبيخ إذا استقروا في منازلهم { أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً } « أن » هاهنا مفسرة للقول المحذوف ، و « قد » للتحقيق ، أي قالوا لهم : قد وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً فهل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ قالوا : نعم كما أخبر تعالى في سورة الصافات عن الذي كان له قرين من الكفار ، { فاطلع فَرَآهُ فِي سَوَآءِ الجحيم * قَالَ تالله إِن كِدتَّ لَتُرْدِينِ * وَلَوْلاَ نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنتُ مِنَ المحضرين } [ الصافات : 55-57 ] أي ينكر عليه مقالته التي يقولها في الدنيا ويقرعه بما صار إليه من العذاب والنكال ، وكذلك تقرعهم الملائكة يقولون لهم : { هذه النار التي كُنتُم بِهَا تُكَذِّبُونَ * أَفَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنتُمْ لاَ تُبْصِرُونَ } وكذلك « قرع رسول الله صلى الله عليه وسلم قتلى القليب يوم بدر فنادى : » يا أبا جهل بن هشام ، ويا عتبة بن ربيعة ، ويا شيبة بن ربيعة - وسمى رؤوسهم - هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً . وقال عمر : يا رسول الله تخاطب قوماً قد جيّفوا؟ فقال : « والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يستطيعون أن يجيبوا » ، وقوله تعالى : { فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ } أي أعلم معلم ونادى مناد { أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } أي مستقرة عليهم ، ثم وصفهم بقوله : { الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي يصدون الناس عن اتباع سبيل الله وشرعه وما جاءت به الأنبياء ، ويبغون أن تكون السبيل معوجة غير مستقيمة حتى لا يتبعها أحد ، { وَهُمْ بالآخرة كَافِرُونَ } أي وهم بلقاء الله في الدار الآخرة كافرون أي جاحدون مكذبون بذلك لا يصدقونه ولا يؤمنون به ، فلهذا لا يبالون بما يأتون من منكر من القول والعمل لأنهم لا يخافون حساباً عليه ولا عقاباً ، فهم شر الناس أقوالاً وأعمالاً .
(1/852)
وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاءَ أَصْحَابِ النَّارِ قَالُوا رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)
لما ذكر تعالى مخاطبة أهل الجنة مع أهل النار ، نبه أن بين الجنة والنار حجاباً ، وهو الحاجز المانع من وصول أهل النار إلى الجنة ، قال ابن جرير : وهو السور الذي قال الله تعالى فيه : { فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ } [ الحديد : 13 ] وهو الأعراف الذي قال الله تعالى فيه : { وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ } ، ثم روى بإسناده عن السدي أنه قال في قوله تعالى : { وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ } هو السور وهو الأعراف ، وقال مجاهد : الأعراف حجاب بين الجنة والنار سور له باب . قال ابن جرير : والأعراف جمع عرف ، وكل مرتفع من الأرض عند العرب يسمى عرفاً ، وإنما قيل لعرف الديك عرفا لارتفاعه ، وعن ابن عباس : هو سور بين الجنة والنار ، وقال السدي : إنما سمي الأعراف أعرافاً لأن أصحابه يعرفون الناس ، واختلفت عبارات المفسرين في أصحاب الأعراف من هم؟ وكلها قريبة ترجع إلى معنى واحد ، وهو أنهم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم وقد جاء في حديث مرفوع رواه الحافظ ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عمن استوت حسناته وسيئاته ، فقال « أولئك أصحاب الأعراف لم يدخلوها وهم يطمعون » وقال ابن جرير عن حذيفة أنه سئل عن أصحاب الأعراف ، قال فقال : هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم ، فقعدت بهم سيئاتهم عن الجنة ، وخلفت بهم حسناتهم عن النار . قال : فوقفوا هناك على السور حتى يقضي الله فيهم .
وعن ابن مسعود قال : يحاسب الناس يوم القيامة ، فمن كانت حسناته أكثر من سيئاته بواحدة دخل الجنة ، ومن كانت سيئاته أكثر من حسناته بواحدة دخل النار ، ثم قرأ قول الله : { فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ } [ الأعراف : 8 ] الآيتين : ثم قال : الميزان يخف بمثقال حبة ، ويرجح ، قال : ومن استوت حسناته وسيئاته كان من أصحاب الأعراف فوقفوا على الصراط ثم عرفوا أهل الجنة وأهل النار فإذا نظروا إلى أهل الجنة نادوا : سلام عليكم ، وإذا صرفوا أبصارهم إلى يسارهم ونظروا أهل النار { قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين } تعوذوا بالله من منازلهم ، قال : فأما أصحاب الحسنات فإنهم يعطون نوراً يمشون به بين أيديهم وبأيمانهم ، ويعطى كل عبد يومئذ نوراً ، وكل أمة نوراً فإذا أتوا على الصراط سلب الله نور كل منافق ومنافقة ، فلما رأى أهل الجنة ما لقي المنافقون قالوا : { رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا } [ التحريم : 8 ] ، وأما أصحاب الأعراف فإن النور كان بأيديهم فلم ينزع ، فهنالك يقول الله تعالى : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } فكان الطمع دخولاً ، قال : فقال ابن مسعود إن العبد إذا عمل حسنة كتب له بها عشر ، وإذا عمل سيئة لم تكتب إلا واحدة ، ثم يقول : هلك من غلبت آحاده عشراته ، وسئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف؟ قال :
(1/853)
« هم آخر من يفصل بينهم من العباد ، فإذا فرغ رب العالمين من الفصل بين العباد ، قال : أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار ، ولم تدخلوا الجنة ، فأنت عتقائي ، فارعوا من الجنة حيث شئتم » .
وقد حكى القرطبي وغيره فيهم اثني عشر قولاً ، وقوله تعالى : { يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ } ، قال ابن عباس : يعرفون أهل الجنة ببياض الوجوه ، وأهل النار بسواد الوجوه ، وقال العوفي عن ابن عباس : أنزلهم الله بتلك المنزلة ليعرفوا من في الجنة والنار ، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه ، ويتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين ، وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام لم يدخلوها وهم يطمعون أن يدخلوها ، وهم داخلوها إن شاء الله ، وقال الحسن : إنه تلا هذه الآية : { لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ } قال : والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم ، وقال قتادة : قد أنبأكم الله بمكانهم من الطمع ، وقوله : { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النار قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين } . قال الضحاك عن ابن عباس : إن أصحاب الأعراف إذا نظروا إلى أهل النار وعرفوهم قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين . وقال السدي : وإذا مروا بهم يعني أصحاب الأعراف بزمرة يذهب بها إلى النار قالوا : ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين . وقال عكرمة : تحدد وجوههم للنار ، فإذا رأوا أصحاب الجنة ذهب ذلك عنهم ، وقال ابن أسلم في قوله : { وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَآءَ أَصْحَابِ النار } فرأوا وجوههم مسودة وأعينهم مزرقة { قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين } .
(1/854)
وَنَادَى أَصْحَابُ الْأَعْرَافِ رِجَالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُوا مَا أَغْنَى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلَاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لَا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)
يقول الله تعالى إخباراً عن تقريع أهل الأعراف لرجال من صناديد المشركين وقادتهم يعرفونهم في النار بسيماهم { مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ } أي كثرتكم ، { وَمَا كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ } أي لا ينفعكم كثرتكم ولا جموعكم من عذاب الله بل صرتم إلى ما أنتم فيه من العذاب والنكال ، { أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ } ، قال ابن عباس : يعني أصحاب الأعراف { ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } ، وقال ابن جرير عن ابن عباس { قَالُواْ مَآ أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ } الآية ، قال : فلما قالوا لهم الذي قضى الله أن يقولوا يعني أصحاب الأعراف لأهل الجنة وأهل النار ، قال الله لأهل التكبر والأموال : { أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ } .
(1/855)
وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنَا مِنَ الْمَاءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْوًا وَلَعِبًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنْسَاهُمْ كَمَا نَسُوا لِقَاءَ يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُوا بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51)
يخبر تعالى عن ذلة أهل النار وسؤالهم أهل الجنة من شرابهم وطعامهم وأنهم لا يجابون إلى ذلك ، قال السدي : { أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ المآء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ الله } يعني الطعام ، وقال ابن أسلم : يستطعمونهم ويستسقونهم ، وقال سعيد بن جبير : ينادي الرجل أباه أو أخاه فيقول له : قد احترقت ، فأفض عليَّ من الماء ، فيقال لهم أجيبوهم ، فيقولون : { إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين } ، قال ابن أسلم { إِنَّ الله حَرَّمَهُمَا عَلَى الكافرين } : يعني طعام الجنة وشرابها ، وسئل ابن عباس أي الصدقة أفضل؟ فقال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أفضل الصدقة الماء ، ألم تسمع إلى أهل النار لما استغاثوا بأهل الجنة ، قالوا : أفيضوا علينا من الماء أو مما رزقكم الله » ؟ ثم وصف تعالى الكافرين بما كانوا يعتمدونه في الدنيا باتخاذهم الدين لهواً ولعباً ، واغترارهم بالدنيا وزينتها وزخرفها عما أمروا به من العمل للآخرة ، وقوله : { فاليوم نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَآءَ يَوْمِهِمْ هذا } أي يعاملهم معاملة من نسيهم ، لأنه تعالى لا يشذ عن علمه شيء ولا ينساه كما قال تعالى : { لاَّ يَضِلُّ رَبِّي وَلاَ يَنسَى } [ طه : 52 ] ، وإنما قال تعالى هذا من باب المقابلة كقوله : { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] . وقال : { كذلك أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا وكذلك اليوم تنسى } [ طه : 126 ] ، وقال تعالى : { وَقِيلَ اليوم نَنسَاكُمْ كَمَا نَسِيتُمْ لِقَآءَ يَوْمِكُمْ هذا } [ الجاثية : 34 ] ، وقال ابن عباس : نسيهم الله من الخير ولم ينسهم من الشر ، وعنه : نتركهم كما تركوا لقاء يومهم هذا ، وقال مجاهد : نتركهم في النار ، وقال السدي : نتركهم من الرحمة كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا ، وفي الصحيح أن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : ألم أزوجك؟ ألم أكرمك؟ ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ فيقول : بلى ، أظننت أنك ملاقيَّ؟ فيقول : لا ، فيقول الله تعالى : فاليوم أنساك كما نسيتني .
(1/856)
وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنَا مِنْ شُفَعَاءَ فَيَشْفَعُوا لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (53)
يقول تعالى مخبراً عن إعذاره إلى المشركين بإرسال الرسل إليهم بالكتاب الذي جاء به الرسول ، وأنه كتاب مفصل مبين كقوله : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ } [ هود : 1 ] الآية ، وقوله : { فَصَّلْنَاهُ على عِلْمٍ } للعالمين ، أي على علم منا بما فصلناه به كقوله : { أَنزَلَهُ بِعِلْمِهِ } [ النساء : 166 ] ، ولما أخبر بما صاروا إليه من الخسارة في الآخرة ، ذكر أنه قد أزاح عللهم في الدنيا بإرسال الرسل وإنزال الكتب كقوله : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، ولهذا قال : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ } أي ما وعدوا به من العذاب والنكال والجنة والنار ، قاله مجاهد وغير واحد ، وقال مالك : ثوابه ، وقال الربيع : لا يزال يجيء من تأويله أمر حتى يتم يوم الحساب ، حتى يدخل أهل الجنة الجنة ، وأهل النار النار ، فيتم تأويله يومئذ ، قوله : { يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } أي يوم القيامة ، { يَقُولُ الذين نَسُوهُ مِن قَبْلُ } أي تركوا العمل به وتناسوه في الدار الدنيا { قَدْ جَآءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بالحق فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَآءَ فَيَشْفَعُواْ لَنَآ } أي في خلاصنا مما صرنا إليه مما نحن فيه { أَوْ نُرَدُّ } إلى الدار الدنيا { فَنَعْمَلَ غَيْرَ الذي كُنَّا نَعْمَلُ } ، كقوله : { وَلَوْ ترى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النار فَقَالُواْ ياليتنا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ المؤمنين * بَلْ بَدَا لَهُمْ مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ } [ الأنعام : 27-28 ] كما قال ها هنا : { قَدْ خسروا أَنْفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها ، { وَضَلَّ عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي ذهب عنهم ما كانوا يعبدون من دون الله فلا يشفعون فيهم ولا ينصرونهم ولا ينقذونهم مما هم فيه .
(1/857)
إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54)
يخبر تعالى أنه خالق العالم؛ سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام ، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن ، واختلفوا في هذه الأيام هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو المتبادر إلى الأذهان؟ أو كل يوم كألف سنة كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل؟ فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق لأنه اليوم السابع ، ومنه سمي السبت ، وهو القطع . وأما قوله تعالى : { ثُمَّ استوى عَلَى العرش } فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جداً ، ليس هذا موضع بسطها ، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح وهو إمرارها ، كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشبهين منفي عن الله ، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه و { لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السميع البصير } [ الشورى : 11 ] ، بل الأمر كما قال ( نعيم بن حماد الخزاعي ) شيخ البخاري قال : من شبَّه الله بخلقه كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة على الوجه الذي يليق بجلال الله ، ونفى عن الله تعالى النقائض؛ فقد سلك سبيل الهدى . وقوله تعالى : { يُغْشِي اليل النهار يَطْلُبُهُ حَثِيثاً } أي يذهب ظلام هذا بضياء هذا ، وضياء هذا بظلام هذا ، وكل منهما يطلب الآخر حثيثاً أي سريعاً لا يتأخر عنه ، بل إذا ذهب هذا جاء هذا وعكسه ، كقوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ اليل نَسْلَخُ مِنْهُ النهار فَإِذَا هُم مُّظْلِمُونَ } [ يس : 37 ] ، إلى قوله : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] ، فقوله { وَلاَ اليل سَابِقُ النهار } أي لا يفوته بوقت يتأخر عنه بل هو في أثره بلا واسطة بينهما ، ولهذا قال : { يَطْلُبُهُ حَثِيثاً والشمس والقمر والنجوم مُسَخَّرَاتٍ } أي الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته ولهذا قال منبهاً : { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر } أي له الملك والتصرف { تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } ، كقوله : { تَبَارَكَ الذي جَعَلَ فِي السمآء بُرُوجاً } [ الفرقان : 61 ] الآية ، وفي الحديث : « من لم يحمد الله على ما عمل من عمل صالح وحمد نفسه ، فقد كفر وحبط عمله ، ومن زعم أن الله جعل للعباد من الأمر شيئاً فقد كفر بما أنزل الله على أنبيائه » ، لقوله : { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر تَبَارَكَ الله رَبُّ العالمين } ، وفي الدعاء المأثور عن أبي الدرداء وروي مرفوعاً : « اللهم لك الملك كله ، ولك الحمد كله ، وإليك يرجع الأمر كله ، أسألك من الخير كله ، وأعوذ بك من الشر كله » .
(1/858)
ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)
أرشد تبارك وتعالى عباده إلى دعائه الذي هو صلاحهم في دنياهم وأخراهم ، فقال : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } ، قيل معناه : تذللاً واستكانة وخيفة ، كقوله : { واذكر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ } [ الأعراف : 205 ] الآية ، وفي « الصحيحين » عن أبي موسى الأشعري قال : رفع الناس أصواتهم بالدعاء ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً ، إن الذي تدعون سميع قريب » الحديث ، وقال ابن عباس في قوله : تضرعاً وخفية قال السر ، وقال ابن جرير : { تَضَرُّعاً } تذللاً واستكانة لطاعته { وَخُفْيَةً } يقول : بخشوع قلوبكم وصحة اليقين بوحدانيته وربوبيته فيما بينكم وبينه ، لا جهاراً مراءاة : وقال الحسن البصري : إن كان الرجل لقد جمع القرآن وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل لقد فقه الفقه الكثير وما يشعر به الناس ، وإن كان الرجل ليصلي الصلاة الطويلة في بيته وعنده الزوّر وما يشعرون به ، ولقد أدركنا أقواماً ما كان على الأرض من عمل يقدرون أن يعملوه في السر ، فيكون علانية أبداً ، ولقد كان المسلمون يجتهدون في الدعاء وما يسمع لهم صوت ، إن كان إلا همساً بينهم وبين ربهم ، وذلك أن الله تعالى يقول : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً } ، وذلك أن الله ذكر عبداً صالحاً رضي فعله فقال : { إِذْ نادى رَبَّهُ نِدَآءً خَفِيّاً } [ مريم : 3 ] ، وقال ابن جريج : يكره رفع الصوت والنداء والصياح في الدعاء ، ويأمر بالتضرع والاستكانة ، { إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ المعتدين } في الدعاء ولا في غيره .
وقال الإمام أحمد أن سعداً سمع ابناً له يدعو وهو يقول : اللهم إني أسألك الجنة ونعيمها واستبرقها ، ونحواً من هذا ، وأعوذ بك من النار وسلاسلها وأغلالها ، فقال : لقد سألت الله خيراً كثيراً ، وتعوذت به من شر كثير ، وإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « إنه سيكون قوم يعتدون في الدعاء ، و قرأ هذه الآية : { ادعوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً } الآية - وإن بحسبك أن تقول : اللهم أني أسألك القصر الأبيض عن يمين الجنة إذا دخلتها ، فقال : يا بني سل الله الجنة وعُذْ به من النار ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » يكون قوم يعتدون في الدعاء والطهور « ، وقوله تعالى : { وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض بَعْدَ إِصْلاَحِهَا } ينهى تعالى عن الإفساد في الأرض ، وما أضره بعد الإصلاح! فإنه إذا كانت الأمور ماشية على السداد ، ثم وقع الإفساد بعد ذلك كان أضر ما يكون على العباد ، فنهى تعالى عن ذلك وأمر بعبادته ودعائه والتضرع إليه والتذلل لديه ، فقال : { وادعوه خَوْفاً وَطَمَعاً } أي خوفاً مما عنده من وبيل العقاب وطمعاً فيما عنده من جبريل الثواب ، ثم قال : { إِنَّ رَحْمَتَ الله قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين } أي إن رحمته مرصدة للمحسنين الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره ، كما قال تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } [ الأعراف : 156 ] الآية ، وقال : { قَرِيبٌ } ولم يقل : ( قريبة ) لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب ، أو لأنها مضاقة إلى الله ، فلهذا قال : { قَرِيبٌ مِّنَ المحسنين } . وقال مطر الوراق : استنجزوا موعود الله بطاعته ، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين .
(1/859)
وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)
لما ذكر تعالى أنه خالق السماوات والأرض وأنه المتصرف الحاكم المدبر المسخر وأرشد إلى دعائه لأنه على ما يشاء قادر نبه تعالى على أنه الرازق وأنه يعيد الموتى يوم القيامة فقال : { وَهُوَ الذي يُرْسِلُ الرياح بُشْراً } أي مبشرة بين يدي السحاب الحامل للمطر ، ومنهم من قرأ بشراً ، كقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن يُرْسِلَ الرياح مُبَشِّرَاتٍ } [ الروم : 46 ] ، وقوله : { بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ } أي بين يدي المطر ، كما قال : { وَهُوَ الذي يُنَزِّلُ الغيث مِن بَعْدِ مَا قَنَطُواْ وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الولي الحميد } [ الشورى : 28 ] ، وقال : { فانظر إلى آثَارِ رَحْمَتِ الله كَيْفَ يُحْيِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَآ إِنَّ ذَلِكَ لَمُحْيِ الموتى وَهُوَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ الروم : 50 ] ، وقوله : { حتى إِذَآ أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً } أي حملت الرياح سحاباً ثقالاً أي من كثرة ما فيها من الماء تكون ثقيلة قريبة من الأرض مدلهمة ، كما قال زيد بن عمرو بن نفيل رحمه الله :
وأسلمت وجهي لمن أسلمت ... له المزن تحمل عذباً زلالا
وقوله تعالى : { سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ } أي إلى أرض ميتة مجدبة لا نبات فيها ، كقوله : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا } [ يس : 33 ] الآية ، ولهذا قال : { فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثمرات كذلك نُخْرِجُ الموتى } أي كما أحيينا هذه الأرض بعد موتها ، كذلك نحيي الأجساد بعد صيرورتها رميماً يوم القيامة ، ينزل الله سبحانه وتعالى ماء من السماء فتمطر الأرض أربعين يوماً ، فتنبت منه الأجساد في قبورها كما ينبت الحب في الأرض ، وهذا المعنى كثير في القرآن ، يضرب الله مثلاً ليوم القيامة بإحياء الأرض بعد موتها ، ولهذا قال : { لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ } ، وقوله : { والبلد الطيب يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ } أي والأرض الطيبة يخرج نباتها سريعاً حسناً كقوله : { وَأَنبَتَهَا نَبَاتاً حَسَناً } [ آل عمران : 37 ] ، { والذي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً } ، قال مجاهد وغيره : كالسباخ ونحوها ، وقال ابن عباس في الآية : هذا مثل ضربة الله للمؤمن والكافر ، وقال البخاري عن أبي موسى الأشعري قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مثل ما بعثني الله به من العلم والهدى كمثل الغيث الكثير أصاب أرضاً ، فكانت منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير ، وكانت منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا وزرعوا ، وأصاب منها طائفة أخرى ، إنما قيعان لا تمسك ماء ، ولا تنبت كلأ ، فذلك مثل من فقه في دين الله ، ونفعه ما بعثني الله به فعلم وعلم ، ومثل من لم يرفع بذلك رأساً ولم يقبل هدى الله الذي أرسلت به » .
(1/860)
لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلَالَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنْصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (62)
لما ذكر تعالى قصة آدم في أول السورة وما يتعلق بذلك وما يتصل به وفرغ منه ، شرع تعالى في ذكر قصص الأنبياء عليهم السلام : الأول ، فالأول ، فابتدأ بذكر نوح عليه السلام ، فإنه أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض بعد آدم عليه السلام . قال محمد بن إسحاق : ولم يلق نبي من قومه من الأذى مثل نوح إلا نبي قتل ، وقال يزيد الرقاشي : إنما سمي نوحاً لكثرة ما ناح على نفسه ، وقد كان بين آدم إلى زمن نوح عليهما السلام عشرة قرون كلهم على الإسلام . قال ابن عباس وغير واحد من علماء التفسير : وكان أول ما عبدت الأصنام أن قوماً صالحين ، ماتوا فبنى قومهم عليهم مساجد ، وصوروا صور أولئك فيها ، ليتذكروا حالهم وعبادتهم ، فيتشبهوا بهم ، فلما طال الزمان جعلوا أجساداً على تلك الصور ، فلما تمادى الزمان عبدوا تلك الأصنام ، وسموها بأسماء أولئك الصالحين ( وداً وسواعاً ويغوث ويعوق ونسراً ) ، فلما تفاقم الأمر بعث الله سبحانه وتعالى - وله الحمد والمنة - رسوله نوحاً ، فأمرهم بعبادة الله وحده لا شريك له فقال : { يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ إني أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } أي من عذاب يوم القيامة إذا لقيتم الله وأنتم مشركون به . { قَالَ الملأ مِن قَوْمِهِ } أي الجمهور والسادة والقادة والكبراء منهم : { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ } أي في دعوتك إيانا إلى ترك عبادة هذه الأصنام التي وجدنا عليها آباءنا ، وهكذا حال الفجار إنما يرون الأبرار في ضلالة كقوله : { وَإِذَا رَأَوْهُمْ قالوا إِنَّ هؤلاء لَضَالُّونَ } [ المطففين : 32 ] ، { وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُواْ بِهِ فَسَيَقُولُونَ هاذآ إِفْكٌ قَدِيمٌ } [ الأحقاف : 11 ] إلى غير ذلك من الآيات ، { قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } أي ما أنا ضال ولكن أنا رسول من رب كل شيء ومليكه ، { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ، وهذا شأن الرسول أن يكون مبلغاً فصيحاً ناصحاً عالماً بالله لا يدركه أحد من خلق الله في هذه الصفات ، كما جاء في « صحيح مسلم » « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوم عرفة : » أيها الناس إنكم مسؤولون عني ، فما أنتم قائلون «؟ قالوا : نشهد أنك قد بلغت وأديت ونصحت ، فجعل يرفع أصبعه إلى السماء وينكسها عليهم ويقول : » اللهم اشهد ، اللهم اشهد « .
(1/861)
أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُوا وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا عَمِينَ (64)
يقول تعالى إخباراً عن نوح أنه قال لقومه : { أَوَ عَجِبْتُمْ } الآية ، أي لا تعجبوا من هذا ، فإن هذا ليس بعجب أن يوحي الله إلى رجل منكم رحمة بكم ولطفاً وإحساناً إليكم لينذركم ، ولتتقوا نقمة الله ، ولا تشركوا به { وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ، قال الله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ } أي تمادوا على تكذيبه ومخالفته ، وما آمن معه منهم إلا قليل كما نص عليه في موضع آخر ، { فَأَنجَيْنَاهُ والذين مَعَهُ فِي الفلك } أي السفينة ، كما قال : { فأَنْجَيْناهُ وأَصْحَابَ السفينة } [ العنكبوت : 15 ] ، { وَأَغْرَقْنَا الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ } ، كما قال : { مِّمَّا خطيائاتهم أُغْرِقُواْ فَأُدْخِلُواْ نَاراً فَلَمْ يَجِدُواْ لَهُمْ مِّن دُونِ الله أَنصَاراً } [ نوح : 25 ] ، وقوله : { إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِين } أي عن الحق لا يبصرونه ولا يهتدون له ، فبيّن تعالى في هذه القصة أنه انتقم لأوليائه من أعدائه وأنجى رسوله والمؤمنين ، وأهلك أعداءهم من الكافرين ، كقوله : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا } [ غافر : 51 ] الآية ، وهذه سنّة الله في عباده في الدنيا والآخرة ، أن العاقبة فيها للمتقين والظفر والغلب لهم ، كما أهلك قوم نوح بالغرق ونجى نوحاً وأصحابه المؤمنين ، وكان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل ، وقال ابن أسلم : ما عذب الله قوم نوح إلا والأرض ملأى بهم ، وليس بقعة من الأرض إلا ولها مالك وحائز . وقال ابن وهب : بلغني عن ابن عباس أنه نجي مع نوح في السفينة ثمانون رجلاً أحدهم جرهم ، وكان لسانه عربياً .
(1/862)
وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُودًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلَا تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وَإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَأَنَا لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَنْ جَاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)
يقول تعالى : وكما أرسلنا إلى قوم نوح نوحاً كذلك أرسلنا إلى عاد أخاهم هوداً ، وهؤلاء لهم عاد الأولى الذين ذكرهم الله ، وهم أولاد عاد بن إرم الذين كانوا يأوون إلى العمد في البر ، كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ * إِرَمَ ذَاتِ العماد * التي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي البلاد } [ الفجر : 6-8 ] وذلك لشدة بأسهم وقوتهم ، كما قال تعالى : { فَأَمَّا عَادٌ فاستكبروا فِي الأرض بِغَيْرِ الحق وَقَالُواْ مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً } [ فصلت : 15 ] ؟ وقد كانت مساكنهم باليمن بالأحقاف ، فإن هوداً عليه السلام دفن هناك ، وقد كان من أشرف قومه نسباً ، لأن الرسل إنما يبعثهم الله من أفضل القبائل وأشرفهم ، ولكن كان قومه كما شدد خلقهم شديد على قلوبهم ، وكانوا من أشد الأمم تكذيباً للحق ، ولهذا دعاهم هود عليه السلام إلى عبادة الله وحده لا شريك له وإلى طاعته وتقواه ، { قَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ } - والملأ هو الجمهور والسادة والقادة منهم - { إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الكاذبين } أي في ضلالة حيث تدعونا إلى ترك عبادة الأصنام والإقبال على عبادة الله وحده ، كما تعجب الملأ من قريش من الدعوة إلى إله واحد فقالوا : { أَجَعَلَ الآلهة إلها وَاحِداً } [ ص : 5 ] ؟ الآية ، { قَالَ يَاقَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } أي لست كما تزعمون ، بل جئتكم بالحق من اللهالذي خلق كل شيء فهو رب كل شيء ومليكه ، { أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ } ، وهذه الصفات التي يتصف بها الرسل البلاغ والنصح والأمانة ، { أَوَ عَجِبْتُمْ أَن جَآءَكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ على رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ } أي لا تعجبوا أن بعث الله إليكم رسولاً من أنفسكم لينذركم أيام الله ولقاءه ، بل احمدوا الله على ذاكم ، { واذكروا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَآءَ مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ } ، أي واذكروا نعمة الله عليكم في جعلكم من ذرية نوح الذي أهلك الله أهل الأرض بدعوته لما خالفوه وكذبوه ، { وَزَادَكُمْ فِي الخلق بَصْطَةً } أي زاد طولكم على الناس بسطة أي جعلكم أطول من أبناء جنسكم ، كقوله في قصة طالوت : { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم } [ البقرة : 247 ] { فاذكروا آلآءَ الله } أي نعمه ومننه عليكم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
(1/863)
وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَلَا تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِهَا قُصُورًا وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتًا فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحًا مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُوا يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78)
قال علماء التفسير والنسب : ثمود بن عاثر بن إرم بن سام بن نوح ، أحياء من العرب العارية قبل إبراهيم الخليل عليه السلام ، وكانت ثمود بعد عاد ، ومساكنهم مشهورة بين الحجاز والشام إلى وادي القرى وما حوله ، وقد مر رسول الله صلى الله عليه وسلم على ديارهم ومساكنهم وهو ذاهب إلى تبوك في سنة تسع ، قال الإمام أحمد عن ابن عمر قال : « لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس على تبوك ، نزل بهم الحجر عند بيوت ثمود فاستقى الناس من الآبار التي كانت تشرب منها ثمود ، فعجنو منها ، ونصبوا لها القدور ، فأمرهم النبي صلى الله عليه وسلم فأهراقوا القدور ، وعلفوا العجين الإبل ، ثم ارتحل بهم حتى نزل بهم على البئر التي كانت تشرب منها الناقة ، ونهاهم أن يدخلوا على القوم الذين عذبوا ، وقال : » إني أخشى أن يصيبكم مثل ما أصابهم فلا تدخلوا عليهم « وقال أحمد أيضاً عن عبد الله بن عمر قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو بالحجر : » لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم أن يصيبكم مثل ما أصابهم « قوله تعالى : { وإلى ثَمُودَ } أي ولقد أرسلنا إلى قبيلة ثمود أخاهم صالحاً { قَالَ يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } ، فجميع الرسل يدعون إلى عبادة الله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] ، وقوله : { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هذه نَاقَةُ الله لَكُمْ آيَةً } ، أي قد جاءتكم حجة من الله على صدق ما جئتكم به ، وكانوا هم الذين سألوا صالحاً أن يأتيهم بآية ، واقترحوا عليه بأن تخرج لهم من صخرة صماء عينوها بأنفسهم ، وهي صخرة منفردة في ناحية الحجر يقال لها الكاتبة ، فطلبوا منه أن يخرج لهم منها ناقة عشراء تمخض ، فأخذ عليهم صالح العهود والمواثيق ، لئن أجابهم الله إلى طلبتهم ليؤمنن به وليتبعنه ، فلما أعطوه على ذلك عهودهم ومواثيقهم ، قام صالح عليه السلام إلى صلاته ودعا الله عزَّ وجلَّ ، فتحركت تلك الصخرة ، ثم انصدعت عن ناقة جوفاء وبراء ، يتحرك جنينها بين جنبيها ، كما سألوا ، فعند ذلك آمن رئيسهم ( جندع بن عمرو ) ومن كان معه على أمره ، وأقامت الناقة وفصيلها بعدما وضعته بين أظهرهم مدة تشرب من بئرها يوماً ، وتدعه لهم يوماً ، وكانوا يشربون لبنها يوم شربها ، يحتلبونها ، فيملأون ما شاءوا من أوعيتهم وأوانيهم ، كما قال في الآية الأخرة : { وَنَبِّئْهُمْ أَنَّ المآء قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ كُلُّ شِرْبٍ مُّحْتَضَرٌ } [ القمر : 28 ] ، وقال تعالى :
(1/864)
{ هذه نَاقَةٌ لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ } [ الشعراء : 155 ] ، وكانت تسرح في بعض تلك الأودية ترد من فج وتصدر من غيره ليسعها لأنها كانت تتضلع من الماء ، وكانت على ما ذكر خلقاً هائلاً ومنظراً رائعاً ، إذا مرت بأنعامهم نفرت منها ، فلما طال عليهم ذلك واشتد تكذيبهم لصالح النبي عليه السلام عزموا على قتلها ليستأثروا بالماء كل يوم ، فيقال : إنهم اتفقوا كلهم على قتلها قال قتادة : بلغني أن الذي قتلها طاف عليهم كلهم أنهم راضون بقتلها ، حتى على النساء في خدورهن وعلى الصبيان ، قلت : وهذا هو الظاهر لقوله تعالى : { فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنبِهِمْ فَسَوَّاهَا } [ الشمس : 14 ] ، وقال : { وَآتَيْنَا ثَمُودَ الناقة مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا } [ الإسراء : 59 ] ، وقال : { فَعَقَرُواْ الناقة } ، فأسند ذلك على مجموع القبيلة ، فدل على رضى جميعهم بذلك ، والله أعلم .
وذكر ابن جرير وغيره من علماء التفسير : أن سبب قتلها أن امرأة منهم يقال لها ( عنيزة ) وتكنى أم عثمان ، كانت عجوزاً كافرة ، وكانت أشد الناس عداوة لصالح عليه السلام ، وكانت لها بنات حسان ومال جزيل ، وكان زوجها ( ذؤاب بن عمرو ) أحد رؤساء ثمود ، وامرأة أخرى يقال لها ( صدقة ) ذات حسب ومال وجمال ، وكانت تحت رجل مسلم من ثمود ففارقته ، فكانتا تجعلان جعلاً لمن التزم لهما بقتل الناقة فدعت صدقة رجلاً يقال له : الحباب ، فعرضت عليه نفسها إن هو عقر الناقة ، فأبى عليها ، فدعت ابن عم لها يقال لها : ( مصدع بن المحيا ) فأجابها إلى ذلك ، ودعت عنيزة بنت غنم ( قدار بن سالف ) وكان رجلاً أحمر أزرق قصيراً يزعمون أنه كان ولد زانية ، وقالت له : أعطيك أي بناتي شئت على أن تعقر الناقة ، فعند ذلك انطلق ( قدار بن سالف ) و ( مصدع بن المحيا ) فاستغوبا غواة من ثمود ، فاتبعهما سبعة نفر ، فصاروا تسعة رهط ، وهم الذين قال فيهم الله تعالى : { وَكَانَ فِي المدينة تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الأرض وَلاَ يُصْلِحُونَ } [ النمل : 48 ] وكانوا رؤساء في قومهم ، فاستمالوا القبيلة الكافرة بكمالها ، فطاوعتهم على ذلك ، فانطلقوا فرصدوا الناقة حين صدرت عن الماء وقد كمن لها ( قدار بن سالف ) في أصل صخرة على طريقها ، وكمن لها مصدع في أصل أخرى ، فمرت على مصدع فرماها بسهم فانتظم به عضلة ساقها ، وخرجت بنت غنم عنيزة ، وأمرت ابنتها - وكانت من أحسن الناس وجهاً - فسفرت عن وجهها لقدار وزمرته ، وشد عليها قدار بالسيف فكشف عن عرقوبها ، فخرت ساقطة إلى الأرض ، ورغت رغاة واحدة تحذر سقبها ، ثم طعن في لبتها فنحرها ، وانطلق سقبها وهو فصيلها حتى أتى جبلاً منيعاً ، فصعد أعلى صخرة فيه ورغا .
فلما فعلوا ذلك وفرغوا من عقر الناقة وبلغ الخبر صالحاً عليه السلام جاءهم وهم مجتمعون ، فلما رأى الناقة بكى وقال : { تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ } [ هود : 65 ] الآية ، وكان قتلهم الناقة يوم الأربعاء ، فلما أمسى أولئك التسعة الرهط عزموا على قتل صالح ، وقالوا : إن كان صادقاً عجلناه قبلنا ، وإن كان كاذباً ألحقناه بناقته
(1/865)
{ قَالُواْ تَقَاسَمُواْ بالله لَنُبَيِّتَنَّهُ وَأَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ مَا شَهِدْنَا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ } [ النمل : 49 ] ، فلما عزموا على ذلك وتواطأوا عليه وجاؤوا من الليل ليفتكوا بنبي الله ، فأرسل الله سبحانه وتعالى - وله العزة ولرسوله - عليهم حجارة فرضختهم سلفاً وتعجيلاً قبل قومهم ، وأصبح ثمود يوم الخميس - وهو اليوم الأول من أيام النظرة - ووجوههم مصفرة ، كما وعدهم صالح عليه السلام ، وأصبحوا في اليوم الثاني من أيام التأجيل - وهو يوم الجمعة - ووجوههم محمرة ، وأصبحوا في اليوم الثالث من أيام المتاع - وهو يوم السبت - ووجوههم مسودة ، فلما أصبحوا من يوم الأحد ، وقد تحنطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه - عياذاً بالله من ذلك - لا يدرون ماذا يفعل بهم ، ولا كيف يأتيهم العذاب ، وأشرقت الشمس ، جاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم ، ففاضت الأرواح . وزهقت النفوس في ساعة واحدة . { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } أي صرعى لا أرواح فيهم ، ولم يفلت منهم أحد لا صغير ولا كبير ، لا ذكر ولا أنثى ، ولم يبق من ذرية ثمود أحد سوى صالح عليه السلام ومن تبعه رضي الله عنهم ، إلا أن رجلاً يقال له ( أبو رغال ) كان لما وقعت النقمة بقومه مقيماً إذ ذاك في الحرم فلم يصبه شيء ، فلما خرج في بعض الأيام إلى الحل جاءه حجر من السماء فقتله .
(1/866)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِنْ لَا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)
هذا تقريع من صالح عليه السلام لقومه لما أهلكهم الله بمخالفتهم إياه وتمردهم على الله ، وإبائهم عن قبول الحق ، وإعراضهم عن الهدى إلى العمى ، قال لهم صالح ذلك بعد هلاكهم تقريعاً وتوبيخاً وهم يسمعون ذلك ، كما ثبت في « الصحيحين » « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقف على القليب ، قليب بدر- فجعل يقول : » يا أبا جهل بن هشام ، يا عتبة بن ربيعة ، يا شيبة بن ربيعة ، ويا فلان بن فلان ، هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً « فقال له عمر : يا رسول الله ما تكلم من أقوام قد جيفوا! فقال : » والذي نفسي بيده ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يجيبون « وهكذا قال صالح عليه السلام لقومه : { لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } أي فلم تنتفعوا بذلك لأنكم لا تحبون الحق ولا تتبعون ناصحاً ، ولهذا قال : { وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ الناصحين } ، وقد ذكر بعض المفسرين أن كل نبي هلكت أمته كان يذهب فيقيم في الحرم - حرم مكة - والله أعلم . وقد قال الإمام أحمد عن ابن عباس قال : لما مر رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادي عسفان حين حج قال : » يا أبا بكر أي واد هذا؟ قال هذا وادي عسفان : قال : « لقد مر به هود وصالح عليهما السلام على بكرات خطمهن الليف ، أزرهم العباء ، وأرديتهم النمار ، يلبون يحجون البيت العتيق » .
(1/867)
وَلُوطًا إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّسَاءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81)
يقول تعالى ( و ) لقد أرسلنا { لُوطاً } أو تقديره ( و ) اذكر { وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ } ، ولوط هو ابن هاران بن آزر ، وهو ابن أخي إبراهيم الخليل عليهما السلام ، وكان قد آمن مع إبراهيم عليه السلام وهاجر معه إلى أرض الشام فبعثه الله إلى أهل سدوم ، وما حولها من القرى ، يدعوهم إلى الله عزَّ وجلَّ ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عما كانوا يرتكبونه من المآثم والمحارم والفواحش التي اخترعوها لم يسبقهم بها أحد من بني آدم ولا غيرهم ، وهو إتيان الذكور دون الإناث ، وهذا شيء لم يكن بنو آدم تعهده ولا تألفه ، ولا يخطر ببالهم ، حتى صنع ذلك أهل سدوم عليهم لعائن الله . قال عمرو بن دينار في قوله { مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين } قال : ما نزا ذكر على ذكر حتى كان يوم لوط؛ وقال الوليد بن عبد الملك : لولا أن الله عزَّ وجلَّ قص علينا خبر قوم لوط ، ما ظننت أن ذكراً يعلو ذكراً ، ولهذا قال لهم لوط عليه السلام : { أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين * إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرجال شَهْوَةً مِّن دُونِ النسآء } أي عدلتم عن النساء وما خلق لكم ربكم منهن إلى الرجال ، وهذا إسراف منكم وجهل ، لأنه وضع الشيء في غير محله ، ولهذا قال لهم في الآية الأخرى : { هَؤُلآءِ بَنَاتِي إِن كُنْتُمْ فَاعِلِينَ } [ الحجر : 71 ] فأرشدهم إلى نسائهم فاعتذروا إليه بأنهم لا يشتهونهن ، { قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ } [ هود : 79 ] أي لقد علمت أنه لا أرب لنا في النساء ولا إرادة وإنك لتعلم مرادنا من أضيافك ، وذكر المفسرون أن الرجال كانوا قد استغنى بعضهم ببعض ، وكذلك نساؤهم كن قد استغنين بعضهن ببعض أيضاً .
(1/868)
وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قَالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82)
أي ما أجابوا لوطاً إلا أن هموا بإخراجه ونفيه ومن معه من بين أظهرهم ، فأخرجه الله تعالى سالماً وأهلكهم في أرضهم صاغرين مهانينن ، وقوله تعالى : { إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ } ، قال قتادة : عابوهم بغير عيب . وقال مجاهد : إنهم أناس يتطهرون من أدبار الرجال وأدبار النساء ، وروي مثله عن ابن عباس أيضاً .
(1/869)
فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَطَرًا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)
يقول تعالى : فأنجينا لوطاً وأهله ولم يؤمن به أحد منهم سوى أهل بيته فقط ، كما قال تعالى : { فَأَخْرَجْنَا مَن كَانَ فِيهَا مِنَ المؤمنين * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِّنَ المسلمين } [ الذاريات : 35-36 ] إلا امرأته فإنها لم تؤمن به ، بل كانت على دين قومها تمالئهم عليه ، وتعلمهم بمن يقم عليه من ضيفانه بإشارات بينها وبينهم ، ولهذا لما أمر لوط عليه السلام ليسري بأهله أمر أن لا يعلمها ولا يخرجها من البلد ، ومنهم من يقول بل اتبعتهم ، فلما جاء العذاب التفتت هي ، فأصابها ما أصابهم ، والأظهر أنها لم تخرج من البلد ولا أعلمها لوط بل بقيت معهم ، ولهذا قال هاهنا : { إِلاَّ امرأته كَانَتْ مِنَ الغابرين } أي الباقين ، وقيل من الهالكين وهو تفسير باللازم ، وقوله : { وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ مَّطَراً } مفسر بقوله : { فَلَمَّا جَآءَ أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنْضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظالمين بِبَعِيدٍ } [ هود : 82-83 ] ، ولهذا قال : { فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المجرمين } أي انظر يا محمد كيف كان عاقبة من يجترئ على معاصي الله عزَّ وجلَّ ويكذب رسله ، وقد ذهب الإمام أبو حنيفة رحمه الله إلى اللائط يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة كما فعل بقوم لوط ، وذهب آخرون من العلماء إلى أنه يرجم سوء كان محصناً أو غير محصن ، وهو أحد قولي الشافعي رحمه الله ، والحجة ما رواه الإمام أحمد عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به » وقال آخرون : هو كالزاني فإن كان محصناً رجم ، وإن لم يكن محصناً جلداً مائة جلدة ، وهو القول الآخر للشافعي ، وأما إتيان النساء في الأدبار فهو اللوطية الصغرى ، وهو حرام بإجماع العلماء إلا قولاً شاذاً لبعض السلف .
(1/870)
وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْبًا قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ مَا لَكُمْ مِنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلَا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ وَلَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلَاحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85)
مدين تطلق على القبيلة وعلى المدينة ، وهي التي بقرب ( معان ) من طريق الحجاز ، قال الله تعالى : { وَلَمَّا وَرَدَ مَآءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِّنَ الناس يَسْقُونَ } [ القصص : 23 ] وهم أصحاب الأيكة كما سنذكره إن شاء الله وبه الثقة ، { يَاقَوْمِ اعبدوا الله مَا لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرُهُ } هذه دعوة الرسل كلهم ، { قَدْ جَآءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } ، أي قد أقام الله الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به ، ثم وعظهم في معاملتهم الناس بأن يوفوا المكيال والميزان ولا يبخسوا الناس أشياءهم ، أي لا يخونوا الناس في أموالهم ويأخذوها على وجه البخس ، وهو نقص المكيال والميزان خفية وتدليساً ، كما قال تعالى : { وَيْلٌ لِّلْمُطَفِّفِينَ } [ المطففين : 1 ] إلى قوله { لِرَبِّ العالمين } [ المطففين : 6 ] وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، نسأل الله العافية منه ، ثم قال تعالى إخباراً عن شعيب الذي يقال له ( خطيب الأنبياء ) لفصاحة عبارته وجزالة موعظته .
(1/871)
وَلَا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجًا وَاذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا فَكَثَّرَكُمْ وَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِنْ كَانَ طَائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87)
ينهاهم شعيب عليه السلام عن قطع الطريق الحسي والمعنوي بقوله : { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } أي تتوعدون الناس بالقتل يإن لم يعطوكم أموالهم ، قال السدي : كانوا عشارين ، وعن ابن عباس ومجاهد { وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ } : أي تتوعدون المؤمنين الآتين إلى شعيب ليتبعوه ، والأول أظهر ، لأنه قال : { بِكُلِّ صِرَاطٍ } وهو الطريق ، وهذا الثاني هو قوله : { وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً } أي وتودون أن تكون سبيل الله عوجاً مائلة ، { واذكروا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ } أي كنتم مستضعفين لقلتكم فصرتم أعزة لكثرة عددكم ، فاذكروا نعمة الله عليكم في ذلك ، { وانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين } أي من الأمم الخالية والقرون الماضية وما حل بهم من العذاب والنكال باجترائهم على معاصي الله وتكذيب رسله ، وقوله : { وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بالذي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ } أي قد اختلفتم علي { فاصبروا } أي انتظروا { حتى يَحْكُمَ الله بَيْنَنَا } وبينكم أي يفصل { وَهُوَ خَيْرُ الحاكمين } ، فإنه سيجعل العاقبة للمتقين ، والدمار على الكافرين .
(1/872)
قَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللَّهِ كَذِبًا إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَعُودَ فِيهَا إِلَّا أَنْ يَشَاءَ اللَّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْمًا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنْتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89)
هذا خبر من الله تعالى عما واجهت به الكفار نبيه شعيباً ومن معه من المؤمنين ، وتوعدهم إياه ومن معه بالنفي عن القرية أو الإكراه على الرجوع في ملتهم والدخول معهم فيما هم فيه ، وهذا خطاب مع الرسول؛ والمراد أتباعه الذين كانوا معه على الملة ، وقوله : { أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ } يقول : أو أنتم فاعلون ذلك ولو كنا كارهين ما تدعونا إليه ، فإنا إن رجعنا إلى ملتكم ودخلنا معكم فيما أنتم فيه فقد أعظمنا الفرية على الله ، في جعل الشركاء معه انداداً ، وهذا تنفير منه على اتباعهم { وَمَا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّعُودَ فِيهَآ إِلاَّ أَن يَشَآءَ الله رَبُّنَا } ، وهذا رد إلى الله مستقيم فإنه يعلم كل شيء وقد أحاط بكل شيء علماً ، { عَلَى الله تَوَكَّلْنَا } أي في أمورنا ما نأتي منها وما نذر ، { رَبَّنَا افتح بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بالحق } ، أي احكم بيننا وبين قومنا وانصرنا عليهم ، { وَأَنتَ خَيْرُ الفاتحين } أي خير الحاكمين ، فإنك العادل الذي لا يجور أبداً .
(1/873)
وَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْبًا إِنَّكُمْ إِذًا لَخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْبًا كَانُوا هُمُ الْخَاسِرِينَ (92)
يخبر تعالى عن شدة كفرهم وتمردهم وعتوهم وما هم فيه من الضلال ، وما جبلت عليه قلوبهم من المخالفة للحق ، ولهذا أقسموا وقالوا : { لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ } ، فلهذا عقبه بقوله : { فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ، أخبر تعالى هنا أنهم أخذتهم الرجفة ، وذلك كما أرجفوا شعيباً وأصحابه وتوعدوهم بالجلاء كما أخبر عنهم في سورة هود ، فقال : { وَقَالَ الملأ الذين كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتبعتم شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ * فَأَخَذَتْهُمُ الرجفة فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } ، والمناسبة هناك - والله أعلم - أنهم لم تهكموا به في قلوبهم { أصلاوتك تَأْمُرُكَ } [ هود : 87 ] ؟ الآية ، فجاءت الصيحة فأسكتتهم ، وقال تعالى إخباراً عنهم في سورة الشعراء { فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظلة إِنَّهُ كَانَ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ } [ الآية : 189 ] ، وما ذاك إلا لأنهم قالوا له في سياق القصة : { فَأَسْقِطْ عَلَيْنَا كِسَفاً مِّنَ السمآء } [ الشعراء : 187 ] الآية ، فأخبر أنه أصابهم عذاب يوم الظلة ، وقد اجتمع عليهم ذلك كله أصابهم عذاب يوم الظلة ، وهي سحابة أظلتهم ، فيها شرر من نار ولهب ووهج عظيم ، ثم جاءتهم صيحة من السماء ورجفة من الأرض شديدة من أسفل منهم ، فزهقت الأرواح ، وفاضت النفوس ، وخمدت الأجسام { فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ } . ثم قال تعالى : { كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا } أي كأنهم لما أصابتهم النقمة لم يقيموا بديارهم التي أرادوا إجلاء الرسول وصحبه منها . ثم قال تعالى مقابلاً لقيلهم : { الذين كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الخاسرين } .
(1/874)
فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَاتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93)
أي فتولى عنهم شعيب عليه السلام بعدما أصابهم ما أصابهم من العذاب والنقمة والنكال ، وقال مقرعاً لهم وموبخاً : { ياقوم لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ } أي قد أديت إليكم ما أرسلت به ، فلا آسف عليكم وقد كفرتم بما جئتكم به ، فلهذا قال : { فَكَيْفَ آسى على قَوْمٍ كَافِرِينَ } ؟ .
(1/875)
وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَقَالُوا قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضَّرَّاءُ وَالسَّرَّاءُ فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (95)
يقول تعالى مخبراً عما اختبر به الأمم الماضية الذين أرسل إليهم الأنبياء بالبأساء والضراء . يعني { بالبأسآء } ما يصيبهم في أبدانهم من أمراض وأسقام ، { والضرآء } ما يصيبهم من فقر وحاجة ونحو ذلك { لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ } أي يدعون ويخشعون ويبتهلون إلى الله تعالى في كشف ما نزل بهم ، وتقدير الكلام : أنه ابتلاهم بالشدة ليتضرعوا فما فعلوا شيئاً من الذي أراد منهم ، فقلب عليهم الحال إلى الرخاء ليختبرهم فيه ، ولهذا قال : { ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السيئة الحسنة } أي حولنا الحال من شدة إلى رخاء ، ومن مرض وسقم إلى صحة وعافية ، ومن فقر إلى غنى ، ليشكروا على ذلك فما فعلوا ، وقوله : { حتى عَفَوْاْ } أي كثروا وكثرت أموالهم وأولادهم ، يقال : عفا الشيء إذا كثر . { وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءَنَا الضرآء والسرآء فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } . يقول تعالى : ابتليناهم بهذا وهذا ليتضرعوا وينيبوا إلى الله فما نجع فيهم لا هذا ولا هذا ، ولا انتهوا بهذا ولا بهذا ، وقالوا : قد مسنا من البأساء والضراء ثم بعده من الرخاء مثل ما أصاب آباءنا في قديم الزمان والدهر ، وإنما هو الدهر تارات وتارات ، بل لم يتفطنوا لأمر الله فيهم ولا استشعروا ابتلاء الله لهم في الحالين ، وهذا بخلاف حال المؤمنين الذين يشكرون الله على السراء ويصبرون على الضراء كما ثبت في « الصحيحين » : « عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له ، إن أصابته ضراء صبر فكان خيراً له ، وإن أصابته سراء شكر فكان خيراً له » فالمؤمن من يتفطن لما ابتلاه الله به من الضراء والسراء ، ولهذا جاء في الحديث : « لا يزال البلاء بالمؤمن حتى يخرج نقياً من ذنوبه ، والمنافق مثله كمثل الحمار لا يدري فيم ربطه أهله ولا فيم أرسلوه » ، أو كما قال ، ولهذا عقب هذه الصفة بقوله : { فَأَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ } أي أخذناهم بالعقوبة بغتة ، أي على بغتة وعدم شعور منهم ، أي أخذناهم فجأة كما في الحديث : « موت الفجأة رحمة للمؤمن وأخذة أسف للكافر » .
(1/876)
وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتًا وَهُمْ نَائِمُونَ (97) أَوَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلَا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99)
يخبر تعالى عن قلة إيمان أهل القرى الذين أرسل فيهم الرسل ، كقوله تعالى : { فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَآ إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ } [ يونس : 98 ] أي ما آمنت قرية بتمامها إلا قوم يونس فإنهم آمنوا ، وذلك بعدما عاينوا العذاب ، كما قال تعالى : { فَآمَنُواْ فَمَتَّعْنَاهُمْ إلى حِينٍ } [ الصافات : 148 ] . وقال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ } [ سبأ : 34 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ القرى آمَنُواْ واتقوا } أي آمنت قلوبهم بما جاء به الرسل ، وصدقت به واتبعوه ، واتقوا بفعل الطاعات وترك المحرمات { لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِّنَ السمآء والأرض } ، أي قطر السماء ونبات الأرض ، وقال تعالى : { ولكن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } أي ولكن كذبوا رسلهم فعاقبناهم بالهلاك على ما كسبوا من المآثم والمحارم ، ثم قال تعالى مخوفاً ومحذراً من مخالفة أوامره والتجرؤ على زواجره { أَفَأَمِنَ أَهْلُ القرى } أي الكافرة ، { أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا } أي عذابنا ونكالنا ، { بَيَاتاً } أي ليلاً { وَهُمْ نَآئِمُونَ * أَوَ أَمِنَ أَهْلُ القرى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ } أي في حال شغلهم وغفلتهم ، { أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ الله } أي بأسه ونقمته وقدرته عليهم ، وأخذه إياهم في حال سهوهم وغفلتهم ، { فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ الله إِلاَّ القوم الخاسرون } ، ولهذا قال الحسن البصري رحمه الله : المؤمن يعمل بالطاعات وهو مشفق وجل خائف ، والفاجر يعمل بالمعاصي وهو آمن .
(1/877)
أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِهَا أَنْ لَوْ نَشَاءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (100)
قال ابن عباس المعنى : أولم يتبين لهم أن لو نشاء أصبناهم بذنوبهم ، وقال ابن جرير في تفسيرها : أو لم يتبين للذين يستخلفون في الأرض من بعد إهلاك آخرين قبلهم كانوا أهلها فساروا سيرتهم ، وعملوا أعمالهم ، وعتوا على ربهم { أَن لَّوْ نَشَآءُ أَصَبْنَاهُمْ بِذُنُوبِهِمْ } يقول : أن لو نشاء فعلنا بهم كما فعلنا بمن قبلهم ، { وَنَطْبَعُ على قُلُوبِهِمْ } يقول : ونختم على قلوبهم ، { فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ } موعظة ولا تذكيراً . وهكذا قال تعالى : { أَفَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّنَ القرون يَمْشُونَ فِي مَسَاكِنِهِمْ } [ طه : 128 ] ، وقال : { أَوَلَمْ تكونوا أَقْسَمْتُمْ مِّن قَبْلُ مَا لَكُمْ مِّن زَوَالٍ } [ إبراهيم : 44 ] ، وقال تعالى : { وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِّن قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِّنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً } [ مريم : 98 ] أي هل ترى لهم شخصاً أو تسمع لهم صوتاً؟ وقال تعالى : { وَلَقَدْ كَذَّبَ الذين مِن قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كَانَ نكِيرِ } [ الملك : 18 ] ؟ وقال تعالى : { فَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ فَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا وَبِئْرٍ مُّعَطَّلَةٍ وَقَصْرٍ مَّشِيدٍ } [ الحج : 45 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على حلول نقمه بأعدائه ، وحصول نعمه لأوليائه ، ولهذا عقب ذلك بقوله وهو أصدق القائلين .
(1/878)
تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَائِهَا وَلَقَدْ جَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا بِمَا كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَإِنْ وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102)
لما قص تعالى على نبيه صلى الله عليه وسلم خبر قوم نوح وهود وصالح ولوط وشعيب وما كان من إهلاكه الكافرين وإنجائه المؤمنين وأنه تعالى أعذر إليهم بأن بين لهم الحق بالحجج على ألسنة الرسل صلوات الله عليهم أجمعين ، قال تعالى : { تِلْكَ القرى نَقُصُّ عَلَيْكَ } أي يا محمد { مِنْ أَنبَآئِهَا } أي من أخبارها ، { وَلَقَدْ جَآءَتْهُمْ رُسُلُهُم بالبينات } أي الحجج على صدقهم فيما أخبروهم به ، كما قال تعالى : { وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حتى نَبْعَثَ رَسُولاً } [ الإسراء : 15 ] ، وقال تعالى : { ذَلِكَ مِنْ أَنْبَآءِ القرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ } [ هود : 100 ] ، وقوله تعالى : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } الباء سببية أي فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق أول ما ورد عليهم ، كقوله : { وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَآ إِذَا جَآءَتْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ الأنعام : 109 ] ، ولهذا قال هنا : { كَذَلِكَ يَطْبَعُ الله على قُلُوبِ الكافرين * وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم } أي لأكثرهم الأمم الماضية { مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَآ أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ } أي ولقد وجدنا أكثرهم فاسقين ، خارجين عن الطاعة والامتثال ، والعهد الذي أخذه هو ما جبلهم عليه وفطرهم عليه ، وأخذ عليهم في الأصلاب أنه ربهم ومليكهم ، فخالفوه وتركوه وراء ظهورهم ، وعبدوا مع الله غيره بلا دليل ولا حجة ، لا من عقل ولا شرع .
قال تعالى : { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ؟ وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل : 36 ] . إلى غير ذلك من الآيات ، وقد قيل في تفسير قوله تعالى : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } ، عن أبي بن كعب قال : كان في علمه تعالى يوم أقروا بالميثاق ، أي فما كانوا ليؤموا لعلهم الله منهم ذلك ، واختاره ابن جرير ، وقال السدي : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } قال : وذلك يوم أخذ منهم الميثاق فآمنوا كرهاً . وقال مجاهد في قوله : { فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ } ، هذا كقوله : { وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ } [ الأنعام : 28 ] الآية .
(1/879)
ثُمَّ بَعَثْنَا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُوا بِهَا فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103)
يقول تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم } أي الرسل المتقدم ذكرهم كنوح وهود وصالح ولوط وشعيب وصلوات الله وسلامه عليهم وعلى سائر أنبياء الله أجمعين ، { موسى بِآيَاتِنَآ } أي بحجتنا ودلائلنا البينة إلى فرعون - وهو ملك مصر في زمن موسى - { وَمَلَئِهِ } أي قومه ، { فَظَلَمُواْ بِهَا } أي جحدوا وكفروا بها ظلماً منهم وعناداً ، كقوله تعالى : { وَجَحَدُواْ بِهَا واستيقنتهآ أَنفُسُهُمْ ظُلْماً وَعُلُوّاً فانظر كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المفسدين } [ النمل : 14 ] أي الذين صدوا عن سبيل الله وكذبوا رسله ، أي انظر يا محمد كيف فعلنا بهم وأغرقناهم عن آخرهم بمرأى من موسى وقومه ، وهذا أبلغ في النكال بفرعون وقومه ، وأشفى لقلوب أولياء الله موسى وقومه من المؤمنين به .
(1/880)
وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لَا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106)
يخبر تعالى عن مناظرة موسى لفرعون وإلجامه إياه بالحجة ، وإظهاره لآيات البينات بحضرة فرعون وقومه من قبط مصر ، فقال تعالى : { وَقَالَ موسى يافرعون إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ العالمين } أي أرسلني الذي هو خالق كل شيء وربه ومليكه { حَقِيقٌ عَلَى أَنْ لاَّ أَقُولَ عَلَى الله إِلاَّ الحق } ، قال بعضهم : معناه حقيق بأن لا أقول على الله إلا الحق ، أي جدير بذلك وحري به ، قالوا : والباء وعلى يتعاقبان ، يقال : رميت بالقوس وعلى القوس ، وقال بعض المفسرين : معناه حريص على أن لا أقول على الله إلا الحق ، وقرأ آخرون من أهل المدينة : حقيق عليَّ ، بمعنى واجب وحق عليَّ ذلك ، أن لا أخبر عنه إلا بما هو حق وصدق ، لما أعلم من جلاله وعظيم شأنه ، { قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أي بحجة قاطعة من الله أعطانيها دليلاً على صدقي فيما جئتكم به ، { فَأَرْسِلْ مَعِيَ بني إِسْرَائِيلَ } أي أطلقهم من أسرك وقهرك ودعهم وعبادة ربهم ، فإنهم من سلالة نبي كريم ( إسرائيل ) وهو يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم خليل الرحمن ، { قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَآ إِن كُنتَ مِنَ الصادقين } أي قال فرعون : لست بمصدقك فيما قلت ، ولا بمعطيك فيما طلبت ، فإن كانت معك حجة فأظهرها لنراها إن كنت صادقاً فيما ادعيت .
(1/881)
فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108)
قال ابن عباس : { فألقى عَصَاهُ } فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها ، مسرعة إلى فرعون ، فلما رآها فرعون أنها قاصدة إليه اقتحم عن سريره ، واستغاث بموسى أن يكفها عنه ففعل ، وقال قتادة : تحولت حية عظيمة مثل المدينة ، وقال السدي في قوله { فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ } : الثعبان الذكر من الحيات ، فاتحة فاها ، ثم توجهت نحو فرعون لتأخذه ، فلما رآها ذعر منها ووثب وأحدث ، وصاح : يا موسى خذها وأنا أؤمن بك ، وأرسل معك بني إسرائيل ، فأخذها موسى عليه السلام فعادت عصا ، وقوله : { وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَآءُ لِلنَّاظِرِينَ } : أي أخرج يده من درعه بعدما أدخلها فيه ، فإذا هي بيضاء تتلألأ من غير برص ولا مرض ، كما قال تعالى : { وَأَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضَآءَ مِنْ غَيْرِ سواء } [ النمل : 12 ] الآية . وقال ابن عباس : { غَيْرِ سواء } [ النمل : 12 ] يعني من غير برص ، ثم أعادها إلى كمه ، فعادت إلى لونها الأول .
(1/882)
قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110)
أي قال الملأ وهم الجمهور والسادة من قوم فرعون موافقين لقول فرعون فيه بعدما رجع إليه روعه واستقر على سرير مملكته ، بعد ذلك قال الملأ حوله : { إِنَّ هذا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ } فوافقوه ، وقالوا كمقالته ، وتشاوروا في أمره كيف يصنعون في أمره ، وكيف تكون حيلتهم في إطفاء نوره ، وإخماد كلمته وظهور كذبه وافترائه ، وتخوفوا أن يستميل الناس بسحره فيما يعتقدون فيكون ذلك سبباً لظهوره عليهم ، وإخراجه إياهم من أرضهم ، والي خافوا منه وقعوا فيه كما قال تعالى { وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُمْ مَّا كَانُواْ يَحْذَرُونَ } [ القصص : 6 ] فلما تشاوروا في شأنه وائتمروا بما فيه اتفق رأيهم على ما حكاه الله تعالى عنهم في قوله تعالى : { قالوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ . . . . . } .
(1/883)
قَالُوا أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112)
قال ابن عباس : { أَرْجِهْ } أخره : وقال قتادة : احبسه { وَأَرْسِلْ } أي ابعث ، { فِي المدآئن } أي في الأقاليم ومدائن ملكك { حَاشِرِينَ } أي من يحشر لك السحرة من سائر البلاد ويجمعهم ، وقد كان السحر في زمانهم غالباً كثيراً ظاهراً ، واعتقد من اعتقد منهم ، وأوهم منهم أن ما جاء موسى به عليه السلام من قبيل ما تشعبذه سحرتهم ، فلهذا جمعوا له السحرة ليعارضوه بنظير ما أراهم من البينات ، كما أخبر تعالى عن فرعون حيث قال : { أَجِئْتَنَا لِتُخْرِجَنَا مِنْ أَرْضِنَا بِسِحْرِكَ ياموسى * فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِّثْلِهِ فاجعل بَيْنَنَا وَبَيْنَكَ مَوْعِداً لاَّ نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَلاَ أَنتَ مَكَاناً سُوًى } [ طه : 57-58 ] .
(1/884)
وَجَاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالُوا إِنَّ لَنَا لَأَجْرًا إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114)
يخبر تعالى عما تشارط عليه فرعون والسحرة الذين استدعاهم لمعارضة موسى عليه السلام ، إن غلبوا موسى ليثيبنهم وليعطينهم عطاء جزيلاً ، فوعدهم ومنّاهم أن يعطيهم ما أرادوا ويجعلهم من جلسائه والمقربين عنده ، فلما توثقوا من فرعون لعنه الله .
(1/885)
قَالُوا يَا مُوسَى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَإِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116)
هذه مبارزة من السحرة لموسى عليه السلام في قولهم : { إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ نَحْنُ الملقين } أي قبلك ، كما قال في الآية الأخرى : { إِمَّآ أَن تُلْقِيَ وَإِمَّآ أَن نَّكُونَ أَوَّلَ مَنْ ألقى } [ طه : 65 ] ، فقال لهم موسى عليه السلام : ألقوا أي أنتم أولاً ، قيل : الحكمة في هذا - والله أعلم - ليرى الناس صنيعهم ويتأملوه ، فإذا فرغوا من بهرجهم ، جاءهم الحق الواضح الجلي بعد التطلّب له والانتظار منهم لمجيئه ، فيكون أوقع في النفوس ، وكذا كان ، ولهذا قال تعالى : { فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم } أي خيلوا إلى الأبصار أن ما فعلوه له حقيقة في الخارج ، ولم يكن إلا مجرد صنعة وخيال ، كما قال تعالى : { فَإِذَا حِبَالُهُمْ وَعِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } [ طه : 66 ] . قال ابن عباس : ألقوا حبالاً غلاظاً وخشباً طوالاً قال : فأقبلت يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ، محمد بن إسحاق : ألقى كل رجل منهم ما في يده من الحبال والعصي : فإذا حيات كأمثال الجبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضاً . وقال السدي : كانوا بضعة وثلاثين ألف رجل ، ليس رجل منهم إلا ومعه حبل وعصا ، { فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم } يقول : فرقوهم أي من الفرق ، حتى جعل يخيل إليه من سحرهم أنها تسعى ، ولهذا قال تعالى : { وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } .
(1/886)
وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنَالِكَ وَانْقَلَبُوا صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُوا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنْقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنْقِمُ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءَتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) وَقَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَاصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُهَا مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُوا أُوذِينَا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنَا وَمِنْ بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُوا لَنَا هَذِهِ وَإِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسَى وَمَنْ مَعَهُ أَلَا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133)
يخبر تعالى أنه أوحى إلى عبده ورسوله موسى عليه السلام في ذلك الموقف العظيم الذي فرق الله تعالى فيه بين الحق والباطل ، يأمره بأن يلقي ما في يمينه وهي عصاه { فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ } أي تأكل { مَا يَأْفِكُونَ } أي ما يلقونه ويوهمون أنه حق وهو باطل ، قال ابن عباس : فجعلت لا تمر بشيء من حبالهم ولا من خشيهم إلا التقمته ، فعرفت السحرة أن هذا شيء من السماء ليس هذا بسحر ، فخروا سجداً ، وقالوا : { آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ } قال محمد بن إسحاق : جعلت تتبع تلك الحبال والعصي واحدة واحدة حتى لا يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا ، ثم أخذها موسى فإذا هي عصا في يده كما كانت ، ووقع السحرة سجداً ، قالوا : { آمَنَّا بِرَبِّ العالمين * رَبِّ موسى وَهَارُونَ } لو كان هذا ساحراً ما غلبنا . وقال القاسم بن أبي برة : أوحى الله إليه أن ألق عصاك ، فألقى عصاه فإذا هي ثعبان مبين فاغر فاه ، يبتلع حبالهم وعصيهم ، فألقي السحرة عند ذلك سجداً فما رفعوا رؤوسهم حتى رأو الجنة والنار وثواب أهلهما .
(1/887)
وَقَالُوا مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُفَصَّلَاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَكَانُوا قَوْمًا مُجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُوا يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُمْ بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنْكُثُونَ (135)
هذا إخبار من الله عزَّ وجلَّّ عن تمرد قوم فرعون وعتوهم ، وعنادهم للحق وإصرارهم على الباطل في قولهم : { مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ } ، يقولون : أي آية جئتنا بها ودلالة وحجة أقمتها ، رددناها فلا نقبلها منك ولا نؤمن بك ولا بما جئت به ، قال الله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان } اختلفوا في معناه ، فعن ابن عباس : كثرة الأمطار المغرقة المتلفة للزروع والثمار ، وعنه : هو كثرة الموت ، وقال مجاهد : { الطوفان } الماء والطاعون ، وأما الجراد فمعروف مشهور ، وهو مأكول لما ثبت في « الصحيحين » عن عبد الله بن أبي أوفى : غزونا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم سبع غزوات نأكل الجراد ، وروى الشافعي وأحمد وابن ماجه عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أحلت لنا ميتتان ودمان : الحوت والجراد والكبد والطحال » وقال مجاهد في قوله تعالى : { فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطوفان والجراد } قال : كانت تأكل مسامير أبوابهم وتدع الخشب . وروى الحافظ أبو الفرج الحريري قال : سئل شريح القاضي عن الجراد؟ فقال : قبح الله الجرادة فيها خلقة سبعة جبابرة رأسها رأس فرس ، وعنقها عنق ثور ، وصدرها صدر أسد ، وجناحها جناح نسر ، ورجلاها رجل جمل ، وذنبها ذنب حية ، وبطنها بطن عقرب . وروى ابن ماجه عن أنس وجابر « عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا دعا على الجراد قال : » اللهم أهلك كباره ، واقتل صغاره ، وأفسد بيضه ، واقطع دابره ، وخذ بأفواهه عن معايشنا وأرزاقنا إنك سميع الدعاء « فقال له جابر : يا رسول الله أتدعو على جند من أجناد الله بقطع دابره؟ فقال : » إنما هو نثرة حوت في البحر « » قال هشام أخبرني زياد أنه أخبره من رآه ينثره الحوت . قال من حقق ذلك : إن السمك إذا باض في ساحل البحر فنضب الماء عنه وبدا للشمس أنه يفقس كله جراداً طياراً . وأما القمل فعن ابن عباس : هو السوس الذي يخرج من الحنطة ، وعن الحسن : القمل دواب سود صغار ، وقال ابن أسلم : القمل البراغيث ، وقال ابن جرير : القُمَّل جمع واحدتها قملة وهي دابة تشبه القمل تأكل الإبل فيما بلغني .
وعن سعيد بن جبير قال : لما أتى موسى عليه السلام فرعون قال له : أرسل معي بني إسرائيل ، فأرسل الله عليهم الطوفان وهو المطر ، فصب عليهم منه شيئاً خافوا أن يكون عذاباً ، فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا المطر فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ، فأنبت لهم في تلك السنة شيئاً لم ينبته قبل ذلك من الزروع والثمار والكلأ ، فقالوا : هذا ما كنا نتمنى ، فأرسل الله عليهم الجراد فسلّطه على الكلأ ، فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقى الزرع ، فاقلوا : يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم الجراد ، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل ، فداسوا وأحرزوا في البيوت فقالوا قد أحرزنا ، فأرسل الله عليهم القمل وهو السوس الذي يخرج منه ، فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحى فلا يرد منها إلا ثلاثة أقفزة ، فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا القمل فنؤمن لك ونرل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل ، فبينما هو جالس عند فرعون إذ سمع نقيق ضفدع ، فقال لفرعون : ما تلقى أنت وقومك من هذا؟ فقال : وما عسى أن يكون كيد هذا؟ فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ، ويهم أن يتكلم فيثب الضفدع في فيه ، فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا ، وأرسل الله عليهم الدم فكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار وما كان في أوعيتهم وجدوه دماً عبيطاً ، فشكوا إلى فرعون فقالوا : إنا قد ابتلينا بالدم وليس لنا شراب ، فقال : إنه قد سحركم ، فقالوا : من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئاً من الماء إلا وجدناه دماً عبيطاً؟ فأتوه وقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل .
(1/888)
وقال محمد بن إسحاق بن يسار رحمه الله : فرجع عدو الله فرعون حين آمنت السحرة مغلوباً ثم أبى إلا الإقامة على الكفر والتمادي في الشر ، فتابع الله عليه الآيات ، فأخذه بالسنين وأرسل عليه الطوفان ، ثم الجراد ثم القمل ، ثم الضفادع ، ثم الدم ، آيات مفصلات ، فأرسل الطوفان وهو الماء ففاض على وجه الأرض ، ثم ركد لا يقدرون على أن يحرثوا ولا أن يعملوا شيئاً حتى جهدوا جوعاً فلما بلغهم ذلك { قَالُواْ ياموسى ادع لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرجز لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بني إِسْرَآئِيلَ } فدعا موسى ربه فكشف عنهم ، فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الجراد فأكل الشجر فيما بلغني ، حتى إن كان ليأكل مسامير الأبواب من الحديد حتى تقع دورهم ومساكنهم ، فقالوا مثل ما قالوا ، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم القمل ، فذكر لي أن موسى عليه السلام أمر أن يمشي إلى كثيب حتى يضربه بعصاه ، فمشى إلى كثيب أهيل عظيم فضربه بها فانثال عليهم قملاً ، حتى غلب على البيوت والأطعمة ومنعهم النوم والقرار ، فلما جهدهم قالوا مثل ما قالوا له ، فدعا ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الضفادع فملأت البيوت والأطعمة والآنية ، فلا يكشف أحد ثوباً ولا طعاماً إلا وجد فيه الضفادع قد غلبت عليه ، فلما جهدهم ذلك قالوا له مثل ما قالوا فسأل ربه فكشف عنهم فلم يفوا له بشيء مما قالوا ، فأرسل الله عليهم الدم فصارت مياه آل فرعون دماً لا يستقون من بئر ولا نهر ، ولا يغترفون من إناء إلا عاد دماً عبيطاً .
(1/889)
فَانْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الْأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُوا وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُوا يَعْرِشُونَ (137)
يخبر تعالى أنهم لما عتوا وتمردوا مع ابتلائه إياهم بالآيات المتواترة واحدة بعد واحدة انتقم منهم بإغراقه إياهم في اليم وهو البحر الذي فرقه لموسى فجاوزه وبنو إسرائيل معه ، ثم ورده فرعون وجنوده على أثرهم ، فلما استكملوا فيه ارتطم عليهم فغرقوا عن آخرهم ، وذلك بسبب تكذيبهم بآيات الله وتغافلهم عنها ، وأخبر تعالى أنه أورث القوم الذين كانوا يستضعفون - وهم بنو إسرائيل - مشارق الأرض ومغاربها كما قال تعالى : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين } [ القصص : 5 ] ، وقال تعالى : { كَمْ تَرَكُواْ مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * وَنَعْمَةٍ كَانُواْ فِيهَا فَاكِهِينَ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ } [ الدخان : 24-28 ] وعن الحسن البصري وقتادة في قوله : { مَشَارِقَ الأرض وَمَغَارِبَهَا التي بَارَكْنَا فِيهَا } يعني الشام ، وقوله : { وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ الحسنى على بني إِسْرَآئِيلَ بِمَا صَبَرُواْ } ، قال مجاهد وهي قوله تعالى : { وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الذين استضعفوا فِي الأرض وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوارثين * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأرض } [ القصص : 5-6 ] الآية ، وقوله : { وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ } أي وخربنا ما كان فرعون وقومه يصنعونه من العمارات والمزارع { وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ } يبنون .
(1/890)
وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (139)
يخبر تعالى عما قاله جهلة بني إسرائيل لموسى عليه السلام حين جاوزوا البحر وقد رأوا من آيات الله وعظيم سلطانه ما رأوا { فَأَتَوْاْ } أي فمروا { على قَوْمٍ يَعْكُفُونَ على أَصْنَامٍ لَّهُمْ } . قال بعض المفسرين : كانوا من الكنعانيين ، قال ابن جرير : وكانوا يعبدون أصناماً على صور البقر ، فلهذا آثار ذلك شبهة لهم في عبادتهم العجل بعد ذلك ، فقالوا : { ياموسى اجعل لَّنَآ إلها كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ } أي تجهلون عظمة الله وجلاله وما يجب أن ينزه عنه من الشريك والمثيل { إِنَّ هؤلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ } أي هالك { وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ، عن أبي واقد الليثي يقال : « خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل حنين فمررنا بسدرة ، فقلت : يا نبيّ الله ، اجعل لنا هذا ذات أنواط كما للكفار ذات أنواط ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة ويعكفون حولها ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : الله أكبر ، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى اجعل لنا إلهاً كما لهم آلهة . إنكم تركبون سنن من قبلكم »
(1/891)
قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)
يذكّرهم موسى عليه السلام نعم الله عليهم ، من إنقاذهم من أسر فرعون وقهره ، وما كانوا فيه من الهوان والذلة ، وما صاروا إليه من العزة والاشتقاء من عدوهم ، والنظر إليه في حال هوانه وهلاكه وغرقه ودماره ، وقد تقدم تفسيرها في البقرة .
(1/892)
وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلَاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلَا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142)
يقول تعالى ممتناً على بني إسرائيل ببما حصل لهم من الهداية بتكليمه موسى عليه السلام وإعطائه التوراة وفيها أحكامهم وتفاصيل شرعهم ، فذكر تعالى أنه واعد موسى ثلاثين ليلة ، فصامها موسى عليه السلام وطواها ، فلما تم الميقات استاك بلحاء شجرة ، فأمره الله تعالى أن يكمل بعشر أربعين ، وقد اختلف المفسرون في هذه العشر ما هي؟ فالأكثرون على أن الثلاثين هي ذو القعدة وعشر من ذي الحجة ، روي عن ابن عباس وغيره ، فعلى هذا يكون قد كمل الميقات يوم النحر ، حصل فيه التكليم لموسى عليه السلام ، وفيه أكمل الله الدين لمحمد صلى الله عليه وسلم كما قال تعالى : { اليوم أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإسلام دِين } [ المائدة : 3 ] ، فلما تم الميقات وعزم موسى على الذهاب إلى الطور استخلف على بني إسرائيل أخاه ( هارون ) ووصاه بالإصلاح وعدم الإفساد ، وهذا تنبيه وتذكير وإلا فهارون عليه السلام نبي شريف كريم على الله ، له وجاهة وجلالة صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر الأنبياء .
(1/893)
وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَنْ تَرَانِي وَلَكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)
يخبر تعالى عن موسى عليه السلام أنه لما جاء لميقات الله تعالى وحصل له التكليم من الله ، سأل الله تعالى أن ينظر إليه فقال : { رَبِّ أرني أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي } وقد أشكل حرف { لَن } هاهنا على كثير من العلماء ، لأنها موضوعة لنفي التأبيد ، فاستدل به المعتزلة على نفي الرؤية في الدنيا والآخرة ، وهذا أضعف الأقوال ، لأنه قد تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن المؤمنين يرون الله في الدار الآخرة ، كما سنوردها عند قوله تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إلى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ } [ القيامة : 22-23 ] ، وقوله تعالى إخباراً عن الكفار { كَلاَّ إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ } [ المطففين : 15 ] ، وقيل : إنها لنفي التأبيد في الدنيا جمعاً بين هذه الآية وبين الدليل القاطع على صحة الرؤية في الدار الآخرة ، وقيل : إن هذا الكلام في هذا المقام كالكلام في قوله تعالى : { لاَّ تُدْرِكُهُ الأبصار وَهُوَ يُدْرِكُ الأبصار } [ الأنعام : 103 ] ، وفي الكتب المتقدمة أن الله تعالى قال لموسى عليه السلام : « يا موسى إنه لا يراني حي إلا مات ولا يابس ولا تدهده » ولهذا قال تعالى : { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسى صَعِقاً } ، قال ابن جرير الطبري : « لما تجلى ربه للجبل أشار بأصبعه فجعله دكاً وأراناً أبو إسماعيل بأصبعه السبابة » ، وعن أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قرأه هذه الآية : { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاًً } قال : هكذا بأصبعه ، ووضع النبي صلى الله عليه وسلم إصبعه الإبهام على المفصل الأعلى من الخنصر ، فساخ الجبل . قال ابن عباس : ما تجلى منه إلا قدر الخنصر { جَعَلَهُ دَكّاً } قال : تراباً { وَخَرَّ موسى صَعِقاً } قال : مغشياً عليه . وقال قتادة : { وَخَرَّ موسى صَعِقاً } قال : ميتاً ، وقال الثوري : ساخ الجبل في الأرض حتى وقع في البحر فهو يذهب معه . وعن عروة بن رويم قال : كانت الجبال قبل أن يتجلى الله لموسى على الطور صماء ملساء ، فلما تجلى الله لموسى على الطور دك وتفطرت الجبال فصارت الشقوق والكهوف .
وقال مجاهد في قوله : { ولكن انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي } ، فإنه أكبر منك وأشد خلقاً { فَلَمَّا تجلى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ } فنظر إلى الجبل لا يتمالك وأقبل الجبل فدك على أوله ، ورأى موسى ما يصنع الجبل فخر صعقاً ، وقال عكرمة : { جَعَلَهُ دَكّاً } قال : نظر الله إلى الجبل فصار صحراء تراباً ، والمعروف أن الصعق هو الغشي هاهنا كما فسره ابن عباس وغيره ، لا كما فسره قتادة بالموت ، وإن كان ذلك صحيحاً في اللغة ، كقوله تعالى : { وَنُفِخَ فِي الصور فَصَعِقَ مَن فِي السماوات وَمَن فِي الأرض إِلاَّ مَن شَآءَ الله } [ الزمر : 68 ] فإن هناك قرينة تدل على الموت ، كما أن هنا قرينة تدل على الغشي ، وهي قوله : { فَلَمَّآ أَفَاقَ } والإفاقة لا تكون إلا عن غشي ، { قَالَ سُبْحَانَكَ } تنزيهاً وتعظيماً وإجلالاً أن يراه أحد في الدنيا إلا مات ، وقوله : { تُبْتُ إِلَيْكَ } ، قال مجاهد : أن أسألك الرؤية { وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } ، قال ابن عباس ومجاهد : من بني إسرائيل ، واختاره ابن جرير .
(1/894)
وفي رواية أخرى عنه { وَأَنَاْ أَوَّلُ المؤمنين } : أنه لا يراك أحد ، قال أبو العالية : أنا أول من آمن بك أنه لا يراك أحد من خلقك إلى يوم القيامة ، وهذا قول حسن له اتجاه ، وقوله : { وَخَرَّ موسى صَعِقاً } روي عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال : « جاء رجل من اليهود إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، قد لطم وجهه ، وقال يا محمد إن رجلاً من أصحابك من الأنصار لطم وجهي قال : » ادعوه « ، فدعوه ، قال : قال : » لم لطمت وجهه «؟ قال : يا رسول الله إني مررت باليهودي فسمعته يقول : والذي اصطفى موسى على البشر ، قال : وعلى محمد؟ قال : فقلت : وعلى محمد؟ وأخذتني غضبة فلطمته فقال : » لا تخيروني من بين الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق ، فإذا أنا بموسى آخذ بقائمة من قوائم العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور « وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال : استب رجلان رجل من المسلمين ورجل من اليهود ، فقال المسلم : والذي اصطفى محمداً على العالمين ، فقال اليهودي : والذي اصطفى موسى على العالمين ، فغضب المسلم على اليهودي فلطمه ، فأتى اليهودي رسول الله صلى الله عليه وسلم فسأله فأخبره ، فدعاه رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعترف بذلك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا تخيروني على موسى فإن الناس يصعقون يوم القيامة ، فأكون أول من يفيق فإذا بموسى ممسك بجانب العرش ، فلا أدري أكان ممن صعق فأفاق قبلي أم كان ممن استثنى الله عز وجل « والكلام في قوله عليه السلام : » لا تخيروني على موسى « وقيل : قبل أن يعلم بذلك ، وقيل : نهى أن يفضل بينهم على وجه الغضب والتعصب ، وقيل : على وجه القول بمجرد الرأي والتشهي ، والله أعلم . وقوله : » فإن الناس يصعقون يوم القيامة « الظاهر أن هذا الصعق يكون في عرصات القيامة يحصل أمر يصعقون منه ، والله أعلم به ، وقد يكون ذلك إذا جاء الرب تبارك وتعالى لفصل القضاء وتجلى للخلائق الملك الديان كما صعق موسى من تجلي الرب تبارك وتعالى ، ولهذا قال عليه السلام : » فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور « .
(1/895)
قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالَاتِي وَبِكَلَامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145)
يذكر تعالى أنه خاطب موسى بأنه اصطفاه على أهل زمانه برسالاته تعالى وبكلامه ، ولا شك أن محمداً صلى الله عليه وسلم سيّد ولد آدم من الأولين والآخرين ، ولهذا اختصه الله تعالى بأن جعله خاتم الأنبياء والمرسلين ، وأتباعه أكثر من أتباع سائر المرسلين كلهم ، وبعده في الشرف والفضل إبراهيم الخليل عليه السلام ، ثم موسى بن عمران كليم الرحمن عليه السلام ، ولهذا قال الله تعالى له { فَخُذْ مَآ آتَيْتُكَ } أي من الكلام والمناجاة { وَكُنْ مِّنَ الشاكرين } أي على ذلك ولا تطلب ما لا طاقة لك به ، ثم أخبر تعالى أن كتب له في الألواح من كل شيء موعظة وتفصيلاً لكل شيء ، كتب له فيها مواعظ وأحكاماً مفصلة ، مبينة للحلال والحرام ، وكانت هذه الألواح مشتملة على التوراة ، وقيل : الألواح أعطيها موسى قبل التوراة فالله أعلم ، وقوله { فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ } أي بعزم على الطاعة { وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا } ، قال ابن عباس : أمر موسى عليه السلام أن يأخذ بأشد ما أمر قومه ، وقوله : { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } أي سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي كيف يصير إلى الهلاك والدمار والتباب ، قال ابن جرير : وإنما قال : { سَأُوْرِيكُمْ دَارَ الفاسقين } كما يقول القائل لمن يخاطبه : سأريك غداً إلى ما يصير إليه حال من خالف أمري على ( وجه التهديد ) والوعيد لمن عصاه وخالف أمره ، وقيل : منازل قوم فرعون ، والأول أولى لأن هذا كان بعد انفصال موسى وقومه عن بلاد مصر ، وهو خطاب لبني إسرائيل قبل دخولهم التيه والله أعلم .
(1/896)
سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لَا يُؤْمِنُوا بِهَا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لَا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا وَإِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَلِقَاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (147)
يقول تعالى : { سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِي الذين يَتَكَبَّرُونَ فِي الأرض بِغَيْرِ الحق } أي سأمنع فهم الحجج والأدلة الدالة على عظمتي وشريعتي ، قلوب المتكبرين عن طاعتي ، ويتكبرون على الناس بغير حق ، أي كما استكبروا بغير حق أذلهم بالجهل ، كما قال تعالى : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] ، وقال تعالى : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] ، وقال بعض السلف : لا ينال العلم حيي ولا مستكبر ، وقال آخر : من لم يصبر على ذل التعلم ساعة بقي في ذل الجهل أبداً ، وقال سفيان بن عيينة : أنزع عنهم فهم القرآن وأصرفهم عن آياتي ، { وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا } ، كما قال تعالى : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 96-97 ] وقوله : { وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرشد لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً } أي وإن ظهر لهم سبيل الرشد أي طريق النجاة لا يسلكوها ، وإن ظهر لهم طريق الهلاك والضلال يتخذوه سبيلاً ، ثم علّل مصيرهم إلى هذه الحال بقوله : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } أي كذبت بها قلوبهم { وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ } أي لا يعلمون بما فيها ، وقوله : { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَآءِ الآخرة حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ } أي من فعل منهم وذلك واستمر عليه إلى الممات حبط عمله ، وقوله : { هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } ؟ أي إنما نجازيهم بحسب أعمالهم التي أسلفوها ، إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، وكما تدين تدان .
(1/897)
وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلًا جَسَدًا لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لَا يُكَلِّمُهُمْ وَلَا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قَالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149)
يخبر تعالى عن ضلال من ضل من بين إسرائيل في عبادتهم العجل الذي اتخذه لهم السامري من حلي القبط الذي كانوا استعاروه منهم ، فشكل لهم منه عجلاً ثم ألقى فيه القبضة من التراب التي أخذها من أثر فرس جبريل عليه السلام فصار عجلاً جسداً له خوار ، والخوار صوت البقر ، وكان هذا منهم بعد ذهاب موسى لميقات ربه تعالى ، فأعلمه الله تعالى بذلك وهو على الطور حيث يقول تعالى إخباراً عن نفسه الكريمة : { قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِن بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السامري } [ طه : 85 ] ، وقد اختلف المفسرون في هذا العجل هل صار لحماً ودماً له خوار ، أو استمر على كونه من ذهب إلا أنه يدخل فيه الهواء فيصوّت كالبقر؟ على قولين والله أعلم ، ويقال : إنهم لما صوّت لهم العجل رقصوا حوله وافتتنوا به وقالوا : { هاذآ إلهكم وإله موسى فَنَسِيَ } [ طه : 88 ] ، قال تعالى : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَلاَ يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً } [ طه : 89 ] ؟ وقال في هذه الآية الكريمة { أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتخذوه وَكَانُواْ ظَالِمِينَ } ؟ ينكر تعالى عليهم ضلالم بالعجل ، وذهولهم عن خالق السماوات والأرض ، ورب كل شيء ومليكه ، أن عبدوا معه عجلاً جسداً له خوار ، لا يكلمهم ولا يرشدهم إلى خير ، ولكن غطّى على أعين بصائرهم عمى الجهل والضلال ، كما تقدم عن أبي الدرداء قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم « حبك الشيء يعمي ويصم » وقوله : { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ } أي ندموا على ما فعلوا { وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } أي من الهالكين ، وهذا اعتراف منهم بذنبهم والتجاء إلى الله عزَّ وجلَّ .
(1/898)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
يخبر تعالى أن موسى عليه السلام لما رجع إلى قومه من مناجاة ربه تعالى وهو غضبان أسفاً ، والأسف أشد الغضب { قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بعدي } يقول : بئس ما صنعتم في عبادتكم العجل بعد أن ذهبت وتركتكم ، وقوله : { أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ } يقول : استعجلتم مجيئي إليكم وهو مقدر من الله تعالى ، وقوله : { وَأَلْقَى الألواح وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } قيل : كانت الألواح من زمرد ، وقيل : من ياقوت ، وظاهر السياق أنه إنما ألقى الألواح غضباً على قومه ، وهذا قول جمهور العلماء سلفاً وخلفاً ، { وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ } خوفاً أن يكون قد قصَّر في نهيهم كما قال في الآية الأخرى : { قَالَ يَبْنَؤُمَّ لاَ تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلاَ بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَن تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بني إِسْرَآئِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي } [ طه : 94 ] ، وقال هاهنا : { ابن أُمَّ إِنَّ القوم استضعفوني وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعدآء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ القوم الظالمين } أي لا تسقني مساقهم ولا تخلطني معهم وإنما قال : { ابن أُمَّ } ليكون أرق وأنجع عنده ، وإلا فهو شقيقه لأبيه وأمه ، فلما تحقق موسى عليه السلام براءة ساحة هراون عليه السلام ، عند ذلك { قَالَ } موسى { رَبِّ اغفر لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الراحمين } ، عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يرحم الله موسى ليس المعاين كالمخبر ، أخبره ربه عزَّ وجلَّ أن قومه فتنوا بعده فلم يلق الألواح ، فلما رآهم وعاينهم ألقى الألواح » .
(1/899)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153)
أما ( الغضب ) الذي نال بني إسرائيل في عبادة العجل ، فهو أن الله تعالى لم يقبل لهم توبة حتى قتل بعضهم بعضاً وأما ( الذلة ) فأعقبهم ذلك ذلاً وصغاراً في الحياة الدنيا ، وقوله : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين } نائلة لكل من افترى بدعة ، كما قال الحسن البصري : إن ذل البدعة على أكتافهم وإن هملجت بهم البغلات وطقطقت بهم البراذين ، وعن أبي قلابة أنه قرأ هذه الآية : { وَكَذَلِكَ نَجْزِي المفترين } فقال : هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة ، وقال سفيان بن عيينة : كل صاحب بدعة ذليل . ثم نبه تعالى عباده وأرشدهم إلى أنه يقبل عباده من أي ذنب كان حتى ولو كان من كفر أو شرك أو نفاق أو شقاق ولهذا عقب هذه القصة بقولة : { والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وآمنوا إِنَّ رَبَّكَ } أي يا محمد يا نبيّ الرحمة { مِن بَعْدِهَا } أي من بعد تلك الفعلة { لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } . عن عبد الله بن مسعود : أنه سئل عن ذلك يعني الرجل يزني بالمرأة ثم يتزوجها ، فتلا هذه الآية : { والذين عَمِلُواْ السيئات ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وآمنوا إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } فتلاها عبد الله عشر مرات ، فلم يأمرهم بها ولم ينههم عنها .
(1/900)
وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)
يقول تعالى : { وَلَماَّ سَكَتَ } أي سكن { عَن مُّوسَى الغضب } أي غضبه على قومه ، { أَخَذَ الألواح } أي التي كان ألقاها من شدة الغضب علىعبادتهم العجل غيرة لله وغضباً له { أَخَذَ الألواح } يقول كثير من المفسرين : إنها لما ألقاها تكسرت ، ثم جمعها بعد ذلك ، ولهذا قال بعض السلف : فوجد فيها هدى وحرمة ، وقال قتادة في قوله تعالى : { وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ } قال : رب إني أجد في الألواح أمة خير أمة أخرجت للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر فاجعلهم أمتي! قال تلك أمة أحمد ، قال رب إني أجد في الألواح أمة هم الآخرون السابقون ، أي آخرون في الخلق سابقون في دخول الجنة ، رب اجعلهم أمتي ، قال : تلك أمة أحمد ، قال : رب إني أجد في الألواح أمة أناجيلهم في صدورهم يقرؤونها رب اجعلهم أمتي! قال : تلك أمة أحمد . قال قتادة : فذكر لنا أن نبي الله موسى عليه السلام نبذ الألواح وقال : اللهم اجعلني من أمة أحمد .
(1/901)
وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلَّا فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَنْ تَشَاءُ وَتَهْدِي مَنْ تَشَاءُ أَنْتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنْتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155)
قال السدي : إن الله أمر موسى أن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ووعدهم موعداً ، { واختار موسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً } على عينيه ثم ذهب بهم ليعتذروا ، فلما أتوا ذلك المكان قالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ } [ البقرة : 55 ] يا موسى { حتى نَرَى الله جَهْرَةً } [ البقرة : 55 ] فإنك قد كلمته فأرناه ، { فَأَخَذَتْهُمُ الصاعقة } [ النساء : 153 ] فماتوا ، فقام موسى يبكي ويدعو الله ، ويقول : رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتُهم وقد أهلكت خيارهم؟ { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } ، وقال محمد بن إسحاق : اختار موسى من بني إسرائيل سبعين رجلاً : الخيِّر فالخير ، وقال انطلقوا إلى الله فتوبوا إليه مما صنعتم ، وسلوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم ، صوموا وتطهروا وطهروا ثيابكم ، فخرج بهم إلى ( طور سيناء ) لميقات وقِّته له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم ، فقال له السبعون - فيما ذكر لي حين صنعوا ما أمرهم به وخرجوا معه للقاء ربه - لموسى ، اطلب لنا نسمع كلام ربنا ، فقال : أفعل ، فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه عمود الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا موسى فدخل فيه وقال للقوم : ادنوا ، وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهة موسى نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ، ودنا القوم حتى إذا دخلوا في الغمام ، وقعوا سجوداً فسمعوه وهو يكلم موسى يأمره وينهاه افعل ولا تفعل ، فلما فرغ إليه من أمره وانكشف عن موسى الغمام ، فأقبل إليهم فقالوا يا موسى : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } وهي الصاعقة فالتفّت أرواحهم فماتوا جميعاً ، فقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } [ البقرة : 55 ] قد سفهوا ، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل؟
وقال ابن عباس وقتادة : إنهم أخذتهم الرجفة لأنهم لم يزايلوا قومهم في عبادتهم العجل ولا نهوهم ، ويتوجه هذا القول بقول موسى : { أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ } ، وقوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك ، يقول : إن الأمر إلا أمرك ، وإن الحكم إلا لك فما شئت كان ، تضل من تشاء وتهدي من تشاء ولا هادي لمن أضللت ، ولا مضل لمن هديت ، ولا معطي لمن منعت ، ولا مانع لما أعطيت ، فالملك كله لك والحكم كله لك ، لك الخلق والأمر ، وقوله : { أَنتَ وَلِيُّنَا فاغفر لَنَا وارحمنا وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين } الغفر هو الستر وترك المؤاخذة بالذنب ، والرحمة إذا قرنت مع الغفر يراد بها أن لا يوقعه في مثله في المستقبل ، { وَأَنتَ خَيْرُ الغافرين } أي لا يغفر الذنب إلا أنت ، { واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة } الفصل الأول من الدعاء لدفع المحذور ، وهذا لتحصيل المقصود { واكتب لَنَا فِي هذه الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة } أي أوجب لنا وأثبت لنا فيهما حسنة ، وقد تقدم تفسير الحسنة في سورة البقرة { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } أي تبنا ورجعنا وأنبنا إليك . عن علي قال : إنما سميت اليهود لأنهم قالوا : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } .
(1/902)
وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156)
يقول تعالى مجيباً لموسى في قوله : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } الآية ، { قَالَ عذابي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَآءُ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } أي أفعل ما أشاء وأحكم ما أريد ، ولي الحكمة والعدل في كل ذلك سبحانه لا إله إلا هو ، وقوله تعالى : { وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ } آية عظيمة الشمول والعموم ، كقوله تعالى إخباراً عن حملة العرش ومن حوله إنهم يقولون : { رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَّحْمَةً وَعِلْماً } [ غافر : 7 ] . عن جندب بن عبد الله البجلي قال : جاء أعرابي فأناخ راحلته ، ثم عقلها ثم صلى خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم أتى راحلته ، فأطلق عقالها ، ثم ركبها ، ثم نادى : اللهم ارحمني ومحمداً ولا تشرك في رحمتنا أحداً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتقولون هذا أضل أم بعيره ، ألم تسمعوا ما قال؟ » قالوا : بلى ، قال : « لقد حظرت رحمة واسعة ، إن الله عزَّ وجلَّ خلق مائة رحمة ، فأنزل رحمة يتعاطف بها الخلق جنها وإنسها وبهائمها ، وأخّر عنده تسعاً وتسعين رحمة ، أتقولون هو أضل أم بعيره » ؟ رواه أحمد وأبو داود؛ وقال الإمام أحمد أيضاً عن سلمان عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن لله عزَّ وجلَّ مائة رحمة ، فمنها رحمة يتراحم بها الخلق ، وبها تعطف الوحوش على أولادها ، وأخّر تسعة وتسعين إلى يوم القيامة » عن أبي سعيد قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لله مائة رحمة فقسم منها جزءاً واحداً بين الخلق ، به يتراحم الناس والوحش والطير » وقوله : { فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } الآية ، يعني فسأوجب حصول رحمتي منه مني وإحساناً إليهم ، كما قال تعالى : { كَتَبَ رَبُّكُمْ على نَفْسِهِ الرحمة } [ الأنعام : 54 ] ، وقوله : { لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ } أي سأجعلها للمتصفين بهذه الصفات وهم أمة ومحمد صلى الله عليه وسلم : ( الذين يتقون ) أي الشرك والعظائم من الذنوب ، قوله : { وَيُؤْتُونَ الزكاة } قيل : زكاة النفوس ، وقيل : الأموال ، ويحتمل أن تكون عامة لهما ، فإن الآية مكية { والذين هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ } أي يصدقون .
(1/903)
الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)
{ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } وهذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء ، بشروا أممهم ببعثه وأمروهم بمتابعته ، ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم ، كما روى الإمام أحمد على رجل من الأعراب ، « قال : جلبت حلوبة إلى المدينة في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما فرغت من بيعي قلت : لألقين هذا الرجل ، فلاسمعن منه قال : فتلقاني بين أبي بكر وعمر ويمشون ، فتبعتهم حتى أتوا على رجل من اليهود ، ناشر التوراة يقرؤها يعزي بها نفسه عن ابن له في الموت كأجمل الفتيان وأحسنها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أنشدك بالذي أنزل التوراة هل تجد في كتابك هذا صفتي ومخرجي « فقال : برأسه هكذا أي لا؛ فقال ابنه : أي والذي أنزل التوراة إنا لنجد في كتابنا صفتك ومخرجك ، وإني أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أنك رسول الله ، فقال : » أقيموا اليهودي عن أخيكم « ، ثم تولى كفنه والصلاة عليه . وروى ابن جرير عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة قال : أجل ، والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن : { ياأيها النبي إِنَّآ أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً } [ الأحزاب : 45 ] وحرزاً للأمييّن ، أنت عبدي ورسولي ، اسمك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إلا إلا الله ، ويفتح به قلوباً غلفاً ، وآذاناً صماً ، وأعيناً عمياً . وقد رواه البخاري في » صحيحه « وزاد بعد قوله » ليس بفظ ولا غليظ « ولا صخّاب في الأسواق ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح .
وقوله تعالى : { يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر } هذه صفة الرسول صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة ، وهكذا كانت حاله عليه الصلاة والسلام لا يأمر إلا بخير ولا ينهى إلا عن شر ، كما قال عبد الله بن مسعود إذا سمعت الله يقول : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ } [ آل عمران : 200 ] فأرعها سمعك فإنه خير تؤمر به أو شر تنهى عنه ، ومن أهم ذلك وأعظمه ما بعثه الله به من الأمر بعبادته وحده لا شريك له ، والنهي عن عبادة من سواه . عن أبي حميد وأبي أسيد رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » إذا سمعتم الحديث عني ممّا تعرفه قلوبكم وتلين له أشعاركم وأبشاركم وترون أنه منكم بعيد فأنا أبعدكم منه « وعن علي رضي الله عنه قال : » إذا سمعتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فظنوا به الذي هو أهدى ، والذي هو أهنى ، والذي هو أتقى «
(1/904)
وفي رواية قال : إذا حدثتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً فظنوا به الذي هو أهداه وأهناه ، وأتقاه . وقوله : { وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث } أي يحل لهم ما كانوا حرموه على أنفسهم من البحائر والسوائب والوصائل والحام ، ونحو ذلك مما كانوا ضيقوا به على أنفسهم ويحرم عليهم الخبائث ، قال ابن عباس : كلحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلونه من المحرمات من المآكل التي حرمها الله تعالى ، قال بعض العلماء : فكل ما أحل الله تعالى من المآكل فهو طيب نافع في البدن والدين ، وكل ما حرمه فهو خبيث ضار في البدن والدين ، وقوله : { وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ } أي أنه جاء بالتيسير والسماحة ، كما ورد الحديث من طرق « عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : » بعثت بالحنيفية السمحة « وقال صلى الله عليه وسلم لأميريه معاذ وأبي موسى الأشعري لما بعثهما إلى اليمن : » بشرا ولا تنفرا ويسرا ولا تعسرا وتطاوعا ولا تختلفا « ، وقد كانت الأمم الذين قبلنا في شرائعهم ضيق عليهم ، فوسع الله على هذه الأمة أمورها وسهلها لهم ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن الله تجاوز لأمتي ما حدثت به أنفسها ما لم تقل أو تعمل « وقال » رفع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه « ، ولهذا أرشد الله هذه الأمة أن يقولوا : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] أي عظموه ووقروه ، { واتبعوا النور الذي أُنزِلَ مَعَهُ } أي القرآن والوحي الذي جاء به مبلغاً إلى الناس { أولئك هُمُ المفلحون } أي في الدنيا والآخرة .
(1/905)
قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)
يقول تعالى لنبيه ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ } يا محمد { ياأيها الناس } وهذا خطاب للأحمر والأسود والعربي والعجمي { إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } أي جميعكم ، وهذا من شرفه وعظمته صلى الله عليه وسلم أنه خاتم النبيين وأنه مبعوث إلى الناس كافة كما قال الله تعالى : { وَأُوحِيَ إِلَيَّ هذا القرآن لأُنذِرَكُمْ بِهِ وَمَن بَلَغَ } [ الأنعام : 19 ] ، وقال تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] ، وقال تعالى : { فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } [ آل عمران : 20 ] ، والآيات في هذا كثيرة ، كما أن الأحاديث في هذا أكثر من أن تحصر ، وهو معلوم من دين الإسلام ضرورة أنه صلوات الله عليه رسول الله إلى الناس كلهم . قال البخاري في تفسير هذه الآية عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : « كانت بين أبي بكر وعمر رضي الله عنهما محاورة فأغضب أبو بكر عمر ، فانصرف عنه عمر مغضباً فاتبعه أبو بكر يسأله أن يستغفر له ، فلم يفعل حتى أغلق بابه في وجهه ، فأقبل أبو بكر إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال أبو الدرداء ، ونحن عنده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أما صاحبكم هذا فقد غامر « أي غاضب وحاقد ، قال : وندم عمر على ما كان منه ، فأقبل حتى سلم وجلس إلى النبي صلى الله عليه وسلم وقص على رسول الله لأنا كنت أظلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هل أنتم تاركو لي صاحبي؟ إني قلت يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعاً ، فقلتم : كذبت ، وقال أبو بكر : صدقت « . وقال الإمام أحمد عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » أعطيت خمساً لم يعطهن نبي قبلي ولا أقوله فخراً : بعثت إلى الناس كافة الأحمر والأسود ، ونصرب بالرعب مسيرة شهر ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، وأعطيت الشفاعة فأخرتها لأمتي يوم القيامة ، فهي لمن لا يشرك بالله شيئاً « وقال الإمام أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : » والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي أو نصراني ثم يموت ولا يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أصحاب النار « وعن جابر بن عبد الله قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً فأيما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصل ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه وبعثت إلى الناس عامة «
(1/906)
وقوله : { الذي لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض لا إله إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ } صفة الله تعالى في قول رسول الله صلى الله عليه وسلم أي الذي أرسلني هو خالق كل شيء وربه ومليكه الذي بيده الملك والإحياء والإماتة وله الحكم ، وقوله : { فَآمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ النبي الأمي } أخبرهم أنه رسول الله إليهم ثم أمرهم باتباعه والإيمان به { النبي الأمي } أي الذي وعدتم به وبشرتم به في الكتب المتقدمة ، فإنه مبعوث بذلك في كتبهم ، ولهذا قال النبي الأمي ، وقوله : { الذي يُؤْمِنُ بالله وَكَلِمَاتِهِ } أي ويصدق قوله عمله وهو يؤمن بما أنزل إليه من ربه { واتبعوه } أي اسلكوا طريقة اقتفوا أثره { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } أي إلى الصراط المستقيم .
(1/907)
وَمِنْ قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159)
يقول تعالى مخبراً عن بني إسرائيل أن منهم طائفة يتبعون الحق ويعدلون به ، كما قال تعالى : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [ آل عمران : 113 ] ، وقال تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ } [ آل عمران : 199 ] ، وقال تعالى : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } [ القصص : 52 ] ، وقال تعالى : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمن يَكْفُرْ بِهِ فأولئك هُمُ الخاسرون } [ البقرة : 121 ] الآية .
(1/908)
وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطًا أُمَمًا وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُوا حِطَّةٌ وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَظْلِمُونَ (162)
تقدم تفسير هذا كله في سورة البقرة وهي مدنية وهذا السياق مكي ، ونبهنا على الفرق بين هذا السياق وذاك بما أغنى عن إعادته هنا ولله الحمد والمنة .
(1/909)
وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163)
هذا السياق لقوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت } [ البقرة : 65 ] الآية ، يقول تعالى لنبيه صلوات الله وسلامه عليه ، { وَسْئَلْهُمْ } أي واسأل هؤلاء اليهود الذين بحضرتك عن قصة أصحابهم الذين خالفوا أمر الله ففاجأتهم نقمته على صنيعهم واعتدائهم واحتيالهم في المخالفة ، وحذر هؤلاء من كتمان صفتك التي يجدونها في كتبهم لئلا يحل بهم ما حل بإخوانهم وسلفهم ، وهذه القرية هي ( أيلة ) وهي على شاطئ بحر القلزم ، وقال ابن عباس : هي قرية يقال لها أيلة بين مدين والطور ، وقيل : هي مدين وهو رواية عن ابن عباس ، وقوله : { إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت } أي يعتدون فيه ويخالفون أمر الله فيه لهم بالوصاة به إذ ذاك { إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً } ، قال ابن عباس : أي ظاهرة على الماء { وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم } أي نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء في اليوم المحرم عليهم صيده ، وإخفائها عنهم في اليوم الحلال لهم صيده ، { كَذَلِكَ نَبْلُوهُم } نختبرهم { بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } يقول : بفسقهم عن طاعة الله وخروجهم عنها ، وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة التي معناها في الباطن تعاطي الحرام ، وفي الحديث عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلوا محارم الله بأدنى الحيل » .
(1/910)
وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ مَا نُهُوا عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166)
يخبر تعالى عن أهل هذه القرية أنهم صاروا إلى ثلاث فرق : فرقة ارتكبت المحذور واحتالوا على اصطياد السمك يوم السبت ، وفقة نهت عن ذلك واعتزلتهم ، وفرقة سكتت فلم تفعل ولم تنه ولكنها قالت للمنكرة { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } أي لم تنهون هؤلاء ، وقد علمتم أنهم قد هلكوا ، واستحقوا العقوبة من الله فلا فائدة في نهيكم إياهم ، قالت لهم المنكرة : { مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ } أي فيما أخذ علينا من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي لعلهم بهذا الإنكار يتقون ما هم فيه ويتركونه ، ويرجعون إلى الله تائبين ، فإذا تابوا تاب الله عليهم ورحمهم ، قال تعالى : { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ } أي فلما أبى الفاعلون قبول النصيحة { أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ } ، أي ارتكبوا المعصية { بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } ، فنص على نجاة الناهين وهلاك الظالمين ، وسكت عن الساكتين ، لأن الجزاء من جنس العمل ، فهم لا يستحقون مدحاً فيمدحوا ولا ارتكبوا عظيماً فيذموا ومع هذا فقد اختلف الأئمة فيهم : هل كانوا من الهالكين أو من الناجين؟ على قولين ، وقال ابن عباس في الآية : هي قرية على شاطئ البحر بين مصر والمدينة يقال لها أيلة ، فحرم الله عليهم الحيتان يوم سبتهم ، وكانت الحيتان تأتيهم يوم سبتهم شرعاً في ساحل البحر ، فإذا مضى يوم السبت لم يقدروا عليها ، فمضى على ذلك ما شاء الله ، ثم إن طائفة منهم أخذوا الحيتان يوم سبتهم فنهتهم طائفة ، وقالوا : تأخذونها وقد حرمها الله عليكم يوم سبتكم؟ فلم يزدادوا إلا غياً وعتواً ، وجعلت طائفة أخرى تنهاهم ، فلما طال ذلك عليهم قالت طائفة من النهاة تعلمون أن هؤلاء قوم قد حق عليهم العذاب { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ } ؟ وكانوا أشد غضباً لله من الطائفة الأخرى ، فقالوا : { مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } وكل قد كانوا ينهون ، فلما وقع عليهم غضب الله نجت الطائفتان اللتان قالوا : لم تعظون قوماً مهلكهم الله والذين قالوا معذرة إلى ربكم ، وأهلك الله أهل معصيته الذين أخذوا الحيتان فجعلهم قردة .
عن عكرمة عن ابن عباس في الآية قال : ما أدري أنجا الذين قالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ } أم لا؟ قال : فلم أزل به حتى عرّفته أنهم قد نجوا فكساني حلة . وقال عبد الرزاق عن عكرمة قال : جئت ابن عباس يوماً وهو يبكي ، وإذا المصحف في حجره ، فأعظمت أن أدنوا منه ، ثم لم أزل على ذلك حتى تقدمت فجلست ، فقلت ما يبكيك يا ابن عباس جعلني الله فداك؟ قال : فقال هؤلاء الورقات قال : وإذا هو في سورة الأعراف ، قال : تعرف أيلة؟ قلت : نعم ، قال : فإنه كان بها حي من اليهود سيقت الحيتان إليهم يوم السبت ثم غاصت لا يقدرون عليها حتى يغوصوا بعد كد ومؤنة شديدة ، كانت تأتيهم يوم سبتهم شرعاً بيضاء سماناً ، فكانوا كذلك برهة من الدهر ، ثم إن الشيطان أوحى إليهم فقال : إنما نهيتم عن أكلها يوم السبت فخذوها فيه وكلوها في غيره من الأيام ، فقالت ذلك طائفة منهم ، وقالت طائفة : بل نهيتم عن أكلها وأخذها وصيدها يوم السبت ، فكانوا كذلك حتى جاءت الجمعة المقبلة فغدت طائفة بأنفسها وأبنائها ونسائها ، واعتزلت طائفة ذات اليمين ، وتنحت ، واعتزلت طائفة ذات اليسار وسكتت ، وقال الأيمنون : ويلكم ، ننهاكم أن تتعرضوا لعقوبة الله ، وقال الأيسرون : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } قال الأيمنون : { مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي ينتهون ، أن ينتهوا فهو أحب إلينا لا يصابوا ولا يهلكوا ، وإن لم ينتهوا فمعذرة إلى ربكم ، فمضوا على الخطيئة ، وقال الأيمنون فقد فعلتم يا أعداء الله ، والله لنأتينكم الليلة في مدينتكم ، والله ما نراكم تصبحون حتى يصبحكم الله بخسف أو قذف أو بعض ما عنده من العذاب ، فلما أصبحوا ضربوا عليهم الباب ، ونادوا فلم يجابوا ، فوضعوا سلماً وأعلوا سور المدينة رجلاً ، فالتفت إليهم ، فقال : أي عبادة الله قردة والله تعاوى ، لها أذناب ، قال : ففتحوا فدخلوا عليهم ، فعرفت القرود أنسابها من الإنس ، ولا تعرف الإنس أنسابها من القردة فجعلت القرود يأتيها نسيبها من الإنس ، فتشم ثيابه ، وتبكي ، فيقول : ألم ننهكم عن كذا؟ فتقول برأسها : أي نعم ، ثم قرأ ابن عباس : { فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الذين يَنْهَوْنَ عَنِ السواء وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } قال : فأرى الذين نهوا قد نجوا ، ولا أرى الآخرين ذكروا ، ونحن نرى أشياء ننكرها ولا نقول فيها ، قال : قلت جعلني الله فداك ألا ترى أنهم قد كرهوا ما هم عليه وخالفوهم ، وقالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ } ؟ قال : فأمر لي فكسيت ثوبين غليظين .
(1/911)
( القول الثاني ) : أن الساكتين كانوا من الهالكين ، قال محمد بن إسحاق عن ابن عباس أنه قال : ابتدعوا السبت ، فابتلوا فيه ، فحرمت عليهم فيه الحيتان ، فكانوا إذا كان يوم السبت شرعت السبت جاءت شرعاً فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك ، ثم إن رجلاً منهم أخذ حوتاً فخزم أنفه ثم ضرب له وتداً في الساحل ورطبه وتركه في الماء ، فلما كان الغد أخذه فشواه فأكله ، ففعل ذلك وهم ينظرون ولا ينكرون ، ولا ينهاه منه أحد إلا عصبة منهم نهوه ، حتى ظهر ذلك في الأسواق ففعل علانية ، قال ، قالت طائفة للذين ينهونهم : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ } فقالوا : نسخط أعمالهم { وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ * فَلَماَّ نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ . . . } إلى قوله { قِرَدَةً خَاسِئِينَ } . قال ابن عباس : كانوا ثلاثاً ، ثلث نهوا ، وثلث قالوا : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ } ، وثلث أصحاب الخطيئة ، فما نجا إلا الذين نهوا وهلك سائرهم ، وقوله تعالى : { وَأَخَذْنَا الذين ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ } فيه دلالة بالمفهوم على أن الذين بقوا نجوا ، و { بَئِيسٍ } معناه في قول مجاهد الشديد ، وفي رواية : وقال قتادة : موجع ، والكل متقارب ، والله أعلم ، وقوله : { خَاسِئِينَ } أي ذليلين حقيرين مهانين .
(1/912)
وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167)
{ تَأَذَّنَ } تفعَّل من الأذان أي أعلم ، قاله مجاهد ، وفي قوة الكلام ما يفيد معنى القسم من هذه اللفظة . ولهذا أتبعت باللام في قوله : { لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ } أي على اليهود ، { إلى يَوْمِ القيامة مَن يَسُومُهُمْ سواء العذاب } أي بسبب عصيانهم ومخالفتهم أوامر الله وشرعه واحتيالهم على المحارم ، ويقال : إن موسى عليه السلام ضرب عليهم الخراج سبع سنين ، وقيل : ثلاث عشرة سنة ، وكان أول من ضرب الخراج ، ثم كانوا في قهر الملوك من اليونانين والكشدانيين والكلدانيين ، ثم صاروا إلى قهر النصارى وإذلالهم إياهم وأخذهم منهم الجزية والخراج ، ثم جاء الإسلام ومحمد صلى الله عليه وسلم ، فكانوا تحت قهره وذمته يؤدون الخراج والجزية . قال ابن عباس في تفسير هذه الآية : هي المسكنة وأخذ الجزية منهم ، وعنه : هي الجزية ، والذي يسومهم سوء العذاب محمد صلى الله عليه وسلم وأمته إلى يوم القيامة . ثم آخر أمرهم يخرجون أنصاراً للدجال فيقتلهم المسلمون مع عيسى ابن مريم عليه السلام ، وذلك آخر الزمان . وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ العقاب } أي لمن عصاه وخالف شرعه ، { وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي لمن تاب إليه وأناب ، وهذا من باب قرن الرحمة مع العقوبة لئلا يحصل اليأس ، فيقرن تعالى بين الترغيب والترهيب كثيراً لتبقى النفوس بين الرجاء والخوف .
(1/913)
وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَمًا مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الْأَدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثَاقُ الْكِتَابِ أَنْ لَا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ وَدَرَسُوا مَا فِيهِ وَالدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)
يذكر تعالى أنه فرقهم في الأرض أمماً أي طوائف وفرقاً ، { مِّنْهُمُ الصالحون وَمِنْهُمْ دُونَ ذلك } أي فيهم الصالح وغير ذلك ، كقول الجن : { وَبَلَوْنَاهُمْ } ، أي اختبرناهم { بالحسنات والسيئات } أي بالرخاء والشدة ، والرغبة والرهبة ، والعافية والبلاء { فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الكتاب يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى } ، قال تعالى : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون } الآية ، يقول تعالى : فخلف من بعد ذلك الجيل الذين فيهم الصالح والطالح خلف آخر لا خير فيهم ، وقد ورثوا دراسة الكتاب وهو التوراة ، وقال مجاهد : هم النصارى ، وقد يكون أعم من ذلن ، { يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذا الأدنى } أي يعتاضون عن بذل الحق ونشره بعرض الحياة الدنيا ، ويسوفون أنفسهم ويعدونها بالتوبة ، وكلما لاح لهم مثل الأول وقعوا فيه ، ولهذا قال : { وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } . قال مجاهد : لا يشرف لهم شيء من الدنيا إلا أخذوه حلالاً كان أو حراماً ويتمنون المغفرة ، { وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ } . وقال السدي : كانت بنو إسرائيل لا يستقضون قاضياً إلا ارتشى في الحكم ، وإن خيارهم اجتمعوا فأخذ بعضهم على بعض العهود أن لا يفعلوا ولا يرتشوا ، فجعل الرجل منهم إذا استقضى ارتشى فيقال له : ما شأنك ترتشي في الحكم؟ فيقول : سيغفر لي ، فتطعن عليه البقية الآخرون من بني إسرائيل فيما صنع ، فإذا مات أو نزع وجعل مكانه رجل ممن كان يطعن عليه فيرتشي ، يقول : وإن يأت الآخرين عرض الدنيا يأخذوه ، قال الله تعالى : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } الآية يقول تعالى منكراً عليهم في صنيعهم هذا مع ما أخذ عليهم من الميثاق ليبينن الحق للناس ولا يكتمونه ، كقوله : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ } [ آل عمران : 187 ] الآية ، وقال ابن جريج قال ابن عباس : { أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِّيثَاقُ الكتاب أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى الله إِلاَّ الحق } قال : فيما يتمنون على الله من غفران ذنوبهم التي لا يزالون يعودون فيها ولا يتوبون منها . وقوله تعالى : { والدار الآخرة خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } يرغبهم في جزيل ثوابه ويحذرهم من وبيل عقابه ، أي وثوابي وما عندي خير لمن اتقى المحارم ، وترك هوى نفسه ، وأقبل على طاعة ربه ، { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؟ يقول أفليس لهؤلاء الذين اعتاضوا بعرض الدنيا عما عندي عقل يردعهم عما هم فيه من السفه والتبذير ، ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى اتباع رسوله محمد صلى الله عليه وسلم كما هو مكتوب فيه ، قال تعالى : { والذين يُمَسِّكُونَ بالكتاب } أي اعتصموا به واقتدوا بأوامره ، وتركوا زواجره { وَأَقَامُواْ الصلاة إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ المصلحين } .
(1/914)
وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)
قال ابن عباس { نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ } يقول : رفعناه ، وهو قوله : { وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطور } [ النساء : 154 ] بميثاقهم ، رفعته الملائكة فوق رؤوسهم ، ثم سار بهم موسى عليه السلام إلى الأرض المقدسة ، وأخذ الألواح بعدما سكت عنه الغضب ، وأمرهم بالذي أمر الله أن يبلغهم من الوظائف ، فثقلت عليهم وأبوا أن يقروا بها حتى نتق الله الجبل فوقهم { كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ } قال : رفعته الملائكة فوق رؤوسهم . وقال أبو بكر بن عبد الله قيل : هذا كتاب أتقبلونه بما فيه ، فإن فيه بيان ما أحل لكم وما حرم عليكم قالوا : انشر علينا ما فيها ، فإن كانت فرائضها وحدودها يسيرة قبلناها ، قال : اقبلوها بما فيها ، قالوا : لا ، حتى نعلم ما فيها كيف حدودها وفرائضها ، فأوحى الله إلى الجبل فانقلع فارتفع في السماء حتى إذا كان بين رؤوسهم وبين السماء ، قال لهم موسى : ألا ترون ما يقول ربي عزَّ وجلَّ؟ لئن لم تقبلوا التوراة بما فيها لأرمينكم بهذا الجبل ، قال : فحدثني الحسن البصري قال : لما نظروا إلى الجبل خر كل رجل ساجداً على حاجبه الأيسر ، ونظر بعينه اليمنى إلى الجبل فَرقاً من أن يسقط عليه ، فكذلك ليس اليوم في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر ، يقولون : هذه السجدة التي رفعت بها العقوبة ، قال أبو بكر : فلما نشر الألواح فيها كتاب الله كتبه بيده لم يبق على وجه الأرض جبل ولا شجر ولا حجر إلا اهتز ، فليس اليوم يهودي على وجه الأرض صغير ولا كبير تقرأ عليه التوراة إلا اهتز ونغض لها رأسه : أي حوّل ، كما قال تعالى : { فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ } [ الإسراء : 51 ] والله أعلم .
(1/915)
وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)
يخبر تعالى أنه استخرج ذرية بني آدم من أصلابهم ، شاهدين على أنفسهم أن الله ربهم ومليكهم ، وأنه لا إله إلا هو ، كما أنه تعالى فطرهم على ذلك وجبلهم عليه ، قال تعالى : { فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ الله التي فَطَرَ الناس عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله } [ الروم : 30 ] ، وفي « الصحيحين » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كل مولود يود على الفطرة » . وقال ابن جرير عن الأسود بن سريع من بني سعد قال : « غزوت مع رسول صلى الله عليه وسلم أربع غزوات ، قال : فتناول القوم الذرية بعدما قتلوا المقاتلة فبلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فاشتد عليه ، ثم قال : » ما بال أقوام يتناولون الذرية «؟ فقال رجل : يا رسول الله أليسوا أبناء المشركين ، فقال : » إن خياركم أبناء المشركين ، ألا إنها ليست نسمة ولد تولد إلا ولدت على الفطرة فما تزال عليها حتى يبين عنها لسانها ، فأبواها يهودانها وينصرانها « ، قالالحسن : والله لقد قال الله في كتابه : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ } الآية . وقد وردت أحاديث في أخذ الذرية من صلب آدم عليه السلام وتمييزهم إلى أصحاب اليمين وأصحاب الشمال ، وفي بعضها الاستشهاد عليهم بأن الله ربهم . قال الإمام أحمد عن أنس بن مالك عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة : أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال ، فيقول : نعم ، فيقول : قد أردت أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك بي « » .
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله أخذ الميثاق من ظهر آدم عليه السلام بنعمان يوم عرفة ، فأخرج من صلبه كل ذرية ذرأها فنثرها بين يديه ثم كلمهم قبلاً قال : { أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ أَن تَقُولُواْ يَوْمَ القيامة إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غَافِلِينَ * أَوْ تقولوا . . . } إلى قوله : { المبطلون } . » عن أبي مسعود عن جرير قال : مات ابن للضحاك بن مزاحم ابن ستة أيام ، قال فقال : يا جابر إذا أنت وضعت ابني في لحده فأبرز وجهه وحل عنه عقده ، فإن ابني مجلس ومسئول ، ففعلت به الذي أمر ، فلما فرغت قلت : يرحمك الله عم يسأل . . من يسأله إياه؟ قال : يسأل عن الميثاق الذي أقر به في صلب آدم ، قلت يا أبا القاسم : وما هذا الميثاق الذي أقر به في صلب آدم؟ قال : حدثني ابن عباس : إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خلقها إلى يوم القيامة ، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وتكفل لهم بالأرزاق ، ثم أعادهم في صلبه ، فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذ ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوقى به نفعه الميثاق الأول ، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يقرّ به لم ينفعه الميثاق الأول ، ومن مات صغيراً قبل أن يدرك الميثاق الآخر مات على الميثاق الأول على الفطرة .
(1/916)
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن مسلم بن يسار الجهني أن عمر بن الخطاب سئل عن هذه الآية : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } الآية ، فقال عمر بن الخطاب : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عنها ، فقال : « إن الله خلق آدم عليه السلام ثم مسح ظهره بيمينه ، فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للجنة وبعمل أهل الجنة يعملون ، ثم مسح ظهره فاستخرج منه ذرية ، قال : خلقت هؤلاء للنار ، وبعمل أهل النار يعملون ، فقال رجل : يا رسول الله فيه العمل؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إذا خلق الله العبد للجنة استعمله بأعمال أهل الجنة حتى يموت على عمل من أعمال الجنة فيدخله به الجنة ، وإذا خلق العبد للنار استعمله بأعمال أهل النار حتى يموت على عمل من أعمال أهل النار فيدخله به النار » .
( حديث آخر ) : قال الترمذي عند تفسيره هذه الآية عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما خلق الله آدم مسح ظهره ، فسقط من ظهره كل نسمة هو خالقها من ذريته إلى يوم القيامة ، قال : هؤلاء ذريتك ، فرأى رجلاً منهم فأعجبه وبيص ما بين عينيه ، قال أي رب من هذا؟ قال : هذا رجل من آخر الأمم من ذريتك يقال له داود ، قال : رب وكم جعلت عمره؟ قال ستين سنة ، قال : أي رب قد وهبت له من عمري أربعين سنة ، فلما انقضى عمر آدم جاءه ملك الموت قال : أو لم يبق من عمري أربعون سنة؟ قال : أولم تعطها ابنك داود؟ قال : فجحد آدم ، فجحدت ذريته ، ونسي آدم فنسيت ذريته ، وخطئ آدم فخطئت ذريته » . ( حديث آخر ) : عن هشام بن حكيم رضي الله عنه أن رجلاً سأل النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله أتبدأ بالأعمال أم قد قضى القضاء؟ قال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله قد أخذ ذرية آدم من ظهورهم ثم أشهدهم على أنفسهم ، ثم أفاض بهم في كفيه ، ثم قال هؤلاء في الجنة ، وهؤلاء في النار ، فأهل الجنة ميسرون لعمل أهل الجنة ، وأهل النار ميسرون لعمل أهل النار » .
(1/917)
فهذه الأحاديث دالة على أن الله عزَّ وجلَّ استخرج ذرية آدم من صلبه وميز بين أهل الجنة وأهل النار ، وأما الإشهاد عليهم هناك بأنه ربهم ، فما هو إلا في حديث كلثوم بن جبير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس ، وفي حديث عبد الله بن عمرو ، وقد بينا أنهما موقوفان لا مرفوعان كما تقدم ، ومن ثم قال قائلون من السلف والخلف : إن المراد بهذا الإشهاد إنما هو فطرهم على التوحيد ، كما تقدم في حديث أبي هريرة وعياض بن حمار المجاشعي ، ومن رواية الحسن البصري عن الأسود بن سريع ، وقد فسر الحسن الآية بذلك ، قالوا ، ولهذا قال : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ } ، ولم يقل من آدم ، { مِن ظُهُورِهِمْ } ولم يقل من ظهره ، { ذُرِّيَّتَهُمْ } أي جعل نسلهم جيلاً بعد جيل وقرنا بعد قرن ، كقوله تعالى : { وَهُوَ الذي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأرض } [ الأنعام : 165 ] ، وقال : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض } [ النمل : 62 ] ، وقال : { كَمَآ أَنشَأَكُمْ مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ } [ الأنعام : 133 ] ، ثم قال : { وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } ، أي أوجدهم شاهدين بذلك قائلين له حالاً وقالاً ، والشهادة تارة تكون بالقول ، كقوله : { قَالُواْ شَهِدْنَا على أَنْفُسِنَا } [ الأنعام : 130 ] الآية ، وتارة تكون حالاً ، كقوله تعالى : { مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ على أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ } [ التوبة : 17 ] ، أي حالهم شاهد عليهم بذلك لا أنهم قائلون ذلك ، وكذا قوله تعالى : { وَإِنَّهُ على ذَلِكَ لَشَهِيدٌ } [ العاديات : 7 ] ، كما أن السؤال تارة يكون بالقال وتارة يكون بالحال ، كقوله : { وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ } [ إبراهيم : 34 ] . قالوا : ومما يدل على أن المراد بهذا أن جعل هذا الإشهاد حجة عليهم في الإشراك ، فلو كان قد وقع هذا كما قاله من قال لكان كل أحد يذكره ليكون حجة عليه ، فإن قيل : إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم به كاف في وجوده؟ فالجواب أن المكذبين من المشركين يكذبون بجميع ما جاءتهم به الرسل من هذا وغيره ، وهذا جعل حجة مستقلة عليهم فدل على أنه الفطرة التي فطروا عليها من الإقرار بالتوحيد ، ولهذا قال : { أَن تَقُولُواْ } أي لئلا تقولوا يوم القيامة { إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا } أي التوحيد { غَافِلِينَ * أَوْ تقولوا إِنَّمَآ أَشْرَكَ آبَاؤُنَا } الآية .
(1/918)
وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانْسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذَلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاءَ مَثَلًا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا وَأَنْفُسَهُمْ كَانُوا يَظْلِمُونَ (177)
هو رجل من بني إسرائيل ، يقال له بلعم بن باعوراء؛ وقال قتادة عن ابن عباس : هو صيفي بن الراهب ، وقال كعب : كان رجلاً من أهل البلقاء وكان يعلم الاسم الأكبر ، وكان مقيماً ببيت المقدس مع الجبارين ، وعن ابن عباس رضي الله عنه : هو رجل من أهل اليمن ، يقال له بلعم آتاه الله آياته فتركها ، وقال مالك بن دينار : كان من علماء بني إسرائيل ، وكان مجاب الدعوة يقدمونه في الشدائد ، بعثه نبي الله موسى عليه السلام إلى ملك مدين يدعوه إلى الله فأقطعه وأعطاه ، فتبع دينه وترك دين موسى عليه السلام . وقال سفيان بن عيينة عن ابن عباس : هو بلعم بن باعوراء ، وقال ثقيف : هو أمية بن أبي الصلت ، وقال عبد الله بن عمرو في قوله : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا } الآية ، قال : هو صاحبكم أمية بن أبي الصلت ، وقد روي من غير وجه عنه وهو صحيح إليه ، وكأنه إنما أراد أن أمية بن أبي الصلت يشبهه ، فإنه كان قد اتصل إليه علم كثير من علم الشرائع المتقدمة ، ولكنه لم ينتفع بعلمه ، فإنه أدرك زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وبلغته أعلامه وآياته ومعجزاته وظهرت لكل من له بصيرة ، ومع هذا اجتمع به ولم يتبعه ، وصار إلى موالاة المشركين ومناصرتهم وامتداحهم ، ورئى أهل بدر من المشركين بمرثاة بليغة قبحه الله . وقد جاء في بعض الأحاديث أنه ممن آمن لسانه ولم يؤمن قلبه ، فإن له أشعاراً ربانية وحكماً وفصاحة ، ولكنه لم يشرح الله صدره للإسلام .
والمشهور في سبب نزول هذه الآية الكريمة : إنما هو رجل من المتقدمين في زمن بني إسرائيل ، كما قال ابن مسعود وغيره من السلف ، وكان يعلم اسم الله الأكبر ، وكان مجاب الدعوة ، ولا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه إياه ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : لما نزل موسى بهم يعني بالجبارين ومن معه أتاه - يعني بلعم - بنو عمه وقومه فقالوا : إن موسى رجل حديد ومعه جنود كثيرة ، وإنه إن يظهر علينا يهكلنا ، فادع الله أن يردَّ عنا موسى ومن معه ، قال : إني إن دعوت الله أن يرد موسى ومن معه ذهبت دنياني وآخرتي ، فلم يزالوا به حتى دعا عليهم فسلخه الله ما كان عليه ، فذلك قوله تعالى : { فانسلخ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشيطان } الآية . وقال السدي : لما انقضت الأربعون سنة التي قال الله : { قَالَ فَإِنَّهَا مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً } [ المائدة : 26 ] ، بعث يوشع بن نون نبياً فدعا بني إسرائيل ، فأخبرهم أنه نبي ، وأن الله أمره أن يقاتل الجبارين ، فبايعوه وصدقوه ، وانطلق رجل من بني إسرائيل يقال له : ( بلعام ) فكان عالماً يعلم الاسم الأعظم المكتوم ، فكفر - لعنه الله - وأتى الجبارين ، وقال لهم : لا ترهبوا بني إسرائيل ، فإني إذا خرجتم تقاتلونهم أدعو عليهم دعوة فيهلكون ، وقوله تعالى : { فَأَتْبَعَهُ الشيطان } أي استحوذ عليه وعلى أمره فمهما أمره امتثل وأطاعه ، ولهذا قال : { فَكَانَ مِنَ الغاوين } أي من الهالكين الحائرين البائرين ، وقد ورد في معنى هذه الآية حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :
(1/919)
« إن مما أتخوف عليكم رجل قرأ القرآن حتى إذا رؤيت بهجته عليه وكان رداؤه الإسلام ، اعتراه إلى ما شاء الله ، انسلخ منه وبنذه وراء ظهره ، وسعى على جاره بالسيف ، ورماه بالشرك » قال : قلت يا نبيّ الله أيها أولى بالشرك المرمي و الرامي؟ قال : « بل الرامي » وقوله تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض واتبع هَوَاهُ } ، يقول تعالى : { وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا } أي ما لرفعناه من التدنس عن قاذورات الدنيا بالآيات التي آتيناه إياها ، { ولكنه أَخْلَدَ إِلَى الأرض } أي مال إلى زينة الحياة الدنيا وزهرتها ، وأقبل على لذاتها ونعيمها ، وغرته كما غرت غيره من غير أولي البصائر والنهى .
قال محمد بن إسحاق بن يسار عن سالم عن أبي النضر : أنه حدث أن موسى عليه السلام لما نزل في أرض بني كنعان من أرض الشام أتى قوم بلعام إليه ، فقالوا له هذا موسى بن عمران في بني إسرائيل ، قد جاء يخرجنا من بلادنا ويقتلنا ويحلها بني إسرائيل ، وإنا قومك ، وليس لنا منزل ، وأنت رجل مجاب الدعوة ، فأخرج فادع الله عليهم قال : ويلكم نبي الله معه الملائكة والمؤمنون ، كيف أذهب أدعو عليه وأنا أعلم من الله ما أعلم؟ قالوا : له : ما لنا من منزل ، فلم يزالوا به يرفقونه ويتضرعون إليح حتى فتنوه ، فافتتن ، فركب حمارة له متوجهاً إلى الجبل الذي يطلعه على عسكر بني إسرائيل - وهو جبل حسبان - فلما سار عليها غير كثير ربضت به فنزل عنها فضربها ، حتى إذا أزلقها قامت فركبها ، فلم تسر به كثيراً حتى ربضت به فضربها ، حتى إذا أزلقها أذن لها فكلمته حجة عليه ، فقالت : ويحك يا بلعم أين تذهب؟ أما ترى الملائكة أمامي تردني عن وجهي هذا؟ تذهب إلى نبي الله والمؤمنين لتدعو عليهم ، فلم ينزع عنها ، فضربها ، فخلى الله سبيلها ، حين فعل بها ذلك ، فانطلقت به حتى إذا أشرفت به على رأس حسبان على عسكر موسى وبني إسرائيل جعل يدعو عليهم ولا يدعو عليهم بشر إلا صرف الله لسانه إلى قومه ، ولا يدعو لقومه بخير إلا صرف لسانه إلى بني إسرائيل ، فقال له قومه : أتدري يا بلعم ما تصنع؟ إنما تدعو لهم وتدعو علينا ، قال : فهذا ما لا أملك هذا شيء قد غلبت الله عليه ، قال واندلع لسانه فوقع على صدره ، فقال لهم : قد ذهبت مني الآن الدنيا والآخرة ، ولم يبق إلا المكر والحيلة ، فسأمكر لكم واحتال ، جملوا النساء وأعطوهن السلع ، ثم أرسلوهن إلى العسكر يبعتها فيه ، ومروهن فلا تمنع امرأة نفسها من رجل أرادها ، فإنهم إن زنى رجل منهم واحد كفيتموهم ، ففعلوا ، فلما دخل النساء العكسر مرت امرأة من الكنعنانيين برجل من عظماء بني إسرائيل وهو زمري بن شلوم رأس سبط شمعون بن يعقوب ، فلما رآها أعجبته ، فقام فأخذ بيدها ، وأتى بها موسى وقال : إني أظنك ستقول : هذا حرام عليك لا تقربها ، قال : أجل هي حرام عليك ، قال : فوالله لا أطيعك في هذا ، فدخل بها قبتة ، فوقع عليها ، وأرسل الله عزَّ وجلَّ الطاعون في بني إسرائيل ، وكان فنحاص صاحب أمر موسى غائباً حين صنع زمري بن شلوم ما صنع ، فجاء الطاعون يجوس فيهم ، فأخبر الخبر ، فأخذ حربته ثم دخل القبة وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته ثم خرج بهما رافعهما إلى السماء وجعل يقول : اللهم هكذا نفعل بمن يعصيك ، ورفع الطاعون فحسب من هلك من بني إسرائيل في الطاعون فيما بين أن أصاب زمري المرأة إلى أن قتله فنحاص ، فوجدوه قد هلك منهم سبعون ألفاً ، والمقلل لهم يقول عشرون ألفاً في ساعة من النهار ، ففي بلعام بن باعوراء أنزل الله : { واتل عَلَيْهِمْ نَبَأَ الذي ءَاتَيْنَاهُ ءَايَاتِنَا فانسلخ مِنْهَا } إلى قوله { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } .
(1/920)
وقوله تعالى : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الكلب إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث } اختلف المفسرون في معناه ، فعلى سياق ابن إسحاق عن سالم عن أبي النضر أن بلعاماً اندلع لسانه على صدره فتشبيهه بالكلب في لهثه في كلتا حالتيه إن زجر وإن ترك ظاهر ، وقيل : معناه فصار مثله في ضلاله واستمراره فيه وعدم انتفاعه بالدعاء إلى الإيمان وعدم الدعاء ، كالكلب في لهيثه في حالتيه إن حملت عليه ، وإن تركته هو يلهث في الحالين ، فكذلك هذا لا ينتفع بالموعظة والدعوة إلى الإيمان ولا عدمه ، كما قال تعالى : { سَوَآءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } [ البقرة : 6 ] ، { استغفر لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ } [ التوبة : 80 ] . وقيل : معناه أن قلب الكافر والمنافق والضال ضعيف فارغ من الهدى فهو كثير الوجيب فعبر عن هذا بهذا ، وقوله تعالى : { فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } ، يقول تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { فاقصص القصص لَعَلَّهُمْ } أي لعل بني إسرائيل العالمين بحال بلعام ، وما جرى له في إضلال الله إياه وإبعاده من رحمته ، بسبب أنه استعمل نعمة الله عليه في تعليمه الاسم الأعظم الذي إذا سئل به أعطى ، وإذا دعي به أجاب ، في غير طاعة ربه ، بل دعا به على حزب الرحمن ، وشعب الإيمان ، أتباع عبده ورسوله في ذلك الزمان ، كليم الله موسى بن عمران عليه السلام ، ولهذا قال : { لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } أي فيحذروا أن يكونوا مثله ، فإن الله قد أعطاهم علماً وميزهم على من عداهم من الأعراب ، وجعل بأيديهم صفة محمد صلى الله عليه وسلم يعرفونها كما يعرفون أبناءهم ، فهم أحق الناس وأولاهم باتباعه ومناصرته وموازرته كما أخبرتهم أنبياؤهم بذلك وأمرتهم به ، ولهذا من خالف منهم ما في كتابه وكتمه فلم يعلم به العباد ، أحل الله به ذلاً في الدنيا موصولاً بذل الآخرة ، وقوله : { سَآءَ مَثَلاً القوم الذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا } يقول تعالى : ساء مثلاً مثل القوم الذين كذبوا بآياتنا أي ساء مثلهم أن شبهوا بالكلاب التي لا همة لها إلا في تحصيل أكلة أو شهوة ، فمن خرج عن حيز العلم والهدى وأقبل على شهوة نفسه ، واتبع هواه صار شبيهاً بالكلب وبئس المثل مثله؛ ولهذا ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
(1/921)
« ليس منا مثل السوء ، العائد في هبته كالكلب يعود في قيثه » وقوله : { وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ } أي ما ظلمهم الله ، ولكن هم ظلموا أنفسهم بإعراضهم عن اتباع الهوى وطاعة المولى ، إلى الركون إلى دار البلى ، والإقبال على تحصيل اللذات وموافقة الهوى .
(1/922)
مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَنْ يُضْلِلْ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178)
يقول تعالى : من هداه الله فإنه لا مضل له ، ومن أضله فقد خاب وخسر وضل لا محالة ، فإنه تعالى ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ولهذا جاء في حديث ابن مسعود : « إن الحمدلله نحمده ونستعينه ونستهديه ونستغفره ، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا ، من يهد الله فلا مضل له ، ومن يضلل الله فلا هادي له ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله » .
(1/923)
وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179)
يقول تعالى : { وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ } أي خلقنا وجعلنا لجهنم { كَثِيراً مِّنَ الجن والإنس } أي هيأناهم لها وبعمل أهلها يعملون ، فإنه تعالى لما أراد أن يخلق الخلق علم ما هم عاملون قبل كونهم ، فكتب ذلك عنده في كتاب قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، كما ورد في « صحيح مسلم » عن عبد الله بن عمرو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله قدر مقادير الخلق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة ، وكان عرشه على الماء » ، وفي « صحيح مسلم » أيضاً عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت : « دعي النبي صلى الله عليه وسلم إلى جنازة صبي من الأنصار ، فقلت : يا رسول الله طوبى له ، عصفور من عصافير الجنة لم يعمل السوء ولم يدركه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أو غير ذلك يا عائشة ، إن الله خلق الجنة وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم ، وخلق النار وخلق لها أهلاً وهم في أصلاب آبائهم « وفي » الصحيحين « من حديث ابن مسعود : » ثم يبعث الله إليه الملك فيؤمر بأربع كلمات ، فيكتب رزقه وأجله وعمله وشقي أم سعيد « ، وتقدم أن الله لما استخرج ذرية آدم من صلبه ، وجعلهم فريقين أصحاب اليمين وأصحاب الشمال قال : » هؤلاء للجنة ولا أبالي ، وهؤلاء للنار ولا أبالي « ، والأحاديث في هذا كثيرة . وقوله تعالى : { لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَآ } يعني ليس ينتفعون بشيء من هذه الجوارح التي جعلها الله سبباً للهداية ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعاً وَأَبْصَاراً وَأَفْئِدَةً فَمَآ أغنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلاَ أَبْصَارُهُمْ وَلاَ أَفْئِدَتُهُمْ مِّن شَيْءٍ إِذْ كَانُواْ يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ الله } [ الأحقاف : 26 ] الآية ، وقال تعالى : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } [ البقرة : 18 ] هذا في حق المنافقين ، وقال في حق الكافرين : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } [ البقرة : 171 ] ولم يكونوا صماً ولا بكماً ولا عمياً إلا عن الهدى ، كما قال تعالى : { وَلَوْ عَلِمَ الله فِيهِمْ خَيْراً لأَسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُمْ مُّعْرِضُونَ } [ الأنفال : 23 ] ، وقال : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] ، وقال : { وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرحمن نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ } [ الزخرف : 36 ] ، وقوله تعالى : { أولئك كالأنعام } أي هؤلاء الذين لا يسمعون الحق ولا يعونه ولا يبصرونه الهدى ، كالأنعام السارحة التي لا تنتفع بهذه الحواس منها إلا في الذي يقيتها في ظاهر الحياة الدنيا ، كقوله تعالى : { وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ كَمَثَلِ الذي يَنْعِقُ بِمَا لاَ يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَآءً وَنِدَآءً } [ البقرة : 171 ] أي ومثلهم في حال دعائهم إلى الإيمان كمثل الأنعام إذا دعاها راعيها لا تسمع إلا صوته ، ولا تفقه ما يقول ، ولهذا قال في هؤلاء : { بَلْ هُمْ أَضَلُّ } أي من الدواب ، لأنها قد تستجيب مع ذلك لراعيها إذا أنس بها ، وإن لم تفقه كلامه بخلاف هؤلاء؛ ولأنها تفعل ما خلقت له إما بطبعها وإما بتسخيرها بخلاف الكافر ، فإنه إنما خلق ليعبد الله ويوحده فكفر بالله وأشرك به ، ولهذا من أطاع الله من البشر كان أشرف من مثله من الملائكة في معاده ، ومن كفر به من البشر كانت الدواب أتم منه ، ولهذا قال تعالى : { أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ أولئك هُمُ الغافلون } .
(1/924)
وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (180)
عن أبي هريرة رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله تسعاً وتسعين اسماً مائة إلا واحداً من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر تحب الوتر » ثم ليعلم أن الأسماء الحسنى غير منحصرة في تسعة وتسعين ، بدليل ما رواه الإمام أحمد في « مسنده » عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال : اللهم إني عبدك ابن عبدك ، ابن أمتك ، ناصيتي بيدك ، ماضٍ فيَّ حكمك ، عدل فيَّ قضاؤك ، أسألك بكل اسم هو لك سميت به نفسك ، أو أنزلته في كتابك ، أو علمته أحداً من خلقك ، أو استأثرت به في علم الغيب عندك ، أن تجعل القرآن العظيم ربيع قلبي ، ونور صدري ، وجلاء حزني ، وذهاب همي ، إلا أذهب الله حزنه وهمه ، وأبدل مكانه فرحاً » . فقيل : يا رسول الله أفلا نتعلمها؟ فقال : بلى ينبغي لكل من سمعها أن يتعلمها « وذكر ابن العربي أحد أئمة المالكية في كتابه ( الأحوذي في شرح الترمذي ) أن بعضهم جمع من الكتاب والسنّة من أسماء الله ألف اسم ، فالله أعلم . وقال ابن عباس في قوله تعالى : { وَذَرُواْ الذين يُلْحِدُونَ في أَسْمَآئِهِ } ، قال : إلحاد الملحدين أن دعوا اللات في أسماء الله ، وقال مجاهد : اشتقوا اللات من الله ، والعزى من العزيز ، وقال قتادة : يلحدون يشركون في أسمائه ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : الإلحاد : التكذيب ، وأصل الإلحاد في كلام العرب العدول عن القصد ، والميل والجور والانحراف ، ومنه اللحد في القبر لانحرافه إلى جهة القبلة عن سمت الحفر .
(1/925)
وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181)
يقول تعالى : { وَمِمَّنْ خَلَقْنَآ } أي بعض الأمم { أُمَّةٌ } قائمة بالحق قولاً وعملاً { يَهْدُونَ بالحق } يقولونه ويدعون إليه ، { وَبِهِ يَعْدِلُونَ } يعملون ويقضون ، وقد جاء في الآثار أن المراد في الآية هذه الأمة المحمدية ، قال قتادة : « بلغني أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول إذا قرأ هذه الآية : » هذه لكم ، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها « ، { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن من أمتي قوماً على الحق حتى ينزل عيسى ابن مريم متى ما نزل « ، وفي » الصحيحين « عن معاوية بن أبي سفيان قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة « ، وفي رواية : » حتى يأتي أمر الله وهم على ذلك « .
(1/926)
وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لَا يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183)
يقول تعالى : { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } ومعناه أنه يفتح لهم أبواب الرزق ووجوه المعاش في الدنيا حتى يغتروا بما هم فيه ويعتقدوا أنهم على شيء ، كما قال تعالى : { فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ } [ الأنعام : 44 ] ، ولهذا قال تعالى : { وَأُمْلِي لَهُمْ } أي وسأملي لهم أي طول لهم ما هم فيه { إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ } أي قوي سديد .
(1/927)
أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا مَا بِصَاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ (184)
يقول تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ } هؤلاء المكذبون بآياتنا { مَا بِصَاحِبِهِمْ } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم { مِّن جِنَّةٍ } أي ليس به جنون بل هو رسول الله حقاً ، دعا إلى حق { إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } أي ظاهر لمن كانله لب وقلب يعقل به ويعي به كما قال تعالى : { وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ } [ التكوير : 22 ] ، وقال تعالى : { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِكُمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَّكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ } [ سبأ : 46 ] ، يقول : { ثُمَّ تَتَفَكَّرُواْ } في هذا الذي جاءكم بالرسالة من الله أبه جنون أم لا ، فإنكم إذا فعلتم ذلك بان لكم وظهر أنه رسول الله حقاً وصدقاً ، وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان على الصفا فدعا قريشاً ، فجعل يفخذهم فخذاً فخذاً ، يا بني فلان ، يا بني فلان ، فحذرهم بأن الله ووقائع الله ، فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون ، بات يصوت إلى الصباح أو حتى أصبح ، فأنزل الله تعالى : { أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ } .
(1/928)
أَوَلَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185)
يقول تعالى : أولم ينظر هؤلاء المكذبون بآياتنا في ملك الله وسلطانه في السماوات والأرض ، وفيما خلق من شيء فيهما ، فيتدبروا ذلك ويعتبروا به ، فيؤمنوا بالله ويصدقوا رسوله ، وينيبوا إلى طاعته ، ويخلعوا الأنداد والأوثان ، ويحذروا أن تكون آجالهم قد اقتربت فيهلكوا على كفرهم ، ويصيروا إلى عذاب الله وأليم عقابه ، وقوله : { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } يقول : فبأي تخويفٍ وتحذير وترهيب بعد تحذير محمد صلى الله عليه وسلم وترهيبه الذي أتاهم به من عند الله ، يصدقون إن لم يصدقوا بهذا الحديث الذي جاءهم به محمد من عند الله عزَّ وجلَّ؟
(1/929)
مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَا هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)
يقول تعالى من كتب عليه الضلالة فإنه لا يهديه أحد ، ولو نظر لنفسه فيما نظر فإنه لا يجزي عنه شيئاً { وَمَن يُرِدِ الله فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ الله شَيْئاً } [ المائدة : 41 ] ، وكما قال تعالى : { قُلِ انظروا مَاذَا فِي السماوات والأرض وَمَا تُغْنِي الآيات والنذر عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } [ يونس : 101 ] .
(1/930)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لَا يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلَّا هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ اللَّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ (187)
يقول تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الساعة } قيل : نزلت في قريش ، وقيل في نفر من اليهود ، والأول أشبه لأن الآية مكية ، وكانوا يسألون عن وقت الساعة استبعاداً لوقوعها وتكذيباً بوجودها ، كما قال تعالى : { وَيَقُولُونَ متى هذا الوعد إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 48 ] ، وقال تعالى : { يَسْتَعْجِلُ بِهَا الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بِهَا والذين آمَنُواْ مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ } [ الشورى : 18 ] ، وقوله : { أَيَّانَ مُرْسَاهَا } . قال ابن عباس : منتهاها أي متى محطها ، وأيان آخر مدة الدنيا الذي هو أول وقت الساعة : { قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَآ إِلاَّ هُوَ } ، أمر تعالى رسوله صلى الله عليه وسلم إذا سئل عن وقت الساعة أن يرد علمها إلى الله تعالى ، فإنه هو الذي يظهر أمرها ، ومتى يكون على التحديد ، لا يعلم ذلك إلا هو تعالى ، ولهذا قال : { ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض } . قال قتادة : ثقل علمها على أهل السماوات والأرض ، قال الحسن : إذا جاءت ثقلت على أهل السماوات والأرض ، يقول كبرت عليهم ، وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله : { ثَقُلَتْ فِي السماوات والأرض } قال : ليس شيء من الخلق إلا يصيبه من ضرر يوم القيامة ، وقال ابن جريج : إذا جاء انشقت السماء ، وانتثرت النجوم وكورت الشمس ، وسيرت الجبال ، وكان ما قال الله عزَّ وجلَّ ، فذلك ثقلها ، واختار ابن جرير رحمه الله أن المراد : ثقل علم وقتها على أهل السماوات والأرض كما قال قتادة ، كقوله تعالى : { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } ، ولا ينفي ذلك ثقل مجيئها على أهل السماوات والأرض والله أعلم ، وقال السدي : خفيت في السماوات والأرض ، فلا يعلم قيامها حين تقوم ملك مقرب ولا نبي مرسل { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } يبغتهم قيامها تأتيهم على غفلة ، وقال قتادة : قضى الله أنها { لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً } قال : وذكر لنا أن نبي الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : « إن الساعة تهيج بالناس ، والرجل يصلح حوضه والرجل يسقي ماشيته ، والرجل يقيم سلعته في السوق ، ويخفض ميزانه ويرفعه » وقال البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تقوم حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمنوا أجمعون ، فذلك حين لا ينفع نفساً إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيراً ، ولتقومن الساعة ، وقد نشر الرجلان ثوبهما فلا يتبايعانه ، ولا يطويانه ، ولتقومن الساعة وقد انصرف الرجل بلبن لقحته فلا يطعمه ، ولتقومن الساعة وهو يليط حوضه فلا يسقي فيه ، ولتقومن الساعة والرجل قد رفع أكلته إلى فيه فلا يطعمها » .
وقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } اختلف المفسرون في معناه ، فقيل : معناه كأنّ بينك وبينهم مودة كأنك صديق لهم ، قال ابن عباس : لما سأل الناس النبي صلى الله عليه وسلم عن الساعة سألوه سؤال قوم كأنهم يرون أن محمداً حفي بهم ، فأوحى الله إليه : إنما علمها عنده استأثر به فلم يطلع الله عليها ملكاً مقرباً ولا رسولاً ، وقال قتادة : قالت قريش لمحمد صلى الله عليه وسلم : إن بيننا وبينك قرابة فأسرَّ إلينا متى الساعة؟ فقال الله عزَّ وجلَّ : { يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } ، والصحيح عن مجاهد قال استحفيت عنها السؤال حتى علمت وقتها ، وكذا قال الضحاك عن ابن عباس : كأنك عالم بها لست تعلمها ، وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم { كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا } : كأنك بها عالم وقد أخفى الله علمها على خلقه ، وقرأ :
(1/931)