بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (1)
تفسير البسملة
{ بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ } .
روي عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله كان لا يعرف فضل السورة حتى ينزل عليه { بِسمِ الله الرحمن الرَّحِيمِ } .
وقد افتتح بها الصحابة كتاب الله ، ولهذا تُستحب في أول كل قولٍ وعمل لقوله عليه السلام : « كل أمر لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أجذم » فتستحب في أول الوضوء لقوله عليه السلام : « لا وضوء لمن لم يذكر اسم الله عليه » وتستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وأوجبها آخرون وتستحب عند الأكل لقوله عليه السلام : « قل : بسم الله ، وكلْ بيمينك وكلْ ممّا يليك » ، وتستحب عند الجماع لقوله عليه السلام : « لو أنَّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إنْ يُقدَّر بينهما ولدٌ لم يضره الشيطان أبداً » .
والمتعلق بالباء في قوله { بِسمِ الله } منهم من قدّره باسم تقديره : باسم الله ابتدائي ، ومنهم من قدّره بفعل تقديره : أبدأ باسم الله ، أو ابتدأت باسم الله ، وكلاهما صحيح فإن الفعل لا بدَّ له من مصدر ، فلك أن تقدّر الفعل ومصدره ، فالمشروعُ ذكر اسم الله في الشروع في ذلك كله تبركاً وتيمناً واستعانة على الإتمام والتقبل ، ويدل للأول قوله تعالى : { بِسْمِ الله مجراها وَمُرْسَاهَا } [ هود : 41 ] ويدل للثاني في قوله تعالى : { اقرأ باسم رَبِّكَ الذي خَلَقَ } [ العلق : 1 ] .
و { الله } علم على الربّ تبارك وتعالى يقال إنه ( الاسم الأعظم ) لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى : { هُوَ الله الذي لاَ إله إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الغيب والشهادة هُوَ الرحمن الرحيم } [ الحشر : 22 ] الآيات ، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات كما قال تعالى : { وَللَّهِ الأسمآء الحسنى فادعوه بِهَا } [ الأعراف : 180 ] ، وقال تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأسمآء الحسنى } [ الإسراء : 110 ] وفي الصحيحين : « إنّ لله تسعة وتسعين اسماً ، مائة إلا واحداً ، من أحصاها دخل الجنة » .
وهو اسم لم يسمّ به غيره تبارك وتعالى ولهذا لا يعرف له - في كلام العرب - اشتقاقٌ فهو اسم جامد وقد نقله القرطبي عن جماعة من العلماء منهم ( الشافعي ) و ( الغزالي ) و ( إمام الحرمين ) وقيل : إنه مشتقٌّ من أله يأله لاهةً ، وقد قرأ ابن عباس { ويذرك وإلاهتك } أي عبادتك ، وقيل : مشتقٌّ من وله إذا تحيّر ، لأنه تعالى يحير في الفكر في حقائق صفاته ، وقيل : مشتقٌّ من ألهتُ إلى فلان : أي سكنت إليه ، فالعقول لا تسكن إلاّ إلى ذكره ، الأرواح لا تفرح إلا بمعرفته ، لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره ، قال تعالى : { أَلاَ بِذِكْرِ الله تَطْمَئِنُّ القلوب } [ الرعد : 28 ] ، قد اختار الرازي أنه اسم غير مشتق البتة ، وهو قول الخليل وسيبويه وأكثر الأصوليين والفقهاء .(1/1)
{ الرحمن الرَّحِيمِ } اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة ، و { رحمن } أشد مبالغة من { رحيم } وزعم بعضهم أنه غير مشتق ، قال القرطبي : والدليل على أنه مشتق ما روي في الحديث القدسي : « أنا الرحمن خلقتُ الرحم وشققت لها اسماً من اسمي ، فمن وصلها وصلته ، ومن قطعها قطعته » قال القرطبي : وهذا نصٌ في الاشتقاق فلا معنى للمخالفة والشقاق ، وإنكار العرب لاسم { الرحمن } لجهلهم بالله وبما وجب له ، وبناء فعلان ليس كفعيل ، فإن ( فعلان ) لا يقع إلاّ على مبالغة الفعل نحو قولك ( رجلٌ غضبان ) للممتلى غضباً ، و ( فعيل ) قد يكون بمعنى الفاعل والمفعول . قال ابن جرير : { الرحمن } لجميع الخلق ، { الرَّحِيمِ } بالمؤمنين ، ولهذا قال تعالى : { الرحمن عَلَى العرش استوى } [ طه : 5 ] فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعمّ جميع خلقه برحمته ، وقال : { وَكَانَ بالمؤمنين رَحِيماً } [ الأحزاب : 43 ] فخصهم باسمه الرحيم . فدل على أن { الرحمن } أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه ، و { الرَّحِيمِ } خاصة بالمؤمنين ، واسمه تعالى { الرحمن } خاص لم يسم به غيره ، قال تعالى : { قُلِ ادعوا الله أَوِ ادعوا الرحمن } [ الإسراء : 110 ] وقال تعالى : { أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ؟ ولما تجرأ مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه الله جلباب الكذب وشهر به ، فلا يقال إلا ( مسيلمة الكذّاب ) فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر والمدر .
وقد زعم بعضهم أن الرحيم أشد مبالغة من الرحمن لأنه أكّد به ، والمؤكِّدُ لا يكون إلا أقوى من المؤَكَّد ، والجواب أن هذا ليس من باب التأكيد وإنما هو من باب النعت ولا يلزم ما ذكروه ، فإن قيل : فإذا كان الرحمن أشد مبالغة فهلا اكتفى به عن الرحيم؟ فقد قيل : إنه لمّا تسمّى غيره بالرحمن جيء بلفظ الرحيم ليقطع الوهم بذلك ، فإنه لا يوصف ب { الرحمن الرَّحِيمِ } إلا الله تعالى ، كذا رواه ابن جرير عن عطاء ووجهه بذلك والله أعلم .
والحاصل أن من أسمائه تعالى ما يسمى به غيره ، ومنها ما لا يسمى به غيره كاسم ( الله ) و ( الرحمن ) و ( الخالق ) و ( الرازق ) ونحو ذلك وأما ( الرحيم ) فإن الله وصف به غيره حيث قال في حقّ النبي : { بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] ، كما وصف غيره ببعض أسمائه فقال في حق الإنسان : { فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعاً بَصِيراً } [ الإنسان : 2 ] .(1/2)
الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (2)
قال ابن جرير : معنى { الحمد للَّهِ } الشكر لله خالصاً دون سائر ما يعبد من دونه ، ودون كل ما برأ من خلقه ، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد ، ولا يحيط بعددها غيره أحد ، في تصحيح الآلات لطاعته ، وتمكين جوارح المكلفين لأداء فرائضه ، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق ، وغذاهم به من نعيم العيش ، فلربنا الحمد على ذلك كله أولا وآخراً ، و { الحمد للَّهِ } ثناءٌ أثنى به على نفسه ، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال : قولوا الحمد لله ، ثم قال : وأهل المعرفة بلسان العرب يوقعون كلاً من الحمد والشكر مكان الآخر .
قال ابن كثير : وهذا الذي ادعاه ابن جرير فيه نظر ، لأنه اشتهر عند كثير من المتأخرين أن الحمد هو الثناء بالقول على المحمود بصفاته اللازمة والمتعدية ، والشكر لا يكون إلا على المتعدية ، ويكون بالجَنَان ، واللسان ، والأركان كما قال الشاعر :
أفادتكم النعماء مني ثلاثة ... يدي ولساني والضمير المحجّبا
وقال الجوهري : الحمد نقيض الذم تقول : حمدت الرجل أحمده حمداً فهو حميد ومحمود ، والتحميد أبلغ من الحمد ، والحمد أعمّ من الشكر ، والشكرُ هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف ، يقال شكرته وشكرتُ له وباللام أفصح ، وأما المدح فهو أعمّ من الحمد لأنه يكون للحي ، وللميت ، وللجماد ، كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك ، ويكون قبل الإحسان وبعده على الصفات المتعدية واللازمة أيضا فهو أعم .
وفي الحديث الشريف عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « أفضلُ الذكر لا إله إلا الله ، وأفضل الدعاء الحمدُ لله » ، وعنه صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما أنعم الله على عبدٍ نعمة فقال : الحمد لله ، إلاّ كان الذي أعطَى أفضل مما أخذ » وعن ابن عمر أن رسول الله حدَّثهم « أن عبداً من عباد الله قال : يا رب لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك ، وعظيم سلطانك ، فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى الله فقالا : يا ربنا إن عبداً قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها ، قال الله - وهو أعلم بما قال عبده - ماذا قال عبدي؟ قالا : يا رب إنه قال : لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك ، فقال الله لهما : اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها » .
والألف واللام في { الحمد } لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه لله تعالى كما جاء في الحديث : « اللهم لك الحمد كلُّه ، ولك الملك كلُّه ، وبيدك الخير كلُّه ، وإليك يرجع الأمر كلُّه » الحديث .
{ رَبِّ العالمين } الربُّ هو المالك المتصرف ، ويطلق في اللغة على السيد ، وعلى المتصرف للإصلاح ، وكلُّ ذلك صحيح في حق الله تعالى ، ولا يستعمل الرب لغير الله إلا بالإضافة ، تقول : ربُّ الدار ، وأما الرب فلا يقال إلا لله عزّ وجلّ .(1/3)
و { العالمين } جمع عالم وهو كل موجود سوى الله عزّ وجلّ ، وهو جمعٌ لا واحد له من لفظه والعوالم أصناف المخلوقات في السماوات ، وفي البر ، والبحر .
وقال الفراء وأبو عبيد : العالم عبارة عمّا يعقل وهم الإنس والجن والملائكة والشياطين ، ولا يقال للبهائم عالم .
وقال الزجاج : العالم كلُّ ما خلق الله في الدنيا والآخرة . قال القرطبي : وهذا هو الصحيح أنه شامل لكل العالمين قال تعالى : { قَالَ فِرْعَوْنُ وَمَا رَبُّ العالمين قَالَ رَبُّ السماوات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَآ إِن كُنتُمْ مُّوقِنِينَ } [ الشعراء : 23-24 ] . والعالم مشتقٌ من العلامة ، لأنه دال على وجود خالقه وصانعه وعلى وجدانيته جلَّ وعلا كما قال ابن المعتز :
فيا عجباً كيف يعصي الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد(1/4)
الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (3)
وقوله تعالى : { الرحمن الرَّحِيمِ } قال القرطبي : إنما وصف نفسه بالرحمن الرحيم بعد قوله : { رَبِّ العالمين } ليكون من باب قرن ( الترغيب بالترهيب ) ، كما قال تعالى : { نَبِّىءْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الغفور الرحيم * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ العذاب الأليم } [ الحجر : 49-50 ] ، وقوله : { إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ العقاب وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ } [ الأنعام : 165 ] فالرب فيه ترهيب ، والرحمن الرحيم ترغيب ، وفي الحديث : « لو يعلم المؤمن ما عند الله من العقوبه ما طمع في جنته أحد ، ولو يعلم الكافر ما عند الله من الرحمة ما قنط من رحمته أحد » .(1/5)
مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4)
قرأ بعض القراء { مَلِكَ } وقرأ آخرون { مالك } وكلاهما صحيح متواتر ، و { مالك } مأخوذ من المِلْك كما قال تعالى : { إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الأرض وَمَنْ عَلَيْهَا وَإِلَيْنَا يُرْجَعُونَ } [ مريم : 40 ] ، و { ملك } مأخوذ من المُلْك كما قال تعالى : { لِّمَنِ الملك اليوم } [ غافر : 16 ] ؟ وقال : { الملك يَوْمَئِذٍ الحق للرحمن } [ الفرقان : 26 ] وتخصيصُ الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه ، لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين وذلك عام في الدنيا والآخرة ، وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هنالك شيئاً ، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه كما قال تعالى : { لاَّ يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرحمن وَقَالَ صَوَاباً } [ النبأ : 38 ] ، وقال تعالى : { يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } [ هود : 105 ] ، وعن ابن عباس قال : يوم الدين يوم الحساب للخلائق ، يدينهم بأعمالهم إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر ، إلا من عفا عنه .
والمَلِكُ في الحقيقة هو الله عز وجل ، فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز ، وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يقبض الله الأرض ويطوي السماء بيمينه ، ثم يقول : أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون » .
و { الدين } : الجزاء والحساب كما قال تعالى { أَإِنَّا لَمَدِينُونَ } [ الصافات : 53 ] أي مجزيون محاسبون ، وفي الحديث : « الكَيّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت » أي حاسب نفسه ، وعن عمر رضي الله عنه : « حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا » .(1/6)
إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)
العبادةُ في اللغة : مأخوذة من الذلة ، يقال : طريقٌ معبّد ، وبعيرٌ معبَّد أي مذلّل .
وفي الشرع : هي ما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف ، وقدّم المفعول وكرّر للإهتمام والحصر ، أي لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك ، وهذا هو كمال الطاعة ، والدين يرجع كله إلى هذين المعنيين ، فالأول تبرؤ من الشرك ، والثاني تبرءٌ من الحول والقوة والتفويض إلى الله عزّ وجلّ ، وهذا المعنى في غير آيةٍ من القرآن : { فاعبده وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ } [ هود : 123 ] { قُلْ هُوَ الرحمن آمَنَّا بِهِ وَعَلَيْهِ تَوَكَّلْنَا } [ الملك : 29 ] . وتحول الكلام من الغيبة إلى المواجهة ، لأنه لما أثنى على الله فكأنه اقترب وحضر بين يدي الله تعالى فلهذا قال : { إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } بكاف الخطاب ، وفي هذا دليلٌ على أن أول السورة خبرٌ من الله تعالى بالثناء على نفسه بجميل صفاته الحسنى ، وإرشادٌ لعباده بأن يثنوا عليه بذلك .
وإنما قدّم { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } على { وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ } لإن العبادة له هي المقصودة ، والاستعانة وسيلة إليها ، والأصل أن يقدم ما هو الأهم فالأهم ، فإن قيل : فما معنى النون في { نَعْبُدُ } و { نَسْتَعِينُ } فإن كانت للجمع فالداعي واحد ، وإن كانت للتعظيم فلا يناسب هذا المقام؟ وقد أجيب : بأن المراد من ذلك الإخبار عن جنس العباد ، والمصلي فردٌ منهم ولا سيما إن كان في جماعة أو إمامهم ، فأخبر عن نفسه وعن إخوانه المؤمنين بالعبادة التي خُلقوا لأجلها وتوسَّط لهم بخير ، و { إِيَّاكَ نَعْبُدُ } ألطفُ في التواضع من ( إيَّاك عبدنا ) ، لما في الثاني من تعظيم نفسه من جعل نفسه وحده أهلاً لعبادة الله تعالى الذي لا يستطيع أحد أن يعبده حق عبادته ، ولا يثني عليه كما يليق به ، والعبادة مقام عظيم يَشْرُف به العبد لانتسابه إلى جناب الله تعالى كما قال بعضهم :
لا تدعني إلا بيا عبدها ... فإنه أشرف أسمائي
وقد سمّى رسوله صلى الله عليه وسلم بعبده في أشرف مقاماته فقال : { الحمد لِلَّهِ الذي أَنْزَلَ على عَبْدِهِ الكتاب } [ الكهف : 1 ] وقال : { وَأَنَّهُ لَمَّا قَامَ عَبْدُ الله يَدْعُوهُ } [ الجن : 19 ] وقال : { سُبْحَانَ الذي أسرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً } [ الإسراء : 1 ] فسماه عبداً عند إنزاله عليه ، وعند قيامه للدعوة ، وإسرائه به .(1/7)
اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ (6)
لما تقدم الثناء على المسؤول تبارك وتعالى ناسب أن يعقب بالسؤال ، وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله ثم يسأل حاجته ، لأنه أنجح للحاجة ، وأنجع للإجابة ولهذا أرشد الله إليه لأنه الأكمل .
والهداية هاهنا : الإرشاد والتوفيق وقد تُعدَّى بنفسها { اهدنا الصراط } وقد تعدى بإلى { فاهدوهم إلى صِرَاطِ الجحيم } [ الصافات : 23 ] وقد تُعدى باللام { الحمد للَّهِ الذي هَدَانَا لهذا } [ الأعراف : 43 ] أي وفقنا وجعلنا له أهلاً ، وأمّا { الصراط المستقيم } فهو في لغة العرب : الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه ، ثم تستعير العرب الصراط في كل قول وعمل وصف باستقامة أو اعوجاج ، واختلفت عبارات المفسرين من السلف الخلف في تفسير { الصراط } وإن كان يرجع حاصلها إلى شيء واحد وهو ( المتابعة لله وللرسول ) ، فروي أنه كتاب الله ، وقيل : إنه الإسلام ، قال ابن عباس : هو دين الله الذي لا اعوجاج فيه ، وقال ابن الحنفية : هو دين الله الذي لا يقبل من العباد غيره ، وقد فسّر الصراط بالإسلام في حديث ( النوالس بن سمعان ) عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ضرب الله مثلاً صراطاً مستقيماً ، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مفتَّحة ، وعلى الأبواب ستور مرخاة ، وعلى باب الصراط داعٍ يقول : يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا ، وداعٍ يدعوا من فوق الصراط ، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال : ويْحك لا تفتحه ، فإنك إن تفتحه تلجْه ، فالصراط الإسلام ، والسوران حدود الله ، والأبواب المفتحة محارم الله ، وذلك الداعي على رأس الصراط كتاب الله ، والداعي من فوق الصراط واعظ الله في قلب كل مسلم » وقال مجاهد : الصراط المستقيم : الحق ، وهذا أشمل ولا منافاة بينه وبين ما تقدم ، قال ابن جرير رحمه الله : والذي هو أولى بتأويل هذه الآية عندي أن يكون معنياً به وفقنا للثبات على ما ارتضيته ووفقت له من أنعمت عليه من عبادك من قول وعمل ، وذلك هو الصراط المستقيم لأن من وُفِّق لما وِّفق له من أنعم عليهم من النبيّين والصدّيقين والشهداء والصالحين فقد وفّق للإسلام .
( فإن قيل ) : فكيف يسأل المؤمن الهداية في كل وقت من صلاة وهو متصف بذلك؟ .
فالجواب : أن العبد مفتقر في كل ساعة وحالة إلى الله تعالى في تثبيته على الهداية ورسوخه فيها واستمراه عليها ، فأرشده تعالى إلى أن يسأله في كل وقت أن يمده بالمعونه والثبات والتوفيق ، فقد أمر تعالى الذين آمنوا بالإيمان : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ } [ النساء : 136 ] والمراد الثباتُ والمداومةُ على الأعمال المعينة على ذلك والله أعلم .(1/8)
صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ (7)
قوله تعالى { صِرَاطَ الذين أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ } مفسّر للصراط المستقيم ، والذين أنعم الله عليهم هم المذكورون في سورة النساء : { وَمَن يُطِعِ الله والرسول فأولئك مَعَ الذين أَنْعَمَ الله عَلَيْهِم مِّنَ النبيين والصديقين والشهدآء والصالحين وَحَسُنَ أولئك رَفِيقاً } [ النساء : 69 ] ، وعن ابن عباس : صراط الذين أنعمتَ عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصدّيقين والشهداء والصالحين ، وذلك نظير الآية السابقة ، وقال الربيع بن أنَس : هم النبيّون ، وقال ابن جريج ومجاهد : هم المؤمنون ، والتفسير المتقدم عن ابن عباس أعم وأشمل .
وقوله تعالى { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } بالجر على النعت ، والمعنى : اهدنا الصراط المستقيم ، صراط الذين أنعمتَ عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم ، وهم أهل الهداية والاستقامة ، غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين علموا الحق وعدلوا عنه ، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم ، فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق ، وأكد الكلام ب ( لا ) ليدل على أن ثَمَّ مسلكين فاسدين وهما : طريقة اليهود ، وطريقة النصارى ، فجيء ب ( لا ) لتأكيد النفي وللفرق بين الطريقتين ليجتنب كل واحدٍ منهما ، فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به ، واليهودُ فقدوا العمل ، والنصارى فقدوا العلم ، ولهذا كان الغضب لليهود ، والضلال للنصارى ، لكن أخصُّ أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم : { مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ } [ المائدة : 60 ] ، وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم : { قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَآءِ السبيل } [ المائدة : 77 ] ، وبهذا وردت الأحاديث والآثار ، فقد روي عن عدي بن حاتم أنه قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قوله تعالى : { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم } قال : هم اليهود { وَلاَ الضآلين } قال : النصارى . ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها : ( آمين ) ومعناه : اللهم استجب ، لما روي عن أبي هريرة أنه قال : « كان رسول الله إذا تلا { غَيْرِ المغضوب عَلَيْهِم وَلاَ الضآلين } قال : آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول » .(1/9)
الم (1) ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ (2)
{ الم } اختلف المفسِّرون في الحروف المقطعة التي في أوائل السور ، فمنهم من قال : هي مما استأثر الله بعلمه فردوا علمها إلى الله ولم يفسروها حكاه القرطبي في تفسيره ، ومنهم من فسرها واختلف هؤلاء في معناها فقال بعضهم : هي أسماء السور قال الزمخشري : وعليه إطباق الأكثر ، وقيل : هي اسم من أسماء الله تعالى يفتتح بها السور ، فكل حرف منها دل على اسم من أسمائه وصفة من صفاته ، فالألف مفتاح اسم ( الله ) واللام مفتاح اسمه ( لطيف ) والميم مفتاح اسمه ( مجيد ) ، وقال آخرون : إنما ذكرت هذه الحروف في أوائل السور التي ذكرت فيها بياناً ل ( إعجاز القرآن ) وأن الخلق عاجزون عن معارضته بمثله ، مع أنه مركب من هذه الحروف المقطعة التي يتخاطبون بها ، حكاه الرازي عن المبرد وجمع من المحققين ، وحكاه القرطبي عن الفراء ، وقرره الزمخشري ونصره أتم نصر ، وإليه ذهب الإمام ( ابن تيمية ) وشيخنا الحافظ ( أبو الحجاج المزي ) .
قال الزمخشري : ولم ترد كلها مجموعة في أول القرآن ، وإنما كررت ليكون أبلغ في التحدي والتبكيت ، كما كررت قصص كثيرة ، وكرر التحدي الصريح في أماكن ، وجاء منها على حرف واحد مثل { ص } وحرفين مثل { حم} وثلاثة مثل { الم } وأربعة مثل { المص } وخمسة مثل { كهيعص } لأن أساليب كلامهم منها ما هو على حرف وعلى حرفين وعلى ثلاثة وعلى أربعة وعلى خمسة لا أكثر من ذلك .
قال ابن كثير : ولهذا كل سورة افتتحت بالحروف فلا بد أن يذكر فيها الإنتصار للقرآن ، وبيان إعجازه وعظمته ، وهذا معلوم بالاستقراء في تسع وعشرين سورة مثل : { الم * ذَلِكَ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ } { الم * الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم * نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق } [ آل عمران : 1-3 ] { المص * كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 1-2 ] { الر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ } [ إبراهيم : 1 ] { الم * تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ } [ السجدة : 1-2 ] { حم* تَنزِيلٌ مِّنَ الرحمن الرحيم } [ فصلت : 1-2 ] وغير ذلك من الآيات الدالة على صحة ما ذهب إليه هؤلاء لمن أَمعن النظر .
{ ذَلِكَ الكتاب } قال ابن عباس : أي هذا الكتاب . والعربُ تعارض بين أسمي الإشارة فيستعملون كلاً منهما مكان الآخر وهذا معروفٌ في كلامهم . والكتابُ : القرآنُ ، ومن قال : إن المراد بذلك الإشارة إلى التوراة والإنجيل فقد أبعدَ النُجعة ، وأغرق في النزع ، وتكلّف ما لا علم له به . والريبُ : الشك ، أي لا شك فيه ، روي ذلك عن أُناسٍ من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن أبي حاتم : لا أعلم في هذا خلافاً .
وقد يستعمل الريب في التهمة ، قال جميل :
بثينة قالت : يا جميلُ أربتني ... فقلتُ : كلانا يا بثينُ مريب
واستعمل أيضاً في الحاجة كما قال بعضهم :
قضينا من تهامة كل ريبٍ ... وخيبر ثم أجممنا السيوفا(1/10)
والمعنى : إن هذا الكتاب ( القرآن ) لا شك فيه أنه نزل من عند الله كما قال تعالى : { تَنزِيلُ الكتاب لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ العالمين } [ السجدة : 2 ] . وقال بعضهم : هذا خبرٌ ومعناه النهي ، أي لا ترتابوا فيه . وخصت الهداية للمتقين كما قال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } [ فصلت : 44 ] ، وقال : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 82 ] إلى غير ذلك من الآيات الدالة على اختصاص المؤمنين بالنفع بالقرآن ، لأنه هو في نفسه هدى ، ولكن لا يناله إلا الأبرار كما قال تعالى : { وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ يونس : 57 ] . قال السُّدي : { هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ } يعني نوراً للمتقين ، وعن ابن عباس : المتقون هم المؤمنون الذين يتقون الشرك ويعملون بطاعة الله ، وقال الحسن البصري : اتقوا ما حرم عليهم ، وأدوا ما افترض عليهم . وقال قتادة : هم الذين نعتهم الله بقوله : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب وَيُقِيمُونَ الصلاوة } [ البقرة : 3 ] ، واختيار ابن جرير أنَّ الآية تعمُّ ذلك كله ، وهو كما قال . وفي الحديث الشريف : « لا يبلغ العبد أن يكون من المتقين حتى يدع ما بأس به حذراً مما به بأس » .
ويطلق الهدى ويراد به ما يقر في القلب من الإيمان ، وهذا لا يقدر على خلقه في قلوب العباد إلا الله عزّ وجلّ . قال تعالى : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ } [ القصص : 56 ] وقال : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } [ البقرة : 272 ] وقال : { مَن يُضْلِلِ الله فَلاَ هَادِيَ لَهُ } [ الأعراف : 186 ] ، ويطلق ويراد به بيان الحق والدلالة عليه ، قال تعالى : { وَإِنَّكَ لتهدي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الشورى : 52 ] ، وقال : { وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ } [ الرعد : 7 ] ، وقال : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } [ فصلت : 17 ] .
وأصل التقوى التوقي ممّا يكره لأن أصلها ( وقَوَى ) من الوقاية ، قال الشاعر :
فألقت قِناعاً دونه الشمسُ واتَّقَت ... بأحسنِ موصولينِ كفٍ ومعْصَم
وسأل عمرُ ( أبيَّ بن كعب ) عن التقوى فقال له : أما سلكتَ طريقاً ذا شوك؟ قال : بلى ، قال : فما عملت؟ قال : شمَّرتُ واجتهدتُ ، قال : فذلك التقوى ، وأخذ هذا المعنى ابن المعتز فقال :
خل الذنوبَ صغيرَها ... وكبيرَها ذاكَ التُّقَى
واصْنَع كماشٍ فوقَ أرْ ... ضِ الشوك يحذَرُ ما يرى
لا تحقرنَّ صغيرة ... إِنَّ الجبال من الحصى
وفي سنن ابن ماجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ما استفاد المرء بعد تقوى الله خيراً من زوجة صالحة ، إن نظر إليها سرته ، وإن أمرها أطاعته ، وإن أقسم عليها أبرته ، وإن غاب عنها نصحته في نفسها وماله » .(1/11)
الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ (3)
الإيمان في اللغة يُطلق على التصديق المحض كما قال تعالى : { يُؤْمِنُ بالله وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ } [ التوبة : 61 ] ، وكما قال إخوة يوسف لأبيهم : { وَمَآ أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ } [ يوسف : 17 ] ، وكذلك إذا استعمل مقروناً مع الأعمال : { إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } [ الشعراء : 227 ] فأما إذا استعمل مطلقاً فالإيمان المطلوب لا يكون إلا اعتقاداً وقولاً وعملاً ، هكذا ذهب أكثر الأئمة وحكاه الشافعي وأحمد إجماعاً : أن الإيمان قول وعمل ، يزيد وينقص ، وقد ورد فيه آثار كثيرة أفردنا الكلام فيها في أول شرح البخاري ولله الحمد والمنة ، ومنهم من فسره بالخشية : { إِنَّ الذين يَخْشَوْنَ رَبَّهُم بالغيب } [ الملك : 12 ] والخشيةُ خلاصة الإيمان العلم : { إِنَّمَا يَخْشَى الله مِنْ عِبَادِهِ العلماء } [ فاطر : 28 ] .
وأما الغيب المراد هاهنا فقد اختلفت عبارات السلف فيه ، فقال أبو العالية : يؤمنون بالله وملائكته وكتبه ورسله ، وجنته ولقائه ، وبالحياة بعد الموت فهذا غيبٌ كله . وقال السُّدي عن ابن عباس وابن مسعود : الغيبُ ما غاب عن العباد من أمر الجنة وأمر النار وما ذكر في القرآن . وقال عطاء : من آمن بالله فقد آمن بالغيب . فكل هذه متقاربة في معنى واحد والجميع مراد .
روى ابن كثير بسنده عن عبد الرحمن بن يزيد أنه قال : « كنا عند عبد الله بن مسعود جلوساً فذكرنا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وما سبقونا به ، فقال عبد الله : إن أمر محمد صلى الله عليه وسلم كان بَيِّناً لمن رآه ، والذي لا إله غيره ما آمن أحدٌ قط إيماناً أفضل من إيمانٍ بغيب ، ثم قرأ : { الذين يُؤْمِنُونَ بالغيب - إلى قوله - المفلحون } وفي معنى هذا الحديث ما رواه أحمد عن ( ابن محيريزِ ) قال : قلت لأبي جمعة حدثْنا حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال نعم أحدثك حديثاً جيداً : » تغدينا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعنا أبو عبيدة بن الجراح فقال يا رسول الله : هل أحد خير منا؟ أسلمنا معك ، وجاهدنا معك ، قال : نعم ، قومٌ من بعدكم يؤمنون بي ولم يروني « وفي رواية أُخرى عن صالح بن جبير قال : قدم علينا أبو جمعة الأنصاري ، صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ببيت المقدس يصلي فيه ومعنا يومئذٍ ( رجاء بن حيوة ) رضي الله عنه ، فلما انصرف خرجنا نشيِّعه فلما أراد الانصراف قال : إنَّ لكم جائزة وحقاً أحدثكم بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم قلنا : هات رحمك الله ، قال : » كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم - ومعنا معاذ ابن جبل عاشر عشرة - فقلنا يا رسول الله : هل من قومٍ أعظم منا أجراً؟ آمنا بك واتبعناك ، قال : « ما يمنعكم من ذلك ورسول الله بين أظهركم يأتيكم بالوحي من السماء؟ بل قوم بعدكم يأتيهم كتاب من بين لوحين ، يؤمنون به ويعملون بما فيه ، أولئك أعظم منكم أجراً أولئك أعظم منكم أجراً » « .(1/12)
وقوله تعالى : { وَيُقِيمُونَ الصلاوة } قال ابن عباس إقامة الصلاة : إتمامُ الركوع والسجود ، والتلاوة والخشوع ، والإقبال عليها فيها . وقال قتادة : إقامة الصلاة : المحافظة على مواقيتها ووضوئها ، وركوعها وسجودها .
وأصل الصلاة في كلام العرب الدعاء ، قال الأعشى :
لها حارسٌ لا يبرح الدهرَ بيتَها ... وإن ذبحت صلَّى عليها وزمزما
وقال الأعشى أيضاً :
عليك مثل الذي صليتِ فاغتمضي ... نوماً فإن لجنب المرء مضطجعاً
يقول : عليك من الدعاء مثل الذي دعيته لي . وهذا ظهر؛ ثم استعملت الصلاة في الشرع في ذات الركوع والسجود بشروطها المعروفة وصفاتها المشهورة .
{ وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } قال ابن عباس : زكاة أموالهم . وقال ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : نفقةُ الرجل على أهله ، وهذا قبل أن تنزل الزكاة . وقال قتادة : فأنفقوا مما أعطاكم الله ، هذه الأموال عوارٍ وودائع عندك يا ابن آدم يوشك أن تفارقها . واختار ابن جرير أن الآية عامة في الزكاة والنفقات . قال ابن كثير : كثيراً ما يقرن الله تعالى بين الصلاة والإنفاق من الأموال ، فإن الصلاة حق الله وعبادته وهي مشتملة على توحيده والثناء عليه ، وتمجيده والابتهال إليه ، ودعائه والتوكيل عليه ، والإنفاق هو الإحسان إلى المخلوقين بالنفع المتعدي إليهم ، وأولى الناس بذلك القرابات والأهلون والمماليك ثم الأجانب ، فكلٌ من النفقات الواجبه والزكاة المفروضة داخلٌ في قوله تعالى : { وَممَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } .(1/13)
وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)
قال ابن عباس : أي يصدّقون بما جئت به من الله وما جاء به من قبلك من المرسلين ، لا يفرقون بينهم ولا يجحدون ما جاءوهم به من ربهم { وبالآخرة هُمْ يُوقِنُونَ } أي بالبعث والقيامة ، والجنة والنار ، والحساب والميزان ، وإنما سميت ( الآخرة ) لأنها بعد الدنيا . وقد اختلف المفسرون في الموصوفين هنا على ثلاثة أقوال حكاها ابن جرير :
أحدها : أن الموصوفين أولاً هم الموصوفون ثانياً ، وهم كل مؤمنٍ ، مؤمنو العرب ومؤمنو أهل الكتاب .
والثاني : هم مؤمنو أهل الكتاب وعلى هذين تكون الواو عاطفة صفاتٍ على صفات كما قال تعالى : { سَبِّحِ اسم رَبِّكَ الأعلى * الذي خَلَقَ فسوى * والذي قَدَّرَ فهدى } [ الأعلى : 1-3 ] فعطف الصفات بعضها على بعض .
والثالث : أن الموصوفين أولاً مؤمنو العرب ، والموصوفون ثانياً بقوله : { يُؤْمِنُونَ بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَآ أُنْزِلَ مِن قَبْلِكَ } هم مؤمنو أهل الكتاب ، واختاره ابن جرير ويستشهد بقوله تعالى : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ } [ آل عمران : 199 ] وبقوله تعالى : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ } [ القصص : 52-53 ] ، وبما روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين : رجل من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي ، ورجل مملوك أدى حقَّ الله وحقَّ مواليه ، ورجل أدّب جاريته فأحسن تأديبها ثم أعتقها وتزوجها » .
قلت : والظاهر قول مجاهد : أربع آيات من سورة البقرة في نعت المؤمنين ، وآيتان في نعت الكافرين ، وثلاث عشرة في المنافقين ، فهذه الآيات الأربع عامة في كل مؤمن اتصف بها من عربي وعجمي وكتابي ، من إنسيّ وجني ، وليس تصح واحدة من هذه الصفات بدون الأُخرى ، بل كل واحدة مستلزمة للأُخرى وشرط معها فلا يصح الإيمان بالغيب إلا مع الإيمان بما جاء به الرسول ، وما جاء به من قبله من الرسل ، والإيقان بالآخرة ، كما أن هذا لا يصح إلا بذاك ، وقد أمر الله المؤمنين بذلك كما قال تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ آمِنُواْ بالله وَرَسُولِهِ والكتاب الذي نَزَّلَ على رَسُولِهِ والكتاب الذي أَنزَلَ مِن قَبْلُ } [ النساء : 136 ] وقال تعالى : { وقولوا آمَنَّا بالذي أُنزِلَ إِلَيْنَا وَأُنزِلَ إِلَيْكُمْ وإلهنا وإلهكم وَاحِدٌ } [ العنكبوت : 46 ] . وأخبر تعالى عن المؤمنين كلهم بذلك فقال : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } [ البقرة : 285 ] الآية .(1/14)
أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)
يقول تعالى : { أولئك } أي المتصفون بما تقدم من الإيمان بالغيب ، وإقام الصلاة ، والإنفاق من الذي رزقهم الله ، والإيمان بما أنزل إلى الرسول ، والإيقان بالآخرة { على هُدًى } أي على نور وبيان وبصيرة من الله تعالى ، { وأولئك هُمُ المفلحون } أي في الدنيا والآخرة ، وقال ابن عباس { على هُدًى مِّن رَّبِّهِمْ } أي على نورٍ من ربهم واستقامة على ما جاءهم به { وأولئك هُمُ المفلحون } أي الذين أدركوا ما طلبوا ، ونجوا من شر ما هربوا .(1/15)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (6)
يقول تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } أي غطوا الحق وستروه ، سواء عليهم إنذارك وعدمه ، فإنهم لا يؤمنون بما جئتهم به كما قال تعالى : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 96-97 ] أي إن من كتب الله عليه الشقاوة فلا مسعد له ، ومن أضله فلا هادي له ، فلا تذهب نفسك عليهم حسرات ، وبلغهم الرسالة ، فمن استجاب لك فله الحظ الأوفر ، ومن تولى فلا يهمنك ذلك { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } [ الرعد : 40 ] .
وعن ابن عباس في قوله : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ . . . } الآية قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره الله تعالى أنه لا يؤمن إلا من سبق له من الله السعادةُ في الذكر الأول ، ولا يضلّ إلا من سبق له من الله الشقاءُ في الذكر الأول .
وقوله تعالى : { لاَ يُؤْمِنُونَ } جملة مؤكدة للتي قبلها أي هم كفّار في كلا الحالين .(1/16)
خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (7)
{ خَتَمَ الله } أي طبع على قلوبهم وعلى سمعهم { وعلى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ } فلا يبصرون هدى ، ولا يسمعون ولا يفقهون ولا يعقلون . قال مجاهد : الختم : الطبعُ ، ثبتت الذنوب على القلب فحفَّت به من كل نواحيه حتى تلتقي عليه ، فالتقاؤها عليه الطبعُ ، والطبعُ الختم ، وقد وصف تعالى نفسه بالختم والطبع عل قلوب الكافرين مجازاة لكفرهم كما قال : { بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ } [ النساء : 155 ] وفي الحديث « يا مقلب القلوب ثبت قلوبنا على دينك » .
قال ابن جرير : وقال بعضهم : إن معنى قوله تعالى : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ } إخبار من الله عن تكبرهم وإعراضهم عن الاستماع لما دعوا إليه من الحق ، كما يقال : فلان أصمُّ عن هذا الكلام إذا امتنع من سماعه ورفع نفسه عن تفهمه تكبراً ، قال : وهذا لا يصح لأن الله قد أخبر أنه هو الذي ختم على قلوبهم وأسماعهم . قلت : وقد أطنب الزمخشري في تقرير ما ردّه ابن جرير هاهنا ، وتأول الآية من خمسة أوجه وكلها ضعيفة جداً ، وما جرّأه على ذلك إلاّ اعتزاله ، لأن الختم على قلوبهم ومنعها من وصول الحق إليها قبيح عنده يتعالى الله عنه في اعتقاده . ولو فهم قوله تعالى : { فَلَمَّا زاغوا أَزَاغَ الله قُلُوبَهُمْ } [ الصف : 5 ] ، وقوله : { وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ } [ الأنعام : 110 ] وما أشبه ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى إنما ختم على قلوبهم وحال بينهم وبين الهدى جزاء وفاقاً على تماديهم في الباطل وتركهم الحق - وهذا عدل منه تعالى حسنٌ وليس بقبيح - فلو أحاط علماً بهذا لما قال ما قال .
قال ابن جرير : والحق عندي في ذلك ما صح بنظيره الخبرُ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن المؤمن إذا أذنب ذنباً كانت نكتةٌ سوداء في قلبه ، فإن تاب ونزع واستعتب صقل قلبه ، وإن زاد زادت حتى تعلو قلبه ، فذلك الران الذي قال الله تعالى : { كَلاَّ بَلْ رَانَ على قُلُوبِهِمْ مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ } [ المطففين : 14 ] » فأخبر صلى الله عليه وسلم أن الذنوب إذا تتابعت على القلوب أغلقتها ، وإذا أغلقتها أتاها حينئذٍ الختم من قبل الله تعالى والطبع ، فلا يكون للإيمان إليها مسلك ، ولا للكفر عنها مخلص ، فذلك هو الختم والطبع الذي ذكره الله في قوله : { خَتَمَ الله على قُلُوبِهمْ وعلى سَمْعِهِمْ } نظيرُ الطبع والختم على ما تدركه الأبصار من الأوعيه والظروف .(1/17)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (9)
لما تقدم وصف المؤمنين في صدر السورة بأربع آيات ، ثمّ عرف حال الكافرين بآيتين ، شرع تعالى في بيان حال المنافقين ، الذين يظهرون الإيمان ويبطنون الكفر ، ولمّا كان أمرهم يشتبه على كثير من الناس ، أطنب في ذكرهم بصفات متعددة ، كلٌ منها نفاق ، كما أنزل سورة « براءة » وسورة « المنافقين » فيهم ، وذكرهم في سورة « النور » وغيرها من السور ، تعريفاً لأحوالهم لتجتنب ويُجتنب من تلبّس بها أيضاً فقال تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر . . } الآيات .
والنفاق : هو إظهار الخير وإسرار الشر ، وهو أنواع : اعتقادي وهو الذي يخلد صاحبه في النار ، وعملي : وهو من أكبر الذنوب ، لأن المنافق يخالف قولُه فعله ، وسرُّه علانيَتَه ، وإنما نزلت صفات المنافقين في السورة المدنية ، لأن مكّة لم يكن فيها نفاق بل كان خلافه ، ولهذا نبّه الله سبحانه على صفات المنافقين لئلا يغتر بظاهر أمرهم المؤمنون ، فيقع لذلك فساد عريض من عدم الاحتراز منهم ، ومن اعتقاد إيمانهم وهم كفّار في نفس الأمر ، وهذا من المحذورات الكبار أن يظنَّ بأهل الفجور خيراً ، فقال تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَقُولُ آمَنَّا بالله وباليوم الآخر } أي يقولون ذلك قولاً كما قال تعالى : { إِذَا جَآءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله } [ المنافقون : 1 ] أي إنما يقولون ذلك إذا جاءوك فقط لا في نفس الأمر وليس الأمر كذلك كما كذبهم الله في شهادتهم بقوله : { والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ } [ المنافقون : 1 ] وفي اعتقادهم بقوله : { وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ } .
وقوله تعالى : { يُخَادِعُونَ الله والذين آمَنُوا } أي بإظهار ما أظهروه من الإيمان مع إسرارهم الكفر ، يعتقدون - بجهلهم - أنهم يخدعون الله بذلك وأن ذلك نافعهم عنده ، وأنه يروج عليه كما قد يروج على بعض المؤمنين ، ولهذا قابلهم على اعتقادهم ذلك بقوله : { وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ } أي ما يغرّون بصنيعهم هذا إلاّ أنفسهم ، وما يشعرون بذلك من أنفسهم كما قال تعالى : { إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] ومن القراء من قرأ : { وما يخادعون } وكلا القراءتين يرجع إلى معنى واحد .(1/18)
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10)
{ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ } أي شك { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } شكاً ، وعن ابن عباس { مرضٌ } نفاقٌ { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } نفاقاً ، وهذا كالأول . وقال عبد الرحمن بن أسلم : هذا مرضٌ في الدين وليس مرضاً في الأجساد ، والمرض الشك الذي دخلهم في الإسلام { فَزَادَهُمُ الله مَرَضاً } أي زادهم رجساً . وقرأ : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 124-125 ] يعني شراً إلى شرهم ، وضلالة إلى ضلالتهم وهذا الذي قاله هو الجزاء من جنس العمل . { وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ } وقرئ { يَكْذبون } و { ويُكَذّبون } وقد كانوا متصفين بهذا وهذا ، فإنهم كانوا كذبة ويكذبون بالغيب ، يجمعون بين هذا وهذا ، وحكمة كفّه عليه الصلاة والسلام عن قتل المنافقين ، مع علمه بأعيان بعضهم ما ثبت في الصحيحين أنه قال صلى الله عليه وسلم لعمر رضي الله عنه : « أكره أين يتحدث العرب أن محمداً يقتل أصحابه » ، ومعنى هذا خشيته عليه السلام أن يقع بسبب ذلك تغير لكثير من الأعراب عن الدخول في الإسلام ، ولا يعلمون حكمة قتله لهم ، وأن قتله إياهم إنما هو على الكفر ، فإنهم إنما يأخذونه بمجرد ما يظهر لهم فيقولون : إن محمداً يقتل أصحابه . وقال الشافعي : إنما منع رسول الله صلى الله عليه وسلم من قتل المنافقين ما كانوا يظهرونه من الإسلام مع العلم بنفاقهم ، لأن ما يظهرونه يجبُّ ما قبله ، وفي الحديث المجمع على صحته : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلا الله ، فإذا قالوها عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عزّ وجلّ » ومعنى هذا أن من قالها جرت عليه أحكام الإسلام ظاهراً فإن كان يعتقدها وجد ثواب ذلك في الآخرة ، وإن لم يعتقدها لم ينفعه جريان الحكم عليه في الدنيا : { يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُن مَّعَكُمْ قَالُواْ بلى ولكنكم فَتَنتُمْ أَنفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وارتبتم وَغرَّتْكُمُ الأماني حتى جَآءَ أَمْرُ الله } [ الحديد : 14 ] الآية فهم يخالطونهم في المحشر فإذا حقت المحقوقية تميزوا منهم وتخلفوا بعدهم { وَحِيلَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ مَا يَشْتَهُونَ } [ سبأ : 54 ] .(1/19)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ (12)
قال السُّدي عن ابن مسعود وعن أُناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم : هم المنافقون ، والفساد في الأرض هو الكفر والعمل بالمعصية ، وقال أبو العالية : { لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض } يعني لا تعصوا في الأرض ، وكان فسادهم ذلك معصية الله ، لأنه من عصى الله في الأرض أو أمر بمعصيته فقد أفسد في الأرض ، لأن صلاح الأرض والسماء بالطاعة ، وقال مجاهد : إذا ركبوا معصية الله فقيل لهم : لا تفعلوا كذا وكذا قالوا : إنما نحن على الهدى مصلحون .
قال ابن جرير : فأهل النفاق مفسدون في الأرض بمعصيتهم ربهم ، وركوبهم ما نهاهم عن ركوبه ، وتضييعهم فرائضه ، وشكهم في دينه ، وكذبهم المؤمنين بدعواهم غير ما هم مقيمون عليه من الشك والريب ، ومظاهرتهم أهل التكذيب بالله وكتبه ورسله على أولياء الله إذا وجدوا إلى ذلك سبيلاً ، فذلك إفساد المنافقين في الأرض ، وهم يحسبون أنهم بفعلهم ذلك مصلحون فيها . فالمنافق لما كان ظاهره الإيمان اشتبه أمره على المؤمنين ، وغرَّهم بقوله الذي لا حقيقة له ، ووالى الكافرين على المؤمنين ، ولو أنه استمر على حاله الأول لكان شره أخف ، ولهذا قال تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأرض قالوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي نريد أن نداري الفريقين من المؤمنين والكافرين ، ونصطلح مع هؤلاء وهؤلاء ، قال ابن عباس { إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ } أي إنما نريد الإصلاح بين الفريقين من المؤمنين وأهل الكتاب . يقول الله تعالى : { ألا إِنَّهُمْ هُمُ المفسدون ولكن لاَّ يَشْعُرُونَ } يقول : ألا إن هذا الذي يزعمون أنه إصلاح هو عين الفساد ، ولكن من جهلهم لا يشعرون بكونه فساداً .(1/20)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ (13)
يقول تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَآ آمَنَ الناس } ، أي كإيمان الناس بالله وملائكته وكتبه ورسله ، والبعث بعد الموت ، والجنة والنار ، وغير ذلك مما أخبر المؤمنين به ، وأطيعوا الله ورسوله في امتثال الأوامر ، وترك الزواجر { قالوا أَنُؤْمِنُ كَمَآ آمَنَ السفهآء } ؟ يعنون - لعنهم الله - أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : أنصير نحن وهؤلاء بمنزلة واحدة ، وعلى طريقة واحدة ، وهم سفهاء؟ .
والسفيه : هو الجاهل الضعيف الرأي ، القليل المعرفة بالمصالح والمضار ، ولهذا سمي الله النساء والصبيان سفهاء في قوله تعالى : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ التي جَعَلَ الله لَكُمْ قِيَاماً } [ النساء : 5 ] وقد تولى سبحانه جوابهم في هذه المواطن كلها فقال : { ألا إِنَّهُمْ هُمُ السفهآء } فأكد وحصر السفاهة فيهم { ولكن لاَّ يَعْلَمُونَ } يعني ومن تمام جهلهم أنهم لا يعلمون بحالهم في الضلالة والجهل ، وذلك أبلغ في العمى والبعد عن الهدى .(1/21)
وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15)
أي ، وإذا لقي هؤلاء المنافقون المؤمنين قالوا آمنا ، وأظهروا لهم الإيمان والموالاة ، غروراً منهم للمؤمنين ونفاقاً ومصانعه وتقية ، وليشركوهم فيما أصابوا من خير ومغنم . { وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ } يعني إذا انصرفوا وخلصوا إلى شياطينهم ، فضمّن « خلوا » معنى انصرفوا لتعديته بإلى ليدل على الفعل المضمر ، وشياطينهم سادتهم وكبراؤهم ، ورؤساؤهم من أحبار اليهود ، ورؤوس المشركين والمنافقين ، قال السُّدي عن ابن مسعود { وَإِذَا خَلَوْاْ إلى شَيَاطِينِهِمْ } يعني رؤساءهم في الكفر ، وقال ابن عباس : هم أصحابهم من اليهود الذين يأمرونهم بالتكذيب وخلاف ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم ، وقال مجاهد : أصحابهم من المنافقين والمشركين ، وقال قتادة : رؤوسهم وقادتهم في الشرك والشر ، قال ابن جرير : وشياطين كل شيء مردته ، ويكون الشيطان من الإنس والجن كما قال تعالى : { شَيَاطِينَ الإنس والجن يُوحِي بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ زُخْرُفَ القول غُرُوراً } [ الأنعام : 112 ] وقوله تعالى : { قالوا إِنَّا مَعَكُمْ } أي إنا على مثل ما أنتم عليه { إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ } أي إنما نستهزىء بالقوم ونلعب بهم ، وقال ابن عباس : { مُسْتَهْزِئُونَ } ساخرون بأصحاب محمد وقوله تعالى جواباً لهم ومقابلة على صنيعهم : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } قال ابن عباس : يسخر بهم للنقمة منهم { وَيَمُدُّهُمْ } يملي لهم ، وقال مجاهد : يزيدهم كقوله تعالى : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55-56 ] ، قال ابن جرير : أخبر تعالى أنه فاعل بهم ذلك يوم القيامة في قوله تعالى : { يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ } [ الحديد : 13 ] الآية وفي قوله : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً } [ آل عمران : 178 ] الآية ، قال : فهذا وما أشبهه من استهزاء الله تعالى ومكره وخديعته بالمنافقين وأهل الشرك وقال آخرون : استهزاؤه بهم توبيخه إياهم ، ولومه لهم على ما ارتكبوا من معاصيه ، وقال آخرون : قوله : { الله يَسْتَهْزِىءُ بِهِمْ } ، وقوله : { يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ } [ النساء : 142 ] وقوله : { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] وما أشبه ذلك إخبار من الله أنه مجازيهم جزاء الاستهزاء ، ومعاقبهم عقوبة الخداع ، فأخرج الخبر عن الجزاء مخرج الخبر عن الفعل الذي استحقوا العقاب عليه ، فاللفظ متفق والمعنى مختلف كما قال تعالى : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، وقوله : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ } [ البقرة : 194 ] فالأول ظلم والثاني عدل ، فهما وإن اتفق لفظهما فقد اختلف معناهما ، وإلى هذا المعنى وجهوا كل ما في القرآن من نظائر ذلك . والعمه : الضلال ، يقال : عمه عمهاً إذا ضل ، وقوله : { فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ } أي في ضلالتهم وكفرهم يترددون حيارى ، لا يجدون إلى المخرج منه سبيلاً لأن الله قد طبع على قلوبهم ، وختم عليها ، وأعمى أبصارهم عن الهدى فلا يبصرون رشدا ولا يهتدون سبيلاً ، وقال بعضهم : العمه في القلب ، والعمى في العين ، وقد يستعمل العمى في القلب أيضاً كما قال تعالى : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] .(1/22)
أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ (16)
قال السدي عن ابن مسعود وعن ناس من الصحابه { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } أخذوا الضلالة وتركوا الهدى ، وعن ابن عباس { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } أي الكفر بالإيمان ، وقال مجاهد : آمنوا ثم كفروا ، وقال قتادة : استحبوا الضلالة على الهدى . وهذا الذي قاله قتادة يشبهه في المعنى قوله تعالى في ثمود : { وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فاستحبوا العمى عَلَى الهدى } [ فصلت : 17 ] .
وحاصل قول المفسرين فيما تقدم : أن المنافقين عدلوا عن الهدى إلى الضلال ، واعتاضوا عن الهدى بالضلالة ، وهو معنى قوله تعالى : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } أي بذلوا الهدى ثمناً للضلالة ، ولهذا قال تعالى : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } أي ما ربحت صفقتهم في هذه البيعة ، وما كانوا مهتدين أي راشدين في صنيعهم ذلك . وقال ابن جرير عن قتادة : { فَمَا رَبِحَتْ تِّجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ } قد والله رأيتموهم خرجوا من الهدى إلى الضلالة ، ومن الجماعة إلى الفرقة ، ومن الأمن إلى الخوف ، ومن السنة إلى البدعة .(1/23)
مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ (18)
يقال : مَثَل ، والجمع أمثال ، قال الله تعالى : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] ، وتقدير هذا المثل أن الله سبحانه شبههم في اشترائهم الضلالة بالهدى ، وصيرورتهم بعد البصيرة إلى العمى ، بمن استوقد ناراً ، فلما أضاءت ما حوله ، وانتفع بها وأبصر بها ما عن يمينه وشماله ، وتأنس بها . . . فبينا هو كذلك إذا طفئت ناره وصار في ظلام شديد ، لا يبصر ولا يهتدي وهو مع هذا ( أصم ) لا يسمع ( أبكم ) لا ينطق ، ( أعمى ) لو كان ضياء لما أبصر ، فهذا لا يرجع إلى ما كان عليه قبل ذلك ، فكذلك هؤلاء المنافقون في استبدالهم الضلالة عوضاً عن الهدى ، واستحبابهم الغي على الرشد ، وفي هذا المثل دلالة على أنهم آمنوا ثم كفروا ، كما أخبر تعالى عنهم في غير هذا الموضع والله أعلم .
وقال الرازي : والتشبيه هاهنا في غاية الصحة لأنهم بإيمانهم اكتسبوا أولاً نوراً ، ثم بنفاقهم ثانياً أبطلوا ذلك ، فوقعوا في حيرة عظيمة ، فإنه لا حيرة أعظم من حيرة الدين .
وصح ضرب مثل الجماعة بالواحد كما قال تعالى : { مَثَلُ الذين حُمِّلُواْ التوراة ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] . وقال بعضهم : تقدير الكلام مثل قصتهم كقصة الذين استوقدوا ناراً ، وقد التفت في أثناء المثل من الواحد إلى الجمع في قوله تعالى : { فَلَمَّآ أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ } ، وهذا أفصح في الكلام وأبلغ في النظام .
وقوله تعالى : { ذَهَبَ الله بِنُورِهِمْ } أي ذهب عنهم بما ينفعهم وهو النور وأبقى لهم ما يضرهم وهو الإحراق والدخان ، { وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لاَّ يُبْصِرُونَ } وهو ما هم فيه من الشك والكفر والنفاق . { لاَّ يُبْصِرُونَ } لا يهتدون إلى سبيل خير ولا يعرفونها ، وهم مع ذلك { صُمٌّ } لا يسمعون خيراً ، { بُكْمٌ } لا يتكلمون بما ينفعهم ، { عُمْيٌ } في ضلالة وعماية البصيرة ، كما قال تعالى : { فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي فِي الصدور } [ الحج : 46 ] ، فلهذا لا يرجعون إلى ما كانوا عليه من الهداية التي باعوها بالضلالة .
وقال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم في قوله تعالى : { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً } إلى آخر الآية . . . قال : هذه صفة المنافقين ، كانوا قد آمنوا حتى أضاء الإيمان في قلوبهم كما إضاءت النار لهؤلاء الذين استوقدوا ناراً ، ثم كفروا فذهب الله بنورهم فانتزعه كما ذهب بضوء هذه النار فتركهم في ظلمات لا يبصرون .(1/24)
أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ (19) يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (20)
هذا مثل آخر ضربه الله تعالى لضرب آخر من المنافقين ، وهم قوم يظهر لهم الحق تارة ويشكون تارة أُخرى ، فقلوبهم في حال شكهم وكفرهم وترددهم ( كصيِّب ) والصيب : المطر نزل من السماء في حال ظلمات وهي الشكوك والكفر والنفاق ، و ( رعد ) : وهو ما يزعج القلوب من الخوف ، فإن من شأن المنافقين الخوف الشديد والفزع كما قال تعالى : { يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ } [ المنافقون : 4 ] ، وقال : { وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئاً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ } [ التوبة : 56-57 ] و ( البرق ) : هو ما يلمع في قلوب هؤلاء الضرب من المنافقين في بعض الأحيان من نور الإيمان ، ولهذا قال : { يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ في آذَانِهِم مِّنَ الصواعق حَذَرَ الموت والله مُحِيطٌ بالكافرين } أي ولا يجدي عنهم حذرهم شيئاً لأن الله محيط بهم بقدرته ، وهم تحت مشيئته وإرادته ، كما قال : { هَلُ أَتَاكَ حَدِيثُ الجنود * فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ * بَلِ الذين كَفَرُواْ فِي تَكْذِيبٍ * والله مِن وَرَآئِهِمْ مُّحِيطٌ } [ البروج : 17-20 ] أي بهم ، ثم قال : { يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } أي لشدته وقوته في نفسه وضعف بصائرهم وعدم ثباتها للإيمان . قال ابن عباس : { يَكَادُ البرق يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ } أي لشدة ضوء الحق { كُلَّمَا أَضَآءَ لَهُمْ مَّشَوْاْ فِيهِ وَإِذَآ أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُواْ } أي كلما ظهر لهم من الإيمان شيء استأنسوا به واتبعوه ، وتارة تعرض لهم الشكوك أظلمت قلوبهم فوقفوا حائرين . وعن ابن عباس : يعرفون الحق ويتكلمون به ، فهم من قولهم به على استقامة فإذا ارتكسوا منه إلى الكفر قاموا : أي متحيرين . وهكذا يكونون يوم القيامة عندما يعطى الناس النور بحسب إيمانهم ، فمنهم من يعطى من النور ما يضيء له مسيرة فراسخ وأكثر من ذلك وأقل من ذلك ، ومنهم من يطفأ نوره تارة ويضيء أخرى ، ومنهم من يمشي على الصراط تارة ويقف أخرى ، ومنهم من يطفأ نوره بالكلية وهم الخُلَّص من المنافقين الذين قال تعالى فيهم : { يَوْمَ يَقُولُ المنافقون والمنافقات لِلَّذِينَ آمَنُواْ انظرونا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارجعوا وَرَآءَكُمْ فالتمسوا نُوراً } [ الحديد : 13 ] وقال في حق المؤمنين : { يَوْمَ تَرَى المؤمنين والمؤمنات يسعى نُورُهُم بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِم بُشْرَاكُمُ اليوم جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ الحديد : 12 ] الآية . وقال تعالى : { يَوْمَ لاَ يُخْزِى الله النبي والذين آمَنُواْ مَعَهُ نُورُهُمْ يسعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَآ أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا واغفر لَنَآ إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } [ التحريم : 8 ] .
وقوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ } قال : لما تركوا من الحق بعد معرفته ، { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } : أي إن الله على كل ما أراد بعباده من نقمة أو عفو قدير .(1/25)
وقال ابن جرير : إنما وصف الله تعالى نفسه بالقدرة على كل شيء في هذا الموضع لأنه حذر المنافقين بأسه وسطوته وأخبرهم أنه بهم محيط ، وعلى إذهاب أسماعهم وأبصارهم قدير ومعنى ( قدير ) قادر كما معنى ( عليم ) عالم . وذهب ابن جرير ومن تبعه من كثير من المفسرين إلى أن هذين المَثَلين مضروبان لصنف واحد من المنافقين . وتكون ( أو ) في قوله تعالى : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء } بمعنى الواو ، كقوله تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] أو تكون للتخيير . أي اضرب لهم مثلاً بهذا وإن شئت بهذا . قال القرطبي : أو للتساوي مثل جالس الحسن أو ابن سيرين ، ووجَّهه الزمخشري بأن كلا منهما مساو للآخر في إباحة الجلوس إليه ويكون معناه على قوله : سواء ضربت لهم مثلاً بهذا أو بهذا فهو مطابق لحالهم .
( قلت ) : وهذا يكون باعتبار جنس المنافقين فإنهم أصناف ولهم أحوال وصفات ، كما ذكرها الله تعالى في سورة ( براءة ) - ومنهم - ومنهم - ومنهم - يذكر أحوالهم وصفاتهم وما يعتمدونه من الأفعال والأقوال ، فجعل هذين المثلين لصنفين منهم أشدُّ مطابقة لأحوالهم وصفاتهم والله أعلم ، كما ضرب المثلين في سورة ( النور ) لصنفي الكفّار الدعاة والمقلدين ، وفي قوله تعالى : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } [ النور : 39 ] إلى أن قال : { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } [ النور : 40 ] الآية . فالأول للدعاة الذين هم في جهل مركب ، والثاني لذوي الجهل البسيط من الأتباع المقلدين ، والله أعلم بالصواب .(1/26)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِرَاشًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً وَأَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقًا لَكُمْ فَلَا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْدَادًا وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)
شرع تعالى في بيان وحدانية ألوهيته بأنه هو المنعم على عبيده بإخراجهم من العدم إلى الوجود ، وإسباغه عليهم النعم الظاهرة والباطنة ، بأن جعل لهم الأرض فراشاً : أي مهداً كالفراش ، مقررة موطأة مثبتة كالرواسي الشامخات . { والسماء بِنَآءً } وهو السقف ، كما قال تعالى : { وَجَعَلْنَا السمآء سَقْفاً مَّحْفُوظاً وَهُمْ عَنْ آيَاتِهَا مُعْرِضُونَ } [ الأنبياء : 32 ] ، { وَأَنزَلَ مِنَ السمآء مَآءً } والمرادُ به السحاب هاهنا في وقته عند احتياجهم إليه ، فأخرج لهم به من أنواع الزروع والثمار رزقاً لهم ولأنعامهم . ومضمونه : أنه الخالق الرازق مالك الدار ساكنيها ورازقهم ، فبهذا يستحق أن يعبد وحده ولا يشرك به غيره ، ولهذا قال : { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } . وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال ، قلت : « يا رسول الله أيُّ الذنب أعظم عند الله؟ قال : » أن تجعل لله ندّاً وهو خلقك « الحديث . وكذا حديث معاذ : » أتدري ما حق الله على عباده؟ « أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً » الحديث ، وفي الحديث الآخر : « لا يقولنَّ أحدكم ما شاء الله وشاء فلان ولكن ليقل ما شاء الله ثم شاء فلان » وعن ابن عباس قال : قال رجل للنبي صلى الله عليه وسلم : « ما شاء الله وشئت ، فقال : » أجعلتني لله نِدّاً؟ قل ما شاء الله وحده « ، وهذا كله صيانة وحماية لجناب التوحيد والله أعلم .
قال ابن عباس ، قال الله تعالى : { يَاأَيُّهَا الناس اعبدوا رَبَّكُمُ } للفريقين جميعاً من الكفار والمنافقين ، أي وحدوا ربكم الذي خلقكم والذين من قبلكم . وعنه أيضاً { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } : أي لا تشركوا بالله غيره من الأنداد التي لا تنفع ولا تضر { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أنه لا رب لكم يرزقكم غيره . وقد علمتم أن الذي يدعوكم إليه الرسول صلى الله عليه وسلم من التوحيد هو الحق الذي لا شك فيه . قال أبو العالية : { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً } أي عدلاء شركاء ، وقال مجاهد { فَلاَ تَجْعَلُواْ للَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } قال : تعلمون أنه آلاه واحد في التوراة والإنجيل .
( ذكر حديث في معنى هذه الآية الكريمة ) .
روى الإمام أحمد بسنده عن الحارث الأشعري أن نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم قال : » إن الله عز وجل أمر يحيى بن زكريا عليه السلام بخمس كلمات أن يعمل بهن وأن يأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، وأنه كاد أن يبطىء بها فقال له عيسى عليه السلام إنك قد أمرت بخمس كلمات أن تعمل بهن وتأمر بني إسرائيل أن يعملوا بهن ، فإمّا أن تبلغهن وإمّا أن أبلغهن؟ فقال : يا أخي أخشى إن سبقتني أن أعذَّب أو يُخْسف بي . قال : فجمع يحيى بن زكريا بني إسرائيل في بيت المقدس حتى امتلأ المسجد ، فقعد على الشُّرف فحمد الله وأثنى عليه ثم قال : إن الله أمرني بخمس كلمات أن أعمل بهن وآمركم أن تعملوا بهن . أولهن أن تعبدوا الله ولا تشركوا به شيئاً فإن مَثَل ذلك كمثل رجل اشترى عبداً من خالص ماله بوَرِقٍ أو ذهب فجعل يعمل ويؤدي غلّته إلى غير سيده ، فأيكم يسّره أن يكون عبده كذلك؟ وإن الله خلقكم ورزقكم فاعبدوه ولا تشركوا به شيئاً . وأمركم بالصلاة فإن الله ينصب وجهه لوجه عبده ما لم يلتفت فإذا صلّيتم فلا تلتفتوا . وأمركم بالصيام فإن مَثَل ذلك كمثل رجل معه صره من مسك في عصابة كلهم يجد ريح المسك وإن خلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك . وأمركم بالصدقة فإن مَثَل ذلك كمثل رجل أسره العدوّ فشدُّوا يديه إلى عنقه وقدَّموه ليضربوا عنقه فقال لهم هل لكم أن أفتدي نفسي منكم؟ فجعل يفتدي نفسه منهم بالقليل والكثير حتى فك نفسه . وأمركم بذكر الله كثيراً وإن مَثَل ذلك كمثل رجل طلبه العدوّ سراعاً في أثره فأتى حصناً حصيناً فتحصَّن فيه ، وإن العبد أحصن ما يكون من الشيطان إذا كان في ذكر الله «(1/27)
قال وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » وأنا آمركم بخمس؛ الله أمرني بهن : الجماعة ، والسمع ، والطاعة ، والهجرة ، والجهاد في سبيل الله . فإنه من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يراجع ، ومن دعا بدعوى الجاهلية فهو من جثي جهنم « ، قالوا : يا رسول الله وإن صام وصلّى ، فقال : » وإن صلّى وصام وزعم أنه مسلم فادعوا المسلمين بأسمائهم على ما سمّاهم الله عز وجل المسلمين المؤمنين عباد الله « » هذا حديث حسن .
وهذه الآية دالة على توحيده تعالى بالعبادة وحده ، فإنَّ من تأمل هذه الموجودات عِلم قدرةَ خالقها وحكمته ، وعلمه وإتقانه ، وعظيم سلطانه ، كما قال بعض الأعراب وقد سئل : ما الدليل على وجود الرب تعالى؟ فقال : يا سبحان الله إن البعر ليدل على البعير ، وإن أثر الأقدام لتدل على المسير ، فسماءٌ ذات أبراج ، وأرضٌ ذات فجاج ، وبحارٌ ذات أمواج! ألا يدل ذلك على وجود اللطيف الخبير؟ .
وحكى الرازي عن الإمام مالك أن الرشيد سأله عن ذلك فاستدل له باختلاف اللغات ، والأصوات ، والنغمات . وعن أبي حنيفة أن ( بعض الزنادقة ) سألوه عن وجود الباري تعالى فقال لهم : دعوني فإني مفكر في أمر قد أخبرت عنه ، ذكروا لي أن سفينة في البحر موقرة فيها أنواع من المتاجر وليس بها أحد يحرسها ولا يسوقها ، وهي مع ذلك تذهب وتجيء وتسير بنفسها وتخترق الأمواج العظام حتى تتخلص منها وتسير حيث شاءت بنفسها من غير أن يسوقها أحد .(1/28)
فقالوا : هذا شيء لا يقوله عاقل! فقال : ويحكم هذه الموجودات بما فيها من العالم العلوي والسفلي وما اشتملت عليه من الأشياء المحكمة ليس لها صانع؟! فبهت القوم ورجعوا إلى الحق وأسلموا على يديه . وعن الشافعي أنه سئل عن وجود الصانع فقال : هذا ورق التوت طعمُه واحد تأكله الدود فيخرج منه الإبريسم . وتأكله النحل فيخرج منه العسل ، وتأكله الشاة والبقرة والأنعام فتلقيه بعراً وروثاً وتأكله الظباء فيخرج منه المسك وهو شيء واحد ، وعن الإمام أحمد بن حنبل أنه سئل عن ذلك فقال : هاهنا حصنٌ حصين أملس ليس له باب ولا منفذ ، ظاهره كالفضة البيضاء وباطنه كالذهب الإبريز ، فبينا هو كذلك إذ انصدع جداره فخرج منه حيوان سميع بصير ذو شكلٍ حسن وصوت مليح . يعني بذلك البيضة إذا خرج منها الدجاجة . وسئل أبو نواس عن ذلك فأنشد :
تأملْ في نبات الأرض وانظر ... إلى آثار ما صنع المليك
عيونٌ من لجين شاخصاتٌ ... بأحداق هي الذهب السبيك
على قضيب الزبرجد شاهدات ... بأنَّ الله ليس له شريك
وقال ابن المعتز :
فيا عجباً كيف يعصى الإله ... أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه واحد
وقال آخرون : من تأمّل هذه السماوات في ارتفاعها واتساعها وما فيها من الكواكب الكبار والصغار النيرة من السيارة ومن الثوابت ، وشاهدها كيف تدور مع الفلك العظيم في كل يوم وليلة دويرة ولها في أنفسها سير يخصها ، ونظرَ إلى البحار المكتنفة للأرض من كل جانب ، والجبال الموضوعة في الأرض لتقر ويسكن ساكنوها مع اختلاف أشكالها وألوانها ، كما قال تعالى : { وَمِنَ الجبال جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ } [ فاطر : 27 ] ، وكذلك هذه الأنهار السارحة من قطر إلى قطر للمنافع ، وما ذرأ في الأرض من الحيوانات المتنوعة والنبات المختلف الطعوم والأشكال والألوان ، مع اتحاد طبيعة التربة والماء ، استدل على وجود الصانع وقدرته العظيمة ، وحكمته ورحمته بخلقه ، ولطفه بهم وإحسانه إليهم ، لا إله غيره ولا ربَّ سواه ، عليه توكلت وإليه أنيب ، والآيات في القرآن الدالة على هذا المقام كثيرة جداً .(1/29)
وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24)
ثم شرع تعالى : في تقرير النبوة بعد أن قرر أنه لا إله إلا هو فقال مخاطباً للكافرين : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم فأتوا بسورة من مِثْل ما جاء به؛ إن زعمتم أنه من عند غير الله ، فعارضوه بمثل ما جاء به ، واستعينوا على ذلك بمن شئتم من دون الله فإنكم لا تستطيعون ذلك .
قال ابن عباس { شُهَدَآءَكُم } : أعوانكم ، أي استعينوا بآلهتكم في ذلك يمدونكم وينصرونكم ، وقد تحدّاهم الله تعالى بهذا في غير موضع من القرآن فقال في سورة القصص : { قُلْ فَأْتُواْ بِكِتَابٍ مِّنْ عِندِ الله هُوَ أهدى مِنْهُمَآ أَتَّبِعْهُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ القصص : 49 ] . وقال في سورة سبحان : { قُل لَّئِنِ اجتمعت الإنس والجن على أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هذا القرآن لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً } [ الإسراء : 88 ] ، وقال في سورة هود : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ هود : 13 ] وقال في سورة يونس : { أَمْ يَقُولُونَ افتراه قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وادعوا مَنِ استطعتم مِّن دُونِ الله إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } [ يونس : 38 ] وكل هذه الآيات مكية . ثم تحداهم بذلك أيضاً في المدينة فقال في هذه الآية : { وَإِن كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ } أي شك { مِّمَّا نَزَّلْنَا على عَبْدِنَا } يعني محمداً { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } يعني من مثل القرآن قاله مجاهد وقتادة . ورجح ذلك بوجوه من أحسنها : أنه تحداهم كلهم متفرقين ومجتمعين سواء في ذلك أميُّهم وكتابيُّهم ، وذلك أكمل في التحدي وأشمل من أن يتحدى آحادهم الأميين ممن لا يكتب ولا يعاني شيئاً من العلوم وبدليل قوله تعالى : { فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ } [ هود : 13 ] وقوله : { لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ } [ الإسراء : 88 ] وقال بعضهم : من مثل محمد صلى الله عليه وسلم يعني من رجل أُمّيٌّ مثله ، والصحيحُ الأول لأن التحدي عام لهم كلهم مع أنهم أفصح الأمم ، وقد تحداهم بهذا في مكّة والمدينة مرات عديدة مع شدة عداوتهم له وبغضهم لدينه ، ومع هذا عجزوا عن ذلك ولهذا قال تعالى : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ وَلَن تَفْعَلُواْ } و ( لن ) لنفي التأبيد في المستقبل ، أي ولن تفعلوا ذلك أبداً وهذه أيضاً معجزة أُخرى ، وهو أنه أخبر خبراً جازماً قاطعاً غير خائف ولا مشفق أنَّ هذا القرآن لا يعارض بمثل أبد الآبدين ودهر الداهرين ، وكذلك وقع الأمر لم يعارض من لدنه إلى زماننا هذا ، ولا يمكن ، وأنَّى يتأتى ذلك لأحد والقرآن كلام الله خالق كل شيء؟ وكيف يشبه كلام الخالق كلام المخلوقين؟
ومن تدبر القرآن وجد فيه من وجوه الإعجاز فنوناً ظاهرة وخفية ، من حيث اللفظ ومن جهة المعنى قال تعالى : { كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ }(1/30)
[ هود : 1 ] فأحكمت ألفاظه ، وفصلت معانيه ، أو بالعكس على الخلاف ، فكلٌّ من لفظه ومعناه فصيح لا يُحاذي ولا يُداني . فقد أخبر عن مغيبات ماضية كانت ووقعت طبق ما أخبر سواء بسواء ، وأمر بكل خير ونهى عن كل شر كما قال تعالى : { وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً } [ الأنعام : 115 ] أي صدقاً في الأخبار ، وعدلاً في الأحكام ، فكلُّه حق وصدق ، وعدل وهدى ، ليس فيه مجازفة ولا كذب ولا افتراء ، كما يوجد في اشعار العرب وغيرهم من الأكاذيب والمجازفات التي لا يحسن شعرهم إلا بها ، كما قيل في الشعر ( إن أعذبه أكذبه ) وتجد في القصيدة الطويلة المديدة قد استعمل غالبها في وصف النساء أو الخيل أو الخمر ، أو في مدح شخص معين أو فرس أو ناقة أو حرب ، أو شيء من المشاهدات المتعينة التي لا تفيد شيئاً ، إلا قدرة المتكلم المعين على الشيء الخفي أو الدقيق أو إبرازه إلى الشيء الواضح ، ثم تجد له فيه بيتاً أو بيتين أو أكثر هي بيوت القصيد ، وسائرها هذر لا طائل تحته .
وأما القرآن فجميعه فصيح في غاية نهايات البلاغة عند من يعرف ذلك تفصيلاً وأجمالاً ، ممن فهم كلام العرب وتصاريف التعبير ، فإنه إن تأملت أخباره وجدتها في غاية الحلاوة سواء كانت مبسوطة أو وجيزة ، وسواء تكررت أم لا ، وكلما تكرَّر حلا وعلا ، لا يخلُق عن كثرة الرد ، ولا يملُّ منه العلماء . وإن أخذ في الوعيد والتهديد جاء منه ما تقشعر منه الجبال الصم الراسيات ، فما ظنك بالقلوب الفاهمات؟ وإن وعد أتى بما يفتح القلوب والآذان ، ويشوَّق إلى دار السلام ومجاورة عرش الرحمن كما قال في الترغيب : { فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّآ أُخْفِيَ لَهُم مِّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَآءً بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } [ السجدة : 17 ] وقال : { وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الأنفس وَتَلَذُّ الأعين وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } [ الزخرف : 71 ] ، وقال في الترهيب : { أَفَأَمِنْتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ البر } [ الإسراء : 68 ] ، { أَأَمِنتُمْ مَّن فِي السمآء أَن يَخْسِفَ بِكُمُ الأرض فَإِذَا هِيَ تَمُورُ * أَمْ أَمِنتُمْ مِّن فِي السمآء أَن يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ } [ الملك : 16-17 ] ، وقال في الزجر : { فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنبِهِ } [ العنكبوت : 40 ] وقال في الوعظ : { أَفَرَأَيْتَ إِن مَّتَّعْنَاهُمْ سِنِينَ * ثُمَّ جَآءَهُم مَّا كَانُواْ يُوعَدُونَ * مَآ أغنى عَنْهُمْ مَّا كَانُواْ يُمَتَّعُونَ } [ الشعراء : 205-207 ] إلى غير ذلك من أنواع الفصاحة والبلاغة والحلاوة .
وإن جاءت الآيات في الأحكام والأوامر والنواهي اشتملت على الأمر بكل معروف حسن نافع طيب محبوب ، والنهي عن كل قبيح رذيل دنيء؛ كما قال ابن مسعود وغيره من السلف : إذا سمعت الله تعالى يقول في القرآن : يا أيها الذين آمنوا فأَرْعها سمعك فإنها خيرٌ يأمر به أو شر ينهى عنه ، ولهذا قال تعالى : { يَأْمُرُهُم بالمعروف وَيَنْهَاهُمْ عَنِ المنكر وَيُحِلُّ لَهُمُ الطيبات وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الخبآئث وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ والأغلال التي كَانَتْ عَلَيْهِمْ }(1/31)
[ الأعراف : 157 ] الآية ، وإن جاءت الآيات في وصف المعاد وما فيه من الأهوال وفي وصف الجنة والنار وما أعد الله فيهما لأوليائه وأعدائه من النعيم والجحيم ، والملاذ والعذاب الأليم ، بشرت به وحذرت وأنذرت؛ ودعت إلى فعل الخيرات واجتناب المنكرات ، وزهَّدت في الدنيا ورغَّبت في الأُخرى ، وثبتت على الطريقة المثلى ، وهدت إلى صراط الله المستقيم ، وشرعه القويم ، ونفت عن القلوب رجس الشيطان الرجيم . ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما من نبي من الأنبياء إلا وقد أُعطي من الآيات ما آمن على مثله البشر ، وإنما كان الذي أوتيته وحياً أوحاه الله إليّ ، فأرجوا أن أكون أكثرهم نابعاً يوم القيامة » ، وقوله : صلى الله عليه وسلم « وإنما كان الذي أوتيتُه وحيا » أي الذي اختصصت به من بينهم هذا القرآن المعجز للبشر أن يعارضوه بخلاف غيره من الكتب الإلهية فإنها ليست معجزة عند كثير من العلماء والله أعلم ، وله عليه الصلاة السلام من الآيات الدالة على نبوته وصدقه فيما جاء به ما لا يدخل تحت حصر ، ولله الحمد والمنة .
وقوله تعالى : { فاتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } أما الوقود فهو ما يلقى في النار لإضرامها كالحطب ونحوه كما قال تعالى : { وَأَمَّا القاسطون فَكَانُواْ لِجَهَنَّمَ حَطَباً } [ الجن : 15 ] وقال تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ } [ الأنبياء : 98 ] والمراد بالحجارة هاهنا هي حجارة الكبريت ، العظيمة السوداء الصلبة المنتنة ، وهي أشد الأحجار حرّاً إذا حميت أجارنا الله منها ، وقال السُّدي في تفسيره عن ابن مسعود { اتقوا النار التي وَقُودُهَا الناس والحجارة } : أما الحجارة فهي حجارة في النار من كبريت أسود يعذبون به مع النار ، وقال مجاهد : حجارة من كبريت أنتن من الجيفة . وقيل : المراد بها حجارة الأصنام والأنداد التي كانت تعبد من دون الله كما قالت تعالى : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] الآية .
وإنما سيق هذا في حر هذه النار التي وعدوا بها وشدة ضرامها وقوة لهبها كما قال تعالى : { كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً } [ الإسراء : 97 ] وهكذا رجح القرطبي أن المراد بها الحجارة التي تسعر بها النار لتحمر ويشتد لهبها ، قال : ليكون ذلك أشد عذابا لأهلها .
وقوله تعالى : { أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ } الأظهر أن الضمير عائد إلى النار ويحتمل عوده إلى الحجارة كما قال ابن مسعود ، ولا منافاة بين القولين في المعنى لأنهما متلازمان . و { أُعِدَّتْ } أي أرصدت وحصلت للكافرين بالله ورسوله ، وقد استدل كثير من أئمة السنّة بهذه الآية على أن النار موجودة الآن لقوله تعالى : { أُعِدَّتْ } أي أرصدت وهيئت ، وقد وردت أحاديث كثيرة في ذلك منها : « تحاجت الجنة والنار » ومنها : « استأذنت النار ربها فقالت رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين : نفس في الشتاء ونفس في الصيف »(1/32)
وحديث ابن مسعود : سمعنا وجبة فقلنا ما هذه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هذا حجر ألقي به من شفير جهنم منذ سبعين سنة الآن وصل إلى قعرها » وهو مسند عند مسلم ، وحديث صلاة الكسوف وليلة الإسراء وغير ذلك من الأحاديث المتواترة في هذا المعنى وقد خالفت المعتزلة بجهلهم في هذا ، ووافقهم القاضي منذر بن سعيد البلوطي قاضي الأندلس .
( تنبيه ينبغي الوقوف عليه ) .
قوله تعالى : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } وقوله في سورة يونس : { بِسُورَةٍ مِّثْلِه } [ 38 ] يعم كل سورة في القرآن ، طويلة كانت أو قصيرة ، لأنها نكرة في سياق الشرط فتعم كما هي في سياق النفي عند المحققين من الأصوليين كما هو مقرر في موضعه ، فالإعجاز حاصل في طوال السور وقصارها ، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين الناس سلفاً وخلفاً . وقد قال الرازي في تفسيره : فإن قيل قوله تعالى : { فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ } يتناول سورة الكوثر ، وسورة العصر ، وقل يا أيها الكافرون ، ونحن نعلم بالضرورة أن الإتيان بمثله أو بما يقرب منه ممكن ، فإن قلتم إن الإتيان بمثل هذه السور خارج عن مقدور البشر كان مكابرة ، والإقدام على هذه المكابرات مما يطرق بالتهمة إلى الدين : ( قلنا ) : فلهذا السبب اخترنا الطريق الثاني ، وقلنا : إن بلغت هذه السورة في الفصاحة حد الإعجاز فقد حصل المقصود ، وإن لم يكن كذلك كان امتناعهم من المعارضة مع شدة دواعيهم إلى تهوين أمره معجزاً ، فعلى التقديرين يحصل المعجز . هذا لفظه بحروفه ، والصواب أن كل سورة من القرآن معجزة لا يستطيع البشر معارضتها طويلة كانت أو قصيرة ، قال الشافعي رحمه الله : لو تدبر الناس هذه السورة لكفتهم : { والعصر * إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ * إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر } [ العصر : 1-4 ](1/33)
وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِنْ قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (25)
لما ذكر تعالى ما أعده لأعدائه من الأشقياء الكافرين به وبرسله من العذاب والنكال ، عطف بذكر حال أوليائه من السعداء المؤمنين به وبرسله الذي صدقوا إيمانهم بأعمالهم الصالحة ، وهذا معنى تسمية القرآن مثاني على أصح أقوال العلماء كما سنبسطه في موضعه ، وهو أن يذكر الإيمان ويتبع بذكر الكفر أو عكسه ، أو حال السعداء ثم الأشقياء أو عكسه ، وحاصله ذكر الشيء ومقابله . وأما ذكر الشي ونظيره فذاك التشابه كما سنوضحه إن شاء الله . فلهذا قال تعالى : { وَبَشِّرِ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } فوصفها بأنها تجري من تحتها الأنهار أي من تحت أشجارها وغرفها وقد جاء في الحديث أن أنهارها تجري في غير أخدود . وقوله تعالى : { كُلَّمَا رُزِقُواْ مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقاً قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } .
قال السدي في تفسيره : إنهم أتوا بالثمرة في الجنة فلما نظروا إليها قالوا : هذا الذي رزقنا من قبل في الدنيا . وقال عكرمة : { قَالُواْ هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } معناه مثل الذي كان بالأمس ، وقال آخرون : { هذا الذي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ } من ثمار الجنة لشدة مشابهة بعضه بعضاً لقوله تعالى : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } وعن يحيى بن أبي كثير قال : يؤتى أحدهم بالصحفة من الشيء فيأكل منها ، ثم يؤتى بأخرى فيقول هذا الذي أتينا به من قبل ، فتقول الملائكة : كُلْ فاللون واحد ، والطعم مختلف .
وقال ابن جرير بإسناده في قوله تعالى : { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } يعني في اللون والمرأى وليس يشبه في الطعم . وهذا اختيار ابن جرير ، وقال عكرمة { وَأُتُواْ بِهِ مُتَشَابِهاً } قال : يشبه ثمر الدنيا غير أن ثمر الجنة أطيب ، وعن ابن عباس « لا يشبه شيء مما في الجنة ما في الدنيا إلا في الأسماء » ، وفي رواية « ليس في الدنيا مما في الجنة إلا الأسماء » .
وقوله تعالى : { وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } قال ابن عباس : مطهرة من القذر والأذى . وقال مجاهد : من الحيض والغائط والبول والنخام والبزاق والمني والولد . وقال قتادة : مطهرة من الأذى والمأثم ، وعن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى { وَلَهُمْ فِيهَآ أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } قال : من الحيض والغائط والنخاعة والبزاق . وقوله تعالى : { وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } هذا هو تمام السعادة ، فإنهم مع هذا النعيم في مقام أمين ، من الموت والانقطاع فلا آخر له ، ولا انقضاء بل في نعيم سرمدي أبدي على الدوام . . . والله المسؤول أن يحشرنا في زمرتهم إنه جواد كريم ، برٌّ رحيم .(1/34)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلًا يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ (26) الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (27)
قال السدي : لما ضرب الله هذين المثلين للمنافقين يعني قوله تعالى { مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً } [ البقرة : 17 ] وقوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء } [ البقرة : 19 ] الآيات الثلاث قال المنافقون : الله أعلى وأجل من أن يضرب هذه الأمثال فأنزل الله هذه الآية إلى قوله تعالى : { هُمُ الخاسرون } ، وقال قتادة : لما ذكر الله تعالى العنكبوت والذباب قال المشركون : ما بال العنكبوت والذباب يذكران؟ فأنزل الله : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } أي أن الله لا يستحيي من الحق أن يذكر شيئا مما قلَّ أو كَثُر ، وإن الله حين ذكر في كتابه الذباب العنكبوت قال أهل الضلالة : ما أراد الله من ذكر هذا؟ فأنزل الله : { إِنَّ الله لاَ يَسْتَحْى أَن يَضْرِبَ مَثَلاً مَّا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا } .
ومعنى الآية أنه تعالى أخبر أنه لا يستحيي أي لا يستنكف ، وقيل : لا يخشى أن يضرب مثلاً ما ، أيّ مثلٍ كان بأي شيء كان صغيراً كان أو كبيراً و ( ما ) هاهنا للتقليل ، وتكون بعوضة منصوبة على البدل ، كما تقول : لأضربنَّ ضرباً ما ، فيصدق بأدنى شيء أو تكون ( ما ) نكرة موصوفة ببعوضة ، ويجوز أن تكون بعوضة منصوبة بحذف الجار ، وتقدير الكلام : « إن الله لا يستحيي أن يضرب مثلا ما بين بعوضة إلى ما فوقها » وهذا الذي اختاره الكسائي والفراء .
وقوله تعالى : { فَمَا فَوْقَهَا } فيه قولان : أحدهما : فما دونها في الصغر والحقارة ، كما إذا وصف رجل باللؤم والشح فيقول السامع نعم وهو فوق ذلك - يعني فيما وصفت - وهذا قول أكثر المحققين ، وفي الحديث : « لو أن الدنيا تزن عند الله جناح بعوضة لما سقى كافراً منها شربة ماء » ، والثاني فما فوقها لما هو أكبر منها لأنه ليس شيء أحقر ولا أصغر من البعوضة وهذا قول قتادة بن دعامة واختيار بن جرير فإنه يؤيده ما رواه مسلم عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلا كتب له بها درجة ومحيت عنه بها خطيئة » فأخبر أنه لا يستصغر شيئا يضرب به مثلاً ولو كان في الحقارة والصغر كالبعوضة ، فكما لا يستنكف عن خلقها كذلك لا يستنكف من ضرب المثل بها ، كما ضرب المثل بالذباب والعنكبوت في قوله : { إِنَّ الذين تَدْعُونَ مِن دُونِ الله لَن يَخْلُقُواْ ذُبَاباً وَلَوِ اجتمعوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذباب شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطالب والمطلوب } [ الحج : 73 ] .
وقال : { مَثَلُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله أَوْلِيَآءَ كَمَثَلِ العنكبوت اتخذت بَيْتاً وَإِنَّ أَوْهَنَ البيوت لَبَيْتُ العنكبوت لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } [ العنكبوت : 41 ] وقال تعالى : { ضَرَبَ الله مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ على شَيْءٍ }(1/35)
[ النحل : 75 ] الآية ثم قال : { وَضَرَبَ الله مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَآ أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ على شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ على مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بالعدل } [ النحل : 76 ] ؟ الآية . وقال : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] وفي القرآن أمثال كثيرة .
قال بعض السلف : إذا سمعت المثل في القرآن فلم أفهمه بكيت على نفسي لأن الله قال : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] قال قتادة : { فأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ } أي يعلمون أنه كلام الرحمن وأنه من عند الله . وقال أبو العالية : { فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ } يعني هذا المثل ، { وَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَيَقُولُونَ مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً } كما قال تعالى : { وَلاَ يَرْتَابَ الذين أُوتُواْ الكتاب والمؤمنون وَلِيَقُولَ الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ والكافرون مَاذَآ أَرَادَ الله بهذا مَثَلاً كَذَلِكَ يُضِلُّ الله مَن يَشَآءُ وَيَهْدِي مَن يَشَآءُ وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ } [ المدثر : 31 ] ، وكذلك قال هاهنا : { يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } .
قال ابن عباس : يضل به كثيرا يعني به ( المنافقين ) ، ويهدي به كثيرا يعني به ( المؤمنين ) فيزيد هؤلاء ضلالة إلى ضلالتهم ، لتكذيبهم بما قد علموه حقاً يقيناً من المثل الذي ضربه الله ، ويهدي به يعني المثل كثيرا من أهل الإيمان والتصديق فيزيدهم هدى إلى هداهم وإيماناً إلى إيمانهم { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } ، قال أبو العالية : هم أهل النفاق ، وقال مجاهد عن ابن عباس { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } قال : يعرفه الكافرون فيكفرون به . وقال قتادة : { وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الفاسقين } فسقوا فأضلهم الله على فسقهم .
والفاسقُ في اللغة : هو الخارج عن الطاعة . تقول العرب : فسقت الرطبة إذا خرجت من قشرتها ، ولهذا يقال للفأرة ( فويسقة ) لخروجها عن جحرها للفساد . وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « خمس فواسق يقتلن في الحل والحرم : الغرابُ والحدأةُ والعقرب والفأرة والكلب العقور » فالفاسق يشمل الكافر والعاصي ، ولكن فسق الكافر أشد وأفحش ، والمراد به من الآية الفاسقُ الكافر والله أعلم ، بدليل أنه وصفهم بقوله تعالى : { الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أولئك هُمُ الخاسرون } ، وهذه الصفات صفات الكفار المباينة لصفات المؤمنين ، كما قال تعالى : { أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب * الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق } [ الرعد : 19-20 ] الآيات ، إلى أن قال : { والذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأرض أولئك لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار }(1/36)
[ الرعد : 25 ] ، وقد اختلف أهل التفسير في معنى العهد الذي وصف هؤلاء الفاسقين بنقضه ، فقال بعضهم : هو وصية الله إلى خلقه وأمره إياهم بما أمرهم به من طاعته ، ونهيه إياهم عما نهاهم عنه من معصيته في كتبه وعلى لسان رسله ، ونقضُهم ذلك هو تركهم العمل به .
وقال آخرون : بل هي في كفار أهل الكتاب والمنافقين منهم ، وعهد الله الذي نقضوه هو ما أخذه الله عليهم في التوراة من العمل بما فيها وأتباع محمد صلى الله عليه وسلم إذا بعث ، والتصديق به وبما جاء به من عند ربهم ، ونقضهم ذلك هو جحودهم به بعد معرفتهم بحقيقته وإنكارهم ذلك ، وكتمانهم علم ذلك عن الناس ، وهذا اختيار ابن جرير رحمه الله وهو قول مقاتل بن حيان .
وقال آخرون : بل عنى بهذه الآية جميع أهل الكفر والشرك والنفاق ، وعهدهُ إلى جميعهم في توحيده ما وضع لهم من الأدلة على ربوبيته ، وعهده إليهم في أمره ونهيه ما احتج به لرسله من المعجزات التي لا يقدر أحد من الناس غيرهم أن يأتي بمثله ، الشاهد لهم على صدقهم . قالوا : ونقضهم ذلك تركهم الإقرار بما قد تبينت لهم صحته بالأدلة وتكذيبهم الرسل والكتب مع علمهم أن ما أتوا به حق . وروي عن مقاتل بن حيان أيضا نحو هذا وهو حسن وإليه مال الزمخشري . فإنه قال : ( فإن قلت ) فما المراد بعهد الله؟ قلت ما ركز في عقولهم من الحجة على التوحيد كأنه أمر وصّاهم به ووثَّقه عليهم ، وهو معنى قوله تعالى : { وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى } [ الأعراف : 172 ] ، إذ أخذ الميثاق عليهم من الكتب المنزلة عليهم كقوله : { وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } [ البقرة : 40 ] وقال آخرون : العهد الذي ذكره تعالى هو العهد الذي أخذه عليهم حين أخرجهم من صلب آدم الذي وصف في قوله : { وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بني ءَادَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ على أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بلى شَهِدْنَآ } [ الأعراف : 172 ] الآيتين . ونقضهم ذلك تركهم الوفاء به وهكذا روي عن مقاتل بن حيان أيضا . حكى هذه الأقوال ابن جرير في تفسيره . وقال السدي في تفسيره بإسناده قوله تعالى : { الذين يَنقُضُونَ عَهْدَ الله مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ } قال : ما عهد إليهم من القرآن فأقروا به ثم كفروا فنقضوه .
وقوله : { وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ الله بِهِ أَن يُوصَلَ } قيل : المراد به صلة الأرحام والقرابات كما فسره قتادة كقوله تعالى : { فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُواْ فِي الأرض وتقطعوا أَرْحَامَكُمْ } [ محمد : 22 ] ، ورجحه ابن جرير . وقيل : المراد أعم من ذلك ، فكل ما أمر الله بوصله وفعله فقطعوه وتركوه . وقال مقاتل : { أولئك هُمُ الخاسرون } قال في الآخرة ، وهذا كما قال تعالى : { أولئك لَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار } [ الرعد : 25 ] وقال ابن عباس : كل شيء نسبه الله إلى غير أهل الإسلام من اسم ، مثل خاسر ، فإنما يعني به الكفر . وما نسبه إلى أهل الإسلام فإنما يعني به الذنب . وقال ابن جرير في قوله تعالى : { أولئك هُمُ الخاسرون } : الخاسرون جمع خاسر وهم الناقصون أنفسهم حظوظهم بمعصيتهم الله من رحمته كما يخسر الرجل في تجارته ، بأن يوضع من رأس ماله في بيعه ، وكذلك المنافق والكافر خسر بحرمان الله إياه رحمته التي خلقها لعباده في القيامة أحوج ما كانوا إلى رحمته .(1/37)
كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَكُنْتُمْ أَمْوَاتًا فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28)
يقول تعالى محتجا على وجوده وقدرته وأنه الخالق المتصرف في عباده : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله } أي كيف تجحدون وجوده أو تعبدون معه غيره ، { وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } أي وقد كنتم عدماً فأخرجكم إلى الوجود . كما قال تعالى : { أَمْ خُلِقُواْ مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الخالقون * أَمْ خَلَقُواْ السماوات والأرض بَل لاَّ يُوقِنُونَ } [ الطور : 35-36 ] وقال ابن عباس { كُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ } : أمواتاً في أصلاب آبائكم لم تكونوا شيئاً حتى خلقكم ، ثم يميتكم موتة الحق ثم يحييكم حين يبعثكم ، قال : وهي مثل قوله تعالى : { أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } [ غافر : 11 ] . وقال الضحّاك عن ابن عباس في قوله تعالى { رَبَّنَآ أَمَتَّنَا اثنتين وَأَحْيَيْتَنَا اثنتين } [ غافر : 11 ] قال : كنتم تراباً قبل أن يخلقكم فهذه ميتة ، ثم أحياكم فخلقكم فهذه حياة ، ثم يميتكم فترجعون إلى القبور فهذه ميتة أخرى ، ثم يبعثكم يوم القيامة فهذه حياة أُخرى : فهذه ميتتان وحياتان ، فهو كقوله : { كَيْفَ تَكْفُرُونَ بالله وَكُنْتُمْ أَمْوَاتاً فَأَحْيَاكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ } .(1/38)
هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (29)
لما ذكر تعالى دلالة من خلقهم وما يشاهدونه من أنفسهم ، ذكر دليلا آخر مما يشاهدونه من خلق السماوات والأرض ، فقال : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماوات } أي قصد إلى السماء . والاستواء هاهنا متضمن معنى القصد والإقبال لأنه عدي بإلى ( فسواهن ) أي فخلق السماء سبعاً . والسماء هاهنا اسم جنس ، فلهذا قال : { فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماوات وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي وعلمه محيط بجميع ما خلق ، كما قال : { أَلاَ يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ } [ الملك : 14 ] وتفصيل هذه الآية في سورة حم السجدة وهو قوله تعالى : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ وَتَجْعَلُونَ لَهُ أَندَاداً ذَلِكَ رَبُّ العالمين } [ فصلت : 9 ] الآيات .
ففي هذا دلالة على أنه تعالى ابتدأ بخلق الأرض أولاً ثم خلق السماوات سبعاً ، وهذا شان البناء أن يبدأ بعمارة أسافله ثم أعاليه بعد ذلك وقد صرح المفسرون بذلك كما سنذكره . فأما قوله تعالى : { ءَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السمآء بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا } [ النازعات : 27-30 ] فقد قيل : إن ( ثمَّ ) هاهنا إنما هي لعطف الخبر على الخبر لا لعطف الفعل على الفعل كما قال الشاعر :
قل لمن ساد ثم ساد أبوه ... ثم قد ساد قبل ذلك جده
وقيل : إن الدحي كان بعد خلق السماوات والأرض رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس .
وقال مجاهد في قوله تعالى : { هُوَ الذي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً } قال : خلق الله الأرض قبل السماء ، فلما خلق الأرض ثار منها دخان ، فذلك حين يقول : { ثُمَّ استوى إِلَى السمآء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سماوات } قال : بعضُهن فوق بعض وسبع أرضين يعني بعضها تحت بعض . وهذه الآية دالة على أن الأرض خلقت قبل السماء كما قال في آية السجدة : { قُلْ أَئِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بالذي خَلَقَ الأرض فِي يَوْمَيْنِ } [ فصلت : 9 ] فهذه وهذه دالتان على أن الارض خلقت قبل السماء ، وهذا ما لا أعلم فيه نزاعاً بين العلماء إلا ما نقله ابن جرير عن قتادة أنه زعم أن السماء خلقت قبل الأرض ، وقد توقف في ذلك القرطبي في تفسيره لقوله تعالى : { والأرض بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا * والجبال أَرْسَاهَا } [ النازعات : 30-32 ] قالوا فذكر خلق السماء قبل الأرض .
وفي صحيح البخاري أن ابن عباس سئل عن هذا بعينه فأجاب بأن الأرض خلقت قبل السماء ، وأن الأرض إنما دحيت بعد خلق السماء ، وكذلك أجاب غير واحد من علماء التفسير قديماً وحديثاً وقد حررنا ذلك في سورة النازعات ، وحاصل ذلك أن الدحي مفسر بقوله تعالى : { أَخْرَجَ مِنْهَا مَآءَهَا وَمَرْعَاهَا * والجبال أَرْسَاهَا } [ النازعات : 31-32 ] ففسر الدحي بإخراج ما كان مودعا فيه بالقوة إلى الفعل لما أكملت صورة المخلوقات الأرضيه ثم السماوية ، دحى بعد ذلك الأرض فأخرجت ما كان مودعاً فيها من المياه ، فنبتت النباتات على اختلاف أصنافها وصفاتها وألوانها وأشكالها ، وكذلك جرت هذه الأفلاك فدارت بما فيها من الكواكب الثوابت والسيارة والله سبحانه وتعالى أعلم .(1/39)
وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ (30)
يخبر تعالى بامتنانه على بني آدم بتنويهه بذكرهم في الملأ الأعلى قبل إيجادهم بقوله : { وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ } أي واذكر يا محمد إذ قال ربك للملائكة واقصص على قومك ذلك ، { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } أي قوما يخلف بعضهم بعضاً قرناً بعد قرن ، وجيلاً بعد جيل ، كما قال تعالى : { هو الذي جعلكم خلائف الأرض } وقال : { وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَآءَ الأرض } [ النمل : 62 ] وقال : { وَلَوْ نَشَآءُ لَجَعَلْنَا مِنكُمْ مَّلاَئِكَةً فِي الأرض يَخْلُفُونَ } [ الزخرف : 60 ] وليس المراد هاهنا بالخليفة آدم عليه السلام فقط كما يقوله طائفة من المفسرين ، إذ لو كان ذلك لما حسن قول الملائكة : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } فإنهم أرادوا أن من هذا الجنس من يفعل ذلك ، وكأنهم علموا ذلك بعلم خاص ، أو بما فهموه من الطبيعة البشرية ، فإنه أخبرهم أنه يخلق هذا الصنف من { صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ } [ الحجر : 26 ] أو فهموا من الخليفة أنه الذي يفصل بين الناس ما يقع بينهم من المظالم ويردعهم عن المحارم والمآثم ( قاله القرطبي ) . أو أنهم قاسوهم على من سبق كما سنذكر أقوال المفسرين في ذلك .
وقول الملائكة هذا ليس على وجه الاعتراض على الله ولا على وجه الحسد لبني آدم كما قد يتوهمه بعض المفسرين ، وقد وصفهم الله تعالى بأنهم لا يسبقونه بالقول أي لا يسألونه شيئاً لم يأذن لهم فيه ، وهاهنا لما أعلمهم بأنه سيخلق في الأرض خلقاً وقد تقدم إليهم أنهم يفسدون فيها فقالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } ؟ الآية . وإنما هو سؤال استعلام واستكشاف عن الحكمة في ذلك ، يقولون : يا ربنا ما الحكمة في خلق هؤلاء ، مع أن منهم من يفسد في الأرض ويسفك الدماء؟ فإن كان المراد عبادتك فنحن نسبِّح بحمدك ونقدِّس لك أي نصلّي لك ولا يصدر منا شيء من ذلك ، وهلا وقع الاقتصار علينا؟ قال الله تعالى مجيباً لهم عن هذا السؤال : { إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } ، أي إني أعلم من المصلحة الراجحة في خلق هذا الصنف على المفاسد التي ذكرتموها ما لا تعلمون أنتم ، فإني سأجعل فيهم الأنبياء ، وأرسل فيهم الرسل ، ويوجد منهم الصديقون والشهداء والصالحون ، والعُبَّاد والزهاد ، والأولياء والأبرار ، والمقربون ، والعلماء العاملون ، والخاشعون والمحبون له تبارك وتعالى ، المتبعون رسله صلوات الله وسلامه عليهم .
وقيل : معنى قوله تعالى : { إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } إني لي حكمة مفصلة في خلق هؤلاء والحالة ما ذكرتم لا تعلمونها ، وقيل : إنه جواب { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } فقال : { إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي من وجود إبليس بينكم وليس هو كما وصفتم أنفسكم به . وقيل : بل تضمن قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } ، طلباً منهم أن يسكنوا الأرض بدل بني آدم ، فقال الله تعالى ذلك : { إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } من أن بقاءكم في السماء أصلح لكم وأليق بكم .(1/40)
ذكرها الرازي مع غيرها من الأجوبة والله أعلم .
( ذكر أقوال المفسرين ) .
قال السدي في تفسيره : إن الله تعالى قال للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة ، قالوا : ربنا وما يكون ذاك الخليفة؟ قال : يكون له ذرية يفسدون في الأرض ، ويقتل بعضهم بعضاً : قال ابن جرير : وإنما معنى الخلافة التي ذكرها الله إنما هي خلافة قرن منهم قرناً . والخليفة الفعلية من قولك : خلف فلان فلاناً في هذا الأمر ، إذا قام مقامه فيه بعده ، كما قال تعالى : { ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأرض مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ } [ يونس : 14 ] . ومن ذلك قبل للسلطان الأعظم خليفة ، لأنه خلف الذي كان قبله فقام بالأمر فكان منه خلفاً .
قال ابن جرير عن ابن عباس : إن أول من سكن الأرض الجن ، فافسدوا فيها ، وسفكوا فيها الدماء ، وقتل بعضهم بعضا . قال : فبعث الله إليهم إبليس ، فقتلهم إبليس ومن معه حتى ألحقهم بجزائر البحور وأطراف الجبال ثم خلق آدم فأسكنه إياها ، فلذلك قال : { إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً } . وقال الحسن : إن الجن كانوا في الأرض يفسدون ويسفكون الدماء ، ولكن جعل الله في قلوبهم أن ذلك سيكون ، فقالوا بالقول الذي علمهم . وقال قتادة في قوله : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا } : كان الله أعلمهم أنه إذا كان في الأرض خلق أفسدوا فيها وسفكوا الدماء فذلك حين قالوا : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } ؟ .
قال ابن جرير : وقال بعضهم إنما قالت الملائكة ما قالت { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } لأن الله أذن لهم في السؤال عن ذلك بعد ما أخبرهم أن ذلك كائن من بني آدم ، فسألته الملائكة فقالت على التعجب منها : وكيف يعصونك يا رب وأنت خالقهم؟ فأجابهم ربهم { إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } يعني أن ذلك كائن منهم ، وإن لم تعلموه أنتم ومن بعض ما ترونه لي طائعا ، قال ، وقال بعضهم ذلك من الملائكة على وجه الاسترشاد عما لم يعلموا من ذلك ، فكأنهم قالوا : يا رب خبرنا - مسألة استخبار منهم لا على وجه الإنكار - واختاره ابن جرير .
وقوله تعالى : { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } ، قال قتادة : التسبيح والتقديس الصلاة وقال السدي عن ابن عباس { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } : نصلي لك . وقال مجاهد { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ } ، قال : نعظمك ونكبرك . وقال ابن جرير : التقديس هو التعظيم والتطهير . ومنه قولهم : سبوح قدوس ، يعني بقولهم سبوح تنزيه له ، وبقولهم قدوس طهارة وتعظيم له ، وكذلك قيل للأرض : أرض مقدسة ، يعني بذلك المطهرة ، فمعنى قوله الملائكة إذن { وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ } : ننزهك ونبرئك مما يضيفه إليك أهل الشرك بك { وَنُقَدِّسُ لَكَ } ننسبك إلى ما هو من صفاتك من الطهارة من الأدناس وما أضاف إليك أهل الكفر بك .(1/41)
عن أبي ذر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل أي الكلام أفضل؟ قال : « ما اصطفى الله لملائكته : سبحان الله وبحمده » وروي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة أسري به سمع تسبيحا في السماوات العلا « سبحان العلي الأعلى سبحانه وتعالى » { قَالَ إني أَعْلَمُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ } . قال قتادة : فكان في علم الله أنه سيكون في تلك الخليقة أنبياء ورسل وقوم صالحون وساكنوا الجنة .
وقد استدل القرطبي وغيره بهذه الآية على وجوب نصب الخليقة ، ليفصل بين الناس فيما اختلفوا فيه ، ويقطع تنازعهم وينتصر لمظلومهم من ظالمهم ، ويقيم الحدود ، ويزجر عن تعاطي الفواحش إلى غير ذلك من الأمور المهمة التي لا تمكن إقامتها إلا بالإمام ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب . والإمامة تنال بالنص كما يقوله طائفة من أهل السنّة في أبي بكر . أو بالإيماء إليه كما يقول آخرون منهم ، أو باستخلاف الخليفة آخر بعده كما فعل الصدّيق بعمر بن الخطاب أو بتركه شورى في جماعة صالحين كذلك كما فعله عمر ، أو باجتماع أهل الحل والعقد على مبايعته أو بمبايعة واحد منهم له ، فيجب التزامها عند الجمهور ، وحكى على ذلك إمام الحرمين الإجماع ، والله أعلم .
ويجب أن يكون ذكراً ، حراً ، بالغاً ، عاقلاً ، مسلماً ، عدلاً ، مجتهداً ، بصيراً ، سليم الأعضاء ، خبيراً بالحروب والآراء ، قرشياً على الصحيح؛ ولا يشترط الهاشمي ولا المعصوم من الخطأ خلافاً للغلاة والروافض . ولو فسق الإمام هل ينعزل أم لا؟ فيه خلاف ، والصحيح أنه لا ينعزل لقوله عليه الصلاة والسلام : « إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان » ، فأما نصب إمامين في الأرض أو أكثر فلا يجوز لقوله عليه الصلاة والسلام : « من جاءكم وأمْرُكم جَميعٌ يريد أن يفرِّق بينكم فاقتلوه كائناً من كان » وهذا قول الجمهور .(1/42)
وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (31) قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)
هذا مقامٌ ذكر الله تعالى فيه شرف آدم على الملائكة ، بما اختصه من علم أسماء كل شيء دونهم ، وهذا كان بعد سجودهم له ، وإنما قدم هذا الفصل على ذاك لمناسبة ما بين هذا المقام وعدم علمهم بحكمة خلق الخليقة ، حين سألوا عن ذلك فأخبرهم تعالى بأنه يعلم ما لا يعلمون ، ولهذا ذكر الله هذا المقام عقيب هذا ليبيّن لهم شرف آدم بما فضل به عليهم في العلم ، فقال تعالى : { وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا } قال السدي عن ابن عباس : { وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا } علمه أسماء ولده إنساناً إنساناً ، والدواب فقيل هذا الحمار ، هذا الجمل ، هذا الفرس . وقال الضحاك عن ابن عباس { وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا } قال : هي هذه الأسماء التي يتعارف بها الناس : إنسان ، ودواب ، وسماء ، وأرض ، وسهل ، وبحر ، وخيل ، وحمار ، وأشباه ذلك من الأمم وغيرها . وقال مجاهد { وَعَلَّمَ ءَادَمَ الأسمآء كُلَّهَا } : علمه اسم كل دابة وكل طير ، وكل شيء ، وكذلك روي عن سعيد بن جبير وقتادة وغيرهم من السلف أنه علمه أسماء كل شيء . والصحيح أنه علمه أسماء الأشياء كلها ذواتها وصفاتها وأفعالها ، ولهذا قال البخاري في تفسير هذه الآية عن أَنس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يجتمع المؤمنون يوم القيامة فيقولون لو استشفعنا إلى ربنا فيأتون آدم فيقولون أنت أبو الناس خلقك الله بيده ، وأسجد لك ملائكته ، وعلَّمك أسماء كل شيء ، فاشفع لنا إلى ربك حتى يريحنا من مكاننا هذا » الحديث . فدل هذا على أنه علمه أسماء جميع المخلوقات ولهذا قال : { ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الملائكة } يعني المسميات { فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَآءِ هؤلاء إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } قال مجاهد : ثم عرض أصحاب الأسماء على الملائكة .
وقال ابن جرير عن الحسن وقتادة قالا : علَّمه اسم كل شيء ، وجعل يسمي كل شيء باسمه وعرضت عليه أمة أمة ، وبهذا الإسناد عن الحسن وقتادة في قوله تعالى { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } إني لم أخلق خلقاً إلا كنتم أعلم منه فأخبروني بأسماء هؤلاء إن كنتم صادقين . وقال السدي { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أن بني آدم يفسدون في الأرض ويسفكون الدماء . { قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم } هذا تقديس وتنزيه من الملائكة لله تعالى أن يحيط أحد بشيء من علمه إلا بما شاء ، وأن يعلموا شيئاً إلا ما علمهم الله تعالى ولهذا قالوا : { سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَآ إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَآ إِنَّكَ أَنْتَ العليم الحكيم } أي العليمُ بكل شيء ، الحكيمُ في خلقك وأمرك ، وفي تعليمك ما تشاء ومنعك ما تشاء ، لك الحكمة في ذلك والعدل التام . عن ابن عباس { سُبْحَانَ الله } قال : تنزيه الله نفسه عن السوء .(1/43)
قوله تعالى { قَالَ يَآءَادَمُ أَنبِئْهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ فَلَمَّآ أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَآئِهِمْ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } : لما ظهر فضل آدم عليه السلام على الملائكة عليهم السلام في سرده ما علمه الله تعالى من أسماء الأشياء ، قال الله تعالى للملائكة : { أَلَمْ أَقُلْ لَّكُمْ إني أَعْلَمُ غَيْبَ السماوات والأرض وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } أي ألم أتقدم إليكم إني أعلم الغيب الظاهر والخفي ، كما قال تعالى : { وَإِن تَجْهَرْ بالقول فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] ، وكما قال إخباراً عن الهدهد أنه قال لسليمان : { أَلاَّ يَسْجُدُواْ للَّهِ الذي يُخْرِجُ الخبء فِي السماوات والأرض وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ } [ النمل : 25 ] ، وعن ابن عباس { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } : أعلم السر كما أعلم العلانية ، يعني ما كتم إبليس في نفسه من الكبر والإغترار . وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } فكان الذي أبدوا هو قولهم : { أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدمآء } [ البقرة : 30 ] وكان الذي كتموا بينهم هو قولهم : لن يخلق ربنا خلقاً إلا كنا أعلم منه وأكرم . فعرفوا أن الله فضّل عليهم آدم في العلم والكرم . وقال ابن جرير : وأولى الأقوال في ذلك قول ابن عباس ، وهو أن معنى قوله تعالى { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ } : وأعلم مع علمي غيب السماوات والأرض ما تظهرونه بألسنتكم وما كنتم تخفون في أنفسكم فلا يخفى علي شيء سواء عندي سرائركم وعلانيتكم . والذي أظهروه بألسنتهم قولهم أتجعل فيها من يفسد فيها ، والذي كانوا يكتمون ما كان عليه منطوياً إبليس من الخلاف على الله في أوامره والتكبر عن طاعته قال : وصح ذلك كما تقول العرب : قتل الجيش وهزموا ، وإنما قتل الواحد أو البعض وهزم الواحد أو البعض ، فيخرج الخبر عن المهزوم منه والمقتول مخرج الخبر عن جميعهم ، كما قال تعالى : { إِنَّ الذين يُنَادُونَكَ مِن وَرَآءِ الحجرات } [ الحجرات : 4 ] ذُكِرَ أن الذي نادى إنما كان واحدا من بني تميم ، قال وكذلك قوله : { وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } .(1/44)
وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)
وهذه كرامة عظيمة من الله تعالى لآدم امتَنَّ بها على ذريته ، حيث أخبر أنه تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم ، وقد دل على ذلك أحاديث أيضاً كثيرة منها حديث الشفاعة المتقدم ، وحديث موسى عليه السلام : « رب أرني آدم الذي أخرجنا ونفسه من الجنة ، فلمّا اجتمع به قال : أنت آدم الذي خلقه الله بيده ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته؟ » قال وذكر الحديث كما سيأتي إن شاء الله .
والغرض أن الله تعالى لما أمر الملائكة بالسجود لآدم دخل إبليس في خطابهم ، لأنه وإن لم يكن من عنصرهم إلا أنه كان قد تشبه بهم وتوسم بأفعالهم ، فلهذا دخل في الخطاب لهم وذم في مخالفة الأمر .
قال طاووس عن ابن عباس : كان إبليس قبل أن يركب المعصية من الملائكة اسمه ( عزازيل ) وكان من سكان الأرض ، وكان من أشد الملائكة اجتهاداً ، وأكثرهم علماً ، فذلك دعاه إلى الكبر ، وكان من حيٍّ يسمون جناً . وقال سعيد بن المسيب : كان إبليس رئيس ملائكة سماء الدنيا . وقال ابن جرير عن الحسن : ما كان إبليس من الملائكة طرفة عين قط وإنه لأصل الجن ، كما أن آدم أصل الإنس وهذا إسناد صحيح عن الحسن . وقال شهر ابن حوشب : كان إبليس من الجن الذين طردتهم الملائكة فأسره بعض الملائكة فذهب به إلى السماء ، رواه ابن جرير ، وعن سعد بن مسعود قال : كانت الملائكة تقاتل الجن فسبي إبليس وكان صغيراً فكان مع الملائكة يتعبد معها فلما أمروا بالسجود لآدم سجدوا فأبى إبليس فلذلك قال تعالى : { إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن } [ الكهف : 50 ] وقال أبو جعفر : { وَكَانَ مِنَ الكافرين } يعني من العاصين . قال قتادة في قوله تعالى { وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لأَدَمَ } : فكانت الطاعة لله والسجدة لآدم ، أكرم الله آدم أن أسجد له ملائكته ، وقال بعض الناس : كان هذا سجود تحية وسلام وإكرام كما قال تعالى : { وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدَاً } [ يوسف : 100 ] وقد كان هذا مشروعاً في الأمم الماضية ولكنه نسخ في ملتنا .
قال معاذ : « قدمت الشام فرأيتهم يسجدون لأساقفتهم وعلمائهم فأنت يا رسول الله أحق أن يسجد لك فقال : » لا ، لو كنت آمرا بشراً أن يسجد لبشر لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها من عظم حقه عليها « ورجحه الرازي . وقال بعضهم : بل كانت السجدة لله وآدم قبلة فيها ، والأظهر أن القول الأول أولى والسجدة لآدم كانت إكراماً وإعظاماً واحتراماً وسلاماً ، وهي طاعة لله عزّ وجلّ لأنها امتثال لأمره تعالى وقد قوّاه الرازي في تفسيره وضعَّف ما عداه من القولين الآخرين ، وهما : كونه جعل قبلة إذ لا يظهر فيه شرف ، والآخر أن المراد بالسجود الخضوع لا الانحناء ووضع الجبهة على الأرض وهو ضعيف كما قال .(1/45)
وقال قتادة في قوله تعالى : { فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين } : حسد عدوّ الله إبليس آدم عليه السلام على ما أعطاه الله من الكرامة وقال : أنا ناري وهذا طيني ، وكان بدء الذنوب الكبر ، استكبر عدوّ الله أن يسجد لآدم عليه السلام . قلت : وقد ثبت في الصحيح : « لا يدخل الجنة من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من كبر » وقد كان في قلب إبليس من الكبر ، والكفر ، والعناد ما اقتضى طرده وإبعاده عن جناب الرحمة وحضرة القدس قال بعض المعربين { وَكَانَ مِنَ الكافرين } : أي وصار من الكافرين بسبب امتناعه ، كما قال : { فكان من المغرقين } وقال : { فَتَكُونَا مِنَ الظالمين } [ البقرة : 35 ] وقال الشاعر :
بتيهاء قفر والمطي كأنها ... قطا الحزن قد كانت فراخاً بيوضها
أي قد صارت ، وقال ابن فورك تقديره : وقد كان في علم الله من الكافرين ، ورجَّحه القرطبي ، وذكر هاهنا مسألة فقال قال علماؤنا : من أظهر الله على يديه ممن ليس بنبي كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالاً على ولايته خلافاً لبعض الصوفية والرافضة .
قلت : وقد استدل بعضهم على أن الخارق قد يكون على يدي غير الولي ، بل قد يكون على يد الفاجر والكافر أيضا بما ثبت عن ابن صياد أنه قال : هو الدخ ، حين خبأ له رسول صلى الله عليه وسلم الله : { فارتقب يَوْمَ تَأْتِي السمآء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ } [ الدخان : 10 ] ، وبما كان يصدر عنه ، أنه كان يملأ الطريق إذا غضب حتى ضربه عبد الله بن عمر ، وبما تثبتت به الأحاديث الدجال بما يكون على يديه من الخوارق الكثيرة ، من أنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر . والأرض أن تنبت فتنبت ، وتتبعه كنوز الأرض مثل اليعاسيب وأنه يقتل ذلك الشاب ثم يحييه إلى غير ذلك من الأمور المهولة . وكان الليث بن سعد يقول : إذا رأيتم الرجل يمشي على الماء ويطير في الهواء فلا تغتروا به حتى تعرضوا أمره على الكتاب والسنة .(1/46)
وَقُلْنَا يَا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطَانُ عَنْهَا فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ وَقُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (36)
يبين الله تعالى إخباراً عما أكرم به آدم ، بعد أن أمر الملائكة بالسجود له فسجدوا إلا إبليس أنه أباحه الجنة يسكن منها حيث يشاء ويأكل منها ما شاء ( رغداً ) أي هنيئاً واسعاً ، طيباً . وقد اختلف في الجنة التي أسكنها آدم هي في السماء أم في الأرض؟ فالأكثرون على الأول وحكى القرطبي عن المعتزلة والقدرية القول بأنها في الأرض ، وسيأتي تقرير ذلك في سورة الأعراف إن شاء الله تعالى ، وسياق الآية يقتضي أن حواء خلقت قبل دخول آدم الجنة ، ويقال : إن خلق حواء كان بعد دخول الجنة كما قال السدي في خبر ذكره عن ابن عباس وعن ناس من الصحابة « أخرج إبليس من الجنة وأسكن آدم الجنة ، فكان يمشي فيها وحيداً ليس له زوج يسكن إليه ، فنام نومة فاستيقظ وعند رأسه امرأة قاعدة خلقها الله من ضلعه ، فسألها : من أنت؟ قالت : امرأة قال : ولم خلقت؟ قالت : لتسكن إليّ ، قالت له الملائكة ينظرون ما بلغ من علمه : ما اسمها يا آدم؟ قال : حواء ، قالوا : ولمَ حواء؟ قال : إنها خلقت من شيء حي » .
وأما قوله : { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } فهو اختبار من الله تعالى وامتحان لآدم . وقد اختلف في هذه الشجرة ما هي؟ فقال السدي عن ابن عباس : الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي الكرم ، وتزعم يهود أنها الحنطة . وقال ابن جرير عن ابن عباس : الشجرة التي نهي عنها آدم عليه السلام هي السنبلة ، وقال ابن جرير بسنده : حدثني رجل من بني تميم أن ابن عباس كتب إلى أبي الجلد يسأله عن الشجرة التي أكل منها آدم ، والشجرة التي تاب عندها آدم ، فكتب إليه أبو الجلد : سألتني عن الشجرة التي نهي عنها آدم وهي السنبلة ، وسألتني عن الشجرة التي تاب عندها آدم وهي الزيتونة . وقال سفيان الثوري عن أبي مالك { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } : النخلة ، وقال ابن جرير عن مجاهد { وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة } : التينة .
قال الإمام العلاّمة أبو جعفر بن جرير رحمه الله : والصواب في ذلك أن يقال : إن الله عزّ وجلّ ثناؤه نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها ، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين ، لأن الله لم يضع لعباده دليلا على ذلك في القرآن ولا من السنّة الصحيحة . وقد قيل : كانت شجرة البر ، وقيل : كانت شجرة العنب ، وقيل : كانت شجرة التين . وجائز أن تكون واحدة منها وذلك عِلْمٌ إذا عُلِم لم ينفع العالم به علمه ، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به والله أعلم .
وقوله تعالى : { أَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا } يصح أن يكون الضمير في قوله : { عَنْهَا } عائداً إلى الجنة فيكون معنى الكلام فأزلهما أي فنحاهما ، ويصح أن يكون عائداً على أقرب المذكورين وهو الشجرة فيكون معنى الكلام فأزلهما أي من قبل الزلل ، فعلى هذا يكون تقدير الكلام { أَزَلَّهُمَا الشيطان عَنْهَا } أي بسببها ، كما قال تعالى :(1/47)
{ يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ } [ الذاريات : 9 ] أي يصرف بسببه من هو مأفوك ، ولهذا قال تعالى : { فَأَخْرَجَهُمَا مِمَّا كَانَا فِيهِ } أي من اللباس والمنزل الرحب والرزق الهنيء والراحة . { وَقُلْنَا اهبطوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأرض مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إلى حِينٍ } أي قرار وأرزاق وآجال { إلى حِينٍ } أي إلى وقت مؤقت ومقدار معيّن ثم تقوم القيامة ، وقد ذكر المفسرون من السلف كالسدي بأسانيده ، وأبي العالية ، ووهب بن منبه وغيرهم ، هاهنا أخبارًا إسرائيلية عن قصة الحية وإبليس ، وكيف جرى من دخول إبليس إلى الجنة ووسوسته ، وسنبسط ذلك إن شاء الله في سورة الأعراف فهناك القصة أبسط منها هاهنا والله الموفق .
فإن قيل : فإذا كانت جنة آدم التي أخرج منها في السماء كما يقوله الجمهور من العلماء فكيف تمكن إبليس من دخول الجنة وقد طرد من هنالك؟ وأجاب الجمهور بأجوبة ، وأحدها أنه منع من دخول الجنة مكرماً ، فأما على وجه السرقة والإهانة فلا يمتنع . ولهذا قال بعضهم - كما في التوراة - إنه دخل في فم الحية إلى الجنة . وقد قال بعضهم : يحتمل أنه وسوس لهما وهو خارج باب الجنة . وقال بعضهم : يحتمل أنه وسوس لهما وهو في الأرض وهما في السماء . ذكرهما الزمخشري وغيره . وقد أورد القرطبي هاهنا أحاديث في الحيات وقتلهن ، وبيان حكم ذلك فأجاد وأفاد .(1/48)
فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)
قيل : إن هذه الكلمات مفسرة بقوله تعالى : { قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } [ الأعراف : 23 ] . وقال أبو جعفر الرازي عن الربيع بن أنس عن أبي العالية في قوله تعالى : { فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } ، قال : إن آدم لما أصاب الخطيئة قال : أرأيت يا رب إن تبت وأصلحت؟ قال الله : « إذن أدخلك الجنة » فهي الكلمات ، ومن الكلمات أيضا : { رَبَّنَا ظَلَمْنَآ أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } . وعن مجاهد أنه كان يقول في قوله الله تعالى : { فتلقى ءَادَمُ مِن رَّبِّهِ كَلِمَاتٍ فَتَابَ عَلَيْهِ } الكلمات « اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فاغفر لي إنك خير الغافري » ، « اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فارحمني إنك خير الراحمين » « اللهم لا إله إلا أنت سبحانك وبحمدك ، رب إني ظلمت نفسي فتب علي إنك أنت التواب الرحيم » ، وقوله تعالى : { إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } أي أنه يتوب على من تاب إليه وأناب كقوله : { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } [ التوبة : 104 ] ، وقوله : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ } [ النساء : 110 ] الآية ، وقوله : { وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً } [ الفرقان : 71 ] وغير ذلك من الآيات الدالة على أنه تعالى يغفر الذنوب ، ويتوب على من يتوب ، وهذا من لطفه بخلقه ورحمته بعبيده ، لا إله إلا هو التواب الرحيم .(1/49)
قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْهَا جَمِيعًا فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَالَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِآيَاتِنَا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (39)
يخبر تعالى بما أنذر به آدم وزوجته وإبليس حين أهبطهم من الجنة ، والمراد الذرية : إنه سينزل الكتب ، ويبعث الأنبياء والرسل ، كما قال أبو العالية : الهدى الأنبياء والرسل والبينات والبيان . وقال مقاتل بن حيان : الهدى محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال الحسن : الهدى القرآن ، هذان القولان صحيحان . وقول أبي العالية أعم . { فَمَن تَبِعَ هُدَايَ } أي من أقبل على ما أنزلت به الكتب وأرسلت به الرسل { فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي فيما يستقبلونه من أمر الآخرة { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما فاتهم من أمور الدنيا كما قال في سورة طه : { فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتبع هُدَايَ فَلاَ يَضِلُّ وَلاَ يشقى } [ 123 ] . قال ابن عباس : فلا يضل في الدنيا ولا يشقى في الآخرة : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكاً وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ القيامة أعمى } [ طه : 124 ] كما قال هاهنا . { والذين كَفَرواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَآ أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي مخلدون فيها لا محيد لهم عنها ولا محيص . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أما أهل النار الذين هم أهلها فلا يموتون فيها ولا يحيون ، ولكن أقوام أصابتهم النار بخطاياهم فأماتتهم إماتة حتى إذا صاروا فحماً أذن في الشفاعة » .
وذكرُ هذا الإهباط الثاني لما تعلق به ما بعده من المعنى المغاير للأول ، وزعم بعضهم أنه تأكيد وتكرير كما يقال قم قم ، وقال آخرون : بل الإهباط الأول من الجنة إلى السماء الدنيا ، والثاني من سماء الدنيا إلى الأرض والصحيح الأول ، والله أعلم .(1/50)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَآمِنُوا بِمَا أَنْزَلْتُ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَكُمْ وَلَا تَكُونُوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ وَلَا تَشْتَرُوا بِآيَاتِي ثَمَنًا قَلِيلًا وَإِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41)
يأمر تعالى بني إسرائيل بالدخول في الإسلام ، ومتابعة محمد عليه من الله أفضل الصلاة والسلام ومهيجاً لهم بذكر أبيهم ( إسرائيل ) وهو نبي الله يعقوب عليه السلام ، وتقديره : يا بني العبد الصالح المطيع لله ، كونوا مثل أبيكم في متابعة الحق ، كما تقول : يا ابن الكريم افعل كذا؛ يا ابن الشجاع بارز الأبطال؛ يا ابن العالم اطلب العلم ، ونحو ذلك . ومن ذلك أيضا قوله تعالى : { ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً } [ الإسراء : 3 ] فإسرائيل هو يعقوب بدليل ما رواه ابن عباس قال : حضرت عصابة من اليهود نبيَّ الله صلى الله عليه وسلم فقال لهم : « هل تعلمون أن إسرائيل يعقوب؟ » قالوا : اللهم نعم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم اشهد » وعن ابن عباس : أن إسرائيل كقولك عبد الله .
وقوله تعالى : { اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } قال مجاهد : نعمة الله التي أنعم بها عليهم فيما سمى وفيما سوى ذلك أن فجَّر لهم الحجر ، وأنزل عليهم المن والسلوى ، ونجّاهم من عبودية آل فرعون . وقال أبو العالية : نعمته أن جعل منهم الأنبياء والرسل ، وأنزل عليهم الكتب . قلت : وهذا كقول موسى عليه السلام لهم : { يَاقَوْمِ اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً وَآتَاكُمْ مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن العالمين } [ المائدة : 20 ] يعني في زمانهم . وقال محمد ابن إسحاق عن ابن عباس في قوله تعالى : { اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } أي بلائي عندكم وعند آبائكم لما كان نجّاهم من فرعون وقومه ، { وَأَوْفُواْ بعهدي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } ، قال : بعهدي الذي أخذت في أعناقكم للنبي صلى الله عليه وسلم إذا جاءكم ، أنجزْ لكم ما وعدتكم عليه من تصديقه واتباعه ، بوضع ما كان عليكم من الآصار والأغلال التي كانت في أعناقكم بذنوبكم التي كانت من أحداثكم . وقال الحسن البصري : هو قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ بني إِسْرَآئِيلَ وَبَعَثْنَا مِنهُمُ اثني عَشَرَ نَقِيباً وَقَالَ الله إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصلاة وَآتَيْتُمُ الزكاة وَآمَنتُمْ بِرُسُلِي وَعَزَّرْتُمُوهُمْ وَأَقْرَضْتُمُ الله قَرْضاً حَسَناً لأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَلأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } [ المائدة : 12 ] الآية . وقال آخرون : هو الذي أخذ الله عليهم في التوراة أنه سيبعث من بني إسماعيل نبياً عظيماً يطيعه جميع الشعوب والمراد به محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن اتبعه غفر الله له ذنبه وأدخله الجنة وجعل له أجرين . وقد أورد الرازي بشارات كثيرة عن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام بمحمد صلى الله عليه وسلم .
وقال أبو العالية { وَأَوْفُواْ بعهدي } قال : عهده إلى عباده دين الإسلام وأن يتبعوه . وقال الضحّاك { أُوفِ بِعَهْدِكُمْ } : أرض عنكم و أدخلكم الجنة ، وقوله تعالى : { وَإِيَّايَ فارهبون } أي فاخشون ، وقال ابن عباس : في قوله تعالى : { وَإِيَّايَ فارهبون } أي أن أنزل بكم ما أنزلت بمن كان قبلكم من آبائكم من النقمات التي قد عرفتم من المسخ وغيره ، وهذا انتقال من الترغيب إلى الترهيب ، فدعاهم إليه بالرغبة والرهبة ، لعلهم يرجعون إلى الحق واتباع الرسول صلى الله عليه وسلم والإتعاظ بالقرآن وزواجره ، وامتثال أوامره وتصديق أخباره ، والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم ، ولهذا قال : { وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } يعني به القرآن الذي أنزل على محمدٍ صلى الله عليه وسلم النبي الأمي العربي بشيراً ونذيراً وسراجاً منيراً مشتملاً على الحق من الله تعالى مصدقاً ، لما بين يديه من التوراة والإنجيل .(1/51)
قال أبو العالية : { وَآمِنُواْ بِمَآ أَنزَلْتُ مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَكُمْ } ، يقول : يا معشر أهل الكتاب آمنوا بما أنزلت مصدقاً لما معكم يقول : لأنهم يجدون محمداً صلى الله عليه وسلم مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل .
وقوله : { وَلاَ تكونوا أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } قال ابن عباس : ولا تكونوا أول كافر به وعندكم فيه من العلم ما ليس عند غيركم ، قال أبو العالية : ولا تكونوا أول من كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم بعد سماعكم بمبعثه ، واختار ابن جرير أن الضمير في قوله ( به ) عائد على القرآن الذي تقدّم ذكره في قوله : { بِمَآ أَنزَلْتُ } ، وكلا القولين صحيح لأنهما متلازمان لأن من كفر بالقرآن فقد كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم ، ومن كفر بمحمد صلى الله عليه وسلم فقد كفر بالقرآن ، وأما قوله : { أَوَّلَ كَافِرٍ بِهِ } فيعني به أول من كفر به من بني إسرائيل ، لأنه قد تقدمهم من كفار قريش وغيرهم من العرب بشر كثير ، وإنما المراد أول من كفر به من بني إسرائيل مباشرة ، فإن يهود المدينة أول بني إسرائيل خوطبوا بالقرآن فكفرهم به يستلزم أنه أول من كفر به من جنسهم .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً } يقول : لا تعتاضوا عن الإيمان بآياتي وتصديق رسولي بالدنيا وشهواتها فإنها قليلة فانية ، سئل الحسن البصري عن قوله تعالى : { ثَمَناً قَلِيلاً } قال : الثمن القليل الدنيا بحذافيرها . وعن سعيد بن جبير : إن آياته : كتابه الذي أنزله إليهم ، وإن الثمن القليل : الدنيا وشهواتها؛ وقيل : معناه لا تعتاضوا عن البيان والإيضاح ونشر العلم النافع في الناس بالكتمان واللبس ، لتستمروا على رياستكم في الدنيا القليلة الحقيرة الزائلة عن قريب ، وفي سنن أبي داود عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من تعلم علماً مما يبتغي به وجه الله لا يتعلمه إلا ليصيب به عرضاً من الدنيا لم يرح رائحة الجنة يوم القيامة » فأما تعليم العلم بأجرة فإن كان قد تعين عليه فلا يجوز أن يأخذ عليه أجرة ، ويجوز أن يتناول من بيت المال ما يقوم به حاله وعياله ، فإن لم يحصل له منه شيء وقطعه التعليم عن التكسب فهو كما لم يتعين عليه وإذا لم يتعين عليه فإنه يجوز أن يأخذ عليه أجرة عند ( مالك والشافعي وأحمد ) وجمهور العلماء كما في قصة اللديغ :(1/52)
« إن أحق ما أخذتم عليه أجراً كتاب الله » وقوله في قصة المخطوبة : « زوجتكها بما معك من القرآن » .
وقوله : { وَإِيَّايَ فاتقون } عن طلق بن حبيب قال : التقوى أن تعمل بطاعة الله ، رجاء رحمة الله على نور من الله ، وأن تترك معصية الله ، على نور من الله ، تخاف عقاب الله ، ومعنى قوله : { وَإِيَّايَ فاتقون } أنه تعالى يتوعدهم فيما يتعمدونه من كتمان الحق وإظهار خلافه ومخالفتهم الرسول صلوات الله وسلامه عليه .(1/53)
وَلَا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُوا الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)
يقول تعالى ناهياً لليهود عما كانوا يتعمدونه من تلبيس الحق بالباطل وتمويهه به ، وكتمانهم الحق وإظهارهم الباطل { وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } فنهاهم عن الشيئين معاً ، وأمرهم بإظهار الحق والتصريح به . ولهذا قال ابن عباس { وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل } : لا تخلطوا الحق بالباطل والصدق بالكذب ، وقال أبو العالية : ولا تخلطوا الحق بالباطل ، وأدوا النصيحة لعباد الله من أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال قتادة : { وَلاَ تَلْبِسُواْ الحق بالباطل } : ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام وأنتم تعلمون أن دين الله الإسلام ، وأن اليهودية والنصرانية بدعة ليست من الله . عن ابن عباس : { وَتَكْتُمُواْ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي لا تكتموا ما عندكم من المعرفة برسولي وبما جاء به وأنتم تجدونه مكتوباً عندكم فيما تعلمون من الكتب التي بأيديكم . وقال مجاهد والسدي : { وَتَكْتُمُواْ الحق } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم : ( قلت ) : وتكتموا يحتمل أن يكون مجزوماً ويحتمل أن يكون منصوباً أي لا تجمعوا بين هذا وهذا ، كما يقال : لا تأكل السمك وتشرب اللبن . قال الزمخشري : وفي مصحف ابن مسعود { وَتَكْتُمُواْ الحق } أي في حال كتمانكم الحق ، { وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } حال أيضا ، ومعناه وأنتم تعلمون الحق ويجوز أن يكون المعنى وأنتم تعلمون ما في ذلك من الضرر العظيم على الناس ، من إضلالهم عن الهدى المفضي بهم إلى النار ، إن سلكوا ما تبدونه لهم من الباطل المشوب بنوع من الحق لتروّجوه عليهم ، والبيانُ : الإيضاح ، وعكسه الكتمان وخلط الحق بالباطل . { وَأَقِيمُواْ الصلاوة وَآتُواْ الزكاة واركعوا مَعَ الراكعين } قال مقاتل : أمرهم أن يصلوا مع النبي صلى الله عليه وسلم { وَآتُواْ الزكاة } أمرهم أن يؤتوا الزكاة أي يدفعونها إلى النبي صلى الله عليه وسلم . { واركعوا مَعَ الراكعين } أمرهم أن يركعوا مع الراكعين من أمة محمد صلى الله عليه وسلم يقول : كونوا معهم ومنهم .(1/54)
أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)
معناه : كيف يليق بكم يا معشر أهل الكتاب وأنتم تأمرون الناس بالبر - وهو جماع الخير - أن تنسوا أنفسكم فلا تأتمرون بما تأمرون الناس به ، وأنتم مع ذلك تتلون الكتاب وتعلمون ما فيه على من قصَّر في أوامر الله؟ { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ما أنتم صانعون بأنفسكم ، فتنتبهوا من رقدتكم ، وتتبصروا من عمايتكم؟ وهذا كما قال قتادة في قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } . قال : كان بنو إسرائيل يأمرون الناس بطاعة الله ، وبتقواه ويخالفون ، فعيَّرهم الله عزّ وجلّ . وقال ابن عباس : { وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أي تتركون أنفسكم { وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } أي تنهون الناس عن الكفر بما عندكم من النبوة والعهد من التوراة وتتركون أنفسكم أي وأنتم تكفرون بما فيه من عهدي إليكم في تصديق رسولي ، وتنقضون ميثاقي وتجحدون ما تعلمون من كتابي . وقال الضحّاك عن ابن عباس في هذه الآية : يقول أتأمرون الناس بالدخول في دين محمد صلى الله عليه وسلم وغير ذلك مما أمرتم به من إقام الصلاة وتنسون أنفسكم .
قال أبو الدرداء رضي الله عنه : لا يفقه الرجل كل الفقه حتى يمقت الناس في ذات الله ثم يرجع إلى نفسه فيكون لها أشدّ مقتاً ، وقال عبد الرحمن بن أسلم في هذه الآية : هؤلاء اليهود إذا جاء الرجل سألهم عن الشيء ليس فيه حق ولا رشوة أمروه بالحق ، فقال الله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الكتاب أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؟ والغرضُ أن الله تعالى ذمَّهم على هذا الصنيع ، ونبَّههم على خطئهم في حق أنفسهم حيث كانوا يأمرون بالخير ولا يفعلونه ، وليس المراد ذمهم على أمرهم بالبر مع تركهم له ، بل على تركهم له ، فإن الأمر بالمعروف معروف وهو واجب على العالم ، ولكن الواجب والأولى بالعالم أن يفعله مع من أمرهم به ، ولا يتخلف عنهم كما قال شعيب عليه السلام : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح مَا استطعت } [ هود : 88 ] .
فكلٌّ من الأمر بالمعروف وفعله واجبٌ ، لا يسقط أحدهما بترك الآخر ، على أصح قولي العلماء من السلف والخلف . وذهب بعضهم إلى أن مرتكب المعاصي لا ينهى غيره عنها ، وهذا ضعيف . والصحيح أن العالم يأمر بالمعروف وإن لم يفعله ، وينهى عن المنكر وإن ارتكبه ، قال سعيد بن جبير : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمر أحدٌ بمعروف ولا نهى عن منكر .
( قلت ) : لكنه والحالة هذه مذموم على ترك الطاعة وفعله المعصية ، لعلمه بها مخالفته على بصيرة ، فإنه ليس من يعلم كمن لا يعلم ، ولهذا جاءت الأحاديث في الوعيد على ذلك كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/55)
« مَثَل العالم الذي يعلِّمُ الناس الخير ولا يعمل به كمثل السراج يضيء للناس ويحرق نفسه » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مررت ليلة أسرى بي على قوم تُقْرض شفاههم بمقاريض من نار ، قلت : من هؤلاء؟ قالوا : خطباء أمتك من أهل الدنيا ممن كانوا يأمرون الناس بالبر وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب أفلا يعقلون » وقال صلى الله عليه وسلم : « يجاء بالرجل يوم القيامة فيلقى في النار فتندلق به أقتابه فيدور بها في النار كما يدور الحمار برحاه فيطيف به أهل النار فيقولون يا فلان ما أصابك؟ ألم تكن تأمرنا بالمعروف وتنهانا عن المنكر؟ فيقول كنت آمركم بالمعروف ولا آتيه ، وأنهاكم عن المنكر وآتيه » وقد ورد في بعض الآثار أنه يغفر للجاهل سبعين مرة ، حتى يغفر للعالم مرة واحدة ليس من يعلم كمن لا يعلم . وقال تعالى : { قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الألباب } [ الزمر : 9 ] وروي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن أناساً من أهل الجنة يطّلعون على أناس من أهل النار ، فيقولون بم دخلتم النار؟ فوالله ما دخلنا الجنة إلا بما تعلَّمنا منكم ، فيقولون : إنا كنا نقول ولا نفعل » .
وجاء رجل إلى ابن عباس فقال يا ابن عباس : إني أريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر قال : أبلغْتَ ذلك؟ قال : أرجو قال : إن لم تخش أن تفتضح بثلاث آيات من كتاب الله فافعل ، قال : وما هن؟ قال : قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } أحكمت هذه؟ قال : لا ، قال : فالحرف الثاني قال : قوله تعالى : { لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتاً عِندَ الله أَن تَقُولُواْ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2-3 ] أحكمت هذه؟ قال : لا قال : فالحرف الثالث قال : قول العبد الصالح شعيب عليه السلام : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإصلاح } [ هود : 88 ] أحمكت هذه الآية؟ قال : لا ، قال : فابدأ بنفسك . وقال إبراهيم النخعي : إني لأكره القصص لثلاث آيات قوله تعالى : { أَتَأْمُرُونَ الناس بالبر وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ } وقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ لِمَ تَقُولُونَ مَا لاَ تَفْعَلُونَ } [ الصف : 2 ] وقوله إخبارا عن شعيب : { وَمَآ أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إلى مَآ أَنْهَاكُمْ عَنْهُ } [ هود : 88 ] .(1/56)
وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (46)
يأمر تعالى عبيده فيما يؤملون من خير الدنيا والآخرة بالاستعانة بالصبر والصلاة كما قال مقاتل في تفسير هذه الآية : استعينوا على طلب الآخرة بالصبر على الفرائض والصلاة . فأما الصبر فقيل : إنه الصيام .
قال القرطبي : ولهذه يسمى رمضان شهر الصبر كما نطق به الحديث : « الصوم نصف الصبر » وقيل : المراد بالصبر الكف عن المعاصي ولهذا قرنه بأداء العبادات ، وأعلاها فعل الصلاة . قال عمر بن الخطّاب : الصبر صبران : صبر عند المصيبة حسن ، وأحسن منه الصبر عن محارم الله . وقال أبو العالية : { واستعينوا بالصبر والصلاة } على مرضاة الله ، واعلموا أنها من طاعة الله . وأما قوله : { والصلاة } فإن الصلاة من أكبر العون على الثبات في الأمر كما قال تعالى : { وَأَقِمِ الصلاة إِنَّ الصلاة تنهى عَنِ الفحشآء والمنكر } [ العنكبوت : 45 ] الآية .
وكان رسول الله إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة ، وعن علي رضي الله عنه قال : لقد رأيتنا ليلة بدر وما فينا إلا نائم غير رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي ويدعو حتى أصبح . وروي أن ابن عباس نعي إليه أخوة قثم وهو في سفر ، فاسترجع ثم تنحَّى عن الطريق ، فأناخ فصلّى ركعتين أطال فيهما الجلوس ، ثم قام يمشي إلى راحلته وهو يقول : { واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } ، والضمير في قوله : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } عائد إلى الصلاة ويحتمل أن يكون عائداً على ما يدل عليه الكلام وهو الوصية بذلك كقوله تعالى في قصة قارون : { وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصابرون } [ القصص : 80 ] وقال تعالى : { وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ وَمَا يُلَقَّاهَآ إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ } [ فصلت : 35 ] أي وما يلقَّى هذه الوصية إلا الذين صبروا ، وما يلقاها أي يؤتاها ويلهمها إلا ذو حظ عظيم . وعلى كل تقدير فقوله تعالى : { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } أي مشقة ثقيلة إلا على الخاشعين ، قال ابن عباس : يعني المصدقين بما أنزل الله ، وقال مجاهد : المؤمنين حقا وقال أبو العالية : الخائفين ، وقال مقاتل : المتواضعين ، وقال الضحّاك { وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ } قال : إنها لثقيلة إلا على الخاضعين لطاعته ، الخائفين سطوته ، المصدقين بوعده ووعيده . وقال ابن جرير معنى الآية : واستعينوا أيها الأحبار من أهل الكتاب بحبس أنفسكم على طاعة الله وبإقامة الصلاة المانعة من الفحشاء والمنكر ، المقربة من رضا الله ، العظيمة إقامتها { إِلاَّ عَلَى الخاشعين } أي المتواضعين المستكينين لطاعته المتذللين من مخافته . هكذا قال ، والظاهر أن الآية وإن كانت خطاباً في سياق إنذار بني إسرائيل فإنهم لم يقصدوا بها على سبيل التخصيص ، وإنما هي عامة لهم ولغيرهم ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ وَأَنَّهُمْ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } هذا من تمام الكلام الذي قبله أي أن الصلاة لثقيلة إلا على الخاشعين الذين يظنون أنهم ملاقوا ربهم ، أي يعلمون أنهم محشورون إليه يوم القيامة ، معروضون عليه وأنهم إليه راجعون أي أمورهم راجعة إلى مشيئته يحكم فيها ما يشاء بعدله ، فلهذا لما أيقنوا بالمعاد والجزاء ، سهل عليهم فعل الطاعات وترك المنكرات .(1/57)
فأما قوله : { يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ } فالمراد يعتقدون ، والعرب قد تسمي اليقين ظناً والشك ظناً ، نظير تسميتهم الظلمة سدفة ، والضياء سدفه . ومنه قول الله تعالى : { وَرَأَى المجرمون النار فظنوا أَنَّهُمْ مُّوَاقِعُوهَا } [ الكهف : 53 ] ، قال مجاهد : كلُّ ظنٍ في القرآن يقين . وعن أبي العالية في قوله تعالى : { الذين يَظُنُّونَ أَنَّهُم ملاقوا رَبِّهِمْ } قال : الظن هاهنا يقين ، وعن ابن جريج : علموا أنهم ملاقوا ربهم كقوله : { إِنِّي ظَنَنتُ أَنِّي مُلاَقٍ حِسَابِيَهْ } [ الحاقه : 20 ] يقول علمت . ( قلت ) وفي الصحيح : إن الله تعالى يقول للعبد يوم القيامة : « ألم أزوجك ألم أكرمك ألم أسخر لك الخيل والإبل وأذرك ترأس وتربع؟ » فيقول بلى فيقول الله تعالى : « أظننت أنك ملاقي » فيقول : لا فيقول الله اليوم أنساك كما نسيتني « وسيأتي مبسوطا عند قوله تعالى : { نَسُواْ الله فَنَسِيَهُمْ } [ التوبة : 67 ] إن شاء الله تعالى .(1/58)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (47)
يذكرهم تعالى بسالف نعمه على آبائهم وأسلافهم ، وما كان فضَّلهم به من إرسال الرسل منهم وأنزل الكتب عليهم وعلى سائر الأُمم من أهل زمانهم كما قال تعالى : { وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين } [ الدخان : 32 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدِ اخترناهم على عِلْمٍ عَلَى العالمين } [ الدخان : 32 ] ، قال أبو العالية في قوله تعالى { وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين } على عالم مَنْ كان في ذلك الزمان فإن لكل زمان عالماً ، ويجب الحمل على هذا ، لأن هذه الأمة أفضل منهم لقوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } [ آل عمران : 110 ] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله » والأحاديث في هذا كثيرة ، وقيل : المراد تفضيلٌ بنوع ما من الفضل على سائر الناس ، ولا يلزم تفضيلهم مطلقاً ، حكاه الرازي وفيه نظر . وقيل : فضّلوا على سائر الأمم لاشتمال أمتهم على الأنبياء منهم وفيه نظر ، لأن العالمين عام يشمل من قبلهم ومن بعدهم من الأنبياء ، فإبراهيم الخليل قبلهم وهو أفضل من سائر أنبيائهم ، ومحمّد بعدهم وهو أفضل من جميع الخلق ، وسيد ولد آدم في الدنيا والآخرة صلوات الله وسلامه عليه .(1/59)
وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلَا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)
لما ذكّرهم تعالى بنعمه أولاً ، عطف على ذلك التحذير من طول نقمه بهم يوم القيامة فقال : { واتقوا يَوْماً } يعني يوم القيامة { لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً } أي لا يغني أحد عن أحد كما قال : { ولا تزر وازرة وزر أخرى } ، وقال : { لِكُلِّ امرىء مِّنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ } [ عبس : 37 ] ، وقال : { واخشوا يَوْماً لاَّ يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلاَ مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئاً } [ لقمان : 33 ] فهذه أبلغ المقامات أن كلاً من الوالد وولده لا يغني أحدهما عن الآخر شيئاً . وقوله تعالى : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ } يعني من الكافرين كما قال : { فَمَا تَنفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشافعين } [ المدثر : 48 ] وكما قال عن أهل النار : { فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ * وَلاَ صَدِيقٍ حَمِيمٍ } [ الشعراء : 100-101 ] .
وقوله تعالى : { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } أي لا يقبل منها فداء ، كما قال تعالى : { فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ } [ آل عمران : 91 ] ، وقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ } [ المائدة : 36 ] ، وقال تعالى : { وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَآ } [ الأنعام : 70 ] ، وقال : { فاليوم لاَ يُؤْخَذُ مِنكُمْ فِدْيَةٌ وَلاَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } [ الحديد : 15 ] الآية . فأخبر تعالى أنهم إن لم يؤمنوا برسوله ويتابعوه على ما بعثه به ووافوا الله يوم القيامة على ما هم عليه فإنه لا ينفعهم قرابة قريب ، ولا شفاعة ذي جاه ، ولا يقبل منهم فداء ولو بملء الأرض ذهباً ، كما قال تعالى : { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } [ ابراهيم : 31 ] قال ابن عباس { وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } قال : بدل والبدل الفدية .
وقوله تعالى : { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } أي ولا أحد يغضب لهم فينصرهم وينقذهم من عذاب الله ، كما تقدم من أنه لا يعطف عليهم ذو قرابة ولا ذو جاه ، ولا يقبل منهم فداء هذا كله من جانب التلطف ، ولا لهم ناصر من أنفسهم ولا من غيرهم كما قال : { فَمَا لَهُ مِن قُوَّةٍ وَلاَ نَاصِرٍ } [ الطارق : 10 ] أي أنه تعالى لا يقبل فيمن كفر به فدية ولا شفاعة ولا ينقذ أحداً من عذابه منقذ ، ولا يخلص منه أحد كما قال تعالى : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } [ الفجر : 25-26 ] ، وقال : { مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ } ، [ الصافات : 25-26 ] وقال : { فَلَوْلاَ نَصَرَهُمُ الذين اتخذوا مِن دُونِ الله قُرْبَاناً آلِهَةَ بَلْ ضَلُّواْ عَنْهُمْ } [ الأحقاف : 28 ] الآية . وقال الضحاك عن ابن عباس في قوله تعالى : { مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ } ما لكم اليوم لا تمانعون منا ، هيهات ليس ذلك لكم اليوم ، قال ابن جرير : وتأويل قوله : { وَلاَ هُمْ يُنْصَرُونَ } يعني أنهم يومئذٍ لا ينصرهم ناصر ، كما لا يشفع لهم شافع ، ولا يقبل منهم عدل ولا فدية . بطلت هنالك المحاباة واضمحلت الرشا والشفاعات ، وارتفع من القوم التناصر والتعاون ، وصار الحكم إلى الجبار العدل ، الذي لا ينفع لديه الشفعاء والنصراء فيجزي بالسيئة مثلها وبالحسنة أضعافها . وذلك نظير قوله تعالى : { وَقِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَّسْئُولُونَ * مَا لَكُمْ لاَ تَنَاصَرُونَ * بَلْ هُمُ اليوم مُسْتَسْلِمُونَ } [ الصافات : 24-26 ] .(1/60)
وَإِذْ نَجَّيْنَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50)
يقول تعالى : اذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم ، إذا نجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب ، أي خلصتكم منهم وأنقذتكم من أيديهم صحبة موسى عليه السلام ، وقد كانوا يسومونكم أي يوردونكم ويذيقونكم ويولونكم سوء العذاب وذلك أن فرعون لعنه الله كان قد رأى رؤيا هالته ، رأى ناراً خرجت من بيت المقدس فدخلت بيوت القبط إلا بيوت بني إسرائيل ، مضمونها أن زوال ملكه يكون على يدي رجل من بني إسرائيل ، فعند ذلك أمر فرعون لعنه الله بقتل كل ذكر يولد بعد ذلك من بني إسرائيل ، وأن تترك البنات ، وأمر باستعمال بني إسرائيل في مشاق الأعمال وأرذلها ، وهاهنا فسر العذاب بذبح الأبناء ، وفي سورة إبراهيم عطف عليه كما قال : { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } ، وسيأتي تفسير ذلك في أول سورة القَصَص ، إن شاء الله تعالى وبه الثقة والمعونة والتأييد . ومعنى { يَسُومُونَكُمْ } يولونكم كما يقال : سامه خطة خسف إذا أولاه إياها ، قال عمرو ابن كلثوم :
إذ ما الملك سام الناس خسفا ... أبينا أن نقر الخسف فينا
وقيل معناه : يديمون عذابكم ، وإنما قال هاهنا : { يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَآءَكُمْ } ليكون ذلك تفسيراً للنعمة عليهم في قوله : { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب } ، ثم فسره بهذا لقوله هاهنا { اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 40 ] . وأما في سورة إبراهيم فلما قال : { وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله } [ إبراهيم : 5 ] أي بأياديه ونعمه عليهم فناسب أن يقول هناك : { يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَآءَكُمْ } ، فعطف عليه الذبح ليدل على تعدد النعم والأيادي على بني إسرائيل . ( فرعون ) عَلَمٌ على كل من ملك مصر كافراً من العماليق وغيرهم ، كما أن ( قيصر ) عَلَمٌ على كل من ملك الروم مع الشام كافراً و ( كسرى ) لمن ملك الفرس . ويقال : كان اسم فرعون الذي كان في زمن موسى عليه السلام فكان من سلالة عمليق ، وكنيته أبو مرة ، وأصله فارسي من اصطخر . وأيّاً ما كان فعليه لعنة الله . وقوله تعالى : { وَفِي ذَلِكُمْ بلاء } قال ابن جرير : وفي الذي فعلنا بكم من إنجائنا آباءكم مما كنتم فيه من عذاب آل فرعون ، بلاء لكم من ربكم عظيم ، أي نعمة عظيمة عليكم في ذلك ، وأصل البلاء الاختبار ، وقد يكون بالخير والشر كما قال تعالى : { وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً } [ الأنبياء : 35 ] وقال : { وَبَلَوْنَاهُمْ بالحسنات والسيئات } [ الأعراف : 168 ] .
وقيل المراد بقوله : { وَفِي ذَلِكُمْ بلاء } إشارة إلى ما كانوا فيه من العذاب المهين من ذبح الأبناء واستحياء النساء ، قال القرطبي : وهذا قول الجمهور والبلاء هاهنا في الشر ، والمعنى : وفي الذبح مكروه وامتحان .
وقوله تعالى : { وَإِذْ فَرَقْنَا بِكُمُ البحر فَأَنجَيْنَاكُمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَوْنَ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } معناه : وبعد أن أنقذناكم من آل فرعون وخرجتم مع موسى عليه السلام ، خرج فرعون في طلبكم ففرقنا بكم البحر ، { فَأَنجَيْنَاكُمْ } أي خلصناكم منهم وحجزنا بينكم وبينهم وأغرقناهم وأنتم تنظرون ، ليكون ذلك أشفى لصدوركم وأبلغ في إهانة عدوكم . وقد ورد أن هذا اليوم كان يوم عاشوراء ، لما روي عن ابن عباس قال : « قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة فرأى اليهود يصومون يوم عاشوراء فقال : » ما هذا اليوم الذي تصومون؟ « قالوا : هذا يوم صالح ، هذا يوم نجّى الله عز وجل فيه بني إسرائيل من عدوّهم فصامه موسى عليه السلام فقال رسول الله » أنا أحق بموسى منكم فصامه رسول الله وأمر بصومه « .(1/61)
وَإِذْ وَاعَدْنَا مُوسَى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنَا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52) وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَالْفُرْقَانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53)
يقول تعالى : { اذكروا نِعْمَتِيَ التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 40 ] في عفوي عنكم ، لمّا عبدتم العجل بعد ذهاب موسى لميقات ربه عند انقضاء أمد المواعدة ، وكانت أربعين يوماً وهي المذكورة في الأعراف في قوله تعالى : { وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ } [ الأعراف : 142 ] ، وكان ذلك بعد خلاصهم من فرعون وإنجائهم من البحر .
وقوله تعالى : { وَإِذْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب } يعني التوراة ، { والفرقان } وهو ما يفرق بين الحق والباطل والهدى والضلالة { لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } ، وكان ذلك أيضا بعد خروجهم من البحر كما دل عليه سياق الكلام في سورة الأعراف ، ولقوله تعالى : { وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الكتاب مِن بَعْدِ مَآ أَهْلَكْنَا القرون الأولى } [ القصص : 43 ] .(1/62)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54)
هذه صفة توبته تعالى على بني إسرائيل من عبادة العجل ، حين وقع في قلوبهم من شأن عبادتهم العجل ما وقع { فتوبوا إلى بَارِئِكُمْ } أي إلى خالقكم . وفي قوله هاهنا { إلى بَارِئِكُمْ } تنبيه على عظم جرمهم أي فتوبوا إلى الذي خلقكم وقد عبدتم معه غيره ، قال ابن جرير بسنده عن ابن عباس : أمر قومه عن أمر ربه أن يقتلوا أنفسهم قال : وأخبر الذين عبدوا العجل فجلسوا ، وقام الذين لم يعكفوا على العجل فأخذوا الخناجر بأيديهم ، وأصابتهم ظلمة شديدة فجعل يقتل بعضهم بعضاً ، فانجلت الظلمة عنهم وقد جلوا عن سبعين ألف قتيل ، كلٌّ من قتل منهم كانت له توبة ، وكل من بقي كانت له توبة . وقال السدي : في قوله { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ } قال : فاجتلد الذين عبدوه والذين لم يعبدوه بالسيوف ، فكان من قتل من الفريقين شهيداً حتى كثر القتل حتى كادوا أن يهلكوا حتى قتل منهم سبعون ألفا وحتى دعا موسى وهارون ربنا أهلكت بني إسرائيل ربنا البقية الباقية ، فأمرهم أن يلقوا السلاح وتاب عليهم ، فكان من قتل منهم من الفريقين شهيداً ، ومن بقي مكفراً عنه فذلك قوله : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } . وقال ابن إسحاق : لما رجع موسى إلى قومه وأحرق العجل وذراه في اليم خرج إلى ربه بمن اختار من قومه فأخذتهم الصاعقة ثم بعثوا ، فسأل موسى ربه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل فقال : لا إلا أن يقتلوا أنفسهم ، قال : فبلغني أنهم قالوا لموسى نصبر لأمر الله ، فأمر موسى من لم يكن عَبَد العجل أن يقتل من عبده ، فجعلوا يقتلونهم فهش موسى ، فبكى إليه النساء والصبيان يطلبون العفو عنهم فتاب الله عليهم وعفا عنهم ، وأمر موسى أن ترفع عنهم السيوف ، وقال عبد الرحمن بن زيد : لما رجع موسى إلى قومه ، وكانوا سبعين رجلاً قد اعتزلوا مع هارون العجل لم يعبدوه ، فقال لهم موسى : انطلقوا إلى موعد ربكم ، فقالوا : يا موسى ما من توبة؟ قال : بلى { فاقتلوا أَنفُسَكُمْ ذلكم خَيْرٌ لَّكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ } الآية ، فاخترطوا السيوف والخناجر والسكاكين ، قال : وبعث عليهم ضبابة فجعلوا يتلامسون بالأيدي ويقتل بعضهم بعضاً ، ويلقي الرجل أباه وأخاه فيقتله وهو لا يدري . قال : ويتنادون فيها رحم الله عبداً صبر نفسه حتى يبلغ الله رضاه ، قال فقتلاهم شهداء وتيب على أحيائهم ثم قرأ : { فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التواب الرحيم } .(1/63)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْنَاكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56)
يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في بعثي لكم بعد الصعق ، إذا سألتم رؤيتي جهرةً عياناً مما لا يستطاع لكم ولا لأمثالكم . قال ابن عباس : { جهرةً } علانية ، وقال الربيع بن أَنس : هم السبعون الذين اختارهم موسى فساروا معه قال فسمعوا كلاماً فقالوا : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً } ، قال : فسمعوا صوتاً فصعقوا يقول ماتوا . قال السدي في قوله : { فَأَخَذَتْكُمُ الصاعقة } الصاعقة : نار فماتوا ، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم { لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السفهآء مِنَّآ } [ الأعراف : 155 ] ، فأوحى الله إلى موسى أن هؤلاء السبعين ممن اتخذوا العجل ، ثم إن الله أحياهم فقاموا وعاشوا ينظر بعضهم إلى بعض كيف يحيون؟ قال : فذلك قوله تعالى : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } . وقال الربيع ابن أنس : كان موتهم عقوبة لهم فبعثوا من بعد الموت ليستوفوا آجالهم ، وقال ابن جرير : لما رجع موسى إلى قومه فرأى ما هم عليه من عبادة العجل ، وقال لأخيه وللسامري ما قال : وحرَّق العجل وذراه في اليم ، اختار موسى منهم سبعين رجلاً ، الخير فالخير ، وقال : انطلقوا إلى الله وتوبوا إلى الله مما صنعتم ، واسألوه التوبة على من تركتم وراءكم من قومكم . صوموا وتطهَّروا وطهَّروا ثيابكم ، فخرج بهم إلى طور سيناء لميقاتٍ وقَّته له ربه ، وكان لا يأتيه إلا بإذن منه وعلم ، فقال له السبعون - فيما ذكر لي - حين صنعوا ما أمروا به وخرجوا للقاء الله : يا موسى اطلب لنا إلى ربك نسمع كلام ربنا . فقال : أفعل . فلما دنا موسى من الجبل وقع عليه الغمام حتى تغشى الجبل كله ، ودنا موسى فدخل فيه ، وقال للقوم : ادنوا . وكان موسى إذا كلمه الله وقع على جبهته نور ساطع لا يستطيع أحد من بني آدم أن ينظر إليه فضرب دونه بالحجاب ، ودنا القوم حتى دخلوا في الغمام وقعوا سجوداً فسمعوه وهو يكلم موسى ، يأمره وينهاه : افعل ولا تفعل ، فلما فرغ إليه من أمره انكشف عن موسى الغمام فأقبل إليهم ، فقالوا لموسى : { لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى نَرَى الله جَهْرَةً } فأخذتهم الرجفة وهي الصاعقة ، فماتوا جميعاً ، وقام موسى يناشد ربه ويدعوه ويرغب إليه ويقول : { رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ } [ الأعراف : 155 ] قد سفهوا ، أفتهلك من ورائي من بني إسرائيل بما يفعل السفهاء منا؟ أي إن هذا لهم هلاك ، واختر منهم سبعين رجلاً الخير فالخير أرجع إليهم وليس معي منهم رجلُ واحد ، فما الذي يصدقوني به ويأمنوني عليه بعد هذا؟ { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] فلم يزل موسى يناشد ربه عزّ وجلّ ويطلب إليه حتى ردَّ إليهم أرواحهم ، وطلب إليه التوبة لبني إسرائيل من عبادة العجل ، فقال : لا إلا أن يقتلوا أنفسهم .(1/64)
وقال السُّدي : لما تابت بنوا إسرائيل من عبادة العجل وتاب الله عليهم بقتل بعضهم لبعض كما أمرهم الله به ، أمر الله موسى أن يأتيه في أناس من بني إسرائيل يعتذرون إليه من عبادة العجل ، ووعدهم موسى فاختار موسى سبعين رجُلاً على عينه ، ثم ذهب بهم ليعتذروا وساق البقية . والمراد السبعون المختارون منهم ، ولم يحك كثير من المفسِّرين سواه ، وقد غلط أهل الكتاب في دعواهم أن هؤلاء رأوا الله عزّ وجلّ ، فإن موسى الكليم عليه السلام قد سأل ذلك فمُنِع منه ، فكيف يناله هؤلاء السبعون!؟ .(1/65)
وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الْغَمَامَ وَأَنْزَلْنَا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)
لما ذكر تعالى ما دفعه عنهم من النقم ، شرع يذكِّرهم أيضاً بما أسبغ عليهم من النعم فقال : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام } جمع غمامة ، سمي بذلك لأنه يغمّ السماء أي يواريها ويسترها ، وهو السحاب الأبيض ظللوا به في التيه ليقيهم حرّ الشمس . وقال الحسن وقتادة { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام } : كان هذا في البريّة ظلل عليهم الغمام من الشمس ، وعن مجاهد { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام } قال : ليس بالسحاب هو الغمام الذي يأتي الله فيه في قوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة } [ البقرة : 210 ] وهو الذي جاءت فيه الملائكة يوم بدر ، قال ابن عباس : وكان معهم في التيه .
{ وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن } اختلفت عبارات المفسِّرين في المن ما هو؟ فقال ابن عباس : كان المن ينزل عليهم على الأشجار فيغدون إليه فيأكلون منه ما شاءوا ، وقال السُّدي : قالوا : يا موسى كيف لنا بما هاهنا ، أين الطعام؟ فأنزل عليهم المنّ فكان يسقط على شجرة الزنجبيل . وقال قتادة : كان المن ينزل عليهم في محلّهم سقوط الثلج ، أشدّ بياضاً من اللبن ، وأحلى من العسل ، يسقط عليهم من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس يأخذ الرجل منهم قدر ما يكفيه يومه ذلك . وقال عبد الرحمن بن أسلم : إنه العسل .
والغرض أن عبارات المفسرين متقاربة في شرح المن . فمنهم من فسَّره بالطعام ، ومنهم من فسَّره بالشراب ، والظاهر - والله أعلم - أنه كل ما امتنَّ الله به عليهم من طعام وشراب وغير ذلك مما ليس لهم فيه عمل ولا كد . فالمن المشهور إن أكل وحده كان طعاماً وحلاوة ، وإن مُزج مع الماء صار شراباً طيبّاً ، وإن ركِّب مع غيره صار نوعاً آخر ، ولكن ليس هو المراد من الآية وحده ، والدليل على ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم : « الكمأة من المن وماؤها شفاء للعين » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « العجوة من الجنة وفيها شفاء من السم ، والكمأة من المن وماؤها شفاء للعين » .
وأما السلوى فقال ابن عباس : السلوى طائر يشبه السماني كانوا ياكلون منه . وقال قتادة : السلوى كان من طير إلى الحمرة تحشرها عليهم الريح الجنوب ، وكان الرجل يذبح منها قدر ما يكفيه يومه ذلك فإذا تعدى فسد ولم يبق عنده ، حتى إذا كان يوم سادسه ليوم جمعته أخذ ما يكفيه ليوم سادسه ويوم سابعه لأنه كان يوم عبادة لا يشخص فيه لشيء ولا يطلبه . وقال السُّدي : لما دخل بنو إسرائيل التيه قالوا لموسى عليه السلام : كيف لنا بما هاهنا ، أين الطعام؟ فأنزل الله عليهم المن . فكان ينزل على شجر الزنجبيل ، والسلوى وهو طائر يشبه السماني أكبر منه فكان يأتي أحدهم فينظر إلى الطير ، فإن كان سميناً ذبحه وإلا أرسله فإذا سمن أتاه ، فقالوا : هذا الطعام فاين الشراب؟ فأمر موسى فضرب بعصاه الحجر فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً فشرب كل سبط من عين ، فقالوا : هذا الشراب فأين الظل؟ فظلل عليهم الغمام ، فقالوا : هذا الظل فأين اللباس؟ فكانت ثيابهم تطول معهم كما تطول الصبيان ولا يتخرق لهم ثوب فذلك قوله تعالى : { وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى } .(1/66)
قال ابن عباس : خلق لهم في التيه ثياب لا تَخْرق ولا تَدْرن ، قال ابن جريج : فكان الرجل إذا أخذ من المن والسلوى فوق يوم فسد إلا أنهم كانوا يأخذون في يوم الجمعة طعام يوم السبت فلا يصبح فاسداً .
وقوله تعالى : { كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } أمر إباحة وإرشاد وامتنان ، وقوله تعالى : { وَمَا ظَلَمُونَا ولكن كانوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } أي أمرناهم بالأكل مما رزقناهم وأن يعبدوا كما قال : { كُلُواْ مِن رِّزْقِ رَبِّكُمْ واشكروا لَهُ } [ سبأ : 15 ] فخالفوا وكفروا فظلموا أنفسهم . هذا مع ما شاهدوه من الآيات البينات ، والمعجزات القاطعات ، وخوارق العادات ، ومن هاهنا تتبين فضيلة أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ورضي عنهم على سائر أصحاب الأنبياء ، في صبرهم وثباتهم ، وعدم تعنتهم مع ما كانوا معه في أسفاره وغزواته ، منها عام تبوك في ذلك القيظ والحرّ الشديد والجهد ، لم يسألوا خرق عادة ولا إيجاد أمر مع أن ذلك كان سهلاً على النبي صلى الله عليه وسلم ، ولكن لما أجهدهم الجوع سألوه في تكثير طعامهم فجمعوا ما معهم فجاء قدْر مبرك الشاة فدعا الله فيه وأمرهم فملأوا كل وعاء معهم ، وكذا لما احتاجوا إلى الماء سأل الله تعالى فجاءتهم سحابة فأمطرتهم فشربوا وسقوا الإبل وملأوا أسقيتهم ثم نظروا فإذا هي لم تجاوز العسكر .(1/67)
وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هَذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَدًا وَادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنَا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزًا مِنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (59)
يقول تعالى لائماً لهم على نكولهم عن الجهاد ، ودخولهم الأرض المقدسة ، لما قدموا من بلاد مصر صحبة موسى عليه السلام فأمروا بدخول الأرض المقدسة ، التي هي ميراث لهم عن أبيهم إسرائيل ، وقتال من فيها من العماليق الكفرة ، فنكلوا عن قتالهم وضعفوا واستحسروا ، فرماهم الله في التيه عقوبة لهم كما ذكره تعالى في سورة المائدة ، ولهذا كان أصح القولين أن هذه البلدة هي ( بيت المقدس ) كما نص على ذلك غير واحد ، وقد قال الله تعالى حاكياً عن موسى : { يَاقَوْمِ ادْخُلُوا الأَرْضَ المُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَلاَ تَرْتَدُّوا } [ المائدة : 21 ] الآيات . وقال آخرون : هي ( أريحاء ) وهذا بعيد لأنها ليست على طريقهم وهم قاصدون بيت المقدس لا أريحاء ، وأبعد من ذلك قول من ذهب إلى أنها ( مصر ) حكاه الرازي في تفسيره ، والصحيح الأول أنها بيت المقدس ، وهذا كان لما خرجوا من التيه بعد أربعين سنة مع يوشع بن نون عليه السلام ، ولما فتحوها أمروا أن يدخلوا الباب - باب البلد - ( سجداً ) أي شكراً لله تعالى على ما أنعم به عليهم من الفتح والنصر ، ورد بلدهم عليهم وإنقاذهم من التيه والضلال . قال العوفي في تفسيره عن ابن عباس : { وادخلوا الباب سُجَّداً } أي ركعاً ، وقال الحسن البصري : أُمروا أن يسجدوا على وجوههم حال دخولهم واستبعده الرازي ، وحكي عن بعضهم أن المراد هاهنا بالسجود الخضوع لتعذر حمله على حقيقته ، وقال السُّدي : عن عبد الله بن مسعود : قيل لهم ادخلوا الباب سجداً فدخلوا مقنعي رؤوسهم أي رافعي رؤوسهم خلاف ما أُمروا .
وقوله تعالى : { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } قال ابن عباس : مغفرة استغفروا ، وقال الضحّاك عن ابن عباس { وَقُولُواْ حِطَّةٌ } قال : قولوا هذا الأمر حق كما قيل لكم ، وقال الحسن وقتادة : أي احطط عنا خطايانا { نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ المحسنين } . وقال : هذا جواب الأمر ، أي إذا فعلتم ما أمرناكم ، غفرنا لكم الخطيئات ، وضاعفنا لكم الحسنات ، وحاصل الأمر أنهم أمروا أن يخضعوا لله تعالى عند الفتح بالفعل والقول ، وأن يعترفوا بذنوبهم ويستغفروا منها ، ولهذا كان عليه الصلاة والسلام يظهر عليه الخضوع جداً عند النصر ، كما روي أنه كان يوم الفتح ( فتح مكة ) داخلاً إليها من الثنية العليا وإنه لخاضع لربه حتى أن عثنونه ليمس مورك رحله شكرا لله على ذلك .
وقوله تعالى : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ } روى البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم : « قيل لبني إسرائيل ادخلوا الباب سجداً وقولوا حطة ، فدخلوا يزحفون على أستاههم ، فبدلوا وقالوا حبة في شعرة » وقال الثوري عن ابن عباس في قوله تعالى : { وادخلوا الباب سُجَّداً } قال : ركعاً من باب صغير ، فدخلوا من قبل أستاههم ، وقالوا حنطة فذلك قوله تعالى : { فَبَدَّلَ الذين ظَلَمُواْ قَوْلاً غَيْرَ الذي قِيلَ لَهُمْ } .(1/68)
وحاصل ما ذكره المفسِّرون وما دل عليه السياق أنهم بدّلوا أمر الله لهم من الخضوع بالقول والفعل ، فأُمروا أن يدخلوا سجداً فدخلوا يزحفون على أستاههم رافعي رؤوسهم ، وأُمروا أن يقولوا حطة أي أحطط عنا ذنوبنا وخطايانا فاستهزأوا فقالوا حنطة في شعيرة ، وهذا في غاية ما يكون من المخالفة والمعاندة ، ولهذا أنزل الله بهم بأسه وعذابه بفسقهم وهو خروجهم عن طاعته ، ولهذا قال : { فَأَنزَلْنَا عَلَى الذين ظَلَمُواْ رِجْزاً مِّنَ السمآء بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ } . وقال الضحّاك عن ابن عباس : كل شيء في كتاب الله من الرجز يعني به العذاب وقال أبو العالية : الرجزُ الغضبُ وقال سعيد بن جبير : هو الطاعون ، لحديث : « الطاعون رجز عذاب عُذِّب به من كان قبلكم » .(1/69)
وَإِذِ اسْتَسْقَى مُوسَى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْنًا قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَاشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَلَا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)
يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في أجابتي لنبيكم موسى عليه السلام ، حين استسقاني لكم وتيسيري لكم الماء ، وإخراجه لكم من حجر يحمل معكم ، وتفجيري الماء لكم منه من ثنتي عشرة عيناً ، لكل سبط من أسباطكم عين قد عرفوها ، فكلوا من المن والسلوى واشربوا من هذا الماء الذي أنبعته لكم ، بلا سعي منكم ولا كدّ ، واعبدوا الذي سخَّر لكم ذلك ، { وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأرض مُفْسِدِينَ } ولا تقابلوا النعم بالعصيان فتُسْلَبوها . وقد بسطه المفسِّرون في كلامهم كما قال ابن عباس رضي الله عنه : وجعل بين ظهرانيهم حجر مربع ، وأمر موسى عليه السلام فضربه بعصاه فانفجرت منه اثنتا عشرة عيناً في كل ناحية منه ثلاث عيون ، وأعلم كل سبط عينهم يشربون منها ، وقال قتادة : كان حجراً طورياً - من الطور - يحملونه معهم حتى نزلوا ضربه موسى بعصاه ، وقيل : هو الحجر الذي وضع عليه موسى ثوبه حين اغتسل فقال له جبريل ارفع هذا الحجر فإن فيه قدرة ، ولك فيه معجزة ، فحمله في مخلاته . قال الزمخشري : ويحتمل أن تكون ( اللام ) للجنس لا للعهد ، أي اضرب الشيء الذي يقال له الحجر ، وعن الحسن : لم يأمره أن يضرب حجراً بعينه ، قال : وهذا أظهر في المعجزة وأبين في القدرة ، فكان يضرب الحجر بعصاه فينفجر ثم يضربه فييبس ، وقال الضحّاك ، قال ابن عباس : لما كان بنو إسرائيل في التيه شق لهم من الحجر أنهاراً ، وقال الثوري عن ابن عباس : قال ذلك في التيه ضرب لهم موسى الحجر فصار منه اثنتا عشرة عيناً من ماء لكل سبط منهم عين يشربون منها .(1/70)
وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَى لَنْ نَصْبِرَ عَلَى طَعَامٍ وَاحِدٍ فَادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِهَا وَقِثَّائِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنَى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْرًا فَإِنَّ لَكُمْ مَا سَأَلْتُمْ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَالْمَسْكَنَةُ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (61)
{ وَإِذْ قُلْتُمْ ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } .
يقول تعالى : واذكروا نعمتي عليكم في إنزالي عليكم المنَّ والسلوى طعاماً طيباً نافعاً هنيئاً سهلاً ، واذكروا ضجركم مما رزقناكم وسؤالكم موسى الأطعمة الدنيئة من البقول ونحوها مما سألتم ، قال الحسن البصري : فبطروا وذكروا عيشهم الذي كانوا فيه ، وكانوا قوماً أهل أعداس وبصل وبقل وفوم ، فقالوا : { ياموسى لَن نَّصْبِرَ على طَعَامٍ وَاحِدٍ فادع لَنَا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنَا مِمَّا تُنْبِتُ الأرض مِن بَقْلِهَا وَقِثَّآئِهَا وَفُومِهَا وَعَدَسِهَا وَبَصَلِهَا } وإنما قالوا على طعام واحد وهم يأكلون المن والسلوى لأنه لا يتبدَّل ولا يتغير كل يوم فهو مأكل واحد ، وأما الفوم فقال ابن عباس : الثوم ، وقال آخرون : الفوم : الحنطةُ وهو البُرُّ الذي يعمل منه الخبز ، روي أن ابن عباس سئل عن قول الله ، { وَفُومِهَا } ما فومها؟ قال : الحنطة . قال ابن عباس : أما سمعت قول أحيحة بن الجلاح وهو يقول :
قد كنت أغنى الناس شخصاً واحداً ... ورد المدينة عن زراعة فوم
وقال ابن جرير عن ابن عباس في قول الله تعالى { وَفُومِهَا } قال : الفوم الحنطة بلسان بني هاشم ، وقال الجوهري : الفوم الحنطة ، وحكى القرطبي عن عطاء وقتادة : أن الفوم كل حب يختبز ، قال ، وقال بعضهم : هو الحمص لغة شامية ، قال البخاري : وقال بعضهم الحبوب التي تؤكل كلها فوم ، وقوله : { قَالَ أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ } ؟ فيه تقريع لهم وتوبيخ على ما سألوا من هذه الأطعمة الدنيئة مع ما هم فيه من العيش الرغيد والطعام الهنيء الطيب النافع . وقوله تعالى : { اهبطوا مِصْراً } هكذا هو منون مصروف ، وقال ابن عباس : مصراً من الأمصار . والمعنى أن هذا الذي سألتم ليس بأمرٍ عزيز بل هو كثير في أي بلد دخلتموها وجدتموه ، فليس يساوي مع دناءته وكثرته في الأمصار أن أسأل الله فيه . ولهذا قال : { أَتَسْتَبْدِلُونَ الذي هُوَ أدنى بالذي هُوَ خَيْرٌ اهبطوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ مَّا سَأَلْتُمْ } أي ما طلبتم ، ولما كان سؤالهم هذا من باب البطر والأشر ولا ضرورة فيه لم يجابوا إليه ، والله أعلم .
{ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } .
يقول تعالى : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة والمسكنة } أي وضعت عليهم وألزموا بها شرعاً وقدراً ، أي لا يزالون مستذلين من وَجَدهم استذلهم وأهانهم وضربَ عليهم الصغارَ ، وهم مع ذلك في أنفسهم أذلاء مستكينون . يعطون الجزية عن يدٍ وهم صاغرون ، قال الضحّاك : { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة } قال : الذل ، وقال الحسن : أذلهم الله فلا منعة لهم وجعلهم تحت أقدام المسلمين ، ولقد أدركتهم هذه الأمة وإن المجوس لتجيبهم الجزية ، وقال أبو العالية والسُّدي : المسكنةُ الفاقةُ ، وقوله تعالى : { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } استحقوا الغضب من الله ، وقال ابن جرير : يعني بقوله { وَبَآءُو بِغَضَبٍ مِّنَ الله } : انصرفوا ورجعوا ، ولا يقال باء إلا موصولاً إما بخير وإما بشر ، يقال منه : باء فلان بذنبه يبوء به ، ومنه قوله تعالى :(1/71)
{ إني أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ } [ المائدة : 29 ] يعني تنصرف متحملهما وترجع بهما قد صارا عليك دوني ، فمعنى الكلام رجعوا منصرفين متحملين غضب الله قد صار عليهم من الله غضب ووجب عليهم من الله سخط .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ الحق } ، يقول الله تعالى هذا الذي جازيناهم من الذلة والمسكنة وإحلال الغضب بهم من الذلة ، بسبب استكبارهم عن اتباع الحق ، وكفرهم بآيات الله ، وإهانتهم حَمَلة الشرع وهم ( الأنبياء ) وأتباعهم ، فانتقصوهم إلى أن أفضى بهم الحال إلى أن قتلوهم فلا كفر أعظم من هذا ، إنهم كفروا بآيات الله وقتلوا أنبياء الله بغير الحق ، ولهذا جاء في الحديث المتفق على صحته أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الكبر بطرُ الحق وغَمْطُ الناس » يعني رد الحق وانتقاص الناس والازدراء بهم والتعاظم عليهم . ولهذا لما ارتكب بنوا إسرائيل ما ارتكبوه من الكفر بآيات الله ، وقتلهم أنبياءه ، أحل الله بهم بأسه الذي لا يُرد وكساهم ذلاً في الدنيا موصولاً بذل الآخرة جزاءً وفاقاً . عن عبد الله بن مسعود قال : « كانت بنوا إسرائيل في اليوم تقتل ثلثمائة نبي ثم يقيمون سوق بقلهم من آخر النهار » . وعن عبد الله بن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أشدُّ الناس عذاباً يوم القيامة رجلٌ قتله نبي أو قَتَل نبياً ، وإمام ضلالة وممثل من الممثلين » ، وقوله تعالى : { ذلك بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } وهذه علة أُخرى في مجازاتهم بما جوزوا به أنهم كانوا يعصون ويعتدون ، فالعصيان فعل المناهي ، والاعتداءُ المجاوزة في حد المأذون فيه والمأمور به ، والله أعلم .(1/72)
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَادُوا وَالنَّصَارَى وَالصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)
لما بيّن تعالى حال من خالف أوامره ، وارتكب زواجره ، وتعدّى في فعل ما لا إذن فيه وانتهك المحارم ، وما أحلّ بهم من النكال ، نبّه تعالى على أن من أحسن من الأُمم السالفة وأطاع فإن له جزاء الحسنى ، وكذلك الأمر إلى قيام الساعة ، كلُّ من اتبع الرسول النبي الأمّي فله السعادة الأبدية ، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه ولا هم يحزنون على ما يتركونه ويخلفونه كما قال تعالى : { ألا إن ألا إِنَّ أَوْلِيَآءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } [ يونس : 62 ] . عن مجاهد قال : قال سلمان رضي الله عنه : سألت النبي صلى الله عليه وسلم عن أهل دين كنتُ معهم فذكرت من صَلاتهم وعبادتهم ، فنزلت : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والنصارى والصابئين مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر } إلى آخر الآية . وقال السُّدي : نزلت في أصحاب ( سلمان الفارسي ) « بينا هو يحدِّث النبي صلى الله عليه وسلم إذا ذكر أصحابه فأخبروه خبرهم فقال : كانوا يصلون ، ويصومون ، ويؤمنون بك ، ويشهدون أنك ستبعث نبياً ، فلما فرغ سلمان من ثنائه عليهم قال له النبي صلى الله عليه وسلم : يا سلمان هم من أهل النار » فاشتد ذلك على سلمان فأنزل الله هذه الآية فكان إيمان اليهود أنه من تمسك بالتوراة وسنّة موسى عليه السلام حتى جاء عيسى ، فلما جاء عيسى كان من تمسك بالتوراة وأخذ بسُنَّة موسى فلم يدعها ولم يتبع عيسى كان هالكاً ، وإيمان النصارى أن من تمسك بالإنجيل منهم وشرائع عيسى كان مؤمناً مقبولاً منه حتى جاء محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لم يتبع محمداً صلى الله عليه وسلم منهم ويدع ما كان عليه من سنة عيسى والإنجيل كان هالكاً .
( قلت ) : وهذا لا ينافي ما روي عن ابن عباس { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ } الآية قال : فأنزل الله بعد ذلك : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } [ آل عمران : 85 ] فإن هذا الذي قاله ابن عباس إخبار عن أنه لا يقبل من أحد طريقه ولا عملاً إلا ما كان موافقاً لشريعة محمد صلى الله عليه وسلم بعد أن بعثه بما بعثه به ، فأما قبل ذلك فكل من اتبع الرسول في زمانه فهو على هدى وسبيل ونجاة ، فاليهود أتباع موسى عليه السلام الذين كانوا يتحاكمون إلى التوراة في زمانهم ، واليهود من الهوادة وهي المودة أو التهود وهي التوبة كقول موسى عليه السلام : { إِنَّا هُدْنَآ إِلَيْكَ } [ الأعراف : 156 ] أي تبنا فكأنَّهم سموا بذلك في الأصل لتوبتهم ومودتهم في بعضهم لبعض ، وقيل : لنسبتهم إلى ( يهودا ) أكبر أولاد يعقوب ، فلما بعث عيسى صلى الله عليه وسلم وجب على بني إسرائيل اتباعه والانقياد له ، فأصحابه وأهل دينه هم النصارى وسموا بذلك لتناصرهم فيما بينهم ، وقد يقال لهم أنصار أيضاً كما قال عيسى عليه السلام :(1/73)
{ مَنْ أنصاري إِلَى الله قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله } [ آل عمران : 52 ، الصف : 14 ] ، وقيل إنهم إنما سموا بذلك من أجل أنهم نزلوا أرضاً يقال لها ناصرة ، قاله قتادة وروي عن ابن عباس أيضاً ، والله أعلم .
فلما بعث الله محمداً خاتماً للنبيين ، ورسولاً إلى بني آدم على الإطلاق ، وجب عليهم تصديقه فيما أخبر ، وطاعته فيما أمر ، والانكفاف عما عنه زجر ، وهؤلاء هم المؤمنون حقاً . وسمِّيت أُمّة محمد صلى الله عليه وسلم مؤمنين لكثرة إيمانهم ، وشدة إيقانهم ، ولأنهم يؤمنون بجميع الأنبياء الماضية والغيوب الآتية .
وأما الصابئون فقد اختلف فيهم فقال مجاهد : الصابئون قوم بين المجوس واليهود والنصارى ليس لهم دي ، وقال أبو العالية والضحّاك : الصابئون فرقة من أهل الكتاب يقرأون الزبور ، ولهذا قال أبو حنيفة وإسحاق : لا بأس بذبائحهم ومناكحتهم ، وقال أبو جعفر الرازي : بلغني أن الصابئين قوم يعبدون الملائكة ويقرأون الزبور ويصلُّون للقبلة ، وسئل وهب بن منبه عن الصابئين فقال : الذي يعرف الله وحده ، وليست له شريعة يعمل بها ، ولم يُحْدث كفراً ، وقال عبد الرحمن بن زيد : الصابئون أهل دين من الأديان ، كانوا بجزيرة الموصل يقولون : « لا إله إلا الله » وليس لهم عمل ولا كتابٌ ولا نبيٌّ إلا قول : لا إله إلا الله ، قال : ولم يمنوا برسول . فمن أجل ذلك كان المشركون يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه : هؤلاء الصابئون يشبِّهونهم بهم يعني في قول : « لا إله إلا الله » . وقال الخليل : هم قوم يشبه دينهم دين النصارى إلا أن قبلتهم نحو مهب الجنوب يزعمون أنهم على دين نوح عليه السلام ، قال القرطبي : والذي تحصَّل من مذهبهم فيما ذكره بعض العلماء أنهم موحدون ويعتقدون تأثير النجوم وأنها فاعلة ، ولهذا أفتى أبو سعيد الاصطخري بكفرهم للقادر بالله حين سأله عنهم ، واختار الرازي أن الصابئين قوم يعبدون الكواكب بمعنى أن الله جعلها قبلة للعباد والدعاء أو بمعنى أن الله فوّض تدبير أمر هذا العالم إليها . وأظهرُ الأقوال - والله أعلم - قول مجاهد ومتابعيه ووهب بن منبه : أنهم قوم ليسوا على دين اليهود ولا النصارى ولا المجوس ولا المشركين ، وإنما هم قوم باقون على فطرتهم ولا دين مقرر لهم يتبعونه ويقتفونه ، ولهذا كان المشركون ينبذون من أسلم بالصابىء ، أي أنه قد خرج عن سائر أديان أهل الارض إذ ذاك ، وقال بعض العلماء : الصابئون الذي لم تبلغهم دعوة نبي ، والله أعلم .(1/74)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخَاسِرِينَ (64)
يقول تعالى مذكِّراً بني إسرائيل ما أخذ عليهم من العهود والمواثيق ، بالإيمان وحده لا شريك له ، واتباع رسله ، وأخبر تعالى أنه لما أخذ عليهم الميثاق رفع الجبل فوق رؤوسهم ، ليقروا بما عوهدوا عليه ويأخذوه بقوة وحزم وامتثال كما قال تعالى : { وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وظنوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ واذكروا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأعراف : 171 ] فالطُّور هو الجبل كما فسَّره به في الأعراف ، وقال السدي : فلما أبوا أن يسجدوا أمر الله الجبل أن يقع عليهم ، فنظروا إليه وقد غشيهم ، فسقطوا سجداً فسجدوا على شق ونظروا بالشق الآخر ، فرحمهم الله فكشفه عنهم فقالوا : والله ما سجدة أحب إلى الله من سجدة كشف بها العذاب عنهم فهم يسجدون كذلك ، وذلك قول الله تعالى : { وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطور } ، { خُذُواْ مَآ ءاتيناكم بِقُوَّةٍ } ، يعني التوراة ، قال أبو العالية : { بِقُوَّةٍ } أي بطاعة ، وقال مجاهد : { بِقُوَّةٍ } أي بعمل بما فيه ، وقال قتادة : القوة : الجد وإلا قذفته عليكم ، قال : فأقروا أنهم يأخذون ما أوتوا بقوة ، ومعنى قوله وإلا قذفته عليكم أي أسقطته عليكم ، يعني الجبل ، { واذكروا مَا فِيهِ } يقول : اقرأوا ما في التوراة واعملوا به . وقوله تعالى : { ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِّن بَعْدِ ذلك فَلَوْلاَ فَضْلُ الله } يقول تعالى ثم بعد هذا الميثاق المؤكد العظيم ، توليتم عنه وانثنيتم ونقضتموه { فَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ } أي بتوبته عليكم وإرساله النبيين والمرسلين إليكم { لَكُنْتُم مِّنَ الخاسرين } بنقضكم ذلك الميثاق في الدنيا والآخرة .(1/75)
وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ (65) فَجَعَلْنَاهَا نَكَالًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)
يقول تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ } يا معشر اليهود ما أحل من البأس بأهل القرية ، التي عصت أمر الله وخالفوا عهده وميثاقه ، فيما أخذه عليهم من تعظيم السبت والقيام بأمره ، إذا كان مشروعاً لهم فتحيلوا على اصطياد الحِيتان في يوم السبت بما وضعوا لها من الحبائل والبرك قبل يوم السبت ، فلما جاءت يوم السبت على عادتها في الكثرة نشبت بتلك الحبائل والحيل فلم تخلص منها يومها ذلك ، فلما كان الليل أخذوها بعد انقضاء السبت ، فلما فعلوا ذلك مسخهم الله إلى صورة القردة وهي أشبه شيء بالأناسي في الشكل الظاهر وليست بإنسان حقيقة ، فكذلك أعمال هؤلاء وحيلتهم لما كانت مشابهة للحق في الظاهر ومخالفة له في الباطن . كان جزاؤهم من جنس عملهم .
وهذه القصة مبسوطة في سورة الأعراف حيث يقول تعالى : { وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ } [ 163 ] القصة بكمالها . وقال السدي : أهل هذه القرية هم أهل أيلة ، وقوله تعالى : { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } قال مجاهد : مسخت قلوبهم ولم يمسخوا قردة ، وإنما هو مَثَلٌ ضربه الله { كَمَثَلِ الحمار يَحْمِلُ أَسْفَاراً } [ الجمعة : 5 ] وهذا سند جيّد عن مجاهد ، وقولٌ غريب خلاف الظاهر من السياق في هذا المقام ، وفي غيره قال الله تعالى : { قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِّن ذلك مَثُوبَةً عِندَ الله مَن لَّعَنَهُ الله وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ القردة والخنازير وَعَبَدَ الطاغوت } [ المائدة : 60 ] الآية ، وقال ابن عباس { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } : فجعل الله منهم القردة والخنازير ، فزعم أن شباب القوم صاروا قردة وأن الشيخة صاروا خنازير . وقال شيبان عن قتادة { فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } فصار القوم قردة تعاوى ، لها أذناب بعدما كانوا رجالاً ونساء ، وقال عطاء الخُراساني : نودوا يا أهل القرية { كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } فجعل الذين نهوهم يدخلون عليهم فيقولون يا فُلان ، يا فلان ألم ننهكم؟ فيقولون برؤوسهم أي بلى ، وقال الضحّاك عن ابن عباس : فمسخهم الله قردة بمعصيتهم ، يقول : إذ لا يحيون في الأرض إلا ثلاثة أيام ، قال : ولم يعش مسخ قط فوق ثلاثة أيام ولم يأكل ولم يشرب ولم ينسل ، وقد خلق الله القردة والخنازير وسائر الخلق في الستة الأيام التي ذكرها الله في كتابه ، فمسخ هؤلاء القوم في صورة القردة وكذلك يفعل بمن يشاء ، ويحوله كما يشاء { خَاسِئِينَ } يعني أذلة صاغرين .
وقال السُّدي في قوله تعالى : { وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الذين اعتدوا مِنْكُمْ فِي السبت فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } قال : هم أهل أيلة؛ وهي القرية التي كانت حاضرة البحر ، فكانت الحِيتان إذا كان يوم السبت وقد حرّم الله على اليهود أن يعملوا في السبت شيئاً ، لم يبق في البحر حوت إلا خرج حتى يخرجن خراطيمهن من الماء ، فإذا كان يوم الأحد لَزِمْنَ سُفْلَ البحر فلم ير منهن شيء حتى يكون يوم السبت فذلك قوله تعالى :(1/76)
{ وَسْئَلْهُمْ عَنِ القرية التي كَانَتْ حَاضِرَةَ البحر إِذْ يَعْدُونَ فِي السبت إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ } [ الأعراف : 163 ] فاشتهى بعضهم السمك فجعل الرجُل يحفر الحفيرة ويجعل لها نهراً إلى البحر ، فإذا كان يوم السبت فتح النهر ، فأقبل الموج بالحيتان يضربها حتى يلقيها في الحفيرة ، فيريد الحوت أن يخرج فلا يطيق من أجل قلة ماء النهر فيمكث فيها ، فإذا كان يوم الأحد جاء فأخذه فجعل الرجُل يشوي السمك فيجد جاره روائحه فيسأله فيخبره فيصنع مثل ما صنع جاره حتى فشا فيهم أكل السمك ، فقال لهم علماؤهم : ويحكم إنما تصطادون يوم السبت وهو لا يحلّ لكم ، فقالوا : إنما صدناه يوم الأحد حين أخذناه ، فقال الفقهاء : لا ، ولكنكم صدتموه يوم فتحتم له الماء فدخل ، قال : وغلبوا أن ينتهوا ، فقال بعض الذين نهوهم لبعض : { لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً الله مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً } [ الأعراف : 164 ] يقول : لم تعظوهم وقد وعظتموهم فلم يطيعوكم ، فقال بعضهم : { مَعْذِرَةً إلى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } [ الأعراف : 164 ] ، فلما أبَوْ قال المسلمون والله لا نساكنكم في قرية واحدة ، فقسموا القرية بجدار ففتح المسلمون باباً والمعتدون في السبت باباً ولعنهم داود عليه السلام ، فجعل المسلمون يخرجون من بابهم ، والكُفّار من بابهم ، فخرج المسلمون ذات يوم ولم يفتح الكفّار بابهم ، فلما أبطأوا عليهم تسوَّر المسلمون عليهم الحائط ، فإذا هم قردة يثب بعضهم على بعض ففتحوا عنهم فذهبوا في الأرض ، فذلك قول الله تعالى : { فَلَماَّ عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ } [ الأعراف : 166 ] ، وذلك حين يقول : { لُعِنَ الذين كَفَرُواْ مِن بني إِسْرَائِيلَ على لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابن مَرْيَمَ } [ المائدة : 78 ] الآية فهم القردة ، ( قلت ) والغرض من هذا السياق عن هؤلاء الآئمة بيان خلاف ما ذهب إليه مجاهد رحمه الله من أن مسخهم إنما كان ( معنوياً ) لا ( صورياً ) ، بل الصحيح أنه معنوي صوري والله تعالى أعلم .
وقوله تعالى : { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً } قال بعضهم : الضمير في { فَجَعَلْنَاهَا } عائد إلى القردة ، وقيل على ( الحِيتان ) وقيل على ( العقوبة ) ، وقيل على ( القرية ) حكاها ابن جرير . والصحيح أن الضمير عائد على القرية ، أي فجعل الله هذه القرية والمراد أهلها بسبب اعتدائهم في سبتهم ( نكالاً ) أي عاقبناهم عقوبة فجعلناها عبرة كما قال الله عن فرعون : { فَأَخَذَهُ الله نَكَالَ الآخرة والأولى } [ النازعات : 25 ] وقوله تعالى : { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } أي من القرى ، قال ابن عباس : يعني جعلناها بما أحللنا بها من العقوبة عبرةً لما حولها من القرى كما قال تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى وَصَرَّفْنَا الآيات لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ }(1/77)
[ الأحقاف : 27 ] ، فالمراد لما بين يديها وما خلفها في المكان ، كما قال عكرمة عن ابن عباس : { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } من القرى { وَمَا خَلْفَهَا } من القرى ، وقال أبو العالية : { وَمَا خَلْفَهَا } لما بقي بعدهم من الناس من بني إسرائيل أن يعملوا مثل عملهم ، وكأن هؤلاء يقولون المراد { وَمَا خَلْفَهَا } في الزمان ، وهذا مستقيم بالنسبة إلى من يأتي بعدهم من الناس أن تكون أهل تلك القرية عبرة لهم ، وأما بالنسبة إلى من سلف قبلهم من الناس ، فكيف يصح هذا الكلام أن تفسر الآية به وهو أن يكون عبرة لمن سبقهم؟ فتعين أن المراد في المكان وهو ما حولها من القرى كما قال ابن عباس وسعيد بن جبير والله أعلم .
وقال أبو جعفر الرازي عن أبي العالية : { فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا } أي عقوبة لما خلا من ذنوبهم ، وقال ابن أبي حاتم : وروي عن عكرمة ومجاهد : { لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا } من ذنوب القوم { وَمَا خَلْفَهَا } لمن يعمل بعدها مثل تلك الذنوب ، وحكى الرازي ثلاثة أقوال أحدها : أن المراد بما بين يديها وما خلفها من تقدمها من القرى بما عندهم من العلم بخبرها بالكتب المتقدمة ومن بعدها . والثاني : المراد بذلك من بحضرتها من القرى والأُمم . والثالث : أنه تعالى جعلها عقوبة لجميع ما ارتكبوه من قبل هذا الفعل وما بعده وهو قول الحسن . ( قلت ) : وأرجح الأقوال المراد بما بين يديها وما خلفها من بحضرتها من القرى يبلغهم خبرها وما حل بها كما قال تعالى : { وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِّنَ القرى } [ الأحقاف : 27 ] الآية ، وقال تعالى : { وَلاَ يَزَالُ الذين كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ } [ الرعد : 31 ] الآية ، وقال تعالى : { أَفَلاَ يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الأرض نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَآ } [ الأنبياء : 44 ] فجعلهم عبرة ونكالاً لمن في زمانهم وموعظة لمن يأتي بعدهم بالخبر المتواتر عنهم ، ولهذا قال : { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } الذين من بعدهم إلى يوم القيامة ، قال الحسن : فيتقون نقمة الله ويحذرونها ، وقال السُّدي : { وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ } أُمّة محمد صلى الله عليه وسلم . ( قلت ) المراد بالموعظة هاهنا الزاجر ، أي جعلنا ما أحللنا بهؤلاء من البأس والنكال في مقابلة ما ارتكبوه من محارم الله وما تحيلوا به من الحيل ، فليحذر المتقون صنيعهم لئلا يصيبهم ما أصابهم كما روي عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا ترتكبوا ما ارتكبت اليهود فتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل » وهذا إسناد جيّد ، والله أعلم .(1/78)
وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قَالُوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُوًا قَالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (67)
يقول تعالى : واذكروا يا بني إسرائيل نعمتي عليكم في خرق العادة لكم في شأن البقرة ، وبيان القاتل من هو بسببها ، وإحياء الله المقتول ونصه على من قتله منهم .
( ذكر بسط القصة )
عن عبيدة السلماني ، قال : كان رجل من بني إسرائيل عقيماً لا يولد له ، وكان له مال كثير ، وكان ابن أخيه وارثه ، فقتله ثم احتمله ليلاً فوضعه على باب رجل منهم ، ثم أصبح يدعيه عليهم حتى تسلحوا وركب بعضهم على بعض ، فقال ذوو الرأي منهم والنُّهَى : علام يقتل بعضكم بعضاً وهذا رسول الله فيكم؟ فأتوا موسى عليه السلام فذكروا ذلك له ، فقال : { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قالوا أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } . قال : فلو لم يعترضوا لأجزأت عنهم أدنى بقرة ولكنهم شدَّدوا فشدَّد عليهم حتى انتهوا إلى البقرة التي أُمروا بذبحها فوجدوها عند رجل ليس له بقرة غيرها ، فقال : والله لا أنقصها من ملء جلدها ذهباً ، فأخذوها بملء جلدها ذهباً فذبحوها فضربوه ببعضها فقام ، فقالوا : من قتلك؟ فقال : هذا - لابن أخيه - ثم مال ميتاً ، فلم يعط من ماله شيئاً فلم يورث قاتل بعد .
وقوله تعالى : { إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ } [ البقرة : 68 ] يعني لا هرمه ، { وَلاَ بِكْرٌ } [ البقرة : 68 ] يعني ولا صغيرة ، { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } [ البقرة : 68 ] أي نَصَفٌ بين البكر والهرمة . { قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } [ البقرة : 69 ] أي صاف لونها { تَسُرُّ الناظرين } [ البقرة : 69 ] أي تعجب الناظرين ، { قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ } [ البقرة : 70-71 ] أي لم يذللها العمل ، { تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِي الحرث } [ البقرة : 71 ] يعني وليست بذلول تثير الأرض ولا تسقي الحرث يعني ولا تعمل في الحرث { مُسَلَّمَةٌ } [ البقرة : 71 ] يعني مسلَّمة من العيوب { لاَّ شِيَةَ فِيهَا } [ البقرة : 71 ] يقول لا بياض فيها { قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } [ البقرة : 71 ] ولو أن القوم حين أُمروا بذبح بقرة ، استعرضوا بقرة من البقر فذبحوها لكانت إياها ، ولكن شدَّدوا على أنفسهم فشدَّد الله عليهم ، ولولا أن القوم استثنوا فقالوا : { وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ } [ البقرة : 70 ] لما هُدوا إليها أبداً .
وقال السُّدي { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } قال : كان رجل من بني إسرائيل مكثراً من المال فكانت له ابنة وكان له ابن أخ محتاج فخطب إليه ابن أخيه ابنته فأبى أن يزوجه ، فغضب الفتى وقال والله لأقتلن عمي ولآخذن ماله ، ولأنكحن ابنته ولآكلن ديّته ، فأتاه الفتى - وقد قدم تجار في بعض أسباط بني إسرائيل - فقال : يا عم انطلِق معي فخذ لي من تجارة هؤلاء القوم لعلّي أن أصيب منها فإنهم إذا رأوك معي أعطوني ، فخرج العم مع الفتى ليلاً ، فلما بلغ الشيخ ذلك السبط قتله الفتى ثم رجع إلى أهله ، فلما أصبح جاء كأنه يطلب عمّه كأنه لا يدري أين هو فلم يجده ، فانطلق نحوه ، فإذا هو بذلك السبط مجتمعين عليه فأخذهم ، وقال : قتلتم عمي فأدّوا إليَّ دَيته ، فجعل يبكي ويحثو التراب على رأسه وينادي : واعمّاه ، فرفعهم إلى موسى فقضى عليهم بالدية .(1/79)
فقالوا له : يا رسول الله ادع لنا ربك حتى يبين لنا من صاحبه فيؤخذ صاحب القضية ، فوالله إن ديته علينا لهيِّنة ، ولكن نستحيي أن نعيَّر به فذلك حين يقول تعالى : { وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فادارأتم فِيهَا والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } [ البقرة : 72 ] ، فقال لهم موسى : { وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً } ، قالوا : نسألك عن القتيل وعمن قتله وتقول اذبحوا بقرة أتهزأ بنا؟ { قَالَ أَعُوذُ بالله أَنْ أَكُونَ مِنَ الجاهلين } . قال ابن عباس : فلو اعترضوا بقرة فذبحوها لأجزأت عنهم ، ولكن شدَّدوا وتعنَّتوا على موسى فشدَّد الله عليهم . والفارض الهرمة التي لا تولد ، والبكر التي لم تلد إلا ولداً واحداً والعَوَان النصْفُ التي بين ذلك التي قد ولدت وولد ولدها { فافعلوا مَا تُؤْمَرونَ * قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَآءُ فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } [ البقرة : 68-69 ] قال نقي لونها { تَسُرُّ الناظرين } [ البقرة : 69 ] قال تعجب الناظرين { قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ * قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِي الحرث مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا } [ البقرة : 70-71 ] من بياض ولا سواد ولا حمرة { قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق } [ البقرة : 71 ] فطلبوها - من صاحبها - وأعطوا وزنها ذهباً فأبى فأضعفوه له حتى أعطوه وزنها عشر مرات ذهباً فباعهم إيّاها وأخذ ثمنها فذبحوها ، قال : اضربوه ببعضها فضربوه بالبضعة التي بين الكتفين فعاش فسألوه مَن قتلك فقال لهم ابن أخي قال : أقتله فآخذ ماله وأنكح ابنته ، فأخذوا الغلام فقتلوه .(1/80)
قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُوا مَا تُؤْمَرُونَ (68) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاءُ فَاقِعٌ لَوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قَالُوا ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنَا مَا هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لَا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلَا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لَا شِيَةَ فِيهَا قَالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُوا يَفْعَلُونَ (71)
أخبر تعالى عن تعنت بني إسرائيل وكثرة سؤالهم لرسولهم ولهذا لما ضيقوا على أنفسهم ضيق الله عليهم ولو أنهم ذبحوا أيَّ بقرة كانت لوقعت الموقع عنهم ولكنهم شدَّدوا فشدَّد عليهم فقالوا { قَالُواْ ادع لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ } أي ما هذه البقرة؟ وأي شي صفتها؟ قال ابن جرير عن ابن عباس : ( لو أخذوا أدنى بقرة لاكتفوا بها ولكنهم شدَّدوا فشدَّد عليهم ) قال : { إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ } أي لا كبيرة هرمة ولا صغيرة لم يلحقها الفحل . وقال الضحّاك عن ابن عباس : { عَوَانٌ بَيْنَ ذلك } يقول نَصَفٌ بين الكبيرة والصغيرة ، وهي أقوى ما يكون من الدواب والبقر وأحسن ما تكون . وقال سعيد بن جبير : { فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } صافية اللون . وقال العوفي عن ابن عباس : { فَاقِعٌ لَّوْنُهَا } شديدة الصفرة تكاد من صفرتها تبيض وقال السدي : { تَسُرُّ الناظرين } أي تعجب الناظرين . وقوله تعالى : { إِنَّ البقر تَشَابَهَ عَلَيْنَا } أي لكثرتها فميز لنا هذه البقرة وصفها وحلها لنا { وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله } إذا بينتها لنا { لَمُهْتَدُونَ } إليها . عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لولا أن بني إسرائيل قالوا { وَإِنَّآ إِن شَآءَ الله لَمُهْتَدُونَ } لما أعطوا ولكن استثنوا » { قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأرض وَلاَ تَسْقِي الحرث } أي إنها ليست مذللة بالحراثة ، ولا معدة للسقي في السانية ، بل هي مكرمة حسنة صبيحة مسلَّمة صحيحة لا عيب فيها { لاَّ شِيَةَ فِيهَا } أي ليس فيها لون غير لونها وقال قتادة { مُسَلَّمَةٌ } يقول : لا عيب فيها { لاَّ شِيَةَ فِيهَا } لونها واحد بهيم قاله عطاء . { قَالُواْ الآن جِئْتَ بالحق } قال قتادة : الآن بينت لنا ، { فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ } قال الضحاك عن ابن عباس : كادوا أن لا يفعلوا - ولم يكن ذلك الذي أرادوا - لأنهم أرادوا أن لا يذبحوها ، يعني أنهم مع هذا البيان وهذه الأسئلة والأجوبة والإيضاح ما ذبحوها إلا بعد الجهد ، وفي هذا ذم لهم وذلك أنه لم يكن غرضهم إلا التعنت فلهذا ما كادوا يذبحونها . قال ابن جرير : لم يكادوا أن يفعلوا ذلك خوف الفضيحة إن اطلع الله على قاتل القتيل الذي اختصموا فيه ثم اختار أن الصواب في ذلك أنهم لم يكادوا يفعلوا ذلك لغلاء ثمنها وللفضيحة .(1/81)
وَإِذْ قَتَلْتُمْ نَفْسًا فَادَّارَأْتُمْ فِيهَا وَاللَّهُ مُخْرِجٌ مَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتَى وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)
قال البخاري : { فادارأتم فِيهَا } اختلفتم وهكذا قال مجاهد ، { والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } قال مجاهد : ما تغيبون . عن المسيب بن رافع : « ما عمل رجل حسنة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله وما عمل رجل سيئة في سبعة أبيات إلا أظهرها الله » ، وتصديق ذلك في كلام الله : { والله مُخْرِجٌ مَّا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ } { فَقُلْنَا اضربوه بِبَعْضِهَا } هذا البعض أي شيء كان من أعضاء هذه البقرة ، فالمعجزة حاصلة به وخرق العادة به كائن فلو كان في تعيينه لنا فائدة تعود علينا في أمر الدين أو الدنيا لبيَّنه الله تعالى لنا ، ولكنه أبهمه ولم يجيء من طريق صحيح عن معصوم بيانه فنحن نبهمه كما أبهمه الله .
وقوله تعالى : { كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى } أي فضربوه فحييَ ، ونبّه تعالى على قدرته وإحيائه الموتى بما شاهدوه من أمر القتيل ، جعل تبارك وتعالى ذلك الصنيع حجة لهم على المعاد ، وفاصلاً ما كان بينهم من الخصومة والعناد ، والله تعالى قد ذكر في هذه السورة مما خلقه من إحياء الموتى في خمسة مواضع : { ثُمَّ بَعَثْنَاكُم مِّن بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [ البقرة : 56 ] وهذ القصة ، وقصة الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت ، وقصة الذي مرّ على قرية وهي خاوية على عروشها ، وقصة إبراهيم عليه السلام والطيور الأربعة ، ونبّه تعالى بإحياء الارض بعد موتها على إعادة الأجسام بعد صيرورتها رميماً ، كما قال أبو رزين العقيلي رضي الله عنه ، قال : قلت يا رسول الله : كيف يحيي الله الموتى؟ قال : « أما مررت بوادٍ ممحل ثم مررت به خضراً »؟ قال : بلى ، قال : { كَذَلِكَ النشور } [ فاطر : 9 ] ، أو قال : { كَذَلِكَ يُحْيِي الله الموتى } وشاهد هذا قوله تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } [ يس : 33 ] .(1/82)
ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)
يقول تعالى توبيخاً لبني إسرائيل وتقريعاً لهم على ما شاهدوه من آيات الله تعالى وإحيائه الموتى : { ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِّن بَعْدِ ذلك } كله فهي كالحجارة التي لا تلين أبداً ، ولهذا نهى الله المؤمنين عن مثل حالهم ، فقال : { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمنوا أَن تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ الله وَمَا نَزَلَ مِنَ الحق وَلاَ يَكُونُواْ كالذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأمد فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ } [ الحديد : 16 ] فصارت قلوب بني إسرائيل مع طول الأمد قاسية بعيدة عن الموعظة ، بعد ما شاهدوه من الآيات والمعجزات ، فهي في قسوتها كالحجارة التي لا علاج للينها ، أو أشدَّ قسوة من الحجارة ، فإن من الحجارة ما يتفجر منها العيون بالأنهار الجارية ومنها ما يشقَّق فيخرج منه الماء وإن لم يكن جارياً ، ومنها ما يهبط من رأس الجبل من خشية الله وفيه إدراك لذلك بحسبه ، كما قال تعالى : { وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ولكن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً } [ الإسراء : 44 ] . والمعنى : وإن من الحجارة لألين من قلوبكم عما تُدْعون إليه من الحق .
وقد زعم بعضهم أن هذا من باب المجاز ، وهو إسناد الخشوع إلى الحجارة كما أسندت الإرادة إلى الجدار في قوله : { يُرِيدُ أَن يَنقَضَّ } [ الكهف : 77 ] . قال الرازي والقرطبي : ولا حاجة إلى هذا ، فإن الله تعالى يخلق فيها هذه الصفة كما في قوله تعالى : { فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا } [ الأحزاب : 72 ] وقال : { تُسَبِّحُ لَهُ السماوات السبع والأرض وَمَن فِيهِنَّ } [ الإسراء : 44 ] الآية ، وقال : { والنجم والشجر يَسْجُدَانِ } [ الرحمن : 6 ] وقال : { قَالَتَآ أَتَيْنَا طَآئِعِينَ } [ فصلت : 11 ] وفي الصحيح : « هذا جبل يحبنا ونحبه » ، وكحنين الجذع المتواتر خبره ، وفي صحيح مسلم : « إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلّم عليَّ قبل أن أبعث إني لأعرفه الآن » ، وفي صفة الحجر الأسود أنه يشهد لمن استلم بحق يوم القيامة وغير ذلك مما في معناه .
( تنبيه ) اختلف علماء العربية في معنى قوله تعالى : { فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } بعد الإجماع على استحالة كونها للشك فقال بعضهم ( أو ) هاهنا بمعنى الواو تقديره : فهي كالحجارة وأشد قسوة ، كقوله تعالى : { وَلاَ تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً } [ الإنسان : 24 ] وقوله : { عُذْراً أَوْ نُذْراً } [ المرسلات : 6 ] ، وكما قال جرير بن عطية :
نال الخلافة أو كانت له قدراً ... كما أتى ربَّه موسى على قَدَرَ
قال ابن جرير : يعني نال الخلافة وكانت له قدراً ، وقال آخرون : ( أو ) هاهنا بمعنى بل فتقديره : فهي كالحجارة بل أشد قسوة ، وكقوله : { إِذَا فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَخْشَوْنَ الناس كَخَشْيَةِ الله أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً } [ النساء : 77 ] { وَأَرْسَلْنَاهُ إلى مِئَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ } [ الصافات : 147 ] { فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أدنى } [ النجم : 9 ] وقال آخرون : معنى ذلك : { فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } عندكم حكاه ابن جرير . وقال بعضهم : معنى ذلك فقلوبكم لا تخرج عن أحد هذين المثلين : إما أن تكون مثل الحجارة في القسوة وإما أن تكون أشد منها في القسوة ، قال ابن جرير ومعنى ذلك على هذا التأويل فبعضها كالحجارة قسوة ، وبعضها أشد قسوة من الحجارة ، وقد رجحه ابن جرير مع توجيه غيره ، ( قلت ) وهذا القول الأخير يبقى شبيهاً بقوله تعالى :(1/83)
{ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الذي استوقد نَاراً } [ البقرة : 17 ] مع قوله : { أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السمآء } [ البقرة : 19 ] ، وكقوله : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ } [ النور : 39 ] مع قوله { أَوْ كَظُلُمَاتٍ فِي بَحْرٍ لُّجِّيٍّ } [ النور : 40 ] الآية أي : إن منهم من هو هكذا ومنهم من هو هكذا ، والله أعلم . عن ابن عمر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تكثروا الكلام بغير ذكر الله ، فإن كثرة الكلام بغير ذكر الله قسوة القلب ، وإنَّ أبعد الناس من الله القلب القاسي » وروي مرفوعاً : « أربع من الشقاء : جمود العين ، وقساوة القلب ، وطول الأمل ، والحرص على الدنيا » .(1/84)
أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (76) أَوَلَا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ (77)
يقول تعالى : { أَفَتَطْمَعُونَ } يا أيها المؤمنون { أَن يُؤْمِنُواْ لَكُمْ } أي ينقاد لكم بالطاعة هؤلاء الفرقة الضالة من اليهود ، الذين شاهد آباؤهم من الآيات البينات ما شاهدوه ، ثم قست قلوبهم من بعد ذلك { وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } أي يتأولونه على غير تأويله { مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ } أي فهموه على الجليّة ، ومع هذا يخالفونه على بصيرة { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أنهم مخطئون فيما ذهبوا إليه من تحريفه وتأويله . وهذا المقام شبيه بقوله تعالى : { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ } [ المائدة : 13 ] وليس كلهم قد سمعها ، ولكن هم الذين سألوا موسى رؤية ربهم فأخذتهم الصاعقة فيها ، قال السدي : هي التوراة حرّفوها . وقال قتادة في قوله : { ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِن بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } هم اليهود كانوا يسمعون كلام الله ثم يحرفونه من بعد ما عقلوه ووعوه ، وقال أبو العالية : عمدوا إلى ما أنزل الله في كتابهم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم فحرفوه عن مواضعه ، وقال السدي : { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي أنهم أذنبوا ، وقال ابن وهب في قوله : { يَسْمَعُونَ كَلاَمَ الله ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ } قال : التوراة التي أنزلها الله عليهم يحرفونها يجعلون الحلال فيها حراماً ، والحرام فيها حلالاً ، والحق فيها باطلاً والباطل فيها حقاً .
وقوله تعالى : { وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا } ، قال ابن عباس { وَإِذَا لَقُواْ الذين آمَنُواْ قالوا آمَنَّا } : أي قالوا : إنَّ صاحبكم رسول الله ولكنه إليكم خاصة . { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ } قالوا : لا تحدثوا العرب بهذا فإنكم قد كنتم تستفتحون به عليهم فكان منهم ، { وَإِذَا خَلاَ بَعْضُهُمْ إلى بَعْضٍ قالوا أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } أي تقرون بأنه نبي وقد علمتم أنه قد أخذ له الميثاق عليكم باتباعه ، وهو يخبرهم أنه النبي الذي كنا ننتظر ونجد في كتابنا ، اجحدوه ولا تقروا به . يقول الله تعالى : { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } ؟ وقال الضحاك : يعني المنافقين من اليهود كانوا إذا لقوا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم قالوا آمنا ، وقال السدي : هؤلاء ناس من اليهود آمنوا ثم نافقوا . وكانوا يقولون إذا دخلوا المدينة نحن مسلمون ، ليعلموا خبر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمره ، فإذا رجعوا رجعوا إلى الكفر ، فلما أخبر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم قطع ذلك عنهم فلم يكونوا يدخلون ، وكان المؤمنون يظنون أنهم مؤمنون فيقولون : أليس قد قال الله لكم كذا وكذا ، فيقولون : بلى ، قال أبو العالية : { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } يعني بما أنزل عليكم في كتابكم من نعت محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال قتادة : { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ لِيُحَآجُّوكُم بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ } كانوا يقولون سيكون نبيّ فخلا بعضهم ببعض فقالوا : { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } .(1/85)
وعن مجاهد في قوله تعالى : { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } قال : قام النبي صلى الله عليه وسلم يوم قريظة تحت حصونهم ، فقال : يا إخوان القردة والخنازير ، ويا عبد الطاغوت فقالوا من أخبر بهذا الأمر محمداً؟ ما خرج هذا القول إلا منكم { أَتُحَدِّثُونَهُم بِمَا فَتَحَ الله عَلَيْكُمْ } بما حكم الله للفتح ليكون لهم حجة عليكم . وقال الحسن البصري : هؤلاء اليهود كانوا إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا ، وإذا خلا بعضهم إلى بعض قال بعضهم : لا تحدِّثوا أصحاب محمد بما فتح الله عليكم مما في كتابكم ليحاجوكم به عند ربكم فيخصموكم . وقوله تعالى : { أَوَلاَ يَعْلَمُونَ أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ } يعني ما أسروا من كفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وتكذيبهم به وهم يجدونه مكتوباً عندهم . وقال الحسن : { أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ } كان ما أسروا أنهم كانوا إذا تولوا عن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم وخلا بعضهم إلى بعض ، تناهوا أن يخبر أحد منهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما فتح الله عليهم مما في كتابهم خشية أن يحاجّهم أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم بما في كتابهم عند ربهم { وَمَا يُعْلِنُونَ } يعني حين قالوا لأصحاب محمد صلى الله عليه وسلم آمناً .(1/86)
وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لَا يَعْلَمُونَ الْكِتَابَ إِلَّا أَمَانِيَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ (78) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79)
يقول تعالى : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ } أي ومن أهل الكتاب ، والأميون جمع أمي وهو الرجل الذي لا يحسن الكتابة ، وهو ظاهر في قوله تعالى : { لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب } أي لا يدرون ما فيه ، ولهذا في صفات النبي صلى الله عليه وسلم : أنه الأمي لأنه لم يكن يحسن الكتابة كما قال تعالى : { وَمَا كُنتَ تَتْلُواْ مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لاَّرْتَابَ المبطلون } [ العنكبوت : 48 ] ، وقال عليه الصلاة والسلام : « إنَّا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب ، الشهر هكذا وهكذا وهكذا » الحديث . وقال تبارك وتعالى : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ الجمعة : 2 ] قال ابن جرير : نسبت العرب من لا يكتب ولا يخط من الرجال إلى أمه في جهله بالكتاب دون أبيه . وقوله تعالى : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } عن ابن عباس : { إِلاَّ أَمَانِيَّ } يقول إلا قولاً يقولونه بأفواههم كذباً ، وقال مجاهد إلا كذباً ، وعن مجاهد : { وَمِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لاَ يَعْلَمُونَ الكتاب إِلاَّ أَمَانِيَّ } قال : أناس من اليهود لم يكونوا يعلمون من الكتاب شيئاً ، وكانوا يتكلمون بالظن بغير ما في كتاب الله ويقولون هو من الكتاب ( أماني ) يتمنونها ، والتمني في هذا الموضع هو تخلق الكذب وتخرصه ، ومنه الخبر المروي عن عثمان رضي الله عنه « ما تغنيت ولا تمنيت » يعني ما تخرصت الباطل ولا اختلقت الكذب ، وقيل : المراد بقوله { إِلاَّ أَمَانِيَّ } بالتشديد والتخفيف أيضاً أي إلاّ تلاوة . واستشهدوا على ذلك بقوله تعالى : { إِلاَّ إِذَا تمنى أَلْقَى الشيطان في أُمْنِيَّتِهِ } [ الحج : 52 ] الآية ، وقال كعب بن مالك الشاعر :
تمنَّى كتاب الله أول ليله ... وآخره لاقى حِمَام المقادر
{ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ } يكذبون ، وقوله تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ الله لِيَشْتَرُواْ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } الآية . هؤلاء صنف آخر من اليهود وهم الدعاة إلى الضلال بالزور والكذب على الله ، وأكل أموال الناس بالباطل ، والويلُ : الهلاك والدمار ، وهي كلمة مشهورة في اللغة . وعن ابن عباس الويل : المشقة من العذاب ، وقال الخليل الويلُ : شدة الشر ، وقال سيبويه : ويل لمن وقع في الهلكة ، وويح لمن أشرف عليها ، وقال الأصمعي : الويل تفجع ، والويح ترحم ، وقال غيره : الويل الحزن . وعن عكرمة عن ابن عباس رضي الله عنهما : { فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ } قال : هم أحبار اليهود ، وقال السُّدي : كان ناس من اليهود كتبوا كتاباً من عندهم يبيعونه من العرب ويحدثونهم أنه من عند الله ليأخذوا به ثمناً قليلاً وقال الزهري عن ابن عباس : « يا معشر المسلمين كيف تسألون أهل الكتاب عن شيءٍ وكتابُ الله الذي أنزله على نبيّه أحدث أخبار الله تقرأونه غضاً لم يشب ، وقد حدَّثكم الله تعالى أن أهل الكتاب قد بدّلوا كتاب الله وغيروه ، وكتبوا بأيديهم الكتاب وقالوا هو من عند الله ليشتروا به ثمناً قليلاً ، أفلا ينهاكم ما جاءكم من العلم عن مساءلتهم ، ولا والله ما رأينا منهم أحداً قط سألكم عن الذي أنزل عليكم » . وقوله تعالى : { فَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } أي فويل لهم مما كتبوا بأيديهم من الكذب والبهتان والافتراء ، وويلٌ لهم مما أكلوا به من السحت ، كما قال الضحاك عن ابن عباس رضي الله عنهما { فَوَيْلٌ لَّهُمْ } يقول : فالعذاب عليهم من الذي كتبوا بأيديهم من ذلك الكذب { وَوَيْلٌ لَّهُمْ مِّمَّا يَكْسِبُونَ } يقول : مما يأكلون به أولئك الناس السفلة وغيرهم .(1/87)
وَقَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (80)
يقول تعالى إخباراً عن اليهود فيما نقلوه وادعوه لأنفسهم ، من أنهم لن تمسّهم النار إلا أياماً معدودة ، ثم ينجون منها ، فرد الله عليهم ذلك بقوله تعالى : { قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِندَ الله عَهْداً } أي بذلك ، فإن كان قد وقع عهد فهو لا يخلف عهده ، ولكن هذا ما جرى ولا كان ، ولهذا أتى بأم التي بمعنى ( بل ) أي بل تقولون على الله ما لا تعلمون من الكذب والافتراء عليه . قال مجاهد عن ابن عباس : إن اليهود كانوا يقولون : إن هذه الدنيا سبعة آلاف سنة ، وإنما نعذّب بكل ألف سنة يوماً في النار وإنما هي سبعة أيام . معدودة ، فأنزل الله تعالى : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } إلى قوله : { خَالِدُونَ } . وقال العوفي عن ابن عباس : قالوا لن تمسنا النار إلا أربعين ليلة وهي مدة عبادتهم العجل ، وقال قتادة : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } يعني الأيام التي عبدنا فيها العجل ، وقال عكرمة : خاصمت اليهود رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : لن ندخل النار إلا أربعين ليلة ، وسيخلفنا فيها قوم آخرون ، يعنون محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم بيده على رؤوسهم : « بل أنتم خالدون ومخلدون لا يخلفكم فيها أحد » ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَقَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَةً } الآية . عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « لما فتحت خيبر أهديت لرسول الله صلى الله عليه وسلم شاة فيها سمٌّ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » اجمعو لي من كان من اليهود هنا « ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من أبوكم؟ « قالوا : فُلان ، قال : » كذبتم بل أبوكم فلان « ، فقالوا : صدقت وبررت ، ثم قال لهم : » هل أنتم صادقيَّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ « قالوا : نعم يا أبا القاسم ، وإن كذبناك عرفت كذبنا كما عرفته في أبينا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من أهل النار؟ « فقالوا : نكون فيها يسيراً ثم تخلفونا فيها فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : » اخسئوا والله لا نخلفكم فيها أبداً « . ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هل أنتم صادقيَّ عن شيء إن سألتكم عنه؟ « قالوا : نعم يا أبا القاسم ، قال : » هل جعلتم في هذه الشاة سماً؟ « فقالوا : نعم قال : » فما حملكم على ذلك؟ « ، فقالوا : أردنا إن كنت كاذباً أن نستريح منك وإن كنت نبياً لم يضرك » .(1/88)
بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (81) وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (82)
يقول تعالى : ليس الأمر كما تمنيتم ولا كما تشتهون ، بل الأمر أنه من عمل سيئة { وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته } وهو من وافى يوم القيامة وليست له حسنة ، بل جميع أعماله سيئات ، فهذا من أهل النار . { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات } أي آمنوا بالله ورسوله ، وعملوا الصالحات من العمل الموافق للشريعة ، فهم من أهل الجنة ، وهذا المقام شبيهٌ بقوله تعالى : { لَّيْسَ بِأَمَانِيِّكُمْ ولا أَمَانِيِّ أَهْلِ الكتاب مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ وَلاَ يَجِدْ لَهُ مِن دُونِ الله وَلِيّاً وَلاَ نَصِيراً * وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصالحات مِن ذَكَرٍ أَوْ أنثى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فأولئك يَدْخُلُونَ الجنة وَلاَ يُظْلَمُونَ نَقِيراً } [ النساء : 123- 124 ] قال ابن عباس : { بلى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً } أي عمل مثل أعمالكم ، وكفر بمثل ما كفرتم به ، حتى يحيط به كفره فما له من حسنة ، وفي رواية عن ابن عباس قال : الشركُ . وقال الحسن : السيئة الكبيرة من الكبائر ، وقال عطاء والحسن : { وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته } أحاط به شركه ، وقال الأعمش : { وَأَحَاطَتْ بِهِ خطيائته } الذي يموت على خطاياه من قبل أن يتوب . وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إيَّاكم ومحقرات الذنوب ، فإنهن يجتمعن على الرجُل حتى يهلكنه » وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ضرب لهم مثلاً كمثل قوم نزلوا بأرض فلاة فحضر صنيع القوم ، فجعل الرجل ينطلق فيجيء بالعود ، والرجل يجيء بالعود ، حتى جمعوا سواداً وأجَّجوا ناراً فأنضجوا ما قذفوا فيها . وقوله تعالى : { والذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات أولئك أَصْحَابُ الجنة هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } أي من آمن بما كفرتم وعمل بما تركتم من دينه فلهم الجنة خالدين فيها ، يخبرهم أن الثواب بالخير والشر مقيم على أهله أبداً لا انقطاع له .(1/89)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ وَأَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)
يذكّر تبارك وتعالى بني إسرائيل بما أمرهم به من الأوامر ، وأخذه ميثاقهم على ذلك ، وأنهم تولوا عن ذلك كله وأعرضوا قصداً وعمداً وهم يعرفونه ويذكرونه ، فأمرهم تعالى أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئاً ، وبهذا أمر جميع خلقه ولذلك خلقهم كما قال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل : 36 ] ، وهذا هو أعلى الحقوق وأعظمها ، وهو حق الله تبارك وتعالى أن يعبد وحده لا شريك له ثم بعده حق المخلوقين . وآكدهم وأولاهم بذلك حق الوالدين ، ولهذا يقرن تبارك وتعالى بين حقه وحق الوالدين كما قال تعالى : { أَنِ اشكر لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ المصير } [ لقمان : 14 ] وقال تبارك وتعالى : { وقضى رَبُّكَ أَلاَّ تعبدوا إِلاَّ إِيَّاهُ وبالوالدين إِحْسَاناً } [ الإسراء : 23 ] إلى أن قال : { وَآتِ ذَا القربى حَقَّهُ والمسكين وابن السبيل وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً } [ الإسراء : 26 ] وفي الصحيحين عن ابن مسعود قلت : « يا رسول الله أيُّ العمل أفضل؟ قال : » الصلاة على وقتها « ، قلت : ثم أي؟ قال » بر الوالدين « ، قلت : ثم أيِّ؟ قال : » الجهاد في سبيل الله « ولهذا جاء في الحديث الصحيح أن رجلاً قال : » يا رسول الله مَن أبر؟ قال : « أمك » ، قال : ثم مَن؟ قال : « أمك » ، قال ثم من؟ قال : « أباك؟ ثم أدناك ثم أدناك » وقوله تعالى : { لاَ تَعْبُدُونَ إِلاَّ الله } قال الزمخشري : خبر بمعنى الطلب وهو آكد . وقيل : كان أصله { أن لا تعبدوا إلا الله } فحذفت ( أن ) فارتفع { واليتامى } وهم الصغار الذين لا كاسب لهم من الآباء ، { والمساكين } الذين لا يجدون ما ينفقون على أنفسهم وأهليهم . وقوله تعالى : { وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً } أي كلموهم طيباً ولينوا لهم جانباً ، ويدخل في ذلك الأمر بالمعروف ، والنهي عن المنكر بالمعروف ، كما قال الحسن البصري أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر ويحلم ويعفو ويصفح ، ويقول للناس حسنا كما قال الله ، وهو كل خلق حسن رضيه الله .
كما روي عن أبي ذر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا تحقرنَّ من المعروف شيئاً وإن لم تجد فالق أخاك بوجه منطلق » يأمرهم بأن يقولوا للناس حسناً بعد ما أمرهم بالإحسان إليهم بالفعل ، فجمع بين طرفي الإحسان ( الفعلي ) و ( القولي ) ثم أكد الأمر بعبادته والإحسان إلى الناس بالمتعين من ذلك وهو الصلاة والزكاة فقال : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة } وأخبر أنهم تولوا عن ذلك كله ، أي تركوه وراء ظهورهم وأعرضوا عنه على عمد ، بعد العلم به إلا القليل منهم ، وقد أمر الله هذه الأمة بنظير ذلك في سورة النساء بقوله : { واعبدوا الله وَلاَ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وبالوالدين إِحْسَاناً وَبِذِي القربى واليتامى والمساكين } [ النساء : 36 ] الآية .(1/90)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لَا تَسْفِكُونَ دِمَاءَكُمْ وَلَا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقًا مِنْكُمْ مِنْ دِيَارِهِمْ تَظَاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَإِنْ يَأْتُوكُمْ أُسَارَى تُفَادُوهُمْ وَهُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْرَاجُهُمْ أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا بِالْآخِرَةِ فَلَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)
يقول تبارك وتعالى منكراً على اليهود ، الذين كانوا في زمان رسول الله بالمدينة ، وما كانوا يعانونه من القتال مع الأوس والخزرج ، وذلك أن الأوس والخزرج - وهم الأنصار - كانوا في الجاهلية عبَّاد أصنام ، وكانت بينهم حروب كثيرة ، وكانت يهود المدينة ثلاث قبائل ( بنو قينقاع ) و ( بنو النضير ) حلفاء الخزرج و ( بنو قريظة ) حلفاء الأوس ، فكانت الحرب إذا نشبت بينهم قاتل كل فريق مع حلفائه فيقتل اليهودي أعداءه ، وقد يقتل اليهودي الآخر من الفريق الآخر ، وذلك حرام عليهم في دينهم ونص كتابهم ، ويخرجونهم من بيوتهم ، وينتهبون ما فيها من الأثاث والأمتعة والأموال ، ثم إذا وضعت الحرب أوزارها افتكُّوا الأسارى من الفريق المغلوب عملاً بحكم التوراة ، ولهذا قال تعالى : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } ؟ ولهذا قال تعالى : { وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ لاَ تَسْفِكُونَ دِمَآءَكُمْ وَلاَ تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِّن دِيَارِكُمْ } أي لا يقتل بعضكم بعضاً ، ولا يخرجه من منزله ، ولا يظاهر عليه ، وذلك أن أهل الملة الواحدة بمنزلة النفس الواحدة ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « مثل المؤمنين في توادهم وتراحمهم وتواصلهم بمنزلة الجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالحمى والسهر » ، وقوله تعالى : { ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } أي ثم أقررتم بمعرفة هذا الميثاق وصحته وأنتم تشهدون به ، { ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ } الآية . عن ابن عباس : { ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ } قال : أنبأهم الله بذلك من فعلهم ، وقد حرم عليهم في التوراة سفك دمائهم ، وافترض عليهم فيها فداء أسراهم ، فكانوا إذا كانت بين الأوس والخزرج حرب خرجت بنو قينقاع مع الخزرج ، وخرجت النضير وقريظة مع الأوس ، يظاهر كل واحد من الفريقين حلفاءه على إخوانه ، حتى تسافكوا دماءهم بينهم ، وبأيديهم التوراة يعرفون فيها ما عليهم وما لهم ، والأوس والخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان ، ولا يعرفون جنة ولا ناراً ولا بعثاً ولا قيامة ، ولا كتاباً ولا حلالاً ولا حراماً ، فإذا وضعت الحرب أوزارها افتدوا أسراهم تصديقاً لما في التوراة وأخذاً به بعضهم من بعض ، يفتدي ( بنو قينقاع ) ما كان من أسراهم في أيدي ( الأوس ) ويفتدي ( النضير وقريظة ) ما كان في أيدي الخزرج منهم ، ويطلبون ما أصابوا من دمائهم ، وقتلوا من قتلوا منهم فيما بينهم ، مظاهرة لأهل الشرك عليهم ، يقول الله تعالى ذكره : { أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الكتاب وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ } ؟ أي تفادونهم بحكم التوراة وتقتلونهم ، وفي حكم التوراة أن لا يقتل ولا يخرج من داره ولا يظاهر عليه من يشرك بالله ويعبد الأوثان من دونه ابتغاء عرض الدنيا؟ ففي ذلك من فعلهم مع الأوس والخزرج - فيما بلغني - نزلت هذه القصة .(1/91)
وقال السدي : نزلت هذه الآية في قيس بن الحطيم { ثُمَّ أَنْتُمْ هؤلاء تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَتُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِّنْكُمْ مِّن دِيَارِهِمْ } والذي أرشدت إليه الآية الكريمة وهذا السياق ، ذمَّ اليهود في قيامهم بأمر التوراة التي يعتقدون صحتها ، ومخالفة شرعها مع معرفتهم بذلك وشهادتهم له بالصحة ، فلهذا لا يؤتمنون على ما فيها ولا على نقلها ، ولا يصدقون فيما كتموه من صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونعته ومبعثه ومخرجه ومهاجره وغير ذلك من شؤونه ، التي أخبرت بها الأنبياء قبله عليهم الصلاة والسلام واليهود - عليهم لعائن الله - يتكاتمونه بينهم ، ولهذا قال تعالى : { فَمَا جَزَآءُ مَن يَفْعَلُ ذلك مِنكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الحياة الدنيا } أي بسبب مخالفتهم شرع الله وأمره { وَيَوْمَ القيامة يُرَدُّونَ إلى أَشَدِّ العذاب } جزاء على مخالفتهم كتاب الله الذي بأيديهم { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ * أولئك الذين اشتروا الحياة الدنيا بالآخرة } أي استحبوها على الآخرة واختاروها { فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب } أي لا يفتر عنهم ساعة واحدة { وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ } أي وليس لهم ناصر ينقذهم مما هم فيه من العذاب الدائم السرمدي ولا يجيرهم عليه .(1/92)
وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَقَفَّيْنَا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَفَكُلَّمَا جَاءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لَا تَهْوَى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ (87)
ينعت تبارك وتعالى بني إسرائيل بالعتو والعناد ، والمخالفة والاستكبار على الأنبياء ، وأنهم إنما يتبعون أهواءهم ، فذكر تعالى أنه آتى موسى الكتاب وهو ( التوراة ) فحرّفوها وبدَّلوها ، وخالفوا أوامرها أولوها ، وأرسل الرسل والنبيين من بعده الذين يحكمون بشريعته كما قال تعالى : { إِنَّآ أَنزَلْنَا التوراة فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النبيون الذين أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ والربانيون والأحبار بِمَا استحفظوا مِن كِتَابِ الله وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَآءَ } [ المائدة : 44 ] الآية ، ولهذا قال تعالى : { وَقَفَّيْنَا مِن بَعْدِهِ بالرسل } قال السدي : أتبعنا . وقال غيره : أردفنا ، والكل قريب كما قال تعالى : { ثُمَّ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا تَتْرَا } [ المؤمنون : 44 ] حتى ختم أنبياء بني إسرائيل بعيسى ابن مريم ، فجاء بمخالفة التوراة في بعض الأحكام ولهذا أعطاه الله من البينات وهي المعجزات ، قال ابن عباس : من إحياء الموتى ، وخلقه من الطين كهيئة الطير فينفخ فيها فتكون طيراً بإذن الله ، وإبراء الأسقام ، وإخباره بالغيوب ، وتأييده بروح القدس - وهو جبريل عليه السلام - ما يدلهم على صدقه فيما جاءهم به ، فاشتد تكذيب بني إسرائيل له وحسدهم وعنادهم لمخالفة التوراة في البعض كما قال تعالى إخباراً عن عيسى : { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } [ آل عمران : 50 ] الآية ، فكانت بنو إسرائيل تعامل الأنبياء أسوأ المعاملة ففريقاً يكذبونه ، وفريقاً يقتلونه ، وما ذاك إلا لأنهم يأتونهم بالأمور المخالفة لأهوائهم وآرائهم ، وبالإلزام بأحكام التوراة التي قد تصرفوا في مخالفتها ، فلهذا كان ذلك يشق عليهم فكذبوهم وربما قتلوا بعضهم ، ولهذا قال تعالى : { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ استكبرتم فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } ؟
والدليل على أن روح القدس هو جبريل كما نص عليه ابن مسعود في تفسير هذه الآية ما قال البخاري : عن أبي هريرة عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وضع لحسان بن ثابت منبراً في المسجد فكان ينافح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اللهم أيد حسّان بروح القدس كما نافح عن نبيك » وفي بعض الروايات أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لحسّان : « أهجهم - أو هاجهم - وجبريل معك » ، وفي شعر حسّان قوله :
وجبريل رسول الله فينا ... وروح القدس ليس به خفاء
وعن ابن مسعود : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب » وحكى القرطبي عن مجاهد القدسُ : هو الله تعالى وروحه جبريل . وقال السدي : القدس البركة ، وقال العوفي عن ابن عباس : القدس الطهر . وقال الزمخشري : { بِرُوحِ القدس } بالروح المقدسة ، كما تقول : حاتم الجود ، ورجل صدق ، ووصفها بالقدس كما قال { وَرُوحٌ مِّنْهُ } [ النساء : 171 ] فوصفه بالاختصاص والتقريب تكرمة ، وقيل : لأنه لم تضمه الأصلاب والأرحام الطوامث ، وقيل : بجبريل وقيل : بالإنجيل كما قال في القرآن { رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا } [ الشورى : 52 ] ، وقيل : باسم الله الأعظم الذي كان يحيي الموتى بذكره . وقال أيضاً في قوله تعالى : { فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } إنما لم يقل وفريقاً قتلتم لأنه أراد بذلك وصفهم في المستقبل أيضاً لأنهم حاولوا قتل النبي صلى الله عليه وسلم بالسم والسحر ، وقد قال عليه السلام في مرض موته : « ما زالت أكلة خيبر تعادّني فهذا أوان انقطاع أبهري » .(1/93)
وَقَالُوا قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلًا مَا يُؤْمِنُونَ (88)
{ وَقَالُواْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ } أي في أكنة : وقال ابن عباس : أي لا تفقه ، وهي القلوب المطبوع عليها ، وقال مجاهد : عليها غشاوة ، وقال السدي : عليها غلاف وهو الغطاء فلا تعي ولا تفقه . { بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ } أي طردهم الله وأبعدهم من كل خير { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } معناه : لا يؤمن منهم إلا القليل ، وقال عبد الرحمن بن زيد في قوله : { غُلفٌ } تقول قلبي في غلاف فلا يخلص إليه مما تقول شيء ، وقرأ : { وَقَالُواْ قُلُوبُنَا في أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ } [ فصلت : 5 ] وهذا الذي رجحه ابن جرير واستشهد بما روي عن حذيفة قال : « القلوب أربعة » فذكر منها : « وقلبٌ أغلف مغضوب عليه وذاك قلب الكافر » . ولهذا قال تعالى : { بَل لَّعَنَهُمُ الله بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } أي ليس الأمر كما ادعوا بل قلوبهم ملعونة مطبوع عليها كما قال تعالى : { وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ الله عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 155 ] وقد اختلفوا في معنى قوله { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } وقوله : { فَلاَ يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 155 ] فقال بعضهم : فقليل من يؤمن منهم ، وقيل : فقليل إيمانهم بمعنى أنهم يؤمنون بما جاءهم به موسى من أمر المعاد والثواب والعقاب ولكنه إيمان لا ينفعهم لأنه مغمور بما كفروا به من الذي جاءهم به محمد صلى الله عليه وسلم وقال بعضهم : إنما كانوا غير مؤمنين بشيء وإنما قال : { فَقَلِيلاً مَّا يُؤْمِنُونَ } وهم بالجميع كافرون كما تقول العرب : قلَّما رأيت مثل هذا قط . تريد ما رأيت مثل هذا قط ، والله أعلم .(1/94)
وَلَمَّا جَاءَهُمْ كِتَابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ وَكَانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكَافِرِينَ (89)
يقول تعالى : { وَلَمَّا جَآءَهُمْ } يعني اليهود { كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله } وهو القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } يعني من التوراة ، وقوله : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } أي وقد كانوا من قبل مجيء هذا الرسول بهذا الكتاب يستنصرون بمجيئه على أعدائهم من المشركين إذا قاتلوهم ، يقولون إنه سيبعث نبي في آخر الزمان نقتلكم معه قتل عاد وإرم ، فلما بعث الله رسوله من قريش كفروا به . قال الضحاك عن ابن عباس في قوله : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } قال يستنصرون : يقولون نحن نعين محمداً عليهم وليسوا كذلك بل يكذبون . وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس : إن يهود كانوا يستفتحون على الأوس والخزرج برسول الله صلى الله عليه وسلم قبل مبعثه ، فلما بعثه الله من العرب كفروا به وجحدوا ما كانوا يقولون فيه . فقال لهم معاذ بن جبل : يا معشر يهود اتقوا الله وأسلموا فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمد صلى الله عليه وسلم ونحن أهل شرك وتخبروننا بأنه مبعوث وتصفونه بصفته ، فقال ( سلاَم بن مشكم ) أخو بني النضير : ما جاءنا بشيء نعرفه وما هو بالذي كنا نذكر لكم ، فأنزل الله في ذلك من قولهم : { وَلَمَّا جَآءَهُمْ كِتَابٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } الآية . وقال العوفي عن ابن عباس : { وَكَانُواْ مِن قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الذين كَفَرُواْ } يقول : يستنصرون بخروج محمد صلى الله عليه وسلم على مشركي العرب ، يعني بذلك أهل الكتاب ، فلما بُعث محمد صلى الله عليه وسلم - ورأوه من غيرهم - كفروا به وحسدوه . قال مجاهد { فَلَعْنَةُ الله عَلَى الكافرين } هم اليهود .(1/95)
بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْيًا أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ فَبَاءُوا بِغَضَبٍ عَلَى غَضَبٍ وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُهِينٌ (90)
قال السدي : { بِئْسَمَا اشتروا بِهِ أَنْفُسَهُمْ } باعوا به أنفسهم ، يقول : بئسما اعتاضوا لأنفسهم فرضوا به وعدلوا إليه من الكفر بما أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم عن تصديقه ومؤازرته ونصرته ، وإنما حملهم على ذلك البغيُ والحسدُ والكراهية ل { أَن يُنَزِّلُ الله مِن فَضْلِهِ على مَن يَشَآءُ مِنْ عِبَادِهِ } ولا حسد أعظم من هذا . ومعنى ( باؤا ) استوجبوا واستحقوا واستقروا بغضب على غضب . قال أبو العالية : غضب الله عليهم بكفرهم بالإنجيل وعيسى ، ثم غضب الله عليهم بكفرهم بمحمد صلى الله عليه وسلم وبالقرآن . قال السدي : أما الغضب الأول فهو حين غضب عليهم في العجل ، وأما الغضب الثاني فغضب عليهم حين كفروا بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وعن ابن عباس مثله .
وقوله تعالى : { وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ مُّهِينٌ } لما كان كفرهم سببه البغي والحسد ومنشأ ذلك التكبر قوبلوا بالإهانة والصغار في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : { إِنَّ الذين يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ } [ غافر : 60 ] أي صاغرين حقيرين ذليلين . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يحشر المتكبرون يوم القيامة أمثال الذر في صور الناس يعلوهم كل شيء من الصغار حتى يدخلو سجناً في جهنم يقال له ( بولس ) تعلوهم نار الأنيار يسقون من طينة الخبال عصارة أهل النار » .(1/96)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا نُؤْمِنُ بِمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَيَكْفُرُونَ بِمَا وَرَاءَهُ وَهُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقًا لِمَا مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَاءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91) وَلَقَدْ جَاءَكُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ (92)
يقول تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ } أي لليهود وأمثالهم من أهل الكتاب { آمِنُواْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ } على محمد صلى الله عليه وسلم وصدقوه واتبعوه ، { قَالُواْ نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } أي يكفينا الإيمان بما أنزل علينا من التوراة والإنجيل ولا نقر إلا بذلك { وَيَكْفُرونَ بِمَا وَرَآءَهُ } يعني بما بعده ، { وَهُوَ الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } أي وهم يعلمون أن ما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم { الحق مُصَدِّقاً لِّمَا مَعَهُمْ } من التوراة والإنجيل ، فالحجة قائمة عليهم بذلك كما قال تعالى : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } [ البقرة : 146 ] ، ثم قال تعالى : { فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِيَآءَ الله مِن قَبْلُ إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } ؟ أي إن كنت صادقين في دعواكم الإيمان بما أنزل إليكم ، فلم قتلتم الأنبياء الذين جاءوكم بتصديق التوراة التي بأيديكم والحكم بها وعدم نسخها وأنتم تعلمون صدقهم؟ قتلتموهم بغياً وعناداً واستكباراً على رسل الله فلستم تتبعون إلا مجرد الأهواء والآراء والتشهي كما قال تعالى : { أَفَكُلَّمَا جَآءَكُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تهوى أَنْفُسُكُمْ استكبرتم فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقاً تَقْتُلُونَ } [ البقرة : 87 ] . وقال ابن جرير : قال يا محمد ليهود بني إسرائيل إذا قلت لهم : آمنوا بما أنزل الله قالوا نؤمن بما أنزل علينا ، لم تقتلون - إن كنتم مؤمنين بما أنزل الله - أنبياء الله يا معشر اليهود ، وقد حرم الله في الكتاب الذي أنزل عليكم قتلهم ، بل أمركم باتباعهم وطاعتهم وتصديقهم ، وذلك من الله تكذيب لهم في قولهم : { نُؤْمِنُ بِمَآ أُنْزِلَ عَلَيْنَا } وتعيير لهم . { وَلَقَدْ جَآءَكُمْ موسى بالبينات } أي بالآيات الواضحات والدلائل القاطعات على أنه رسول الله وأنه لا إله إلا الله ، والآيات والبينات هي : ( الطوفان ، والجراد ، والقُمّل ، والضفادع ، والدم ، والعصا ، واليد ، وفرق البحر ، وتظليلهم بالغمام ، والمن ، والسلوى ، والحجر ) وغير ذلك من الآيات التي شاهدوها { ثُمَّ اتخذتم العجل } أي معبوداً من دون الله في زمان موسى وأيامه . وقوله : { مِن بَعْدِهِ } أي من بعد ما ذهب عنكم إلى الطور لمناجاة الله عزّ وجلّ كما قال تعالى : { واتخذ قَوْمُ موسى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ } [ الأعراف : 148 ] ، { وَأَنْتُمْ ظَالِمُونَ } أي وأنتم ظالمون في هذا الصنيع الذي صنعتموه من عبادتكم العجل ، وأنتم تعلمون أنه لا إله إلا الله كما قال تعالى : { وَلَمَّا سُقِطَ في أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين } [ الأعراف : 149 ] .(1/97)
وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَكُمْ وَرَفَعْنَا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاسْمَعُوا قَالُوا سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَأُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)
يعدّد سبحانه وتعالى عليهم خطأهم ومخالفتهم للميثاق ، وعتوهم وإعراضهم عنه حتى رفع الطور عليهم حتى قبلوه ثم خالفوه ولهذا : { قَالُواْ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا } وقد تقدم تفسير ذلك { وَأُشْرِبُواْ فِي قُلُوبِهِمُ العجل بِكُفْرِهِمْ } . عن قتادة قال : أشربوا حبه حتى خلص ذلك إلى قلوبهم . وعن النبي صلى الله عليه وسلم : « حبك الشي يعمي ويصم » وعن علي رضي الله عنه قال : عمد موسى إلى العجل فوضع عليه المبارد فبرده بها وهو على شاطىء نهر ، فما شرب أحد من ذلك الماء ممن كان يعبد العجل إلا اصفّر وجهه مثل الذهب .
وقوله : { قُلْ بِئْسَمَا يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمَانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي بئسما تعتمدونه في قديم الدهر وحديثه من كفركم بآيات الله ، ومخالفتكم الأنبياء ، ثم كفركم بمحمد صلى الله عليه وسلم وهذا أكبر ذنوبكم وأشد الأمور عليكم ، إذ كفرتم بخاتم الرسل وسيد الأنبياء والمرسلين المبعوث إلى الناس أجمعين ، فكيف تدّعون لأنفسكم الإيمان وقد فعلتم هذه الأفاعيل القبيحة من نقضكم المواثيق ، وكفركم بآيات الله ، وعبادتكم العجل من دون الله؟ .(1/98)
قُلْ إِنْ كَانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خَالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (94) وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَدًا بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلَى حَيَاةٍ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذَابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (96)
يقول الله تعالى لنبيه محمد صلى الله عليه وسلم : { قُلْ إِن كَانَتْ لَكُمُ الدار الآخرة عِندَ الله خَالِصَةً مِّن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي ادعوا بالموت على أي الفريقين أكذب ، فأبوا ذلك على رسول الله صلى الله عليه وسلم { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين } أي يعلمهم بما عندهم من العلم بل والكفر بذلك ولو تمنوه يوم قال لهم ذلك ما بقي على الأرض يهودي إلا مات . وقال الضحاك عن ابن عباس : { فَتَمَنَّوُاْ الموت } فسلوا الموت . قال ابن عباس : « لو تمنى يهود الموت لماتوا ولو تمنوا الموت لشرق أحدهم بريقه » . وقال ابن جرر : وبلغنا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون أهلاً ولا مالاً » ونظير هذه الآية قوله تعالى في سورة الجمعة : { قُلْ ياأيها الذين هادوا إِن زَعمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِيَآءُ لِلَّهِ مِن دُونِ الناس فَتَمَنَّوُاْ الموت إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * وَلاَ يَتَمَنَّونَهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْديهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين } [ الجمعة : 6-7 ] فهم - عليهم لعائن الله تعالى - لمّا زعموا أنهم أبناء الله وأحباؤه وقالوا : { لَن يَدْخُلَ الجنة إِلاَّ مَن كَانَ هُوداً أَوْ نصارى } [ البقرة : 111 ] دعوا إلى المباهلة والدعاء على أكذب الطائفتين منهم أو من المسلمين ، فلما نكلوا عن ذلك علم كل أحد أنهم ظالمون ، لانهم لو كانوا جازمين بما هم فيه لكانوا أقدموا على ذلك ، فلما تأخروا علم كذبهم . وهذا كما دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نجران من النصارى بعد قيام الحجة عليهم في المناظرة ، وعتوهم وعنادهم إلى المباهلة ، فقال تعالى : { فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين } [ آل عمران : 61 ] فلما رأوا ذلك قال بعض القوم لبعض : والله لئن باهلتم هذا النبي لا يبقى منكم عين تطرف ، فعند ذلك جنحوا للسلم وبذلوا الجزية عن يد وهم صاغرون .
والمعنى إن كنتم تعتقدون أنكم أولياء الله من دون الناس ، وأنكم أبناء الله وأحباؤه ، وأنكم من أهل الجنة ومن عداكم من أهل النار ، فباهلوا على ذلك وادعوا على الكاذبين منكم أو من غيركم ، واعلموا أن المباهلة تستأصل الكاذب لا محالة ، فلما تيقنوا ذلك وعرفوا صدقه نكلوا عن المباهلة ، لما يعلمون من كذبهم وافترائهم ، وكتمانهم الحق من صفة الرسول صلى الله عليه وسلم ونعته ، وهم يعرفونه كما يعرفون أبناءهم ويتحققونه ، فعلم كل أحد باطلهم وخزيهم وضلالهم وعنادهم ، عليهم لعائن الله المتتابعة إلى يوم القيامة .(1/99)
وسميت هذه المباهلة تمنياً لأن كل محق يود لو أهلك الله المبطل المناظر له ، ولا سيما إذا كان في ذلك حجة له في بيان حقه وظهوره ، وكانت المباهلة بالموت لأن الحياة عندهم عزيزة عظيمة لما يعلمون من سوء مآلهم بعد الموت ، ولهذا قال تعالى : { وَلَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين * وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } أي على طول العمر لما يعلمون من مآلهم السيء وعاقبتهم عند الله الخاسرة ، لأن الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر ، فهم يودون لو تأخروا عن مقام الآخرة بكل ما أمكنهم وما يحاذرون منه واقع بهم لا محالة ، حتى وهم أحرص من المشركين الذين لا كتاب لهم ، وهذا من باب عطف الخاص على العام ، وقال الحسن البصري : { وَلَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ الناس على حَيَاةٍ } المنافق أحرص الناس ، وأحرص من المشرك على حياة { يَوَدُّ أَحَدُهُمْ } أي يود أحد اليهود لو يعمر ألف سنة { وَمَا هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ العذاب أَن يُعَمَّرَ } أي وما هو بمنجيه من العذاب ، وذلك أن المشرك لا يرجو بعثاً بعد الموت ، فهو يحب طول الحياة ، وأن اليهودي قد عرف ماله في الآخرة من الخزي بما ضيع ما عنده من العلم فما ذاك بمغيثه من العذاب ولا منجيه منه { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } أي خبير بصير بما يعمل عباده من خير وشر ، وسيجازي كل عامل بعمله .(1/100)
قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (97) مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكَافِرِينَ (98)
قال أبو جعفر الطبري رحمه الله : أجمع أهل العلم بالتأويل جميعاً أن هذه الآية نزلت جواباً لليهود من بني إسرائيل إذ زعموا أن جبريل عدوّ لهم ، وأن ميكائيل وليٌّ لهم ، ثم اختلفوا في السبب الذي من أجله قالوا ذلك ، فقال بعضهم : إنما كان سبب قيلهم ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم في أمر نبوّته . عن ابن عباس قال : « أقبلت يهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : يا أبا القاسم أخبرنا عن خمسة أشياء فإن أنبأتنا بهن عرفنا أنك نبي واتبعناك ، فأخذ عليهم ما أخذ إسرائيل على بنيه إذا قال : { والله على مَا نَقُولُ وَكِيلٌ } [ القصص : 28 ] قال : » هاتوا « ، قالوا : فأخبرنا عن علامة النبي؟ قال : » تنام عيناه ولا ينام قلبه « . قالوا : أخبرنا كيف تؤنث المرأة وكيف تذكَّر؟ قال : » يلتقي الماءان فإذا علا ماء الرجل ماء المرأة أذكرت ، وإذا علا ماء المرأة ماء الرجل أنثت « ، قالوا : أخبرنا ما حرم إسرائيل على نفسه؟ قال : » كان يشتكي عرق النساء فلم يجد شيئاً يلائمه إلا ألبان كذا « ، قال أحمد ، قال بعضهم : يعني الإبل . فحرم لحومها . قالوا : صدقت . قالوا : أخبرنا ما هذا الرعد؟ قال : » ملك من ملائكة الله عزّ وجلّ موكل بالسحاب بيديه أو في يديه مخراق من نار يزجر به السحاب يسوقه حيث أمره الله تعالى « . قالوا : فما هذا الصوت الذي نسمع؟ قال : » صوته « ، قالوا : صدقت . قالوا : إنما بقيت واحدة وهي التي نتابعك إن أخبرتنا بها ، إنه ليس من نبي إلا وله ملك يأتيه بالخبر فأخبرنا من صاحبك؟ قال : » جبريل عليه السلام « ، قالوا : جبريل ذاك الذي ينزل بالحرب والقتال والعذاب عدوُّنا ، لو قلت ميكائيل الذي ينزل بالرحمة والقطر والنبات لكان ، فأنزل الله تعالى : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله } إلى آخر الآية » وفي رواية : إن يهود سألوا النبي صلى الله عليه وسلم عن صاحبه الذي ينزل عليه بالوحي قال : « جبريل » ، قالوا : فإنه عدوّ لنا ولا يأتي إلا بالحرب والشدة والقتال فنزلت : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } الآية .
وأخرج البخاري عن أنس بن مالك قال : سمع ( عبد الله بن سلاّم ) بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في أرض يخترف فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « إني سائِلك عن ثلاث لا يعلمهن إلا نبي : ما أول أشراط الساعة ، وما أول طعام أهل الجنة ، وما ينزع الولد إلى أبيه أو إلى أمه؟ قال : » أخبرني بهذه جبرائيل آنفاً « . قال : جبريل؟ قال : » نعم « . قال : ذاك عدوّ اليهود من الملائكة فقرأ هذه الآية : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ } . » وأما أول أشراط الساعة فنار تحشر الناس من المشرق إلى المغرب ، وأما أول طعام يأكله أهل الجنة فزيادة كبد الحوت؛ وإذا سبق ماء الرجل ماء المرأة نزع الولد وإذا سبق ماء المرأة نزعت « ، قال : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، يا رسول الله إن اليهود قوم بُهْتٌ وإنهم إن يعلموا بإسلامي قبل أن تسألهم يبهتوني ، فجاءت اليهود فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أيّ رجل عبد الله ابن سلام فيكم؟ « قالوا : خيرنا وابن خيرنا وسيدنا وابن سيدنا ، قال : » أرأتيم إن أسلم « قالوا : أعاذه الله من ذلك فخرج عبد الله فقال : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، فقالوا : هو شرنا وابن شرنا وانتقصوه ، فقال : هذا الذي كنت أخاف يا رسول الله » .(1/101)
وقال آخرون : بل كان سبب ذلك من أجل مناظرة جرت بينهم وبين عمر بن الخطاب في أمر النبي صلى الله عليه وسلم ، قال عمر : كنت أشهد اليهود يوم مدراسهم ، فأعجب من التوراة كيف تصدِّق القرآن ومن القرآن كيف يصدِّق التوراة فبينما أنا عندهم ذات يوم قالوا : يا ابن الخطاب ما من أصحابك أحد أحب إلينا منك ، ( قلت ) : ولم ذلك؟ قالوا : لأنك تغشانا وتأتينا ، فقلت : إني آتيكم فأعجب من القرآن كيف يصدِّق التوراة ، ومن التوراة كيف تصدِّق القرآن ، قالوا : ومرّ رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا يا ابن الخطاب ذاك صاحبكم فالحق به ، قال : فقلت لهم عند ذلك : نشدتكم بالله الذي لا إله إلا هو وما استرعاكم من حقه وما استودعكم من كتابه ، هل تعلمون أنه رسول الله؟ قال : فسكتوا ، فقال لهم عالمهم وكبيرهم : إنه قدذ غلَّظ عليكم فأجيبوه ، قالوا : فأنت عالمنا وكبيرنا فأجبه أنت ، قال : أما إذا نشدتنا بما نشدتنا فإنا نعلم أنه رسول الله ، قلت : ويحكم إذاً هلكتم ، قالوا : إنا لم نهلك ، قلت : كيف ذلك وأنت تعلمون أنه رسول الله ولا تتبعونه ولا تصدقونه!! قالوا : إن لنا عدوّاً من الملائكة ، وسِلْماً من الملائكة ، وإنه قرن بنبوّته عدوّنا من الملائكة ، قلت : ومن عدوّكم ومن سِلْمكم؟ قالوا : عدوّنا جبريل ، وسِلْمنا ميكائيل ، قالوا : إن جبريل ملك الفظاظة والغلظة والإعسار والتشديد والعذاب ونحو هذا ، وإن ميكائيل ملك الرحمة والرأفة ، والتخفيف ونحو هذا ، قال ، قلت : وما منزلتهما من ربهما عزّ وجلّ؟ قالوا : أحدهما عن يمينه والآخر عن يساره ، قال ، فقلت : فوالذي لا إله إلا هو إنهما - والذي بينهما - لعدوّ لمن عاداهما وسِلْمٌ لمن سالمهما ، وما ينبغي لجبريل أن يسالم عدو ميكائيل وما ينبغي لميكائيل أن يسالم عدوّ جبريل ، قال : ثم قمت فاتبعت النبي صلى الله عليه وسلم فلحقته وهو خارج من خوخة لبني فلان ، فقال : « يا ابن الخطاب ألا أقرئك آيات نزلن قبل » فقرأ علي : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله } حتى قرأ الآيات .(1/102)
قال ، قلت : بأبي أنت وأمي يا رسول الله والذي بعثك بالحق لقد جئت أنا أريد أن أخبرك وأسمع اللطيف الخبير قد سبقني إليك بالخبر « .
وقال ابن جرير : انطلق عمر بن الخطاب ذات يوم إلى اليهود فلما انصرف رحبوا به ، فقال لهم عمر : أما والله ما جئتكم لحبكم ولا لرغبة فيكم ولكن جئت لأسمع منكم ، فسألهم وسألوه ، فقالوا : من صاحب صاحبكم؟ فقال لهم : جبرائيل ، فقالوا : ذاك عدوّنا من أهل السماء ، يُطلع محمداً على سرّنا ، وإذا جاء جاء بالحرب والسَنَة ، ولكن صاحب صاحبنا ميكائيل إذا جاء جاء بالخصب والسلم ، فقال لهم عمر : هل تعرفون جبرائيل وتنكرون محمداً صلى الله عليه وسلم ، ففارقهم عمر عند ذلك وتوجه نحو النبي صلى الله عليه وسلم ليحدثه حديثهم فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله } الآيات .
وقال ابن جرير عن ابن أبي ليلى في قوله تعالى : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } قال : قالت اليهود للمسلمين : لو أن ( ميكائيل ) كان هو الذي ينزل عليكم اتبعناكم فإنه ينزل بالرحمة والغيث ، وإن ( جبرائيل ) ينزل بالعذاب والنقمة فإنه عدوّ لنا ، قال : فنزلت هذه الآية .
وأما تفسير الآية فقوله تعالى : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله } أي من عادى جبرائيل فليعلم أنه الروح الأمين ، الذي نزل بالذكر الحكيم على قلبك من الله بإذنه له في ذلك ، فهو رسول من رسل الله ملكيٌّ ومن عادى رسولاً فقد عادى جميع الرسل ، كما أن من آمن برسول فإنه يلزمه الإيمان بجميع الرسل ، وكذلك من عادى جبرائيل فإنه عدوّ لله لأن جبرائيل لا ينزل بالأمر من تلقاء نفسه وإنما ينزل بأمر ربه كما قال : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ } [ مريم : 64 ] وقال تعالى : { وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ العالمين * نَزَلَ بِهِ الروح الأمين * على قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ المنذرين } وقد روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من عادى لي ولياً فقد بارزني بالحرب « ولهذا غضب الله لجبرائيل على ما عاداه ، فقال تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ على قَلْبِكَ بِإِذْنِ الله مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من الكتب المتقدمة { وَهُدًى وبشرى لِلْمُؤْمِنِينَ } أي هدى لقلوبهم وبشرى لهم بالجنة ، وليس ذلك إلاّ للمؤمنين كما قال تعالى :(1/103)
{ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ } [ فصلت : 44 ] وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ } [ الإسراء : 82 ] ، ثم قال تعالى : { مَن كَانَ عَدُوّاً للَّهِ وملائكته وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } . يقول تعالى : من عاداني وملائكتي ورسلي - ورسله تشمل رسله من الملائكة والبشر - كما قال تعالى : { الله يَصْطَفِي مِنَ الملائكة رُسُلاً وَمِنَ الناس } [ الحج : 75 ] { وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ } وهذا من باب عطف الخاص على العام فإنهما دخلا في الملائكة في عموم الرسل ، ثم خُصّصا بالذكر لأن السياق في الانتصار لجبرائيل ، وهو السفير بين الله وأنبيائه ، وقرن معه ميكائيل في اللفظ لأن اليهود زعموا أن جبرائيل عدوهم ، وميكائيل وليهم ، فأعلمهم الله تعالى أن من عادى واحداً منهما فقد عادى الآخر ، وعادى الله أيضاً ، ولأنه أيضاً ينزل على أنبياء الله بعض الأحيان كما قرن برسول الله صلى الله عليه وسلم في ابتداء الأمر ، ولكن جبرائيل أكثر وهي وظيفته ، وميكائيل موكل بالنبات والقطر . هذا بالهدى وهذا بالرزق ، كما أن إسرافيل موكل بالنفخ في الصور للبعث يوم القيامة ، ولهذا جاء في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يقول : « اللهم رب جبرائيل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السموات والأرض عالم الغيب والشهادة ، أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اخْتُلِف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم » عن ابن عباس قال : إنما كان قوله جبرائيل كقوله عبد الله وعبد الرحمن ، وقيل جبر : عبد ، وإيل : الله . وقوله تعالى : { فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } فيه إيقاع المظهر مكان المضمر حيث لم يقل ( فإنه عدو ) بل قال : { فَإِنَّ الله عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ } كما قال الشاعر :
لا أرى الموتَ يسبق الموتَ شيءٌ ... سبق الموتُ ذا الغنى والفقيرا
وإنما أظهر الله هذا الاسم هاهنا لتقرير هذا المعنى وإظهاره ، وإعلامهم أن من عادى ولياً لله فقد عادى الله ، ومن عادى الله فإن الله عدو له ، ومن كان الله عدوه فقد خسر الدنيا والآخرة ، كما تقدم الحديث : « من عادى لي ولياً فقد آذنته بالمحاربة » ، وفي الحديث الصحيح : « من كنت خصمه خصمته » .(1/104)
وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ (99) أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ (100) وَلَمَّا جَاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ كِتَابَ اللَّهِ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (101) وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُو الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَمَا أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولَا إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلَا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ وَمَا هُمْ بِضَارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَرَاهُ مَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (103)
قوله تعالى : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ } الآية . أي أنزلنا إليك يا محمد علامات واضحات ، دالاّت على نبوّتك ، وتلك الآيات هي ما حواه كتاب الله من خفايا علوم اليهود ، ومكنونات سرائر أخبارهم ، وأخبار أوائلهم من بني إسرائيل ، والنبأ عما تضمنته كتبهم التي لم يكن يعلمها إلا أحبارهم وعلماؤهم ، وما حرّفه أوائلهم وأواخرهم وبدلوه من أحكامهم التي كانت في التوراة فأطلع الله في كتابه الذي أنزله على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان في ذلك من أمره الآيات البينات لمن أنصف من نفسه ، ولم يدعها إلى هلاكها الحسدُ والبغيُ . عن ابن عباس قال : قال ابن صوريا القطويني لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد ما جئتنا بشيء نعرفه ، وما أنزل الله عليك من آية بينة فنتبعك ، فأنزل الله في ذلك : { وَلَقَدْ أَنْزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَآ إِلاَّ الفاسقون } . وقال مالك بن الصيف حين بعث رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكَّرهم ما أُخذ عليهم من الميثاق ، وما عُهد إليهم في محمد صلى الله عليه وسلم : والله ما عهد إلينا في محمد ، وما أُخذ علينا ميثاقٌ ، فأنزل الله تعالى : { أَوَكُلَّمَا عَاهَدُواْ عَهْداً نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم } ، وقال الحسن البصري في قوله : { بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ } قال : نعم ليس في الأرض عهد يعاهدون عليه إلا نقضوه ونبذوه ، يعاهدون اليوم وينقضون غداً ، وقال السدي : لا يؤمنون بما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، وقال قتادة : { نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُم } أي نقضه فريق منهم . وقال ابن جرير : أصل النبذ الطرح والإلقاء ، ومنه سمي اللقيط منبوذاً ، ومنه سمي النبيذ - وهو التمر والزبيب - إذا طرحا في الماء ، قال أبو الأسود الدؤلي :
نظرتَ إلى عنوانه فنبذتَه ... كنبذك نعلاً أخلقتْ من نعالكا
قلت : فالقوم ذمهم الله بنبذهم العهود التي تقدم الله إليهم في التمسك بها والقيام بحقها ، ولهذا أعقبهم ذلك التكذيب بالرسول المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، الذي في كتبهم نعته وصفته وأخباره ، وقد أمروا فيها باتباعه ومؤازرته ونصرته كما قال تعالى : { الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] وقال هاهنا : { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } الآية ، أي طرح طائفة منهم كتاب الله الذي بأيديهم مما فيه البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم وراء ظهورهم ، أي تركوها كأنهم لا يعلمون ما فيها وأقبلوا على تعلم السحر واتّباعه ، ولهذا أرادوا كيداً برسول الله صلى الله عليه وسلم وسحروه في مُشْط ومُشَاقه وجُفّ طلعة ذَكَرٍ تحت راعوفة ببئر أروان ، وكان الذي تولى ذلك منهم رجل يقال له ( لبيد بن الأعصم ) لعنه الله وقبحه ، فأطلع الله على ذلك رسوله صلى الله عليه وسلم وشفاه منه وأنقذه ، كما ثبت ذلك مبسوطاً في الصحيحين كما سيأتي بيانه .(1/105)
قال السدي : { وَلَمَّآ جَآءَهُمْ رَسُولٌ مِّنْ عِندِ الله مُصَدِّقٌ لِّمَا مَعَهُمْ } قال : لما جاءهم محمد صلى الله عليه وسلم عارضوه بالتوراة فخاصموه بها ، فاتفقت التوراة والقرآن فنبذوا التوراة ، وأخذوا بكتاب آصف وسحر هاروت وماروت فلم يوافق القرآن ، فذلك قوله : { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } وقال قتادة في قوله : { كَأَنَّهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ } قال : إن القوم كانوا يعلمون ولكنهم نبذوا علمهم وكتموه وجحدوا به . عن ابن عباس قال : كان آصف كاتب سليمان وكان يعلم الاسم الأعظم ، وكان يكتب كل شيء بأمر سليمان ويدفنه تحت كرسيه ، فلما مات سليمان أخرجته الشياطين فكتبوا بين كل سطرين سحراً وكفراً ، وقالوا هذا الذي كان سليمان يعمل بها . قال : فأكفره جهال الناس وسبُّوه ، ووقف علماء الناس ، فلم يزل جهال الناس يسبُّونه حتى أنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ } . وقال السدي في قوله تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي على عهد سليمان ، قال : كانت الشياطين تصعد إلى السماء فتقعد منها مقاعد للسمع ، فيستمعون من كلام الملائكة ما يكون في الأرض من موت أو غيب أو أمر ، فيأتون الكهنة فيخبرونهم فتحدث الكهنة الناس فيجدونه كما قالوا ، فلما أمنتهم الكهنة كذبوا لهم وأدخلوا فيه غيره ، فزادوا مع كل كلمة سبعين كلمة فاكتتب الناس ذلك الحديث في الكتب ، وفشا ذلك في بني إسرائيل أن الجن تعلم الغيب ، فبعث سليمان في الناس فجمع تلك الكتب فجعلها في صندوق ثم دفنها تحت كرسيه ، ولم يكن أحد من الشياطين يستطيع أن يدنوا من الكرسي إلا احترق ، وقال : لا أسمع أحداً يذكر أن الشياطين يعلمون الغيب إلا ضربت عنقه ، فلما مات سليمان وذهبت العلماء الذين كانوا يعرفون أمر سليمان ، وخلف من بعد ذلك خلف ، تمثل الشيطان في صورة إنسان ، ثم أتى نفراً من بني إسرائيل فقال لهم : هل أدلكم على كنز لا تأكلونه أبداً ، قالوا : نعم ، قال : فاحفروا تحت الكرسي ، فذهب معهم وأراهم المكان وقام ناحيته ، فحفروا فوجدوا تلك الكتب ، فلما أخرجوها قال الشيطان : إن سليمان إنما كان يضبط الإنس والشياطين والطير بهذا السحر ثم ذهب ، وفشا في الناس أن سليمان كان ساحراً ، واتخذت بنوا إسرائيل تلك الكتب ، فلما جاء محمد صلى الله عليه وسلم خاصموه بها فذلك حين يقول الله تعالى : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ } . وقال سعيد بن جبير : كان سليمان يتتبع ما في أيدي الشياطين من السحر فيأخذه منهم ، فيدفنه تحت كرسيه في بيت خزانته ، فلم تقدر الشياطين أن يصلوا إليه فدنت إلى الإنس فقالوا لهم : أتدرون ما العلم الذي كان سليمان يسخّر به الشياطين والرياح وغير ذلك؟ قالوا : نعم ، قالوا : فإنه في بيت خزانته وتحت كرسيه ، فاستخرجوه وعملوا به ، فأنزل الله تعالى على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم براءة سليمان عليه السلام ، فقال تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ } .(1/106)
لما ذكر رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما نزل عليه من الله ( سليمان بن داود ) وعدَّه فيمن عد من المرسلين ، قال مَن كان بالمدينة من اليهود : ألا تعجبون من محمد؟ يزعم أن ابن داود كان نبياً والله ما كان إلا ساحراً وأنزل الله : { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ ولكن الشياطين كَفَرُواْ } الآية .
وروي أنه لما مات سليمان عليه السلام قام إبليس - لعنه الله - خطيباً فقال : يا أيها الناس إن سليمان لم يكن نبياً إنما كان ساحراً فالتمسوا سحره في متاعه وبيوته ، ثم دلهم على المكان الذي دفن فيه ، فقالوا : والله لقد كان سليمان ساحراً ، هذا سحرهُ بهذا تعبَّدنا وبهذا قهرنا ، فقال المؤمنون : بل كان نبياً مؤمناً . فلما بعث الله النبي محمداً صلى الله عليه وسلم وذكر داود وسليمان ، فقالت اليهود : انظروا إلى محمد يخلط الحق بالباطل ، يذكر سليمان مع الأنبياء إنما كان ساحراً يركب الريح ، فأنزل الله تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } الآية . فهذه نبذة من أقوال أئمة السلف في هذا المقام .
وقوله تعالى : { واتبعوا مَا تَتْلُواْ الشياطين على مُلْكِ سُلَيْمَانَ } أي واتبعت اليهود الذين أوتوا الكتاب من بعد إعراضهم عن كتاب الله الذي بأيديهم ومخالفتهم لرسول الله صلى الله عليه وسلم ما تتلوه الشياطين أي ما ترويه وتخبر به وتحدثه الشياطين على ملك سليمان ، وعدّاه بعلى لأنه تضمن { تَتْلُواْ } تكذب ، وقال ابن جرير : { على } هاهنا بمعنى في ، أي تتلو في ملك سليمان ، ونقله عن ابن جريج وابن إسحاق ( قلت ) : والتضمن أحسن وأولى ، والله أعلم . وقول الحسن البصري رحمه الله : - وكان السحر قبل زمن سليمان - صحيحٌ لا شك فيه ، لأن السحرة كانوا في زمان موسى عليه السلام وسليمان بن داود بعده كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الملإ مِن بني إِسْرَائِيلَ مِن بَعْدِ موسى } [ البقرة : 246 ] الآية ثم ذكر القصة بعدها ، وفيها : { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ وَآتَاهُ الله الملك والحكمة } [ البقرة : 251 ] . وقال قوم صالح - وهم قبل إبراهيم الخليل عليه السلام - لنبيهم صالح إنما { أَنتَ مِنَ المسحرين } [ الشعراء : 153 ] أي المسحورين على المشهور ، وقوله تعالى : { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ } اختلف الناس في هذا المقام ، فذهب بعضهم إلى أن « ما » نافية أعني التي في قوله : { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين } .(1/107)
قال القرطبي : « ما » نافية ومعطوف على قوله { وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ } ، ثم قال : { ولكن الشياطين كَفَرُواْ يُعَلِّمُونَ الناس السحر وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين } ، وذلك أن اليهود كانوا يزعمون أنه نزل به جبريل وميكائيل فأكذبهم الله وجعل قوله : { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } بدلاً من الشياطين ، قال : وصح ذلك إما لأن الجمع يطلق على الاثنين كما في قوله تعالى : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ } [ النساء : 11 ] أو لكونهما لهما أتباع ، أو ذكرا من بينهم لتمردهما . تقدير الكلام عنده : يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت ، ثم قال : وهذا أولى ما حملت عليه الآية وأصح ولا يلتفت إلى ما سواه ، وروى ابن جرير بإسناده من طريق العوفي عن ابن عباس في قوله : { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين بِبَابِلَ } الآية . يقول : لم ينزل الله السحر ، وبإسناده عن الربيع بن أنَس في قوله : { وَمَآ أُنْزِلَ عَلَى الملكين } قال : ما أنزل الله عليهما السحر . قال ابن جرير . فتأويل الآية على هذا « واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان » من السحر وما كفر سليمان ولا أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل هاروت وماروت . فيكون قوله : { بِبَابِلَ هَارُوتَ وَمَارُوتَ } من المؤخر الذي معناه المقدم . قال : فإن قال لنا قائل : كيف وجه تقديم ذلك؟ قيل : وجه تقديمه أن يقال : « واتبعوا ما تتلوا الشياطين على ملك سليمان من السحر وما كفر سليمان وما أنزل الله السحر على الملكين ولكن الشياطين كفروا يعلمون الناس السحر ببابل . هاروت وماروت » فيكون معنياً بالملكين جبريل وميكائيل عليهما السلام ، لأن سحرة اليهود فيما ذكرت كانت تزعم أن الله أنزل السحر على لسان جبريل وميكائيل إلى سليمان بن داود ، فأكذبهم الله بذلك وأخبر نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم أن جبريل وميكائيل لم ينزلا بسحر ، وبرأ سليمان عليه السلام مما نحلوه من السحر ، وأخبرهم أن السحر من عمل الشياطين ، وأنها تعلم الناس ذلك ببابل ، وأن الذين يعلمونهم ذلك رجلان اسم أحدهما ( هاروت ) واسم الآخر ( ماروت ) فيكون هاروت وماروت على هذا التأويل ترجمة عن الناس ورداً عليهم . ثم شرع ابن جرير في رد هذا القول وإن ( ما ) بمعنى الذي ، وأطال القول في ذلك ، وادعى أن هاروت وماروت ملكان أنزلهما الله إلى الأرض وأذن لهما في تعليم السحر اختباراً لعباده وامتحاناً بعد أن بيَّن لعباده أن ذلك مما ينهى عنه على ألسنة الرسل ، وادعى أن هاروت وماروت مطيعان في تعليم ذلك لأنهما امتثلا ما أمرا به ، وهذا الذي سلكه غريب جداً ، وأغرب منه قوله من زعم أن { هَارُوتَ وَمَارُوتَ } قبيلان من الجن كما زعمه ابن حزم .
وقد روي في قصة ( هاروت ) و ( ماروت ) عن جماعة من التابعين كمجاهد ، والسدي ، والحسن البصري ، وقتادة ، وأبي العالية ، والزهري ، والربيع بن أنس ، ومقاتل بن حيان ، وغيرهم وقصَّها خلق من المفسِّرين من المتقدمين والمتأخرين ، وحاصلها راجع في تفصيلها إلى أخبار بني إسرائيل إذ ليس فيها حديث مرفوع صحيح متصل الإسناد إلى الصادق المصدوق المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى ، وظاهر سياق القرآن إجمال القصة من غير بسط ولا إطناب ، فنحن نؤمن بما ورد في القرآن على ما أراده الله تعالى ، والله أعلم بحقيقة الحال .(1/108)
وقوله تعالى : { وَمَا يُعَلِّمَانِ مِنْ أَحَدٍ حتى يَقُولاَ إِنَّمَا نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلاَ تَكْفُرْ } ، عن الحسن البصري أنه قال في تفسير هذه الآية : نعم أنزل الملكان بالسحر ليعلما الناس البلاء الذي اراد الله أن يبتلي به الناس ، فأخذ عليهم الميثاق أن لا يعلما أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر . وقال قتادة : كان أخذ عليهما أن لا يعلما أحداً حتى يقولا إنما نحن فتنة : أي بلاء ابتلينا به فلا تكفر . وقال ابن جريج في هذه الآية : لا يجترىء على السحر إلا كافر . وأما الفتنة فيه المحنة والاختبار ومنه قول الشاعر :
وقد فتن الناس في دينهم ... وخلى ابن عفان شراً طويلاً
وكذلك قوله تعالى إخباراً عن موسى عليه السلام حيث قال : { إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ } [ الأعراف : 155 ] أي ابتلاؤك واختبارك وامتحانك ، وقد استدل بعضهم بهذه الآية على تكفير من تعلم السحر واستشهد له بالحديث الصحيح : « من أتى كاهناً أو ساحراً فصدقه بما يقول فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم » ، وقوله تعالى : { فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُمَا مَا يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ المرء وَزَوْجِهِ } أي فيتعلم الناس من هاروت وماروت من علم السحر ، ما يتصرفون به فيما يتصرفون من الأفاعيل المذمومة ، ما إنهم ليفرقون به بين الزوجين مع ما بينهما من الخلطة والائتلاف ، وهذا من صنيع الشياطين كما رواه مسلم في صحيحه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الشيطان ليضع عرشه على الماء ثم يبعث سراياه في الناس فأقربهم عنده منزلة أعظمهم عنده فتنة ، يجيء أحدهم فيقول : ما زلت بفلان حتى تركته وهو يقول كذا وكذا ، فيقول إبليس : لا والله ما صنعت شيئاً! ويجيء أحدهم فيقول : ما تركته حتى فرّقت بينه وبين أهله ، قال : فيقربه ويدنيه ويلتزمه ويقول : نعم أنت » وسبب التفريق بين الزوجين بالسحر ما يخيل إلى الرجل أو المرأة من الآخر من سوء منظر أو خلق أو نحو ذلك من الأسباب المقتضية للفرقة .
وقوله تعالى : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } قال سفيان الثوري : إلا بقضاء الله ، وقال الحسن البصري : من شاء الله سلطهم عليه ومن لم يشأ الله لم يسلط ، ولا يستطيعون من أحد إلا بإذن الله .(1/109)
وقوله تعالى : { وَيَتَعَلَّمُونَ مَا يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ } أي يضرهم في دينهم وليس له نفع يوازي ضرره { وَلَقَدْ عَلِمُواْ لَمَنِ اشتراه مَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } أي ولقد علم اليهود الذين استبدلوا بالسحر عن متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لمن فعل فعلهم ذلك ، أنه ما له في الآخرة من خلاق ، قال ابن عباس من نصيب ، { وَلَبِئْسَ مَا شَرَوْاْ بِهِ أَنْفُسَهُمْ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ } يقول تعالى { وَلَبِئْسَ } البديل ما استبدلوا به من السحر عوضاً عن الإيمان ومتابعة الرسول ، لو كان لهم علم بما وعظوا به { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتقوا لَمَثُوبَةٌ مِّنْ عِندِ الله خَيْرٌ } أي ولو أنهم آمنوا بالله ورسله واتقوا المحارم ، لكان مثوبة الله على ذلك خيراً لهم مما استخاروا لأنفسهم ورضوا به كما قال تعالى : { وَقَالَ الذين أُوتُواْ العلم وَيْلَكُمْ ثَوَابُ الله خَيْرٌ لِّمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلاَ يُلَقَّاهَآ إِلاَّ الصابرون } [ القصص : 80 ] .
وقد استدل بقوله : { وَلَوْ أَنَّهُمْ آمَنُواْ واتقوا } من ذهب إلى تكفير الساحر ، كما هو رواية عن الإمام أحمد ابن حنبل وطائفة من السلف ، وقيل : بل لا يكفر ولكن حده ضرب عنقه ، لما رواه الشافعي وأحمد بن حنبل عن عمرو بن دينار أنه سمع بجالة بن عبدة يقول؛ كتب عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن اقتلوا كل ساحر وساحرة ، قال : فقتلنا ثلاث سواحر . وصح أن حفصة أم المؤمنين سحرتها جارية لها فأمرت بها فقتلت ، قال الإمام أحمد ابن حنبل : صح عن ثلاثة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم في قتل الساحر ، وروى الترمذي عن جندب الأزدي أنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « حد الساحر ضربه بالسيف » وقد روي من طرق متعددة أن الوليد بن عُقْبة كان عنده ساحر يلعب بين يديه ، فكان يضرب رأس الرجل ثم يصيح به فيرد إليه رأسه ، فقال الناس : سبحان الله يحيي الموتى!! ورآه رجل من صالحي المهاجرين ، فلما كان الغد جاء مشتملاً على سيفه ، وذهب يلعب لعبه ذلك فاخترط الرجل سيفه فضرب عنق الساحر ، وقال : إنْ كان صادقاً فليحي نفسه ، وتلا قوله تعالى : { أَفَتَأْتُونَ السحر وَأَنتُمْ تُبْصِرُونَ } [ الأنبياء : 3 ] فغضب الوليد إذ لم يستأذنه في ذلك فسجنه ثم أطلقه ، والله أعلم . وحمل الشافعي رحمه الله قصة عمر وحفصة على سحر يكون شركاً ، والله أعلم .
فصل
حكى الرازي في تفسيره عن المعتزلة أنهم أنكروا وجود السحر ، قال : وربما كفَّروا من اعتقد وجوده ، وأما أهل السنّة فقد جوّزوا أن يقدر الساحر أن يطير في الهواء ، ويقلب الإنسان حماراً والحمار إنساناً ، إلا أنهم قالوا : إن الله يخلق الأشياء عندما يقول الساحر تلك الرقى والكلمات المعينة ، فأما أن يكون المؤثر في ذلك هو الفلك والنجوم فلا ، خلافاً للفلاسفة والمنجمين والصابئة ، ثم استُدل على وقوع السحر ، وأنه بخلق الله تعالى بقوله تعالى : { وَمَا هُم بِضَآرِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ الله } .(1/110)
ومن الأخبار بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم سُحِرَ وأن السحر عمل فيه ، وبقصة المرأة مع عائشة رضي الله عنها ، وما ذكرت من إتيانها بابل وتعلمها السحر .
ثم قد ذكر أبو عبد الله الرازي أن أنواع السحر ثمانية ( الأول ) : سحر الكذابين والكشدانيين الذين كانوا يعبدون الكواكب السبعة المتحيرة وهي السيارة وكانوا يعتقدون أنها مدبرة العالم وأنها تأتي بالخير والشر وهم الذين بعث الله إليهم إبراهيم الخليل صلى الله عليه وسلم مبطلاً لمقالتهم وراداً لمذهبهم .
( والنوع الثاني ) : سحر أصحاب الأوهام والنفوس القوية ، ثم استدل على أن الوهم له تأثير بأن الإنسان يمكنه أن يمشي على الجسر الموضوع على وجه الأرض ، ولا يمكنه المشي عليه إذا كان ممدوداً على نهر أو نحوه ، وما ذاك إلا لأن النفوس خلقت مطيعة للأوهام ، وقد اتفق العقلاء على أن الإصابة بالعين حق لما ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « العين حق ولو كان شيء سابق القدر لسبقته العين » . ( والنوع الثالث ) من السحر : الاستعانة بالأرواح الأرضية وهم الجن خلافاً للفلاسفة والمعتزلة وهم على قسمين : مؤمنون ، وكفار وهم الشياطين ، قال : واتصال النفوس الناطقة بها أسهل من اتصالها بالأرواح السماوية لما بينهما من المناسبة والقرب ، ثم إن أصحاب الصنعة وأرباب التجربة شاهدوا أن الإتصال بهذه الأرواح الأرضيه يحصل بأعمال سهلة قليلة من الرقى والدخن والتجريد ، وهذا النوع هو المسمى بالعزائم وعمل التسخير .
( النوع الرابع ) من السحر : التخيلات والأخذ بالعيون ، والشعبذة ، ومبناه على أن البصر قد يخطىء ويشتغل بالشيء المعين دون غيره ألا ترى ذا الشعبذة الحاذق يظهر عمل شيء يذهل أذهان الناظرين به ويأخذ عيونهم إليه ، حتى إذا استفرغهم الشغل بذلك الشيء بالتحديق ونحوه ، عمل شيئاً آخر عملاً بسرعة شديدة ، وحينئذٍ يظهر لهم شيء آخر غير ما انتظروه ، فيتعجبون منه جداً ، ولو أنه سكت ولم يتكلم بما يصرف الخواطر إلى ضد ما يريد أن يعمله ، ولم تتحرك النفوس والأوهام إلى غير ما يريد إخراجه ، لفطن الناظرون لكل ما يفعله .
( قلت ) وقد قال بعض المفسِّرين : إن سحر السحرة بين يدي فرعون إنما كان من باب بالشعبذة ولهذا قال تعالى : { فَلَمَّآ أَلْقُوْاْ سحروا أَعْيُنَ الناس واسترهبوهم وَجَآءُوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ } [ الأعراف : 116 ] ، وقال تعالى : { يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تسعى } [ طه : 66 ] قالوا : ولم تكن تسعى في نفس الأمر ، والله أعلم .
( النوع الخامس ) من السحر : الأعمال العجيبة التي تظهر من تركيب آلات مركبة على النسب الهندسية ، كفارس على فرس في يده بوق ، كلما مضت ساعة من النهار ضرب بالبوق من غير أن يمسه أحد ، ومنها الصور التي تصورها الروم والهند حتى لا يفرق الناظر بينها وبين الإنسان حتى يصورونها ضاحكة وباكية إلى أن قال : فهذه الوجوه من لطيف أمور التخاييل ، قال : وكان سحر سحرة فرعون من هذا القبيل ، ( قلت ) يعني ما قاله بعض المفسرين : إنهم عمدوا إلى تلك الحبال والعصي فحشوها زئبقاً فصارت تتلوى بسبب ما فيها من ذلك الزئبق فيخيل إلى الرائي أنها تسعى باختيارها ، ومن هذا القبيل حيل النصارى على عامتهم بما يرونهم إياه من الأنوار ، كقضية قمامة الكنيسة التي لهم ببلد المقدس ، وما يحتالون به من إدخال النار خفية إلى الكنيسة ، وإشعال ذلك القنديل بصنعة لطيفة تروج على الطعام منهم ، وأما الخواص فهم معترفون بذلك ولكن يتأولون أنهم يجمعون شمل أصحابهم على دينهم فيرون ذلك سائغاً لهم .(1/111)
( النوع السادس ) من السحر : الاستعانة بخواص الأدوية في الأطعمة والدهانات ، قال : واعلم أنه لا سبيل إلى إنكار الخواص ، فإن تأثير المغناطيس مشاهد . ( قلت ) يدخل في هذا القبيل كثير ممن يدعي الفقر ويتحيل على جهلة الناس بهذه الخواص ، مدعياً أنها أحوال له من مخالطة النيران ومسك الحيات إلى غير ذلك من المحالات .
( النوع السابع ) من السحر : التعليق للقلب ، وهو أن يدعي الساحر أنه عرف الاسم الأعظم ، وأن الجن يطيعونه وينقادون له في أكثر الأمور ، فإذا اتفق أن يكون السامع لذلك ضعيف العقل قليل التمييز اعتقد أنه حق وتعلق قلبه بذلك ، وحصل في نفسه نوع من الرعب والمخالفة ، فإذا حصل الخوف ضعفت القوى الحساسة ، فحينئذٍ يتمكن الساحر أن يفعل ما يشاء . ( قلت ) : هذا النمط يقال له التَنْبلة وإنما يروج على ضعفاء العقول من بني آدم ، وفي عِلْم الفراسة ما يرشد إلى معرفة كامل العقل من ناقصه ، فإذا كان النبيل حاذقاً في علم الفراسة عرف من ينقاد له من الناس من غيره .
( النوع الثامن ) من السحر : السعي بالنميمة من وجوه خفيفة لطيفة وذلك شائع في الناس ( قلت ) : النميمة على قسمين : تارةً تكون على وجه التحريش بين الناس وتفريق قلوب المؤمنين فهذا حرام متفق عليه ، فأما إن كانت على وجه الإصلاح بين الناس وائتلاف كلمة المسلمين ، أو على وجه التخذيل والتفريق بين جموع الكفرة؛ فهذا أمر مطلوب كما جاء في الحديث : « الحرب خدعة » ، وإنما يحذوا على مثل هذا الذكاء ذو البصيرة النافذة والله المستعان .
ثم قال الرازي فهذه جملة الكلام في أقسام السحر وشرح أنواعه وأصنافه ، ( قلت ) : وإنما أدخل كثيراً من هذه الأنواع المذكورة في فن السحر للطافة مداركها لأن السحر في اللغة عبارة عما لطف وخفي سببه ، ولهذا جاء في الحديث : « إن من البيان لسحراً » ، وسمي السحور لكونه يقع خفياً آخر الليل ، والسَّحْرُ : الرئة ، وسميت بذلك لخفائها ولطف مجاريها إلى أجزاء البدن كما قال أبو جهل يوم بدر لعتبة : انتفخ سَحْره ، أي انتفخت رئته من الخوف ، وقالت عائشة رضي الله عنها : توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم بين سَحْري ونحري .(1/112)
وقال القرطبي : وعندنا أن السحر حق ، وله حقيقة ، يخلق الله عنده ما يشاء ، خلافاً للمعتزلة وأبي إسحاق الاسفرايني من الشافعية حيث قالوا : إنه تمويه وتخيل ، قال : ومن السحر ما يكون بخفة اليد كالشعوذة ، ومنه ما يكون كلاماً يحفظ ورقى من أسماء الله تعالى ، وقد يكون من عهود الشياطين ، ويكون أدوية وأدخنة وغير ذلك ، قال : وقوله عليه السلام : « إن من البيان لسحراً » يحتمل أن يكون مدحاً كما تقوله طائفة ، ويحتمل أن يكون ذماً للبلاغة ، قال : وهذا أصح ، قال : لأنها تصوّب الباطل حتى توهم السامع أنه حق ، كما قال عليه الصلاة والسلام : « فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض فأقضي له » الحديث .
فصل
واختلفوا فيمن يتعلم السحر ويستعمله فقال أبو حنيفة ومالك وأحمد : يكفر بذلك ومن أصحاب أبي حنيفة من قال إن تعلمه ليتقيه أو ليجتنبه فلا يكفر ، ومن تعلمه معتقداً جوازه أو أنه ينفعه كفر ، وكذا من اعتقد أن الشياطين تفعل له ما يشاء فهو كافر ، وقال الشافعي رحمه الله : إذا تعلم السحر قلنا له : صف لنا سحرك ، فإن وصف ما يوجب الكفر مثل ما اعتقده أهل بابل من التقرب إلى الكواكب السبعة وأنها تفعل ما يلتمس منها فهو كافر ، وإن كان لا يوجب الكفر فإن اعتقد إباحته فهو كافر . فأما إن قتل بسحره إنساناً فإنه يقتل عند ( مالك والشافعي وأحمد ) وقال أبو حنيفة : لا يقتل حتى يتكرر منه ذلك أو يقر بذلك في حق شخص معين ، وإذا قتل فإنه يقتل حداً عندهم إلا الشافعي فإنه قال : يقتل والحالة هذه قصاصاً ، قال : وهل إذا تاب الساحر تقبل توبته؟ فقال مالك وأبو حنيفة وأحمد في المشهور عنهم : لا تقبل ، وقال الشافعي وأحمد في الرواية الأُخرى تقبل ، وأما ساحر أهل الكتاب فعند أبي حنيفة أنه يقتل كما يقتل الساحر المسلم ، وقال مالك وأحمد والشافعي : لا يقتل لقصة ( لبيد بن الأعصم ) ، واختلفوا في المسلمة الساحرة ، فعند أبي حنيفة أنها لا تقتل ولكن تحبس ، وقال الثلاثة حكمها حكم الرجل والله أعلم .
مسألة
وهل يسأل الساحر حلاً لسحره؟ فأجازه سعيد بن المسيب فيما نقله عنه البخاري ، وقال الشعبي : لا بأس بالنشرة ، وكره ذلك الحسن البصري ، وفي الصحيح عن عائشة أنها قالت : يا رسول الله هلا تنشرت ، فقال : « أمَّا الله فقد شفاني وخشيت أن أفتح على الناس شراً » . وحكى القرطبي عن وهب : أنه قال يؤخذ سبع ورقات من سدر ، فتدق بين حجرين ثم تضرب بالماء ، ويقرأ عليها آية الكرسي ويشرب منها المسحور ثلاث حسوات ، ثم يغتسل بباقيه فإنه يذهب ما به ، وهو جيد للرجل الذي يؤخذ عن امرأته . ( قلت ) : أنفع ما يستعمل لإذهاب السحر ما أنزل الله على رسوله في إذهاب ذلك وهما المعوذتان ، وفي الحديث : « لم يتعوذ المتعوذ بمثلهما » وكذلك قراءة آية الكرسي فإنها مطردة للشيطان .(1/113)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقُولُوا رَاعِنَا وَقُولُوا انْظُرْنَا وَاسْمَعُوا وَلِلْكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)
نهى الله تعالى عباده المؤمنين أن يتشبهوا بالكافرين في مقالهم وفعالهم ، وذلك أن اليهود كانوا يعانون من الكلام ما فيه تورية لما يقصدونه من التنقيص - عليهم لعائن الله - فإذا أرادوا أن يقولوا : اسمع لنا ، يقولوا ( راعنا ) ويورون بالرعونة ، كما قال تعالى : { مِّنَ الذين هَادُواْ يُحَرِّفُونَ الكلم عَن مَّوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا واسمع غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيّاً بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْناً فِي الدين } [ النساء : 46 ] وكذلك جاءت الأحاديث بالإخبار عنهم بأنهم كانوا إذا سلَّموا إنما يقولون ( السام عليكم ) ، والسام هو الموت ، ولهذا أمرنا أن نرد عليهم ب ( وعليكم ) ، والغرض أن الله تعالى نهى المؤمنين عن مشابهة الكافرين قولاً وفعلاً ، فقال : { يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظرنا واسمعوا وَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ } وقال صلى الله عليه وسلم : « من تشبه بقوم فهو منهم » ، ففيه دلالة على النهي الشديد والتهديد والوعيد على التشبه بالكفار ، في أقوالهم وأفعالهم ولباسهم وأعيادهم وعباداتهم وغير ذلك من أمورهم التي لم تشرع لنا ولا نقر عليها . وروي أن رجلاً أتى عبد الله بن مسعود فقال : اعهد إليّ ، فقال : إذا سمعت الله يقول : { يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ } فأرعها سمعك فإنه خيرٌ يأمر به ، أو شر ينهى عنه ، وقال الأعمش عن خيثمة ما تقرأون في القرآن : { يَاأَيُّهَا الذين آمَنُواْ } فإنه في التوراة : ( يا أيها المساكين ) قال ابن عباس : ( راعنا ) أي أرعنا سمعَك ، وقال الضحاك : كانوا يقولون للنبي صلى الله عليه وسلم : أرعنا سمعك ، قال عطاء : كانت لغة تقولها الأنصار فنهى الله عنها ، وقال أبو صخر : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، إذا أدبر ناداه مَن كانت له حاجة من المؤمنين فيقول : أرعنا سمعك ، فأعظم الله رسوله صلى الله عليه وسلم أن يقال ذلك له . وقال السُّدي : كان رجل من اليهود من بني قينقاع يدعى ( رفاعة بن زيد ) يأتي النبي صلى الله عليه وسلم فإذا لقيه فكلَّمه قال : أرعني سمعك ، واسمع غير مسمع ، وكان المسلمون يحسبون أن الأنبياء كانت تُفَخّم بهذا ، فكان ناس منهم يقولون : اسمع غير مسمع ، فنهوا أن يقولوا راعنا ، قال ابن جرير : والصواب من القول في ذلك عندنا : أن الله نهى المؤمنين أن يقولوا لنبيّه صلى الله عليه وسلم راعنا ، لأنها كلمة كرهها الله تعالى أن يقولوها لنبيّه صلى الله عليه وسلم . وقوله تعالى : { مَّا يَوَدُّ الذين كَفَرُواْ مِنْ أَهْلِ الكتاب وَلاَ المشركين أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ } يبيّن بذلك تعالى شدة عداوة الكافرين من أهل الكتاب والمشركين ، الذين حذَّر الله تعالى من مشابهتهم للمؤمنين ليقطع المودَّة بينهم وبينهم ، ونبَّه تعالى على ما أنعم به على المؤمنين ، من الشرع التام الكامل ، الذي شرعه لنبيهم محمد صلى الله عليه وسلم حيث يقول تعالى : { والله يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ والله ذُو الفضل العظيم } .(1/114)
مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (106) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (107)
قال ابن عباس رضي الله عنهما : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما نبدل من آية ، وقال مجاهد : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } أي ما نمحو من آية ، مثل قوله : « الشيخ والشيخة إذا زنَيا فارجموهما البتّة » ، وقوله : « لو كان لابن آدم واديان من ذهب لابتغى لهما ثالثاً » ، وقال ابن جرير : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ } ما ننقل من حكم آية إلى غيره فنبدله ونغيّره ، وذلك أن نحوّل الحلال حراماً ، والحرام حلالاً ، والمباح محظوراً ، والمحظور مباحاً ، ولا يكون ذلك إلا في ( الأمر والنهي والحظر والإطلاق والمنع والإباحة ) فأما الأخبار فلا يكون فيها ناسخ ولا منسوخ . وأصل النسخ : من نسخ الكتاب وهو نقله من نسخة أُخرى إلى غيرها ، فكذلك معنى نسخ الحكم إلى غيره ، إنما هو تحويله ونقل عبارة إلى غيرها ، وسواء نسخ حكمها أو خطها إذ هي في كلتا حالتيها منسوخة ، وأما علماء الأصول فاختلفت عباراتهم في حد النسخ ، والأمرُ في ذلك قريب . لأن معنى النسخ الشرعي معلوم عند العلماء ، ولحظ بعضهم أنه : رفع الحكم بدليل شرعي متأخر ، فاندرج في ذلك نسخ الأخف بالأثقل وعكسه والنسخ لا إلى بدل . وأما تفاصيل أحكام النسخ وذكر أنواعه وشروطه فمبسوطة في أصول الفقه . وقال الطبراني : قرأ رجلان سورة أقرأهما رسول الله صلى الله عليه وسلم فكانا يقرآن بها ، فقاما ذات ليلة يصليان فلم يقدرا منها على حرف ، فأصبحا غاديين على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فذكرا ذلك له ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنها مما نسخ وأنسي فالهوا عنها » ، فكان الزهري يقرؤها : { مَا ننسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } بضم النون الخفيفة . وقوله تعالى { أَوْ نُنسِهَا } فقرىء على وجهين : { نَنْسأها } ، { ونُنْسِها } ، فأما من قرأها بفتح النون والهمزة بعد السين فمعناه نؤخرها . قال مجاهد عن أصحاب ابن مسعود { أو ننسأها } نثبت خطها ونبدل حكمها ، وقال مجاهد وعطاء : { أو ننسأها } نؤخرها ونرجئها . عن ابن عباس قال : خطبنا عمر رضي الله عنه فقال : يقول الله عزّ وجلّ : { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } أي نؤخرها ، وأما على قراءة { أَوْ نُنسِهَا } فقال قتادة : كان الله عزّ وجلّ ينسي نبيّه صلى الله عليه وسلم ما يشاء ، وينسخ ما يشاء .
وقال ابن جرير عن الحسن في قوله : { أَوْ نُنسِهَا } قال : إن نبيكم صلى الله عليه وسلم قرأ قرآناً ثم نسيه ، وعن ابن عباس : قال : « كان مما ينزل على النبي صلى الله عليه وسلم الوحي بالليل وينساه بالنهار » وقال عمر : أقرؤنا أبيّ وأقضانا علي ، وإنَّا لندع من قول أبيّ ، وذلك أن أبيّاً يقول : لا أدع شيئاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/115)
وقد قال الله { مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا } . وقولُه : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } أي في الحكم بالنسبة إلى مصلحة المكلفين ، كما قال ابن عباس : خير لكم في المنفعة وأرفق بكم . وقال السدي : { نَأْتِ بِخَيْرٍ مِّنْهَا أَوْ مِثْلِهَا } نأت بخير من الذي نسخناه أو مثل الذي تركناه .
وقوله : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } يرشد عباده تعالى بهذا إلى أنه المتصرف في خلقه بما يشاء ، فله الخلق والأمر ، وهو المتصرف فكما خلقهم كما يشاء ، ويسعد من يشاء ويشقي من يشاء ، ويوفق من يشاء ويخذل من يشاء ، كذلك يحكم في عباده بما يشاء فيحل ما يشاء ويحرم ما يشاء ، ويبيح ما يشاء ويحظر ما يشاء ، وهو الذي يحكم ما يريد لا معقب لحكمه ، { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] ويختبر عباده بالنسخ فيأمر بالشيء لما فيه من المصلحة التي يعلمها تعالى ، ثم ينهى عنه لما يعلمه تعالى ، فالطاعة كل الطاعة في امتثال أمره واتباع رسله في تصديق ما أخبروا ، وامتثال ما أمروا ، وترك ما عنه زجروا ، وفي هذا المقام رد عظيم وبيان بليغ لكفر اليهود وتزييف شبهتهم لعنهم الله في دعوى إستحالة النسخ إما عقلاً كما زعمه بعضهم جهلاً وكفراً ، وإما نقلاً كما تخرصه آخرون منهم افتراء وإفكاً ، قال الإمام أبو جعفر بن جرير رحمه الله : فتأويل الآية : ألم تعلم يا محمد أن لي ملك السماوات والأرض وسلطانهما دون غيري أحكم فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وآمر فيهما وفيما فيهما بما أشاء ، وأنهى عما أشاء وأنسخ وأبدل وأغير من أحكامي التي أحكم بها في عبادي بما أشاء إذ أشاء ، وأقر فيهما ما أشاء ثم قال : وهذا الخبر وإن كان خطاباً من الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم على وجه الخبر عن عظمته ، فإنه منه جل ثناؤه تكذيب لليهود ، الذين أنكروا نسخ أحكام التوراة ، وجحدوا نبوة عيسى ومحمد عليهما الصلاة والسلام ، لمجيئهما بما جاءا به من عند الله بتغيير ما غيَّر الله من حكم التوراة ، فأخبرهم الله أن له ملك السماوات وسلطانهما ، وأن الخلق أهل مملكته وطاعته ، وعليهم السمع والطاعة لأمره ونهيه ، وأن له أمرهم بما يشاء ونهيهم عما يشاء ، ونسخ ما يشاء وإقرار ما يشاء ، وإنشاء ما يشاء من إقراره وأمره ونهيه .
( قلت ) : الذي يحمل اليهود على البحث في مسألة النسخ إنما هو الكفر والعناد ، فإنه ليس في العقل ما يدل على امتناع النسخ في أحكام الله تعالى ، لأنه يحكم ما يشاء كما أنه يفعل ما يريد ، مع أنه قد وقع ذلك في كتبه المتقدمة وشرائعه الماضية ، كما أحل لآدم تزويج بناته من بنيه ثم حرم ذلك ، وكما أباح لنوح بعد خروجه من السفينة أكل جميع الحيوانات ثم نسخ حلَّ بعضها ، وكان نكاح الأختين مباحاً لإسرائيل وبنيه وقد حرم ذلك في شريعة التوراة وما بعدها ، وأمر إبراهيم عليه السلام بذبح ولده ثم نسخه قبل الفعل ، وأشياء كثيرة يطول ذكرها وهم يعترفون بذلك ويصدفون عنه .(1/116)
ففي هذا المقام بين تعالى جواز النسخ رداً على اليهود عليهم لعنة الله حيث قال تعالى : { أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ الله لَهُ مُلْكُ السماوات والأرض } الآية فكما أن له الملك بلا منازع فكذلك له الحكم بما يشاء { أَلاَ لَهُ الخلق والأمر } [ الأعراف : 54 ] .
والمسلمون كلهم متفقون على جواز النسخ في أحكام الله تعالى ، لما له في ذلك من الحكمة البالغة وكلهم قال بوقوعه ، وقال أبو مسلم الأصبهاني المفسِّر : لم يقع شيء من ذلك في القرآن ، وقوله ضعيفٌ مردود مرذول ، وقد تعسف في الأجوبة عما وقع من النسخ ، فمن ذلك قضية العدة بأربعة أشهر وعشر بعد الحول ، لم يجب عن ذلك بكلام مقبول ، وقضية تحويل القبلة إلى الكعبة عن بيت المقدس لم يجب بشيء ، ومن ذلك نسخ مصابرة المسلم لعشرة من الكفرة إلى مصابرة الاثنين ، ومن ذلك نسخ وجوب الصدقة قبل مناجاة الرسول صلى الله عليه وسلم وغير ذلك ، والله أعلم .(1/117)
أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْأَلُوا رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ مُوسَى مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ (108)
نهى الله تعالى المؤمنين في هذه الآية الكريمة عن كثرة سؤال النبي صلى الله عليه وسلم عن الأشياء قبل كونها كما قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَآءَ إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ القرآن تُبْدَ لَكُمْ } [ المائدة : 101 ] أي وإن تسألوا عن تفصيلها بعد نزولها تبين لكم ، ولا تسألوا عن الشيء قبل كونه فلعله أن يحرم من أجل تلك المسألة ، ولهذا جاء في الصحيح : « إن أعظم المسلمين جرماً من سأل عن شيء لم يحرم فحُرِّم من أجل مسألته » وثبت في الصحيحين من حديث المغيرة ابن شعبة « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم : كان ينهى عن قيل وقال ، وإضاعة المال ، وكثرة السؤال » وفي صحيح مسلم : « ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم . فإذا أمرتكم بأمر فأتوا منه ما استطعتم ، وإن نهيتكم عن شيء فاجتنبوه » وهذا إنما قاله بعد ما أخبرهم أن الله كتب عليهم الحج فقال رجل : أكلَّ عام يا رسول الله؟ فسكت عنه رسول الله ثلاثاً ، ثم قال عليه السلام : « لا ، ولو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت لما استطعتم » ، ثم قال : « ذروني ما تركتكم » الحديث . ولهذا قال أنس بن مالك : نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن شيء ، فكان يعجبنا أن يأتي الرجل من أهل البادية فيسأله ونحن نسمع . وعن ابن عباس قال : ما رأيت قوماً خيراً من أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، ما سألوه إلا عن اثنتي عشرة مسألة كلها في القرآن { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر } [ البقرة : 219 ] و { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام } [ البقرة : 217 ] { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى } [ البقرة : 220 ] يعني هذا وأشباهه .
وقوله تعالى : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ } أي بل تريدون أو هي على بابها في الاستفهام وهو ( إنكاري ) وهو يعم المؤمنين والكافرين ، كما قال تعالى : { يَسْأَلُكَ أَهْلُ الكتاب أَن تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَاباً مِّنَ السمآء } [ النساء : 153 ] . عن ابن عباس قال : قال رافع بن حرملة ووهب بن زيد : يا محمد ائتنا بكتاب تنزله علينا من السماء نقرؤه ، وفجر لنا أنهارا نتبعك ونصدقك ، فأنزل الله من قولهم : { أَمْ تُرِيدُونَ أَن تَسْأَلُواْ رَسُولَكُمْ كَمَا سُئِلَ موسى مِن قَبْلُ وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } .
وقال مجاهد : سألت قريش محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجعل لهم الصفا ذهباً قال : « نعم وهو لكم كالمائدة لبني إسرائيل » فأبوا ورجعوا والمراد أن الله ذم من سأل الرسول صلى الله عليه وسلم عن شيء على وجه التعنت والاقتراح كما سألت بنو إسرائيل موسى عليه السلام تعنتاً وتكذيباً وعناداً . قال الله تعالى : { وَمَن يَتَبَدَّلِ الكفر بالإيمان } أي ومن يشتر الكفر بالإيمان { فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } أي فقد خرج عن الطريق المستقيم إلى الجهل والضلال ، وهكذا حال الذين عدلوا عن تصديق الأنبياء واتباعهم والانقياد لهم ، إلى مخالفتهم وتكذيبهم والاقتراح عليهم بالأسئلة التي لا يحتاجون إليها على وجه التعنت والكفر كما قال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار } [ إبراهيم : 28-29 ] .(1/118)
وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (109) وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَمَا تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن سلوك طريق الكفار من أهل الكتاب ، ويعلمهم بعداوتهم لهم في الباطن والظاهر ، وما هم مشتملون عليه من الحسد للمؤمنين ، مع علمهم بفضلهم وفضل نبيهم ، ويأمر عباده المؤمنين بالصفح والعفو أو الاحتمال حتى يأتي أمر الله من النصر والفتح ، ويأمرهم بإقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، ويحثهم على ذلك ويرغبهم فيه كما قال ابن عباس : كان حيي بن أخطب وأبو ياسر بن أخطب من أشد يهود العرب حسداً ، إذ خصهم الله برسوله صلى الله عليه وسلم وكانا جاهدين في رد الناس عن الإسلام ما استطاعا فأنزل الله فيهما : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم } الآية . روي أن كعب بن الأشرف اليهودي كان شاعراً وكان يهجو النبي صلى الله عليه وسلم وفيه أنزل الله : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم } إلى قوله : { فاعفوا واصفحوا } . قال تعالى : { كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق } يقول من بعد ما أضاء لهم الحق لم يجهلوا منه شيئاً ، ولكن الحسد حملهم على الجحود فعيَّرهم ووبخهم ولامهم أشد الملامة وشرع لنبيه صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين ما هم عليه من التصديق والإيمان والإقرار بما أنزل الله عليهم وما أنزل من قبلهم بكرامته وثوابه الجزيل ومعونته لهم . وقال الربيع بن أنس { مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } من قِبَل أنفسهم ، وقال أبو العالية : { مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق } من بعد ما تبين أن محمداً رسول الله يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل فكفروا به حسداً وبغياً .
قال ابن عباس في قوله { فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } : نسخ ذلك قوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] ، وقوله : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } [ التوبة : 29 ] ، وكذا قال أبو العالية وقتادة والسدي : إنها منسوخة بآية السيف ، ويرشد إلى ذلك أيضاً قوله تعالى : { حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } .
وقوله تعالى : { وَأَقِيمُواْ الصلاة وَآتُواْ الزكاة وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله } يحثهم تعالى على الاشتغال بما ينفعهم ، وتعود عليهم عاقبته يوم القيامة من إقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، حتى يمكَّن لهم الله النصر في الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد . ولهذا قال تعالى : { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } يعني أنه تعالى لا يغفل عن عمل عامل ، ولا يضيع لديه سواء كان خيراً أو شراً ، فإنه سيجازي كل عامل بعمله . وقال ابن جرير في قوله تعالى : { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } هذا الخبر من الله للذين خاطبهم بهذه الآيات من المؤمنين أنهم مهما فعلوا من خير أو شر ، سراً وعلانية فهو به بصير ، لا يخفى عليه منه شيء فيجزيهم بالإحسان خيراً وبالإساءة مثلها ، وهذا الكلام وإن كان قد خرج مخرج فإن فيه وعداً ووعيداً ، وأمراً وزجراً وذلك أنه أعلم القوم أنه بصير بجميع أعمالهم ليجدّوا في طاعته إذ كان مذخوراً لهم عنده حتى يثيبهم عليه كما قال تعالى : { وَمَا تُقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُم مِّنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِندَ الله } وليحذروا معصيته . قال وأما قوله { بَصِيرٌ } فإنه ( مبصر ) صرف إلى بصر كما صرف ( مبدع ) إلى بديع و ( مؤلم ) إلى أليم ، والله أعلم .(1/119)
وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (111) بَلَى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (112) وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)
يبين تعالى اغترار اليهود والنصارى بما هم فيه ، حيث ادعت كل طائفة من اليهود والنصارى أنه لن يدخل الجنة إلا من كان على ملتها فأكذبهم الله تعالى كما تقدم من دعواهم أنه لن تمسهم النار إلا أياماً معدودة ثم ينتقلون إلى الجنة ، ورد عليهم تعالى في ذلك ، وهكذا قال لهم في هذه الدعوى التي ادعوها بلا دليل ولا حجة ولا بينة { تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ } قال أبو العالية : أمانيّ تمنوها على الله بغير حق ، ثم قال تعالى : { قُلْ } أي يا محمد { هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ } أي حجتكم { إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي فيما تدعونه .
ثم قال تعالى : { بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي من أخلص العمل لله وحده لا شريك له ، كما قال تعالى : { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن } [ آل عمران : 20 ] الآية . وقال سعيد بن جبير : { بلى مَنْ أَسْلَمَ } أخلص { وَجْهَهُ } قال : دينه { وَهُوَ مُحْسِنٌ } أي اتبع فيه الرسول صلى الله عليه وسلم ، فإنَّ للعمل المتقبل شرطين : أحدهما : أن يكون خالصاً لله وحده ، والآخر أن يكون صواباً موافقاً للشريعة ، فمتى كان خالصاً ولم يكن صواباً لم يتقبل ، ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » فعمل الرهبان ومن شابههم - وإن فرض أنهم مخلصون فيه لله - فإنه لا يتقبل منهم حتى يكون ذلك متابعاً للرسول صلى الله عليه وسلم المبعوث إليهم وإلى الناس كافة ، وفيهم وأمثالهم قال الله تعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] وقال تعالى : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً حتى إِذَا جَآءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً } [ النور : 39 ] وقال تعالى : { وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَّاصِبَةٌ * تصلى نَاراً حَامِيَةً * تسقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ } [ الغاشية : 2-5 ] . وروي عن أمير المؤمنين عمر رضي الله عنه أنه تأولها في الرهبان كما سيأتي ، وأما إن كان العمل موافقاً للشريعة في الصورة الظاهرة ولكن لم يخلص عامله القصد لله فهو أيضاً مردود على فاعله وهذا حال المرائين والمنافقين ، كما قال تعالى : { إِنَّ المنافقين يُخَادِعُونَ الله وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قاموا إِلَى الصلاة قَامُواْ كسالى يُرَآءُونَ الناس وَلاَ يَذْكُرُونَ الله إِلاَّ قَلِيلاً } [ النساء : 142 ] ، وقال تعالى : { فَوَيْلٌ لِّلْمُصَلِّينَ * الذين هُمْ عَن صَلاَتِهِمْ سَاهُونَ * الذين هُمْ يُرَآءُونَ * وَيَمْنَعُونَ الماعون } [ الماعون : 4-7 ] ولهذا قال تعالى : { فَمَن كَانَ يَرْجُواْ لِقَآءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلاَ يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدَاً } [ الكهف : 110 ] وقال في هذه الآية الكريمة : { بلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ للَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ } ، وقوله : { فَلَهُ أَجْرُهُ عِندَ رَبِّهِ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ضمن لهم تعالى على ذلك تحصيل الأجور وآمنهم مما يخافونه من المحذور { لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } فيما يستقبلونه ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } على ما مضى مما يتركونه .(1/120)
وقوله تعالى : { وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب } بيَّن به تعالى تناقضهم وتباغضهم وتعاديهم وتعاندهم ، كما قال محمد بن إسحاق عن ابن عباس : لما قدم أهل نجران من النصارى على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أتتهم أحبار يهود فتنازعوا عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رافع بن حرملة : ما أنتم على شيء وكفر بعيسى وبالإنجيل ، وقال رجل من أهل نجران من النصارى لليهود : ما أنتم على شيء وجحد نبوة موسى وكفر بالتوراة ، فأنزل الله في ذلك من قولهما : { وَقَالَتِ اليهود لَيْسَتِ النصارى على شَيْءٍ وَقَالَتِ النصارى لَيْسَتِ اليهود على شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب } قال : إن كلاً يتلو في كتابه تصديق من كفر ب ، أن يكفر اليهود بعيسى وعندهم التوراة فيها ما أخذ الله عليهم على لسان موسى بالتصديق بعيسى ، وفي الإنجيل ما جاء به عيسى بتصديق موسى وما جاء من التوراة من عند الله وكل يكفر بما في يد صاحبه . وهذا القول يقتضي أن كلاً من الطائفتين صدقت فيما رمت به الطائفة الأُخرى ، ولكن ظاهر سياق الآية يقتضي ذمهم فيما قالوه مع علمهم بخلاف ذلك ، ولهذا قال تعالى : { وَهُمْ يَتْلُونَ الكتاب } أي وهم يعلمون شريعة التوراة والإنجيل ، كل منهما قد كانت مشروعة في وقت ، ولكنهم تجاحدوا فيما بينهم عناداً وكفراً ومقابلة للفاسد بالفاسد وقوله : { كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ } بيَّن بهذا جهل اليهود والنصارى فيما تقابلوا به من القول وهذا من باب الإيماء والإشارة وقد اختلف فيمن عنى بقوله تعالى : { الذين لاَ يَعْلَمُونَ } قال ابن جريج : قلت لعطاء : مَن هؤلاء الذين لا يعلمون؟ قال : أُمم كانت قبل اليهود والنصارى وقبل التوراة والإنجيل ، وقال السُّدي : { كَذَلِكَ قَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ } هم العرب قالوا ليس محمد على شيء ، واختار أبو جعفر بن جرير أنها عامة تصلح للجميع وليس ثَمَّ دليل قاطع يعين واحداً من هذه الأقوال والحمل على الجميع أولى ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { فالله يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ } أي أنه تعالى يجمع بينهم يوم المعاد ويفصل بينهم بقضائه العدل الذي لا يجور فيه ولا يظلم مثقال ذرة ، وهذه الآية كقوله تعالى في سورة الحج : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَادُواْ والصابئين والنصارى والمجوس والذين أشركوا إِنَّ الله يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القيامة إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ الآية : 17 ] وكما قال تعالى : { قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنَا رَبُّنَا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنَا بالحق وَهُوَ الفتاح العليم } [ سبأ : 26 ] .(1/121)
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَسَاجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَسَعَى فِي خَرَابِهَا أُولَئِكَ مَا كَانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوهَا إِلَّا خَائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (114)
اختلف المفسرون في المراد من الذين منعوا مساجد الله وسعوا في خرابها على قولين : أحدهما : هم النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ويمنعون الناس أن يصلوا فيه . قال قتادة : أولئك أعداء الله النصارى حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس . وقال السُّدي : كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس حتى خربه وأمر أن يطرح فيه الجيف ، وإنما أعانه الروم على خرابه من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا . القول الثاني : ما رواه ابن جرير عن ابن زيد قال : هؤلاء المشركون الذين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخلوا مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم وقال لهم : « ما كان أحد يصد عن هذا البيت ، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه وأخيه فلا يصده » فقالوا : لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق .
وفي قوله : { وسعى فِي خَرَابِهَآ } عن ابن عباس أن قريشاً منعوا النبي صلى الله عليه وسلم الصلاة عند الكعبة في المسجد الحرام فأنزل الله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه } ، ثم اختار ابن جرير القول الأول واحتج بأن قريشاً لم تسع في خراب الكعبة ، وأما الروم فسعوا في تخريب بيت المقدس . ( قلت ) : والذي يظهر - والله أعلم - القول الثاني كما قاله ابن زيد فإنه تعالى لما وجه الذم في حق اليهود والنصارى ، شرع في ذم المشركين الذي أخرجوا الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه من مكة ومنعوهم من الصلاة في المسجد الحرام ، وأما اعتماده على أن قريشاً لم تسع في خراب الكعبة ، فأي خراب أعظم مما فعلوا؟ أخرجوا عنها رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه واستحوذوا عليها بأصنامهم وأندادهم وشركهم كما قال تعالى : { وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ الله وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ المسجد الحرام } [ الأنفال : 34 ] .
وقال تعالى : { هُمُ الذين كَفَرُواْ وَصَدُّوكُمْ عَنِ المسجد الحرام والهدي مَعْكُوفاً أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ } [ الفتح : 25 ] وليس المراد من عمارتها زخرفتها وإقامة صورتها فقط ، إنما عمارتها بذكر الله فيها وفي إقامة شرعه فيها ، ورفعها عن الدنس والشرك . وقوله تعالى : { أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ } هذا خبر معناه الطلب أي لا تمكنوا هؤلاء إذا قدرتم عليهم من دخولها إلا تحت الهدنة والجزية ، ولهذا لما فتح رسول الله صلى الله عليه وسلم مكة أمر من العام القابل في سنة تسع أن ينادي برحاب مِنى : « ألا لا يحجنَّ بعد العام مشرك ، ولا يطوفنَّ بالبيت عريان ، ومن كان له أجل فأجله إلى مدته » ، وقال بعضهم : ما كان ينبغي لهم أن يدخلوا مساجد الله إلا خائفين على حال التهيب وارتعاد الفرائص من المؤمنين أن يبطشوا بهم فضلاً أن يستولوا عليها ويمنعوا المؤمنين منها .(1/122)
والمعنى : ما كان الحق والواجب إلا ذلك لولا ظلم الكفرة وغيرهم ، وقيل : إن هذا بشارة من الله للمسلمين أنه سيظهرهم على المسجد الحرام وعلى سائر المساجد ، وأنه يذل المشركين لهم حتى لا يدخل المسجد الحرام أحد منهم إلا خائفاً يخاف أن يؤخذ فيعاقب أو يقتل إن لم يسلم ، وقد أنجز الله هذا الوعد كما تقدم من منع المشركين من دخول المسجد الحرام ، وأوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم أن لا يبقى بجزيرة العرب دينان ، وأن يجلى اليهود والنصارى منها ولله الحمد والمنة ، وما ذاك إلا تشريف أكناف المسجد الحرام ، وتطهير البقعة التي بعث الله فيها رسوله إلى الناس كافة بشيراً ونذيراً صلوات الله وسلامه عليه ، وهذا هو الخزي لهم في الدنيا لأن الجزاء من جنس العمل ، فكما صدّوا المؤمنين عن المسجد الحرام صُدُّوا عنه ، وكما أجلوهم من مكة أُجلوا عنها { وَلَهُمْ فِي الآخرة عَذَابٌ عَظِيمٌ } على ما انتهكوا من حرمة البيت ، وامتهنوه من نصب الأصنام حوله ، ودعاء غير الله عنده ، والطواف به عرياً وغير ذلك من أفاعيلهم التي يكرهها الله ورسوله ، وأما من فسر بيت المقدس فقال : ( كعب الأحبار ) إن النصارى لما ظهروا على بيت المقدس خربوه فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم أنزل عليه : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَّنَعَ مَسَاجِدَ الله أَن يُذْكَرَ فِيهَا اسمه وسعى فِي خَرَابِهَآ أولئك مَا كَانَ لَهُمْ أَن يَدْخُلُوهَآ إِلاَّ خَآئِفِينَ } الآية فليس في الأرض نصراني يدخل بيت المقدس إلا خائفاً وقال قتادة : لا يدخلون المساجد إلا مسارقة .(1/123)
وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (115)
وهذا والله أعلم فيه تسلية للرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه الذين أخرجوا من مكة وفارقوا مسجدهم ومصلاهم وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلّي بمكّة إلى بيت المقدس والكعبة بين يديه ، فلما قدم المدينة وجه إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ثم صرفه الله إلى الكعبة بعد ، ولهذا يقول تعالى : { وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } . قال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس قال : كان أول ما نسخ من القرآن القبلة . وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أهلها اليهود أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم ، وكان يدعو وينظر إلى السماء فأنزل الله : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء } [ البقرة : 144 ] إلى قوله : { فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } [ البقرة : 144 ] . فارتاب من ذلك اليهود وقالوا : { مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا } [ البقرة : 142 ] . فأنزل الله { قُل للَّهِ المشرق والمغرب } [ البقرة : 142 ] ، وقال : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } وقال عكرمة : عن ابن عباس { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } قال : قبلة الله أينما توجهت شرقاً أو غرباً وقال مجاهد { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } : حيثما كنتم فلكم قبلة تستقبلونها الكعبة . وقال ابن جرير : وقال آخرون : بل أنزل الله هذه الآية قبل أن يفرض التوجه إلى الكعبة ، وإنما أنزلها ليعلم نبيّه صلى الله عليه وسلم وأصحابه أن لهم التوجه بوجوههم للصلاة حيث شاءوا من نواحي المشرق والمغرب ، لأنهم لا يوجهون وجوههم وجهاً من ذلك وناحية إلا كان جل ثناؤه في ذلك الوجه وتلك الناحية ، لأن له تعالى المشارق والمغارب وأنه لا يخلوا منه مكان كما قال تعالى : { وَلاَ أدنى مِن ذَلِكَ وَلاَ أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ مَا كَانُواْ } [ المجادلة : 7 ] قالوا : ثم نسخ ذلك بالفرض الذي فرض عليهم التوجه إلى المسجد الحرام هكذا قال ، وفي قوله : وأنه تعالى لا يخلوا منه مكان؛ إن أراد علمه تعالى فصحيح ، فإنَّ علمه تعالى محيط بجميع المعلومات ، وأما ذاته فلا تكون محصورة في شيء من خلقه ، تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآية على رسول الله صلى الله عليه وسلم إذناً من الله أن يصلي ( المتطوع ) حيث توجه من شرق أو غرب في سفره لما روي عن ابن عمر أنه كان يصلي حيث توجهت به راحلته ويذكر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يفعل ذلك ويتأول هذه الآية : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } .
وقال آخرون : بل نزلت هذه الآي في قوم عميت عليه القبلة فلم يعرفوا شطرها ، فصلُّوا على أنحاء مختلفة ، فقال الله تعالى : لي المشارق والمغارب ، فأين وليتم وجوهكم فهناك وجهي وهو قبلتكم فيعلمكم بذلك أن صلاتكم ماضية ، لما روي عن عامر بن ربيعة عن أبيه قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في ليلة سوداء مظلمة فنزلنا منزلاً فجعل الرجل يأخذ الأحجار فيعمل مسجداً يصلي فيه ، فلما أن أصبحنا إذا نحن قد صلينا إلىغير القبلة ، فقلنا : يا رسول الله لقد صلينا ليلتنا هذه لغير القبلة فأنزل الله تعالى : { وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } الآية .(1/124)
عن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث سرية فأخذتهم ضبابة فلم يهتدوا إلى القبلة فصلوا لغير القبلة ثم استبان لهم بعد ما طلعت الشمس أنهم صلوا لغير القبلة ، فلما جاءوا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حدثوه فأنزل الله تعالى هذه الآية : { وَللَّهِ المشرق والمغرب فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } .
قال ابن جرير : ويحتمل فأينما تولوا وجوهكم في دعائكم لي فهنالك وجهي أستجيب لكم دعاءكم . قال مجاهد : لما نزلت { ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] قالوا : إلى أين؟ فنزلت { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } . ومعنى قوله : { إِنَّ الله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } يسع خلقه كلهم بالكفاية والجود والإفضال ، وأما قوله : { عَلِيمٌ } فإنه يعني عليم بأعمالهم ما يغيب عنه منها شيء ، ولا يعزب عن علمه بل هو بجميعها عليم .(1/125)
وَقَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قَانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَإِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)
اشتملت هذه الآية الكريمة والتي تليها على الرد على النصارى عليهم لعائن الله وكذا من أشبههم من اليهود ومن مشركي العرب ممن جعل الملائكة بنات الله ، فأكذب الله جميعهم في دعواهم وقولهم إن لله ولداً فقال تعالى { سُبْحَانَهُ } أي تعالى وتقدّس وتنزَّه عن ذلك علواً كبيراً : { بَل لَّهُ مَا فِي السماوات والأرض } أي ليس الأمر كما افتروا ، وإنما له ملك السماوات والأرض ومن فيهن ، وهو المتصرف فيهم وهو خالقهم ورازقهم ، ومقدرهم ومسخِّرهم ومسيِّرهم ومصرفهم كما يشاء ، والجميع عبيد له وملك له ، فكيف يكون له ولد منهم ، والولد إنما يكون متولداً من شيئين متناسبين ، وهو تبارك وتعالى ليس له نظير ولا مشارك في عظمته وكبريائه ولا صاحبة له فكيف يكون له ولد؟ كما قال تعالى : { بَدِيعُ السماوات والأرض أنى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُنْ لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } [ الأنعام : 101 ] ، وقال تعالى : { وَقَالُواْ اتخذ الرحمن وَلَداً لَّقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدّاً } [ مريم : 88-89 ] ، وقال تعالى : { قُلْ هُوَ الله أَحَدٌ * الله الصمد * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَّهُ كُفُواً أَحَدٌ } [ الإخلاص : 1-4 ] ، فقرر تعالى في هذه الآيات الكريمة أنه السيد العظيم الذي لا نظير له ولا شبيه له ، وأن جميع الأشياء غيره مخلوقة له مربوبة ، فكيف يكون له منها ولد؟ ولهذا قال البخاري عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « قال الله تعالى كذبني ابن آدم ولم يكن له ذلك ، وشتمني ولم يكن له ذلك ، فأما تكذيبه إياي فيزعم أني لا أقدر أن أعيده كما كان ، وأما شتمه إياي فقوله إن لي ولداً ، فسبحاني أن أتخذ صاحبة أو ولداً » وفي الصحيحين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « لا أحد أصبر على أذى سمعه من الله ، إنهم يجعلون له ولداً وهو يرزقهم ويعافيهم » .
وقوله { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } مقرّون له بالعبودية . وقال السدي : أي مطيعون يوم القيامة ، وقال مجاهد : { كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } مطيعون . قال : طاعة الكافر في سجود ظله وهو كاره ، وهذا القول - وهو اختيار ابن جرير - يجمع الأقوال كلها ، وهو أن القنوت الطاعة والاستكانة إلى الله وهو شرعي وقدري كما قال تعالى : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بالغدو والآصال } [ الرعد : 15 ] .
وقوله تعالى : { بَدِيعُ السماوات والأرض } أي خالقهما على غير مثال سبق وهو مقتضى اللغة ، ومنه يقال للشيء المحدث بدعة كما جاء في صحيح مسلم « فإن كل محدثة بدعة » والبدعة على قسمين : تارة تكون بدعة شرعية ، كقوله : « فإن كل محدثة بدعة وكل بدعة ضلالة » ، وتارة تكون بدعة لغوية كقول أمير المؤمنين عمر ابن الخطاب عن جمعه إياهم على صلاة التراويح واستمرارهم : « نعمت البدعة هذه » .(1/126)
وقال ابن جرير : { بَدِيعُ السماوات والأرض } مبدعهما وإنما هو ( مُفْعِل ) فصرف إلى فعيل كما صرف المؤلم إلى الأليم ، ومعنى المبدع المنشىء والمحدث ما لا يسبقه إلى أنشاء مثله وإحداثه أحد . قال : ولذلك سمي المبتدع في الدين مبتدعاً لإحداثه فيه ما لم يسبق إليه غيره .
قال ابن جرير : فمعنى الكلام : سبحان الله أن يكون له ولد وهو مالك ما في السماوات والأرض ، تشهد له جميعها بدلالتها عليه بالوحدانية ، وتقر له بالطاعة ، وهو بارئها وخالقها وموجدها من غير أصل ولا مثال احتذاها عليه ، وهذا إعلامٌ من الله لعباده أن ممن يشهد له بذلك ( المسيح ) الذي أضافوا إلى الله بنوته ، وإخبار منه لهم أن الذي ابتدع السماوات والأرض من غير أصل وعلى غير مثال ، هو الذي ابتدع المسيح عيسى من غير والد بقدرته ، وهذا من ابن جرير رحمه الله كلام جيد وعبارة صحيحة .
وقوله تعالى { وَإِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } يبيّن بذلك كمال قدرته وعظيم سلطانه ، وأنه إذا قدّر أمراً وأراد كونه فإنما يقول له { كُنْ } أي مرة واحدة { فَيَكُونُ } أي فيوجد على وفق ما أراد ، كما قال تعالى : { إِنَّمَآ أَمْرُهُ إِذَآ أَرَادَ شَيْئاً أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ يس : 82 ] ، وقال تعالى : { إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَآ أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } [ النحل : 40 ] ، وقال تعالى : { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } [ القمر : 50 ] ، وقال الشاعر :
إذا ما أراد الله أمراً فإنما ... يقول له كن قولة فيكون(1/127)
وَقَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ لَوْلَا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينَا آيَةٌ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118)
قال ابن عباس : قال رافع بن حرملة لرسول الله صلى الله عليه وسلم : يا محمد إن كنت رسولاً من الله كما تقو ، فقل لله فيكلمنا حتى نسمع كلامه . فأنزل الله في ذلك من قوله : { وَقَالَ الذين لاَ يَعْلَمُونَ لَوْلاَ يُكَلِّمُنَا الله أَوْ تَأْتِينَآ آيَةٌ } وقال مجاهد : النصارى تقول ، وقال قتادة والسُّدي : هذا قول كفّار العرب ، { كَذَلِكَ قَالَ الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّثْلَ قَوْلِهِمْ } قال : هم اليهود والنصارى ، ويؤيد هذا القول وأن القائلين ذلك هم مشركو العرب قوله تعالى : { وَإِذَا جَآءَتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حتى نؤتى مِثْلَ مَآ أُوتِيَ رُسُلُ الله } [ الأنعام : 124 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حتى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأرض يَنْبُوعاً } [ الإسراء : 90 ] إلى قوله : { قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إِلاَّ بَشَراً رَّسُولاً } [ الإسراء : 93 ] ، وقوله تعالى : { وَقَالَ الذين لاَ يَرْجُونَ لِقَآءَنَا لَوْلاَ أُنْزِلَ عَلَيْنَا الملائكة أَوْ نرى رَبَّنَا } [ الفرقان : 21 ] الآية إلى غير ذلك من الآيات الدالة على كفر مشركي العرب وعتوهم وعنادهم وسؤالهم ما لا حاجة لهم به إنما هو الكفر والمعاندة كما قال من قبلهم من الأُمم الخالية من أهل الكتابين وغيرهم .
وقوله تعالى : { تَشَابَهَتْ قُلُوبُهُمْ } أي أشبهت قلوب مشركي العرب قلوب من تقدمهم في الكفر والعناد والعتو كما قال تعالى : { كَذَلِكَ مَآ أَتَى الذين مِن قَبْلِهِمْ مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ قَالُواْ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * أَتَوَاصَوْاْ بِهِ } [ الذاريات : 52-53 ] ؟ الآية . وقوله تعالى : { قَدْ بَيَّنَّا الآيات لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ } أي قد أوضحنا الدلالات على صدق الرسل بما لا يحتاج معها إلى سؤال آخر ، وزيادة أخرى لمن أيقن وصدق واتبع الرسل وفهم ما جاءوا به عن الله تبارك وتعالى ، وأما من ختم الله على قلبه وسمعه وجعل على بصره غشاوة فأولئك قال الله فيهم : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 96-97 ] .(1/128)
إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ بِالْحَقِّ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَا تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الْجَحِيمِ (119)
عن ابن عباس قال : « بشيراً بالجنة ونذيراً من النار » ، وقوله : { وَلاَ تُسْأَلُ عَنْ أَصْحَابِ الجحيم } قراءة أكثرهم { ولا تُسْأَلُ } بضم التاء على الخبر ، وفي قراءة ابن مسعود { ولن تُسْأَلُ } عن أصحاب الجحيم أي لا نسألك عن كفر من كفر بك ، كقوله : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } [ الرعد : 40 ] .
عن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في التوراة فقال : أجل والله إنه لموصوف في التوراة بصفته في القرآن : ( يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهداً ومبشراً ونذيراً وحرزاً للأميين ، أنت عبدي ورسولي سميتك المتوكل ، لا فظ ولا غليظ ، ولا سخّاب في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر ولن يقبضه حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا لا إله إلا الله ، فيفتح به أعيناً عمياً وآذاناً صماً وقلوباً غلفاً ) .(1/129)
وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلَاوَتِهِ أُولَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (121)
قال ابن جرير : يعني بقوله جلّ ثناؤه : { وَلَنْ ترضى عَنكَ اليهود وَلاَ النصارى حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } وليست اليهود يا محمد ولا النصارى براضية عنك أبداً ، فدع طلب ما يرضيهم ويوافقهم وأقبل على طلب رضا الله في دعائهم إلى ما بعثك الله به من الحق . وقوله تعالى : { قُلْ إِنَّ هُدَى الله هُوَ الهدى } أي قل يا محمد إن هدى الله الذي بعثني به هو الهدى ، يعني هو الدين المستقيم الصحيح الكامل الشامل . { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَآءَهُمْ بَعْدَ الذي جَآءَكَ مِنَ العلم مَا لَكَ مِنَ الله مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ } فيه تهديد شديد ووعيد للأمة في اتباع طرائق اليهود والنصارى ، بعدما علموا من القرآن والسنّة - عياذاً بالله من ذلك - فإن الخطاب مع الرسول والأمر لأمته ، وقد استدل كثير من الفقهاء بقوله : { حتى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ } حيث أفرد الملة على أن الكفر كله ملة واحدة كقوله تعالى : { لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ } [ الكافرون : 6 ] ، فعلى هذا لا يتوارث المسلمون والكفّار ، وكلٌ منهم يرث قرينه سواء كان من أهل دينه أم لا لأنهم كلهم ملة واحدة .
وقوله : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } ، قال قتادة : هم اليهود والنصارى واختاره ابن جرير ، وقال سعيد عن قتادة : هم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال ابن مسعود : والذي نفسي بيده إن حق تلاوته أن يحل حلاله ، ويحرم حرامه ، ويقرأه كما أنزله الله ولا يحرف الكلم عن مواضعه ، ولا يتأول منه شيئاً على غير تأويله ، وقال الحسن البصري : يعملون بمحكمه ويؤمنون بمتشابهه ويكلون ما أشكل عليهم إلى عالمه . وقال سفيان الثوري عن عبد الله بن مسعود في قوله : { يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ } يتبعونه حق اتباعه . وقال أبو موسى الأشعري : من يتبع القرآن يهبط به على رياض الجنة ، وعن عمر بن الخطاب : هم الذين إذا مروا بآية رحمة سألوها من الله ، وإذا مروا بآية عذاب استعاذوا منها . قال : وقد روي هذا المعنى عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان إذا مر بآية رحمة سأل ، وإذا مر بآية عذاب تعوذ .
وقوله : { أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ } خبر أي من أقام كتابه من أهل الكتب المنزلة على الأنبياء المتقدمين حق إقامته آمن بما أرسلتك به يا محمد كما قال تعالى : { وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيهِمْ مِّن رَّبِّهِمْ لأَكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم } [ المائدة : 66 ] الآية . وقال : { قُلْ ياأهل الكتاب لَسْتُمْ على شَيْءٍ حتى تُقِيمُواْ التوراة والإنجيل وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ مِّن رَّبِّكُمْ } [ المائدة : 68 ] ، أي إذا أقمتموها حق الإقامة ، وآمنتم بها حق الإيمان ، وصدقتم ما فيها من الأخبار بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ونعته وصفته ، والأمر باتباعه ونصره ومؤازرته ، قادكم ذلك إلى الحق واتباع الخير في الدنيا والآخرة كما قال تعالى :(1/130)
{ الذين يَتَّبِعُونَ الرسول النبي الأمي الذي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التوراة والإنجيل } [ الأعراف : 157 ] الآية . وقال تعالى : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا يتلى عَلَيْهِمْ قالوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الحق مِن رَّبِّنَآ إنَّا كُنَّا مِن قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ * أولئك يُؤْتُونَ أَجْرَهُم مَّرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُواْ وَيَدْرَؤُنَ بالحسنة السيئة وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ } [ القصص : 52-54 ] .
وقال تعالى : { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ والله بَصِيرٌ بالعباد } [ آل عمران : 20 ] ، ولهذا قال تعالى : { وَمن يَكْفُرْ بِهِ فأولئك هُمُ الخاسرون } ، كما قال تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأحزاب فالنار مَوْعِدُهُ } [ هود : 17 ] .
وفي الصحيح : « والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار » .(1/131)
يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (122) وَاتَّقُوا يَوْمًا لَا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلَا يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلَا تَنْفَعُهَا شَفَاعَةٌ وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)
قد تقدم نظير هذه الآية في صدر السورة .
وكررت هاهنا للتأكيد والحث على اتباع الرسول النبي الأُمي الذي يجدون صفته في كتبهم ونعته واسمه وأمره وأُمّته فحذرهم من كتمان هذا ، وكتمان ما أنعم به عليهم ، وأمرهم أن يذكروا نعمة الله عليهم من النعم الدنيوية والدينية ، ولا يحسدوا بني عمهم من العرب على ما رزقهم الله من إرسال الرسول الخاتم منهم ، ولا يحملهم ذلك الحسد على مخالفته وتكذيبه والحيد عن موافقته ، صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين .(1/132)
وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا قَالَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي قَالَ لَا يَنَالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)
يقول تعالى منبهاً على شرف إبراهيم خليلة عليه السلام ، وأن الله تعالى جعله إماماً للناس يقتدى به في التوحيد ، حين قام به كلّفه الله تعالى به من الأوامر والنواهي ، ولهذا قال : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ } أي واذكر يا محمد لهؤلاء المشركين وأهل الكتابين الذي ينتحلون ملة إبراهيم وليسوا عليها . . . واذكر لهؤلاء ابتلاء الله إبراهيم أي اختباره لهم بما كلفه به من الأوامر والنواهي { فَأَتَمَّهُنَّ } أي قام بهن كلهن كما قالت تعالى { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } [ النجم : 37 ] أي وفى جميع ما شرع له فعمل به صلوات الله عليه . وقال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجتباه وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ النحل : 120-121 ] وقال تعالى : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين * إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين } [ آل عمران : 67-68 ] .
وقوله تعالى { بِكَلِمَاتٍ } أي بشرائع وأوامر ونواه ، { فَأَتَمَّهُنَّ } أي قام بهن ، قال : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } أي جزاء على ما فعل كما قام بالأوامر وترك الزواجر جعله الله للناس قدوة وإماماً يقتدى به ويحتذى حذوه .
وقد اختلف في تعيين الكلمات التي اختبر الله بها إبراهيم الخليل عليه السلام ، فروي عن ابن عباس قال : ابتلاه الله بالمناسك ، وروي عنه قال : ابتلاه بالطهارة خمسٌ في الرأس ، وخمسٌ في الجسد ، في الرأس : قص الشارب والمضمضة والاستنشاق والسواك وفرق الرأس ، وفي الجسد : تقليم الأظفار وحلق العانة والختان ونتف الإبط وغسل أثر الغائط والبول بالماء . وفي الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الفطرة خمس : الختان والاستحداد وقص الشارب وتقليم الأظفار ونتف الإبط » .
وقال عكرمة عن ابن عباس أنه قال : ما ابتلي بهذا الدين أحد فقام به كله إلا إبراهيم ، قال الله تعالى : { وَإِذِ ابتلى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ } ، قلت له : وما الكلمات التي ابتلى الله إبراهيم بهن فأتمهن؟ قال : الإسلام ثلاثون سهماً منها عشر آيات في براءة : { التائبون العابدون } [ الآية : 112 ] إلى آخر الآية ، وعشر آيات في أول سورة { قَدْ أَفْلَحَ المؤمنون } [ المؤمنون : 1 ] وعشر آيات من الأحزاب : { إِنَّ المسلمين والمسلمات } [ الآية : 35 ] إلى آخر الآية فأتمهن كلهن فكتبت له براءة .
قال الله تعالى : { وَإِبْرَاهِيمَ الذي وفى } [ النجم : 37 ] . وقال محمد بن إسحاق عن ابن عباس قال : الكلمات التي ابتلى الله بهن إبراهيم فأتمهن : فراق قومه في الله حين أمر بمفارقتهم ، ومحاجته نمروذ في الله حين وقفه على ما وقفه عليه من خطر الأمر الذي فيه خلافه ، وصبره على قذفه إياه في النار ليحرقوه في الله على هول ذلك من أمرهم ، والهجرة بعد ذلك من ووطنه وبلاده في الله حين أمره بالخروج عنهم ، وما أمر به من الضيافة والصبر عليها بنفسه وماله ، وما ابتلي به من ذبح ابنه حين أمره بذبحه ، فلما مضى على ذلك من الله كله وأخلصه للبلاء قال الله له :(1/133)
{ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } [ البقرة : 131 ] على ما كان من خلاف الناس وفراقهم . وقال ابن جرير : كان الحسن يقول : إي والله ، لقد ابتلاه بأمر فصبر عليه ، ابتلاه بالكوكب والشمس والقمر فأحسن في ذلك ، وعرف أن ربه دائم لا يزول ، فوجه وجهه للذي فطر السماوات والأرض حنيفاً وما كان من المشركين ، ثم ابتلاه بالهجرة فخرج من بلاده وقومه حتى لحق بالشام مهاجراً إلى الله ثم ابتلاه بالنار قبل الهجرة فصبر على ذلك ، وابتلاه بذبح ابنه ، والختان ، فصبر على ذلك . وعن الربيع بن أنس قال : الكلمات { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } ، وقوله : { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً } [ البقرة : 125 ] ، وقوله : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] ، وقوله : { وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } [ البقرة : 125 ] الآية ، وقوله : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ } [ البقرة : 127 ] الآية . قال : فذلك كله من الكلمات التي ابتلي بهن إبراهيم . وفي الموطأ وغيره عن يحيى بن سعيد أنه سمع سعيد بن المسيب يقول : إبراهيم عليه السلام أول من اختتن ، وأول من ضاف الضيف ، وأول من قلم أظفاره ، وأول من قص الشارب ، وأول من شاب . فلما رأى الشيب قال : ما هذا؟ قال : وقار ، قال : يا رب زدني وقاراً .
قال أبو جعفر بن جرير ما حاصله : إنه يجوز أن يكون المراد بالكلمات جميع ما ذكر ، وجاز أن يكون بعض ذلك ، ولا يجوز الجزم بشيء منها أنه المراد على التعيين إلا بحديث أو إجماع . قال : ولم يصح في ذلك خبر بنقل الواحد ولا بنقل الجماعة الذي يجب التسليم له .
ولما جعل الله إبراهيم إماماً سأل الله أن تكون الأئمة من بعده من ذريته فأجيب إلى ذلك ، وأخبر أنه سيكون من ذريته ظالمون وأنه لا ينالهم عهد الله ، ولا يكونون أئمةً فلا يقتدى بهم { قَالَ وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } ، والدليل على أنه أجيب إلى طلبته قوله تعالى في سورة العنكبوت : { وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب } [ الآية : 27 ] فكل نبي أرسله الله ، وكل كتاب أنزه الله بعد إبراهيم ، ففي ذريته صلوات الله وسلامه عليه ، وأما قوله تعالى { قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } فقد اختلفوا في ذلك ، فقال مجاهد : لا يكون إمام ظالم يقتدى به . وعنه قال : أما من كان منهم صالحاً فأجعله إماماً يقتدى به ، وأما من كان ظالماً فلا ولا نعمة عين . وعن ابن عباس قال ، قال الله لإبراهيم : إني جاعلك للناس إماماً ، قال : ومن ذريتي ، فأبى أن يفعل ، ثم قال { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } . وروي عن قتادة في قوله { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } قال : لا ينال عهدُ الله في الآخرة الظالمين ، فأما في الدنيا فقد ناله الظالم فأمن به وأكل وعاش .(1/134)
وقال الربيع بن أنس : عهدُ الله الذي عهد إلى عباده دينهُ ، يقول : لا ينال دينه الظالمين ألا ترى أنه قال : { وَبَارَكْنَا عَلَيْهِ وعلى إِسْحَاقَ وَمِن ذُرِّيَّتِهِمَا مُحْسِنٌ وَظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ مُبِينٌ } [ الصافات : 113 ] يقول ليس كل ذريتك يا إبراهيم على الحق . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } قال : « لا طاعة إلا في المعروف » وقال السُّدي { لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } : يقول عهدي نبوتي . فهذه أقوال مفسري السلف في هذه الآية على ما نقله ابن جرير . وقال ابن خويز منداد : الظالم لا يصلح أن يكون خليفة ولا حاكماً ولا مفتياً ولا شاهداً ولا راوياً .(1/135)
وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ (125) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (126) وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ الْقَوَاعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128)
{ وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ وَأَمْناً واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى . . . } .
عن ابن عباس { وَإِذْ جَعَلْنَا البيت مَثَابَةً لِّلنَّاسِ } قال : يثوبون إليه ثم يرجعون . وحدث عبدة بن أبي لبابة قال : لا ينصرف عنه منصرف وهو يرى أنه قد قضى منه وطراً . قال الشاعر :
جعل البيت مثاباً لهم ... ليس منه الدهرَ يقضون الوَطَر
وقال سعيد بن جبير في الرواية الأُخرى وعكرمة وقتادة { مَثَابَةً لِّلنَّاسِ } : أي مجمعاً { وَأَمْناً } أي أمناً للناس ، وقد كانوا في الجاهلية يتخطف الناس من حولهم وهم آمنون لا يُسبون .
ومضمون هذه الآية أن الله تعالى يذكر شرف البيت ، وما جعله موصوفاً به شرعاً وقدراً من كونه مثابةً للناس ، أي جعله محلاً تشتاق إليه الأرواح وتحنّ إليه ، ولا تقضي منه وطراً ولو ترددت إليه كل عام ، استجابة من الله تعالى لدعاء خليله إبراهيم عليه السلام ، في قوله : { فاجعل أَفْئِدَةً مِّنَ الناس تهوي إِلَيْهِمْ } [ إبراهيم : 37 ] إلى أن قال : { رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَآءِ } [ إبراهيم : 40 ] ، ويصفه تعالى بأنه جعله أمناً من دخله أمن ، ولو كان قد فعل ما فعل ثم دخله كان آمناً . فقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فلا يعرض له . وما هذا الشرف إلا لشرف بانيه أولاً وهو خليل الرحمن كما قال تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً } [ الحج : 26 ] .
وقال تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ * فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 96-97 ] . وفي هذه الآية الكريمة نبّه على مقام إبراهيم مع الأمر بالصلاة عنده ، فقال : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } . وقد اختلف المفسرون في المراد بالمقام ما هو؟ فقال مجاهد عن ابن عباس : مقام إبراهيم الحرم كله ، وقيل : مقام إبراهيم الحج كله ( منى ورمي الجمار والطواف بين الصفا والمروة ) ، وقال سفيان الثوري عن سعيد بن جبير : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } قال : الحجر مقام إبراهيم نبي الله قد جعله الله رحمة فكان يقوم عليه ويناوله إسماعيل الحجارة ، وقال السدي : المقام الحجر الذي وضعته زوجة إسماعيل تحت قدم إبراهيم حتى غسلت رأسه . عن جعفر بن محمد عن أبيه : سمع جابراً يحدث عن حجة النبي صلى الله عليه وسلم قال : لما طاف النبي صلى الله عليه وسلم قال له عمر : هذا مقام أبينا؟ قال : « نعم » ، قال : أفلا نتخذه مصلى؟ فأنزل الله عزّ وجلّ : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقال البخاري : باب قوله { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } مثابة يثوبون : يرجعون . قال عمر بن الخطّاب : وافقت ربي في ثلاث أو وافقني ربي في ثلاث : قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلّى فنزلت { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقلت : يا رسول الله يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أُمهات المؤمنين بالحجاب ، فأنزل الله آية الحجاب .(1/136)
قال : وبلغني معاتبة النبي صلى الله عليه وسلم بعض نسائه فدخلت عليهن فقلت : إن انتهيتن أو ليبدلن الله رسوله خيراً منكن ، حتى أتيت إحدى نسائه قالت : يا عمر أما في رسول الله ما يعظ نساءه حتى تعظهن أنت ، فأنزل الله { عسى رَبُّهُ إِن طَلَّقَكُنَّ أَن يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِّنكُنَّ مُسْلِمَاتٍ } [ التحريم : 5 ] الآية .
وقال أنس : قال عمر رضي الله عنه : وافقت ربي عزّ وجلّ في ثلاث ، قلت : يا رسول الله لو اتخذت من مقام إبراهيم مصلى فنزلت : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } ، وقلت : يا رسول الله إن نساءك يدخل عليهن البر والفاجر فلو أمرتهن أن يحتجبن فنزلت آية الحجاب . واجتمع على رسول الله صلى الله عليه وسلم نساؤه في الغيرة فقلت لهن : عسى ربه إن طلقكن أن يبدله أزواجاً خيرا منكن فنزلت كذلك . ورواه الإمام مسلم بن حجاج في صحيحه بسند آخر ولفظ آخر عن نافع عن ابن عمر عن عمر قال : وافقت ربي في ثلاث : في الحجاب ، وفي أسارى بدر ، وفي مقام إبراهيم .
وروى ابن جريج عن جابر : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رمل ثلاثة أشواط ومشى أربعاً حتى إذا فرغ عمد إلى مقام إبراهيم فصلى خلفه ركعتين ، ثم قرأ : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } وقال ابن جرير عن جابر قال : استلم رسول الله صلى الله عليه وسلم الركن فرمل ثلاثاً ومشى أربعاً ثم نفذ إلى مقام إبراهيم فقرأ : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فجعل المقام بينه وبين البيت فصلى ركعتين وهذا قطعة من الحديث الطويل الذي رواه مسلم في صحيحه . فهذا كلهم مما يدل على أن المراد بالمقام إنما هو الحجر ، الذي كان إبراهيم عليه السلام يقوم عليه لبناء الكعبة ، لما ارتفع الجدار أتاه إسماعيل عليه السلام به ليقوم فوقه ، ويناوله الحجارة فيضعها بيده لرفع الجدار ، وكلما كمل ناحية انتقل إلى الناحية الأُخرى يطوف حول الكعبة وهو واقف عليه كلما فرغ من جدار نقله إلى الناحية التي تليها وهكذا حتى تم جدران الكعبة كما سيأتي بيانه في قصة إبراهيم وإسماعيل وكانت آثار قدميه ظاهرة فيه ، ولم يزل هذا معروفاً تعرفه العرب في جاهليتها ، ولهذا قال أبو طالب في قصيدته المعروفة اللامية :
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافياً غير ناعل
وقد كان هذا المقام ملصقاً بجدار الكعبة قديماً ومكانه معروف اليوم إلى جانب الباب ، مما يلي الحجر يمنة الداخل من الباب ، في البقعة المستقلة هناك ، وكان الخليل عليه السلام لما فرغ من بناء البيت وضعه إلى جدار الكعبة ، أو أنه انتهى عنده البناء فتركه هناك ، ولهذا - والله أعلم - أمر بالصلاة هناك عند الفراغ من الطواف ، وناسب أن يكون عند مقام إبراهيم حيث انتهى بناء الكعبة فيه وإنما أخّره عن جدار الكعبة أميرُ المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، أحد الأئمة المهديين والخلفاء الراشدين ، الذين أمرنا باتباعهم ، وهو أحد الرجلين اللذين قال فيهما رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/137)
« اقتدوا باللذين من بعدي أبي بكر وعمر » ، وهو الذي نزل القرآن بوفاقه في الصلاة عنده ولهذا لم ينكر ذلك أحد من الصحابة رضي الله عنهم أجمعين .
عن عائشة رضي الله عنها أن المقام كان زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان أبي بكر رضي الله عنه ملتصقاً بالبيت ثم أخره عمر بن الخطاب رضي الله عنه . وعن مجاهد قال : قال عمر بن الخطاب : يا رسول الله لو صلّينا خلف المقام ، فأنزل { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } فكان المقام عند البيت فحوَّله رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى موضعه هذا . وهو مخالف لما تقدم أن أول من أخَّر المقام إلى موضعه الآن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، وهذا أصح من طريق ابن مردويه مع اعتضاد هذا بما تقدم ، والله أعلم .
{ . . . وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود * وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير * وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم * رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَآ إِنَّكَ أَنتَ التواب الرحيم } .
قال الحسن البصري : قوله تعالى { وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ } : أمرهما الله أن يطهرهاه من الأذى والنجس ، ولا يصيبه من ذلك شيء . وقال ابن جريج قلت لعطاء ما عهده؟ قال أمره . والظاهر أن هذا الحرف إنما عدّي بإلى لأنه في معنى أوحينا ، قوله : { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين } أي من الأوثان والرفث وقول الزور والرجس . قال مجاهد وعطاء وقتادة : { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ } أي بلا إله إلا الله من الشرك ، وأما قوله تعالى : { لِلطَّائِفِينَ } فالطواف بالبيت معروف ، وعن سعيد بن جبير أنه قال : { لِلطَّائِفِينَ } يعني من أتاه من غربة { والعاكفين } المقيمين فيه . وهكذا روي عن قتادة والربيع بن أنَس أنَّهما فسَّرا العاكفين بأهله المقيمين فيه . وعن ابن عباس قال : إذا كان جالساً فهو من العاكفين ، وعن ثابت قال : قلنا لعبد الله بن عبيد بن عمير ما أراني إلا مكلم الأمير أن امنع الذين ينامون في المسجد الحرام فإنهم يجنبون ويحدثون قال : لا تفعل فإن ابن عمر سئل عنهم فقال : هم العاكفون .(1/138)
( قلت ) : وقد ثبت في الصحيح أن ابن عمر كان ينام في مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم وهو عزب ، وأما قوله تعالى : { والركع السجود } فقال عطاء عن ابن عباس إذا كان مصلياً فهو من الركع السجود .
قال ابن جرير رحمه الله فمعنى الآية : وأمرنا إبراهيم وإسماعيل بتطهير بيتي للطائفين ، والتطهيرُ الذي أمرهما به في البيت هو تطهيره من الأصنام وعبادة الأوثان فيه ومن الشرك ، فإن قيل : فهل كان قبل بناء إبراهيم عند البيت شيء من ذلك الذي أمر بتطهيره منه؟ فالجواب من وجهين : ( أحدهما ) : أنه أمرهما بتطهيره مما كان يعبد عنده زمان قوم نوح من الأصنام والأوثان ، ليكون ذلك سنة لمن بعدهما إذ كان الله تعالى قد جعل إبراهيم إماماً يقتدى به . ( قلت ) : وهذا الجواب مفرّعٌ على أنه كان يعبد عنده أصنام قبل إبراهيم عليه السلام ، ويحتاج إثبات هذا إلى دليل عن المعصوم محمد صلى الله عليه وسلم . ( الثاني ) : أنه أمرهما أن يخلصا في بنائه لله وحده لا شريك له فيبنياه مطهراً من الشرك والريب ، كما قال جلّ ثناؤه : { أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على تقوى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ على شَفَا جُرُفٍ هَارٍ } [ التوبة : 109 ] ؟ قال فكذلك قوله : { وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ } أي ابنياه على طهر من الشرك بي والريب ، وملخص هذا الجواب أن الله تعالى أمر إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام أن يبنيا الكعبة على اسمه وحده لا شريك له ، للطائفين به والعاكفين عنده والمصلين إليه من الركع السجود كما قال تعالى : { وَإِذْ بَوَّأْنَا لإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ البيت أَن لاَّ تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّآئِفِينَ والقآئمين والركع السجود } [ الحج : 26 ] الآيات .
وقد اختلف الفقهاء أَيَّمَا أفضل الصلاة عند البيت أو الطواف به؟ فقال مالك رحمه الله : الطواف به لأهل الأمصار أفضل ، وقال الجمهور : الصلاة أفضل مطلقاً ، وتوجيه كل منهما يذكر في كتاب الأحكام ، والمراد من ذلك الرد على المشركين ، الذين كانوا يشركون بالله عند بيته ، المؤسس على عبادته وحده لا شريك له ، ثم مع ذلك يصدون أهله المؤمنين عنه كما قال تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله والمسجد الحرام الذي جَعَلْنَاهُ لِلنَّاسِ سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] ، ثم ذكر أن البيت إنما أسس لمن يعبد الله وحده لا شريك له ، إما بطواف أو صلاة ، فذكر في سورة الحج أجزاءها الثلاثة ( قيامها وركوعها وسجودها ) ولم يذكر العاكفين لأنه تقدم { سَوَآءً العاكف فِيهِ والباد } [ الحج : 25 ] ، وفي هذه الآية الكريمة ذكر الطائفين والعاكفين ، واكتفى بذكر الركوع والسجود عن القيام ، لأنه قد علم أنه لا يكون ركوع ولا سجود إلا بعد قيام ، وفي ذلك أيضاً رد على من لا يحجه من أهل الكتابين ( اليهود والنصارى ) لأنهم يعتقدون فضيلة إبراهيم الخليل وإسماعيل ويعلمون أنه بنى هذا البيت للطواف في الحج والعمرة وهم لا يفعلون شيئاً من ذلك ، فكيف يكونون مقتدين بالخليل وهم لا يفعلون ما شرع الله له؟ وقد حج البيت موسى بن عمران وغيره من الأنبياء عليهم الصلاة والسلام كما أخبر بذلك المعصوم الذي لا ينطق عن الهوى(1/139)
{ إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يوحى } [ النجم : 4 ] .
وتقدير الكلام إذن : { وَعَهِدْنَآ إلى إِبْرَاهِيمَ } أي تقدمنا بوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل { أَن طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ والعاكفين والركع السجود } أي طهراه من الشرك والريب وابنياه خالصاً لله معقلاً للطائفين والعاكفين والركع السجود . وتطهير المساجد مأخوذ من هذه الآية الكريمة ومن قوله تعالى : { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ الله أَن تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسمه يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بالغدو والآصال } [ النور : 36 ] ، ومن السنّة من أحاديث كثيرة من الأمر بتطهيرها وتطييبها وغير ذلك من صيانتها من الأذى والنجاسات وما أشبه ذلك . ولهذا قال عليه السلام : « إنما بنيت المساجد لما بنيت له » ، وقد جمعت في ذلك جزءاً على حدة ولله الحمد والمنة . وقد اختلف الناس في أول من بنى الكعبة؟ فقيل : الملائكة قبل آدم ذكره القرطبي وحكى لفظه وفيه غرابة ، وقيل آدم عليه السلام رواه عطاء وسعيد بن المسيب وهذا غريب أيضاً . وروي عن ابن عباس وكعب الأحبار أن أول من بناه شيث عليه السلام ، وغالب من يذكر هذا إنما يأخذه من كتب أهل الكتاب وهي مما لا يصدق ولا يكذب ولا يعتمد عليها بمجردها . وأما إذا صح حديث في ذلك فعلى الرأس والعين .
وقوله تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر } قال ابن جرير عن جابر بن عبد الله : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن إبراهيم حرَّم بيت الله وأَمَّنه ، وإني حرمت المدينة وما بين لابتيها ، فلا يصاد صيدها ولا يقطع عضاهها » عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : كان الناس إذا رأوا أول الثمر جاءوا به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا أخذه رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اللهم بارك لنا في ثمرنا ، وبارك لنا في مدينتنا ، وبارك لنا في صاعنا ، وبارك لنا في مُدّنا ، اللهم إن إبراهيم عبدك وخليلك ونبيك ، وإني عبدك ونبيك وإنه دعاك لمكة ، وإني أدعوك للمدينة بمثل ما دعاك لمكة ومثله معه » ثم يدعو أصغر وليد له فيعطيه ذلك الثمر . وفي الصحيحين عن أنس بن مالك قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي طلحة : « التمس لي غلاماً من غلمانكم يخدمني » ، فخرج بي أبو طلحة يردفني وراءه ، فكنت أخدم رسول الله صلى الله عليه وسلم كلما نزل .(1/140)
وقال في الحديث : ثم أقبل حتى بدا له أحد قال : « هذا جبلٌ يحبنا ونحبه » فلما أشرف على المدينة قال : « اللهم إني أحرم ما بين جبليها مثل ما حرم به إبراهيم مكة ، اللهم بارك لهم في مدهم وصاعهم » ، وفي لفظ لهما : « اللهم بارك لهم في مكيالهم وبارك لهم في مدهم » زاد البخاري يعني : أهل المدينة . وعن أنَس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « اللهم اجعل بالمدينة ضعفي ما جعلته بمكة من البركة » وعن أبي سعيد رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « اللهم إن إبراهيم حرم مكة فجعلها حراماً ، وإني حرمت المدينة حراماً ما بين مأزميها ، أن لا يهراق فيها دم ، ولا يحمل فيها سلاح لقتال ، ولا يخبط فيها شجرة إلا لعلف ، اللهم بارك لنا في مدينتنا ، اللهم بارك لنا في صاعنا ، اللهم بارك لنا في مُدّنا اللهم اجعل مع البركة بركتين » ، والأحاديث في تحريم المدينة كثيرة وإنما أوردنا منها ما هو متعلق بتحريم إبراهيم عليه السلام لمكة لما في ذلك من مطابقة الآية الكريمة ، وتمسك بها من ذهب إلى أن تحريم مكة إنما كان على لسان إبراهيم الخليل ، وقيل : إنها محرمة منذ خلقت مع الأرض ، وهذا أظهر وأقوى والله أعلم .
وقد وردت أحاديث أُخر تدل على أن الله تعالى حرّم مكة قبل خلق السماوات والأرض كما جاء في الصحيحين عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : « إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلا من عرّفها ولا يختلى خلاها » ، فقال العباس : يا رسول الله الإذخر فإنه لقَيْنهم ولبيوتهم ، فقال : « إلا الإذخر » وعن أبي شريح العدوي أنه قال لعمرو بن سعيد - وهو يبعث البعوث إلى مكة - ائذن لي أيها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح ، سمعْته أذناي ، ووعاه قلبي ، وأبصرته عيناي حين تكلم به ، إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : « إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس ، فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ، ولا يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخَّص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إنَّ الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس ، ليبلغ الشاهد الغائب »(1/141)
، فقيل لأبي شريح ما قال لك عمرو؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فاراً بخربة .
فإذا علم هذا فلا منافاة بين هذه الأحاديث ، الدالة على أن الله حرم مكة يوم خلق السماوات والأرض ، وبين الأحاديث الدالة عى أن إبراهيم عليه السلام حرمها ، لأن إبراهيم بلّغ عن الله حكمه فيها ، وتحريمه إياها وأنها لم تزل بلداً حراماً عند الله قبل بناء إبراهيم عليه السلام لها ، كما أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مكتوباً عند الله خاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته ، ومع هذا قال إبراهيم عليه السلام : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ البقرة : 129 ] وقد أجاب الله دعاءه بما سبق في علمه وقدره .
وأما مسألة تفضيل مكة على المدينة كما هو قول الجمهور ، أو المدينة على مكة كما هو مذهب مالك وأتباعه ، فتذكر في موضع آخر بأدلتها إن شاء الله وبه الثقة . وقوله تعالى إخباراً عن الخليل : { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } أي من الخوف أي لا يرعب أهله ، وقد فعل الله ذلك شرعاً وقدراً كقوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } [ آل عمران : 97 ] ، وقوله : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] إلى غير ذلك من الآيات وقد تقدمت الأحاديث في تحريم القتال فيه ، وفي صحيح مسلم عن جابر سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يحل لأحد أن يحمل بمكة السلاح » ، وقال في هذه السورة : { رَبِّ اجعل هذا بَلَداً آمِناً } أي اجعل هذه البقعة بلداً آمناً وناسب هذا لأنه هذا هناك لأنه - والله أعلم - كأنه وقع دعاء مرة ثانية بعد بناء البيت واستقرار أهله به ، وبعد مولد إسحاق الذي هو أصغر سناً من إسماعيل بثلاث عشرة سنة ، ولهذا في آخر الدعاء : { الحمد للَّهِ الذي وَهَبَ لِي عَلَى الكبر إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدعآء } [ إبراهيم : 39 ] .
وقوله تعالى : { وارزق أَهْلَهُ مِنَ الثمرات مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بالله واليوم الآخر قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير } . قال أبو جعفر الرازي عن أُبيّ بن كعب { قَالَ وَمَن كَفَرَ } الآية هو قول الله تعالى . وهذا قول مجاهد وعكرمة وهو الذي صوبه ابن جرير رحمه الله ، قال : وقرأ آخرون : { قَالَ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير } فجعلوا ذلك من تمام دعاء إبراهيم . قال ابن عباس : « كان إبراهيم يحجرها على المؤمنين دون الناس ، فأنزل الله ومن كفر أيضاً أرزقهم كما أرزق المؤمنين ، أأخلق خلقاً لا أرزقهم؟ أمتعهم قليلاً ثم اضطرهم إلى عذاب النار وبئس المصير » ثم قرأ ابن عباس :(1/142)
{ كُلاًّ نُّمِدُّ هؤلاء وهؤلاء مِنْ عَطَآءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَآءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً } [ الإسراء : 20 ] ، وهذا كقوله تعالى : { إِنَّ الذين يَفْتَرُونَ عَلَى الله الكذب لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ يونس : 69-70 ] ، وكقوله تعالى : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] ، وقوله : { ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير } أي ثم ألجئه بعد متاعه في الدنيا ، وبسطنا عليه من ظلها { إلى عَذَابِ النار وَبِئْسَ المصير } ومعناه أن الله تعالى يُنْظرهم ويمهلهم ثم يأخذهم أخذ عزيز مقتدر كقوله تعالى : { وَكَأَيِّن مِّن قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَهَا وَهِيَ ظَالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُهَا وَإِلَيَّ المصير } [ الحج : 48 ] وفي الصحيح : « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » ، ثم قرأ تعالى : { وكذلك أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ القرى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ } [ هود : 102 ] .
وأما قوله تعالى : { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } فالقواعد جمع قاعدة ، وهي السارية والأساس ، يقول تعالى : واذكر يا محمد لقومك بناء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام البيت ، ورفعهما القواعد منه وهما يقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } فهما في عمل صالح وهما يسألان الله تعالى أن يتقبل منهما ، وقال بعض المفسِّرين : الذي كان يرفع القواعدَ هو إبراهيم ، والداعي إسماعيل ، والصحيحُ أنهما كانا يرفعان ويقولان كما سيأتي بيانه . وقد روى البخاري عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : أول ما اتخذ النساء المِنْطَق من قبل أم إسماعيل ، اتخذت منطقاً لتعفي أثرها على سارة ، ثم جاء بها إبراهيم وبإبنها إسماعيل وهي ترضعه حتى وضعهما عند البيت ، عند دوحة فوق زمزم في أعلى المسجد وليس بمكة يومئذٍ أحد وليس بها ماء ، فوضعهما هنالك ووضع عندها جِراباً فيه تمر ، وسقاء فيه ماء ، ثم قفّى إبراهيم منطلقاً فتبعته إم إسماعيل فقالت : يا إبراهيم أين تذهب وتتركنا بهذا الوادي الذي ليس فيه أنيس ولا شيء؟ فقالت له ذلك مراراً وجعل لا يلتفت إليها ، فقالت : آلله أمرك بهذا؟ قال : نعم ، قالت : إذاً لا يضيعنا ، ثم رجعت . فانطلق إبراهيم حتى إذا كان عند الثنية حيث لا يرونه استقبل بوجهه البيت ، ثم دعا بهذه الدعوات ورفع يديه فقال : { رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم } [ إبراهيم : 37 ] حتى بلغ { يَشْكُرُونَ } [ إبراهيم : 37 ] .
وجعلت أم إسماعيل ترضع إسماعيل وتشرب من ذلك الماء ، حتى إذا نفذ ما في السقاء عطشت وعطش ابنُّها ، وجعلت تنظر إليه يتلوّى - أو قال يتلبط - فانطلقت كراهية أن تنظر إليه ، فوجدت الصفا أقرب جبل في الأرض يليها ، فقامت عليه ثم استقبلت الوادي تنظر هل ترى أحداً فلم تر أحداً ، فهبطت من الصفا حتى إذا بلغت الوادي رفعت طرف درعها ، ثم سعت سعي الإنسان المجهود حتى جاوزت الوادي ، ثم أتت المروة فقامت عليها فنظرت هل ترى أحداً ، فلم تر أحداً ففعلت ذلك سبع مرات ، قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم :(1/143)
« فلذلك سعى الناس بينهما » ، فلما أشرفت على المروة سمعت صوتاً فقالت : « صه » - تريد نفسها - ثم تسمَّعت فسمعت أيضاً ، فقالت : قد أسمعت إن كان عندك غواث فإذا هي بالمَلَك عند موضع زمزم ، فبحث بعقبه - أو قال بجناحه - حتى ظهر الماء ، فجعلت تحوضه وتقول بيدها هكذا وجعلت تغرف من الماء في سقائها وهو يفور بعد ما تغرف ، قال ابن عباس : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « يرحم الله أم إسماعيل لو تركت زمزم - أو قال لو لم تغرف من الماء - لكانت زمزم عيناً معيناً » .
قال : فشربت وأرضعت ولدها ، فقال لها الملك : لا تخافي الضيعة فإن هاهنا بيتاً لله يبنيه هذا الغلام وأبوه ، وإن الله لا يضيّع أهله ، وكان البيت مرتفعاً من الأرض كالرابية ، تأتيه السيول فتأخذ عن يمينه وشماله ، فكانت كذلك حتى مرت بهم رفقة من جرهم ، أو أهل بيت من جرهم مقبلين من طريق كداء ، فنزلوا في اسفل مكة فرأوا طائراً عائفاً ، فقالوا : إن هذا الطائر ليدور على ماء ، لعهدنا بهذا الوادي وما فيه ماء ، فأرسلوا جرياً أو جريين فإذا هم بالماء فرجعوا فأخبروهم بالماء ، فأقبلوا ، قال : وأُم إسماعيل عند الماء ، فقالوا : أتأذنين لنا أن ننزل عندك؟ قالت : نعم ولكن لا حق لكم في الماء عندنا ، قالوا : نعم ، قال ابن عباس قال النبي صلى الله عليه وسلم : « فألقى ذلك أُم إسماعيل وهي تحب الأنس » ، فنزلوا وأرسلوا إلى أهليهم فنزلوا معهم حتى إذا كان بها أهل أبيات منهم ، وشب الغلام وتعلم العربية منهم وأنفَسَهم وأعجبهم حين شب ، فلما أدرك زوَّجوه امرأة منهم .
وماتت ( أُم إسماعيل ) فجاء إبراهيم بعد ما تزوج إسماعيل يطالع تركته فلم يجد إسماعيل ، فسأل امرأته عنه فقالت : خرج يبتعي لنا ، ثم سألها عن عيشهم وهيئتهم فقالت : نحن بشرٍّ ، نحن في ضيق وشدة فشكت إليه ، قال : إذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام وقولي له يغيِّر عتبةَ بابه فلما جاء إسماعيل كأنه أنس شيئاً فقال : هل جاءكم من أحد؟ قالت : نعم جاءنا شيخ كذا وكذا فسألنا عنك فأخبرته وسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أننا في جهد وشدة ، قال : فهل أوصاك بشيء؟ قالت : نعم أمرني أن أقرأ عليك السلام ويقول غيِّرْ عتبة بابك ، قال : ذاك أبي وقد أمرني أن أُفارقك فالحقي بأهلك ، وطلَّقها وتزوج منهم بأُخرى . فلبث عنهم إبراهيم ما شاء الله ثم أتاهم بعد فلم يجده فدخل على امرأته فسألها عنه فقالت : خرج يبتغي لنا ، قال : كيف أنتم؟ وسألها عن عيشهم وهيئتهم ، فقالت : نحن بخير وسعة ، وأثنت على الله عزّ وجلّ ، قال : ما طعامكم؟ قالت : اللحم ، قال : فما شرابكم؟ قالت : الماء ، قال : اللهم بارك لهم في اللحم والماء ، قال النبي صلى الله عليه وسلم :(1/144)
« ولم يكن لهم يومئذٍ حَب ولو كان لهم لدعا لهم فيه » ، قال : فهما لا يخلو عليهما أحد بغير مكة إلا لم يوافقاه ، قال : فإذا جاء زوجك فاقرئي عليه السلام ومريه يثبِّت عتبة بابه ، فلما جاء إسماعيل قال : هل أتاكم من أحد؟ قالت : نعم أتانا شيخ حسن الهيئة وأثنت عليه ، فسألني عنك فأخبرته فسألني كيف عيشنا؟ فأخبرته أنَّا بخير ، قال : فأوصاك بشيء؟ قالت : نعم هو يقرأ عليك السلام ويأمرك أن ثبِّت عتبة بابك ، قال : ذاك أبي وأنت العتبة أمرني أن أمسكك . ثم لبث عنهم ما شاء الله ثم جاء بعد ذلك وإسماعيل يبري نبلاً له تحت دوحة ، قريباً من زمزم ، فلما رآه قام إليه وصنعا كما يصنع الوالد بالولد والولد بالوالد ، ثم قال : يا إسماعيل إن الله أمرني بأمر قال : فاصنع ما أمرك ربك ، قال : وتعينني؟ قال : وأعينك ، قال : فإن الله أمرني أن أبني هاهنا بيتاً ، وأشار إلى أكمة مرتفعة على ما حولها قال : فعند ذلك رفعا القواعد من البيت ، فجعل إسماعيل يأتي بالحجارة وإبراهيم يبني حتى إذا ارتفع البناء جاء بهذا الحجر فوضعه له فقام عليه ، وهو يبني وإسماعيل يناوله الحجارة وهما يقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } . قال : فجعلا يبنيان حتى يدورا حول البيت وهما يقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } .
ثم قال البخاري : حدثنا عبد الله بن محمد أخبرنا أبو عامر عبد الملك بن عمرو ، أخبرنا إبراهيم بن نافع عن كثير بن كثير عن سعيد بن جبير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : « لما كان بين إبراهيم وبين أهله ما كان خرج بإسماعيل وأم إسماعيل ومعهم شنة فيها ماء فجعلت أُم إسماعيل تشرب من الشنة فيدر لبنها على صبيها حتى قدم مكة فوضعهما تحت دوحة ثم رجع إبراهيم إلى أهله ، فاتبعته أم إسماعيل حتى بلغوا كداء نادته من ورائه : يا إبراهيم إلى من تتركنا؟ قال : إلى الله ، قالت : رضيت بالله . قال : فرجعت تشرب من الشنة ويدر لبناها على صبيها حتى لما فني الماء . قالت : لو ذهبت فنظرت لعلي أحس أحداً ، فذهبت فصعدت الصفا . فنظرت هل تحس أحداً؟ فلم تحس أحداً ، فلما بلغت الوادي سعت حتى أتت المروة وفعلت ذلك أشواطاً حتى أتمت سبعاً ، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل الصبي ، فذهبت فنظرت فإذا هو على حاله كأنه ينشغ للموت فلم تقرها نفسها ، فقالت : لو ذهبت فنظرتُ لعلي أحس أحداً ، فذهبت فصعدت الصفا ، فنظرت ونظرت فلم تحس أحداً حتى أتمت سبعاً ، ثم قالت : لو ذهبت فنظرت ما فعل ، فإذا هي بصوت فقالت : أغث إن كان عندك خير ، فإذا جبريل عليه السلام قال : فقال بعقبه هكذا وغمز عقبه على الأرض ، قال : فانبثق الماء .(1/145)
فدهشت أم إسماعيل فجعلت تحفر قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : « لو تركته لكان الماء ظاهراً » ، قال : فجعلت تشرب من الماء ويدرُّ لبنها على صبيها . قال : فمرّ ناس من جرهم ببطن الوادي فإذا هم بطير كأنهم أنكروا ذلك ، وقالوا : ما يكون الطير إلا على ماء ، فبعثوا رسولهم فنظر فإذا هو بالماء فأتاهم فأخبرهم ، فأتوا إليها فقالوا : يا أم إسماعيل أتاذنين لنا أن نكون معك ونسكن معك؟
فبلغ ابنها ونكح منهم امرأة . قال : ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم فقال لأهله : إني مطلع تركتي ، قال : فجاءهم فسلّم فقال : أين إسماعيل؟ قالت امرأته : ذهب يصيد ، قال : قولي له إذا جاء غيِّرْ عتبةَ بابك ، فلما أخبرته قال : أنتِ ذاك فاذهبي إلى أهلك ، قال : ثم إنه بدا لإبراهيم فقال : إني مطلع تركتي ، قال فجاء فقال : أين إسماعيل؟ فقالت امرأته : ذهب يصيد ، فقالت : ألا تنزل فتطعم وتشرب؟ فقال : ما طعامكم وما شرابكم؟ قالت : طعامنا اللحم وشرابنا الماء . قال : اللهم بارك لهم في طعامهم وشرابهم . قال : فقال أبو القاسم صلى الله عليه وسلم : « بركة بدعوة إبراهيم » قال : ثم إنه بدا لإبراهيم صلى الله عليه وسلم ، فقال لأهله : إني مطلع تركتي فجاء فوفق إسماعيل من وراء زمزم يصلح نبلاً له ، فقال : يا إسماعيل إن ربك عزّ وجلّ أمرني أن أبني له بيتاً ، فقال : أطع ربك عزّ وجلّ ، قال : إنه أمرني أن تعينني عليه ، فقال : إذن افعل - أو كما قال - فقام فجعل إبراهيم يبني وإسماعيل يناوله الحجارة ، ويقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } قال : حتى ارتفع البناء ، وضعف الشيخ عن نقل الحجارة ، فقام على حجر المقام ، فجعل يناوله الحجارة ويقولان : { رَبَّنَا تَقَبَّلْ مِنَّآ إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } .
قال محمد بن إسحاق عن مجاهد وغيره من أهل العلم : إن الله بوأ إبراهيم مكان البيت ، خرج إليه من الشام وخرج معه إسماعيل وأُمه هاجر ، وإسماعيل طفل صغير يرضع ، ومعه جبريل يدله على موضع البيت ومعالم الحرم ، فكان لا يمر بقرية إلا قال : أبهذه أُمرتُ يا جبريل؟ فيقول جبريل : امضه ، حتى قدم به مكة وهي إذ ذاك عضاه ( سلم وسمر ) وبها أناس يقال لهم العماليق خارج مكة وما حولها ، والبيت يومئذٍ ربوة حمراء مدرة ، فقال إبراهيم لجبريل : أهاهنا أمرت أن أضعهما؟ قال : نعم ، فعمد بهما إلى موضع الحجر فأنزلهما فيه ، وأمر ( هاجر ) أُم إسماعيل أن تتخذ فيه عريشاً فقال :(1/146)
{ رَّبَّنَآ إني أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ المحرم } [ إبراهيم : 37 ] إلى قوله : { لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [ إبراهيم : 37 ] . وقال عبد الرزاق عن مجاهد : خلق الله موضع هذا البيت قبل أن يخلق شيئاً بألفي سنة وأركانه في الأرض السابعة .
وقال البخاري رحمه الله قوله تعالى { وَإِذْ يَرْفَعُ إِبْرَاهِيمُ القواعد مِنَ البيت وَإِسْمَاعِيلُ } الآية : القواعد أساسه ، واحدها قاعدة ، والقواعد من النساء واحدتها قاعدة ، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ألم تريْ أن قومك حين بنوا البيت اقتصروا عن قواعد إبراهيم؟ » فقلت : يا رسول الله ألا تردها على قواعد إبراهيم؟ قال : « لولا حدثان قومك بالكفر » ، فقال عبد الله بن عمر : لئن كانت عائشة سمعت هذا من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ترك استلام الركنين اللذين يليان الحجر ، إلا أن البيت لم يتمم على قواع إبراهيم عليه السلام . ورواه مسلم أيضاً من حديث نافع عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لولا أن قومك حديثو عهد بجاهلية - أو قال بكفر - لأنفقت كنز الكعبة في سبيل الله ولجعلت بابها بالأرض ، ولأدخلت فيها الحِجْر » .
( ذكر بناء قريش الكعبة بعد إبراهيم الخليل عليه السلام وقبل مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم بخمس سنين )
وقد نقل معهم الحجارة وله من العمر خمس وثلاثون سنة صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين . قال محمد بن إسحاق في السيرة : ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم خمساً وثلاثين سنة ، اجتمعت قريش لبنيان الكعبة وكانوا يهابون هدمها ، وإنما كانت رضماً فوق القامة ، فأرادوا رفعها وتسقيفها ، وذلك أن نفراً سرقوا كنز الكعبة . وكان البحر قد رمى بسفينة إلى جدة لرجل من تجار الروم فتحطمت ، فأخذوا خشبها فأعدوه لتسقيفها ، وكان بمكة رجل قبطي نجار فهيأ لهم في أنفسهم بعض ما يصلحها ، وكانت حية تخرج من بئر الكعبة فتشرف على جدار الكعبة وكانت مما يهابون ، وذلك أنه كان لا يدنو منها أحد إلا احزأَلَّت وكشت وفتحت فاها فكانوا يهابونها ، فبينا هي يوماً تشرف على جدار الكعبة كما كانت تصنع ، بعث الله إليها طائراً فاختطفها فذهب بها ، فقالت قريش : إنّا لنرجو أن يكون الله قد رضي ما أردنا ، عندنا عامل رفيق وعندنا خشب وقد كفانا الله الحية ، فلما أجمعوا أمرهم في هدمها وبنيانها قام ابن وهب بن عمرو بن عائذ فتناول من الكعبة حجراً فوثب من يده حتى رجع إلى موضعه ، فقال : يا معشر قريش لا تدخلوا في بنيانها من كسبكم إلا طيباً ، لا يدخل فيها مهر بغي ، ولا بيع ربا ، ولا مظلمة أحد من الناس .(1/147)
ثم إن قريشاً تجزأت الكعبة فكان شق الباب لبني عبد مناف وزهرة ، وكان ما بين الركن الأسود والركن اليماني لبني مخزوم وقبائل من قريش انضموا إليهم ، وكان ظهر الكعبة لبني جمح وسهم ، وكان شق الحجر لبني عبد الدار بن قصي ولبني أسد بن عبد العزى بن قصي ولبني عدي بن كعب بن لؤي وهو الحطيم ، ثم إن الناس هابوا هدمها وفرقوا منه ، فقال الوليد بن المغيرة : أنا أبدؤكم في هدمها ، فأخذ المعول ثم قام عليها وهو يقول : اللهم لم ترع ، اللهم إنا لا نريد إلا الخير ، ثم هدم من ناحية الركنين ، فتربص الناس تلك الليلة وقالوا : ننظر فإن أُصيب لم نهدم منها شيئاً ، ورددناها كما كانت ، وإن لم يصبه شيء فقد رضي الله ما صنعنا ، فأصبح الوليد من ليلته غادياً على عمله . فهدم ، وهدم الناس معه حتى انتهى الهدم بهم إلا الأساس - أساس إبراهيم عليه السلام - أفضوا إلى حجارة خضر كالأسنة آخذ بعضها بعضاَ . قال : فحدثني بعض من يروي الحديث : أن رجلاً من قريش ممن كان يهدمها أدخل عتلة بين حجرين منها ليقلع بها أيضاً أحدهما فلما تحرك الحجر انتفضت مكة بأسرها فانتهوا عن ذلك الأساس .
قال ابن إسحاق : ثم إن القبائل من قريش جمعت الحجارة لبنائها ، كل قبيلة تجمع على حدة ، ثم بنوها حتى بلغ البنيان موضع الركن يعني ( الحجر الأسود ) فاختصموا فيه ، كل قبيلة تريد أن ترفعه إلى موضعه دون الأُخرى ، حتى تحاوروا وتخالفوا وأعدوا للقتال ، فقربت بنو عبد الدار جفنة مملوءة دماً ، ثما تعاقدوا هم وبنوا عدي بن كعب بن لؤي على الموت وأدخلوا إيديهم في ذلك الدم في تلك الجفنة فسموا « لَعَقةَ الدم » ، فمكثت قريش على ذلك أربع ليال أو خمساً ، ثم إنهم اجتمعوا في المسجد فتشاوروا وتناصفوا ، فزعم بعض أهل الرواية أن أبا أمية بن المغيرة - وكان عامئذٍ أسنَّ قريش كلهم - قال : يا معشر قريش اجعلوا بينكم فيما تختلفون فيه أول من يدخل من باب هذا المسجد ، يقضي بينكم فيه ففعلوا ، فكان أول داخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رأوه قالوا : هذا الأمين رضينا . . . هذا محمد ، فلما انتهى إليهم وأخبروه الخبر قال صلى الله عليه وسلم : « هلمَّ إليَّ بثوب ، فأُتي به ، فأخذ الركن - يعني الحجر الأسود - فوضعه فيه بيده ثم قال : » لتأخذ كل قبيلة بناحية من الثوب ثم ارفعوه جميعاً ، ففعلوا حتى إذا بلغوا به موضعه ، وضعه هو بيده صلى الله عليه وسلم ، ثم بنى عليه ، وكانت قريش تسمي رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن ينزل عليه الوحي ( الأمين ) « .(1/148)
قال ابن إسحاق : وكانت الكعبة على عهد النبي صلى الله عليه وسلم ثماني عشر ذراعاً ، وكان تكسى القباطي ، ثم كسيت بعدُ البرود ، وأول من كساها الديباج الحجّاج بن يوسف . ( قلت ) : ولم تزل على بناء قريش حتى احترقت في أول إمارة عبد الله بن الزبير بعد سنة ستين وفي آخر ولاية يزيد بن معاوية لما حاصروا ابن الزبير ، فحينئذ نقضها ( ابن الزبير ) إلى الأرض وبناها على قواعد إبراهيم عليه السلام ، وأدخل فيها الحجر وجعل لها باباً شرقياً وباباً غربياً ملصقين بالأرض كما سمع ذلك من خالته عائشة أم المؤمنين عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . ولم تزل كذلك مدة إمارته حتى قتله الحجّاج ، فردّها إلى ما كانت عليه بأمر عبد الملك بن مروان له بذلك ، كما قال مسلم عن عطاء : « لمَّا احترق البيت زمن ( يزيد بن معاوية ) حين غزاها أهل الشام فكان من أمره ما كان تركه ابن الزبير ، حتى قدم الناس الموسم يريد أن يحزبهم أو يجيروهم على أهل الشام ، فلما صدر الناس قال : يا أيها الناس أشيروا عليّ في الكعبة أنقضها ثم أبني بناءها أو أصلح ما وهَى منها؟ قال ابن عباس : إنه قد خرق لي رأي فيها أرى أن تصلح ما وهَى منها وتدع بيتاً أسلم الناس عليه ، وأحجاراً أسلم الناس عليها النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال ابن الزبير : لو كان أحدهم احترق بيته ما رضي حتى يجدِّده فكيف بيت ربكم عزّ وجلّ؟ إني مستخير ربي ثلاثاً ثم عازم على أمري . فلما مضت ثلاث أجمع رأيه على أن ينقضها ، فتحاماها الناس أن ينزل بأول الناس يصعد فيه أمر من السماء حتى صعده رجل فألقى منه حجارة . فلما لم يره الناس أصابه شيء تتابعوا فنقضوه حتى بلغوا به الأرض . فجعل ابن الزبير أعمدة يستر عليها الستور حتى ارتفع بناؤه . وقال ابن الزبير : إني سمعت عائشة رضي الله عنها تقول : إن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » لولا أن الناس حديثٌ عهدهم بكفر وليس عندي من النفقة ما يقويني على بنائه لكنت أدخلت فيه من الحجر خمسة أذرع ولجعلت له باباً يدخل الناس منه ، وباباً يخرجون منه « ، قال : فأنا أجد ما أنفق ولست أخاف الناس . قال : فزاد خمسة أذرع من الحجر حتى أبدى له أساً فنظر الناس إليه فبنى عليه البناء ، وكان طول الكعبة ثمانية عشر ذراعاً ، فلما زاد فيه استقصره فزاد في طوله عشرة أذرع وجعل له بابين أحدهما يدخل منه ، والآخر يخرج منه . فلما قُتِلَ ابن الزبير كتب الحجّاج إلى عبد الملك يستجيزه بذلك ، ويخبره أن ابن الزبير قد وضع البناء على أسٍّ نظر إليه العدول من أهل المكة .(1/149)
فكتب إليه عبد الملك : إنا لسنا من تلطيخ ابن الزبير في شيء ، أما ما زاده في طوله فأقره ، وأما ما زاد فيه من الحِجْر فردّه إلى بنائه وسد الباب الذي فتحه ، فنقضه وأعاده إلى بنائه « .
وقد كانت السُنَّة إقرار ما فعله عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما لأنه هو الذي ودّه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولكن خشي أن تنكره قلوب بعض الناس لحداثة عهدهم بالإسلام وقرب عهدهم من الكفر ، ولكن خفيت هذه السنة على ( عبد الملك بن مروان ) ولهذا لما تحقق ذلك عن عائشة أنها روت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » وددنا أنا تركناه وما تولى . فدل هذا على صواب ما فعله ابن الزبير فلو ترك لكان جيداً .
ولكن بعدما رجع الامر إلى هذا الحال فقد كره بعض العلماء أن يغيَّر عن حاله ، كما ذكر عن أمير المؤمنين هارون الرشيد أو أبيه المهدي ، أنه سأل الإمام مالكاً عن هدم الكعبة وردها إلى ما فعله ابن الزبير ، فقال له مالك : يا أمير المؤمنين لا تجعل كعبة الله ملعبة للملوك لا يشاء أحد أن يهدمها إلا هدمها!! فترك ذلك الرشيد ، نقله عياض والنووي . ولا تزال - والله أعلم - هكذا إلى آخر الزمان إلى أن يخربها ( ذو السُّويقتين ) من الحبشة كما ثبت ذلك في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة » وعن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كأني به أسود أفحج يقلعها حجراً حجراً » وعن مجاهد عن عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة ويسلبها . حليتها ويجردها من كسوتها ، ولكأني أنظر إليه أُصَيْلع ، أُفَيْدع ، يضرب عليها بمسحاته ومعوله » .
وهذا - والله أعلم - إنما يكون بعد خروج يأجوج ومأجوج لما جاء في صحجيح البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ليُحجَنَّ البيتُ وليُعتَمرنَّ بعد خروج يأجوج ومأجوج » .
وقوله تعالى حكاية لدعاء إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } قال ابن جرير : يعنيان بذلك واجعلنا مستسلمين لأمرك ، خاضعين لطاعتك ، لا نشرك معك في الطاعة أحداً سواك ، ولا في العبادة غيرك . وقال عكرمة : { رَبَّنَا واجعلنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ } قال الله : قد فعلت { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } قال الله : قد فعلت . وقال السدي : { وَمِن ذُرِّيَّتِنَآ أُمَّةً مُّسْلِمَةً لَّكَ } يعنيان العرب . قال ابن جرير : والصواب أنه يعم العرب وغيرهم ، لأن من ذرية إبراهيم بني إسرائيل ، وقد قال الله تعالى :(1/150)
{ وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] .
( قلت ) وهذا الذي قاله ابن جرير لا ينفيه السدي فإن تخصيصهم بذلك لا ينفي من عداهم ، والسياق إنما هو في العرب ، ولهذا قال بعده : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة وَيُزَكِّيهِمْ } [ البقرة : 129 ] الآية . والمراد بذلك محمد صلى الله عليه وسلم ، وقد بعث فيهم كما قال تعالى : { هُوَ الذي بَعَثَ فِي الأميين رَسُولاً مِّنْهُمْ } [ الجمعة : 2 ] ، ومع هذا لا ينفي رسالته إلى الأحمر والأسود لقوله تعالى : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] وغير ذلك من الأدلة القاطعة ، وهذا الدعاء من إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام كما أخبرنا الله تعالى عن عباده المتقين المؤمنين في قوله : { والذين يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ واجعلنا لِلْمُتَّقِينَ إِمَاماً } [ الفرقان : 74 ] . وهذا القدر مرغوب فيه شرعاً فإنَّ من تمام محبة عبادة الله تعالى أن يحب أن يكون من صلبه من يعبد الله وحده . لا شريك له . ولهذا لما قال الله تعالى لإبراهيم عليه السلام : { إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً } [ البقرة : 124 ] قال : { وَمِن ذُرِّيَّتِي قَالَ لاَ يَنَالُ عَهْدِي الظالمين } [ البقرة : 124 ] ، وهو قوله : { واجنبني وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأصنام } [ إبراهيم : 35 ] وقد ثبت عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث : صدقةٍ جارية ، أو علم ينتفع به ، أو ولدٍ صالح يدعو له » .
{ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } قال عطاء : أخرجها لنا ، علمناها ، وقال مجاهد : { وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا } مذابحنا . وقال أبو داود الطيالسي عن أبي الطفيل عن ابن عباس قال : « إن إبراهيم لما أُري أوامر المناسك عرض له الشيطان عند المسعى ، فسابقه إبراهيم ، ثم انطلق به جبريل حتى أتى به ( منى ) فقال : هذا مناخ الناس ، فلما انتهى إلى ( جمرة العقبة ) تعرض له الشيطان ، فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم أتى به إلى ( الجمرة الوسطى ) فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، ثم أتى به إلى ( الجمرة القصوى ) فعرض له الشيطان فرماه بسبع حصيات حتى ذهب ، فأتى به جمعاً فقال : هذا المشعر ، ثم أتى به عرفة فقال : هذه عرفة ، فقال له جبريل : أعرفت؟ » .(1/151)
رَبَّنَا وَابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِكَ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)
يقول تعالى إخباراً عن تمام دعوة إبراهيم لأهل الحرم أن يبعث الله فيهم رسولاً منهم ، أي من ذرية إبراهيم ، وقد وافقت هذه الدعوة المستجابة قدر الله السابق في تعيين محمد صلوات الله وسلامه عليه رسولاً في الأميين إليهم ، وإلى سائر الأعجميين من الإنس والجن ، كما قال الإمام أحمد عن العرباض بن سارية قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني عند الله لخاتم النبيين وإن آدم لمنجدل في طينته ، وسأنبئكم بأول ذلك ، دعوة أبي إبراهيم ، وبشارة عيسى بي ، ورؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يرين » .
وقال أبو أمامة قلت : يا رسول الله ما كان أول بدء أمرك؟ قال : « دعوة أبي إبراهيم ، وبشرى عيسى بي ، ورأت أمي أنه خرج منها نورٌ أضاءت له قصور الشام » والمراد أن أول من نوه بذكره وشهره في الناس إبراهيم عليه السلام ، ولم يزل ذكره في الناس مذكوراً مشهوراً سائراً ، حتى أفصح باسمه خاتم أنبياء بني إسرائيل نسباً وهو ( عيسى بن مريم ) عليه السلام حيث قام في بني إسرائيل خطيباً ، وقال : { إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُم مُّصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِن بَعْدِي اسمه أَحْمَدُ } [ الصف : 6 ] ، ولهذا قال في هذا الحديث : دعوة أبي إبراهيم وبشرى عيسى بن مريم . وقوله : « ورأت أمي أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام » ، قيل : كان مناماً رأته حين حملت به وقصَّته على قومها ، فشاع فيهم واشتهر بينهم ، وكان ذلك توطئة! وتخصيصُ الشام بظهور نوره إشارة إلى استقرار دينه ونبوته ببلاد الشام ، ولهذا تكون الشام في آخر الزمان معقلاً للإسلام وأهله ، وبها ينزل ( عيسى ابن مريم ) إذا نزل بدمشق بالمنارة الشرقية البيضاء منها ، ولهذا جاء في الصحيحين : « لا تزال طائفة من أُمّتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك » وفي صحيح البخاري « وهم بالشأم » .
قوله : { رَبَّنَا وابعث فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْهُمْ } يعني أُمّة محمد صلى الله عليه وسلم فقيل له : قد استجيب لك وهو كائن في آخر الزمان ، وقوله تعالى : { وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب } يعني القرآن ، { والحكمة } يعني السنة ، قاله الحسن وقتادة ، وقيل : الفهم في الدين ، ولا منافاة . { وَيُزَكِّيهِمْ } قال ابن عباس : يعني طاعة الله والإخلاص ، وقال محمد بن إسحاق : { وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة } : يعلمهم الخير فيفعلوه والشر فيقوه ، ويخبرهم برضا الله عنهم إذا أطاعوه ليستكثروا من طاعته ويجتنبوا ما يسخطه من معصيته ، وقوله : { إِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم } أي العزيز الذي لا يعجزه شيء وهو قادر على كل شيء الحكيم في أفعاله وأقواله فيضع الأشياء في محالها لعلمه وحكمته وعدله .(1/152)
وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (131) وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132)
يقول تبارك وتعالى رداً على الكفار فيما ابتدعوه وأحدثوه من الشرك بالله ، المخالف لملة إبراهيم الخليل إمام الحنفاء ، فإنه جرَّد توحيد ربه تبارك وتعالى فلم يدع معه غيره ولا أشرك به طرفة عين ، وتبرأ من كل معبود سواه ، وخالف في ذلك سائر قومه ، حتى تبرأ من أبيه ، فقال : { ياقوم إِنِّي برياء مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السماوات والأرض حَنِيفاً وَمَآ أَنَاْ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 78-79 ] وقال تعالى : { وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَآءٌ مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلاَّ الذي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ } [ الزخرف : 26-27 ] ، وقال تعالى : { وَمَا كَانَ استغفار إِبْرَاهِيمَ لأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَآ إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ للَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأَوَّاهٌ حَلِيمٌ } [ التوبة : 114 ] وقال تعالى : { إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ المشركين * شَاكِراً لأَنْعُمِهِ اجتباه وَهَدَاهُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ النحل : 120-121 ] ولهذا وأمثاله قال تعالى : { وَمَن يَرْغَبُ عَن مِّلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفْسَهُ } ؟ أي ظلم نفسه بسفهه وسوء تدبيره ، بتركه الحق إلى الضلال ، حيث خالف طريق من اصطفي في الدنيا للهداية والرشاد من حداثة سنه إلى أن اتخذه الله خليلاً ، وهو في الآخرة من الصالحين السعداء ، فمن ترك طريقه هذا وملكه وملته ، واتبع طرق الضلالة والغيّ فأيُّ سفه أعظم من هذا؟ أم أيّ ظلم أكبر من هذا؟ كما قال تعالى : { إِنَّ الشرك لَظُلْمٌ عَظِيمٌ } [ لقمان : 13 ] قال أبو العالية وقتادة : نزلت في اليهود أحدثوا طريقاً ليست من عند الله ، وخالفوا ملة إبراهيم فيما أحدثوه ، ويشهد لصحة هذا القول قول الله تعالى : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين * إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين } [ آل عمران : 67-68 ] .
وقوله تعالى : { إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } أي أمره الله بالإخلاص له والاستسلام والانقياد فأجاب إلى ذلك شرعاً وقدراً . وقوله : { ووصى بِهَآ إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ } أي وصى بهذه الملة وهي الإسلام لله ، أو يعود الضمير على الكلمة وهي قوله : { أَسْلَمْتُ لِرَبِّ العالمين } لحرصهم عليها ومحبتهم لها حافظوا عليها إلى حين الوفاة ووصوا أبناءهم من بعدهم ، كقوله تعالى : { وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ } [ الزخرف : 28 ] . والظاهر - والله أعلم - أن إسحاق ولد له ( يعقوب ) في حياة الخليل وسارة ، لأن البشارة وقعت بهما في قوله : { فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَآءِ إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ } [ هود : 71 ] ، وأيضاً فقد قال الله تعالى في سورة العنكبوت : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النبوة والكتاب } [ الآية : 27 ] . وقال في الآية الأخرى : { وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ نَافِلَةً } [ الأنبياء : 72 ] ، وهذا يقتضي أنه وجد في حياته ، وأيضاً فإنه باني بيت المقدس كما نطقت بذلك الكتب المتقدمة ، وثبت في الصحيحين من حديث أبي ذر قلت :(1/153)
« يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال : » المسجد الحرام « ، قلت : ثم أي؟ قال : » بيت المقدس « ، قلت : كم بينهما : قال : » أربعون سنة « الحديث . فزعم ابن حبان أن بين سليمان الذي اعتقد بأنه باني بيت المقدس - وإنما كان جدده بعد خرابه وزخرفه - وبين أبراهيم أربعين سنة ، وهذا مما أنكر على ( ابن حيان ) فإن المدة بينهما تزيد على ألوف السنين والله أعلم ، وأيضاً فإن وصية يعقوب لبنيه سيأتي ذكرها قريباً ، وهذا يدل على أنه هاهنا من جملة الموصين .
وقوله : { يَابَنِيَّ إِنَّ الله اصطفى لَكُمُ الدين فَلاَ تَمُوتُنَّ إَلاَّ وَأَنْتُم مُّسْلِمُونَ } أي أحسنوا في حال الحياة ، والزموا هذا ليرزقكم الله الوفاة عليه ، فإن المرء يموت غالباً على ما كان عليه ، ويبعث على ما مات عليه ، وقد أجرى الله الكريم عادته بأن من قصد الخير وُفِّق له ويسر عليه ، ومن نوى صالحاً ثبت عليه ، وهذا لا يعارض ما جاء في الحديث الصحيح : » إن الرجل ليعمل بعمل أهل الجنة حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل النار فيدخلها ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل النار حتى ما يكون بينه وبينها إلا باع أو ذراع فيسبق عليه الكتاب فيعمل بعمل أهل الجنة فيدخلها « ، لأنه قد جاء في بعض الروايات هذا الحديث : ليعمل بعمل أهل الجنة فيما يبدو للناس ، وبعمل أهل النار فيما يبدو للناس ، وقد قال الله تعالى : { فَأَمَّا مَنْ أعطى واتقى * وَصَدَّقَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ لليسرى * وَأَمَّا مَن بَخِلَ واستغنى * وَكَذَّبَ بالحسنى * فَسَنُيَسِّرُهُ للعسرى } [ الليل : 5 ] .(1/154)
أَمْ كُنْتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (134)
يقول تعالى محتجاً على المشركين من العرب أبناء إسماعيل ، وعلى الكفار من بني إسرائيل بأن يعقوب لما حضرته والوفاة ، وصّى بنيه بعبادة الله وحده لا شريك له فقال لهم : { مَا تَعْبُدُونَ مِن بَعْدِي قَالُواْ نَعْبُدُ إلهك وإله آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ } ، وهذا من باب التغليب لأن إسماعيل عمه ، قال النحاس : والعرب تسمي العم أباً نقله القرطبي ، وقد استدل بهذه الآية الكريمة من جعل الجد أباً وحجب به الإخوة - كما هو قول الصديق - حكاه البخاري عنه . وقوله : { إلها وَاحِداً } أي نوحده بالألوهية ولا نشرك به شيئاً غيره ، { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } أي مطيعون خاضعون؛ كما قال تعالى : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } [ آل عمران : 83 ] . والإسلام هو ملة الأنبياء قاطبة وإن تنوعت شرائعهم واختلفت مناهجهم ، كما قال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] وقال صلى الله عليه وسلم : « نحن معشر الأنبياء أولاد علات ديننا واحد » وقوله تعالى : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } أي مضت ، { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ } أي أن السلف الماضين من آبائكم من الأنبياء والصالحين لا ينفعكم انتسابكم إليهم إذا لم تفعلوا خيراً يعود نفعه عليكم ، فإن لهم أعمالهم التي عملوها ولكم أعمالكم { وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ } ولهذا جاء في الأثر : « من أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه » .(1/155)
وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135)
عن ابن عباس قال : قال عبد الله بن صوريا الأعور لرسول الله صلى الله عليه وسلم : ما الهدى إلا ما نحن عليه فاتبعنا يا محمد تهتدِ ، وقالت النصارى مثل ذلك ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ } ، وقوله : { قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } أي لا نريد ما دعوتمونا إليه من اليهودية والنصرانية بل نتبع { مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً } أي مستقيماً ، وقال مجاهد : مخلصاً ، وقال أبو قلابة : الحنيف الذي يؤمن بالرسل كلهم من أولهم إلى آخرهم .(1/156)
قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)
أرشد الله تعالى عباده المؤمنين إلى الإيمان بما أنزل إليهم بواسطة رسوله محمد صلى الله عليه وسلم مفصلاً وما أنزل على الأنبياء المتقدمين مجملاً ، ونص على أعيان من الرسل ، وأجمل ذكر بقية الأنبياء وأن لا يفرقوا بين أحد منهم بل يؤمنوا بهم كلهم ، ولا يكونوا كمن قال الله فيهم : { وَيُرِيدُونَ أَن يُفَرِّقُواْ بَيْنَ الله وَرُسُلِهِ وَيقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَن يَتَّخِذُواْ بَيْنَ ذلك سَبِيلاً * أولئك هُمُ الكافرون حَقّاً } [ النساء : 150-151 ] الآية . عن أبي هريرة قال : كان أهل الكتاب يقرأون التوراة بالعبرانية ويفسروها بالعربية لأهل الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تصدقوا أهل الكتاب ولا تكذبوهم وقولوا آمنا بالله وما أنزل الله » .
وقال أبو العالية وقتادة : ( الأسباط ) بنو يعقوب أثنا عشر رجلاً ، ولد كل رجل منهم أمة من الناس فسموا الأسباط . وقال الخليل بن أحمد : الأسباط من بني إسرائيل كالقبائل في بني إسماعيل وقال الزمخشري : الأسباط حفدة يعقوب ذراري أبنائه الإثني عشر ، وقد نقله الرازي عنه وقرره ولم يعارضه ، وقال البخاري : الأسباط قبائل بني إسرائيل ، وهذا يقتضي أن المراد بالأسباط هاهنا شعوب بني إسرائيل ، وما أنزل الله من الوحي على الأنبياء الموجودين منهم ، كما قال موسى لهم : { اذكروا نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِيَآءَ وَجَعَلَكُمْ مُّلُوكاً } [ المائدة : 20 ] الآية . وقال تعالى : { وَقَطَّعْنَاهُمُ اثنتي عَشْرَةَ أَسْبَاطاً } [ الأعراف : 160 ] ، قال القرطبي : وسموا الأسباط من السبط وهو التتابع فهم جماعة ، وقيل : أصله من السَبَط بالتحريك وهو الشجر أي في الكثرة بمنزلة الشجر ، الواحدةُ سبطة . قال الزجاج : ويبين لك هذا ما روي عن ابن عباس قال : كل الأنبياء من بني إسرائيل إلا عشرة : ( نوح ، وهود ، وصالح ، وشعيب ، وإبراهيم ، وإسحاق ، ويعقوب ، وإسماعيل ، ومحمد ) عليهم الصلاة والسلام . قال القرطبي : والسبط الجماعة والقبيلة الراجعون إلى أصل واحد ، وقال قتادة : أمر الله المؤمنين أن يؤمنوا به ويصدقوا بكتبه كلها وبرسله .(1/157)
فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عَابِدُونَ (138)
يقول تعالى : { فَإِنْ آمَنُواْ } يعني الكفار من أهل الكتاب وغيرهم { بِمِثْلِ مَآ آمَنْتُمْ بِهِ } يا أيها المؤمنون من الإيمان بجميع كتب الله ورسله ولم يفرقوا بين أحد منهم { فَقَدِ اهتدوا } أي فقد أصابوا الحق وأرشدوا إليه . { وَّإِن تَوَلَّوْاْ } أي عن الحق إلى الباطل بعد قيام الحجة عليهم { فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله } أي فسينصرك عليهم ويظفرك بهم { وَهُوَ السميع العليم } .
{ صِبْغَةَ الله } قال الضحاك عن ابن عباس : دين الله وقد ورد عن ابن عباس أن نبيَّ الله قال صلى الله عليه وسلم : « إن بني إسرائيل قالوا يا رسول الله هل يصبغ ربك؟ فقال اتقوا الله ، فناداه ربه يا موسى سألوك هل يصبغ ربك؟ فقل نعم : أنا أصبغ الألوان الأحمر والأبيض والأسود والألوان كلها من صبغي » ، كذا وقع في رواية ابن مردويه مرفوعاً وهو في رواية ابن ابي حاتم موقوف وهو أشبه إن صح إسناده والله أعلم .(1/158)
قُلْ أَتُحَاجُّونَنَا فِي اللَّهِ وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ وَلَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (141)
يقول الله تعالى مرشداً نبيّه صلوات الله وسلامه عليه إلى درء مجادلة المشركين : { قُلْ أَتُحَآجُّونَنَا فِي اللَّهِ } أي تناظروننا في توحيد الله والإخلاص له ، والانقياد ، واتباع أوامره ، وترك زواجره { وَهُوَ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ } المتصرف فينا وفيكم ، المستحق لإخلاص الإلهية له وحده لا شريك له { وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ } أي نحن برآء منكم ومما تعبدون وأنتم برآء منا كما قال في الآية الأُخرى : { وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بريائون مِمَّآ أَعْمَلُ وَأَنَاْ برياء مِّمَّا تَعْمَلُونَ } [ يونس : 41 ] وقال تعالى : { فَإنْ حَآجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن } [ آل عمران : 20 ] الآية . وقال تعالى إخباراً عن إبراهيم : { وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أتحاجواني فِي الله } [ الأنعام : 80 ] الآية . وقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } [ البقرة : 258 ] الآية . وقال في هذه الآية الكريمة : { وَلَنَآ أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ } : أي نحن برآء منكم كما أنتم براء منا ، ونحن له مخلصون أي في العبادة والتوجه . ثم أنكر تعالى عليهم في دعواهم أن إبراهيم ومن ذكر بعده من الأنبياء والأسباط كانوا على ملتهم ، إما اليهودية وإما النصرانية فقال : { قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ الله } ؟ يعني بل الله أعلم ، وقد أخبر أنهم لم يكونوا هوداً ولا نصارى كما قال تعالى : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } [ آل عمران : 67 ] .
وقوله : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ الله } قال الحسن البصري : كانوا يقرأون في كتاب الله الذي أتاهم إن الدين الإسلام ، وإن محمداً رسول الله ، وإن إبراهيم وإسحاق ويعقوب والأسباط كانوا براء من اليهودية والنصرانية ، فشهدوا لله بذلك وأقروا على أنفسهم لله ، فكتموا شهادة الله عنهم من ذلك . وقوله : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } تهديد ووعيد شديد : أي أن علمه محيط بعلمكم وسيجزيكم عليه ، ثم قال تعالى : { تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ } أي قد مضت { لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَّا كَسَبْتُمْ } أي لهم أعمالهم ولكم أعمالكم { وَلاَ تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ } وليس بغني عنكم انتسابكم إليهم من غير متابعة منكم لهم ، ولا تغتروا بمجرد النسبة إليهم حتى تكونوا منقادين مثلهم لأوامر الله ، واتباع رسله الذي بعثوا مبشرين ومنذرين ، فإنه من كفر بنبي واحد فقد كفر بسائر الرسل ، ولا سيما بسيد الأنبياء وخاتم المرسلين ، ورسول رب العالمين إلى جميع الإنس والجن من المكلفين صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر أنبياء الله أجمعين .(1/159)
سَيَقُولُ السُّفَهَاءُ مِنَ النَّاسِ مَا وَلَّاهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (142) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)
قيل : المراد بالسفهاء هاهنا مشركو العرب قاله الزجاج ، وقيل : أحبار يهود قاله مجاهد ، وقيل : المنافقون قاله السُّدي ، والآية عامة في هؤلاء كلهم ، والله أعلم . عن البراء رضي الله عنه : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلَّى إلى بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ، وكان يعجبه أن تكون قبلته قبل البيت ، وأنه صلى أول صلاة صلاها صلاة العصر وصلى معه قوم فخرج رجل ممن كان صلى معه فمر على أهل المسجد وهم راكعون ، فقال : أشهد بالله لقد صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم قِبَل مكة ، فداروا كما هم قبل البيت وكان الذي قد مات على القبلة قبل أن تحول قبل البيت رجالاً قتلوا لم ندر ما نقول فيهم فأنزل الله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } .
وعن البراء قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي نحو بيت المقدس ، ويكثر النظر إلى السماء ينتظر أمر الله ، فأنزل الله : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } [ البقرة : 144 ] . فقال رجال من المسلمين : وددنا لو علمنا علم من مات منا قبل أن نُصْرف إلى القبلة ، وكيف بصلاتنا نحو بيت المقدس؟ فأنزل الله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } وقال السفهاء من الناس - وهم أهل الكتاب - ما ولاَّهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله : { سَيَقُولُ السفهآء مِنَ الناس } إلى آخر الآية . وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة أمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم ، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء فأنزل الله عزّ وجلّ : { فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } [ البقرة : 144 ] أي نحوه ، فارتاب من ذلك اليهود وقالوا : ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها؟ فأنزل الله : { قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، وقد جاء في هذا الباب أحاديث كثيرة . وحاصل الأمر : أنه قد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أُمِر باستقبال الصخرة من بيت المقدس ، فكان بمكة يصلي بين الركنين فتكون بين يديه الكعبة وهو مستقبل صخرة بيت المقدس ، فلما هاجر إلى المدينة تعذر الجمع بينهما فأمره الله بالتوجه إلى بيت المقدس قاله ابن عباس والجمهور .
والمقصود أن التوجه إلى بيت المقدس بعد مقدمه صلى الله عليه وسلم المدينة واستمر الأمر على ذلك بضعة عشر شهراً ، وكان يكثر الدعاء والابتهال أن يُوَجَّه إلى الكعبة التي هي قبلة إبراهيم عليه السلام ، فأجيب إلى ذلك وأمر بالتوجه إلى البيت العتيق ، فخطب رسول الله صلى الله عليه وسلم الناس فأعلمهم بذلك ، وكان أول صلاة صلاها إليها صلاة العصر كما تقدّم في الصحيحين .(1/160)
وذكر غير واحد من المفسِّرين أن تحويل القبلة نزل على رسول الله وقد صلى ركعتين من الظهر وذلك في مسجد بني سلمة : فسمي ( مسجد القبلتين ) وأما أهل قباء فلم يبلغهم الخبر إلى صلاة الفجر من اليوم الثاني كما جاء في الصحيحين عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال : « بينما الناس بقباء في صلاة الصبح إذا جاءهم آت فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أُنْزِل عليه الليلة قرآن وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، وكانت وجوههم إلى الشام فاستداروا إلى الكعبة » ، ولما وقع هذا حصل لبعض الناس من أهل النفاق والريب والكفرة من اليهود ارتيابٌ وزيغ عن الهدى وتخبيط وشك ، وقالو : { مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا } أي قالوا : ما لهؤلاء تارة يستقبلون كذا وتارة يستقبلون كذا؟ فأنزل الله جوابهم في قوله : { قُل للَّهِ المشرق والمغرب } أي الحكم والتصرف والأمر كله لله ، { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } أي الشأن كله في امتثال أوامر الله ، فحيثما وجهنا توجهنا ، فالطاعة في امتثال أمره ولو وجهنا في كل يوم مراتٍ إلى جهات متعددة فنحن عبيده ، وهو تعالى له بعبده ورسوله محمد صلوات الله وسلامه عليه وأُمته عناية عظيمة ، إذ هداهم إلى قبلة إبراهيم خليل الرحمن ، وجعل توجههم إلى الكعبة أشرف بيوت الله في الأرض ، إذ هي بناء إبراهيم الخليل عليه السلام ، ولهذا قال : { قُل للَّهِ المشرق والمغرب يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .
عن عائشة قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ، يعني في أهل الكتاب : « إنهم لا يحسدوننا على شيء كما يحسدوننا على يوم الجمعة التي هدانا الله لها وضلوا عنها ، وعلى القبلة التي هدانا الله لها ، وضلوا عنها ، وعلى قولنا خلف الإمام آمين » .
وقوله تعالى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } ، يقول تعالى إنما حولناكم على قبلة إبراهيم عليه السلام ، واخترناها لكم لنجعلكم خيار الأُمم لتكونوا يوم القيامة شهداء على الأُمم ، لان الجميع معترفون لكم بالفضل ، والوسطُ هاهنا : الخيار والأجود ، كما يقال : قريش أوسط العرب نسباً وداراً أي خيرها ، وكان رسول الله وسطاً في قومه ، أي أشرفهم نسباً ، ومنه ( الصلاة الوسطى ) وهي العصر ، ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً خصَّها بأكمل الشرائع ، وأقوم المناهج وأوضح المذاهب كما قال تعالى : { هُوَ اجتباكم وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدين مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ المسلمين مِن قَبْلُ وَفِي هذا لِيَكُونَ الرسول شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } [ الحج : 78 ] .(1/161)
عن أبي سعيد قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يدعى نوح يوم القيامة فيقال له هل بلَّغت؟ فيقول نعم ، فيدعى قومه فيقال لهم هل بلغكم؟ فيقولون ما أتانا من نذير وما أتانا من أحد ، فيقال لنوح من يشهد لك؟ فيقول محمد وأُمته ، قال فذلك قوله : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } قال : والوسط العدل فتدعون فتشهدون له بالبلاغ ثم أشهد عليكم » وعن أبي سعيد الخدري قال : قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يجيء النبي يوم القيامة ومعه الرجلان وأكثر من ذلك فيدعى قومه فيقال : هل بلَّغكم هذا؟ فيقولون : لا فيقال له : هل بلغت قومك؟ فيقول نعم : فيقال من يشهد لك ، فيقول محمد وأمته فيدعى محمد وأمته : فيقال لهم هل بلغ هذا قومه؟ فيقولون نعم . فيقال وما علمكم؟ فيقولون جاءنا نبينا فأخبرنا أن الرسل قد بلغوا فذلك قوله عزّ وجلّ : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } قال عدلاً { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس وَيَكُونَ الرسول عَلَيْكُمْ شَهِيداً } » عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أنا وأُمتي يوم القيامة على كوم مشرفين على الخلائق ما من الناس أحد إلا ودَّ أنه منا ، وما من نبي كذبه قومه إلا ونحن نشهد أنه قد بلغ رسالة ربه عزّ وجلّ » .
وقوله : { وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الذين هَدَى الله } ، يقول تعالى إنما شرعنا لك يا محمد التوجه أولاً إلى بيت المقدس ، ثم صرفناك عنها إلى الكعبة ، ليظهر حال من يتبعك ويطيعك ويستقبل معك حيثما توجهت ممن ينقلب على عقبيه ، أي مرتداً عن دينه { وَإِن كَانَتْ لَكَبِيرَةً } أي هذه الفعلة وهي صرف التوجه عن بيت المقدس إلى الكعبة ، أي وإن كان هذا الأمر عظيماً في النفوس ، إلا على الذين هدى الله قلوبهم وأيقنوا بتصديق الرسول ، وأن كل ما جاء به فهو الحق الذي لا مرية فيه ، وأن الله يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد ، فله أن يكلف عباده بما شاء وينسخ ما يشاء ، وله الحكمة التامة والحجة البالغة في جميع ذلك ، بخلاف الذين في قلوبهم مرض ، فإنه كلما حدث أمر أحدث لهم شكا ، كما يحصل للذين آمنوا إيقانٌ وتصديق ، كما قال الله تعالى : { وَإِذَا مَآ أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هذه إِيمَاناً فَأَمَّا الذين آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الذين فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إلى رِجْسِهِمْ } [ التوبة : 124-125 ] وقال تعالى : { قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُواْ هُدًى وَشِفَآءٌ والذين لاَ يُؤْمِنُونَ في آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى } [ فصلت : 44 ] . وقال تعالى : { وَنُنَزِّلُ مِنَ القرآن مَا هُوَ شِفَآءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظالمين إَلاَّ خَسَاراً } [ الإسراء : 82 ] ولهذا كان - من ثبت على تصديق الرسول صلى الله عليه وسلم واتباعه في ذلك ، وتوجّه حيث أمره الله من غير شك ولا ريب - من سادات الصحابة ، وقد ذهب بعضهم إلى أن السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار هم الذين صلوا إلى القبلتين .(1/162)
عن ابن عمر قال : « بينا الناس يصلون الصبح في مسجد قباء إذ جاء رجل فقال : قد أنزل على النبي صلى الله عليه وسلم قرآن ، وقد أُمر أن يستقبل الكعبة فاستقبلوها ، فتوجهوا إلى الكعبة » ، وفي رواية أنهم كانوا ركوعاً فاستداروا كما هم إلى الكعبة وهم ركوع ، وهذا يدل على كمال طاعتهم لله ولرسوله وانقيادهم لأوامر الله عزّ وجلّ رضي الله عنهم أجمعين .
وقوله : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي صلاتكم إلى بيت المقدس قبل ذلك ، ما كان يضيع ثوابها عند الله ، وفي الصحيح عن البراء قال : مات قوم كانوا يصلون نحو بيت المقدس ، فقال الناس : ما حالهم في ذلك؟ فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } ، وقال ابن إسحاق عن ابن عباس : { وَمَا كَانَ الله لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ } أي بالقبلة الأُولى وتصديقكم نبيكم واتباعه إلى القبلة الأُخرى ، أي ليعطيكم أجرهما جميعاً { إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } . وقال الحسن البصري : وما كان ليضيع إيمانكم : أي ما كان الله ليضيع محمداً صلى الله عليه وسلم وانصرافكم معه حيث انصرف { إِنَّ الله بالناس لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } . وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى امرأة من السبي قد فرق بينها وبين ولدها ، فجعلت كلما وجدت صبياً من السبي أخذته فألصقته بصدرها وهي تدور على ولدها ، فلما وجدته ضمته إليه وألقمته ثديها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أترون هذه طارحة ولدها في النار وهي تقدر على أن لا تطرحه »؟ قالوا : لا يا رسول الله . قال : « فواللَّهِ ، للَّهُ أرحمُ بعباده من هذه بولدها » .(1/163)
قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144)
قال ابن عباس : كان أول ما نسخ من القرآن القبلة ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود فأمره الله أن يستقبل بيت المقدس ، ففرحت اليهود ، فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً ، وكان يحب قبله إبراهيم ، فكان يدعو الله وينظر إلى السماء ، فأنزل الله : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء } إلى قوله : { فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } . فارتابت من ذلك اليهود ، وقالوا : { مَا وَلاَّهُمْ عَن قِبْلَتِهِمُ التي كَانُواْ عَلَيْهَا قُل للَّهِ المشرق والمغرب } [ البقرة : 142 ] . وقال : { فَأَيْنَمَا تُوَلُّواْ فَثَمَّ وَجْهُ الله } [ البقرة : 115 ] وقال الله تعالى : { وَمَا جَعَلْنَا القبلة التي كُنتَ عَلَيْهَآ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَن يَتَّبِعُ الرسول مِمَّن يَنقَلِبُ على عَقِبَيْهِ } [ البقرة : 143 ] . وروى ابن مردويه عن ابن عباس قال : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا سلم من صلاته إلى بيت المقدس رفع رأسه إلى السماء ، فأنزل الله : { فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } إلى الكعبة ، إلى الميزاب يؤم به جبريل عليه السلام . وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } قال : شطره قبلَه ، ثم قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه . وعن ابن عباس رضي الله عنهما : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « البيت قبلة لأهل المسجد ، والمسجدُ قبلةٌ لأهل الحرم ، والحرم قبلة لأهل الأرض في مشارقها ومغاربها من أمتي » وعن البراء : أن النبي صلى الله عليه وسلم صلَّى قبل بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً ، وكان يعجبه قبلته قبل البيت ، وأنه صلى صلاة العصر وصلى معه قوم ، فخرج رجل ممَّن كان يصلي معه مر على أهل المسجد وهم راكعون فقال : أشهد بالله لقد صليت مع رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبَل مكة فداروا كما هم قِبَل البيت .
وقال عبد الرزاق عن البراء قال : لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة صلى نحو بيت المقدس ستة عشر شهراً أو سبعة عشر شهراً وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب أن يحول نحو الكعبة فنزلت : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء } فصرف إلى الكعبة . وعن أبي سعيد بن المعلى قال : « كنا نغدو إلى المسجد على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فنصلي فيه ، فمررنا يوماً ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعد على المنبر ، فقلت لقد حدث أمر فجلست ، فقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } حتى فرغ من الآية ، فقلت لصاحبي تعال نركع ركعتين قبل أن ينزل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فنكون أول من صلى فتوارينا فصليناهما ، ثم نزل النبي صلى الله عليه وسلم وصلى للناس الظهر يومئذ »(1/164)
وكذا روى ابن مردويه عن ابن عمر : أن أول صلاة صلاها رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الكعبة صلاة الظهر . وأنها الصلاة الوسطى ، والمشهور أن أول صلاة صلاها إلى الكعبة صلاة العصر ، ولهذا تأخر الخبر عن أهل قباء إلى صلاة الفجر ، وقال الحافظ ابن مردويه عن نويلة بنت مسلم قالت : صلينا الظهر أو العصر في مسجد بني حارثة ، فاستقبلنا مسجد ( إيلياء ) فصلينا ركعتين ، ثم جاء من يحدثنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد استقبل البيت الحرام فتحول النساء مكان الرجال والرجال مكان النساء فصلينا السجدتين الباقيتين ونحن مستقبلون البيت الحرام ، فحدثني رجل من بني حارثة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أولئك رجال يؤمنون بالغيب » ، وقوله : { وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ } أمر تعالى باستقبال الكعبة من جميع جهات الأرض ، شرقاً وغرباً ، وشمالاً وجنوباً ، ولا يستثنى من هذا شيء سوى النافلة في حال السفر ، فإنه يصليها حيثما توجه قالبه وقلبه نحو الكعبة ، وكذا في حال المسايفة في القتال يصلي على كل حال ، وكذا من جهل جهة القبلة يصلي باجتهاده وإن كان مخطئاً في نفس الأمر لأن الله تعالى لا يكلف نفساً إلا وسعها .
مسألة
وقد استدل المالكية بهذه الآية على أن المصلي ينظر أمامه لا إلى موضع سجوده كما ذهب إليه الشافعي وأحمد وأبو حنيفة ، قال المالكية بقوله : { فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام } فلو نظر إلى موضع سجوده لاحتاج أن يتكلف ذلك بنوع من الإنحناء وهو ينافي كمال القيام ، وقال بعضهم : ينظر المصلي في قيامه إلى صدره ، وقال شريك القاضي : ينظر في حال قيامه إلى موضع سجوده كما قال جمهور الجماعة ، لأنه أبلغ في الخضوع وآكد في الخشوع ، وقد ورد به الحديث ، وأما في حال ركوعه فإلى موضع قدميه ، وفي حال سجوده إلى موضع أنفه ، وفي حال قعوده إلى حِجْره .
وقوله تعالى : { وَإِنَّ الذين أُوتُواْ الكتاب لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الحق مِن رَّبِّهِمْ } أي واليهود الذين أنكروا استقبالكم الكعبة وانصرافكم عن بيت المقدس ، يعلمون أن الله تعالى سيوجهك إليها بما في كتبهم عن أنبيائهم من النعت والصفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأمته ، وما خصه الله تعالى به وشرَّفه من الشريعة الكاملة العظيمة ، ولكنَّ أهل الكتاب يتكاتمون ذلك بينهم حسداً وكفراً وعناداً ، ولهذا تهددهم تعالى بقوله : { وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ } .(1/165)
وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145)
يخبر تعالى عن كفر اليهود وعنادهم ، ومخالفتهم ما يعرفونه من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأنه لو أقام عليهم كل دليل على صحة ما جاءهم به لما اتبعوه وتركوا أهواءهم كما قال تعالى : { إِنَّ الذين حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ * وَلَوْ جَآءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم } [ يونس : 96-97 ] ولهذا قال هاهنا : { وَلَئِنْ أَتَيْتَ الذين أُوتُواْ الكتاب بِكُلِّ آيَةٍ مَّا تَبِعُواْ قِبْلَتَكَ } ، وقوله : { وَمَآ أَنتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ } إخبار عن شدة متابعة الرسول صلى الله عليه وسلم لما أمره الله تعالى به ، وأنه كما هم مستمسكون بأرائهم وأهوائهم ، فهو أيضاً مستمسك بأمر الله وطاعته واتباع مرضاته ، وأنه لا يتبع أهواءهم في جميع أحواله ، ولا كونه متوجهاً إلى بيت المقدس لكونها قبلة اليهود ، وإنما ذلك عن أمر الله تعالى ، ثم حذَّر تعالى عن مخالفة الحق الذي يعلمه العالم إلى الهوى ، فإن العالم الحجة عليه أقوم من غيره . ولهذا قال مخاطباً للرسول والمراد به الأمة : { وَلَئِنِ اتبعت أَهْوَاءَهُم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم إِنَّكَ إِذَاً لَّمِنَ الظالمين } .(1/166)
الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَإِنَّ فَرِيقًا مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (146) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147)
يخبر تعالى أن علماء أهل الكتاب يعرفون صحة ما جاءهم به الرسول صلى الله عليه وسلم كما يعرف أحدهم ولده ، والعرب كانت تضرب المثل في صحة الشيء بهذا كما جاء في الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « قال لرجل معه صغير : » ابنك هذا «؟ قال : نعم يا رسول الله أشهد به ، قال : » أما أنه لا يخفى عليك ولا تخفى عليه « ويروى عن عمر أنه قال لعبد الله بن سلام : أتعرف محمداً كما تعرف ولدك؟ قال : نعم وأكثر ، نظل الأمين من السماء على الأمين في الأرض بنعته فعرفته ، وابني لا أدري ما كان من أمه . ( قلت ) : وقد يكون المراد : { يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ } من بين أبناء الناس كلهم ، لا يشك أحد ولا يمتري في معرفة ابنه إذا رآه من أبناء الناس كلهم ، ثم أخبر تعالى أنهم مع هذا التحقق والإتقان العلمي ، { لَيَكْتُمُونَ الحق } أي ليكتمون الناس ما في كتبهم من صفة النبي صلى الله عليه وسلم { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ، ثم ثبَّت تعالى نبيّه صلى الله عليه وسلم والمؤمنين وأخبرهم بأن ما جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو الحق الذي لا مرية فيه ولا شك فقال : { الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الممترين } .(1/167)
وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (148)
عن ابن عباس : { وَلِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيهَا } يعني بذلك أهل الأديان ، يقول لكل قبيلة قبلةٌ يرضونها ، ووجهه الله حيث توجه المؤمنون ، وقال أبو العالية : لليهود وجهة هو موليها ، وللنصارى وجهة هو موليها ، وهداكم - أنتم أيتها الأمة - إلى القبلة التي هي القبلة . وقال الحسن : أمر كل قوم أن يصلوا إلى الكعبة ، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَآءَ الله لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ولكن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَآ آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إلى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً } [ المائدة : 48 ] وقال هاهنا : { أَيْنَ مَا تَكُونُواْ يَأْتِ بِكُمُ الله جَمِيعاً إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي هو قادر على جمعكم من الأرض وإن تفرقت أجسادكم وأبدانكم .(1/168)
وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150)
هذا أمر ثالث من الله تعالى باستقبال المسجد الحرام من جميع أقطار الأرض ، وقد اختلفوا في حكمة هذا التكرار ثلاث مرات ، فقيل : تأكيد لأنه أول ناسخ وقع في الإسلام على ما نص عليه ابن عباس وغيره ، وقيل : بل هو منزل على أحوال ، فالأمر الأول لمن هو مشاهد الكعبة ، والثاني لمن هو في مكة غائباً عنها ، والثالث لمن هو في بقية البلدان هكذا وجَّهه فخر الدين الرازي . وقال القرطبي : الأول لمن هو بمكة ، والثاني لمن هو في بقية الأمصار ، والثالث لمن خرج في الأسفار ، وقيل : إنما ذكر ذلك لتعلقه بما قبله أو بعده من السياق ، فقال أولاً : { قَدْ نرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السمآء فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا } [ البقرة : 144 ] ، فذكر في هذا المقام إجابته إلى طلبته وأمره بالقبلة التي كان يود التوجه إليها ويرضاها ، وقال في الأمر الثاني : { وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ المسجد الحرام وَإِنَّهُ لَلْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَمَا الله بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ } ، فذكر أنه الحق من الله وارتقاءه المقام الأول حيث كان موافقاً لرضا الرسول صلى الله عليه وسلم ، فبين أنه الحق أيضاً من الله يحبه ويرتضيه ، وذكر في الأمر الثالث حكمة قطع حجة المخالف من اليهود الذين كان يتحججون باستقبال الرسول إلى قبلتهم وقد كانوا يعلمون بما في كتبهم أنه سيصرف إلى قبلة إبراهيم عليه السلام إلى الكعبة ، وكذلك مشركو العرب انقطعت حجتهم لما صرف الرسول صلى الله عليه وسلم عن قبلة اليهود إلى قبلة إبراهيم التي هي أشرف ، وقد كانوا يعظمون الكعبة وأعجبهم استقبال الرسول إليها ، وقيل غير ذلك من الأجوبة عن حكمة التكرار ، وقد بسطها الرازي وغيره ، والله أعلم .
وقوله : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } أي أهل الكتاب فإنهم يعلمون من صفة هذه الأمة التوجّه إلى الكعبة ، فإذا فقدوا ذلك من صفتها ربما احتجوا بها على المسلمين ، ولئلا يحتجوا بموافقة المسلمين إياهم في التوجه إلى بيت المقدس وهذا أظهر ، قال أبو العالية : { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } يعني به أهل الكتاب حين قالوا : صرف محمد إلى الكعبة ، وقالوا : اشتاق الرجل إلى بيت أبيه ودين قومه . وكان حجتهم على النبي صلى الله عليه وسلم انصرافه إلى البيت الحرام أن قالوا : سيرجع إلى ديننا كما رجع إلى قبلتنا . قوله : { إِلاَّ الذين ظَلَمُواْ مِنْهُمْ } يعني مشركي قريش ، ووجه بعضهم حجة الظلمة وهي داحضة أن قالوا : إنَّ هذا الرجل يزعم أنه على دين إبراهيم ، فإن كان توجهه إلى بيت المقدس على ملة إبراهيم فلم يرجع عنه؟ والجواب أن الله تعالى اختار له التوجه إلى بيت المقدس أولاً ، لما له تعالى في ذلك من الحكمة ، فأطاع ربه تعالى في ذلك ، ثم صرفه إلى قبلة إبراهيم وهي الكعبة ، فامتثل أمر الله في ذلك أيضاً .(1/169)
فهو صلوات الله وسلامه عليه مطيع لله في جميع أحواله ، لا يخرج عن أمر الله طرفة عين وأمته تبعٌ له .
وقوله : { فَلاَ تَخْشَوْهُمْ واخشوني } أي لا تخشوا شبه الظلمة المتعنتين وأفردوا الخشية لي ، فإنه تعالى هو أهل أن يخشى منه ، وقوله : { وَلأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ } عطف على { لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ } ، أي لأتم نعمتي عليكم فيما شرعت لكم من استقبال الكعبة لتكمل لكم الشريعة من جميع وجوهها ، { وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } إي إلى ما ضلت عنه الأمم هديناكم إليه وخصصناكم به ، ولهذا كانت هذه الأمة أشرف الأمم وأفضلها .(1/170)
كَمَا أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ يَتْلُو عَلَيْكُمْ آيَاتِنَا وَيُزَكِّيكُمْ وَيُعَلِّمُكُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَيُعَلِّمُكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151) فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
يذكِّر تعالى عباده المؤمنين ، ما أنعم به عليهم من بعثة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم إليهم ، يتلو عليهم آيات الله مبينات « ويزكيهم » أي يطهرهم من رذائل الأخلاق ، ودنس النفوس وأفعال الجاهلية ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور ، ويعلمهم الكتاب وهو القرآن ، والحكمة وهي السنّة ، ويعلِّمهم ما لم يكونوا يعلمون ، فكانوا في الجاهلية الجهلاء يُسفِّهون بالقول القُرّاء ، فانتقلوا ببركة رسالته ، ويمن سفارته ، إلى حال الأولياء ، وسجايا العلماء ، فصاروا أعمق الناس علماً ، وأبرهم قلوباً ، وأقلهم تكلفاً ، وأصدقهم لهجة . وقال تعالى : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ } [ آل عمران : 164 ] الآية . وذمّ من لم يعرف قدر هذه النعمة فقال تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار } [ إبراهيم : 28 ] ، قال ابن عباس : يعني بنعمة الله محمد صلى الله عليه وسلم ولهذا ندب الله المؤمنين إلى الاعتراف بهذه النعمة ومقابلتها بذكره وشكره . وقال : { فاذكروني أَذْكُرْكُمْ واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } قال مجاهد في قوله : { كَمَآ أَرْسَلْنَا فِيكُمْ رَسُولاً مِّنْكُمْ } يقول : كما فعلتُ فاذكروني .
قال زيد بن أسلم : إن موسى عليه السلام قال : يا رب كيف أشكرك؟ قال له ربه : « تذكرني ولا تنساني فإذا ذكرتني فقد شكرتني ، وإذ نسيتني فقد كفرتني » قال الحسن البصري : إن الله يذكر من ذكره ، ويزيد من شكره ، ويعذب من كفره ، وقال بعض السلف في قوله تعالى : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } [ آل عمران : 102 ] هو « أن يطاع فلا يعصى ، ويُذكر فلا يُنْسى ، ويُشْكَر فلا يُكْفر » وقال الحسن البصري في قوله : { فاذكروني أَذْكُرْكُمْ } اذكروني فيما افترضت عليكم اذكركم في أوجبت لكم على نفسي ، وعن سعيد بن جبير : اذكروني بطاعتي أذكركم بمغفرتي ، وفي رواية برحمتي . وفي الحديث الصحيح : « يقول الله تعالى من ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي ، ومَن ذكرني في ملأ ذكرته في ملأ خير منه » وعن أَنَس قال : قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال الله عزّ وجلّ يا ابن آدم إن ذكرتني في نفسك ذكرتك في نفسي ، وإن ذكرتني في ملأ ذكرتك في ملأ من الملائكة - أو قال في ملأ خير منه - وإن دنوت مني شبراً دنوتُ منك ذراعاً ، وإن دنوت مني ذراعاً دنوت منك باعاً ، وإن أتيتني تمشي أتيتك هرولةً » قال قتادة : الله أقرب بالرحمة وقوله : { واشكروا لِي وَلاَ تَكْفُرُونِ } أمر الله تعالى بشكره ، ووعد على شكره بمزيد الخير ، فقال : { وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ } [ إبراهيم : 7 ] . روى أبو رجاء العطاردي قال : خرج علينا ( عمران بن حصين ) وعليه مطرف من خز لم نره عليه قبل ذلك ولا بعده ، فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من أنعم الله عليه نعمة فإن الله يحب أن يرى أثر نعمته على خلقه » وروي : على عبده .(1/171)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكِنْ لَا تَشْعُرُونَ (154)
لما فرغ تعالى من بيان الأمر بالشكر ، شرع في بيان الصبر والإرشاد والاستعانة بالصبر والصلاة ، فإن العبد إما أن يكون في نعمة فيشكر عليها ، أو في نقمة فيصبر عليها ، كما جاء في الحديث : « عجباً للمؤمن لا يقضي الله له قضاء إلا كان خيراً له : إن أصابته سراء فشكر كان خيراً له ، وإن أصابته ضراء فصبر كان خيراً له » وبيَّن تعالى أن أجود ما يستعان به على تحمل المصائب الصبر والصلاة كما تقدم في قوله : { واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الخاشعين } [ البقرة : 45 ] وفي الحديث : « إن رسول الله كان إذا حز به أمر صلّى » والصبر صبران : فصبرك على ترك المحارم والمآثم ، وصبر على فعل الطاعات والقربات ، والثاني أكثر ثواباً لأنه المقصود ، وأما الصبر الثالث وهو الصبر على المصائب والنوائب فذاك أيضاً واجب كالاستغفار من المعايب . قال زين العابدين : إذا جمع الله الأولين والآخرين ينادي مناد أين الصابرون ليدخلوا الجنة قبل الحساب؟ قال : فيقوم عُنُق من الناس فتتلقاهم الملائكة فيقولون : إلى أين يا بني آدم؟ فيقولون : إلى الجنة ، فيقولون : قبل الحساب؟ قالوا : نعم ، قالوا : مَن أنتم؟ قالوا : نحن الصابرون ، قالوا : وما كان صبركم؟ قالوا : صبرنا على طاعة الله وصبرنا عن معصية الله حتى توفانا الله ، قالوا : أنتم كما قلتم ادخلوا الجنة فنعم أجر العاملين . ( قلت ) : ويشهد لهذا قوله تعالى : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] ، وقال سعيد بن جبير : الصبر اعتراف العبد لله بما أصاب منه ، واحتسابه عند الله رجاء ثوابه ، وقد يجزع الرجل وهو متجلد لا يرى منه إلا الصبر .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَقُولُواْ لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبيلِ الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ } يخبر تعالى أن الشهداء في برزخهم أحياء يرزقون كما جاء في صحيح مسلم : « أن أرواح الشهداء في حواصل طيور خضر تسرح في الجنة حيث شاءت ، ثم تأوي إلى قناديل معلقة تحت العرش ، فاطلع عليهم ربك اطلاعة فقال : ماذا تبغون؟ قالوا : يا ربنا وأي شيء نبغي وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك؟ ثم عاد عليهم بمثل هذا فلما رأوا أنهم لا يتركون من أن يسألوا ، قالو : نريد أن تردنا إلى الدار الدنيا فنقاتل في سبيلك حتى نقتل فيك مرة أُخرى - لما يرون من ثواب الشهادة - فيقول الرب جلّ جلاله : إني كتبت أنهم إليها لا يرجعون » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نسمة المؤمن طائر تعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه » ففيه دلالة لعموم المؤمنين أيضاً وإن كان الشهداء قد خصصوا بالذكر في القرآن تشريفاً لهم وتكريماً وتعظيماً .(1/172)
وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مِنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنْفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ (156) أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)
أخبرنا تعالى أنه يبتلي عباده أي يختبرهم ويمتحنهم ، كما قال تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حتى نَعْلَمَ المجاهدين مِنكُمْ والصابرين وَنَبْلُوَاْ أَخْبَارَكُمْ } [ محمد : 31 ] فتارةً بالسرّاء ، وتارة بالضراء من خوف وجوع ، كما قال تعالى : { فَأَذَاقَهَا الله لِبَاسَ الجوع والخوف } [ النحل : 112 ] ، فإن الجائع والخائف كل منهما يظهر ذلك عليه ، ولهذا قال : { لِبَاسَ الجوع والخوف } [ النحل : 112 ] ، وقال هاهنا : { بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع } أي بقليل من ذلك ، { وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال } أي ذهاب بعضها { والأنفس } كموت الأصحاب والأقارب والأحباب ، { والثمرات } أي لا تغل الحدائق والمزارع كعادتها ، قال بعض السلف : فكانت بعض النخيل لا تثمر غير واحدة ، وكل هذا وأمثاله مما يختبر الله به عباده ، فمن صبر أثابه ومن قنط أحل به عقابه ، ولهذا قال تعالى : { وَبَشِّرِ الصابرين } .
ثم بين تعالى مَنِ الصابرون الذين شكرهم فقال : { الذين إِذَآ أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } أي تسلوا بقولهم هذا عمّا أصابهم ، وعلموا أنهم ملك لله يتصرف في عبيده بما يشاء ، وعلموا أنه لا يضيع لديه مثقال ذرة يوم القيامة ، فأحدث لهم ذلك اعترافهم بأنهم عبيده وأنهم إليه راجعون في الدار الآخرة ، ولهذا أخبر تعالى عما أعطاهم على ذلك فقال : { أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } أي ثناء من الله عليهم { وأولئك هُمُ المهتدون } . قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب : نعم العِدْلان ونعمت العِلاوة { أولئك عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ } فهذا العدلان { وأولئك هُمُ المهتدون } فهذه العلاوة ، وهي ما توضع بين العدلين ، وهي زيادة في الحمل فكذلك هؤلاء أعطوا ثوابهم وزيدوا أيضاً .
وقد ورد في ثواب الاسترجاع عند المصائب أحاديث كثيرة ، فمن ذلك ما رواه الإمام أحمد عن أم سلمة قالت : أتاني أبو سلمة يوماً من عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : لقد سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قولا سررت به ، قال : « لا يصيب أحداً من المسلمين مصيبة فيسترجع عند مصيبته ثم يقول : اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها ، إلا فعل ذلك به » قالت أم سلمة : فحفظت ذلك منه فلما توفي أبو سلمة استرجعت وقلت : اللهم أجرني في مصيبتي وأخلف لي خيراً منها ، ثم رجعت إلى نفسي ، فقلت : من أين لي خير من أبي سلمة؟ فلما انقضت عدتي استأذن عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم وأنا أدبغ إهاباً لي ، فغسلت يدي من القرظ وأذنت له ، فوضعت له وسادة أدم حشوها ليف فقعد عليها فخطبني إلى نفسي ، فلما فرغ من مقالته قلت : يا رسول الله ما بي أن لا يكون بك الرغبة ، ولكني امرأة فيَّ غيرة شديدة ، فأخاف أن ترى مني شيئاً يعذبني الله به ، وأنا امرأة قد دخلت في السن وأنا ذات عيال ، فقال :(1/173)
« أمّا ما ذكرتِ من الغيرة فسوف يُذهبها الله عزّ وجلّ عنك ، وأمّا ما ذكرتِ من السن فقد أصابني مثل الذي أصابك ، وأمّا ما ذكرتِ من العيال فإنما عيالك عيالي » ، قالت : فقد سلَّمتُ لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فتزوجها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت أم سلمة بعد : أبدلني الله بأبي سلمة خيراً منه : رسول الله صلى الله عليه وسلم . وعن أم سلمة قالت : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من عبدٍ تصيبه مصيبة فيقول : { إِنَّا للَّهِ وَإِنَّآ إِلَيْهِ رَاجِعُونَ } اللهم أجرني في مصيبتي واخلف لي خيراً منها إلا آجره الله في مصيبته وأخلف له خيراً منها » ، قالت : فلما توفي أبو سلمة قلت كما أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخلف الله لي خيراً منه : رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مسلم ولا مسلمة يُصاب بمصيبة فيذكرها وإن طال عهدها فيحدث لذلك استرجاعاً إلا جدّد الله له عند ذلك فأعطاه مثل أجرها يوم أصيب » وعن أبي سنان قال : دفنت ابناً لي فإني لفي القبر إذ أخذ بيدي أبو طلحة ( يعني الخولاني ) فأخرجني وقال لي : ألا أبشِّرك؟ قلت : بلى ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال الله : يا ملك الموت قبضت ولد عبدي؟ قبضت قرة عينه وثمرة فؤاده؟ قال : نعم ، قال : فما قال؟ قال : حمدك واسترجع ، قال : ابنوا له بيتاً في الجنة وسموه بيت الحمد » .(1/174)
إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ (158)
روى الإمام أحمد عن عروة عن عائشة قال ، قلتُ : أرأيتِ قول الله تعالى : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } ؟ فوالله ما على أحدٍ جناح أن لا يتطوف بهما ، فقالت عائشة : بئس ما قلتَ يا ابن أختي إنها لو كانت على ما أولتها عليه كانت فلا جُناح عليه أن لا يطوَّف بهما ، ولكنها إنما أنزلت أن الأنصار كانوا قبل أن يسلموا كانوا يهلِّون لمناة الطاغية التي كانوا يعبدونها عن المشلل ، وكان من أهلَّ لها يتحرج أن يطوَّف بالصفا والمروة ، فسألوا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله إنا كنا نتحرج أن نطوَّف بالصفا والمروة في الجاهلية ، فأنزل الله عزّ وجلّ : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله فَمَنْ حَجَّ البيت أَوِ اعتمر فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِ أَن يَطَّوَّفَ بِهِمَا } . قالت عائشة : ثم قد سنَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم الطواف بهما فليس لأحد أن يدع الطواف بهما . وقال أنَس : كنا نرى أنهما من أمر الجاهلية ، فلما جاء الإسلام أمسكنا عنهما فأنزل الله عزّ وجلّ : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله } . وقال الشعبي : كان إساف على الصفا وكانت نائلة على المروة ، وكانوا يستلمونهما فتحرجوا بعد الإسلام من الطواف بينهما فنزلت هذه الآية .
وفي صحيح مسلم : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما فرغ من طوافه بالبيت عاد إلى الركن فاستلمه ثم خرج من باب الصفا وهو يقول : { إِنَّ الصفا والمروة مِن شَعَآئِرِ الله } ، ثم قال : » أبدأ بما بدأ الله به « وعن حبيبة بنت أبي تجراة قالت : » رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يطوف بين الصفا والمروة والناس بين يديه وهو وراءهم وهو يسعى ، حتى أرى ركبتيه من شدة السعي يدور به إزاره وهو يقول : « اسعوا فإن الله كتب عليكم السعي » ، وقد استدل بهذا الحديث من يرى أن السعي بين الصفا والمروة ركن في الحج ، كما هو مذهب الشافعي ورواية عن أحمد وهو المشهور عن مالك ، وقيل : إنه واجب وليس بركن فإن تركه عمداً أو سهواً جبره بدم وهو رواية عن أحمد . وقيل : بل مستحب . واحتجوا بقوله تعالى : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } ، والقول الأول أرجح لأنه عليه السلام طاف بينهما وقال : « خذوا عني مناسككم » بيَّن تعالى أن الطواف بين الصفا والمروة { مِن شَعَآئِرِ الله } أي مما شرع الله تعالى لأبراهيم في مناسك الحج ، وقد تقدم في حديث ابن عباس أن أصل ذلك مأخوذ من طواف هاجر ، وتردادها بين الصفا والمروة في طلب الماء لولدها لمّا نفد ماؤهما وزادهما ، فلم تزل تتردد في هذه البقعة المشرفة بين ( الصفا والمروة ) متذللة خائفة وجلة حتى كشف الله كربتها ، وآنس غربتها ، وفرَّج شدتها وأنبع لها زمزم التي ماؤها « طعام طعم ، وشفاء سقم » فالساعي بينهما ينبغي له أن يستحضر فقره وذله وحاجته إلى الله في هداية قلبه ، وصلاح حاله ، وغفران ذنبه ، وأن يلتجىء إلى الله عزّ وجلّ لتفريج ما هو به .(1/175)
وقوله : { وَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً } قيل : زاد في طوافه بينهما على قدر الواجب ثامنة وتاسعة ونحو ذلك ، وقيل : يطوف بينهما في حجة تطوع أو عمرة تطوع ، وقيل : المراد تطوّع خيراً في سائر العبادات . وقوله : { فَإِنَّ الله شَاكِرٌ عَلِيمٌ } أي يثيب على القليل بالكثير { عَلِيمٌ } بقدر الجزاء فلا يبخس أحداً ثوابه و { لاَ يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِن تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِن لَّدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً } [ النساء : 40 ] .(1/176)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ (159) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)
هذا وعيد شديد لمن كتم ما جاءت به الرسل ، من الدلالات البينة على المقاصد الصحيحة ، والهدى النافع للقلوب ، من بعد ما بينه الله تعالى لعباده ، في كتبه التي أنزلها على رسله ، وقد نزلت في أهل الكتاب كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم . وفي الحديث : « من سئل عن عِلْم فكتمه أَلجم يوم القيامة بلجام من نار » وروي عن أبي هريرة أنه قال : لولا آية في كتاب الله ما حدَّثت أحداً شيئاً { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلْنَا مِنَ البينات والهدى } الآية . قال أبو العالية : { وَيَلْعَنُهُمُ اللاعنون } يعني تلعنهم الملائكة والمؤمنون ، وقد جاء في الحديث : « إن العالم يستغفر له كل شيء حتى الحِيتان في البحر » ، وجاء في هذه الآية أن كاتم العلم يلعنه الله والملائكة والناس أجمعون . ثم استثنى الله تعالى من هؤلاء من تاب إليه فقال : { إِلاَّ الذين تَابُواْ وَأَصْلَحُواْ وَبَيَّنُواْ } أي رجعوا عمّا كانوا فيه ، وأصلحوا أعمالهم ، وبينوا للناس ما كانوا يكتمونه { فَأُوْلَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } ، وفي هذا دلالة على أن الداعية إلى كفر أو بدعة إذا تاب إلى الله تاب الله عليه ، ثم أخبر تعالى عمن كفر به واستمر به الحال إلى مماته بأن { عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا } أي في اللعنة التابعة لهم إلى يوم القيامة ، ثم المصاحبة لهم في نار جهنم { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب } فيها أي لا ينقص عمّا هم فيه { وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ } أي لا يغير عنهم ساعة واحدة ولا يفتر ، بل هو متواصل دائم فنعوذ بالله من ذلك . قال أبو العالية وقتادة : إن الكافر يوقف يوم القيامة فيلعنه الله ، ثم تلعنه الملائكة ، ثم يلعنه الناس أجمعون .
فصل
لا خلاف في جواز لعن الكفار ، فأما الكافر المعين فقد ذهب جماعة من العلماء إلى أنه لا يلعن لأنا لا ندري بما يختم الله له . وقالت طائفة أُخرى : بل يجوز لعن الكافر المعين ، واختاره ابن العربي ولكنه احتج بحديث فيه ضعف ، واستدل غيره بقوله عليه السلام : « لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله » فدل على أن من لا يحب الله ورسوله يلعن ، وقد كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه ومن بعده من الأئمة يلعنون الكفرة في القنوت وغيره ، واستدل بعضهم بالآية { أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ } والله أعلم .(1/177)
وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ (163)
يخبر تعالى عن تفرده بالإلهية ، وأنه لا شريك له ولا عديل له ، بل هو الله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لا إله إلا هو وأنه الرحمن الرحيم ، وقد تقدَّم تفسير هذين الاسمين في أول الفاتحة . وفي الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين { وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم } و { الم الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } [ آل عمران : 1-2 ] » ، ثم ذكر الدليل على تفرده بالإلهية ، بخلق السماوات والأرض وما فيهما وما بين ذلك ، مما ذرأ وبرأ من المخلوقات الدالة على وحدانيته فقال : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار . . . } .(1/178)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنْفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنْ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)
يقول تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } تلك في ارتفاعها ولطافتها واتساعها ، وكواكبها السيارة والثوابت ودوران فلكها ، وهذه الأرض في كثافتها وانخفاضها ، وجبالها وبحارها ، وقفارها وعمرانها ، وما فيها من المنافع ، واختلاف الليل والنهار ، هذا يجيء ثم يذهب ، ويخلفه الآخر ويعقبه ، لا يتأخر عنه لحظة كما قال تعالى : { لاَ الشمس يَنبَغِي لَهَآ أَن تدْرِكَ القمر وَلاَ اليل سَابِقُ النهار وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ } [ يس : 40 ] . وتارة يطول هذا ويقصر هذا ، وتارة يأخذ هذا من هذا ، ثم يتعاوضان كما قال تعالى : { يُولِجُ الليل فِي النهار وَيُولِجُ النهار فِي الليل } [ الحج : 61 ] أي يزيد من هذا في هذا ، ومن هذا في هذا ، { والفلك التي تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس } أي في تسخير البحر بحمل السفن من جانب إلى جانب ، لمعايش الناس والانتفاع بما عند أهل ذلك الإقليم ، ونقل هذا إلى هؤلاء وما عند أولئك إلى هؤلاء : { وَمَآ أَنزَلَ الله مِنَ السمآء مِن مَّآءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا } كما قال تعالى : { وَآيَةٌ لَّهُمُ الأرض الميتة أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبّاً فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ } [ يس : 33 ] ، { وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَآبَّةٍ } أي على اختلاف أشكالها وألوانها ، ومنافعها وصغرها وكبرها ، وهو يعلم ذلك كله ويرزقه ، لا يخفى عليه شيء من ذلك كما قال تعالى : { وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ } [ هود : 6 ] . { وَتَصْرِيفِ الرياح } أي فتارة تأتي بالرحمة ، وتارة تأتي بالعذاب ، وتارةً تأتي مبشرة بين يدي السحاب ، وتارةً تسوقه وتارة تجمعه ، وتارة تفرِّقه ، وتارة تصرفه ، ثم تارة تأتي من الجنوب وتارة تأتي من ناحية اليمن { والسحاب المسخر بَيْنَ السمآء والأرض } أي سائر بين السماء والأرض ، مسخر إلى ما يشاء الله من الأراضي والأماكن كما يصرفه تعالى : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } أي في هذه الأشياء دلالات بينة على وحدانية الله تعالى ، كما قال تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } [ آل عمران : 190 ] .
عن عطاء قال : نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة : { وإلهكم إله وَاحِدٌ لاَّ إله إِلاَّ هُوَ الرحمن الرحيم } [ البقرة : 163 ] فقال كفار قريش بمكة : كيف يسع الناس إله واحد؟ فأنزل الله تعالى : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تَجْرِي فِي البحر بِمَا يَنفَعُ الناس } إلى قوله : { لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ } فبهذا يعلمون أنه إله واحد ، وأنه إله كل شيء وخالق كل شيء . وقال أبو الضحى : لما نزلت { وإلهكم إله وَاحِدٌ } [ البقرة : 163 ] قال المشركون : إن كان هكذا فليأتنا بآية فأنزل الله : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار } إلى قوله : { يَعْقِلُونَ } .(1/179)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا وَأَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذَابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ (166) وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)
يذكر تعالى حال المشركين به في الدنيا وما لهم في الدار الآخرة ، حيث جعلوا له أنداداً أي امثالا ونظراء ، يعبدونهم معه ويحبونهم كحبه ، وهو الله لا إله إلا هو ولا ضد له ولا ند له ولا شريك معه ، وفي الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال ، قلت : يا رسول الله أَيُّ الذنْب أعظم؟ قال : « أن تجعل لله نداً هو خلقك » وقوله : { والذين آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً للَّهِ } ولحبهم لله وتمام معرفتهم به وتوقيرهم وتوحيدهم له لا يشركون به شيئاً ، بل يعبدونه وحده ويتوكلون عليه ، ويلجأون في جميع أمورهم إليه .
ثم توعد تعالى المشركين به الظالمين لأنفسهم بذلك فقال : { وَلَوْ يَرَى الذين ظلموا إِذْ يَرَوْنَ العذاب أَنَّ القوة للَّهِ جَمِيعاً } . قال بعضهم : تقدير الكلام لو عاينوا العذاب لعلموا حينئذٍ أن القوة لله جميعاً ، أي أن الحكم له وحده لا شريك له وأن جميع الأشياء تحت قهره وغلبته وسلطانه ، { وَأَنَّ الله شَدِيدُ العذاب } ، كما قال : { فَيَوْمَئِذٍ لاَّ يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ * وَلاَ يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ } [ الفجر : 25-26 ] . يقول : لو يعلمون ما يعاينونه هنالك ، وما يحل بهم من الأمر الفظيع ، المنكر الهائل على شركهم وكفرهم ، لانتهوا عمّا هم فيه من الضلال . ثم أخبر عن كفرهم بأوثانهم ، وتبري المتبوعين من التابعين فقال : { إِذْ تَبَرَّأَ الذين اتبعوا مِنَ الذين اتبعوا } ، تبرأت منهم الملائكة الذين كانوا يزعمون أنهم يعبدونهم في الدار الدنيا ، فتقول الملائكة : { تَبَرَّأْنَآ إِلَيْكَ مَا كانوا إِيَّانَا يَعْبُدُونَ } [ القصص : 63 ] ، ويقولون : { سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِمْ بَلْ كَانُواْ يَعْبُدُونَ الجن أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ } [ سبأ : 41 ] . والجن أيضاً تتبرأ منهم ويتنصلون من عبادتهم لهم ، كما قال تعالى : { وَإِذَا حُشِرَ الناس كَانُواْ لَهُمْ أَعْدَآءً وَكَانُواْ بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ } [ الأحقاف : 6 ] وقال تعالى : { كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدّاً } [ مريم : 82 ] .
وقوله : { وَرَأَوُاْ العذاب وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب } أي عاينوا عذاب الله وتقطعت بهم الحيل وأسباب الخلاص ولم يجدوا عن النار معدلاً ولا مصرفاً ، قال ابن عباس : { وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأسباب } المودة ، وقوله : { وَقَالَ الذين اتبعوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُواْ مِنَّا } أي لو أن لنا عودة إلى الدار الدنيا ، حتى نتبرأ من هؤلاء ومن عبادتهم ، فلا نلتفت إليهم بل نوحّد الله وحده بالعبادة ، وهم كاذبون في هذا بل لو ردّوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون ، كما أخبر الله تعالى عنهم بذلك ، ولهذا قال : { كَذَلِكَ يُرِيهِمُ الله أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ } أي تذهب وتضمحل ، كما قال تعالى : { وَقَدِمْنَآ إلى مَا عَمِلُواْ مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَآءً مَّنثُوراً } [ الفرقان : 23 ] ، وقال تعالى : { مَّثَلُ الذين كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشتدت بِهِ الريح فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ } [ إبراهيم : 18 ] الآية . وقال تعالى : { والذين كفروا أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظمآن مَآءً } [ النور : 39 ] الآية . ولهذا قال تعالى : { وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النار } .(1/180)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ (169)
لما بيَّن تعالى أنه لا إله إلا هو ، وأنه المستقل بالخلق ، شرع يبين أنه الرزاق لجميع خلقه ، فذكر في مقام الإمتنان أنه أباح لهم أن يأكلوا مما في الأرض ، في حال كونه حلالاً من الله طيباً أي مستطاباً في نفسه ، غير ضار للأبدان ولا للعقول ، ونهاهم عن اتباع خطوات الشيطان ، وهي طرائقه ومسالكه فيما أضل أتباعه فيه ، من تحريم البحائر والسوائب والوصائل ونحوها ، مما كان زينه لهم في جاهليتهم ، كما في حديث عياض بن حماد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « يقول الله تعالى إن كل مال منحته عبادي فهو لهم حلال - وفيه - وإني خلقت عبادي حنفاء فجاءتهم الشياطين فاجتالتهم عن دينهم وحرمت عليهم ما أحللت لهم » وعن ابن عباس قال : « تليت هذه الآية عند النبي صلى الله عليه وسلم { ياأيها الناس كُلُواْ مِمَّا فِي الأرض حَلاَلاً طَيِّباً } فقام سعد بن أبي وقاص فقال : يا رسول الله أدع الله أن يجعلني مستجاب الدعوة ، فقال : » يا سعد أطب مطعمك تكن مستجاب الدعوة ، والذي نفس محمد بيده إن الرجل ليقذف اللقمة الحرام في جوفه ما يتقبل منه أربعين يوماً ، وأيّما عبد نبت لحمه من السحت والربا فالنار أولى به « » .
وقوله تعالى : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } تنفير عنه وتحذير منه ، كما قال : { إِنَّ الشيطان لَكُمْ عَدُوٌّ فاتخذوه عَدُوّاً } [ فاطر : 6 ] . وقال تعالى : { أَفَتَتَّخِذُونَهُ وَذُرِّيَّتَهُ أَوْلِيَآءَ مِن دُونِي وَهُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً } [ الكهف : 50 ] قال قتادة والسُّدي : كل معصية لله فهي من خطوات الشيطان . وقال مسروق : أُتي عبد الله بن مسعود بضرع وملح فجعل يأكل ، فاعتزل رجل من القوم ، فقال ابن مسعود : ناولوا صاحبكم ، فقال : لا أريده ، فقال : أصائم أنت؟ قال : لا ، قال : فما شأنك؟ قال : حرمت أن آكل ضرعاً أبداً ، فقال ابن مسعود : هذا من خطوات الشيطان ، فاطعم وكفّر عن يمينك . وعن ابن عباس قال : ما كان من يمين أو نذر في غضب ، فهو من خطوات الشيطان ، وكفارتُه كفارة يمين . وقوله : { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } أي إنما يأمركم عدوكم الشيطان بالأفعال السيئة ، وأغلظ منها الفاحشة كالزنا ونحوه ، وأغلظُ من ذلك وهو القول على الله بلا علم ، فيدخل في هذا كل كافر وكل مبتدع أيضاً .(1/181)
وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ (170) وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لَا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَعْقِلُونَ (171)
يقول تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ } للكفرة المشركين : { اتبعوا مَآ أَنزَلَ الله } على رسوله ، واتركوا ما أنتم عليه من الضلال والجهل ، قالوا في جواب ذلك : { بَلْ نَتَّبِعُ مَآ أَلْفَيْنَا } أي ما وجدنا عليه آباءنا ، أي من عبادة الأصنام والأنداد . قال الله تعالى منكراً عليهم : { أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ } أي الذي يقتدون بهم ويقتفون أثرهم { لاَ يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ } أي ليس لهم فهم ولا هداية ، عن ابن عباس أنها نزلت في طائفة من اليهود ، دعاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الإسلام ، فقالوا : بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا ، فأنزل الله هذه الآية . ثم ضرب لهم تعالى مثلاً ، كما قال تعالى : { لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بالآخرة مَثَلُ السوء } [ النحل : 60 ] ، فقال : { وَمَثَلُ الذين كَفَرُواْ } أي فيما هم فيه من الغي والضلال والجهل ، كالدواب السارحة التي لا تفقه ما يُقال لها ، بل إذا نعق بها راعيها ، أي دعاها إلى ما يرشدها لا تفقه ما يقول ولا تفهمه بل إنما تسمع صوته فقط ، هكذا روي عن ابن عباس . وقيل : إنما هذا مثل ضرب لهم في دعائهم الأصنام التي لا تسمع ولا تبصر ولا تعقل شيئاً ، واختاره ابن جرير ، والأول أولى لأن الأصنام لا تسمع شيئاً ولا تعقله ولا تبصره ولا بطش لها ولا حياة فيها ، وقوله : { صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ } أي صم عن سماع الحق ، بُكْمٌ لا يتفوهون به ، عمي عن رؤية طريقه ومسلكه { فَهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ } أي لا يعقلون شيئاً ولا يفهمونه ، كما قال تعالى : { والذين كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظلمات مَن يَشَإِ الله يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ على صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } [ الأنعام : 39 ] .(1/182)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالدَّمَ وَلَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلَا عَادٍ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالأكل من طيبات ما رزقهم تعالى ، وأن يشكروه تعالى على ذلك إن كانوا عُبَّاده ، والأكل من الحلال سبب لتقبّل الدعاء والعبادة ، كما أن الأكل من الحرام يمنع قبول الدعاء والعبادة ، كما جاء في الحديث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أيها الناس إن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، وإن الله أمر المؤمنين بما أمر به المرسلين فقال : { ياأيها الرسل كُلُواْ مِنَ الطيبات واعملوا صَالِحاً إِنِّي بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } [ المؤمنون : 51 ] وقال : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ } . ثم ذكر الرجل يطيل السفر ، أشعث أغبر ، يمد يديه إلى السماء يا رب يا رب ، ومطعَمُه حرامٌ ، ومشربه حرام ، وملبسه حرام ، وغذي بالحرام ، فأنّى يستجاب لذلك؟ » ولما امتن تعالى عليهم برزقه وأرشدهم إلى الأكل من طِّيبه ، ذكر أنه لم يحرم عليهم من ذلك إلا الميتة ، وهي التي تموت حتف أنفها من غير تذكية ، وسواء كانت منخنقة أو موقوذة أو متردية أو نطيحة أو عدا عليها السبع ، وقد خصص الجمهو من ذلك ميتة البحر لقوله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ البحر وَطَعَامُهُ } [ المائدة : 96 ] ، وقوله عليه السلام في البحر : « هو الطهور ماؤه الحل ميتته » ، وسيأتي تقرير ذلك إن شاء الله في سورة المائدة .
ثم أباح تعالى تناول ذلك عند الضرورة والاحتياج إليها عند فقد غيرها من الأطعمة فقال : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } أي من غير بغي ولا عدوان وهو مجاوزة الحد { فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } أي في أكل ذلك . { إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } . قال مجاهد : { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } من خرج باغياً أو عادياً أو في معصية الله فلا رخصة له وإن اضطر إليه ، وقال مقاتل بن حيان : { غَيْرَ بَاغٍ } يعني غير مستحله ، وقال السُّدي : { غَيْرَ بَاغٍ } يبتغي فيه شهواته ، وعن ابن عباس : لا يشبع منها وعنه : { غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } قال : { غَيْرَ بَاغٍ } في الميتة ، ولا عادٍ في أكله ، وقال قتادة : { فَمَنِ اضطر غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ } قال : غير باغ في الميتة أي في أكله أن يتعدى حلالاً إلى حرام هو يجد عنه مندوحة ، وحكى القرطبي عن مجاهد في قوله : { فَمَنِ اضطر } أي أكره على ذلك بغير اختياره .
مسألة
إذا وجد المضطر ميتة وطعام الغير ، بحيث لا قطع فيه ولا أذى ، فإنه لا يحل له أكل الميتة ، بل يأكل طعام الغير بغير خلاف لحديث عباد بن شرحيل العنزي قال : أصابتنا عاماً مخمصةٌ فأتيت المدينة ، فأتيت حائطاً ، فأخذت سنبلاً ففركته وأكلته وجعلت منه في كسائي ، فجاء صاحب الحائط فضربني وأخذ ثوبي ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته ، فقال للرجل : « ما أطعمته إذ كان جائعاً ولا ساعياً ، ولا علَّمته إذ كان جاهلاً » فأمره فرد إليه ثوبه ، وأمر له بوسق طعام أو نصف وسق .(1/183)
وقال مقاتل بن حيان : في قوله { فلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فيما أكل من اضطرار ، وبلغنا - والله أعلم - أنه لا يزاد على ثلاث لقم ، وقال سعيد بن جبير : { غَفُورٌ } لما أكل من الحرام { رَّحِيمٌ } إذ أحل له الحرام في اضطرار ، وقال مسروق : من اضطر فلم يأكل ولم يشرب ثم مات دخل النار ، وهذا يقتضي أنّ أكل الميتة للمضطر عزيمة لا رخصة ، وهذا هو الصحيح كالإفطار للمريض .(1/184)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتَابِ وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (174) أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى وَالْعَذَابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَمَا أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتَابِ لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ (176)
يقول تعالى : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب } يعني اليهود الذين كتموا صفة محمد صلى الله عليه وسلم ، في كتبهم التي بأيديهم مما تشهد له بالرسالة والنبوة ، فكتموا ذلك لئلا تذهب رياستهم ، وما كانوا يأخذونه من العرب من الهدايا والتحف على تعظيمهم آباءهم ، فخشوا - لعنهم الله - إن أظهروا ذلك أن يتبعه الناس ويتركوهم ، فكتموا ذلك إبقاء على ما كان يحصل لهم من ذلك وهو نزر يسير ، فباعوا أنفسهم بذلك ، واعتاضوا عن الهدى بذلك النزر اليسر ، فخابوا وخسروا في الدنيا والآخرة ، أما في الدنيا فإن الله أظهر لعباده صدق رسوله ، بما نصبه وجعله معه من الآيات الظاهرات والدلائل القاطعات ، فصدقه الذين كانوا يخافون أن يتبعوه ، وصاروا عوناً له على قتالهم ، وباءوا بغضب على غضب ، وذمّهم الله في كتابه في غير موضع ، فمن ذلك هذه الآية الكريمة : { إِنَّ الذين يَكْتُمُونَ مَآ أَنزَلَ الله مِنَ الكتاب وَيَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً } وهو عرض الحياة الدنيا { أولئك مَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النار } ، أي إنما يأكلون ما يأكلونه في مقابلة كتمان الحق ناراً تأجج في بطونهم يوم القيامة ، كما قال تعالى : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] وفي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن الذي يأكل أو يشرب في آنية الذهب والفضة إنما يجرجر في بطنه نار جهنم » .
وقوله تعالى : { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله يَوْمَ القيامة وَلاَ يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، وذلك لأنه تعالى غضبان عليهم ، لأنهم كتموا وقد علموا فاستحقوا الغضب ، فلا ينظر إليهم { ولا يزكيهم } أي يثني عليهم ويمدحهم بل يعذبهم عذاباً أليماً ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : شيخ زان ، وملك كذاب ، وعائل مستكبر » ثم قال تعالى مخبراً عنهم : { أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى } ، أي اعتاضوا عن الهدى - وهو نشر ما في كتبهم من صفة الرسول وذكر مبعثه والبشارة به من كتب الأنبياء واتباعه وتصديقه - استبدلوا عن ذلك واعتاضوا عنه الضلالة ، وهو تكذيبه والكفر به وكتمان صفاته في كتبهم { والعذاب بالمغفرة } أي اعتاضوا عن المغفرة بالعذاب وهو ما تعاطوه من أسبابه المذكورة .
وقوله تعالى : { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } يخبر تعالى أنهم في عذاب شديد عظيم هائل ، يتعجب من رآهم فيها من صبرهم على ذلك مع شدة ما هم فيه من العذاب والنكال والأغلال عياذاً بالله من ذلك ، وقيل : معنى قوله : { فَمَآ أَصْبَرَهُمْ عَلَى النار } أي فما أدومهم لعمل المعاصي التي تفضي بهم إلى النار .(1/185)
وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق } أي إنما استحقوا هذا العذاب الشديد ، لأن الله تعالى أنزل على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، وعلى الأنبياء قبله كتبه بتحقيق الحق وإبطال الباطل ، وهؤلاء اتخذوا آيات الله هزواً ، فكتابهم يأمرهم بإظهار العلم ونشره فخالفوه وكذبوه ، وهذا الرسول الخاتم يدعوهم إلى الله تعالى ، ويأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، وهم يكذبونه ويخالفونه ، ويجحدونه ويكتمون صفته ، فاستهزأوا بآيات الله المنزلة على رسله ، فلهذا استحقوا العذاب والنكال ، ولهذا قال : { ذَلِكَ بِأَنَّ الله نَزَّلَ الكتاب بالحق وَإِنَّ الذين اختلفوا فِي الكتاب لَفِي شِقَاقٍ بَعِيدٍ } .(1/186)
لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)
اشتملت هذه الآية الكريمة على جمل عظيمة ، وقواعد عميقة ، وعقيدة مستقيمة ، فإن الله تعالى لما أمر المؤمنين أولاً بالتوجُّه إلى بيت المقدس ، ثم حوّلهم إلى الكعبة ، شقَّ ذلك على نفوس طائفة من أهل الكتاب وبعض المسلمين ، فأنزل الله تعالى بيان حكمته في ذلك ، وهو أن المراد إنما هو طاعة الله عزّ وجلّ ، وامتثال أوامره ، والتوجه حيثما وجّه ، واتباع ما شرع ، فهذا هو البر والتقوى والإيمان الكامل ، وليس في لزوم التوجه إلى جهة المشرق أو المغرب برٌّ ولا طاعة ، إن لم يكن عن أمر الله وشرعه ، ولهذا قال : { ولكن البر مَنْ آمَنَ بالله واليوم الآخر } كما قال في الأضاحي والهدايا : { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ } [ الحج : 37 ] . وقال ابن عباس في هذه الآية : ليس البر أن تصلُّوا ولا تعلموا ، فأمر الله بالفرائض والعمل بها ، وقال أبو العالية : كانت اليهود تُقْبل قبل المغرب ، وكانت النصارى تُقْبل قبل المشرق ، فقال الله تعالى { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب } يقول : هذا كلام الإيمان وحقيقته العمل ، وقال مجاهد : ولكن البر ما ثبت في القلوب من طاعة الله عزّ وجلّ ، { والكتاب } وهو اسم جنس يشمل الكتب المنزلة من السماء على الأنبياء ، حتى ختمت بأشرفها وهو القرآن المهيمن على ما قبله من الكتب ، الذي انتهى إليه كل خير ، واشتمل على كل سعادة في الدنيا والآخرة ، ونسخ به كل ما سواه من الكتب قبله وآمن بأنبياء الله كلهم من أولهم إلى خاتمهم محمد صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين وقوله تعالى : { وَآتَى المال على حُبِّهِ } أي أخرجه وهو محبٌ له راغب فيه ، كما ثبت في الصحيحين من حديث أبي هريرة مرفوعاً : « أفضل الصدقة أن تصدَّق وأنت صحيح شحيح تأمل الغنى وتخشى الفقر » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « { وَآتَى المال على حُبِّهِ } أن تعطيه وأنت صحيح شحيح تأمل العيش وتخشى الفقر » ، وقال تعالى : { وَيُطْعِمُونَ الطعام على حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ الله لاَ نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَآءً وَلاَ شُكُوراً } [ الإنسان : 8-9 ] ، وقال تعالى : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } [ آل عمران : 92 ] وقوله : { وَيُؤْثِرُونَ على أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ } [ الحشر : 9 ] نمط آخر أرفع من هذا وهو أنهم آثروا بما هم مضطرون إليه ، وهؤلاء أعطوا وأطعموا ما هم محبون له .
وقوله تعالى : { ذَوِي القربى } وهم قرابات الرجل ، وهم أولى من أعطى من الصدقة كما ثبت في الحديث : « الصدقة على المساكين صدقة وعلى ذوي الرحم ثنتان : صدقة وصلة ، فهم أولى الناس بك وبِبرَّك وإعطائك » وقد أمر الله تعالى بالإحسان إليهم في غير موضع من كتابه العزيز { واليتامى } هم الذين لا كاسب لهم وقد مات آباؤهم وهم ضعفاء صغار دون البلوغ ، والقدرة على التكسب ، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/187)
« لا يتم بعد حلم » { والمساكين } وهم الذين لا يجدون ما يكفيهم في قوتهم وكسوتهم وسكناهم ، فيُعْطون ما تسد به حاجتهم وخلتهم ، وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ليس المسكين بهذ الطوّاف الذي ترده التمرة والتمرتان واللقمة واللقمتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ولا يفطن له فيتصدق عليه » ، { وابن السبيل } وهو المسافر المجتاز الذي قد فرغت نفقته ما يوصله إلى بلده ، وكذا الذي يريد سفراً في طاعة فيعطي ما يكفيه في ذهابه وإيابه ، ويدخل في ذلك الضيف كما قال ابن عباس { ابن السبيل } : هو الضيف الذي ينزل ، { والسآئلين } وهم الذين يتعرضون للطلب فيعطون من الزكوات والصدقات ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « للسائل حق وإن جاء على فرس » ، { وَفِي الرقاب } وهم المكاتبون الذين لا يجدون ما يؤدونه في كتابتهم ، عن فاطمة بنت قيس قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « في المال حق سوى الزكاة » ، ثم قرأ : { لَّيْسَ البر أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ المشرق والمغرب - إلى قوله - وَفِي الرقاب } .
وقوله تعالى : { وَأَقَامَ الصلاة } أي وأتم أفعال الصلاة في أوقاتها بركوعها وسجودها وطمأنينتها وخشوعها ، على الوجه الشرعي المرضي ، وقوله : { وَآتَى الزكاة } كقوله : { وَوَيْلٌ لِّلْمُشْرِكِينَ الذين لاَ يُؤْتُونَ الزكاة } [ فصلت : 6-7 ] والمراد زكاة المال كما قاله سعيد بن جبير ومقاتل بن حيان ، ويكون المذكور من إعطاء هذه الجهات والأصناف المذكورين ، إنما هو التطوع والبر والصلة ، ولهذا تقدم في الحديث عن فاطمة بنت قيس أن في المال حقاً سوى الزكاة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { والموفون بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ } كقوله : { الذين يُوفُونَ بِعَهْدِ الله وَلاَ يَنقُضُونَ الميثاق } [ الرعد : 20 ] وعكس هذه الصفة النفاق كما صح في الحديث : « آية المنافق ثلاث إذا حدَّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا ائتمن خان » ، وفي الحديث الآخر : « وإذا حدّث كذب وإذا عاهد غدر وإذا خاصم فجر » ، وقوله تعالى : { والصابرين فِي البأسآء والضراء وَحِينَ البأس } أي في حال الفقر وهو البأساء ، وفي حال المرض والأسقام وهو الضراء ، { وَحِينَ البأس } أي في حال القتال والتقاء الأعداء قاله ابن مسعود وابن عباس . وإنما نصب { الصابرين } على المدح والحث على الصبر في هذه الأحوال لشدته وصعوبته ، والله أعلم . وقوله : { أولئك الذين صَدَقُواْ } أي هؤلاء الذين اتصفوا بهذه الصفات هم الذين صدقوا في إيمانهم ، لأنهم حققوا الإيمان القلبي بالأقوال والأفعال ، فهؤلاء هم الذين صدقوا { وأولئك هُمُ المتقون } لأنهم اتقوا المحارم وفعلوا الطاعات .(1/188)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالْأُنْثَى بِالْأُنْثَى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ ذَلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (178) وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)
يقول تعالى : كتب عليكم العدل في القصاص - أيها المؤمنون - حركم بحركم ، وعبدكم بعبدكم ، وأنثاكم بأنثاكم ، ولا تتجاوزوا وتعتدوا كما اعتدى من قبلكم وغيّروا حكم الله فيهم ، وسبب ذلك ( قريظة والنضير ) فكان إذا قتل النضري القرظي لا يقتل به بل يُفَادى بمائة وسق من التمر ، وإذا قتل القرظي النضري قتل ، وإن فادوه فدوه بمائتي وسق من التمر ، ضعف دية القرظي ، فأمر الله تعالى بالعدل في القصاص ، ولا يتبع سبيل المفسدين المحرفين ، المخالفين لأحكام الله فيهم كفراً وبغياً فقال تعالى : { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } وذكر عن سعيد ابن جبير في قول الله تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى } يعني إذا كان عمداً الحر بالحر ، وذلك أن حيين من العرب اقتتلوا في الجاهلية قبل الإسلام بقليل ، فكان بينهم قتل وجراحات ، حتى قتلوا العبيد والنساء ، فلم يأخذ بعضهم من بعض حتى أسلموا ، فكان أحد الحيين يتطاول على الآخر في العدة والأموال ، فحلفوا أن لا يرضوا حتى يقتل بالعبد منا الحر منهم ، والمرأة منا الرجل منهم ، فنزل فيهم : { الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى } . وعن ابن عباس في قوله : { والأنثى بالأنثى } أنهم كانوا لا يقتلون الرجل بالمرأة ، ولكن يقتلون الرجل بالرجل ، والمرأة بالمرأة ، فأنزل الله النفس بالنفس والعين بالعين ، فجعل الأحرار في القصاص سواء فيما بينهم من العمد رجالهم ونساؤهم في النفس وفيما دون النفس ، وجعل العبيد مستويين فيما بينهم من العمد في النفس وفيما دون النفس رجالهم ونساؤهم وكذلك روي عن أبي مالك أنها منسوخة بقوله : { النفس بالنفس } [ المائدة : 45 ] .
مسألة
ذهب أبو حنيفة إلى أن الحر يقتل بالعبد لعموم آية المائدة وهو مروي عن ( عليّ ) و ( ابن مسعود ) قال البخاري : يقتل السيد بعبده لعموم حديث : « من قتل عبده قتلناه ومن جدع عبده جدعناه ومن خصاه خصيناه » ، وخالفهم الجمهور فقالوا : لا يقتل الحر بالعبد ، لأن العبد سلعة لو قتل خطأ لم يجب فيه دية وإنما تجب فيه قيمته ، ولأنه لا يقاد بطرفه ففي النفس بطريق الأولى ، وذهب الجمهور إلى ان المسلم لا يقتل بالكافر لما ثبت في البخاري عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يقتل مسلم بكافر » ، ولا يصح حديث ولا تأويل يخالف هذا ، وأما أبو حنيفة فذهب إلى أنه يقتل به لعموم آية المائدة .
مسألة
قال الحسن وعطاء : لا يقتل الرجل بالمرأة لهذه الآية ، وخالفهم الجمهور لآية المائدة ولقوله عليه السلام : « المسلمون تتكافأ دماؤهم » ، وقال الليث : إذا قتل الرجل امرأته لا يقتل بها خاصة .
مسألة
ومذهب الأئمة الأربعة والجمهور أن الجماعة يقتلون بالواحد ، قال عمر في غلام قتله سبعة فقتلهم وقال : ( لو تمالأ عليه أهل صنعاء لقتلتهم ) ، ولا يعرف له في زمانه مخالف من الصحابة وذلك كالإجماع ، وحكي عن الإمام أحمد رواية أن الجماعة لا يقتلون بالواحد ، ولا يقتل بالنفس إلا نفس واحدة .(1/189)
وقوله تعالى : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } قال مجاهد : العفو : أن يقبل الدية في العمد . وعن ابن عباس : { فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } يعني فمن ترك له من أخيه شيء يعني أخذ الدية بعد استحقاق الدم وذلك العفو { فاتباع بالمعروف } ، يقول : فعلى الطالب اتباع بالمعروف إذا قبل الدية { وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } يعني من القاتل من غير ضرر يؤدي المطلوب إليه بإحسان ، { ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } يقول تعالى إنما شرع لكم أخذ الدية في العمد ، تخفيفاً من الله عليكم ورحمة بكم ، مما كان محتوماً على أمم قبلكم من القتل أو العفو ، كما قال مجاهد عن ابن عباس : كتب على بني إسرائيل القصاص في القتلى ولم يكن فيهم العفو ، فقال الله لهذه الأمة : { كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص فِي القتلى الحر بِالْحُرِّ والعبد بالعبد والأنثى بالأنثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ } فالعفو أن يقبل الدية في العمد ، ذلك تخفيف مما كتب على بني إسرائيل ومن كان قبلكم { فاتباع بالمعروف وَأَدَآءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ } وقال قتادة : { ذلك تَخْفِيفٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَرَحْمَةٌ } رحم الله هذه الأمة وأطعمهم الدية ، ولم تحل لأحد قبله ، فكان أهل التوراة إنما هو القصاص . وعفو ليس بينهم أرش ، وكان أهل الإنجيل إنما هو عفو أمروا به ، وجعل لهذه الأمة القصاص والعفو والأرش .
وقوله تعالى : { فَمَنِ اعتدى بَعْدَ ذلك فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ } يقول تعالى فمن قَتَل بعد أخذ الدية أو قبولها فله عذاب من الله ، أليم : موجع شديد ، لحديث : « من أصيب بقتل أو خبل فإنه يختار إحدى ثلاث : إما أن يقتص ، وإما أن يعفو ، وإما أن يأخذ الدية ، فإن أراد الرابعة فخذوا على يديه ، ومن اعتدى بعد ذلك فله نار جهنم خالداً فيها » .
وقوله تعالى : { وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة } ، يقول تعالى : وفي شرع القصاص لكم وهو قتل القاتل ، حكمة عظيمة وهي بقاء المهج وصونها ، لأنه إذا علم القاتل أنه يقتل ، انكف على صنيعه فكان في ذلك حياة للنفوس ، واشتهر قولهم : « القتل أنفى للقتل » فجاءت هذه العبارة في القرآن أفصح وأبلغ وأوجز { وَلَكُمْ فِي القصاص حياوة } قال أبو العالية : جعل الله القصاص حياة ، فكم من رجل يريد أن يقتل فتمنعه مخافة أن يقتل ، { ياأولي الألباب لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } يقول يا أولي العقول والأفهام والنهى ، لعلكم تنزجرون وتتركون محارم الله ومآثمه . والتقوى : اسم جامع لفعل الطاعات وترك المنكرات .(1/190)
كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَمَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خَافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفًا أَوْ إِثْمًا فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)
اشتملت هذه الآية الكريمة على الأمر بالوصية للوالدين والأقربين ، وقد كان ذلك واجباً قبل نزول آية المواريث ، فلما نزلت آية الفرائض نسخت هذه ، وصارت المواريث المقدرة فريضة من الله ، يأخذها أهلوها حتماً من غير وصية ولا تحمل مِنَّة الموصي ، ولهذا جاء في الحديث : « إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث » وعن ابن عباس في قوله : { الوصية لِلْوَالِدَيْنِ والأقربين } نسختها هذه الآية : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنِّسَآءِ نَصِيبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَّفْرُوضاً } [ النساء : 7 ] . والعجب من الرازي كيف حكى عن أبي مسلم الأصفهاني أن هذه الآية غير منسوخة ، وإنما هي مفسرة بآية المواريث ، ومعناه : كتب عليكم ما أوصى الله به من توريث الوالدين والأقربين من قوله : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] ، قال : وهو قول أكثر المفسرين والمعتبرين من الفقهاء ، قال : ومنهم من قال إنها منسوخة فيمن يرث ، ثابتة فيمن لا يرث ، ولكن على قول هؤلاء لا يسمى نسخاً في اصطلاحنا المتأخر ، لأن آية المواريث إنما رفعت حكم بعض أفراد ما دل عليه عموم آية الوصاية ، لأن الأقربين أعم ممن يرث ومن لا يرث ، فرفع حكم من يرث بما عين له وبقي الآخر على ما دلت عليه الآية الأولى ، وهذا إنما يتأتى على قول بعضهم : إن الوصاية في ابتداء الإسلام إنما كانت ندباً حتى نسخت ، فأما من يقول : إنها كانت واجبة ، وهو الظاهر من سياق الآية ، فيتعين أن تكون منسوخة بآية الميراث ، كما قاله أكثر المفسرين . فإن وجوب الوصية للوالدين والأقربين الوارثين منسوخ بالإجماع ، بل منهي عنه للحديث المتقدم : « إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث » بقي الأقارب الذين لا ميراث لهم ، يستحب له أن يوصي لهم من الثلث ، استئناساً بآية الوصية وشمولها ، ولما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما حق امرىء مسلم له شيء يوصي فيه يبيت ليلتين إلا ووصيته مكتوبة عنده » قال ابن عمر : ما مرت علي ليلة منذ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول ذلك إلا وعندي وصيتي { إِن تَرَكَ خَيْراً } أي مالاً ، قاله ابن عباس ومجاهد . ثم منهم من قال : الوصية مشروعة سواء قل المال أو كثر ، ومنهم من قال : إنما يوصي إذا ترك مالاً كثيراً . قيل لعلي رضي الله عنه : إن رجلاً من قريش قد مات وترك ثلثمائة دينار أو أربعمائة ولم يوص ، قال : ليس بشيء ، إنما قال الله { إِن تَرَكَ خَيْراً } إذا تركت شيئاً يسيراً فاتركه لولدك . وقال ابن عباس : من لم يترك ستين ديناراً لم يترك خيراً .(1/191)
وقال قتادة : كان يقال ألفاً فما فوقها ، وقوله : { بالمعروف } أي بالرفق والإحسان ، والمراد بالمعروف أن يوصي لأقاربه وصيةً لا تجحف بورثته كما ثبت في الصحيحين « أن سعداً قال : يا رسول الله : إن لي مالاً ولا يرثني إلا ابنة لي أفأوصي بثلثي مالي؟ قال : » لا « قال : فبالشطر؟ قال : » لا « قال : فبالثلث؟ قال : » الثلث ، والثلث كثير ، إنك إن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكففون الناس « وفي صحيح البخاري أن ابن عباس قال : » لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الثلث والثلث كثير » « .
وقوله تعالى : { فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ مَا سَمِعَهُ فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } يقول تعالى : فمن بدل الوصية وحرَّفها فغيَّر حكمها وزاد فيها أو نقص ، ويدخل في ذلك الكتمان لها بطريق الأولى { فَإِنَّمَا إِثْمُهُ عَلَى الذين يُبَدِّلُونَهُ } ، قال ابن عباس : وقع أجر الميت على الله ، وتعلَّق الإثم بالذين بدلوا ذلك . { إِنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي قد اطلع على ما أوصى به الميت وهو عليم بذلك وبما بدله الموصَى إليهم . وقوله تعالى : { فَمَنْ خَافَ مِن مُّوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً } قال ابن عباس : الجنف : الخطأ ، وهذا يشمل أنواع الخطأ كلها ، بأن زادوا وارثاً بواسطة أو وسيلة ، كما إذا أوصى لابن ابنته ليزيدها أو نحو ذلك من الوسائل ، إما مخطئاً غير عامد بل بطبعه وقوة شفقته من غير تبصر ، أو متعمداً آثماً في ذلك ، فللوصي والحالة هذه أن يصلح القضية ويعدل في الوصية على الوجه الشرعي ، ويعدل عن الذي أوصى به الميت ، إلى ما هو أقرب الأشياء إليه وأشبه الأمور به ، جمعاً بين مقصود الموصي والطريق الشرعي ، وهذا الإصلاح والتوفيق ليس من التبديل في شيء ، ولهذا عطف هذا فنبَّه على النهي عن ذلك ، ليعلم أن هذا ليس من ذلك بسبيل ، والله أعلم . وفي الحديث : » الجنف في الوصية من الكبائر « وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة فإذا أوصى جاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة « قال أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا } [ البقرة : 229 ] الآية .(1/192)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْرًا فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَأَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)
يخاطب تعالى المؤمنين من هذه الأُمة ، آمراً إياهم بالصيام ، وهو الإمساك عن الطعام والشراب والوقاع ، بنية خالصةٍ لله عزّ وجلّ ، لما فيه من زكاة النفوس وطهارتها ، وتنقيتها من الأخلاط الرديئة والأخلاق الرذيلة ، وذكر أنه كما أوجبه عليهم فقد أوجبه على من كان قبلهم ، فلهم فيه أسوة ، وليجتهد هؤلاء في أداء هذا الفرض أكمل مما فعله أولئك كما قال تعالى : { فاستبقوا الخيرات } [ البقرة : 148 ] ، ولهذا قال هاهنا : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } لأن الصوم فيه تزكية للبدن ، وتضييق لمسالك الشيطان ، ولهذا ثبت في الصحيحين : « يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوج . . ومن لم يستطع فعليه بالصوم فإنه له وجاء » ، ثم بيَّن مقدار الصوم وأنه ليس في كل يوم ، لئلا يشق على النفوس ، فتضعف عن حمله وأدائه ، بل في أيام معدودات ، وقد كان هذا في ابتداء الإسلام ، يصومون من كل شهر ثلاثة أيام ، ثم نسخ ذلك بصوم شهر رمضان كما سيأتي بيانه . وقد روي أن الصيام كان أولاً كما كان عليه الأمم قبلنا ، من كل شهر ثلاثة أيام ولم يزل هذا مشروعاً من زمان نوح ، إلى أن نسخ الله ذلك بصيام شهر رمضان ، وقال الحسن البصري : لقد كتب الصيام على كل أُمّة قد خلت كما كتب علينا ، شهراً كاملاً وأياماً معدودات عدداً معلوماً . وعن عبد الله بن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « صيام رمضان كتبه الله على الأمم قبلكم » .
وقال عطاء عن ابن عباس : { كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } يعني بذلك أهل الكتاب ، ثم بين حكم الصيام على ما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام فقال : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } أي المريض والمسافر لا يصومان في حال المرض والسفر ، لما في ذلك من المشقة عليهما ، بل يفطران ويقضيان بعدة ذلك من أيام أُخر ، وأما الصحيح المقيم الذي يطيق الصيام ، فقد كان مخيراً بين الصيام وبين الإطعام ، إن شاء صام وإن شاء أفطر وأطعم عن كل يوم مسكيناً ، فإن أطعم أكثر من مسكين عن كل يوم فهو خير ، وإن صام فهو أفضل من الإطعام ، قاله ابن مسعود وابن عباس ، ولهذا قال تعالى : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ فَمَن تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَّهُ وَأَن تَصُومُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } .
روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قدم المدينة فجعل يصوم من كل شهر ثلاثة أيام وصام عاشوراء ، ثم إن الله فرض عليه الصيام وأنزل الله تعالى { ياأيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام كَمَا كُتِبَ عَلَى الذين مِن قَبْلِكُمْ } إلى قوله : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } فكان من شاء صام ومن شاء أطعم مسكيناً فأجزأ ذلك عنه ، ثم إن الله عزّ وجلّ أنزل الآية الأُخرى :(1/193)
{ شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } [ البقرة : 185 ] إلى قوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] فأثبت الله صيامه على المقيم الصحيح ، ورخَّص فيه للمريض والمسافر ، وثبت الإطعام للكبير الذي لا يستطيع الصيام ، وكانوا يأكلون ويشربون ويأتون النساء ما لم يناموا فإذا ناموا امتنعوا ، ثم إن رجلاً من الأنصار يقال له ( صرمة ) كان يعمل صائماً ، حتى أمسى فجاء إلى أهله فصلَّى العِشاء ثم نام ، فلم يأكل ولم يشرب ، حتى أصبح ، فأصبح صائماً فرآه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد جهد جهداً شديداً ، فقال : « مالي أراك قد جهدت جهداً شديداً؟ » قال : يا رسول الله إني عملت أمس ، فجئت حين جئت فألقيت نفسي فنمت ، فأصبحت حين اصبحت صائماً ، قال : وكان عم قد أصاب من النساء بعد ما نام ، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فذكر له ذلك فأنزل الله عزّ وجلّ : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } [ البقرة : 187 ] - إلى قوله - { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } [ البقرة : 187 ] .
وروي البخاري عن سلمة بن الأكوع أنه قال : لما نزلت { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من أراد أن يفطر يفتدي حتى نزلت الآية التي بعدها فنسختها ، وروي عن ابن عمر قال : هي منسوخة ، وقال السُّدي : لما نزلت هذه الآية : { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } كان من شاء صام ومن شاء أفطر وأطعم مسكيناً فكانوا كذلك حتى نسختها : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] . وقال ابن عباس : ليست منسوخة ، هو الشيخ الكبير والمرأة الكبيرة لا يستطيعان أن يصوما فيطعمان مكان كل يوم مسكيناً . وعن ابن عباس قال : نزلت هذه الآية { وَعَلَى الذين يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ } في الشيخ الكبير الذي لا يطيق الصوم ثم ضعف ، فرخص له أن يطعم مكان كل يوم مسكيناً ، وعن ابن أبي ليلى قال : دخلت على ( عطاء ) في رمضان وهو يأكل فقال : قال ابن عباس : نزلت هذه الآية فنسخت الأولى ، إلا الكبير الفاني إن شاء أطعم عن كل يوم مسكيناً وأفطر .
فحاصل الأمر أن النسخ ثابت في حق الصحيح المقيم ، بإيجاب الصيام عليه بقوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } [ البقرة : 185 ] وأما الشيخ الفاني الهرم الذي لا يستطيع الصيام ، فله أن يفطر ولا قضاء عليه ، لأنه ليس له حال يصير إليه يتمكن فيها من القضاء ، ولكن هل يجب عليه إذا أفطر أن يطعم عن كل يوم مسكيناً إذا كان ذا جدة؟ فيه قولان ، أحدهما : لا يجب عليه إطعام لأنه ضعيف عنه لسنه ، فلم يجب عليه فدية كالصبي ، لأن الله لا يكلف نفساً إلا وسعها وهو أحد قولي الشافعي . والثاني : وهو الصحيح وعليه أكثر العلماء أنه يجب عليه فدية عن كل يوم ، وهو اختيار البخاري ، فإنه قال : وأما الشيخ الكبير إذا لم يطق الصيام ، فقد أطعم أَنَسٌ بعد ما كبر عاماً أو عامين ، عن كل يوم مسكيناً خبزاً ولحماً وأفطر ، ومما يلتحق بهذا المعنى ( الحامل ) و ( المرضع ) إذا خافتا على أنفسهما أو ولديهما ، ففيهما خلاف كثير بين العلماء فمنهم من قال : يفطران ويفديان ويقضيان ، وقيل : يفديان فقط ولا قضاء ، وقيل : يجب القضاء بلا فدية ، وقيل : يفطران ولا فدية ولا قضاء .(1/194)
شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَنْ كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)
يمدح تعالى شهر الصيام من بين سائر الشهور ، بأن اختاره من بينهن لإنزال القرآن العظيم ، بأنه الشهر الذي كانت الكتب الإلهية تنزل فيه على الأنبياء ، قال الإمام أحمد عن واثلة بن الأسقع : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أنزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، وأنزلت التوراة لست مضين من رمضان ، والإنجيل لثلاث عشر خلت من رمضان ، وأنزل الله القرآن لأربع وعشرين خلت من رمضان » ، وأما الصحف والتوراة والزبور والإنجيل ، فنزل كل منها على النبي الذي أنزل عليه جملة واحدة ، وأما القرآن فإنما نزل جملة واحدة إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، وكان ذلك في شهر رمضان في ليلة القدر منه كما قال تعالى : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] ، وقال : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] ، ثم نزل بعد مفرقاً بحسب الوقائع على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، هكذا روي من غير وجه عن ابن عباس أنه سأله عطية بن الأسود فقال : وقع في قلبي الشك قول الله تعالى : { شَهْرُ رَمَضَانَ الذي أُنْزِلَ فِيهِ القرآن } ، وقوله : { إِنَّآ أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ } [ الدخان : 3 ] ، وقوله : { إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ القدر } [ القدر : 1 ] وقد أنزل في شوّال ، وفي ذي القعدة ، وفي ذي الحجة ، وفي المحرم وصفر وشهر ربيع!! فقال ابن عباس : إنه أنزل في رمضان في ليلة القدر ، وفي ليلة مباركة جملة واحدة ، ثم أنزل على مواقع النجوم ترتيلاً في الشهور والأيام .
وقوله تعالى : { هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الهدى والفرقان } هذا مدح للقرآن الذي أنزله الله هدى لقلوب العباد ممن آمن به وصدّقه واتبعه ، { وَبَيِّنَاتٍ } أي دلائل وحجج بينة واضحة جلية لمن فهمها وتدبرها ، دالة على صحة ما جاء به من الهدى المنافي للضلال ، والرشد المخالف للغي ، ومفرقاً بين الحق والباطل ، والحلال والحرام ، وقد روي عن بعض السلف أنه كره أن يقال : ( رمضان ) ورخص فيه ابن عباس وزيد بن ثابت ، وقد انتصر البخاري لهذا فقال : باب - يقال رمضان - وساق أحاديث في ذلك ، منها : « من صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم من ذنبه » ونحو ذلك .
وقوله تعالى : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } هذا إيجاب حتمٌ على من شهد استهلال الشهر ، أي كان مقيماً في البلد حين دخل شهر رمضان وهو صحيح في بدنه أن يصوم لا محالة ، ونسخت هذه الآية الإباحة المتقدمة لمن كان صحيحاً مقيماً أن يفطر ويفدي بإطعام مسكين عن كل يوم كما تقدم بيانه . ولما ختم الصيام أعاد ذكر الرخصة للمريض وللمسافر في الإفطار بشرط القضاء فقال : { وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } معناه : ومن كان به مرض في بدنه يشق عليه الصيام معه أو يؤذيه ، أو كان على سفر أي في حالة السفر فله أن يفطر ، فإذا أفطر فعليه عدة ما أفطره في السفر من الأيام ، ولهذا قال : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } أي إنما رخص لكم في الفطر في حال المرض والسفر ، مع تحتمه في حق المقيم الصحيح السليم تيسيراً عليكم ورحمة بكم .(1/195)
وهاهنا مسائل تتعلق بهذا الآية ( إحداها ) : أنه قد ذهب طائفة من السلف إلى أن من كان مقيماً في أول الشهر ثم سافر في اثنائه فليس له الإفطار بعذر السفر والحالة هذه لقوله : { فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ } ، وإنما يباح الإفطار لمسافر استهل الشهر وهو مسافر ، وهذا قول غريب نقله ابن حزم في كتابه ( المحلى ) عن جماعة من الصحابة والتابعين وفيما حكاه عنهم نظر ، فإنه قد ثبتت السنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه خرج في شهر رمضان لغزوة الفتح فسار حتى بلغ الكديد ثم أفطر وأمر الناس بالفطر ، ( الثانية ) : ذهب آخرون من الصحابة والتابعين إلى وجوب الإفطار في السفر لقوله تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } والصحيح قول الجمهور أن الأمر في ذلك على التخيير ، وليس بحتم ، لأنهم كانوا يخرجون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان قال : فمنا الصائم ومنا المفطر ، فلم يعب الصائم على المفطر ، ولا المفطر على الصائم ، فلو كان الإفطار هو الواجب لأنكر عليهم الصيام ، بل الذي ثبت من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان في مثل هذه الحالة صائماً ، لما ثبت في الصحيحين عن أبي الدرداء ، قال : خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في شهر رمضان في حر شديد حتى إن كان أحدنا ليضع يده على رأسه من شدة الحر وما فينا صائم إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعبد الله بن رواحة . ( الثالثة ) : قالت طائفة ، منهم الشافعي : الصيام في السفر أفضل من الإفطار لفعل النبي صلى الله عليه وسلم كما تقدم ، وقالت طائفة : بل الإفطار أفضل أخذاً بالرخصة ، وقالت طائفة : هما سواء لحديث عائشة « أن حمزة بن عمرو الأسلمي ، قال : يا رسول الله إني كثير الصيام أفأصوم في السفر؟ فقال : » إن شئت فصم وإن شئت فأفطر « ، وقيل : إن شقَّ الصيام فالإفطار أفضل لحديث جابر : » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم رأى رجلاً قد ظلّل عليه فقال : « ما هذا »؟ قالوا : صائم ، فقال : « ليس من البر الصيام في السفر » أخرجاه . ( الرابعة ) : القضاء هل يجب متتابعاً أو يجوز فيه التفريق فيه قولان : ( أحدهما ) : أنه يجب التتابع لأن القضاء يحكي الأداء ( والثاني ) : لا يجب التتابع بل إن شاء فرق وإن شاء تابع ، وهذا قول جمهور السلف والخلف وعليه ثبتت الدلائل لأن التتابع إنما وجب في الشهر لضرورة أدائه في الشهر ، فأما بعد انقضاء رمضان فالمراد صيام أيام عدة ما أفطر ، ولهذا قال تعالى : { فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ } ، ثم قال تعالى : { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر } .(1/196)
وفي الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ وأبي موسى حين بعثهما إلى اليمن : « بشّرا ولا تنفرا ويسّرا ولا تعسّرا وتطاوعا ولا تختلفا » وفي السنن والمسانيد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « بعثت بالحنيفية السمحة » ومعنى قوله { يُرِيدُ الله بِكُمُ اليسر وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ العسر وَلِتُكْمِلُواْ العدة } أي إنما أرخص لكم في الإفطار لمرض والسفر ونحوهما من الأعذار ، لإرادته بكم اليسر ، وإنما أمركم بالقضاء لتكملوا عدة شهركم ، وقوله : { وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } ، أي : ولتذكروا الله عند انقضاء عبادتكم كما قال : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَّنَاسِكَكُمْ فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } [ البقرة : 200 ] وقال : { فَإِذَا قُضِيَتِ الصلاة فانتشروا فِي الأرض وابتغوا مِن فَضْلِ الله واذكروا الله كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الجمعة : 10 ] ، ولهذا جاءت السنة باستحباب التسبيح والتحميد والتكبير بعد الصلوات المكتوبات ، وقال ابن عباس : ما كنا نعرف انقضاء صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بالتكبير ، ولهذا أخذ كثير من العلماء مشروعية التكبير في عيد الفطر من هذه الآية : { وَلِتُكْمِلُواْ العدة وَلِتُكَبِّرُواْ الله على مَا هَدَاكُمْ } ، وقوله : { وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } ، أي إذا قمتم بما أمركم الله من طاعته ، بأداء فرائضه ، وترك محارمه ، وحفظ حدوده ، فلعلكم أن تكونوا من الشاكرين بذلك .(1/197)
وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)
روي أن أعرابيا قال : يا رسول الله : أقريب ربنا فنناجيه أم بعيد فنناديه؟ فسكت النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ } ، وعن الحسن قال : سأل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم : أين ربنا؟ فأنزل الله عزّ وجلّ : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ } الآية . وقال عطاء : إنه بلغه لما نزلت { وَقَالَ رَبُّكُمُ ادعوني أَسْتَجِبْ لَكُمْ } [ غافر : 60 ] قال الناس : لو نعلم أيّ ساعة ندعو؟ فنزلت : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ } ، وعن أبي موسى الأشعري قال : كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فجعلنا لا نصعد شرفاً ، ولا نعلو شرفاً ، ولا نهبط وادياً ، إلا رفعنا أصواتنا بالتكبير . قال : فدنا منا فقال : « يا أيها الناس أربعوا على أنفسكم فإنكم لا تدعون أصم ولا غائباً إنما تدعون سميعاً بصيراً ، إن الذين تدعون أقرب إلى أحدكم من عنق راحلته ، يا عبد الله بن قيس ألا أعلمك كلمة من كنوز الجنة؟ لا حول ولا قوة إلا بالله » .
وعن أبي هريرة أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « قال الله تعالى : أنا مع عبدي ما ذكرني وتحركت بي شفتاه » ( قلت ) : وهذا كقوله تعالى : { إِنَّ الله مَعَ الذين اتقوا والذين هُم مُّحْسِنُونَ } [ النحل : 128 ] ، وقوله لموسى وهارون عليهما السلام : { إِنَّنِي مَعَكُمَآ أَسْمَعُ وأرى } [ طه : 46 ] والمراد من هذا أنه تعالى لا يجيب دعاء داع ، ولا يشغله عنه شيء ، بل هو سميع الدعاء ففيه ترغيبٌ في الدعاء وأنه لا يضيع لديه تعالى ، كما قال صلى الله عليه وسلم : « إن الله تعالى ليستحي أن يبسط العبد إليه يديه يسأله فيهما خيراً فيردهما خائبتين » وعن أبي سعيد أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من مسلم يدعو الله عزّ وجلّ بدعوة ليس فيها إثم ولا قطيعة رحم إلا أعطاه الله بها إحدى ثلاث خصال : إما أن يعجل له دعوته ، وإما أن يدخرها له في الأخرى ، وإما أن يصرف عنه من السوء مثلها » ، قالوا : إذن نكثر ، قال : « الله أكثر » وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما على ظهر الأرض من رجل مسلم يدعو الله عزّ وجلّ بدعوة إلا آتاه الله إياها أو كفَّ عنه من السوء مثلها ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم » وروى مسلم عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « » لا يزال يستجاب للعبد ما لم يدع بإثم أو قطيعة رحم ما لم يستعجل « . قيل : يا رسول الله وما الاستعجال؟ قال : » يقول قد دعوت وقد دعوت فلم أر يستجاب لي يستجاب عند ذلك ويدع الدعاء « » .(1/198)
وقال صلى الله عليه وسلم : « القلوب أوعية وبعضها أوعى من بعض ، فإذا سألتم الله أيها الناس فأسألوه وأنتم موقنون بالإجابة ، فإنه لا يستجيب لعبد دعاه عن ظهر قلب غافل » وفي ذكره تعالى هذه الآية الباعثة على الدعاء ، متخللة بين أحكام الصيام ، وإرشاد إلى الإجتهاد في إكمال العدة ، بل وعند كل فطر ، كما روي عن عبد الله بن عمرو قال ، قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن للصائم عند فطره دعوة ما ترد » قال عبيد الله بن أبي مليكة : سمعت عبد الله بن عمرو يقول إذا أفطر : اللهم إني أسألك برحمتك التي وسعت كل شي أن تغفر لي . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة لا ترد دعوتهم : الإمام العادل ، والصائم حتى يفطر ، ودعوة المظلوم يرفعها الله دون الغمام يوم القيامة وتفتح لها أبواب السماء ويقول بعزتي لأنصرنك ولو بعد حين » .(1/199)
أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)
هذه رخصة من الله تعالى للمسلمين ، ورفع لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام ، فإنه كان إذا أفطر أحدهم إنما يحل له الأكل والشرب والجماع إلى صلاة العشاء أو ينام قبل ذلك ، فمتى نام أو صلى العشاء حرم عليه الطعام والشراب والجماع إلى الليلة القابلة ، فوجدوا من ذلك مشقة كبيرة ، والرفث هنا هو الجماع قاله ابن عباس وعطاء ومجاهد . وقوله : { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ } قال ابن عباس : يعني هن سكن لكم وأنتم سكن لهن ، وقال الربيع : هن لحاف لكم وأنتم لحاف لهن ، وحاصله أن الرجل والمرأة كل منهما يخالط الآخر ويماسه ويضاجعه ، فناسب أن يرخص لهم في المجامعة في ليل رمضان لئلا يشق ذلك عليهم ويحرجوا .
وكان السبب في نزول هذه الآية ما روي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان الرجل صائماً فنام قبل أن يفطر لم يأكل إلى مثلها ، وإن ( قيس بن صرمة ) الأنصاري كان صائماً وكان يومه ذلك يعمل في أرضه ، فلما حضر الإفطار أتى امرأته فقال : هل عندك طعام؟ قالت : لا ولكنْ أنطلق فأطلب لك ، فغلبته عينه فنام ، وجاءت امرأته فلما رأته نائماً قالت : خيبة لك أنمت؟ فلما انتصف النهار؟ غشي عليه ، فذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ - إلى قوله - وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر } ففرحوا بها فرحاً شديداً ، ولفظ البخاري عن البراء قال : لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله ، وكان رجال يخونون أنفسهم فأنزل الله : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ } . وعن ابن عباس قال : كان المسلمون في شهر رمضان إذا صلُّوا العشاء حرم عليهم النساء والطعام إلى مثلها من القابلة ، ثم إن أناساً من المسلمين أصابوا من النساء والطعام في شهر رمضان بعد العشاء منهم عمر بن الخطاب فشكوا ذلك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله تعالى : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآن بَاشِرُوهُنَّ } الآية .
وعن أبي هريرة في قول الله تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } قال : كان المسلمون قبل أن تنزل هذه الآية إذا صلُّوا العشاء الآخرة حرم عليهم الطعام والشراب والنساء حتى يفطروا ، وإن عمر بن الخطاب أصاب أهله بعد صلاة العشاء ، وإن ( صرمة بن قيس ) الأنصاري غلبته عيناه بعد صلاة المغرب فنام ، ولم يشبع من الطعام ولم يستيقظ حتى صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم العشاء فقام فأكل وشرب ، فلما أصبح أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره بذلك فأنزل الله عند ذلك : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } يعني بالرفث مجامعة النساء ، { هُنَّ لِبَاسٌ لَّكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَّهُنَّ عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ } يعني تجامعون النساء وتأكلون وتشربون بعد العشاء ، { فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآن بَاشِرُوهُنَّ } يعني جامعوهن { وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } يعني : الولد { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } فكان ذلك عفواً من الله ورحمة ، وقال ابن جرير : كان الناس في رمضان إذا صام الرجل فأمسى فنام حرم عليه الطعام والشراب والنساء حتى يفطر من الغد ، فرجع عمر بن الخطاب من عند النبي صلى الله عليه وسلم ذات ليلة وقد سمر عنده ، فوجد امرأته قد نامت فأرادها فقالت : إني قد نمت ، فقال : ما نمت ، ثم وقع بها .(1/200)
وصنع ( كعب بن مالك ) مثل ذلك ، فغدا عمر بن الخطاب إلى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره ، فأنزل الله : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ كُنتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فالآن بَاشِرُوهُنَّ } الآية . فأباح الجماع والطعام والشراب في جميع الليل رحمة ورخصة ورفقاً .
وقوله تعالى : { وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } ، قال ابن عباس ومجاهد وعكرمة : يعني الولد ، وقال عبد الرحمن ابن زيد بن اسلم : { وابتغوا مَا كَتَبَ الله لَكُمْ } يعني الجماع ، وقال قتادة : ابتغوا الرخصة التي كتب الله لكم ، يقول ما أحل الله لكم . واختار ابن جرير أن الآية أعم من هذا كله .
قوله تعالى : { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } ، أباح تعالى الأكل والشرب مع ما تقدم من إباحة الجماع ، في أي الليل شاء الصائم إلى أن يتبين ضياء الصباح من سواد الليل ، وعبر عن ذلك بالخيط الأبيض من الخيط الأسود ورفع اللبس بقوله : { مِنَ الفجر } ، كان رجال إذا أرادوا الصوم ربط أحدهم في رجليه الخيط الأبيض والخيط الأسود فلا يزال يأكل حتى يتبين له رؤيتهما ، فأنزل الله بعدُ { مِنَ الفجر } فعلموا أنما يعني الليل والنهار . وعن عدي بن حاتم قال : لما نزلت هذه الآية { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود } عمدت إلى عقالين أحدهما أسود والآخر أبيض ، قال : فجعلتهما تحت وسادتي ، قال : فجعلت أنظر إليهما فلما تبيَّن لي الأبيض من الأسود أمسكت فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت فقال : « إن وسادك إذن لعريض إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل » وجاء في بعض الألفاظ : « إنك لعريض القفا » ففسره بعضهم بالبلادة ، ويفسره رواية البخاري أيضاً قال : « إنك لعريض القفا إن أبصرت الخيطين ، ثم قال : لا ، بل هو سواد الليل وبياض النهار » .(1/201)
فصل
وفي إباحته تعالى جواز الأكل إلى طلوع الفجر ، دليل على استحباب السحور ، لأنه من باب الرخصة والأخذ بها محبوب ولهذا وردت السنّة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالحث على السحور . ففي الصحيحين عن أنس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تسحروا فإن في السحور بركة » ، وفي صحيح مسلم عن عمرو بن العاص رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن فصل ما بين صيامنا وصيام أهل الكتاب أكلة السحور » ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « السحور أكلة بركة فلا تَدَعوه ولو أن أحدكم تجرَّع جرعة ماء ، فإن الله وملائكته يصلون على المتسحرين » ويستحب تأخيره كما جاء في الصحيحين عن أنس بن مالك عن زيد بن ثابت قال : تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قمنا إلى الصلاة ، فقال أنس قلت لزيدٍ : كم كان بين الأذان والسحور؟ قال : قدر خمسين آية . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تزال أمتي بخير ما عجلوا الإفطار وأخروا السحور » .
وحكى ابن جرير في تفسيره عن بعضهم أنه إنما يجب الإمساك من طلوع الشمس كما يجوز الإفطار بغروبها . ( قلت ) : وهذا القول ما أظن أحداً من أهل العلم يستقر له قدم عليه لمخالفته نص القرآن في قوله : { وَكُلُواْ واشربوا حتى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الخيط الأبيض مِنَ الخيط الأسود مِنَ الفجر ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } ، وقد ورد في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يمنعكم أذان بلال عن سحوركم فإنه ينادي بليل ، فكلوا واشربوا حتى تسمعوا أذان ابن أم مكتوم فإنه لا يؤذِّن حتى يطلع الفجر » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يغرنكم أذان بلال ولا هذا البياض - لعمود الصبح - حتى يستطير » وعن عطاء : سمعت ابن عباس يقول : هما فجران فأما الذي يسطع في السماء فليس يحل ولا يحرم شيئاً ولكن الفجر الذي يستنير على رؤوس الجبال هو الذي يحرم الشراب ، وقال عطاء : فأما إذا سطع سطوعاً في السماء وسطوعه أن يذهب في السماء طولاً فإنه لا يحرم به شراب للصائم ولا صلاة ولا يفوت به الحج ، ولكن إذا انتشر على رؤوس الجبال حرم الشراب للصيام وفات الحج ، وهذا إسناد صحيح إلى ابن عباس وعطاء ، وهكذا روي عن غير واحد من السلف رحمهم الله .
مسألة
ومن جعْله تعالى الفجرَ غاية لإباحة الجماع والطعام والشراب لمن أراد الصيام ، يستدل على أنه من أصبح جنباً فليغتسل وليتم صومه ولا حرج عليه ، وهذا مذهب الأئمة الأربعة وجمهور العلماء سلفاً وخلفاً ، لما رواه البخاري ومسلم من حديث عائشة وأُم سلمة رضي الله عنهما أنهما قالتا : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصبح جنباً من جماع من غير احتلام ثم يغتسل ويصوم ، وفي حديث ( أُم سلمة ) عندهما ثم لا يفطر ولا يقضي .(1/202)
وقوله تعالى : { ثُمَّ أَتِمُّواْ الصيام إِلَى الليل } يقتضي الإفطار عند غروب الشمس كما جاء في الصحيحين : « إذا أقبل الليل من هاهنا وأدبر النهار من هاهنا فقد أفطر الصائم » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يزال الناس بخير ما عجلوا الفطر » وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم : « يقول الله عزّ وجلّ : أحب عبادي إليَّ أعجلهم فطراً » ولهذا ورد في الأحاديث الصحيحة النهي عن الوصال ، وهو أن يصل يوماً بيوم آخر ولا يأكل بينهما شيئاً ، عن أبي هريرة قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا تواصلوا « ، قالوا : يا رسول الله! إنك تواصل ، قال : » فإني لست مثلكم إني أبيت يطعمني ربي ويسقيني « قال فلم ينتهو عن الوصال فواصل بهم النبي صلى الله عليه وسلم يومين وليلتين ، ثم رأوا الهلال فقال : » لو تأخر الهلال لزدتكم « كالمنكل لهم . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الوصال رحمة لهم ، فقالوا : إنك تواصل ، قال : » إني لست كهيئتكم إني يطعمني ربي ويسقيني « ، فقد ثبت النهي عنه من غير وجه ، وثبت أنه من خصائص النبي صلى الله عليه وسلم وأنه كان يقوى على ذلك ويعان ، والأظهر أن ذلك الطعام والشراب في حقه إنما كان ( معنوياً ) لا ( حسياً ) وإلا فلا يكون مواصلاً مع الحسي ولكن كما قال الشاعر :
لها أحاديث من ذكراك تشغلها ... عن الشراب وتلهيها عن الزاد
وأما من أحب أن يمسك بعد غروب الشمس إلى وقت السحر فله ذلك ، كما في حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » « لا تواصلوا فأيكم أراد أن يواصل فليواصل إلى السحر » . قالوا : فإنك تواصل يا رسول الله قال : « إني لست كهيئتكم ، إني أبيت لي مطعمٌ يطعمني وساقٍ يسقيني » « .
وقوله تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد } ، قال ابن عباس : هذا في الرجل يعتكف في المسجد في رمضان أو في غير رمضان فحرّم الله عليه أن ينكح النساء ليلاً أو نهاراً حتى يقضي اعتكافه ، وقال الضحّاك : كان الرجل إذا اعتكف فخرج من المسجد جامَع إن شاء ، فقال الله تعالى : { وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد } ، أي لا تقربوهن ما دمتم عاكفين في المسجد ولا في غيره .(1/203)
وهذا الذي حكاه هو الأمر المتفق عليه عند العلماء ، أن المعتكف يحرم عليه النساء ما دام معتكفاً في مسجده ، ولو ذهب إلى منزله لحاجة لا بُدّ له منها ، فلا يحل له أن يثبت فيه إلا بمقدار ما يفرغ من حاجته تلك ، من قضاء الغائط أو الأكل ، وليس له أن يقبِّل امرأته ، ولا أن يضمها إليه ، ولا يشتغل بشيء سوى اعتكافه ، ولا يعود المريض لكن يسأل عنه مارّ في طريقه ، وللاعتكاف أحكام مفصلة في بابها ، منها ما هو مجمع عليه بين العلماء ومنها ما هو مختلف فيه .
وفي ذكره تعالى الاعتكاف بعد الصيام ، إرشاد وتنبيه على الاعتكاف في الصيام أو في آخر شهر الصيام ، كما ثبت في السنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كان يعتكف العشر الأواخر من شهر رمضان حتى توفاه الله عزّ وجلّ ، ثم اعتكف أزواجه من بعده . وفي الصحيحين : أن صفية بنت حيي كانت تزور النبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف في المسجد ، فتحدثت عنده ساعة ثم قامت لترجع إلى منزلها ، وكان ذلك ليلاً ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم يمشي معها حتى تبلغ دارها ، وكان منزلها في دار أسامة بن زيد في جانب المدينة ، فلما كان ببعض الطريق لقيه رجلان من الأنصار ، فلما رأيا النبيَّ صلى الله عليه وسلم أسرعا ( وفي رواية ) تواريا - أي حياءً من النبي صلى الله عليه وسلم لكون أهله معه - فقال لهما صلى الله عليه وسلم : « » على رسلكما إنها صفية بنت حيي « ( أي لا تسرعا واعلما أنها صفية بنت حيي أي زوجتي ) فقالا : سبحان الله يا رسول الله! فقال صلى الله عليه وسلم : » إن الشيطان يجري من ابن آدم مجرى الدم وإني خشيت أن يقذف في قلوبكما شيئاً أو قال شراً « ، قال الشافعي رحمه الله : أراد عليه السلام أن يعلِّم أمته التبري من التهمة في محلها ، لئلا يقعا في محذور ، وهما كانا أتقى لله من أن يظنا بالنبي صلى الله عليه وسلم شيئاً والله أعلم . ثم المراد ( بالمباشرة ) إنما هو الجماع ودواعيه من تقبيل ومعانقة ونحو ذلك ، فأما معاطاة الشيء ونحوه فلا بأس به ، فقد ثبت في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها قالت : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدني إليَّ رأسه فأرجّله وأنا حائض ، وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان . قالت عائشة : ولقد كان المريض يكون في البيت فما أسأل عنه إلا وأنا مارة .
وقوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ الله } أي هذا الذي بيّناه وفرضناه وحدّدناه من الصيام وأحكامه ، وما أبحنا فيه وما حرمنا وذكرنا غاياته ورخصه وعزائمه { حُدُودُ الله } أي شرعها الله وبيَّنها بنفسه { فَلاَ تَقْرَبُوهَا } أي لا تجاوزوها وتتعدوها . وقيل في قوله : { تِلْكَ حُدُودُ الله } أي المباشرة في الاعتكاف ، { كذلك يُبَيِّنُ الله آيَاتِهِ لِلنَّاسِ } أي كما بيَّن الصيام وأحكامه وشرائعه وتفاصيله ، كذلك يبين سائر الأحكام على لسان عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم ، { لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } أي يعرفون كيف يهتدون وكيف يطيعون كما قال تعالى : { هُوَ الذي يُنَزِّلُ على عَبْدِهِ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِّيُخْرِجَكُمْ مِّنَ الظلمات إِلَى النور وَإِنَّ الله بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ الحديد : 9 ] .(1/204)
وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)
قال ابن عباس : هذا الرجل يكون عليه مال ، وليس عليه فيه بينة فيجحد المال ويخاصم إلى الحكام ، وهو يعرف أن الحق عليه وهو يعلم أنه آثم آكل الحرام ، وكذا روي عن مجاهد وعكرمة وقتادة أنهم قالوا : لا تخاصم وأنت تعلم أنك ظالم ، وقد ورد في الصحيحين عن أم سلمة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ألا إنما أنا بشر وإنما يأتيني الخصم ، فلعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض ، فأقضى له ، فمن قضيت له بحق مسلم فإنما هي قطعة من نار فليحملها أو ليذرها » ، فدلت هذه الآية الكريمة وهذا الحديث على أن حكم الحاكم لا يغير الشيء في نفس الأمر ، فلا يُحِلُّ في نفس الأمر حراماً هو حرام ، ولا يحرم حلالاً هو حلال وإنما هو ملزم في الظاهر . فإن طابق في نفس الأمر فذاك ، وإلا فللحاكم أجره وعلى المحتال وزره ، ولهذا قال تعالى : { وَتُدْلُواْ بِهَا إِلَى الحكام لِتَأْكُلُواْ فَرِيقاً مِّنْ أَمْوَالِ الناس بالإثم وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي تعلمون بطلان ما تدعونه وتروجونه في كلامكم .(1/205)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)
سأل الناس رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الأهلة ، فنزلت هذه الآية : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } يعلمون بها حل دينهم ، وعدة نسائهم ، ووقتَ حجهم ، وقال الربيع : بلغنا أنهم قالوا : يا رسول الله لم خلقت الأهلة؟ فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ } يقول : جعلها الله مواقيت لصوم المسلمين وإفطارهم ، وعدة نسائهم ، ومحل دينهم ، وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « جعل الله الأهلة مواقيت للناس ، فصوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته ، فإن غم عليكم فعدوا ثلاثين يوماً » .
وقوله تعالى : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا } ، قال البخاري عن البراء : كانوا إذا أحرموا في الجاهلية أتوا البيت من ظهره فأنزل الله : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا ولكن البر مَنِ اتقى وَأْتُواْ البيوت مِنْ أَبْوَابِهَا } . وقال الحسن البصري : كان أقوام من أهل الجاهلية إذا أراد أحدهم سفراً ، وخرج من بيته يريد سفره الذي خرج له ، ثم بدا له بعد خروجه أن يقيم ويدع سفره لم يدخل البيت من بابه ، ولكن يتسوره من قبل ظهره ، فقال الله تعالى : { وَلَيْسَ البر بِأَن تَأْتُواْ البيوت مِن ظُهُورِهَا } الآية . وقوله : { واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي اتقوا الله فافعلوا ما أمركم به واتركوا ما نهاكم عنه { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } غداً إذا وقفتم بين يديه فيجازيكم على التمام والكمال .(1/206)
وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَاقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَأَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَالْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ حَتَّى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قَاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذَلِكَ جَزَاءُ الْكَافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلَا عُدْوَانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ (193)
هذه أول آية نزلت في القتال بالمدينة ، فلما نزلت كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقاتل من قاتله ويكف عمن كف عنه ، حتى نزلت سورة براءة كذا قال ابن أسلم حتى قال : هذه منسوخة بقوله : { فاقتلوا المشركين حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ } [ التوبة : 5 ] وفي هذا نظر ، لأن قوله : { الذين يُقَاتِلُونَكُمْ } إنما هو تهييج وإغراء بالأعداء الذي همتهم قتال الإسلام وأهله ، أي كما يقاتلونكم فاقتلوهم أنتم ، كما قال : { وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً } [ التوبة : 36 ] ، ولهذا قال في هذه الآية : { واقتلوهم حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُم وَأَخْرِجُوهُمْ مِّنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ } أي لتكون همتكم منبعثة على قتالهم كما همتهم منبعثة على قتالكم وعلى إخراجهم من بلادهم التي أخرجوكم منها قصاصاً .
وقوله تعالى : { وَلاَ تعتدوا إِنَّ الله لاَ يُحِبُّ المعتدين } أي قاتلوا في سبيل الله ولا تعتدوا في ذلك ، ويدخل في ذلك ارتكاب المناهي من المثلة والغلول وقتل النساء والصبيان والشيوخ وأصحاب الصوامع وتحريق الأشجار وقتل الحيوان لغير مصلحة ، ولهذا جاء في صحيح مسلم عن بريدة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقول : « اغزوا في سبيل الله ، قاتلوا من كفر بالله ، اغزوا ولا تغلوا ولا تغدروا ولا تمثلوا ، ولا تقتلوا الوليد ، ولا أصحاب الصوامع » وعن ابن عباس قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا بعث جيوشه قال : « اخرجوا باسم الله قاتلوا في سبيل الله من كفر بالله ، لا تعتدوا ولا تغلوا ولا تمثلوا ولا تقتلوا الولدان ولا أصحاب الصوامع » وفي الصحيحين عن ابن عمر قال : وجدت امرأة في بعض مغازي النبي صلى الله عليه وسلم مقتولة فأنكر رسول الله صلى الله عليه وسلم قتل النساء والصبان .
ولما كان الجهاد فيه إزهاق النفوس وقتل الرجال ، نبّه تعالى على ان ما هم مشتملون عليه من الكفر بالله والشرك به والصد عن سبيله أبلغُ وأشدُّ وأعظم وأطم من القتل ، ولهذا قال : { والفتنة أَشَدُّ مِنَ القتل } . قال ابو العالية ومجاهد وعكرمة : الشرك أشد من القتل ، وقوله : { وَلاَ تُقَاتِلُوهُمْ عِنْدَ المسجد الحرام } كما جاء في الصحيحين : « إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، ولم يحل إلا ساعة من نهار - وإنها ساعتي هذه - فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، لا يعضد شجره ولا يختلى خلاه ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا : إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم » يعني بذلك صلوات الله وسلامه عليه قتاله أهله يوم فتح مكة ، فإنه فتحها عنوة وقتلت رجال منهم عند الخندمة وقيل : صلحاً لقوله : « من أغلق بابه فهو آمن ، ومن دخل المسجد فهو آمن ، ومن دخل دار أبي سفيان فهو آمن » وقوله : { حتى يُقَاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِن قَاتَلُوكُمْ فاقتلوهم كَذَلِكَ جَزَآءُ الكافرين } يقول تعالى : ولا تقاتلوهم عن المسجد الحرام إلا ان يبدأوكم بالقتال فيه فلكم حينئذ قتالهم وقتلهم دفعاً للصائل ، كما بايع النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه يوم الحديبية تحت الشجرة على القتال لما تألبت عليه بطون قريش ومن والاهم من أحياء ثقيف والأحابيش عامئذ ثم كف الله القتال بينهم فقال :(1/207)
{ وَهُوَ الذي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ } [ الفتح : 24 ] .
وقوله تعالى : { فَإِنِ انتهوا فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي فإن تركوا القتال في الحرم وأنابوا إلى الإسلام والتوبة فإن الله يغفر ذنوبهم ، ولو كانوا قد قتلوا المسلمين في حرم الله فإنه تعالى لا يتعاظمه ذنب أن يغفره لمن تاب منه إليه ، ثم أمر الله بقتال الكفار { حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } أي شرك قاله ابن عباس والسدي { وَيَكُونَ الدين للَّهِ } ، أي : يكون دين الله هو الظاهر العالي على سائر الأديان ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة ، ويقاتل حمية ، ويقاتل رياء ، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال : « من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله » .
وقوله تعالى : { فَإِنِ انتهوا فَلاَ عُدْوَانَ إِلاَّ عَلَى الظالمين } ، يقول تعالى : فإن انتهوا عما هم فيه من الشرك وقتال المؤمنين فكفوا عنهم ، فإن من قاتلهم بعد ذلك فهو ظالم ولا عدوان إلا على الظالمين ، وهذا معنى قول ( مجاهد ) أن لا يقاتل إلا من قاتل ، أو يكون تقديره { فَإِنِ انتهوا } فقد تخلصوا من الظلم والشرك فلا عدوان عليهم بعد ذلك ، والمراد بالعدوان هاهنا المعاقبة والمقاتلة كقوله : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُمْ } [ البقرة : 194 ] وقوله : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] ، { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] قال عكرمة وقتادة : الظالم الذي أبى أن يقول لا إله إلا الله ، وقال البخاري قوله : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } . عن ابن عمر قال : أتاه رجلان في فتنة ابن الزبير فقالا : إن الناس ضيعوا وأنت ابن عمر وصاحب النبي صلى الله عليه وسلم فما يمنعك أن تخرج؟ فقال : يمنعني أن الله حرم دم أخي . قالا : ألم يقل الله : { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ؟ فقال : قاتلنا حتى لم تكن فتنة وكان الدين لله ، وأنتم تريدون أن تقاتلوا حتى تكون فتنة وحتى يكون الدين لغير الله . وعن نافع أن رجلاً أتى ابن عمر فقال : يا أبا عبد الرحمن ما حملك على أن تحج عاماً وتقيم عاماً وتترك الجهاد في سبيل الله عزّ وجلّ وقد علمت ما رغب الله فيه؟ فقال : يا ابن أخي بني الإسلام على خمس : الإيمان بالله ورسوله ، والصلاة الخمس ، وصيام رمضان ، وأداء الزكاة ، وحج البيت .(1/208)
قالوا : يا أبا عبد الرحمن ألا تسمع ما ذكر الله في كتابه : { وَإِن طَآئِفَتَانِ مِنَ المؤمنين اقتتلوا فَأَصْلِحُواْ بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا على الأخرى فَقَاتِلُواْ التي تَبْغِي حتى تفياء إلى أَمْرِ الله } [ الحجرات : 9 ] ، { وَقَاتِلُوهُمْ حتى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ } ، قال : فعلنا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان الإسلام قليلاً ، فكان الرجل يفتن في دينه وإما قتلوه أو عذبوه حتى كثر الإسلام فلم تكن فتنة ، قال : فما قولك في علي وعثمان؟ قال : أمّا ( عثمان ) فكان الله عفا عنه وأما أنتم فكرهتم أن يعفو عنه ، وأمّا ( علي ) فابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم وختنه ، فأشار بيده فقال : هذا بيته حيث ترون .(1/209)
الشَّهْرُ الْحَرَامُ بِالشَّهْرِ الْحَرَامِ وَالْحُرُمَاتُ قِصَاصٌ فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدَى عَلَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)
قال ابن عباس : لما سار رسول الله صلى الله عليه وسلم معتمراً في سنة ست من الهجرة ، وحبسه المشركون عن الدخول والوصول إلى البيت ، وصدّوه بمن معه من المسلمين في ذي القعدة وهو شهر حرام حتى قاضاهم على الدخول من قابل ، فدخلها في السنة الآتية هو ومن كان من المسلمين ، وأقصه الله منهم فنزلت في ذلك هذه الآية : { الشهر الحرام بالشهر الحرام والحرمات قِصَاصٌ } . وعن جابر بن عبد الله قال : لم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو في الشهر الحرام إلا أن يغزى وتغزوا فإذا حضره أقام حتى ينسلخ . ولهذا لما بلغ النبي صلى الله عليه وسلم وهو مخيم بالحديبية أن عثمان قتل ، وكان قد بعثه في رسالة إلى المشركين ، بايع أصحابه وكانوا ألفاً وأربعمائة تحت الشجرة على قتال المشركين فلما بلغه أن عثمان لم يقتل كف عن ذلك وجنح إلى المسالمة والمصالحة ، فكان ما كان ، وكذلك لما فرغ من قتال ( هوازن ) يوم حنين وتحصن فلهم بالطائف عدل إليها فحاصرها ودخل ذو القعدة وهو محاصر لها بالمنجنيق واستمر عليها إلى كمال أربعين يوماً ، كما ثبت في الصحيحين عن أنس ، فلما كثر القتل في أصحابه انصرف عنها ولم تفتح ، ثم كرّ راجعاً إلى مكة واعتمر من الجعرانة حيث قسم غنائم حنين ، وكانت عمرته هذه في ذي القعدة أيضاً عام ثمان صلوات الله وسلامه عليه . وقوله : { فَمَنِ اعتدى عَلَيْكُمْ فاعتدوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعتدى عَلَيْكُم } أمر بالعدل حتى في المشركين ، كما قال : { وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ } [ النحل : 126 ] وقال : { وَجَزَآءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا } [ الشورى : 40 ] . وقوله : { واتقوا الله واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } أمر لهم بطاعة الله وتقواه ، وإخبارٌ بأنه تعالى مع الذين اتقوا بالنصر والتأييد في الدنيا والآخرة .(1/210)
وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)
قال البخاري عن حذيفة : { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } نزلت في النفقة . وعن أسلم أبي عمران قال : كنا بالقسطنطينية وعلى أهل مصر ( عقبة بن عامر ) وعلى أهل الشام رجل ( يزيد بن فضالة ابن عبيد ) فخرج من المدينة صف عظيم من الروم فصففنا لهم ، فحمل رجل من المسلمين على الروم حتى دخل فيهم ، ثم خرج إلينا فصاح الناس إليه فقالوا : سبحان الله ألقى بيده إلى التهلكة ، فقال أبو أيوب : يا أيها الناس إنكم لتتأولون هذه الآية على غير التأويل ، وإنما نزلت فينا معشر الأنصار ، إنا لما أعز الله دينه وكثر ناصروه قلنا فيما بيننا : لو أقبلنا على أموالنا فأصلحناها ، فأنزل الله هذه الآية .
وعن ابن عباس في قوله تعالى : { وَأَنْفِقُواْ فِي سَبِيلِ الله وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } ، قال : ليس ذلك في القتال ، إنما هو في النفقة أن تمسك بيدك عن النفقة في سبيل الله ، ولا تلق بيدك إلى التهلكة . وقال الحسن البصري : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } ، قال : هو البخل ، وقال سماك بن حرب عن النعمان بن بشير في قوله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة } أن يذنب الرجل الذنب فيقول لا يُغْفر لي فأنزل الله : { وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التهلكة وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } . وقيل : إنها في الرجل يذنب الذنب فيعتقد أنه لا يغفر له فيلقي بيده إلى التهلكة ، أي يستكثر من الذنوب فيهلك . وقيل : إن رجالاً كانوا يخرجون في بعوث يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم بغير نفقة ، فأما أن يقطع بهم وإما كانوا عيالاً ، فأمرهم الله أن يستنفقوا مما رزقهم الله ولا يلقوا بأيديهم إلى التهلكة ، والتهلكةُ أن يهلك رجال من الجوع والعطش أو من المشي ، وقال لمن بيده فضل { وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } ومضمون الآية الأمرُ بالإنفاق في سبيل الله في سائر وجوه القربات ووجوه الطاعات ، وخاصة صرف الأموال في قتال الأعداء ، وبذلها فيما يقوى به المسلمون على عدّوهم ، والإخبار عن ترك فعل ذلك بأنه هلاك ودمار لمن لزمه واعتاده ، ثم عطف بالأمر بالإحسان وهو أعلى مقامات الطاعة فقال : { وأحسنوا إِنَّ الله يُحِبُّ المحسنين } .(1/211)
وَأَتِمُّوا الْحَجَّ وَالْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَلَا تَحْلِقُوا رُءُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضًا أَوْ بِهِ أَذًى مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ ذَلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (196)
لما ذكر تعالى أحكام الصيام وعطف بذكر الجهاد ، شرع في بيان المناسك فأمر بإتمام الحج والعمرة ، وظاهر السياق إكمال أفعالهما بعد الشروع فيهما ، ولهذا قال بعده : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ } أي صددتم عن الوصول إلى البيت ومنعتم من إتمامهما ، ولهذا اتفق العلماء على أن الشروع في الحج والعمرة ملزم ، سواء قيل بوجوب العمرة أو باستحبابها . عن عبد الله بن سلمة عن علي أنه قال في هذه الآية : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } قال : أن تحرم من دويرة أهلك . وعن سفيان الثوري أنه قال : إتمامهما أن تحرم من أهلك لا تريد إلا الحج والعمرة ، وتهل من الميقات ، ليس أن تخرج لتجارة ولا لحاجة ، حتى إذا كنت قريباً من مكة قلت : لو حججت أو اعتمرت وذلك يجزىء ولكن التمام أن تخرج له ولا تخرج لغيره ، وقال مكحول : إتمامهما إنشاؤهما جميعاً من الميقات ، عن الزهري قال : بلغنا أن عمر قال : من تمامهما أن تُفرد كل واحد منهما من الآخر ، وأن تعتمر في غير أشهر الحج ، إن الله تعالى يقول : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } [ البقرة : 197 ] وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم اعتمر أربع عمر كلها في ذي القعدة ( عمرة الحديبية ) في ذي القعدة سنة ست و ( عمرة القضاء ) في ذي القعدة سنة سبع و ( عمرة الجعرانة ) في ذي القعدة سنة ثمان و ( عمرته التي مع حجته ) أحرم بهما معاً في ذي القعدة سنة عشر ، وما اعتمر في غير ذلك بعد هجرته ، ولكن قال لأم هانىء : « عمرة في رمضان تعدل حجة معي » ، وما ذاك إلا لأنها قد عزمت على الحج معه عليه السلام فاعتاقت عن ذلك بسبب الطهر ، كما هو مبسوط في الحديث عند البخاري ، ونص سعيد بن جبير على أنه من خصائصها ، والله أعلم .
وقال ابن عباس من أحرم بحج أو بعمرة فليس له أن يحل حتى يتمهما ، تمام الحج يوم النحر إذا رمى جمرة العقبة وطاف بالبيت وبالصفا والمروة فقد حل ، وقد وردت أحاديث كثيرة من طرق متعددة عن أنس وجماعة من الصحابة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جمع في إحرامه بحج وعمرة ، وثبت عنه في الصحيح أنه قال لأصحابه : « من كان معه هدي فليهل بحج وعمرة » ، وقال في الصحيح أيضاً : « دخلت العمرة في الحج إلى يوم القيامة » .
وقوله تعالى : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي } ذكروا أن هذه الآية نزلت في سنة ست أي عام الحديبية حين حال المشركون بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين الوصول إلى البيت ، وأنزل الله في ذلك سورة الفتح بكمالها ، وأنزل لهم رخصة أن يذبحوا ما معهم من الهدي وكان سبعين بدنة ، وأن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا من إحرامهم ، فعند ذلك أمرهم عليه السلام بأن يحلقوا رؤوسهم وأن يتحللوا فلم يفعلوا انتظاراً للنسخ حتى خرج فحلق رأسه ففعل الناس وكان منهم من قصَّر رأسه ولم يحلقه فلذلك قال صلى الله عليه وسلم :(1/212)
« » رحم الله المحلقين « ، قالوا : والمقصرين يا رسول الله ، فقال في الثالثة : » والمقصرين « ، وقد كانوا اشتركوا في هديهم ذلك كل سبعة في بدنة وكانوا ألفاً وأربعمائة ، وكان منزلهم بالحديبية خارج الحرم وقيل : بل كانوا على طرف الحرم . فالله أعلم .
وقد اختلف العلماء - هل يختص الحصر بالعدو؟ فلا يتحلل إلا من حصره عدو ، لا مرض ولا غيره - على قولين : عن ابن عباس أنه قال : لا حصر إلا حصر العدو فأما من أصابه مرض أو وجع أو ضلال فليس عليه شيء إنما قال الله تعالى : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ } فليس الأمن حصراً . والقول الثاني : أن الحصر أعم من أن يكون بعدو أو مرض أو ضلال وهو التوهان عن الطريق لحديث : » من كسر أو وجع أو عرج فقد حلَّ وعليه حجة أُخرى « وروي عن ابن مسعود وسعيد بن المسيب وعروة بن الزبير أنهم قالوا : الإحصار من عدو أو مرض أو كسر . وثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دخل على ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب فقالت : يا رسول الله إني أريد الحج وأنا شاكية ، فقال : » حجي واشترطي أن محلي حيث حبستني « .
وقوله تعالى : { فَمَا استيسر مِنَ الهدي } ، عن علي بن أبي طالب أنه كان يقول : { فَمَا استيسر مِنَ الهدي } شاة ، والهدي من الأزواج الثمانية من ( الإبل ، والبقر ، والمعز ، والضأن ) وهو مذهب الأئمة الأربعة . وروي عن عائشة وابن عمر أنهما كانا لا يريان ما استيسر من الهدي إلا من الإبل والبقر ، وروي مثله عن سعيد بن جبير .
( قلت ) : والظاهر أن مستند هؤلاء فيما ذهبوا إليه قصة الحديبية ، فإنه لم ينقل عن أحد منهم أنه ذبح في تحلله ذلك شاة وإنما ذبحوا الإبل والبقر ، ففي الصحيحين عن جابر قال : أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نشترك في الإبل والبقر كل سبعة منا في بقرة ، وعن ابن عباس في قوله : { فَمَا استيسر مِنَ الهدي } قال : بقدر يسارته ، وقال العوفي عن ابن عباس : إن كان موسراً فمن الإبل ، وإلا فمن البقر ، وإلا فمن الغنم ، والدليل على صحة قول الجمهور فيما ذهبوا إليه من إجزاء ذبح الشاة في الإحصار أن الله أوجب ذبح ما استيسر من الهدي أي مهما تيسر مما يسمى هدياً ، والهديُ من بهيمة الأنعام وهي ( الإبل والبقر والغنم ) كما قاله الحبر البحر ترجمان القرآن وابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقد ثبت في الصحيحين عن عائشة أُم المؤمنين رضي الله عنها قالت : أهدى النبي صلى الله عليه وسلم مرة غنماً .(1/213)
وقوله تعالى : { وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ } معطوف على قوله : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } ، وليس معطوفاً على قوله : { فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا استيسر مِنَ الهدي } كما زعمه ابن جرير رحمه الله ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه عام الحديبية لما حصرهم كفار قريش عن الدخول إلى الحرم ، حلقوا وذبحوا هديهم خارج الحرم ، فأما في حالة الأمن والوصول إلى الحرم فلا يجوز الحلق { حتى يَبْلُغَ الهدي مَحِلَّهُ } ويفرغ الناسك من أفعال الحج والعمرة إن كان قارناً ، أو من فعل أحدهما إن كان مفرداً أو متمتعاً كما ثبت في الصحيحين عن حفصة أنها قالت : « يا رسول الله ما شأن الناس حلوا من العمرة ولم تحل أنت من عمرتك؟ فقال : » إني لبدت رأس وقلدت هديي فلا أحل حتى أنحر « » .
وقوله تعالى : { فَمَن كَانَ مِنكُم مَّرِيضاً أَوْ بِهِ أَذًى مِّن رَّأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } . روى البخاري عن عبد الله بن معقل قال : « قعدت إلى كعب بن عجرة في هذا المسجد ، يعني مسجد الكوفة ، فسألته عن فدية من صيام فقال : حُملتُ إلى النبي صلى الله عليه وسلم والقملُ يتناثر على وجهي فقال : » ما كنتُ أرى أن الجهد بلغ بك هذا أما تجد شاة؟ « قلت : لا ، قال : » صم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، لكل مسكين نصف صاع من طعام واحلق رأسك « ، فنزلت فيّ خاصة وهي لكم عامة » ، وعن كعب بن عجرة قال : « أتى عليّ النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أوقد تحت قدر ، والقملُ يتناثر على وجهي أو قال حاجبي فقال : » يؤذيك هوام رأسك «؟ قلتُ : نعم ، قال : » فاحلقه وصم ثلاثة أيام ، أو أطعم ستة مساكين ، أو انسك نسيكة « ، قال أيوب : لا أدري بأيتهن بدأ .
وروى مجاهد عن ابن عباس في قوله : { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } ، قال : إذا كان ( أو ) فأية أخذت أجزأ عنك . وروي عن مجاهد وعكرمة وعطاء وطاووس نحو ذلك . ( قلت ) : وهو مذهب الأئمة الأربعة وعامة العلماء ، أنه يخير في هذا المقام ، إن شاء صام ، وإن شاء تصدق بفرق ، وهو ثلاثة آصع لكل مسكين نصف صاع وهو مدان ، وإن شاء ذبح شاة وتصدق بها على الفقراء ، أيَّ ذلك فعل أجزأه ، ولما كان لفظ القرآن في بيان الرخصة جاء بالأسهل فالأسهل { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } ولما أمر النبي صلى الله عليه وسلم ( كعب ابن عجرة ) بذلك أرشده إلى الأفضل فالأفضل فقال :(1/214)
« انسك شاة ، أو أطعم ستة مساكين ، أو صم ثلاثة أيام » وقال ابن جرير عن الحسن في قوله : { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال : إذا كان بالمحرم أذى من رأسه حلق وافتدى بأي هذه الثلاثة شاء ، والصيام عشرةُ أيام ، والصدقة على عشرة مساكين كل مسكين مكوكين مكوكاً من تمر ومكوكاً من بر ، والنسك شاة ، وقال الحسن وعكرمة في قوله : { فَفِدْيَةٌ مِّن صِيَامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ } قال : إطعام عشرة مساكين ، وهذان القولان من سعيد بن جبير والحسن وعكرمة قولان غريبان فيهما نظر ، لأنه قد ثبتت السنّة في حديث ( كعب بن عجرة ) الصيام ثلاثة أيام لا ستة أو إطعام ستة مساكين أو نسك شاة ، وأن ذلك على التخيير كما دل عليه سياق القرآن ، وأما هذا الترتيب فإنما هو معروف في قتل الصيد كما هو نص القرآن وعليه أجمع الفقهاء هناك بخلاف هذا ، والله أعلم . وقال طاووس : ما كان من دم أو طعام فبمكة ، وما كان من صيام فحيث شاء ، وقال عطاء : ما كان من دم فبمكة ، وما كان من طعام وصيام فحيث شاء .
وقوله تعالى : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ فَمَن تَمَتَّعَ بالعمرة إِلَى الحج فَمَا استيسر مِنَ الهدي } : أي فإذا تمكنتم من أداء المناسك ، فمن كان منكم متمتعاً بالعمرة إلى الحج ، وهو يشمل من أحرم بهما ، أو أحرم بالعمرة أولاً فلما فرغ منها أحرم بالحج ، وهذا هو التمتع الخاص وهو المعروف في كلام الفقهاء ، والتمتع العام يشمل القسمين كما دلت عليه الأحاديث الصحاح . { فَمَا استيسر مِنَ الهدي } أي فليذبح ما قدر عليه من الهدي ، وأقله شاة وله أن يذبح البقر ، لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ذبح عن نسائه البقر ، وفي هذا دليل على مشروعية التمتع كما جاء في الصحيحين عن عمران ابن حصين قال : نزلت آية المتعة في كتاب الله وفعلناها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم لم ينزل قرآن يحرمها ولم ينه عنها حتى مات . قال رجل برأيه ما شاء ، قال البخاري : يقال إنه عمر ، وهذا الذي قاله البخاري قد جاء مصرحاً به أن عمر كان ينهى الناس عن التمتع ويقول : إنْ نأخذ بكتاب الله فإن الله يأمر بالتمام يعني قوله : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } ، وفي نفس الأمر لم يكن عمر رضي الله عنه ينهى عنها محرماً لها إنما كان ينهى عنها ليكثر قصد الناس للبيت حاجين ومعتمرين كما قد صرح به رضي الله عنه .
وقوله تعالى : { فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } ، يقول تعالى : فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج أي في أيام المناسك .(1/215)
قال العلماء : والأولى أن يصومها قبل يوم عرفة في العشر ، أو حين يحرم ، ومنهم من يجوز صيامها من أول شوّال ، وجوز الشعبي صيام يوم عرفة وقبله يومين . وقال العوفي عن ابن عباس : إذا لم يجد هدياً فعليه صيام ثلاثة أيام في الحج قبل يوم عرفة ، فإذا كان يوم عرفة الثالث فقد تم صومه وسبعة إذا رجع إلى أهله ، وعن ابن عمر قال : يصوم يوماً قبل يوم التروية ويوم التروية ويوم عرفة . فلو لم يصمها أو بعضها قبل العيد فهل يجوز أن يصومها في أيام التشريق؟ فيه قولان للعلماء ، الأول : أنه يجوز له صيامها لقول عائشة وابن عمر : لم يرخص في أيام التشريق أن يصمن إلا لمن لا يجد الهدي . وعن علي أنه كان يقول : من فاته صيام ثلاثة أيام في الحج صامهن أيام التشريق لعموم قوله : { فَصِيَامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الحج } ، والثاني : أنه لا يجوز صيامها أيام التشريق لما رواه مسلم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله عزّ وجلّ » .
وقوله تعالى : { وَسَبْعَةٍ إِذَا رَجَعْتُمْ } فيه قولان : ( أحدهما ) : إذا رجعتم إلى رحالكم و ( الثاني ) : إذا رجعتم إلى أوطانكم . وقد روى البخاري عن سالم بن عبد الله أن ابن عمر قال : تمتع رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بالعمرة إلى الحج وأهدى فساق معه الهدي من ذي الحليفة ، فأهلَّ بعمرة ثم أهل بالحج فتمتع الناس مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وبدأ رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعمرة إلى الحج ، فكان من الناس من أهدى فساق الهدي ، ومنهم من لم يهد فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم مكة قال للناس : « من كان منكم أهدى فإنه لا يحل لشيء حرم منه حتى يقضي حجه ، ومن لم يكن منكم أهدى فليطف بالبيت وبالصفا والمروة وليقصِّرْ وليحلِّل ثم ليهل بالحج ، فمن لم يجد هدياً فليصم ثلاثة أيام في الحج وسبعة إذا رجع إلى أهله » وقوله : { تِلْكَ عَشَرَةٌ كَامِلَةٌ } قيل : تأكيد ، كما تقول العرب : رأيت بعيني ، وسمعت بأذني ، وكتبت بيدي . وقال الله تعالى : { وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ } [ الأنعام : 38 ] ، وقال : { وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ } [ العنكبوت : 48 ] ، وقال : { وَوَاعَدْنَا موسى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً } [ الأعراف : 142 ] . وقيل : معنى { كَامِلَةٌ } الأمر بإكمالها وإتمامها واختاره ابن جرير . وقيل : معنى { كَامِلَةٌ } أي مجزئة عن الهدي .
وقوله تعالى : { ذلك لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام } ، قال ابن جرير : واختلف أهل التأويل فيمن عنى بقوله : { لِمَن لَّمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي المسجد الحرام } بعد إجماع جميعهم على أن أهل الحرم معنيون به وأنه لا متعة لهم فقال بعضهم عنى بذلك أهل الحرم خاصة دون غيرهم .(1/216)
قال ابن عباس : هم أهل الحرم . وقال قتادة : ذكر لنا أن ابن عباس كان يقول : يا أهل مكة لا متعة لكم ، أحلت لأهل الآفاق وحرمت عليكم ، إنما يقطع أحدكم وادياً أو قال : يجعل بينه وبين الحرم وادياً ثم يهل بعمرة . وقال آخرون : هم أهل الحرم ومن بينه وبين المواقيت - كما قال عطاء - من كان أهله دون المواقيت فهو كأهل مكة لا يتمتع ، وقال عبد الله بن المبارك : من كان دون الميقات ، وقال عبد الرزاق : من كان أهله على يوم أو نحوه تمتع ، وفي رواية عنه : اليوم واليومين ، واختار ابن جرير في ذلك مذهب الشافعي أنهم أهل الحرم ومن كان منه على مسافة لا يقصر فيها الصلاة ، لأن من كان كذلك يعد حاضراً لا مسافراً ، والله أعلم . وقوله : { واتقوا الله } أي فيما أمركم ونهاكم { واعلموا أَنَّ الله شَدِيدُ العقاب } أي لمن خالف أمره وارتكب ما عنه زجره .(1/217)
الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ (197)
اختلف أهل العربية في قوله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } فقال بعضهم : تقديره الحج حج أشهر معلومات ، فعلى هذا التقدير يكون الإحرام بالحج فيها أكمل من الإحرام فيما عداها ، وإن كان ذاك صحيحاً ، والقول بصحة الإحرام بالحج في جميع السنة مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد واحتج لهم بقوله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهلة قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ والحج } [ البقرة : 189 ] وبأنه أحد النسكين فصح الإحرام به في جميع السنة كالعمرة ، وذهب الشافعي إلى أنه لا يصح الإحرام بالحج إلا في أشهره ، فلو أحرم به قبلها لم ينعقد إحرامه به ، وهل ينعقد عمرة؟ فيه قولان عنه ، والقول بأنه لا يصح الإحرام بالحج إلى في أشهره مروي عن ابن عباس وجابر ومجاهد رحمهم الله ، والدليل عليه قوله : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } وظاهره التقدير الآخر الذي ذهب إليه النحاة ، وهو أن وقت الحج أشهر معلومات ، فخصصه بها من بين سائر شهور السنة ، فدل على أنه لا يصح قبلها كميقات الصلاة .
عن ابن عباس أنه قال : لا ينبغي لأحد أن يحرم بالحج إلا في شهور الحج ، من أجل قول الله تعالى : { الحج أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } ، وعنه أنه قال : من السنة أن لا يحرم بالحج إلا في أشهر الحج ، وقول الصحابي من السنة كذا في حكم المرفوع عند الأكثرين ، ولا سيما قول ابن عباس تفسيراً للقرآن وهو ترجمانه .
وقوله تعالى : { أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ } قل البخاري : قال ابن عمر : هي ( شوّال وذو القعدة وعشر من ذي الحجة ) وهو مذهب الشافعي ، وأبي حنيفة ، وأحمد ، واختار هذا القول ابن جرير ، قال : وصح إطلاق الجمع على شهرين وبعض الثالث للتغليب ، كما تقول العرب : رأيته العام ورأيته اليوم وإنما وقع ذلك في بعض العام واليوم ، وقال الإمام مالك والشافعي في القديم : هي شوّال وذو القعدة وذو الحجة بكماله ، وهو رواية عن ابن عمر أيضاً . وفائدة مذهب مالك أنه إلى آخر ذي الحجة بمعنى أنه مختص بالحج ، فيكره الاعتمار في بقية ذي الحجة ، لا أنه يصح الحج بعد ليلة النحر ، وقد ثبت عن عمر وعثمان رضي الله عنهما أنهما كانا يحبان الاعتمار في غير أشهر الحج وينهيان عن ذلك في أشهر الحج ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج } أي وأجب بإحرامه حجاً ، قال ابن جرير : أجمعوا على أن المراد من الفرض هاهنا الإيجاب والإلزام ، وقال ابن عباس : { فَمَن فَرَضَ فِيهِنَّ الحج } من أحرم بحج أو عمرة ، وقال عطاء : الفرض الإحرام ، وقوله : { فَلاَ رَفَثَ } أي من أحرم بالحج أو العمرة ، فليجتنب الرفث وهو الجماع كما قال تعالى : { أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصيام الرفث إلى نِسَآئِكُمْ } [ البقرة : 187 ] وكذلك يحرم تعاطي دواعيه من المباشرة والتقبيل ونحو ذلك ، وكذلك التكلم به بحضرة النساء .(1/218)
قال عبد الله بن عمر : الرفث إتيان النساء والتكلم بذلك للرجال والنساء إذا ذكروا ذلك بأفواههم .
وقال ابن عباس : إنما الرفث ما قيل عند النساء ، وقال طاووس : سألت ابن عباس عن قول الله عزّ وجلّ : { فَلاَ رَفَثَ وَلاَ فُسُوقَ } قال : الرفث التعريض بذكر الجماع وهي العرابة في كلام العرب وهو أدنى الرفث ، وقال عطاء : الرفث الجماع وما دونه من قول الفحش ، وقال أبو العالية عن ابن عباس : الرفث غشيان النساء والقبلة والغمز ، وأن تعرض لها بالفحش من الكلام ونحو ذلك .
وقوله تعالى : { وَلاَ فُسُوقَ } ، عن ابن عباس : هي المعاصي ، وعن ابن عمر قال : الفسوق ما أصيب من معاصي الله صيداً أو غيره ، وقال آخرون : الفسوق هاهنا السباب قاله ابن عباس ومجاهد والحسن ، وقد يتمسك لهؤلاء بما ثبت في الصحيح : « سباب المسلم فسوق وقتاله كفر » ، وقال الضحّاك : الفسوق التنابز بالألقاب . والذين قالوا : هو جميع المعاصي الصواب معهم ، كما نهى تعالى عن الظلم في الأشهر الحرم ، وإن كان في جميع السنة منهياً عنه ، إلا أنه في الأشهر الحرم آكد - ولهذا قال : { مِنْهَآ أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلك الدين القيم فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ } [ التوبة : 36 ] - وقال في الحرم : { وَمَن يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُّذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } [ الحج : 25 ] ، واختار ابن جرير أن الفسوق هاهنا هو ارتكاب ما نهي عنه في الإحرام من قتل الصيد ، وحلق الشعر ، وقلم الأظفار ، ونحو ذلك كما تقدم عن ابن عمر ، وما ذكرناه أولى ، وقد ثبت عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من حج هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه » .
وقوله تعالى : { وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } فيه قولان : ( أحدهما ) : ولا مجادلة في وقت الحج في مناسكه ، وقد بيّنه الله أتم بيان ووضحه أكمل إيضاح ( والقول الثاني ) : أن المراد بالجدال هاهنا المخاصمة . قال ابن جرير عن عبد الله بن مسعود في قوله : { وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } قال : أن تماري صاحبك حتى تغضبه . وقال ابن عباس : { وَلاَ جِدَالَ فِي الحج } المراء والملاحاة حتى تُغْضب أخاك وصاحبك . وعن نافع أن ابن عمر كان يقول : الجدال في الحج : السباب والمراء والخصومات . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قضى نسكه وسلم المسلمون من لسانه ويده غفر له ما تقدم من ذنبه » .
وقوله تعالى : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ الله } : لما نهاهم عن إيتان القبيح قولاً وفعلاً ، حثهم على فعل الجميل وأخبرهم أنه عالم به وسيجزيهم عليه أوفر الجزاء يوم القيامة . وقوله : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } ، عن عكرمة أن أناساً كانوا يحجون بغير زاد فأنزل الله : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } ، وعن ابن عباس قال : كان أهل اليمن يحجون ولا يتزودون ويقولون نحن المتوكلون فأنزل الله : { وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } .(1/219)
وقوله تعالى : { فَإِنَّ خَيْرَ الزاد التقوى } لما أمرهم بالزاد للسفر في الدنيا ، فأرشدهم إلى زاد الآخرة وهواستصحاب التقوى إليها ، كما قال : { وَرِيشاً وَلِبَاسُ التقوى ذلك خَيْرٌ } [ الأعراف : 26 ] ، لما ذكر اللباس الحسي ، نبه مرشداً إلى اللباس المعنوي ، وهو الخشوع والطاعة والتقوى ، وذكر أنه خير من هذا وأنفع . قال عطاء : يعني زاد الآخرة ، وقال مقاتل بن حيان : لما نزلت هذه الآية : { وَتَزَوَّدُواْ } قام رجل من فقراء المسليمن فقال : يا رسول الله ما نجد ما نتزوده ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تزودْ ما تكفّ به وجهك عن الناس وخير ما تزودتم التقوى » وقوله : { واتقون ياأولي الألباب } ، يقول : واتقوا عقابي ونكالي وعذابي ، لمن خالفني ولم يأتمر بأمري ، يا ذوي العقول والأفهام .(1/220)
لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198)
روى البخاري عن ابن عباس قال : كانت عكاظ ومجنة وذو المجاز أسواقاً في الجاهلية ، فتأثموا أن يتجروا في الموسم ، فنزلت : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } في مواسم الحج ، ولبعضهم : فلما جاء الإسلام تأثموا أن يتجروا فسألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فأنزل الله هذه الآية . وروى أبو داود عن ابن عباس قال : كانوا يتقون البيوع والتجارة في الموسم والحج يقولون أيام ذكر فأنزل الله : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } . وقال ابن جرير : سمعت ابن عمر سئل عن الرجل يحج ومعه تجارة فقرأ ابن عمر : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } وهذا موقوف وهو قوي جيد ، وقد روي مرفوعاً . عن أبي أمامة التيمي قال : « قلت لابن عمر : إنا نكري فهل لنا من حج؟ قال : أليس تطوفون بالبيت ، وتأتون المعرف ، وترمون الجمار ، وتحلقون رؤوسكم؟ قال قلنا : بلى ، فقال : ابن عمر : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فسأله عن الذي سألتني فلم يجبه حتى نزل عليه جبريل بهذه الآية : { لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ } فدعاه النبي صلى الله عليه وسلم فقال : » أنتم حجاج « وعن أبي صالح مولى عمر قال قلت : يا أمير المؤمنين كنتم تتجرون في الحج؟ قال : وهل كانت معايشهم إلا في الحج؟ . .
وقوله تعالى : { فَإِذَآ أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } إنما صرف عرفات - وإن كان علماً على مؤنث - لأنه في الأصل جمع كمسلمات ومؤمنات ، سُمِّيَ به بقعةٌ معينة فروعي فيه الأصل فصرف ، اختاره ابن جرير ، وعرفة موضع الوقوف في الحج ، وهي عمدة أفعال الحج ، ولهذا روي عن عبد الرحمن بن يعمر الديلي قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » الحج عرفات - ثلاثا - فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك ، وأيام منى ثلاثة فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، ومن تأخر فلا إثم عليه « ووقت الوقوف من الزوال يوم عرفة إلى طلوع الفجر الثاني من يوم النحر ، لأن النبي صلى الله عليه وسلم وقف في حجة الوداع بعد أن صلى الظهر إلى أن غربت الشمس وقال : » لتأخذوا عني مناسككم « وقال في هذا الحديث : » فمن أدرك عرفة قبل أن يطلع الفجر فقد أدرك « ، وهذا مذهب مالك وأبي حنيفة والشافعي رحمهم الله ، وذهب الإمام أحمد إلى أن وقت الوقوف من أول يوم عرفة واحتج بحديث الشعبي عن عروة بن مضرس الطائي قال : أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمزدلفة حين خرج إلى الصلاة ، فقلت : يا رسول الله : إني جئت من جبل طيء أكللت راحلتي وأتعبت نفسي ، والله ما تركت من جبل إلى وقفت عليه فهل لي من حج؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/221)
« من شهد صلاتنا هذه فوقف معنا حتى ندفع ، وقد وقف بعرفة قبل ذلك ليلاً أو نهاراً فقد تم حجه وقضى تفثه » .
وتسمى عرفات ( المشعر الحرام ) والمشعر الأقصى و ( إلال ) على وزن هلال ويقال للجبل في وسطها جبل الرحمة ، قال أبو طالب في قصيدته المشهورة :
وبالمشعر الأقصى إذا قصدوا له ... إلال إلى تلك الشراج القوابل
عن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يقفون بعرفة حتى إذا كانت الشمس على رؤوس الجبال كأنها العمائم على رؤوس الرجال دفعوا ، فأخر رسول الله صلى الله عليه وسلم الدفعة من عرفة حتى غربت الشمس . وفي حديث ( جابر بن عبد الله ) الطويل الذي في صحيح مسلم قال فيه : فلم يزل واقفاً يعني بعرفة ، حتى غربت الشمس وبدت الصفرة قليلاً حتى غاب القرص وأردف أسامة خلفه ودفع رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد شنق للقصواء الزمام حتى إن رأسها ليصيب مورك رحله ، ويقول بيده اليمنى : « يا أيها الناس السكينة السكينة » كلما أتى جبلاً من الجبال أرخى لها قليلاً حتى تصعد ، حتى أتى المزدلفة فصلى بها المغرب والعشاء بأذان واحد وإقامتين ، ولم يسبّح بينهما شيئاً ثم اضطجع ، حتى طلع الفجر فصلى الفجر حين تبين له الصبح بأذان وإقامة ، ثم ركب القصواء حتى أتى المشعر الحرام فاستقبل القبلة فدعا الله وكبَّره وهلَّله ووحّده ، فلم يزل واقفاً حتى أسفر جداً فدفع قبل أن تطلع الشمس . وفي الصحيحين عن أسامة ابن زيد أنه سئل كيف كان يسير رسول الله صلى الله عليه وسلم حين دفع؟ قال : كان يسير العنق فإذا وجد فجوة نص ، والعنق هو انبساط السير ، والنص فوقه . قال ابن عمر : المشعر الحرام المزدلفة كلها ، وعنه أنه سئل عن قوله : { فاذكروا الله عِندَ المشعر الحرام } فقال : هذا الجبل وما حوله . وروي عن ابن عباس وسعيد بن جبير والحسن وقتادة أنه قالوا : هو ما بين الجبلين ، وقال ابن جريج : قلت لعطاء : أين المزدلفة؟ قال : إذا أفضت من مأزمي عرفة فذلك إلى محسر ، قال : وليس المأزمان مأزماً عرفة من المزدلفة ولكن مفضاهما ، قال : فقف بينهما إن شئت ، قال : وأحب أن تقف دون قزح هلم إلينا من أجل طريق الناس . ( قلت ) : والمشاعر هي المعالم الظاهرة ، وإنما سميت المزدلفة المشعر الحرام لأنها داخل الحرم ، وعن زيد بن أسلم : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « عرفة كلها موقف وارفعوا عن عرفة ، وجمعٌ كلها موقف إلا محسراً » هذا حديث مرسل ، وقد قال الإمام أحمد عن جبير بن مطعم عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كل عرفات موقف وارفعوا عن عرفات ، وكل مزدلفة موقف وارفعوا عن محسر ، وكل فجاج مكة منحر ، وكل أيام التشريق ذبح » .
وقوله تعالى : { واذكروه كَمَا هَدَاكُمْ } تنبيه لهم على ما أنعم الله به عليهم من الهداية والبيان ، والإرشاد إلى مشاعر الحج ، على ما كان عليه من الهداية لإبراهيم الخليل عليه السلام ولهذا قال : { وَإِن كُنْتُمْ مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضآلين } قيل : من قبل هذا الهدي ، وقيل : القرآن ، وقيل : الرسول ، والكل متقارب ومتلازم وصحيح .(1/222)
ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ النَّاسُ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)
قال البخاري : عن عائشة قالت : كانت قريش ومن دان دينها يقفون بالمزدلفة ، وكانوا يسمون ( الحُمْس ) وسائر العرب يقفون بعرفات ، فلما جاء الإسلام أمر الله نبيّه صلى الله عليه وسلم أن يأتي عرفات ثم يقف بها ثم يفيض منها فذلك قوله : { مِنْ حَيْثُ أَفَاضَ الناس } ، والمراد بالإفاضة هاهنا هي الإفاضة من المزدلفة إلى منى لرمي الجمار .
وقوله تعالى : { واستغفروا الله إِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } كثيراً ما يأمر الله بذكره بعد قضاء العبادات ولهذا ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا فرغ من الصلاة يستغفر الله ثلاثاً ، وفي الصحيحين أنه ندب إلى التسبيح والتحميد والتكبير ثلاثاً وثلاثين ، وقد روى ابن جرير استغفاره صلى الله عليه وسلم لأُمته عشية عرفة . وعن شداد بن أوس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سيِّد الاستغفار أن يقول العبد : اللهم أنت ربي لا إله إلا أنت خلقتني وأنا عبدك وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت ، أعوذ بك من شر ما صنعت ، أبوء لك بنعمتك عليَّ وأبوء بذنبي فاغفر لي فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت ، من قالها في ليلة فمات في ليلته دخل الجنة ، ومن قالها في يومه فمات دخل الجنة » وفي الصحيحين عن عبد الله بن عمر أن أبا بكر قال : « يا رسول الله علمني دعاء أدعو به في صلاتي فقال : » قل اللهم إني ظلمت نفسي ظلماً كثيراً ، ولا يغفر الذنوب إلا أنت ، فاغفر لي مغفرة من عندك ، وارحمني إنك أنت الغفور الرحيم « ، والأحاديث في الاستغفار كثيرة .(1/223)
فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ (200) وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (201) أُولَئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ (202)
يأمر تعالى بذكره والإكثار منه بعد قضاء المناسك وفراغها . وقوله : { كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ } اختلفوا في معناه فقال عطاء : هو كما يلهج الصبي بذكر أبيه وأمه ، فكذلك أنتم فالهجوا بذكر الله بعد قضاء النسك . وقال ابن عباس : كان أهل الجاهليلة يقفون في الموسم ، فيقول الرجل منهم : كان أبي يطعم ، ويحمل الحمالات ، ويحمل الديات ، ليس لهم ذكر غير فعال آبائهم ، فأنزل الله على محمد صلى الله عليه وسلم : { فاذكروا الله كَذِكْرِكُمْ آبَآءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً } ، والمقصود منه الحث على كثرة الذكر لله عزّ وجلّ ، و ( أو ) هاهنا لتحقيق المماثلة في الخبر كقوله : { فَهِيَ كالحجارة أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً } [ البقرة : 74 ] ، فليست هاهنا للشك قطعاً وإنما هي لتحقيق المخبر عنه كذلك أو أزيد منه .
ثم إنه تعالى أرشد إلى دعائه بعد كثرة ذكره فإنه مظنة الإجابة وذم من لا يسأله إلا في أمر دنياه وهو معرض عن أخراه فقال : { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } أي من نصيب ولا حظ ، وتضمن هذا الذم التنفير عن التشبه بمن هو كذلك ، قال ابن عباس : كان قوم من الأعراب يجيئون إلى الموقف فيقولون : اللهم اجعله عام غيث ، وعام خصب ، وعام ولاد حسن ، لا يذكرون من أمر الآخرة شيئاً فانزل الله فيهم : { فَمِنَ الناس مَن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِنْ خَلاَقٍ } ولهذا مدح من يسأله الدنيا والأُخرى ، فقال : { وِمِنْهُمْ مَّن يَقُولُ رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار } ، فجمعت هذه الدعوة كل خير في الدنيا وصرفت كل شر ، فإن الحسنة في الدنيا تشمل كل مطلوب دنيوي من عافية ، ودار رحبة ، وزوجة حسنة ، ورزق واسع ، وعلم نافع ، وعمل صالح ، ومركب هين ، وثناء جميل ، إلى غير ذلك مما اشتملت عليه عبارات المفسرين ولا منافاة بينها ، فإنها كلها مندرجة في الحسنة في الدنيا .
وأما الحسنة في الآخرة فأعلى ذلك دخول الجنة ، وتوابعه من الأمن من الفزع الأكبر في العرصات ، وتيسير الحساب وغير ذلك من أمور الآخرة الصالحة ، وأما النجاة من النار فهو يقتضي تيسير أسبابه في الدنيا من اجتناب المحارم والآثام ، وترك الشبهات والحرام ، وقال القاسم أبو عبد الرحمن : من أعطي قلباً شاكراً ، ولساناً ذاكراً ، وجسداً صابراً فقد أوتي في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة ، ووقي عذاب النار . ولهذا وردت السنّة بالترغيب في هذا الدعاء . فقال البخاري عن أنس بن مالك : كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول : « اللهم ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار » ، وكان أنس إذا أراد أن يدعو بدعوة دعا بها ، وإذا أراد أن يدعو بدعاء دعا بها فيه . وعن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عاد رجلاً من المسلمين قد صار مثل الفرخ فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هل تدعو الله بشيء أو تسأله إياه؟ قال : نعم ، كنت أقول اللهم ما كنت معاقبي به في الآخرة فعجَّله لي في الدنيا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم سبحان الله لا تطيقه أو لا تستطيعه ، فهلا قلت { رَبَّنَآ آتِنَا فِي الدنيا حَسَنَةً وَفِي الآخرة حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النار } ، قال : فدعا الله فشفاه » .(1/224)
وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَنْ تَأَخَّرَ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقَى وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)
قال ابن عباس : الأيام المعدودات ( أيام التشريق ) والأيام المعلومات ( أيام العشر ) . قال عكرمة : يعني التكبير في أيام التشريق بعد الصلوات المكتوبات ( الله أكبر ، الله أكبر ) ، لحديث : « أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر الله » وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث عبد الله بن حذافة يطوف في منى : « لا تصوموا هذه الأيام فإنها أيام أكل وشرب وذكر الله » . وعن عائشة قالت : نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صوم أيام التشريق ، وقال : « هي أيام أكل وشرب وذكر الله » قال ابن عباس : الأيام المعدودات أيام التشريق أربعة أيام ، يوم النحر وثلاثة بعده . وقال علي بن أبي طالب : هي ثلاثة : يوم النحر ويومان بعده ، إذبح في أيهن شئت : وأفضلُها أولها ، والقول الأول هو المشهور ، وعليه دل ظاهر الآية الكريمة حيث قال : { فَمَن تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلاَ إِثْمَ عَلَيْهِ وَمَن تَأَخَّرَ فلا إِثْمَ عَلَيْهِ } فدل على ثلاثة بعد النحر ، ويتعلق بقوله : { واذكروا الله في أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ } ذكر الله على الأضاحي وقد تقدم أن الراجح في ذلك مذهب الشافعي رحمه الله ، وهو أن وقت الأضحية من يوم النحر إلى آخر أيام التشريق ، ويتعلق به أيضاً الذكر المؤقت خلف الصلوات والمطلق في سائر الأحوال ، وفي وقته أقوال للعلماء أشهرها الذي عليه العمل أنه من صلاة الصبح يوم عرفة إلى صلاة العصر من آخر أيام التشريق وهو آخر النفر الآخر . وقد ثبت أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه كان يكبر في قبته ، فيكبر أهل السوق بتكبيره حتى ترتج منى تكبيراً . وقد جاء في الحديث : « إنما جعل الطواف بالبيت ، والسعي بن الصفا والمروة ، ورمي الجمار لإقامة ذكر الله عزّ وجلّ » ولما ذكر الله تعالى النفر الأول والثاني - وهو تفرق الناس من موسم الحج إلى سائر الأقاليم والآفاق بعد اجتماعهم في المشاعر والمواقف - قال : { واتقوا الله واعلموآ أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } ، كما قال : { وَهُوَ الذي ذَرَأَكُمْ فِي الأرض وَإِلَيْهِ تُحْشَرُونَ } [ المؤمنون : 79 ] .(1/225)
وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ (204) وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ (205) وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ (206) وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)
قال السدي : نزلت في الأخنس بن شريق الثقفي ، جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأظهر الإسلام ، وفي باطنه خلاف ذلك ، وعن ابن عباس أنها نزلت في نفر من المنافقين تكلموا في ( خبيب ) وأصحابه الذين قتلوا بالرجيع ، وعابوهم ، وقيل : بل ذلك عام في المنافقين كلهم وفي المؤمنين كلهم وهو الصحيح ، وروى ابن جرير قال : حدثني محمد بن أبي معشر ، أخبرني أبو معشر نجيح ، قال : سمعت سعيداً المقبري يذاكر محمد بن كعب القرظي ، فقال سعيد : إن في بعض الكتب : ( إن عباداً ألسنتهم أحلى من العسل ، وقلوبهم أمر من الصبر ، لبسو للناس مسوك الضأن من اللين ، يجترون الدنيا بالدين ، قال الله تعالى : عليّ تجترئون وبي تغترون؟ وعزتي لأبعثن عليهم فتنة تترك الحليم منهم حيران ) ، فقال محمد بن كعب : هذا في كتاب الله فقال : سعيد : واين هو من كتاب الله؟ قال ، قول الله : { وَمِنَ الناس مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الحياة الدنيا } الآية فقال سعيد : قد عرفت فيمن أنزلت هذه الآية ، فقال : محمد بن كعب : إن الآية تنزل في الرجل ثم تكون عامة بعد ، وهذا الذي قاله القرطبي حسن صحيح .
وأما قوله تعالى : { وَيُشْهِدُ الله على مَا فِي قَلْبِهِ } فمعناه أنه يظهر للناس الإسلام ، ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق ، كقوله تعالى : { يَسْتَخْفُونَ مِنَ الناس وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ الله } [ النساء : 108 ] الآية . وقيل : معناه : أنه إذا أظهر للناس الإسلام حلف وأشهد الله لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه وهذا المعنى صحيح واختاره ابن جرير وعزاه إلى ابن عباس ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَهُوَ أَلَدُّ الخصام } الألد في اللغة : الأعوج ، { وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُّدّاً } [ مريم : 97 ] أي عوجاً ، وهكذا المنافق في حال خصومته ، يكذب ويزور عن الحق ولا يستقيم معه ، بل يفتري ويفجر ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « آية المنافق ثلاث : إذا حدَّث كذب ، وإذا عاهد غدر ، وإذا خاصم فجر » وفي الحديث : « إن أبغض الرجال إلى الله الألد الخصم » .
وقوله تعالى : { وَإِذَا تولى سعى فِي الأرض لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الحرث والنسل والله لاَ يُحِبُّ الفساد } أي هو أعوج المقال سيء الفعال ، فذلك قوله وهذا فعله . كلامه كذب ، واعتقاده فاسد ، وأفعاله قبيحة . والسعي هاهنا هو القصد كما قال إخباراً عن فرعون : { ثُمَّ أَدْبَرَ يسعى * فَحَشَرَ فنادى * فَقَالَ أَنَاْ رَبُّكُمُ الأعلى } [ النازعات : 22-24 ] وقال تعالى : { فاسعوا إلى ذِكْرِ الله } [ الجمعة : 9 ] أي اقصدوا واعمدوا ناوين بذلك صلاة الجمعة ، فإن السعي الحسي إلى الصلاة منهي عنه بالسنة النبوية : « إذا أتتيتم الصلاة فلا تأتوها وأنتم تسعون وأتوها وعليكم السكينة والوقار »(1/226)
فهذا المنافق ليس له همة إلا الفساد في الأرض ، وإهلاك الحرث وهو محل نماء الزروع والثمار ، والنسل : وهو نتاج الحيوانات الذي لا قوام للناس إلا بهما . وقال مجاهد : إذا سعى في الأرض إفساداً منع الله القطر فهلك الحرث والنسل { والله لاَ يُحِبُّ الفساد } أي لا يحب من هذه صفته ، ولا من يصدر منه ذلك .
وقوله تعالى : { وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتق الله أَخَذَتْهُ العزة بالإثم } أي إذا وُعظ هذا الفاجر في مقاله وفعاله ، وقيل له : اتق الله وانزع عن قولك وفعلك ، وارجع إلى الحق ، امتنع وأبى ، وأخذته الحمية والغضب بالإثم ، أي بسبب ما اشتمل عليه من الآثام ، وهذه الآية شبيهة بقوله تعالى : { وَإِذَا تتلى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الذين كَفَرُواْ المنكر يَكَادُونَ يَسْطُونَ بالذين يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتنا قُلْ أَفَأُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذلكم النار وَعَدَهَا الله الذين كَفَرُواْ وَبِئْسَ المصير } [ الحج : 72 ] ولهذا قال في هذه الآية : { فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ المهاد } أي هي كافيته عقوبة في ذلك .
وقوله تعالى : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله } لما أخبر عن المنافقين بصفاتهم الذميمة ، ذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله } ، قال ابن عباس وجماعة : نزلت في ( صهيب الرومي ) وذلك أنه لما أسلم بمكة ، وأراد الهجرة منعه الناس أن يهاجر بماله ، وإن أحب أن يتجرد منه ويهاجر فعل ، فتخلص منهم وأعطاهم ماله ، فأنزل الله فيه هذه الآية ، فتلقاه عمر بن الخطاب وجماعة إلى طرف الحرة ، فقالوا : ربح البيع ، فقال : وأنتم فلا أخسر الله تجارتكم ، وما ذاك؟ فأخبروه أن الله أنزل فيه هذه الآية ، ويروى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال له : « ربح البيع صهيب » وروي عن أبي عثمان النهدي عن صهيب قال : لما أردت الهجرة من مكة إلى النبي صلى الله عليه وسلم قالت لي قريش : يا صهيب قدمت إلينا ولا مال لك ، وتخرج أنت ومالك؟ والله لا يكون ذلك أبداً ، فقلت لهم : أرأيتم إن دفعت إليكم مالي تخلُّون عني؟ قالوا : نعم فدفعت إليهم مالي فخلوا عني ، فخرجت حتى قدمت المدينة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « ربح صهيب ربح صهيب » مرتين . وأما الأكثرون فحملوا ذلك على أنها نزلت في كل مجاهد في سبيل الله كما قال الله تعالى : { إِنَّ الله اشترى مِنَ المؤمنين أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الجنة يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الله فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ } [ التوبة : 111 ] ، ولما حمل هشام بن عامر بين الصفين أنكر عليه بعض الناس فرد عليهم عمر بن الخطاب وابو هريرة وغيرهما وتلوا هذه الآية : { وَمِنَ الناس مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابتغآء مَرْضَاتِ الله والله رَؤُوفٌ بالعباد } .(1/227)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209)
يأمر الله تعالى عباده المؤمنين به ، المصدقين برسوله ، أن يأخذوا بجمع عرى الإسلام وشرائعه ، والعمل بجميع أوامره ، وترك جميع زواجره ما استطاعوا من ذلك . قال العوفي عن ابن عباس : { ادخلوا فِي السلم } يعني الإسلام ، وقال الضحّاك وأبو العالية : يعني الطاعة ، وقوله : { كَآفَّةً } قال ابن عباس وأبو العالية وعكرمة : جميعاً ، وقال مجاهد : أي اعملوا بجميع الأعمال ووجوه البر .
ومن المفسرين من يجعل قوله تعالى { كَآفَّةً } حالاً من الداخلين ، أي ادخلوا الإسلام كلكم ، والصحيح الأول وهو أنهم أمروا كلهم أن يعملوا بجميع شعب الإيمان وشرائع الإسلام ، وهي كثيرة جداً ما استطاعوا منها ، كما قال عكرمة عن ابن عباس : { ياأيها الذين آمَنُواْ ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً } يعني مؤمني أهل الكتاب ، فإنهم كانوا مع الإيمان بالله مستمسكين ببعض أُمور التوراة والشرائع التي أُنزلت فيهم ، فقال الله : { ادخلوا فِي السلم كَآفَّةً } يقول : ادخلوا في شرائع دين محمد صلى الله عليه وسلم ولا تدعوا منها شيئاً وحسبكم الإيمان بالتوراة وما فيها .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشيطان } أي اعملوا بالطاعات ، واجتنبوا ما يأمركم به الشيطان ف { إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بالسواء والفحشآء وَأَن تَقُولُواْ عَلَى الله مَا لاَ تَعْلَمُونَ } [ البقرة : 169 ] ، و { إِنَّمَا يَدْعُواْ حِزْبَهُ لِيَكُونُواْ مِنْ أَصْحَابِ السعير } [ فاطر : 6 ] ، ولهذا قال : { إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ } وقوله : { فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْكُمُ البينات } أي عدلتم عن الحق بعد ما قامت عليكم الحجج ، فاعلموا أن الله { عَزِيزٌ } أي في انتقامه لا يفوته هارب ولا يغلبه غالب ، { حَكِيمٌ } في أحكامه ونقضه وإبرامه ، ولهذا قال أبو العالية وقتادة : عزيز في نقمته ، حكيم في أمره . وقال محمد بن إسحاق : العزيز في نصره ممن كفر به إذا شاء ، الحكيم في عذره وحجته إلى عباده .(1/228)
هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمَامِ وَالْمَلَائِكَةُ وَقُضِيَ الْأَمْرُ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)
يقول تعالى مهدداً للكافرين بمحمد صلوات الله وسلامه عليه : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن يَأْتِيَهُمُ الله فِي ظُلَلٍ مِّنَ الغمام والملائكة } يعني يوم القيامة لفصل القضاء بين الأولين والآخرين ، فيجزي كل عامل بعمله إن خيراً فخير ، وإن شراً فشر . ولهذا قال تعالى : { وَقُضِيَ الأمر وَإِلَى الله تُرْجَعُ الأمور } وقال : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الملائكة أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ } [ الأنعام : 158 ] الآية .
وقد ذكر الإمام أبو جعفر بن جرير هاهنا حديث الصور بطوله من أوله عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو حديث مشهور ساقه غير واحد من أصحاب المسانيد وغيرهم ، وفيه : إن الناس إذا اهتموا لموقفهم في العرصات ، تشفعوا إلى ربهم بالأنبياء واحداً واحداً من آدم فمن بعده ، فكلهم يحيد عنها حتى ينتهوا إلى محمد صلى الله عليه وسلم فإذا جاءوا إليه قال : « أنا لها ، أنا لها » فيذهب فيسجد لله تحت العرش ، ويشفع عند الله في أن يأتي لفصل القضاء بين العباد ، فيشفعه الله ويأتي في ظلل من الغمام بعد ما تنشّق السماء الدنيا وينزل من فيها من الملائكة ، ثم الثانية ثم الثالثة إلى السابعة ، وينزل حملة العرش والكروبيون . قال : وينزل الجبار عزّ وجلّ في ظلل من الغمام والملائكة ، ولهم زجل من تسبيحهم يقولون : سبحان ذي الملك والملكوت ، سبحان ذي العزة والجبروت ، سبحان الحي الذي لا يموت ، سبحان الذي يميت الخلائق ولا يموت ، سبوح قدوس رب الملائكة والروح ، سبوح قدوس سبحان ربنا الأعلى ، سبحان ذي السلطان والعظمة ، سبحانه سبحانه ، أبداً أبداً .(1/229)
سَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ كَمْ آتَيْنَاهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَمَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَيَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (212)
يخبر تعالى عن بني إسرائيل كم شاهدوا مع موسى من آية بيّنة ، أي حجة قاطعة بصدقه فيما جاءهم به ، كيده وعصاه وفلقه البحر وضربه الحجر ، وما كان من تظليل الغمام عليهم من شدة الحر ، ومن إنزال المن والسلوى وغير ذلك من الآيات الدالات على وجود الفاعل المختار ، وصدق من جرت هذه الخوارق على يديه ، ومع هذا أعرض كثير منهم عنها ، وبدلوا نعمة الله كفراً ، أي استبدلوا بالإيمان بها الكفر بها والإعراض عنها : { وَمَن يُبَدِّلْ نِعْمَةَ الله مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُ فَإِنَّ الله شَدِيدُ العقاب } ، كما قال تعالى إخباراً عن كفار قريش : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين بَدَّلُواْ نِعْمَةَ الله كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ البوار * جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ القرار } [ إبراهيم : 28-29 ] .
ثم أخبر تعالى عن تزيينه الحياة الدنيا للكافرين ، الذين رضوا بها واطمأنوا إليها ، وجمعوا الأموال ومنعوها عن مصارفها التي أُمروا بها ، مما يرضي الله عنهم ، وسخروا من الذين آمنوا الذين أعرضوا عنها ، وأنفقوا ما حصل لهم منها طاعة ربهم ، وبذلوه ابتغاء وجه الله ، فلهذا فازوا بالمقام الأسعد والحظ الأوفر يوم معادهم ، فكانوا فوق أولئك في محشرهم ومنشرهم ومسيرهم ومأواهم ، فاستقروا في الدرجات في أعلى عليين ، وخلد أولئك في الدركات في أسفل سافلين؛ ولهذا قال تعالى : { والله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي يرزق من يشاء من خلقه ، ويعطيه عطاء كثيراً جزيلاً ، بلا حصر ولا تعداد في الدنيا والآخرة ، كما جاء في الحديث : « ابن آدم أَنفقْ أُنفقْ عليك » ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أَنفقْ بلالاً ولا تخش من ذي العرش إقلالاً » ، وقال تعالى : { وَمَآ أَنفَقْتُمْ مِّن شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ } [ سبأ : 39 ] . وفي الصحيح : « أن ملكين ينزلان من السماء صبيحة كل يوم فيقول أحدهما : اللهم أعط منفقاً خلفاً ، ويقول الآخر : اللهم أعط ممسكاً تلفاً » وفي الصحيح : « يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، وما لبست فأبليت ، وما تصدقت فأمضيت ، وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس » ، وفي مسند الإمام أحمد : عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « الدنيا دار من لا دار له ، ومال من لا مال له ، ولها يجمع من لا عقل له » .(1/230)
كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)
قال ابن جرير : عن ابن عباس قال : كان بين نوح وآدم عشرة قرون ، كلهم على شريعة من الحق ، فاختلفوا فبعث الله النبيين مبشرين ومنذرين ، قال : وكذلك هي في قراءة عبد الله { كان الناس أمة واحدة فاختلفوا } ، وقال قتادة في قوله : { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } قال : كانوا على الهدى جميعاً { فاحتلفوا فبعث الله النبيين } فكان أول من بعث نوحاً . وقال العوفي عن ابن عباس : { كَانَ الناس أُمَّةً وَاحِدَةً } يقول : كانوا كفاراً { فَبَعَثَ الله النبيين مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ } والقول الأول عن ابن عباس أصح سنداً ومعنى ، لأن الناس كانوا على ملة آدم حتى عبدوا الأصنام ، فبعث الله إليهم نوحاً عليه السلام ، فكان أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، ولهذا قال تعالى : { وَأَنزَلَ مَعَهُمُ الكتاب بالحق لِيَحْكُمَ بَيْنَ الناس فِيمَا اختلفوا فِيهِ وَمَا اختلف فِيهِ إِلاَّ الذين أُوتُوهُ مِن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي من بعد ما قامت الحجج عليهم ، وما حملهم على ذلك إلى البغي من بعضهم على بعض { فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } . وعن أبي هريرة قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، نحن أول الناس دخولاً الجنة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا وأوتيناه من بعدهم ، فهدانا الله لمّا اختلفوا فيه من الحق بإذنه ، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبع فغداً لليهود ، وبعد غدٍ للنصارى » .
وعن عبد الرحمن بن زيد بن أسلم عن أبيه في قوله : { فَهَدَى الله الذين آمَنُواْ لِمَا اختلفوا فِيهِ مِنَ الحق بِإِذْنِهِ } فاختلفوا في يوم الجمعة فاتخذ اليهود يوم السبت ، والنصارى يوم الأحد ، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم ليوم الجمعة . واختلفوا في القبلة ، فاستقبلت النصارى المشرق ، واليهود بيت المقدس ، فهدى الله أمة محمد للقبلة . واختلفوا في الصلاة فمنهم من يركع ولا يسجد ، ومنهم من يسجد ولا يركع ، ومنهم من يصلي وهو يتكلم ومنهم من يصلي وهو يمشي ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك ، واختلفوا في الصيام فمنهم من يصوم بعض النهار ، ومنهم من يصوم عن بعض الطعام ، فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك ، واختلفوا في إبراهيم عليه السلام فقالت اليهود : كان يهودياً ، وقالت النصارى : كان نصرانياً ، وجعله الله حنيفاً مسلماً فهدى الله أمة محمد للحق من ذلك ، واختلفوا في عيسى عليه السلام ، فكذبت به اليهود وقالوا لأمه بهتاناً عظيماً ، وجعلته النصارى إلها وولداً ، وجعله الله روحه وكلمته ، فهدى الله أمة محمد صلى الله عليه وسلم للحق من ذلك .(1/231)
وكان أبو العالية يقول : في هذه الآية المخرج من الشبهات والضلالات والفتن .
وقوله تعالى : { بِإِذْنِهِ } أي بعلمه بهم وبما هداهم له قاله ابن جرير { والله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } أي من خلقه { إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } أي وله الحكمة والحجة البالغة ، وفي صحيح البخاري ومسلم عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا قام من الليل يصلي يقول : « اللهم رب جبريل وميكائيل وإسرافيل ، فاطر السماوات والأرض ، عالم الغيب والشهادة أنت تحكم بين عبادك فيما كانوا فيه يختلفون ، اهدني لما اختلف فيه من الحق بإذنك إنك تهدي من تشاء إلى صراط مستقيم » وفي الدعاء المأثور : « اللهم أرنا الحق حقاً وارزقنا اتباعه ، وأرنا الباطل باطلاً وارزقنا اجتنابه ، ولا تجعله ملتبساً علينا ، فنضل ، واجعلنا للمتقين إماماً » .(1/232)
أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)
يقول تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة } قبل أن تبتلوا وتختبروا وتمتحنوا ، كما فعل بالذين من قبلكم من الأمم ولهذا قال : { وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء } وهي الأمراض والأسقام والآلام ، والمصائب والنوائب . قال ابن مسعدود : { البأسآء } الفقر ، { والضرآء } السقم ، { وَزُلْزِلُواْ } خوفوا من الأعداء زلزالاً شديداً وامتحنوا امتحاناً عظيماً ، كما جاء في الحديث عن خباب بن الأرت قال : قلنا يا رسول الله ألا تستنصر لنا ، ألا تدعوا الله لنا فقال : « إن من كان قبلكم كان أحدهم يوضع الميشار على مفرق رأسه فيخلص إلى قدميه ، لا يصرفه ذلك عن دينه ، ويمشط بأمشاط الحديد ما بين لحمه وعظمه ، لا يصرفه ذلك عن دينه » ، ثم قال : « والله ليتمن الله هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت ، لا يخاف إلا الله والذئب على غنمه ولكنكم قوم تستعجلون » .
وقال تعالى : { الم * أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الذين مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ الله الذين صَدَقُواْ وَلَيَعْلَمَنَّ الكاذبين } [ العنكبوت : 1-3 ] وقد حصل من هذا جانب عظيم للصحابة رضي الله تعالى عنهم في يوم الأحزاب ، كما قال الله تعالى : { إِذْ جَآءُوكُمْ مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأبصار وَبَلَغَتِ القلوب الحناجر وَتَظُنُّونَ بالله الظنونا * هُنَالِكَ ابتلي المؤمنون وَزُلْزِلُواْ زِلْزَالاً شَدِيداً } [ الأحزاب : 10-11 ] . ولما سأل هرقل أبا سفيان هل قاتلتموه قال : نعم ، قال : فكيف كانت الحرب بينكم؟ قال : سجالاً يدال علينا وندال عليه ، قال : كذلك الرسل تبتلى ثم تكون لها العاقبة .
وقوله تعالى : { مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم } أي سنتهم كما قال تعالى : { فَأَهْلَكْنَآ أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً ومضى مَثَلُ الأولين } [ الزخرف : 8 ] ، وقوله : { وَزُلْزِلُواْ حتى يَقُولَ الرسول والذين آمَنُواْ مَعَهُ متى نَصْرُ الله } أي يستفتحون على أعدائهم ويدعون بقرب الفرج والمخرج عند ضيق الحال والشدة . قال الله تعالى : { ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } ، كما قال : { فَإِنَّ مَعَ العسر يُسْراً * إِنَّ مَعَ العسر يُسْرا } [ الشرح : 5-6 ] ، وكما تكون الشدة ينزل من النصر مثلها ولهذا قال : { ألا إِنَّ نَصْرَ الله قَرِيبٌ } .(1/233)
يَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلْ مَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)
قال مقاتل : هذه الآية في نفقة التطوع ، ومعنى الآية : يسألونك كيف ينفقون؟ قاله ابن عباس ومجاهد ، فبين لهم تعالى ذلك ، فقال : { قُلْ مَآ أَنْفَقْتُمْ مِّنْ خَيْرٍ فَلِلْوَالِدَيْنِ والأقربين واليتامى والمساكين وابن السبيل } أي اصرفوها في هذه الوجوه ، كما جاء في الحديث : « أمك وأباك وأختك وأخاك ثم أدناك أدناك » ثم قال تعالى : { وَمَا تَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } أي مهما صدر منكم من فعل معروف ، فإن الله يعلمه وسيجزيكم على ذلك أوفر الجزاء ، فإنه لا يظلم أحداً مثقال ذرة .(1/234)
كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَعَسَى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئًا وَهُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (216)
هذا إيجاب من الله تعالى للجهاد على المسلمين أن يكفوا شر الأعداء عن حوزة الإسلام ، وقال الزهري : الجهاد واجب على كل أحد غزا أو قعد ، فالقاعد عليه إذا استعين أن يعين ، وإذا استغيث أن يغيث ، وإذا استنفر أن ينفر ، وإن لم يحتج إليه قعد . ( قلت ) : ولهذا ثبت في الصحيح : « من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات ميتة جاهلية » وقال عليه السلام يوم الفتح : « لا هجرة بعد الفتح ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا » ، وقوله : { وَهُوَ كُرْهٌ لَّكُمْ } أي شديد عليكم ومشقة ، وهو كذلك فإنه إما أن يقتل أو يجرح ، مع مشقة السفر ومجالدة الأعداء ، ثم قال تعالى : { وعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } أي لان القتال يعقبه النصر والظفر على الأعداء والاستيلاء على بلادهم وأموالهم وذراريهم وأولادهم . { وعسى أَن تُحِبُّواْ شَيْئاً وَهُوَ شَرٌّ لَّكُمْ } وهذا عام في الأمور كلها . قد يحب المرء شيئاً وليس له فيه خيرة ولا مصلحة ، ومن ذلك القعود عن القتال قد يعقبه استيلاء العدوا على البلاد والحكم ، ثم قال تعالى : { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أي هو أعلم بعواقب الأمور منكم ، وأخبر بما فيه صلاحكم في دنياكم وأخراكم ، فاستجيبوا له وانقادوا لأمره لعلكم ترشدون .(1/235)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَكُفْرٌ بِهِ وَالْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَالْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَلَا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا وَمَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (217) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)
عن جندب بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث رهطاً وبعث عليهم ( أبا عبيدة بن الجراح ) فلما ذهب ينطلق بكى صبابةً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فحبسه فبعث عليهم مكانه ( عبد الله بن جحش ) وكتب له كتاباً وأمره أن لا يقرأ الكتاب حتى يبلغ مكان كذا وكذا ، وقال : « لا تكرهن أحداً على السير معك من أصحابك » ، فلما قرأ الكتاب استرجع وقال : سمعاً وطاعة لله ولرسوله ، فخبرهم الخبر وقرأ عليهم الكتاب فرجع رجلان وبقي بقيتهم ، فلقوا ابن الحضرمي فقتلوه ولم يدروا أن ذلك اليوم من رجب أو من جمادى ، فقال المشركون للمسلمين : قتلتم في الشهر الحرام! فأنزل الله : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } الآية . أي لا يحل ، وما صنعتم أنتم يا معشر المشركين أكبر من القتل في الشهر الحرام ، حين كفرتم بالله وصددتم عن محمد صلى الله عليه وسلم وأصحابه ، وإخراج أهل المسجد الحرام منه حين أخرجوا محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه أكبر من القتل عند الله .
وقال العوفي عن ابن عباس : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ } ، وذلك أن المشركين صدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم وردوه عن المسجد في شهر حرام ، قال : ففتح الله على نبيّه في شهر حرام من العام المقبل ، فعاب المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم القتال في شهر حرام ، فقال الله تعالى : { وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله } من القتال فيه ، وأن محمداً صلى الله عليه وسلم بعث سرية فلقوا ( عمرو بن الحضرمي ) وهو مقبل من الطائف في آخر ليلة من جمادى ، وأول ليلة من رجب ، وأن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم كانوا يظنون أن تلك الليلة من جمادى ، وكانت أول رجب ولم يشعروا ، فقتله رجل منهم وأخذوا ما كان معه ، وأن المشركين أرسلوا يعيِّرونه بذلك ، فقال الله تعالى : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ } إخراج أهل المسجد الحرام أكبر من الذي أصاب أصحابُ محمد صلى الله عليه وسلم ، والشرك أشد منه .
وقال ابن هشام في كتاب ( السيرة ) : وبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن جحش في رجب مقفلة من بدر الأولى وبعث معه ثمانية رهط من المهاجرين ليس فيهم من الأنصار أحد ، وكتب له كتاباً وأمره أن لا ينظر فيه حتى يسير يومين ثم ينظر فيه فيمضي كما أمره به ، ولا يستكره من أصحابه أحداً ، فلما سار عبد الله بن جحش يومين فتح الكتاب فنظر فإذا فيه : إذا نظرت في كتابي في هذا فامض حتى تنزل ( نخلة ) بين مكة والطائف ترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم .(1/236)
فلما نظر عبد الله بن جحش الكتاب قال : سمعاً وطاعةً ، ثم قال لأصحابه : أمرني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، أن أمضي إلى نخلة أرصد بها قريشاً حتى آتيه منهم بخبر ، وقد نهاني أن أستكره أحداً منكم ، فمن كان منكم يريد الشهادة ويرغب فيها فلينطلق ، ومن كره ذلك فليرجع ، فأما أنا فماضٍ لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فمضى ومضى معه أصحابه لم يتخلف عنه منهم أحد ، فسلك على الحجاز حتى إذا كان بمعدن فوق الفرع يقال له نجران أضلَّ ( سعد بن أبي وقاص ) و ( عتبة بن غزوان ) بعيراً لهما كانا يتعقبانه فتخلفا عليه في طلبه ، ومضى عبد الله بن جحش وبقية أصحابه حتى نزل نخلة فمرت به عير لقريش تحمل زيتاً وأدماً وتجارة من تجارة قريش فيها عمرو بن الحضرمي ، فلما رآهم القوم هابوهم وقد نزلوا قريباً منهم ، فأشرف لهم ( عكاشة ابن محصن ) وكان قد حلق رأسه ، فلما رأوه آمنوا وقالوا : عُمَّار لا بأس عليكم منهم ، وتشارو القوم فيهم ، وذلك في آخر يوم من رجب ، فقال القوم : والله لئن تركتم القوم هذه الليلة ليدخلن الحرم فليمتنعن منكم ، ولئن قتلتموهم لتقتلنهم في الشهر الحرام ، فتردد القوم وهابوا الإقدام عليهم ، ثم شجعوا أنفسهم عليهم وأجمعوا قتل من قدروا عليه منهم وأخذ ما معهم ، فرمى واقد بن عبد الله التميمي عمرو بن الحضرمي بسهم فقتله ، واستأسَر ( عثمان بن عبد الله ) و ( الحكم بن كيسان ) وأفلت القوم نوفل بن عبد الله فأعجزهم ، وأقبل عبد الله بن جحش وأصحابه بالعير والأسيرين حتى قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة . قال ابن إسحاق : وقد ذكر بعض آل عبد الله بن جحش أن عبد الله قال لأصحابه : إن لرسول الله صلى الله عليه وسلم مما غنمنا الخُمس ، وذلك قبل أن يفرض الله الخُمس من المغانم فعزل لرسول الله صلى الله عليه وسلم خُمس العير وقسم سائرها بين أصحابه .
قال ابن إسحاق : فلما قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما أمرتكم بقتالٍ في الشهر الحرام » فوقف العير والأسيرين وأبى أن يأخذ من ذلك شيئاً . فلما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم أسقط في أيدي القوم وظنوا أنهم قد هلكوا ، وعنفهم إخوانهم من المسلمين فيما صنعوا ، وقالت قريش : قد استحل محمد وأصحابه الشهر الحرام ، وسفكوا فيه الدم وأخذوا فيه الأموال وأسروا فيه الرجال ، فلما أكثر الناس في ذلك أنزل الله على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشهر الحرام قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَصَدٌّ عَن سَبِيلِ الله وَكُفْرٌ بِهِ والمسجد الحرام وَإِخْرَاجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِندَ الله والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل } أي إن كنتم قتلتم في الشهر الحرام ، فقد صدوكم عن سبيل الله مع الكفر به ، وعن المسجد الحرام ، وإخراجكُم منه وأنتم أهله { أَكْبَرُ عِندَ الله } من قتل من قتلتم منهم { والفتنة أَكْبَرُ مِنَ القتل } أي قد كانوا يفتنون المسلم عن دينه حتى يردوه إلى الكفر بعد إيمانه فذلك أكبر عند الله من القتل : { وَلاَ يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حتى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إِن اسْتَطَاعُواْ } أي ثم هم مقيمون على أخبث ذلك وأعظمه غير تائبين ولا نازعين .(1/237)
قال ابن إسحاق : فلما نزل القرآن بهذا من الأمر وفرج الله عن المسلمين ما كانوا فيه من الشدة قبض رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم العير والأسيرين وبعثت إليه قريش في فداء عثمان بن عبد الله والحكم بن كيسان فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا نفديكموها حتى يقدم صاحبانا » يعني ( سعد بن أبي وقاص ) و ( عتبة بن غزوان ) فإنا نخشاكم عليهما ، فإن تقتلوهما نقتل صاحبيكم ، فقدم سعد وعتبة ففداهما رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم ، فأما الحكم بن كيسان فأسلم وحسن إسلامه ، وأقام عند رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى قتل يوم بئر معونة شهيداً ، وأما عثمان بن عبد الله فلحق بمكة فمات بها كافراً ، قال ابن إسحاق : فلما تجلى عن عبد الله بن جحش وأصحابه ما كان حين نزل القرآن طمعوا في الأجر فقالوا : يا رسول الله أنطمع أن تكون لنا غزوة نعطى فيها أجر المجاهدين؟ فأنزل الله عزّ وجلّ : { إِنَّ الذين آمَنُواْ والذين هَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ الله أولائك يَرْجُونَ رَحْمَتَ الله والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فوضع الله من ذلك على أعظم الرجاء . قال ابن إسحاق : فقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه في غزوة عبد الله بن جحش ، ويقال : بل عبد الله بن جحش قالها حين قالت قريش قد أحل محمد وأصحابه الشهر الحرام :
تعدون قتلاً في الحرام عظيمة ... وأعظم منه لو يرى الرشد راشد
صدودكم عما يقول محمد ... وكفر به والله راء وشاهد
وإخراجكم من مسجد الله أهله ... لئلا يرى لله في البيت ساجد(1/238)
يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِمَا وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْيَتَامَى قُلْ إِصْلَاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ وَاللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)
روى الإمام أحمد عن أبي ميسرة عن عمر أنه قال : لما نزل تحريم الخمر قال : اللهم بيّن لنا في الخمر بياناً شافياً فنزلت هذه الآية التي في سورة البقرة : { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً ، فنزلت الآية التي في النساء : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى } [ الآية : 43 ] ، فكان منادي رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا أقام الصلاة نادى : أن لا يقربن الصلاة سكران ، فدعي عمر فقرئت عليه ، فقال : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً . فنزلت الآية التي في المائدة ، فدعي عمر فقرئت عليه فلما بلغ { فَهَلْ أَنْتُمْ مُّنتَهُونَ } [ المائدة : 91 ] ؟ قال عمر : انتهينا انتهينا . أما الخمر فكما قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : إنه كل ما خامر العقل ، والميسر : وهو القمار .
وقوله تعالى : { قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ } ، أما إثمهما فهو في الدين ، وأما المنافع فدنيوية ، من حيث إن فيها نفع البدن ، وتهضيم الطعام ، وإخراج الفضلات ، وتشحيذ بعض الأذهان ، ولذة الشدة المطربة ، التي فيها كما قال ( حسّان بن ثابت ) في جاهليته :
ونشربها فتتركنا ملوكاً ... وأُسْداً لا يُنَهنهنا اللقاء
وكذا بيعها والانتفاع بثمنها ، وما يربحه بعضهم من الميسر فينفقه على نفسه أو عياله ، ولكن هذه المصالح لا توازي مضرته ومفسدته الراجحة لتعلقها بالعقل والدين ، ولهذا قال الله تعالى : { وَإِثْمُهُمَآ أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا } ، ولهذا كانت هذه الآية ممهدة لتحريم الخمر على البتات ، ولم تكن مصرحة بل معرضة ، ولهذا قال عمر رضي الله عنه لما قرئت عليه : اللهم بيِّن لنا في الخمر بياناً شافياً حتى نزل التصريح بتحريمها في سورة المائدة : { ياأيها الذين آمَنُواْ إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } [ الآية : 90 ] ، وسيأتي الكلام على ذلك في سورة المائدة إن شاء الله تعالى وبه الثقة . قال ابن عمر والشعبي ومجاهد : إن هذه أول آية نزلت في الخمر { يَسْأَلُونَكَ عَنِ الخمر والميسر قُلْ فِيهِمَآ إِثْمٌ كَبِيرٌ } ، ثم نزلت الآية التي في سورة النساء ، ثم نزلت الآية التي في المائدة فحرمت الخمر .
وقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } ، روي أن معاذ بن جبل وثعلبة أتيا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالا : يا رسول الله : إن لنا أرقاء وأهلين من أموالنا فأنزل الله : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ } ، وعن ابن عباس : { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو } قال : ما يفضل عن أهلك ، { قُلِ العفو } يعني الفضل ، وعن طاووس : اليسير من كل شيء ، وعن الربيع : أفضل مالك وأطيبه ، والكل يرجع إلى الفضل ، ويدل على ذلك ما رواه ابن جرير عن أبي هريرة قال(1/239)
« قال رجل : يا رسول الله عندي دينار ، قال : » أنفقه على نفسك « ، قال : عندي آخر ، قال : » أنفقه على أهلك « ، قال : عندي آخر ، قال : » أنفقه على ولدك « قال : عندي آخر ، قال : » فأنت أبصر « وعن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : » أبدأ بنفسك فتصدق عليها فإن فضل شيء فلأهلك فإن فضل شيء عن أهلك فلذي قرابتك فإن فضل عن ذي قرابتك شيء فهكذا وهكذا « .
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » خير الصدقة ما كان عن ظهر غنى ، واليد العليا خير من اليد السفلى ، وأبدأ بمن تعول « ، وفي الحديث أيضاً : » ابن آدم إنك أن تبذل الفضل خير لك وإن تمسكه شر لك ولا تلام على كفاف « ، ثم قيل : إنها منسوخة بآية الزكاة ، وقيل : مبينة بآية الزكاة وهو أوجه .
وقوله تعالى : { كذلك يُبيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ فِي الدنيا والآخرة } أي كما فصل لكم هذه الأحكام وبينها وأوضحها ، كذلك يبين لكم سائر الآيات في أحكامه ، ووعده ووعيده لعلكم تتفكرون في الدنيا والآخرة ، قال ابن عباس : يعني في زوال الدنيا وفنائها وإقبال الآخرة وبقائها . وقال الحسن : هي والله لمن تفكر فيها ، ليعلم أن الدنيا دار بلاء ثم دار فناء ، وليعلم أن الآخرة دار جزاء ثم دار بقاء .
وقوله تعالى : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ } الآية . قال ابن عباس : لما نزلت { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأنعام : 152 ] ، و { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } [ النساء : 10 ] انطلق من كان عنده يتيم فعزل طعامه من طعامه ، وشرابه من شرابه ، فجعل يفضل له الشيء من طعامه فيحبس له حتى يأكله أو يفسد ، فاشتد ذلك عليهم فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ اليتامى قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } فخلطوا طعامهم بطعامهم وشرابهم وبشرابهم . وقالت عائشة رضي الله عنها : إني لأكره أن يكون مال اليتيم عندي على حدة ، حتى أخلط طعامه بطعامي وشرابه بشرابي فقوله : { قُلْ إِصْلاَحٌ لَّهُمْ خَيْرٌ } أي على حدة ، { وَإِنْ تُخَالِطُوهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ } أي وأن خلطتم طعامكم بطعامهم وشرابكم بشرابهم فلا بأس عليكم لأنهم أخوانكم في الدين ولهذا قال : { والله يَعْلَمُ المفسد مِنَ المصلح } أي يعلم من قصده ونيته الإفساد أو الإصلاح ، وقوله : { وَلَوْ شَآءَ الله لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي ولو شاء الله لضيق عليكم وأحرجكم ، ولكنه وسّع عليكم وخفف عنكم وأباح لكم مخالطتهم بالتي هي أحسن قال تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ } [ الأنعام : 152 ] بل جوّز الأكل منه للفقير بالمعروف ، إما بشرط ضمان البدل لمن أيسر ، أو مجاناً كما سيأتي بيانه في سورة النساء إن شاء الله وبه الثقة .(1/240)
وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)
هذا تحريم من الله عزّ وجلّ على المؤمنين أن يتزوجوا المشركات من عبدة الأوثان ، ثم إن كان عمومها مراداً وأنه يدخل فيها كل مشركة من كتابية ووثنية ، فقد خص من ذلك نساء أهل الكتاب بقوله : { والمحصنات مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب } [ المائدة : 5 ] . عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } استثنى الله من ذلك نساء أهل الكتاب ، وقيل : بل المراد بذلك المشركون من عبدة الأوثان ، ولم يرد أهل الكتاب بالكلية ، والمعنى قريب من الأول ، والله أعلم . وإنما كره عمر نكاح الكتابيات لئلا يزهد الناس في المسلمات ، أو لغير ذلك من المعاني ، كما روي عن شقيق ، قال : تزوج حذيفة يهودية فكتب إليه عمر : خلِّ سبيلها ، فكتب إليه : أتزعم أنها حرام فأخلي . فقال : لا أزعم أنها حرام ، ولكني أخاف أن تعاطوا المؤمنات منهن .
وعن ابن عمر أنه كره نكاح أهل الكتاب وتأول : { وَلاَ تَنْكِحُواْ المشركات حتى يُؤْمِنَّ } وقال البخاري : وقال ابن عمر : لا أعلم شِركاً أعظم من أن تقول : ربها عيسى ، وقوله : { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } قال السدي : « نزلت في عبد الله بن رواحة كانت له أمة سوداء فغضب عليها فلطمها ، ثم فزع فأتى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبره خبرها ، فقال له : » ما هي «؟ قال : تصوم وتصلي وتحسن الوضوء وتشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله فقال : » يا أبا عبد الله هذه مؤمنة « ، فقال : والذي بعثك بالحق لأعتقنها ولأتزوجنها » ، ففعل فطعن عليه ناس من المسلمين وقالوا : نكح أمته ، وكانوا يريدون أن ينكحوا إلى المشركين ويُنْكحوهم رغبة في أحسابهم فأنزل الله : { وَلأَمَةٌ مُّؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ } ، { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا تنكحوا النساء لحسنهن فعسى حسنهن أن يرديهن ، ولا تنكحوهن على أموالهن فعسى أموالهن أن تطغيهن ، وانكحوهن على الدين ، فلأمة سوداء جرداء ذات دين أفضل » وقد ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « تنكح المرأة لأربع : لمالها ولحسبها ولجمالها ولدينها . فاظفر بذات الدين تربت يداك » وعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « الدنيا متاع وخير متاع الدنيا المرأة الصالحة » .
وقوله تعالى : { وَلاَ تُنْكِحُواْ المشركين حتى يُؤْمِنُواْ } أي لا تزوجوا الرجال المشركين النساء المؤمنات كما قال تعالى : { لاَ هُنَّ حِلٌّ لَّهُمْ وَلاَ هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ } [ الممتحنة : 10 ] ، ثم قال تعالى : { وَلَعَبْدٌ مُّؤْمِنٌ خَيْرٌ مِّن مُّشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ } أي لرجل مؤمن ولو كان عبداً حبشياً خير من مشرك ، وإن كان رئيساً سرياً ، { أولئك يَدْعُونَ إِلَى النار } أي معاشرتهم ومخالطتهم تبعث على حب الدنيا واقتنائها وإيثارها على الدار الآخرة وعاقبة ذلك وخيمة ، { والله يدعوا إِلَى الجنة والمغفرة بِإِذْنِهِ } أي بشرعه وما أمر به وما نهى عنه { وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ } .(1/241)
وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222) نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلَاقُوهُ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)
عن أنس أن اليهود كانت إذا حاضت المرأة منهم لم يواكلوها ولم يجامعوها في البيوت ، فسأل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فأنزل الله : { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ المحيض قُلْ هُوَ أَذًى فاعتزلوا النسآء فِي المحيض وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } حتى فرغ من الآية . فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اصنعوا كل شيء إلا النكاح » ، فبلغ ذلك اليهود فقالوا : ما يريد هذا الرجل أن يدع من أمرنا شيئاً إلا خالفنا فيه ، فجاء ( أسيد بن حضير ) و ( عباد بن بشر ) فقالا : يا رسول الله إن اليهود قالت كذا وكذا أفلا نجامعهن؟ فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى ظننا أن قد وجد عليهما ، فخرجا فاستقبلهما هدية من لبن إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأرسل في آثارهما فسقاهما فعرفا أن لم يجد عليهما . فقوله : { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } يعني الفرج لقوله : « اصنعوا كل شيء إلا النكاح » ، ولهذا ذهب كثير من العلماء أو أكثرهم إلى أنه يجوز مباشرة الحائض فيما عدا الفرج ، قال أبو داود عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد من الحائض شيئاً ألقى على فرجها ثوباً .
وعن مسروق قال : قلت لعائشة : ما يحل للرجل من امرأته إذا كانت حائضاً؟ قالت : كل شيء إلا الجماع ، وهذا قول ابن عباس ومجاهد والحسن . وروي ابن جرير عن عائشة قالت : له ما فوق الإزار ( قلت ) : ويحل مضاجعتها ومواكلتها بلا خلاف . قالت عائشة : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمرني فأغسل رأسه وأنا حائض ، وكان يتكىء في حجري وأنا حائض فيقرأ القرآن ، وفي الصحيح عنها قالت : كنت أتعرق العرق وأنا حائض فأعطيه النبي صلى الله عليه وسلم فيضع فمه في الموضع الذي وضعت فمي فيه ، وأشرب الشراب فأناوله فيضع فمه في الموضع الذي كنت أشرب منه . وقال آخرون : إنما تحل له مباشرتها فيما عدا ما تحت الإزار كما ثبت في الصحيحين عن ميمونة قالت : كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أراد أن يباشر امرأة من نسائه أمرها فاتزرت وهي حائض . وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن سعد الأنصاري أنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما يحل لي من امرأتي وهي حائض؟ قال : » ما فوق الإزار « ولأبي داود عن معاذ بن جبل قال : » سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عما يحل لي من أمرأتي وهي حائض قال : « ما فوق الإزار والتعفف عن ذلك أفضل » « .
فهذه الأحاديث وما شابهها حجة من ذهب إلى أنه يحل ما فوق الإزار منها ، وهو أحد القولين في مذهب الشافعي رحمه الله ، الذي رجحه كثير من العراقيين وغيرهم ، ومأخذهم أنه حريم الفرج فهو حرام ، لئلا يتوصل إلى تعاطي ما حرم الله عزّ وجلّ ، الذي أجمع العلماء على تحريمه ، وهو المباشرة في الفرج ، ثم من فعل ذلك فقد أثم فيستغفر الله ويتوب إليه ، وهل يلزمه مع ذلك كفارة أم لا؟ فيه قولان ، ( أحدهما ) : نعم ، لما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم في الذي يأتي امرأته وهي حائض ، يتصدق بدينار أو نصف دينار .(1/242)
وللإمام أحمد أيضاً عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم جعل في الحائض تصاب ديناراً فإن أصابها وقد أدبر الدم عنها ولم تغتسل فنصف دينار ، ( والقول الثاني ) : وهو الصحيح الجديد من مذهب الشافعي وقول الجمهور : أنه لا شيء في ذلك بل يستغفر الله عزّ وجلّ ، لأنه لم يصح عندهم رفع هذا الحديث ، فإنه قد روي مرفوعاً كما تقدم وموقوفاً ، وهو الصحيح عند كثير من أئمة الحديث . فقوله تعالى : { وَلاَ تَقْرَبُوهُنَّ حتى يَطْهُرْنَ } تفسير لقوله : { فاعتزلوا النسآء فِي المحيض } ونهى عن قربانهن بالجماع ما دام الحيض موجوداً ومفهومه حله إذا انقطع .
وقوله تعالى : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } فيه ندب وإرشاد إلى غشيانهن بعد الإغتسال ، وذهب ابن حزم إلى وجوب الجماع بعد كل حيضة لقوله : { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } ، وليس له في ذلك مستند لأن هذا أمر بعد الحظر ، وقد اتفق العلماء على ان المرأة إذا انقطع حيضها لا تحل حتى تغتسل بالماء أو تتيمم . إن تعذر ذلك عليها بشرطه ، إلا أن أبا حنيفة رحمه الله يقول فيما إذا انقطع دمها لأكثر الحيض هو عشرة ايام عنده إنها تحل بمجرد الانقطاع ، ولا تفتقر إلى غسل والله أعلم . وقال ابن عباس : { حتى يَطْهُرْنَ } أي من الدم { فَإِذَا تَطَهَّرْنَ } أي بالماء ، وكذا قال مجاهد وعكرمة .
وقوله تعالى : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } قال ابن عباس : في الفرج ولا تَعَدُّوه إلى غيره ، فمن فعل شيئاً من ذلك فقد اعتدى ، وقال ابن عباس ومجاهد وعكرمة : { مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } أي أن تعتزلوهن ، وفيه دلالة حينئذ على تحريم الوطء في الدبر كما سيأتي قريباً إن شاء الله ، وقال الضحاك : { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ الله } يعني طاهرات غير حيّض ، ولهذا قال : { إِنَّ الله يُحِبُّ التوابين } أي من الذنب وإن تكرر غشيان ، { وَيُحِبُّ المتطهرين } أي المتنزهين عن الأقذار والأذى ، وهو ما نهوا عنه من إتيان الحائض أو في غير المأتى .
وقوله تعالى { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } قال ابن عباس : الحرث موضع الولد ، { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } أي كيف شئتم مقبلة ومدبرة في صمام واحد ، كما ثبتت بذلك الأحاديث .(1/243)
قال البخاري : عن جابر قال : كانت اليهود تقول : إذا جامعها من ورائها جاء الولد أحول ، فنزلت : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } . عن جابر بن عبد الله أن اليهود قالوا للمسلمين من أتى امرأة وهي مدبرة جاء الولد أحول فأنزل الله : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « مقبلة ومدبرة إذا كان ذلك في الفرج » وعن ابن عباس قال : أنزلت هذه الآية { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ } في أناس من الأنصار ، أتو النبي صلى الله عليه وسلم فسألوه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « ائتها على كل حال إذا كان في الفرج » .
قال الإمام أحمد : عن عبد الله بن سابط قال : دخلت على ( حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر ) فقلت : إني لسائلك عن أمر وأنا أستحي أن أسألك قالت : فلا تستحي يا ابن أخي ، قال : عن إتيان النساء في أدبارهن ، قالت : حدثتني أم سلمة أن الأنصار كانوا يُحْبُون النساء وكانت اليهود تقول : إنه من أحبى امرأته كان ولده أحول ، فلما قدم المهاجرون المدينة نكحوا في نساء الأنصار ، فأَحْبَوْهن فأبت امرأة أن تطيع زوجها وقالت : لن تفعل ذلك حتى آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فدخلت على أم سلمة فذكرت لها ذلك فقالت : اجلسي حتى يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم استحت الأنصارية أن تسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فخرجت فسألته أم سلمة فقال : ادعي « الأنصارية » فدعتها ، فتلا عليها هذه الآية : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } « صماماً واحداً » . وعن ابن عباس قال : جاء عمر بن الخطاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله هلكت! قال : « ما الذي أهلكك؟ » قال : حولت رحلي البارحة ، قال فلم يرد عليه شيئاً قال : فأوحى الله إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } : « أقبل وأدبر واتق الدبر والحيضة » .
وعن نافع قال : قرأت ذات يوم { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } فقال ابن عمر : أتدري فيما نزلت؟ قالت : لا ، قال : نزلت في إتيان النساء في أدبارهن . وهذا الحديث محمول - على ما تقدم - وهو أنه يأتيها في قبلها من دبرها لما روى كعب بن علقمة عن أبي النضر أنه أخبره أنه قال لنافع مولى ابن عمر : إنه قد أكثر عليك القول أنك تقول عن ابن عمر إنه أفتى أن تؤتى النساء في أدبارهن قال : كذبوا عليّ ولكن سأحدثك كيف كان الأمر ، إن ابن عمر عرض المصحف يوماً وأنا عنده حتى بلغ { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } فقال : يا نافع ، هل تعلم من أمر هذه الآية؟ قلت : لا ، قال إنا كنا معشر قريش نحبي النساء فلما دخلنا المدينة ونكحنا نساء الأنصار أردنا منهن مثل ما كنا نريد ، فآذاهن فكرهن ذلك وأعظمنه ، وكانت نساء الأنصار قد أخذن بحال اليهود إنما يؤتين على جنوبهن ، فأنزل الله : { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } ، وهذا إسناد صحيح وإن كان قد نسب هذا القول إلى طائفة من فقهاء المدينة وغيرهم ، وعزاه بعضهم إلى الإمام مالك في كتاب السر ، وأكثر الناس ينكر أن يصح ذلك عن الإمام مالك رحمه الله ، وقد وردت الأحاديث المروية من طرق متعددة ، بالزجر عن فعله وتعاطيه ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/244)
« استحيوا إن الله لا يستحي من الحق ، لا يحل أن تأتوا النساء من حشوشهن » وعن خزيمة بن ثابت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نهى أن يأتي الرجل امرأته في دبرها . وفي رواية قال : « استحيوا إن الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أعجازهن » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا ينظر الله إلى رجل أتى رجل أو امرأة في الدبر » وعن عكرمة قال : جاء رجل إلى ابن عباس وقال : كنت أتى أهلي في دبرها وسمعت قول الله { نِسَآؤُكُمْ حَرْثٌ لَّكُمْ فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } فظننت أن ذلك لي حلال ، فقال : يا لكع إنما قوله { فَأْتُواْ حَرْثَكُمْ أنى شِئْتُمْ } قائمة وقاعدة ومقبلة ومدبرة في أقبالهن لا تعدوا ذلك إلى غيره . وقال عمر رضي الله عنه : استحيوا من الله فإنَّ الله لا يستحي من الحق لا تأتوا النساء في أدبارهن . وعن أبو جويرة قال : سأل رجل علياً عن إتيان المراة في دبرها فقال : سفلت سفل الله بك ألم تسمع قول الله عزّ وجلّ : { أَتَأْتُونَ الفاحشة مَا سَبَقَكُمْ بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن العالمين } [ الأعراف : 80 ] ؟ وقد تقدم قول ابن مسعود وأبي الدرداء وأبي هريرة وابن عباس وعبد الله بن عمر في تحريم ذلك ، وهو الثابت بلا شك عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أنه يحرمه . عن سعيد بن يسار أبي الحباب قال : قلت لابن عمر : ما تقول في الجواري أيحمض لهن؟ قال : وما التحميض؟ فذكر الدبر فقال : وهل يفعل ذلك أحد من المسلمين؟ . وهذا إسناد صحيح ونص صريح منه بتحريم ذلك . فكل ما ورد عنه مما يحتمل ويحتمل فهو مردود إلى هذا المحكم ، وروي معمر بن عيسى عن مالك أن ذلك حرام .
وقال أبو بكر النيسابوري بسنده عن إسرائيل بن روح سألت مالك بن أنس : ما تقول في إتيان النساء في أدبارهن؟ قال : ما أنتم إلى قوم عرب ، هل يكون الحرث إلا موضع الزرع؟ لا تعدوا الفرج ، قلت : يا أبا عبد الله إنهم يقولون إنك تقول ذلك ، قال : يكذبون عليَّ يكذبون عليَّ .(1/245)
فهذا هو الثابت عنه ، وهو قول أبي حنيفة والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم قاطبة وهو قول سعيد بن المسيب ، وأبي سلمة ، وعكرمة ، وطاووس ، وعطاء ، وسعيد بن جبير ، وعروة بن الزبير ، ومجاهد بن جبر ، والحسن ، وغيرهم من السلف أنهم أنكروا ذلك أشد الإنكار ، ومنهم من يطلق على فعله الكفر وهو مذهب جمهور العلماء .
وقوله تعالى : { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } أي من فعل الطاعات مع امتثال ما أنهاكم عنه من ترك المحرمات ولهذا قال : { واتقوا الله واعلموا أَنَّكُمْ مُّلاَقُوهُ } أي فيحاسبكم على أعمالكم جميعها { وَبَشِّرِ المؤمنين } أي المطيعين لله فيما أمرهم ، التاركين ما عنه زجرهم ، وقال ابن جرير عن ابن عباس { وَقَدِّمُواْ لأَنْفُسِكُمْ } قال : تقول باسم الله التسمية عند الجماع ، وقد ثبت في صحيح البخاري عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : باسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان ، وجنب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يُقَدَّر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبداً » .(1/246)
وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لَا يُؤَاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِنْ يُؤَاخِذُكُمْ بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225)
ومعناه : لا تجعلوا أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البر وصلة الرحم إذا حلفتم على تركها كقوله تعالى : { وَلاَ يَأْتَلِ أُوْلُواْ الفضل مِنكُمْ والسعة أَن يؤتوا أُوْلِي القربى والمساكين والمهاجرين فِي سَبِيلِ الله } [ النور : 22 ] ، فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والله لأن يَلَجَّ أحدكُم بيمينه في أهله آثم له عند الله من أن يعطي كفارته التي افترض الله عليه » وقال علي بن طلحة عن ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَجْعَلُواْ الله عُرْضَةً لأَيْمَانِكُمْ } قال : لا تجعلن عرضة ليمينك أن لا تصنع الخير ، ولكن كَفَّر عن يمينك واصنع الخير ، ويؤيده ما ثبت في الصحيحين عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إني والله إن شاء الله لا أحلف على يمين فأرى غيرها خيراً منها إلا أتيت الذي هو خير وتحللتها » ، وثبت فيهما أيضاً أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لعبد الرحمن بن سمرة : « يا عبد الرحمن بن سمرة لا تسأل الإمارة فإنك إن أعطيتها من غير مسألة أُعنت عليها ، وإن أعطيتها عن مسألة وُكِلت إليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيراً منها فأت الذي هو خير وكفّر عن يمينك » وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فليكفِّر عن يمينه وليفعل الذي هو خير » .
وقوله تعالى : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } أي لا يعاقبكم ولا يلزمكم بما صدر منكم من الأيمان اللاغية ، وهي التي لا يقصدها الحالف ، بل تجري على لسانه عادة من غير تعقيد ولا تأكيد ، كما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من حلف فقال في حلفه باللات والعزى فليقل لا إله إلا الله » فهذا قاله لقوم حديثي عهد بجاهلية ، قد أسلموا وألسنتهم قد ألفت ما كانت عليه من الحلف باللات من غير قصد ، فأمروا أن يلفظوا بكلمة الإخلاص ، كما تلفظوا بتلك الكلمة من غير قصد لتكون هذه بهذه ولهذا قال تعالى : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } الآية وفي الآية الأخرى : { بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } [ المائدة : 89 ] . عن عروة عن عائشة في قوله : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } قالت : هم القوم يتدارأون في الأمر فيقول هذا : لا والله ، وبلى والله ، وكلا والله ، يتدارأون في الأمر لا تعقد عليه قلوبهم . عن عروة قال : كانت عائشة تقول : إنما اللغو في المزاحة والهزل ، وهو قول الرجل : لا الله ، وبلى والله ، فذاك لا كفارة فيه ، إنما الكفارة فيما عقد عليه قلبه أن يفعله ثم لا يفعله .(1/247)
( الوجه الثاني ) : عن عروة عن عائشة أنها كانت تتأول هذه الآية يعني قوله : { لاَّ يُؤَاخِذُكُمُ الله باللغو في أَيْمَانِكُمْ } وتقول : هو الشيء يحلف عليه أحدكم لا يريد منه إلا الصدق ، فيكون على غير ما حلف عليه . وعن عطاء عن عائشة قالت : هو قوله : لا والله ، وبلى والله ، وهو يرى أنه صادق ولا يكون كذلك . ( أقوال أُخر ) : قال عبد الرزاق عن إبراهيم : هو الرجل يحلف على الشيء ثم ينساه ، وقال زيد بن أسلم : هو قول الرجل : أعمى الله بصري إن لم أفعل كذا وكذا ، أخرجني الله من مالي إن لم آتك غدا فهو هذا ، قال طاووس عن ابن عباس : لغو اليمين أن تحلف وأنت غضبان . وعن ابن عباس قال : لغو اليمين أن تحرم ما أحل الله لك فذلك ما ليس عليك فيه كفارة وكذا روي عن سعيد بن جبير .
وقال أبو داود ( باب اليمين في الغضب ) : عن سعيد بن المسيب أن أخوين من الأنصار كان بينهما ميراث فسأل أحدهما صاحبه القسمة فقال : إن عدت تسألني عن القسمة فكل مالي في رتاج الكعبة ، فقال له عمر : إن الكعبة غنية عن مالك ، كفِّر عن يمينك وكلم أخاك ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يمين عليك ولا نذر في معصية الربّ عزّ وجلّ ولا في قطيعة الرحم ولا فيما لا تملك » وقوله : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ } ، قال ابن عباس ومجاهد وغير واحد : هو أن يحلف على الشيء وهو يعلم أنه كاذب . قال مجاهد وغيره : وهي كقوله تعالى : { ولكن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأيمان } [ المائدة : 89 ] الآية ، { والله غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي غفور لعباده { حَلِيمٌ } عليهم .(1/248)
لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فَاءُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَإِنْ عَزَمُوا الطَّلَاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)
الإيلاء : الحلف ، فإذا حلف الرجل أن لا يجامع زوجته مدة ، فلا يخلو إما أن يكون أقل من أربعة أشهر أو أكثر منها ، فإن كانت أقل فله أن ينتظر انقضاء المدة ثم يجامع امرأته ، وعليها أن تصبر وليس لها مطالبته بالفيئة في هذه المدة ، وهذا كما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم آلى من نسائه شهراً فنزل لتسع وعشرين ، وقال : « الشهر تسع وعشرون » ، فأما إن زادت المدة على أربعة أشهر فللزوجة مطالبة الزوج عند انقضاء أربعة أشهر . إما أن يفيء : أي يجامع ، وإما أن يطلق ، فيجبره الحاكم على هذا أو هذا لئلا يضر بها ، ولهذا قال تعالى : { لِّلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِن نِّسَآئِهِمْ } أي يحلفون على ترك الجماع من نسائهم ، فيه دلالة على أن الإيلاء يختص بالزوجات دون الإماء كما هو مذهب الجمهور .
{ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ } ، أي ينتظر الزوج أربعة أشهر من حين الحلف ، ثم يوقف ويطالب بالفيئة أو الطلاق ، ولهذا قال : { فَإِنْ فَآءُو } أي رجعوا إلى ما كانوا عليه - وهو كناية عن الجماع - قاله ابن عباس { فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } لما سلف من التقصير في حقهن بسبب اليمين . وقوله : { فَإِنْ فَآءُو فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } فيه دلالة لأحد قولي العلماء وهو القديم عن الشافعي ، أن المولي إذا فاء بعد الأربعة الأشهر أنه لا كفارة عليه ويعتضد بما تقدم في الحديث : « من حلف على يمين فرأى غيرها خيراً منها فتركُها كفارتُها » كما رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، والذي عليه الجمهور وهو الجديد من مذهب الشافعي : أن عليه التكفير لعموم وجوب التكفير على كل حالف ، كما تقدم أيضاً في الأحاديث الصحاح ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { وَإِنْ عَزَمُواْ الطلاق } فيه دلالة على أن الطلاق لا يقع بمجرد مضي الأربعة أشهر كقول الجمهور من المتأخرين ، وذهب آخرون إلى أنه يقع بمضي أربعة أشهر تطليقةٌ وهو مروي بأسانيد صحيحة عن عمر وعثمان وابن عباس ، ثم قيل : إنها تطلق الأربعة أشهر طلقة رجعية قال سعيد بن المسيب ، وقيل : إنها تطلق طلقة بائنة روي عن علي وابن مسعود وإليه ذهب أو حنيفة .
فكل من قال إنها تطلق بمضي الأربعة أشهر أوجب عليها العدة ، إلا ما روي عن ابن عباس وأبي الشعثاء إنها إن كانت حاضت ثلاث حيض فلا عدة عليها وهو قول الشافعي ، والذي عليه الجمهور من المتأخرين أن يوقف فيطالب : إما بهذا ، وإما بهذا ، ولا يقع عليها بمجرد مضيها طلاق . وروي عن عبد الله بن عمر أنه قال : إذا آلى الرجل من امرأته لم يقع عليه طلاق وإن مضت أربعة أشهر حتى يوقف فإما أن يطلق ، وإما أن يفيء ، وقال الشافعي رحمه الله بسنده إلى سليمان بن يسار قال : أدركت بضعة عشر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كلهم يوقف المولي .(1/249)
وعن سهيل ابن أبي صالح عن أبيه قال : سألت اثني عشر رجلاً من الصحابة عن الرجل يولي من امرأته فكلهم يقول : ليس عليه شيء حتى تمضي الأربعة الأشهر فيوقف فإن فاء وإلا طلق ، وهو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل وأصحابهم رحمهم الله وهو اختيار ابن جرير أيضاً ، وكل هؤلاء قالوا : إن لم يفيء ألزم بالطلاق ، فإن لم يطلق طلق عليه الحاكم ، والطلقة تكون رجعية له رجعتها في العدة ، وانفرد مالك بأن قال : لا يجوز له رجعتها حتى يجامعها في العدة وهذا غريب جداً .
وقد ذكر الفقهاء وغيرهم في مناسبة تأجيل المولي بأربعة أشهر الأثر الذي رواه الإمام مالك رحمه الله في الموطأ عن عبد الله بن دينار قال : خرج عمر بن الخطاب من الليل فسمع امرأة تقول :
تطاول هذا الليل واسود جانبه ... وأرقني أن لا خليل ألاعبه
فوالله لولا الله أني أراقبه ... لحرك من هذا السرير جوانبه
فسأل عمر ابنته حفصة رضي الله عنها : كم أكثر ما تصبر المرأة عن زوجها؟ فقالت : ستة أشهر ، أو أربعة أشهر ، فقال عمر : لا أحبس أحداً من الجيوش أكثر من ذلك .(1/250)
وَالْمُطَلَّقَاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلَاثَةَ قُرُوءٍ وَلَا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحَامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أَرَادُوا إِصْلَاحًا وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)
هذا أمر من الله سبحانه تعالى للمطلقات المدخول بهن من ذوات الأقراء ، بأن يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ، أي بأن تمكث إحداهن بعد طلاق زوجها لها ثلاثة قروء ثم تتزوج إن شاءت ، وقد أخرج الأئمة الأربعة من هذا العموم الأمة إذا طلقت فإنها تعتد عندهم بقرأين لأنها على النصف من الحرة ، والقرء لا يتبعض فكمل لها قرآن لحديث : « طلاق الأمة تطليقتان وعدتها حيضتان » .
وقال بعض السلف : بل عدتها كعدة الحرة لعموم الآية ولأن هذا أمر جلي فكان الحرائر والإماء في هذا سواء ، حكي هذا القول عن بعض أهل الظاهر . وروي عن أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية قالت : طلقت على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يكن للمطلقة عدة فأنزل الله عزّ وجلّ حين طلِّقت ( أسماءُ ) العدة للطلاق فكانت أول من نزلت فيها العدة للطلاق يعني : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء } . وقد اختلف السلف والخلف والأئمة في المراد بالأقراء ما هو على قولين ، ( أحدهما ) : أن المراد بها ( الأطهار ) وقال مالك في الموطأ عن عروة عن عائشة أنها انتقلت حفصة بنت عبد الرحمن بن أبي بكر حين دخلت في الدم من الحيضة الثالثة ، فذكرت ذلك لعمرة بنت عبد الرحمن ، فقالت : صدق عروة ، وقد جادلها في ذلك ناس فقالوا : إن الله تعالى يقول في كتابه : { ثَلاَثَةَ قرواء } ، فقالت عائشة : صدقتم وتدرون ما الأقراء؟ إنما الأقراء الأطهار . وعن عبد الله بن عمر أنه كان يقول : إذا طلق الرجل امرأته فدخلت في الدم من الحيضة الثالثة فقد برئت منه وبرئ منها ، وهو مذهب مالك والشافعي ورواية عن أحمد ، واستدلوا عليه بقوله تعالى : { فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ } [ الطلاق : 1 ] أي في الأطهار ، ولما كان الطهر الذي يطلق فيه محتسباً ، دل على أنه أحد الأقراء الثلاثة المأمور بها ، ولهذا قال هؤلاء : إن المعتدة تنقضي عدتها وتبين من زوجها بالطعن في الحيضة الثالثة ، واستشهد أبو عبيدة وغيره على ذلك بقول الأعشى :
مورثة مالاً وفي الأصل رفعة ... لما ضاع فيها من قروء نسائكا
يمدح أميراً من أمراء العرب آثر الغزو على المقام حتى ضاعت أيام الطهر من نسائه لم يواقعهن فيها . ( والقول الثاني ) : أن المراد بالأقراء ( الحيض ) فلا تنقضي العدة حتى تطهر من الحيضة الثالثة ، زاد آخرون وتغتسل منها ، وهذا مذهب أبي حنيفة وأصحابه وأصح الروايتين عن الإمام أحمد بن حنبل ، وحكى عن الأثرم أنه قال : الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : الأقراء : الحيض ، وهو مذهب الثوري والأوزاعي وابن أبي ليلى ، ويؤيد هذا ما جاء في الحديث عن فاطمة بنت أبي حبيش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لها :(1/251)
« دعي الصلاة أيام أقرائك » ، فهذا لو صح لكان صريحاً في أن القرء هو الحيض .
وقال ابن جرير : أصل القرء في كلام العرب الوقت ، لمجيء الشيء المعتاد مجيئه في وقت معلوم ، ولإدبار الشيء المعتاد إدباره لوقت معلوم ، وهذه العبارة تقتضي أن يكون مشتركاً بين هذا وهذا ، وقد ذهب إليه بعض الأصوليين والله أعلم ، وهذا قول الأصمعي : أن القرء هو الوقت ، وقال أبو عمرو بن العلاء : العرب تسمي الحيض قرءاً ، وتسمي الطهر قرءاً ، وتسمي الطهر والحيض جميعاً قرءاً ، وقال ابن عبد البر : لا يختلف أهل العلم بلسان العرب والفقهاء أن القرء أن القرء يراد به الحيض ، ويراد به الطهر ، وإنما اختلفوا في المراد من الآية ما هو على قولين .
وقوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } أي من حبل أو حيض ، قاله ابن عباس وابن عمر ومجاهد ، وقوله : { إِن كُنَّ يُؤْمِنَّ بالله واليوم الآخر } تهديد لهن على خلاف الحق ، ودل هذا على أن المرجع في هذا إليهن ، لأنه أمر لا يعلم إلا من جهتهن ، ويتعذر إقامة البينة غالباً على ذلك فرد الأمر إليهن ، وتوعدن فيه لئلا يخبرن بغير الحق ، إما استعجالاً منها لانقضاء العدة ، أو رغبة منها في تطويلها لما لها في ذلك من المقاصد ، فأمرت أن تخبر بالحق في ذلك من غير زيادة ولا نقصان .
وقوله تعالى : { وَبُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذَلِكَ إِنْ أرادوا إِصْلاَحاً } أي زوجها الذي طلقها أحق بردها ما دامت في عدتها ، إذا كان مراده بردها الإصلاح والخير ، وهذا في الرجعيات ، فأما المطلقات البوائن فلم يكن حال نزول هذه الآية مطلقة بائن ، وإنما كان ذلك لما حصروا في الطلاق الثلاث ، فأما حال نزول هذه الآية ، فكان الرجل أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ، فلما قصروا في الآية التي بعدها على ثلاث تطليقات ، صار للناس مطلقة بائن وغير بائن .
وقوله تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف } أي ولهن على الرجال من الحق مثل ما للرجال عليهن ، فليؤد كل واحد منهما إلى الآخر ما يجب عليه بالمعروف ، كما ثبت عن جابر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال في خطبته في حجة الوداع : « فاتقوا الله في النساء ، فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله ، ولكم عليهن أن لا يوطئن فرشكم أحداً تكرهونه ، فإن فعلن ذلك فاضربوهن ضرباً غير مبرح ، ولهن عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف » ، وفي حديث عن معاوية بن حيدة القشيري عن أبيه عن جده أنه قال : يا رسول الله ما حق زوجة أحدنا؟ قال : « أن تطعمها إذا طعمت ، وتكسوها إذا اكتسيت ، ولا تضرب الوجه ، ولا تقبّح ولا تهجر إلا في البيت » وقال ابن عباس : إني لأحب أن أتزين للمرأة كما أحب أن تتزين لي المرأة لأن الله يقول : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف } ، وقوله : { وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ } أي في الفضيلة في الخلق والخلق ، والمنزلة وطاعة الأمر ، والإنفاق والقيام بالمصالح ، والفضل في الدنيا والآخرة كما قال تعالى : { الرجال قَوَّامُونَ عَلَى النسآء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ وَبِمَآ أَنْفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ } [ النساء : 34 ] .
وقوله تعالى : { والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي عزيز في انتقامه ممن عصاه وخالف أمره ، حكيم في أمره وشرعه وقدره .(1/252)
الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ وَلَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئًا إِلَّا أَنْ يَخَافَا أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَعْتَدُوهَا وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا أَنْ يَتَرَاجَعَا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيمَا حُدُودَ اللَّهِ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُهَا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)
هذه الآية الكريمة رافعة لما كان عليه الأمر في ابتداء الإسلام ، من أن الرجل كان أحق برجعة امرأته وإن طلقها مائة مرة ما دامت في العدة ، فلما كان هذا فيه ضرر على الزوجات قصرهم الله إلى ثلاث طلقات ، وأباح الرجعة في المرة والثنتين ، وأبانها بالكلية في الثالثة ، فقال : { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } قال أبو داود عن ابن عباس : { والمطلقات يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاَثَةَ قرواء وَلاَ يَحِلُّ لَهُنَّ أَن يَكْتُمْنَ مَا خَلَقَ الله في أَرْحَامِهِنَّ } [ البقرة : 228 ] الآية وذلك أن الرجل كان إذا طلق امرأته فهو أحق برجعتها وإن طلقها ثلاثاً ، فنسخ ذلك فقال : { الطلاق مَرَّتَانِ } الآية .
وعن ( هشام بن عروة ) عن أبيه أن رجلاً قال لامرأته : لا أطلقك أبداً ولا آويك أبداً ، قالت : وكيف ذلك؟ قال : أطلق حتى إذا دنا أجلك راجعتك ، فأتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرت ذلك له فأنزل الله عزّ وجلّ : { الطلاق مَرَّتَانِ } .
وعن عائشة قالت : لم يكن للطلاق وقت يطلق الرجل امرأته ثم يراجعها ما لم تنقض العدة ، وكان بين رجل من الأنصار وبين أهله بعض ما يكون بين الناس قال : « والله لأتركنك لا أيِّماً ولا ذات زوج ، فجعل يطلقها حتى إذا كادت العدة أن تنقضي راجعها ، ففعل ذلك مراراً فأنزل الله عزّ وجلّ : { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } فوقَّت الطلاق ثلاثاً لا رجعة فيه بعد الثالثة حتى تنكح زوجاً غيره ، وقوله : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } أي إذا طلقتها واحدة أو اثنتين ، فأنت مخير فيها ما دامت عدتها باقية ، بين أن تردها إليك ناوياً الإصلاح بها والإحسان إليها ، وبين أن تتركها حتى تنقضي عدتها فتبين منك ، وتطلق سراحها محسناً إليها لا تظلمها من حقها شيئاً ولا تُضارَّ بها . وعن ابن عباس قال : إذا طلق الرجل امرأته تطليقتين فليتق الله في ذلك ، أي في الثالثة فإما أن يمسكها بمعروف فيحسن صحابتها ، أو يسرحها بإحسان فلا يظلمها من حقها شيئاً ، وعن أنس ابن مالك قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله : ذكر الله الطلاق مرتين فأين الثالثة؟ قال : { فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } .
وقوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } أي لا يحل لكم أن تضاجروهن وتضيقوا عليهن ، ليفتدين منكم بما أعطيتموهن من الأصدقة أو ببعضه كما قال تعالى : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } [ النساء : 19 ] فأما إن وهبته المرأة شيئاً عن طيب نفس منها فقد قال تعالى : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } [ النساء : 4 ] وأما إذا تشاقق الزوجان ولم تقم المرأة بحقوق الرجل وأبغضته ولم تقدر على معاشرته ، فلها أن تفتدي منه بما أعطاها ولا حرج عليها في بذلها له ولا حرج عليه في قبول ذلك منها ، ولهذا قال تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ } الآية ، فأما إذا لم يكن لها عذر وسألت الافتداء منه فقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/253)
« أيما امرأة سالت زوجها طلاقها في غير ما بأس فحرام عليها رائحة الجنة » ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « المختلعات هن المنافقات » ( حديث آخر ) ، وقال الإمام أحمد : عن النبي صلى الله عليه وسلم : « المختلعات والمنتزعات هن المنافقات » وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تسأل امرأة زوجها الطلاق في غير كنهه فتجد ريح الجنة ، وإن ريحها ليوجد من مسيرة أربعين عاماً » ثم قد قال طائفة كثيرة من السلف وأئمة الخلف إنه لا يجوز الخلع إلا أن يكون الشقاق والنشوز من جانب المرأة ، فيجوز للرجل حينئذ قبول الفدية ، واحتجوا بقوله تعالى : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } ، قالوا : فلم يشرع الخلع إلا في هذه الحالة ، فلا يجوز في غيرها إلا بدليل ، والأصل عدمه ، وممن ذهب إلى هذا ابن عباس وعطاء والحسن والجمهور حتى قال مالك والأوزاعي : لو أخذ منها شيئاً وهو مضار لها وجب رده إليها وكان الطلاق رجعياً ، قال مالك : وهو الأمر الذي أدركت الناس عليه ، وذهب الشافعي رحمه الله إلى أنه يجوز الخلع في حال الشقاق وعند الاتفاق بطريق الأولى والأحرى ، وهذا قول جميع أصحابه قاطبة ، وقد ذكر ابن جرير رحمه الله أن هذه الآية نزلت في شأن ( ثابت بان قيس بن شماس ) وامرأته ( حبيبة بنت عبد الله بن أبي بن سلول ) .
قال البخاري : عن ابن عباس أن امرأة ثابت بن قيس بن شماس أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله : ما أعيب عليه في خلق ولا دين ولكن أكره الكفر في الإسلام ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » أتردين عليه حديقته «؟ قالت : نعم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أقبل الحديقة وطلقها تطليقة « ، وهكذا رواه البخاري أيضاً من طرقه عن عكرمة عن ابن عباس وفي بعضها أنها قالت : لا أطيقه يعني بغضاً . وفي رواية عن ابن عباس أن جميلة بنت سلول أتت النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : والله ما أعتب على ( ثابت بن قيس ) في دين ولا خلق ، ولكنني أكره الكفر في الإسلام لا أطيقه بغضاً ، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم :(1/254)
« » تردِّينَ عليه حديقته «؟ قالت : نعم ، فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يأخذ ما ساق ولا يزداد » وقال ابن جرير : عن عبد الله بن رباح عن جميلة بنت عبد الله بن أبي ابن سلول أنها كانت تحت ثابت بن قيس فنشزت عليه فأرسل إليها النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « » يا جميلة ما كرهت من ثابت؟ « قالت : والله ما كرهت منه ديناً ولا خلقاً إلا أني كرهت دمامته ، فقال لها : » أتردين عليه الحديقة «؟ قالت : نعم ، فردت الحديقة وفرق بينهما » .
وأول خلع كان في الإسلام في أخت ( عبد الله بن أُبي ) أنها أتت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : « يا رسول الله ، لا يجمع رأسي ورأسه شيء أبداً ، إني رفعت جانب الخباء فرأيته قد أقبل في عدة فإذا هو أشدهم سواداً وأقصرهم قامة وأقبحهم وجهاً ، فقال زوجها : يارسول الله ، إني قد أعطيتها أفضل مالي حديقة لي فإن ردت عليَّ حديقتي ، قال : » ماذا تقولين «؟ قالت : نعم وإن شاء زدته ، قال : ففرق بينهما » .
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله في أنه هل يجوز للرجل أن يفاديها بأكثر مما أعطاها؟ فذهب الجمهور إلى جواز ذلك لعموم قوله تعالى : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ } . وعن كثير مولى ابن سمرة أن عمر أتي بامرأة ناشز فأمر بها إلى بيت كثير الزبل ، ثم دعا بها فقال : كيف وجدت؟ فقالت : ما وجدت راحةً منذ كنت عنده إلا هذه الليلة التي كنت حبستني ، فقال لزوجها : اخلعها ولو من قرطها وقال البخاري : وأجاز عثمان الخلع دون عقاص رأسها لحديث الربيع بنت معوذ قالت : كان لي زوج يُقلُّ عليَّ الخير إذا حضرني ، ويحرمني إذا غاب عني ، قالت : فكانت مني زلة يوماً فقلت : أختلع منك بكل شيء أملكه ، قال : نعم ، قالت : ففعلت فخاصم عمي ( معاذ بن عفراء ) إلى عثمان بن عفان فأجاز الخلع ، وأمره أن يأخذ عقاص رأسي فما دونه ، أو قالت : ما دون عقاص الرأس . ومعنى هذا أنه يجوز أن يأخذ منها كل ما بيدها من قليل وكثير ، ولا يترك لها سوى عقاص شعرها ، وبه يقول ابن عمر وابن عباس ومجاهد ، وهذا مذهب مالك والشافعي واختاره ابن جرير .
وقال أصحاب أبي حنيفة : إن كان الإضرار من قبلها جاز أن يأخذ منها ما أعطاها ، ولا يجوز الزيادة عليه ، فإن ازداد جاز في القضاء ، وإن كان الإضرار من جهته لم يجز أن يأخذ منها شيئاً فإن أخذ جاز في القضاء ، وقال الإمام أحمد : لا يجوز أن يأخذ أكثر مما أعطاها وهذا قول سعيد بن المسيب وعطاء ، وقال معمر : كان علي يقول : لا يأخذ من المختلعة فوق ما أعطاها .(1/255)
( قلت ) : ويستدل لهذا القول بما تقدم من رواية ابن عباس في قصة ( ثابت بن قيس ) فأمره رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يأخذ منها الحديقة ولا يزداد ، وبما روي عن عطاء عن النبي صلى الله عليه وسلم كره أن يأخذ منها أكثر مما أعطاها يعني المختلعة ، وحملوا معنى الآية على معنى { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ } أي من الذي أعطاها لتقدم قوله : { وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً } ولهذا قال بعده : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } .
فصل
قال الشافعي : اختلف أصحابنا في الخلع ، فعن عكرمة قال : كل شيء أجازه المال فليس بطلاق ، وروي عن ابن عباس أن إبراهيم بن سعد بن أبي وقاص سأله فقال : رجل طلق امرأته تطليقتين ثم اختلعت منه أيتزوجها؟ قال : نعم ليس الخلع بطلاق ، ذكر الله الطلاق في أول الآية وآخرها ، والخلع فيما بين ذلك فليس الخلع بشيء ، ثم قرأ : { الطلاق مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ } ، وهذا الذي ذهب إليه ابن عباس رواية عن عثمان وابن عمر وبه يقول أحمد وهو مذهب الشافعي في القديم ، وهو ظاهر الآية الكريمة ، والقول الثاني في الخلع إنه ( طلاق بائن ) إلا أن ينوي أكثر من ذلك وإليه ذهب مالك وأبو حنيفة والشافعي في الجديد ، غير أن الحنفية عندهم أنه متى نوى المخلع بخلعه تطليقة أو اثنتين أو أطلق فهو واحدة بائنة ، وإن نوى ثلاثاً فثلاث ، وللشافعي قول آخر في الخلع وهو أنه متى لم يكن بلفظ الطلاق وعري عن البينة فليس بشيء بالكلية .
مسألة
وليس للمخالع أن يراجع المختلعة في العدة بغير رضاها عند الأئمة الأربعة وجمهور العلماء ، لأنها قد ملكت نفسها بما بذلت له من العطاء ، وقال سفيان الثوري : إن كان الخلع بغير لفظ الطلاق فهو فرقة ولا سبيل له عليها؟ وإن كان يسمى طلاقاً فهو أملك لرجعتها ما دامت في العدة وبه يقول داود الظاهري ، واتفق الجميع على أن للمختلع أن يتزوجها في العدة ، وحكى ابن عبد البر عن فرقة أنه لا يجوز له ذلك كما لا يجوز لغيره ، وهو قول شاذ مردود .
مسألة
وهل له أن يوقع عليها طلاقاً آخر في العدة؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء . ( أحدها ) : ليس له ذلك لأنها قد ملكت نفسها وبانت منه ، وبه يقول الشافعي وأحمد بن حنبل . ( والثاني ) : قال مالك : إن أتبع الخلع طلاقاً من غير سكوت بينهما وقع ، وإن سكت بينهما لم يقع قال ابن عبد البر : وهذا يشبه ما روي عن عثمان رضي الله عنه . ( والثالث ) أنه يقع عليها الطلاق بكل حال ما دامت في العدة ، وهو قول أبي حنيفة وأصحابه والثوري والأوزاعي .(1/256)
وقوله تعالى : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا وَمَن يَتَعَدَّ حُدُودَ الله فأولئك هُمُ الظالمون } أي هذه الشرائع التي شرعها لكم هي حدوده فلا تتجاوزوها كما ثبت في الحديث الصحيح : « إن الله حد حدوداً فلا تعتدوها ، وفرض فرائض فلا تضيعوها ، وحرم محارم فلا تنتهكوها ، وسكت عن أشياء رحمة لكم غير نسيان فلا تسألو عنها » ، وقد يستدل بهذه الآية من ذهب إلى أن جمع الطلقات الثلاث بكلمة واحدة حرام كما هو مذهب المالكية ومن وافقهم ، وإنما السنة عندهم أن يطلق واحدة لقوله : { الطلاق مَرَّتَانِ } ، ثم قال : { تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا } الآية « أُخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم عن رجل طلق امرأته ثلاث تطليقات جميعاً فقام غضبان ثم قال : » أيلعب بكتاب الله وأنا بين أظهركم « حتى قام رجل فقال : يا رسول الله ألا أقتله؟ » .
وقوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حتى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ } أي أنه إذا طلق الرجل امرأته طلقة ثالثة بعد ما أرسل عليها الطلاق مرتين ، فإنها تحرم عليه حتى تنكح زوجاً غيره ، أي حتى يطأها زوج آخر ، في نكاح صحيح ، فلو وطئها واطىء في غير نكاح ولو في ملك اليمين لم تحل للأول ، لأنه ليس بزوج ، وهكذا لو تزوجت ولكن لم يدخل بها الزوج لم تحل للأول ، لحديث ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم « في الرجل يتزوج المرأة فيطلقها قبل أن يدخل بها البتة ، فيتزوجها زوج آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أترجع إلى الأول؟ قال : » لا حتى تذوق عسيلته ويذوق عسيلتها « عن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم » سئل عن رجل كانت تحته امرأة فطلقها ثلاثاً ، فتزوجت بعده رجلاً فطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا حتى يكون الآخر قد ذاق من عسيلتها وذاقت من عسيلته » قال مسلم في صحيحه عن عائشه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم « سئل عن المرأة يتزوجها الرجل فيطلقها فتتزوج رجلاً آخر فيطلقها قبل أن يدخل بها أتحل لزوجها الأول قال : » لا حتى يذوق عسيلتها « وعن عائشة » أن رفاعة القرظي تزوج امرأة ثم طلقها ، فأتت النبي صلى الله عليه وسلم فذكرت له أنه لا يأتيها ، وأنه ليس معه إلا مثل هدبة الثوب ، فقال : « لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » « .
وقال الإمام أحمد عن عائشة قالت : » دخلت امرأة رفاعة القرظي وأنا وأبو بكر عند النبي صلى الله عليه وسلم فقالت : إن رفاعة طلقني البتة ، وإن عبد الرحمن بن الزبير تزوجني ، وإنما عنده مثل الهدبة ، وأخذت هدبة من جلبابها - وخالد بن سعيد بن العاص بالباب لم يؤذن له - فقال : يا أبا بكر ألا تنهى هذه عما تجهر به بين يدي رسول بالله صلى الله عليه وسلم ؟ فما زاد رسول الله صلى الله عليه وسلم عن التبسم فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « كأنك تريدين أن ترجعي إلى رفاعة ، لا ، حتى تذوقي عسيلته ويذوق عسيلتك » « .(1/257)
فصل
والمقصود من الزوج الثاني أن يكون راغباً في المرأة ، قاصداً لدوام عشرتها كما هو المشروع من التزويج ، واشترط الإمام مالك مع ذلك أن يطأها الثاني وطأ مباحاً ، فلو وطئها وهي مُحْرمة أو صائمة أو معتكفة أو حائض أو نفساء ، أو الزوج صائم أو محرم أو معتكف ، لم تحل للأول بهذا الوطء ، وكذا لو كان الزوج الثاني ذمياً لم تحل للمسلم بنكاحه ، لأن أنكحة الكفار باطلة عنده ، فأما إذا كان الثاني إنما قصده أن يحلها للأول ، فهذا هو ( المحلل ) الذي وردت الأحاديث بذمه ولعنه ، ومتى صرح بمقصوده في العقد بطل النكاح عند جمهور الأئمة .
ذكر الأحاديث الواردة في ذلك
الحديث الأول : عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : « لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم : الواشمة والمستوشمة والواصلة والمستوصلة والمحلِّل والمحلَّل له ، وآكل الربا وموكله » .
الحديث الثاني : عن علي رضي الله عنه قال : « لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه والواشمة والمستوشمة للحسن ومانع الصدقة والمحلل والمحلل له ، وكان ينهى عن النوح » .
الحديث الثالث : عن جابر رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لعن الله المحلل والمحلل له »
الحديث الرابع : عن عقبة بن عامر رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » ألا أخبركم بالتيس المستعار « ، قالوا : بلى يا رسول الله ، قال : » هو المحلل لعن الله المحلل والمحلل له « » .
الحديث الخامس : عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن نكاح المحلل قال : « لا ، إلا نكاح رغبة ، لا نكاح دلسة ، ولا استهزاء بكتاب الله ، ثم يذوق عسيلتها » .
الحديث السادس : عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : « لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم المحلل والمحلل له » .
الحديث السابع : عن عمر بن نافع عن أبيه أنه قال : جاء رجل إلى ابن عمر فسأله عن رجل طلق امرأته ثلاثاً فتزوجها أخ له من غير مؤامرة منه ليحلها لأخيه هل تحل للأول؟ فقال : لا إلا نكاح رغبة ، كنا نعد هذا سفاحاً على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .(1/258)
وقوله تعالى : { فَإِنْ طَلَّقَهَا } أي الزوج الثاني بعد الدخول بها { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَآ أَن يَتَرَاجَعَآ } أي المرأة والزوج الأول { إِن ظَنَّآ أَن يُقِيمَا حُدُودَ الله } أي يتعاشرا بالمعروف ، قال مجاهد : إن ظنا أن نكاحهما على غير دلسة { وَتِلْكَ حُدُودُ الله } أي شرائعه وأحكامه { يُبَيِّنُهَا } أي يوضحها { لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } .
وقد اختلف الأئمة رحمهم الله فيما إذا طلق الرجل امرأته طلقة أو طلقتين وتركها حتى انقضت عدتها ثم تزوجت بآخر فدخل بها ثم طلقها فانقضت عدتها ثم تزوجها الأول هل تعود إليه بما بقي من الثلاث كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد بن حنبل ، وهو قول طائفة من الصحابة رضي الله عنهم ، أو يكون الزوج الثاني قد هدم ما قبله من الطلاق فإذا عادت إلى الأول تعود بمجموع الثلاث كما هو مذهب أبي حنيفة وأصحابه رحمهم الله ، وحجتهم أن الزوج الثاني إذا هدم الثلاث فلأن يهدم ما دونها بطريق الأولى والأحرى والله أعلم .(1/259)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَلَا تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَارًا لِتَعْتَدُوا وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَلَا تَتَّخِذُوا آيَاتِ اللَّهِ هُزُوًا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَمَا أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتَابِ وَالْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (231)
هذا أمر من الله عزّ وجلّ للرجال ، إذا طلق أحدهم المرأة طلاقاً له عليها فيه رجعة ، أن يحسن في أمرها إذا انقضت عدتها ، ولم يبق منها إلا مقدار ما يمكنه فيه رجعتها ، فإما أن يمسكها أي يرتجعها إلى عصمة نكاحه بمعروف وهو أن يشهد على رجعتها وينوي عشرتها بالمعروف ، أو يسرحها أي يتركها حتى تنقضي عدتها ويخرجها من منزله بالتي هي أحسن من غير شقاق ولا مخاصمة ولا تقابح ، قال الله تعالى : { وَلاَ تُمْسِكُوهُنَّ ضِرَاراً لِّتَعْتَدُواْ } ، قال ابن عباس ومجاهد : كان الرجل يطلق المرأة فإذا قاربت انقضاء العدة راجعها ضراراً لئلا تذهب إلى غيره ، ثم يطلقها فتعتد فإذا شارفت على انقضاء العدة طلق لتطول عليها العدة ، فنهاهم الله عن ذلك وتوعدهم عليه فقال : { وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } أي بمخالفته أمر الله تعالى .
وقوله تعالى : { وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً } ، قال مسروق : هو الذي يطلق في غير كنهه ويضار امرأته بطلاقها وارتجاعها لتطول عليها العدة ، وقال الحسن وقتادة : هو الرجل يطلق ويقول : كنت لاعباً ، أو يعتق أو ينكح ويقول : كنت لاعباً ، فأنزل الله : { وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً } وعن ابن عباس قال : طلق رجل امرأته وهو يلعب ولا يريد الطلاق ، فأنزل الله : { وَلاَ تتخذوا آيَاتِ الله هُزُواً } فألزمه رسول الله صلى الله عليه وسلم الطلاق . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاث جدهنَّ جد ، وهزلهن جد : النكاح ، والطلاق ، والرجعة » .
وقوله تعالى : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ } أي في رسالة الرسول بالهدى والبينات إليكم { وَمَآ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّنَ الكتاب والحكمة } أي السنّة { يَعِظُكُمْ بِهِ } أي يأمركم وينهاكم ويتوعدكم على ارتكاب المحارم { واتقوا الله } أي فيما تأتون وفيما تذرون { واعلموا أَنَّ الله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي فلا يخفى عليه شيء من أموركم السرية والجهرية وسيجازيكم على ذلك .(1/260)
وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْوَاجَهُنَّ إِذَا تَرَاضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذَلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ذَلِكُمْ أَزْكَى لَكُمْ وَأَطْهَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (232)
قال ابن عباس : نزلت هذه الآية في الرجل يطلق امرأته طلقة أو طلقتين فتنقضي عدتها ثم يبدوا له أن يتزوجها وأن يراجعها وتريد المرأة ذلك فيمنعها أولياؤها من ذلك فنهى الله أن يمنعوها ، والذي قاله ظاهر من الآية ، وفيها دلالة على أن المرأة لا تملك أن تزوج نفسها ، وأنه لا بد في النكاح من ولي ، وفي هذه المسألة نزاع بين العلماء محرر في موضعه من كتب الفروع ، وقد قررنا ذلك في كتاب الأحكام ولله الحمد والمنة .
وقد روي أن هذه الآية نزلت في ( معقل بن يسار المزني ) وأُخته . روى الترمذي عن معقل بن يسار أنه زوج أخته رجلاً من المسلمين على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت عنده ما كانت ، ثم طلقها تطليقة لم يراجعها حتى انقضت عدتها ، فهويها وهويته ثم خطبها مع الخطاب ، فقال له : يا لكع ابن لكع أكرمتك بها وزوجتكها فطلقتها ، والله لا ترجع إليك أبداً آخر ما عليك ، قال فعلم الله حاجته إليها وحاجتها إلى بعلها فأنزل الله : { وَإِذَا طَلَّقْتُمُ النسآء فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } ، إلى قوله : { وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } ، فلما سمعها معقل قال : سمع لربي وطاعة ثم دعاه فقال : أزوجك وأكرمك .
وقوله تعالى : { ذلك يُوعَظُ بِهِ مَن كَانَ مِنكُمْ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } أي هذا الذي نهيناكم عنه من منع الولايا أن يتزوجن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف يأتمر به ويتعظ به وينفعل له { مَن كَانَ مِنكُمْ } أيها الناس { يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } أي يؤمن بشرع الله ويخاف وعيد الله وعذابه في الدار الآخرة وما فيها من الجزاء { ذلكم أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } أي اتباعكم شرع الله في رد الموليات إلى أزواجهن ، وترك الحَميَّة في ذلك { أزكى لَكُمْ وَأَطْهَرُ } لقلوبكم { والله يَعْلَمُ } أي من المصالح فيما يأمر به وينهى عنه { وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } أي الخيرة فيما تأتون ولا فيما تذرون .(1/261)
وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلَادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لَا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَهَا لَا تُضَارَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا وَلَا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَعَلَى الْوَارِثِ مِثْلُ ذَلِكَ فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَنْ تَرَاضٍ مِنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلَادَكُمْ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُمْ مَا آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)
هذا إرشاد من الله تعالى للوادات أن يرضعن أولادهن كمال الرضاعة وهي ( سنتان ) فلا اعتبار بالرضاعة بعد ذلك ، ولهذا قال : { لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرضاعة } وذهب أكثر الأئمة ، إلى أنه لا يحرم من الرضاعة إلا ما كان دون الحولين ، فلو ارتضع المولود وعمره فوقهما لم يحرم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يحرم من الرضاع إلا ما فتق الأمعاء في الثدي وكان قبل الفطام » ومعنى قوله : « إلا ما كان في الثدي » أي في محالّ الرضاعة قبل الحولين لحديث : « إن ابني مات في الثدي وإن له مرضعا في الجنة » وإنما قال عليه السلام ذلك لأن ابنه إبراهيم عليه السلام مات وله سنة وعشرة أشهر ، فقال : إن له مرضعاً يعني تكمل رضاعته ويؤيده ما رواه الدارقطني عن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا يحرم من الرضاع إلا ما كان في الحولين » .
وقال الطيالسي عن جابر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا رضاع بعد فصال ، ولا يتم بعد احتلام » ، وتمام الدلالة من هذا الحديث في قوله تعالى : { وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشكر لِي } [ لقمان : 14 ] وقال : { وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلاَثُونَ شَهْراً } [ الأحقاف : 15 ] والقول بأن الرضاعة لا تحرم بعد الحولين يروى عن عليّ وابن عباس وابن مسعود وهو مذهب الشافعي وأحمد ، وقال أبو حنيفة : سنتان وستة أشهر . وقد روي عن عمر وعلي أنهما قالا : لا رضاع بعد فصال ، فيحتمل أنهما أرادا الحولين كقول الجمهور سواء فطم أو لم يفطم ، ويحتمل أنهما أرادا الفعل كقول مالك والله أعلم .
وقد روي في الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها أنها كانت ترى رضاع الكبير يؤثر في التحريم ، وهو قول عطاء والليث بن سعد ، وكانت عائشة تأمر بمن تختار أن يدخل عليها من الرجال لبعض نسائها فترضعه ، وتحتج في ذلك بحديث ( سالم مولى أبي حذيفة ) حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم امرأة أبي حذيفة أن ترضعه وكان كبيراً ، فكان يدخل عليها بتلك الرضاعة ، وأبى ذلك سائر أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ورأين ذلك من الخصائص ، وهو قول الجمهور ، وحجة الجمهور ما ثبت في الصحيحين عن عائشة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « انظرن من إخوانكُنَّ! فإنما الرضاعة من المجاعة » . وقوله تعالى : { وَعلَى المولود لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بالمعروف } أي وعلى والد الطفل ، نفقة الوالدات وكسوتهن بالمعروف ، أي بما جرت به عادة أمثالهن في بلدهن ، من غير إسراف ولا إقتار ، بحسب قدرته في يساره وتوسطه وإقتاره كما قال تعالى : { لِيُنفِقْ ذُو سَعَةٍ مِّن سَعَتِهِ وَمَن قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنفِقْ مِمَّآ آتَاهُ الله لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَآ آتَاهَا سَيَجْعَلُ الله بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً }(1/262)
[ الطلاق : 7 ] ، قال الضحاك : إذا طلق زوجته وله منها ولد ، فأرضعت له ولده وجب على الوالد نفقتها وكسوتها بالمعروف .
وقوله تعالى : { لاَ تُضَآرَّ وَالِدَةٌ بِوَلَدِهَا } أي بأن تدفعه عنها لتضر أباه بتربيته ، ولكن ليس لها دفعه إذا ولدته حتى تسقيه اللبن الذي لا يعيش بدون تناوله غالباً ، ثم بعد هذا لها دفعه عنها إذا شاءت ، ولكن إن كانت مضارة لأبيه فلا يحل لها ذلك ، كما لا يحل له انتزاعه منها لمجرد الضرار لها ولهذا قال : { وَلاَ مَوْلُودٌ لَّهُ بِوَلَدِهِ } أي بأن يريد أن ينتزع الولد منها إضراراً بها قاله مجاهد وقتادة .
وقوله تعالى : { وَعَلَى الوارث مِثْلُ ذلك } قيل : في عدم الضرار لقريبه ، قاله مجاهد والضحاك ، وقيل : عليه مثل ما على والد الطفل من الانفاق على والدة الطفل ، والقيام بحقوقها وعدم الإضرار بها وهو قول الجمهور ، وقد استقصى ذلك ابن جرير في تفسيره ، وقد استدل بذلك من ذهب من الحنفية والحنبلية إلى وجوب نفقة الأقارب بعضهم على بعض ، وهو مروي عن عمر بن الخطاب وجمهور السلف ، ويرجح ذلك بحديث الحسن عن سمرة مرفوعاً : « من ملك ذا رحم محرم عتق عليه » وقد ذكر أن الرضاعة بعد الحولين ربما ضرت الولد إما في بدنه أو في عقله .
وقوله تعالى : { فَإِنْ أَرَادَا فِصَالاً عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا } أي فإن اتفق والد الطفل على فطامه قبل الحولين ، ورأيا في ذلك مصلحة له ، وتشاوراً في ذلك وأجمعا عليه ، فلا جناح عليهما في ذلك ، فيؤخذ منه أن انفراد أحدهما بذلك دون الآخر لا يكفي ، ولا يجوز لواحد منهما أن يستبد بذلك من غير مشاورة الآخر ، وهذا فيه احتياط للطفل ، وإلزام للنظر في أمره ، وهو من رحمة الله بعباده ، حيث حجر على الوالدين في تربية طفلهما ، وأرشدهما إلى ما يصلحهما ويصلحه كما قال في سورة الطلاق : { فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَأْتَمِرُواْ بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَإِن تَعَاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أخرى } [ الآية : 6 ] .
وقوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدتُّمْ أَن تسترضعوا أَوْلاَدَكُمْ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِذَا سَلَّمْتُم مَّآ آتَيْتُم بالمعروف } أي إذا اتفقت الوالدة والوالد على أن يستلم منها الولد ، إما لعذر منها أو لعذر منه ، فلا جناح عليهما في بذله ولا عليه في قبوله منها إذا سلمها أجرتها الماضية بالتي هي أحسن ، واسترضع لولده غيرها بالأجرة بالمعروف ، وقوله : { واتقوا الله } أي في جميع أحوالكم { واعلموا أَنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي فلا يخفى عليه شيء من أحوالكم وأقوالكم .(1/263)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)
هذا أمر من الله للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال ، وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع ، ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها ، فترددوا إليه مراراً في ذلك ، فقال : أقول فيها برأيي ، فإن يك صواباً فمن الله ، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه : لها الصداق كاملاً - وفي لفظ لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط - وعليها العدة ، ولها الميراث ، فقام ( معقل بن يسار الأشجعي ) فقال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى به في ( بروع بنت واشق ) ، ففرح عبد الله بذلك فرحاً شديداً .
ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل ، فإن عدتها بوضع الحمل ، ولو لم تمكث بعده سوى لحظة لعموم قوله : { وَأُوْلاَتُ الأحمال أَجَلُهُنَّ أَن يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ } [ الطلاق : 4 ] ، وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين : من الوضع ، أو اربعة أشهر وعشر ، للجمع بين الآيتين ، وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي ، لولا ما ثبتت به السنّة في حديث ( سبيعة الأسلمية ) المخرج في الصحيحين من غير وجه ، أنها توفي عنها زوجها ( سعد بن خولة ) وهي حامل ، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته ، فلما تعلّت من نفاسها تجملت للخطاب ، فدخل عليها ( أبو السنابل بن بعكك ) فقال لها : مالي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح؟ والله ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر ، قالت سبيعة : فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت ، فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بإني قد حللت حين وضعت حملي ، وأمرني بالتزويج إن بدا لي . قال أبو عمر بن عبد البر : وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة ، يعني لما احتج عليه به ، قال : ويصحح ذلك عنه أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة كما هو قول أهل العلم قاطبة ، وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة ، فإن عدتها على النصف من عدة الحرة على قول الجمهور ، لأنها لما كانت على النصف من الحرة في الحد فكذلك في العدة ، ومن العلماء من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام لعموم الآية ، ولأن العدة من باب الأمور الجِبِليَّة ، التي تستوي فيها الخليقة . وقد ذكر أن الحكمة في جعل عدة الوفاء أربعة أشهر وعشراً ، احتمال اشتمال الرحم على حمل ، فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجوداً كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين :(1/264)
« إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة ، ثم يكون علقة مثل ذلك ، ثم يكون مضغة مثل ذلك ، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح » فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر ، والاحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور ، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ بالمعروف } يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها زوجها مدة عدتها ، لما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا يحل لإمرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلى على زوج أربعة أشهر وعشراً » ، وفي الصحيحين أيضاً عن أم سلمة « أن امرأة قالت : يا رسول الله إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال : » لا « كل ذلك يقول - لا - مرتين أو ثلاثاً ، ثم قال : » إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة « قالت زينب بنت أم سلمة : كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ولبست شر ثيابها ، ولم تمس طيباً ولا شيئاً ، حتى تمر بها سنة ، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تؤتى بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشيء إلا مات ، ومن هاهنا ذهب كثيرون من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها وهي قوله : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ مَّتَاعاً إِلَى الحول غَيْرَ إِخْرَاجٍ } [ البقرة : 240 ] الآية كما قاله ابن عباس وغيره ، وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره ، والغرض من الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب ، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك ، وهو واجب في عدة الوفاة قولاً واحداً ، ولا يجب في عدة الرجعية قولاً واحداً ، وهل يجب في عدة البائن فيه قولان : ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن ، سواء في ذلك الصغيرة ، والآيسة ، والحرة ، والأمة ، والمسلمة ، والكافرة ، لعموم الآية ، وقال أبو حنيفة وأصحابه : لا حداد على الكافرة وبه يقول أشهب وابن نافع من أصحاب مالك ، وحجة قائل هذه المقالة قوله صلى الله عليه وسلم : » لا يحل لامرأة تؤمن بالله واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلى على زوج أربعة أشهر وعشراً « ، قالوا : فجعله تعبداً ، وألحق أبو حنيفة وأصحابه الصغيرة بها لعدم التكليف ، وألحق أبو حنيفة الأمة المسلمة لنقصها ، ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع والله الموفق للصواب .
وقوله تعالى : { فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ } أي انقضت عدتهن { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } ، قال الزهري : أي على أوليائها { فِيمَا فَعَلْنَ } يعني النساء اللاتي انقضت عدتهن قال ابن عباس : إذا طلقت المرأة أو مات عنها زوجها فإذا انقضت عدتها ، فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج فذلك المعروف . وقد روي عن مقاتل ، وقال مجاهد : { بالمعروف } النكاح الحلال الطيب ، وهو قول الحسن والزهري ، والله أعلم .(1/265)
وَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَكِنْ لَا تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفًا وَلَا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)
يقول تعالى : { وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ } أن تعرّضوا بخطبة النساء في عدتهن ، من وفاة أزواجهن من غير تصريح ، قال ابن عباس : التعريض أن يقول إني أريد التزويج ، وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها - يُعرّض لها بالقول بالمعروف - وفي رواية ووددت أن الله رزقني امرأة . وعن مجاهد عن ابن عباس هو أن يقول : إني أريد التزويج وإن النساء لمن حاجتي ، ولوددت أن ييسر لي امرأة صالحة . من غير تصريح لها بالخطبة ، وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لفاطمة بنت قيس ، حين طلقها زوجها أو عمرو بن حفص ، آخر ثلاث تطليقات ، فأمرها أن تعتد في بيت ( ابن أم مكتوم ) وقال لها : فإذا حللت فآذنيني ، فلما حلت خطب عليها أسامة بن زيد مولاه فزوجها إياه ، فأما المطلقة فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { أَوْ أَكْنَنتُمْ في أَنْفُسِكُمْ } أي أضمرتم في أنفسكم من خطبتهن ، وهذا كقوله تعالى : { وَرَبُّكَ يَعْلَمُ مَا تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَمَا يُعْلِنُونَ } [ القصص : 69 ] وكقوله : { وَأَنَاْ أَعْلَمُ بِمَآ أَخْفَيْتُمْ وَمَآ أَعْلَنتُمْ } [ الممتحنة : 1 ] ، ولهذا قال : { عَلِمَ الله أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ } أي في أنفسكم فرفع الحرج عنكم في ذلك ، ثم قال : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } واختاره ابن جرير ، وقال ابن عباس : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } لا تقل لها : إني عاشق ، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري ، ونحو هذا . وكذا روي عن سعيد بن جبير والضحاك ، وعن مجاهد هو قول الرجل للمرأة : لا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك ، فنهى الله عن ذلك وشدَّد فيه وأحل الخطبة والقول بالمعروف ، وقال ابن زيد : { ولكن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرّاً } هو أن يتزوجها في العدة سراً فإذا حلت أظهر ذلك ، وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك ولهذا قال : { إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } ، قال ابن عباس : يعني به ما تقدم من إباحة التعريض كقوله : إني فيك لراغب ونحو ذلك .
وقوله تعالى : { وَلاَ تعزموا عُقْدَةَ النكاح حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } يعني ولا تعقدوا العقدة بالنكاح حتى تنقضي العدة . قال ابن عباس : { حتى يَبْلُغَ الكتاب أَجَلَهُ } يعني ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة ، وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة ، واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها فدخل بها فإنه يفرق بينهما وهل تحرم عليه أبداً؟ على قولين : الجمهور على أنها لا تحرم عليه بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها ، وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد ، ومأخذ هذا أن الزوج لما استعجل ما أجل الله ، عوقب بنقيض قصده فحرمت عليه من التأبيد كالقاتل يحرم الميراث .
وقوله تعالى : { واعلموا أَنَّ الله يَعْلَمُ مَا في أَنْفُسِكُمْ فاحذروه } توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء ، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر ، ثم لم يُؤَنِّسْهم من رحمته ولم يقنطهم من عائدته فقال : { واعلموا أَنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } .(1/266)
لَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَعَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتَاعًا بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)
أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها ، قال ابن عباس : المس النكاح ، ويجوز أن يطلقها قبل الدخول بها والفرض لها إن كانت مفوضة ، وإن كان في هذا انكسار لقلبها ، ولهذا أمر تعالى بإمتاعها وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها ، بحسب حاله على الموسع قدره وعلى المقتر قدره ، وقال ابن عباس : متعة الطلاق أعلاه الخادم ، ودون ذلك الورق ، ودون ذلك الكسوة ، وقال الشعبي : أوسط ذلك درع وخمار وملحفة وجلباب ، ومتَّع الحسن بن علي بعشرة آلاف ، ويروى أن المرأة قالت : ( متاع قليل من حبيب مفارق ) ، وذهب أبو حنيفة إلى أنه متى تنازع الزوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه نصف مهر مثلها ، وقال الشافعي : لا يجبر الزوج على قدر معلوم إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة ، وأحب ذلك إليّ أن يكون أقله ما تجزىء فيه الصلاة ، وقال في القديم : لا أعرف في المتعة قدراً إلا أني أستحسن ثلاثين درهماً كما روي عن ابن عمر رضي الله عنهما ، وقد اختلف العلماء أيضاً : هل تجب المتعة لكل مطلقة ، أو إنما تجب المتعة لغير المدخول بها التي لم يفرض لها؟ على أقوال :
( أحدها ) : أنها تجب المتعة لكل مطلقة لعموم قوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين } [ البقرة : 241 ] ، ولقوله تعالى : { فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [ الأحزاب : 28 ] وقد كن مفروضاً لهن ومدخولاً بهن ، وهذا قول سعيد ابن جبير وهو أحد قولي الشافعي .
( والقول الثاني ) : أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس وإن كانت مفروضاً لها لقوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا نَكَحْتُمُ المؤمنات ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ فَمَا لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ تَعْتَدُّونَهَا فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً } [ الأحزاب : 49 ] ، قال سعيد بن المسيب : نسخت الآية التي في الأحزاب ، الآية التي في البقرة ، وقد روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد وأبي أسيد أنهما قالا : تزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم ( أُميمة بنت شرحبيل ) ، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك ، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين أزرقين .
( القول الثالث ) : أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ولم يفرض لها ، فإن كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة ، وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول وجب لها عليه شطره ، فإن دخل بها استقر الجميع وكان ذلك عوضاً لها عن المتعة ، وإنما المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه التي دلت هذه الآية الكريمة على وجوب متعتها وهذا قول ابن عمر ومجاهد ، ومن العلماء من استحبها لكل مطلقة ، ممن عدا المفوضة المفارقة قبل الدخول وهذا ليس بمنكور وعليه تحمل آية التخيير في الأحزاب ، ولهذا قال تعالى : { عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين } . وقال تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين } [ البقرة : 241 ] ومن العلماء من يقول إنها مستحبة مطلقاً .(1/267)
وَإِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَ الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكَاحِ وَأَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)
هذه الآية الكريمة تدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الآية الأولى ، حيث أوجب في هذه الآية نصف المهر المفروض إذا طلق الزوج قبل الدخول ، فإنه لو كان ثم واجب آخر من متعة لبيّنها ، لا سيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الآية ، وتشطير الصداق - والحالة هذه - أمر مجمع عليه بين العلماء ، لا خلاف بينهم في ذلك فإنه متى كان قد سمى لها صداقاً ثم فارقها قبل دخوله بها ، فإنه يجب لها نصف ما سمى من الصداق ، إلا أن عند الثلاثة أنه يجب جميع الصداق إذا خلا بها الزوج وإن لم يدخل بها ، وهو مذهب الشافعي في القديم وبه حكم الخلفاء الراشدون ، لكن قال ابن عباس : في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها ، ليس لها إلا نصف الصداق ، لأن الله يقول : { وَإِن طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِن قَبْلِ أَن تَمَسُّوهُنَّ وَقَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ مَا فَرَضْتُمْ } قال الشافعي : بهذا أقول وهو ظاهر الكتاب .
وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن يَعْفُونَ } أي النساء عما وجب لها على زوجها فلا يجب لها عليه شيء ، قال ابن عباس في قوله { إِلاَّ أَن يَعْفُونَ } : إلا أن تعفو الثيب فتدع حقها .
وقوله تعالى : { أَوْ يَعْفُوَاْ الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } المراد به ( الزوج ) عن عيسى بن عاصم قال : سمعت شريحاً يقول : سألني علي بن أبي طالب عن { الذي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النكاح } فقلت له : هو ولي المرأة ، فقال علي : لا ، بل هو الزوج ، وهذا هو الجديد من قول الشافعي ، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه واختاره ابن جرير ، ومأخذ هذا القول أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة الزوجُ فإن بيده عقدة وإبرامها ، ونقضها وانهدامها ، وكما أنه لا يجوز للولي أن يهب شيئاً من مال المولية للغير ، فكذلك في الصداق . الوجه الثاني : أنه أبوها أو أخوها أو من لا تنكح إلا بإذنه ، وروي عن الحسن وعطاء وطاووس : أنه ( الولي ) وهذا مذهب مالك وقول الشافعي في القديم ، ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها إياه ، فله التصرف فيه بخلاف سائر مالها ، وقال عكرمة : أذن الله في العفو وأمر به ، فأي امرأة عفت جاز عفوها .
وقوله تعالى : { وَأَن تعفوا أَقْرَبُ للتقوى } خوطب به الرجال والنساء ، قال ابن عباس : أقربهما للتقوى الذي يعفو ، { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } المعروف يعني لا تهملوه بل استعملوه بينكم ، عن علي بن أبي طالب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ليأتين على الناس زمان عضوض يعض المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل وقد قال الله تعالى : { وَلاَ تَنسَوُاْ الفضل بَيْنَكُمْ } » شرار يبايعون كل مضطر « ، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيع المضطر وعن بيع الغرر فإن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكاً إلى هلاكه ، فإن المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يخرمه { إِنَّ الله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } ، أي لا يخفى عليه شيء من أموركم وأحوالكم وسيجزى كل عامل بعمله .(1/268)
حَافِظُوا عَلَى الصَّلَوَاتِ وَالصَّلَاةِ الْوُسْطَى وَقُومُوا لِلَّهِ قَانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالًا أَوْ رُكْبَانًا فَإِذَا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَمَا عَلَّمَكُمْ مَا لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)
يأمر تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها ، وحفظ حدودها وأدائها في أوقاتها ، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال : سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أي العمل أفضل؟ قال : » الصلاة في وقتها « قلت : ثم أي؟ قال : » الجهاد في سبيل الله « قلت : ثم أي؟ قال : » بر الوالدين « ، وفي الحديث : » إن أحب الأعمال إلى الله تعجيل الصلاة لأول وقتها « وخص تعالى من بينها بمزيد التأكيد ( الصلاة الوسطى ) وقد اختلف السلف والخلف فيها أي صلاة هي؟ فقيل : ( الصبح ) حكاه مالك لما روي عن ابن عباس أنه صلى الغداة في مسجد البصرة فقنت قبل الركوع وقال : هذه الصلاة الوسطى التي ذكرها الله في كتابه فقال : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } ، وهو الذي نص عليه الشافعي رحمه الله محتجاً بقوله تعالى : { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } والقنوت عنده في صلاة الصبح ، ومنهم من قال : هي وسطى باعتبار أنها لا تقصر وهي بين صلاتين رباعيتين مقصورتين . وقيل : إنها ( صلاة الظهر ) . روي عن زيد بن ثابت قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على اصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منها فنزلت : { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } ، وقيل : إنها ( صلاة العصر ) وهو قول أكثر علماء الصحابة وجمهور التابعين .
قال الإمام أحمد بسنده عن علي قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الأحزاب : » شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر ملأ الله قلوبهم وبيوتهم ناراً « ثم صلاها بين العشاءين المغرب والعِشاء ويؤكد ذلك الأمر بالمحافظة عليها قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : » من فاتته صلاة العصر فكأنهما وُتِرَ أهله وماله « وفي الصحيح أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » بكروا بالصلاة في يوم الغيم فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله « وعن أبي يونس مولى عائشة قال : أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً قالت : إذا بلغت هذه الآية { حَافِظُواْ عَلَى الصلوات والصلاة الوسطى } فآذني ، فلما بلغتها آذنتها ، فأملت عليَّ : { حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا لله قانتين } قالت : سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقيل : إن الصلاة الوسطى هي صلاة المغرب .
وقيل : بل الصلاة الوسطى مجموع الصلوات الخمس . وكل هذه الأقوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي قبلها ، وقد ثبتت السنة بأنها العصر فتعيَّن المصير إليها .
وقوله تعالى : { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } أي خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه ، وهذا الأمر مستلزم ترك الكلام في الصلاة لمنافاته إياها ، ولهذا لما امتنع النبي صلى الله عليه وسلم من الرد على ( ابن مسعود ) حين سلم عليه وهو في الصلاة قال :(1/269)
« إن في الصلاة لشغلاً » ، وفي صحيح مسلم : « إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وذكر الله » وقال الإمام أحمد بن حنبل عن زيد بن أرقم قال : كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى الله عليه وسلم في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية : { وَقُومُواْ للَّهِ قَانِتِينَ } فأمرنا بالسكوت .
وقوله تعالى : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } لما أمر تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات والقيام بحدودها ، وشدد الأمر بتأكيدها ذكر الحال الذي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الأكمل ، وهي حال القتال والتحام الحرب فقال : { فَإنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً } أي فصلُّوا على أي حال كان رجالاً أو ركباناً ، يعني مستقبلي القبلة وغير مستقبليها ، كما قال مالك عن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها ثم قال : فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالاً على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها . قال نافع : لا أرى أبن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وهذا من رخص الله التي رخص لعباده ووضعه الآصار والأغلال عنهم ، وقد روي عن ابن عباس قال : في هذه الآية يصلي الراكب على دابته والراجل على رجليه . وقد ذهب الإمام أحمد فيما نص عليه إلى أن صلاة الخوف تفعل في بعض الأحيان ركعة واحدة إذا تلاحم الجيشان ، وعلى ذلك ينزل الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس قال : فرض الله الصلاة على لسان نبيكم صلى الله عليه وسلم في الحضر أربعاً ، وفي السفر ركعتين ، وفي الخوف ركعة ، واختار هذا القول ابن جرير ، وقال البخاري : ( باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو ) ، وقال الأوزاعي : إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرىء لنفسه فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلُّوا ركعتين ، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين ، فإن لم يقدروا لا يجزيهم التكبير ويؤخرونها حتى يأمنوا ، وقال أَنس ابن مالك : حضرت مناهضة ( حصن تستر ) عند إضاءة الفجر ، واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة ، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا ، قال أنَس : وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها . وهذا يدل على اختيار البخاري لهذا القول ، والجمهور على خلافه ويعولون على أن صلاة الخوف على الصفة التي ورد بها القرآن في سورة النساء ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { فَإِذَآ أَمِنتُمْ فاذكروا الله } أي أقيموا صلاتكم كما أمرتم فأتموا ركوعها وسجودها ، وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها { كَمَا عَلَّمَكُم مَّا لَمْ تَكُونُواْ تَعْلَمُونَ } أي مثل ما أنعم عليكم وهداكم للإيمان ، وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة ، فقابلوه بالشكر والذكر ، كقوله بعد ذكر صلاة الخوف : { فَإِذَا اطمأننتم فَأَقِيمُواْ الصلاة إِنَّ الصلاة كَانَتْ عَلَى المؤمنين كِتَاباً مَّوْقُوتاً } [ النساء : 103 ] ، وستأتي الأحاديث الواردة في صلاة الخوف وصفاتها في سورة النساء عند قوله تعالى : { وَإِذَا كُنتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصلاة } [ الآية : 102 ] إن شاء الله تعالى .(1/270)
وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِأَزْوَاجِهِمْ مَتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240) وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)
قال الأكثرون : هذه الآية منسوخة بالتي قبلها ، وهي قوله : { يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ البقرة : 234 ] . قال البخاري ، قال ابن الزبير : قلت لعثمان بن عفان : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً } قد نسختها الآية الأُخرى فلم تكتبها أو تدعها؟ قال : يا ابن أخي لا أغيِّر شيئاً منه من مكانه ، ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها ، وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها؟ فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها فأثبتها حيث وجدتها .
وروي عن ابن عباس قال : كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله ثم أنزل الله بعد : { والذين يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَعَشْراً } [ البقرة : 234 ] ، فهذه عدة المتوفى عنها زوجها إلا أن تكون حاملاً فعدتها أن تضع ما في بطنها ، وقال : { وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم } [ النساء : 12 ] ، فبين ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة .
وقال عطاء ، قال ابن عباس : نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قول الله تعالى : { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } ، قال عطاء : إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت لقول الله : { فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ } ، قال عطاء : ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها ، ثم أسند البخاري عن ابن عباس مثل ما تقدم عنه بهذا القول الذي عول عليه مجاهد وعطاء من أن هذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة كما زعمه الجمهور حتى يكون ذلك منسوخاً بالأربعة الأشهر وعشر وإنما دلت على أن ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات أن يُمكِّن من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولاً كاملاً إن اخترن ذلك ولهذا قال تعالى : { وَصِيَّةً لأَزْوَاجِهِمْ } أي يوصيكم الله بهن وصية كقوله : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] الآية . { غَيْرَ إِخْرَاجٍ } فأما إذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر أو بوضع الحمل واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله : { فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ في أَنْفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ } ، وهذا القول له اتجاه وفي اللفظ مساعدة له وقد اختاره جماعة منهم الإمام ابن تيمية ، ورده آخرون منهم الشيخ ابن عبد البر ، وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث إن أرادوا ما زاد على الأربعة أشهر والعشر فمسلِّم ، وإن أرادوا أن سكنى الأربعة أشهر وعشر لا تجب في تركة الميت ، فهذا محل خلاف بين الأئمة وهما قولان للشافعي رحمه الله .(1/271)
وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج بما رواه مالك في موطئه أن « ( الفريعة بنت مالك بن سنان ) وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أخبرتها أنها جاءت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أَعْبدٍ له أَبَقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه قالت : فسألت رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة ، فقالت : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » نعم « ، قالت : فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أمر بي فنوديت له ، فقال : » كيف قلت «؟ فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي ، فقال : » أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله « ، قالت : فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً » ، قالت : فلما كان ( عثمان بن عفان ) أرسل إليَّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به .
وقوله تعالى : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين } ، لما نزل قوله تعالى : { مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين } [ البقرة : 236 ] قال رجل : إن شئت أحسنت ففعلت وإن شئت لم أفعل فأنزل الله هذه الآية : { وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بالمعروف حَقّاً عَلَى المتقين } وقد استدل بهذه الأية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة سواء كانت مفوضة أو مفروضاً لها أو مطلقة قبل المسيس ، أو مدخولاً بها ، وهو قول عن الشافعي رحمه الله ، واختاره ابن جرير ومن لم يوجبها مطلقاً يخصص من هذا العموم مفهوم قوله تعالى : { لاَّ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ إِن طَلَّقْتُمُ النسآء مَا لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُواْ لَهُنَّ فَرِيضَةً وَمَتِّعُوهُنَّ عَلَى الموسع قَدَرُهُ وَعَلَى المقتر قَدَرُهُ مَتَاعاً بالمعروف حَقّاً عَلَى المحسنين } [ البقرة : 236 ] .
وقوله تعالى : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمْ آيَاتِهِ } أي في إحلاله وتحريمه وفروضه وحدوده فيما أمركم به ونهاكم عنه ، بيَّنه ووضحه وفسَّره ، ولم يتركه مجملاً في وقت احتياجكم إليه ، { لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } أي تفهمون وتتدبرون .(1/272)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ (243) وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)
روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف وعنه كانوا ثمانية آلاف ، وقال وهب بن منبه : كانوا بضعة وثلاثين ألفاً ، قال ابن عباس : كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون ، قالوا : نأتي أرضاً ليس بها موت ، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال الله لهم : { مُوتُواْ } ، فمرّ عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم فذلك قوله عزّ وجلّ : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذين خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الموت } الآية ، وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم ، وأصابهم بها وباء شديد فخرجوا فراراً من الموت هاربين إلى البرية ، فنزلوا وادياً أفيح فملأوا ما بين عدوتيه ، فأرسل الله إليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادي ، والآخر من أعلاه ، فصاحا بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد فحيزوا إلى حظائر وبني عليهم جدران ، وفنوا وتمزقوا وتفرقوا ، فلما كان بعد دهر مرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له ( حزقيل ) فسأل الله أن يحييهم على يديه فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول : أيتها العظام البالية إن الله يأمرك أن تجتمعي ، فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض ، ثم أمره فنادى : أيتها العظام إن الله يأمرك أن تكتسي لحماً وعصباً وجلداً ، فكان ذلك وهو يشاهد ، ثم أمره فنادى : أيتها الأرواح إن الله يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره ، فقاموا أحياء ينظرون ، قد أحياهم الله بعد رقدتهم الطويلة وهم يقولون : سبحانك لا إله إلا أنت . وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ولهذا قال : { إِنَّ الله لَذُو فَضْلٍ عَلَى الناس } أي فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة { ولكن أَكْثَرَ الناس لاَ يَشْكُرُونَ } أي لا يقومون بشكر ما أنعم الله به عليهم في دينهم ودنياهم .
وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر ، وأنه لا ملجأ من الله إلا إليه ، فإن هؤلاء خرجوا فراراً من الوباء طلباً لطول الحياة ، فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعاً في آن واحد ، وقوله { وَقَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ واعلموا أَنَّ الله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي كما أن الحذر لا يغني من القدر ، كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه لا يقرب أجلاً ولا يبعده ، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه كما قال تعالى : { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } [ آل عمران : 168 ] ، وقال تعالى : { أَيْنَمَا تَكُونُواْ يُدْرِككُّمُ الموت وَلَوْ كُنتُمْ فِي بُرُوجٍ مُّشَيَّدَةٍ } [ النساء : 78 ] ، وروينا عن أمير الجيوش وسيف الله المسلول على أعدائه خالد بن الوليد رضي الله عنه أنه قال وهو في سياق الموت : ( لقد شهدت كذا وكذا موقفاً وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء ) يعني أنه يتألم لكونه ما مات قتيلاً في الحرب ويتأسف على ذلك ويتألم أن يموت على فراشه .(1/273)
وقوله تعالى : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } يحث تعالى عباده على الإنفاق في سبيل الله ، وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع ، وفي حديث النزول أنه يقول تعالى : « من يقرض غير عديم ولا ظلوم » ، وعن عبد الله بن مسعود قال : لما نزلت { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ } قال أبو الدحداح الأنصاري : يا رسول الله وإن الله عزّ وجلّ ليريد منا القرض؟ قال : « نعم يا أبا الدحداح » قال : أرني يدك يا رسول الله! قال ، فناوله يده قال : فإني قد أقرضت ربي عزّ وجلّ حائطي - قال : وحائط له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها - قال : فجاء أبو الدحداح فناداها : يا أم الدحداح ، قالت : لبيك ، قال : اخرجي فقد أقرضته ربي عزّ وجلّ . وقوله : { قَرْضاً حَسَناً } روي عن عمر وغيره من السلف هو النفقة في سبيل الله ، وقيل : هو النفقة على العيال ، وقيل : هو التسبيح والتقديس وقوله : { فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } كما قال تعالى : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } [ البقرة : 261 ] الآية ، وسيأتي الكلام عليها . وعن ابن عمر قال « لما نزلت : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ } [ البقرة : 261 ] إلى آخرها فقال رسول الله : » رب زد أمتي « ، فنزلت : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } ، قال : » رب زد أمتي « ، فنزلت : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] » ، فالكثير من الله لا يحصى ، وقوله : { والله يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ } أي أنفقوا ولا تبالوا فالله هو الرزاق يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على آخرين ، له الحكمة والبالغة في ذلك { وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } أي يوم القيامة .(1/274)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَى إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قَالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ أَلَّا تُقَاتِلُوا قَالُوا وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِنْ دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246)
قال وهب بن منبه وغيره : كان بنوا إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق الاستقامة مدة من الزمان ، ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام ، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ، ويقيمهم على منهج التوراة إلى أن فعلوا ما فعلوا فسلط الله عليهم أعداءهم ، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا خلقاً كثيراً وأخذوا منهم بلاداً كثيرة ، ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه ، وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم الزمان ، وكان ذلك موروثاً لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلاة والسلام ، فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في بعض الحروب وأخذ التوراة من أيديهم ولم يبق من يحفظها فيهم إلى القليل ، وانقطعت النبوة من أسباطهم ولم يبق من سبط ( لاوي ) الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها ، وقد قتل فأخذوها فحبسوها في بيت واحتفظوا بها لعل الله يرزقها غلاماً يكون نبياً لهم ، ولم تزل المرأة تدعوا الله عزّ وجلّ أن يرزقها غلاما فسمع الله لها ووهبها غلاما فسمته ( شمويل ) أي سمع الله دعائي ومنهم من يقول ( شمعون ) وهو بمعناه فشب ذلك الغلام ونشأ فيهم وأنبته الله نباتاً حسناً ، فلما بلغ سن الأنبياء أوحى الله إليه وأمره بالدعوة إليه وتوحيده ، فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكاً يقاتلون معه أعداءهم ، وكان الملك أيضاً قد باد فيهم فقال لهم النبي : فهل عسيتم إن أقام الله لكم ملكاً ألا تقاتلوا وتفوا بما التزمتم من القتال معه؟ { قَالُواْ وَمَا لَنَآ أَلاَّ نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ الله وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَآئِنَا } أي وقد أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد! قال الله تعالى : { فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتال تَوَلَّوْاْ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ والله عَلِيمٌ بالظالمين } أي ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم والله عليم بهم .(1/275)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ وَاللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (247)
أي لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكاً منهم فعين لهم ( طالوت ) وكان رجلاً من أجنادهم ولم يكن من بيت الملك فيهم لأن الملك كان في سبط ( يهوذا ) ولم يكن هذا من ذلك السبط فلهذا قالوا : { أنى يَكُونُ لَهُ الملك عَلَيْنَا } ؟ أي كيف يكون ملكاً علينا { وَنَحْنُ أَحَقُّ بالملك مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِّنَ المال } أي هو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك ، وقد ذكر بعضهم أنه كان سقاء ، وقيل : دباغاً وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت ، وكان الأولى بهم طاعة وقول معروف ، ثم قد أجابهم النبي قائلاً : { إِنَّ الله اصطفاه عَلَيْكُمْ } أي اختاره لكم من بينكم والله أعلم به منكم ، يقول : لست أنا الذي عينته من تلقاء نفسي بل الله أمرني به لما طلبتم مني ذلك { وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي العلم والجسم } أي وهو مع هذا أعلم منكم وأنبل وأشكل منكم ، وأشد قوة وصبراً في الحرب ومعرفة بها ، أي أتم علماً وقامة منكم ، ومن هاهنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه ثم قال : { والله يُؤْتِي مُلْكَهُ مَن يَشَآءُ } أي هو الحاكم الذي ما شاء فعل ولا يسأل عما فعل وهم يسألون ، لعلمه وحكمته ورأفته بخلقه ولهذا قال : { والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء ، عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه .(1/276)
وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَبَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسَى وَآلُ هَارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلَائِكَةُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248)
يقول لهم نبيهم : إن علامة بركة ملك طالوت عليكم أن يرد الله عليكم التابوت الذي أخذ منكم { فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } قيل : معناه فيه وقار وجلالة ، وقال الربيع : رحمة ، وقال ابن جريج : سألت عطاء عن قوله : { فِيهِ سَكِينَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ } قال : ما تعرفون من آيات الله فتسكنون إليه وكذا قال الحسن البصري .
وقوله تعالى : { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ } ، عن ابن عباس قال : عصاه ورضاض الألواح ، وكذا قال قتادة والسدي ، وقال عطية بن سعد : عصا موسى وعصا هارون وثياب موسى وثياب هارون ورضاض الألواح ، وقال عبد الرزاق : سألت الثوري عن قوله : { وَبَقِيَّةٌ مِّمَّا تَرَكَ آلُ موسى وَآلُ هَارُونَ } فقال : منهم من يقول قفيز من منّ ورضاض الألواح ، ومنهم من يقول العصا والنعلان .
وقوله تعالى : { تَحْمِلُهُ الملائكة } ، قال ابن عباس : جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون وقال السدي : أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون وأطاعوا طالوت .
وقوله تعالى : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ } أي على صدقي فيما جئتكم به من النبوة ، وفيما أمرتكم به من طاعة طالوت { إِن كُنْتُم مُّؤْمِنِينَ } أي بالله واليوم الآخر .(1/277)
فَلَمَّا فَصَلَ طَالُوتُ بِالْجُنُودِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَمَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لَا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلَاقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249)
يقول تعالى مخبراً عن ( طالوت ) ملك بني إسرائيل ، حين خرج في جنوده ومن أطاعه من ملأ بني إسرائيل ، وكان جيشه يومئذ - فيما ذكره السدي - ثمانين ألفاً فالله أعلم أنه قال : { إِنَّ الله مُبْتَلِيكُمْ } أي مختبركم بنهر ، وهو نهر بين الأردن وفلسطين ، يعني نهر الشريعة المشهور { فَمَن شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي } أي فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه ، { وَمَن لَّمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مني إِلاَّ مَنِ اغترف غُرْفَةً بِيَدِهِ } أي فلا بأس عليه ، قال الله تعالى : { فَشَرِبُواْ مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ } ، قال ابن عباس : من اغترف منه بيده روي ، ومن شرب منه لم يرو ، فشرب منه ستة وسبعون ألفاً وتبقى معه أربعة آلاف . وروى البراء بن عازب قال : كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر وما جازه معه إلا مؤمن ، ورواه البخاري عن عبد الله بن رجاء عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن جده عن البراء بنحوه ولهذا قال تعالى : { فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ والذين آمَنُواْ مَعَهُ قَالُواْ لاَ طَاقَةَ لَنَا اليوم بِجَالُوتَ وَجُنودِهِ } أي استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوّهم لكثرتهم ، فشجعهم علماؤهم العالمون بأن عد الله حق ، فإن النصر من عند الله ليس عن كثرة عدد ولا عدد ، ولهذا قالوا : { كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ الله والله مَعَ الصابرين } .(1/278)
وَلَمَّا بَرَزُوا لِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالُوا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (250) فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَقَتَلَ دَاوُودُ جَالُوتَ وَآتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَاءُ وَلَوْلَا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَلَكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (251) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252)
أي لما واجه حزب الإيمان - وهم قليل من أصحاب طالوت - لعدوهم أصحاب جالوت وهم عدد كثير { قَالُواْ رَبَّنَآ أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً } أي أنزل علينا صبراً من عندك ، { وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا } أي في لقاء الأعداء وجنبنا الفرار والعجز { وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } .
قال الله تعالى : { فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ الله } أي غلبوهم وقهروهم بنصر الله لهم { وَقَتَلَ دَاوُدُ جَالُوتَ } وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته ، ويشاطره نعمته ، ويشركه في أمره ، فوفى له ثم آل الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه الله به من النبوة العظيمة ، ولهذا قال تعالى : { وَآتَاهُ الله الملك } الذي كان بيد طالوت ، { والحكمة } أي النبوة بعد شمويل ، { وَعَلَّمَهُ مِمَّا يَشَآءُ } أي مما يشاء الله من العلم الذي اختصه به صلى الله عليه وسلم ، ثم قال تعالى : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } ، أي لولا أن الله يدفع عن قوم بآخرين ، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا ، كما قال تعالى : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسم الله كَثِيراً } [ الحج : 40 ] الآية . وعن ابن عمر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت جيرانه البلاء » ، ثم قرأ ابن عمر : { وَلَوْلاَ دَفْعُ الله الناس بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الأرض } . وعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الأبدال في أمتي ثلاثون : بهم ترزقون وبهم تمطرون وبهم تنصرون » ، قال قتادة : إني لأرجوا أن يكون الحسن منهم .
وقوله تعالى : { ولكن الله ذُو فَضْلٍ عَلَى العالمين } أي ذو منّ عليهم ورحمة بهم ، يدفع عنهم ببعضهم بعضاً وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله .
ثم قال تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بالحق وَإِنَّكَ لَمِنَ المرسلين } أي هذه آيات الله التي قصصناها عليك من أمر الذين ذكرناهم بالحق ، أي بالواقع الذي كان عليه الأمر المطابق لما بأيدي أهل الكتاب من الحق ، الذي يعلمه علماء بني إسرائيل { وَإِنَّكَ } يا محمد { لَمِنَ المرسلين } ، وهذا توكيد وتوطئة للقسم .(1/279)
تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ وَآتَيْنَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّنَاتِ وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَلَكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ (253)
يخبر تعالى أنه فضّل بعض الرسل على بعض كما قال تعالى : { وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النبيين على بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً } [ الإسراء : 55 ] وقال هاهنا : { تِلْكَ الرسل فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ مِّنْهُمْ مَّن كَلَّمَ الله } يعني موى ومحمداً صلى الله عليهما وكذلك آدم كما ورد به حديث الإسراء حين رأى النبي صلى الله عليه وسلم الأنبياء في السماوات بحسب تفاوت منازلهم عند الله عزّ وجلّ ( فإن قيل ) فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين : « لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟ فلا تفضلوني على الأنبياء » وفي رواية : « لا تفضلوا بين الأنبياء » فالجواب من وجوه ، ( أحدها ) : أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر ، ( الثاني ) : أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع ، ( الثالث ) : أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم التشاجر ، ( الرابع ) : لا تفضلوا بمجرد الأراء والعصبية ، ( الخامس ) : ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى الله عزّ وجلّ وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به .
وقوله تعالى : { وَآتَيْنَا عِيسَى ابن مَرْيَمَ البينات } أي الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به من أنه عبد الله ورسوله إليهم { وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ القدس } يعني أن الله أيده بجبريل عليه السلام ، ثم قال تعالى : { وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتل الذين مِن بَعْدِهِم مِّن بَعْدِ مَا جَآءَتْهُمُ البينات ولكن اختلفوا فَمِنْهُمْ مَّنْ آمَنَ وَمِنْهُمْ مَّن كَفَرَ وَلَوْ شَآءَ الله مَا اقتتلوا } أي كل ذلك عن قضاء الله وقدره ، ولهذا قال : { ولكن الله يَفْعَلُ مَا يُرِيدُ } .(1/280)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْنَاكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لَا بَيْعٌ فِيهِ وَلَا خُلَّةٌ وَلَا شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)
يأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم في سبيله سبيل الخير ، ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم ، وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا { مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ } يعني يوم القيامة { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ } أي لا يباع أحد من نفسه ولا يفادى بمال ولو بذله ، ولو جاء بملء الأرض ذهباً ، ولا تنفعه خلة أحد يعني صداقته بل ولا نسابته كما قال : { فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور فَلاَ أَنسَابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَلاَ يَتَسَآءَلُونَ } [ المؤمنون : 101 ] ولا شفاعة : أي ولا تنفعهم شفاعة الشافعين .
وقوله تعالى : { والكافرون هُمُ الظالمون } مبتدأ محصور في خبره ، أي ولا ظالم أظلم ممن وافى الله يومئذٍ كافراً . وقد روي عن عطاء بن دينار أنه قال : الحمد لله الذي قال : { والكافرون هُمُ الظالمون } ولم يقل والظالمون هم الكافرون .(1/281)
اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لَا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلَا نَوْمٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلَّا بِمَا شَاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)
هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم ، وقد صح الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنها أفضل آية في كتاب الله . وقال الإمام أحمد : عن أُبي بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم سأله : « » أي آية في كتاب الله أعظم؟ « قال : الله ورسوله أعلم ، فرددها مراراً ، ثم قال : آية الكرسي ، قال : » ليهنك العلم أبا المنذر! والذي نفسي بيده إن لها لساناً وشفتين ، تقدس الملك عند ساق العرش « » .
( حديث آخر ) : عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سأل رجلاً من صحابته فقال : « » أي فلان هل تزوجت؟ « قال : لا ، وليس عندي ما أتزوج به قال : » أوليس معك : قل هو الله أحد؟ « قال : بلى ، قال : » ربع القرآن « قال : » أليس معك : قل أيها الكافرون «؟ قال : بلى ، قال : » ربع القرآن « ، قال : » أليس معك : إذا زلزلت «؟ قال : بلى ، قال : » ربع القرآن « ، قال : » أليس معك : إذا جاء نصر الله «؟ قال : بلى ، قال : » ربع القرآن « قال : » أليس معك آية الكرسي : الله لا إله إلى هو «؟ قال : بلى ، قال : » ربع القرآن « » .
حديث آخر : عن أبي ذر رضي الله عنه قال : « أتيت النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد فجلست فقال : » يا أبا ذر هل صلّيت؟ « قلت : لا ، قال : » قم فصل « ، قال : فقمت فصليت ثم جلست فقال : » يا أبا ذر تعوذ بالله من شر شياطين الإنس والجن « قال ، قلت : يا رسول الله أو للإنس شياطين؟ قال : » نعم « ، قال : قلت : يا رسول الله الصلاة! قال : » خير موضوع من شاء أقلَّ ومن شاء أكثر « قال ، قلت : يا رسول الله فالصوم؟ قال : » فرض مجزي وعند الله مزيد « ، قلت : يا رسول الله فالصدقة قال : » أضعاف مضاعفة « ، قلت : يا رسول الله فأيها أفضل قال : » جهد من مقل ، أو سرٌّ إلى فقير « ، قلت : يا رسول الله أي الأنبياء كان أول ، قال : » آدم « ، قلت : يا رسول الله ونبي كان ، قال : » نعم نبي مكلم « ، قلت : يا رسول الله كم المرسلون ، قال : » ثلثمائة وبضعة عشر جماً غفيراً « وقال مرة : » وخمسة عشر « ، قلت : يا رسول الله أي ما أنزل عليك أعظم؟ قال : » آية الكرسي : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } « .(1/282)
حديث آخر : وقد ذكر البخاري في فضل آية الكرسي بسنده عن أبي هريرة ، قال : « وكلني رسول الله صلى الله عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان ، فأتاني آتٍ فجعل يحثو من الطعام ، فأخذته وقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : دعني فإني محتاج وعليَّ عيال ولي حاجة شديدة ، قال : فخليت عنه ، فأصبحت ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة «؟ قال ، قلت : يا رسول الله شكا حاجة شديدةً وعيالاً فرحمته وخليت سبيله ، قال : » أما إنه قد كذبك وسيعود « ، فعرفت أنه سيعود لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنه سيعود « فرصدته ، فجاء يحثو من الطعام فأخذته ، فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : دعني فإني محتاج وعلي عيال ، لا أعود ، فرحمته وخليت سبيله ، فأصبحت ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : » يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة «؟ قلت : يا رسول الله شكا حاجة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله ، قال : » أما إنه قد كذبك وسيعود « ، فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام ، فأخذته فقلت : لأرفعنك إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود .
فقال : دعني أعلمك كلمات ينفعك الله بها ، قلت : وما هي؟ قال : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } حتى تختم الآية ، فإنك لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح ، فخليت سبيله ، فأصبحت فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما فعل أسيرك البارحة «؟ قلت : يا رسول الله زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني الله بها فخليت سبيله ، قال : » ما هي «؟ قال قال لي : إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } ، وقال لي : لن يزال عليك من الله حافظ ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » أما إنه صدقك وهو كذوب . تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة؟ « قلت : لا قال : » ذاك شيطان « » .
حديث آخر : عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « سورة البقرة فيها آيةٌ سيدةُ آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه : آية الكرسي » وقد رواه الترمذي ولفظه : « لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن : آية الكرسي » .(1/283)
حديث آخر : عن عمر بن الخطاب أنه خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال : أيكم يخبرني بأعظم آية في القرآن؟ فقال ابن مسعود : على الخبير سقطت سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « أعظم آية في القرآن { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } » .
حديث آخر : في اشتماله على اسم الله الأعظم ، عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت : « سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } و { الم * الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } [ آل عمران : 1-2 ] : » إن فيهما اسم الله الأعظم « » .
حديث آخر : عن أبي أمامة يرفعه قال : « اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث : سورة البقرة وآل عمران وطه » ، وقال هشام أما البقرة ف { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } وفي آل عمران { الم * الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } [ آل عمران : 1-2 ] وفي طه { وَعَنَتِ الوجوه لِلْحَيِّ القيوم } [ طه : 111 ] .
حديث آخر : عن أبي أمامة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت » .
حديث آخر عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرا حم المؤمن إلى { إِلَيْهِ المصير } وآية الكرسي حين يصبح حُفِظ بهما حتى يمسي ، ومن قرأهما حين يمسي حُفِظ بهما حتى يصبح » .
وقد ورد في فضلها أحاديث أخر تركناها اختصاراً لعدم صحتها وضعف أسانيدها .
وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة
فقوله تعالى : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ } إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق ، { الحي القيوم } أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً ، القيم لغيره ، وكان عمر يقرأ { القيَّام } فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها ، ولا قوام لها بدون أمره ، كقوله : { وَمِنْ آيَاتِهِ أَن تَقُومَ السمآء والأرض بِأَمْرِهِ } [ الروم : 25 ] وقوله : { لاَ تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَلاَ نَوْمٌ } أي لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلقه ، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت ، شهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يخفى عليه خافية ، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سنة ولا نوم . فقوله : { لاَ تَأْخُذُهُ } أي لا تغلبه { سِنَةٌ } وهي الوسن والنعاس ، ولهذا قال : { وَلاَ نَوْمٌ } لأنه أقوى من السِّنة . وفي الصحيح عن أبي موسى قال : قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بأربع كلمات فقال : « إن الله لا ينام ولا ينبغي له أن ينام ، يخفض القسط ويرفعه يُرْفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل ، وعمل الليل قبل عمل النهار ، حجابه النور أو النار ، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه »(1/284)
وعن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا : يا موسى هل ينام ربك؟ قال : اتقوا الله ، فناداه ربه عزّ وجلّ : يا موسى سألوك هل ينام ربك؟ خذ زجاجتين في يديك فقم الليلة ، ففعل موسى ، فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه ، ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا ، فقال : يا موسى لو كنت أنا لسقطت السماوات والأرض فهلكت ، كما هلكت الزجاجتان في يديك ، فأنزل الله عزّ وجلّ على نبيّه صلى الله عليه وسلم آية الكرسي .
وقوله تعالى : { لَّهُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهره وسلطانه كقوله : { إِن كُلُّ مَن فِي السماوات والأرض إِلاَّ آتِي الرحمن عَبْداً } [ مريم : 93 ] . وقوله تعالى : { مَن ذَا الذي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ } ، كقوله : { وَكَمْ مِّن مَّلَكٍ فِي السماوات لاَ تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ الله لِمَن يَشَآءُ ويرضى } [ النجم : 26 ] ، وكقوله : { وَلاَ يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارتضى } [ الأنبياء : 28 ] ، وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عزّ وجلّ ، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة : « آتي تحت العرش فأخر ساجداً فيدعني ما شاء الله أن يدعني ، ثم يقال : ارفع رأسك وقل تسمع ، واشفَع تشفع - قال - فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة » .
وقوله تعالى : { يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ } دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها ، كقوله إخباراً عن الملائكة : { وَمَا نَتَنَزَّلُ إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ مَا بَيْنَ أَيْدِينَا وَمَا خَلْفَنَا وَمَا بَيْنَ ذلك وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيّاً } [ مريم : 64 ] .
وقوله تعالى : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَآءَ } أي لا يطلع أحد من علم الله على شيء إلا بما أعلمه الله عزّ وجلّ وأطلعه عليه ، ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم الله عليه كقوله : { وَلاَ يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً } [ طه : 110 ] .
وقوله تعالى : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض } ، عن ابن عباس قال : علمه ، وقال آخرون : الكرسي موضع القدمين . عن ابن عباس قال : سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله عزّ وجلّ : { وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السماوات والأرض } قال : « كرسيه موضع قدميه ، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عزّ وجلّ » وقال السدي : الكرسي تحت العرش . وقال الضحاك عن ابن عباس : لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس »(1/285)
قال قال أبو ذر : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض » .
وعن أبي ذر الغفاري أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي نفسي بيده ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة ، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة » ، وعن عمر رضي الله عنه قال : أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : ادع الله أن يدخلني الجنة . قال : فعظم الرب تبارك وتعالى ، وقال : « إن كرسيه وسع السماوات والأرض وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد من ثقله » ، وعن الحسن البصري ، أنه كان يقول : الكرسي هو العرش ، والصحيح أن الكرسي غير العرش والعرش أكبر منه كما دلت على ذلك الآثار والأخبار .
وقوله تعالى : { وَلاَ يَؤُودُهُ حِفْظُهُمَا } أي لا يثقله ولا يُعجزه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما ومن بينهما ، بل ذلك سهل عليه يسير لديه ، وهو القائم على كل نفس بما كسبت ، الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء ، ولا يغيب عنه شيء ، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه ، محتاجة فقيرة ، وهو الغني الحميد ، الفعّال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسالون ، وهو القاهر لكل شيء ، الحسيب على كل شيء ، الرقيب العلي العظيم ، لا إله غيره ولا رب سواه . فقوله : { وَهُوَ العلي العظيم } ، كقوله : { الكبير المتعال } [ الرعد : 9 ] وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح أمرارها كما جاءت من غير تكيف ولا تشبيه .(1/286)
لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256)
يقول تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام ، فإنه بيِّن واضح ، جلي دلائله وبراهينه ، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه ، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بينة ، ومن أعمى الله قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرهاً مقسوراً ، وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار وإن كان حكمها عاماً . وقال ابن جرير عن ابن عباس ، قال : كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده ، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا : لا ندع أبناءنا ، فأنزل الله : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين قَد تَّبَيَّنَ الرشد مِنَ الغي } . وعن ابن عباس قوله : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } قال : نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصيني ، كان له ابنان نصرانيان ، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبي صلى الله عليه وسلم : ألا أستكرههما ، فإنهما قد أبيا إلا النصرانية ، فأنزل الله فيه ذلك . وقال ابن أبي حاتم عن أبي هلال عن أسبق ، قال : كنت في دينهم مملوكاً نصرانياً لعمر بن الخطاب . فكان يعرض عليَّ الإسلام فآبى ، فيقول : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدين } ، ويقول : يا أسبق لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين .
وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية . وقال آخرون : بل هي منسوخة بآية القتال ، وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف ( دين الإسلام ) فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له ، أو يبذل الجزية ، قوتل حتى يقتل ، وهذا معنى الإكراه . قال الله تعالى : { سَتُدْعَوْنَ إلى قَوْمٍ أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقَاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ } [ الفتح : 16 ] ، وقال تعالى : { ياأيها النبي جَاهِدِ الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ } [ التوبة : 73 ، التحريم : 9 ] ، وقال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ قَاتِلُواْ الذين يَلُونَكُمْ مِّنَ الكفار وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين } [ التوبة : 123 ] . وفي الصحيح : « عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل » ، يعني الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثاق والأغلال والقيود والأكبال ، ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة ، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل : « » أسلم « ، قال : إني أجدني كارهاً ، قال : » وإن كنت كارهاً « ، فإنه ثلاثي صحيح ، لكن ليس من هذا القبيل ، فإنه لم يكرهه النبي صلى الله عليه وسلم على الإسلام بل دعاه إليه ، فأخبره أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة ، فقال له أسلم وإن كنت كارهاً ، فإن الله سيرزقك حسن النية والإخلاص .(1/287)
وقوله تعالى : { فَمَنْ يَكْفُرْ بالطاغوت وَيْؤْمِن بالله فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون الله ، ووحَّد الله فعبده وحده ، وشهد أن لا إله إلا هو { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى } ، أي فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم . قال عمر رضي الله عنه : إن الجبت السحر ، والطاغوت الشيطان ، وإن كرم الرجل دينه ، وحسبه خلقه وإن كان فارسياً أو نبطياً ، ومعنى قوله في الطاغوت إنه الشيطان ، قوي جداً فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية : من عبادة الأوثان ، والتحاكم إليها ، والاستنصار بها .
وقوله تعالى : { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا } ، أي فقد استمسك من الدين بأقوى سبب ، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم هي في نفسها محكمة مبرمة قوية ، وربطها قوي شديد ، ولهذا قال : { فَقَدِ استمسك بالعروة الوثقى لاَ انفصام لَهَا } الآية ، قال مجاهد : العروة الوثقى يعني الإيمان ، وقال السدي : هو الإسلام ، وقال سعيد بن جبير والضحاك : يعني { لاَ إله إِلاَّ الله } [ الصافات : 35 ] . وعن أنس بن مالك : العروة الوثقى القرآن ، وعن سالم ابن أبي الجعد قال : هو الحب في الله والبغض في الله ، وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها .
وقال الإمام أحمد عن محمد بن قيس بن عبادة قال : كنت في المسجد فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع ، فصلى ركعتين أوجز فيهما ، فقال القوم : هذا رجل من أهل الجنة ، فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته ، فلما استأنس قلت له : إن القوم لما دخلت المسجد قالوا كذا وكذا ، قال سبحان الله ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم ، وسأحدثك لمَ؟ إني رأيت رؤيا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه : رأيت كأني في روضة خضراء - قال ابن عون فذكر من خضرتها وسعتها - وفي وسطها عمود حديد أسفله في الأرض وأعلاه في السماء ، في أعلاه عروة ، فقيل لي : اصعد عليه ، فقلت لا أستطيع ، فجاءني منصف - قال ابن عون هو الوصيف - فرفع ثيابي من خلفي ، فقال : اصعد ، فصعدت حتى أخذت بالعروة ، فقال : استمسك بالعروة ، فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقصصتها عليه فقال : « أما الروضة فروضة الإسلام ، وأما العمود فعمود الإسلام ، وأما العروة فهي ( العروة الوثقى ) أنت على الإسلام حتى تموت » ، قال : وهو عبد الله بن سلام .(1/288)
اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (257)
يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام ، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الواضح الجلي المبين السهل المنير ، وأن الكافرين إنما وليهم الشيطان يزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات ويخرجونهم ، ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك { أولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ، ولهذا وحد تعالى لفظ ( النور ) وجمع ( الظلمات ) لأن الحق واحد ، والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال : { وَأَنَّ هذا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فاتبعوه وَلاَ تَتَّبِعُواْ السبل فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذلكم وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ } [ الأنعام : 153 ] ، وقال تعالى : { وَجَعَلَ الظلمات والنور } [ الأنعام : 1 ] ، وقال تعالى : { عَنِ اليمين وَعَنِ الشمال } [ ق : 17 ، المعارج : 37 ] إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق ، وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه .(1/289)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258)
هذا الذي حاج إبراهيم في ربه هو ملك بابل ( نمرود بن كنعان ) ، قال مجاهد : ملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة : مؤمنان وكافران ، فالمؤمنان ( سليمان بن داود ) و ( ذو القرنين ) والكافران ( نمرود ) و ( بختنصر ) والله أعلم .
ومعنى قوله : { أَلَمْ تَرَ } أي بقلبك يا محمد { إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } أي وجود ربه ، وذلك أنه أنكر أن يكون ثم إله غيره ، كما قال بعده فرعون لملئه : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] ، وما حمله على هذا الطغيان والكفر والغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره وطول مدته في الملك ، وذلك أنه يقال إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه ، قال : { أَنْ آتَاهُ الله الملك } وكان طلب من إبراهيم دليلاً على وجود الرب الذي يدعو إليه ، فقال إبراهيم : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي إنما الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها وعدمها بعد وجودها ، وهذا دليل على وجود الفاعل المختار ، ضرورة لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها ، وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له .
فعند ذلك قال المحاج - وهو النمرود - : { أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ } ، قال قتادة : وذلك أني أوتي بالرجلين استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل ، وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل ، فذلك معنى الإحياء والإماتة ، والظاهر - والله أعلم - أنه ما أراد هذا لأنه ليس جواباً لما قال إبراهيم ولا في معناه لأنه غير مانع لوجود الصانع ، وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عناداً ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك ، وأنه هو الذي يحيي ويميت كما اقتدى به فرعون في قوله : { مَا عَلِمْتُ لَكُمْ مِّنْ إله غَيْرِي } [ القصص : 38 ] ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة : { فَإِنَّ الله يَأْتِي بالشمس مِنَ المشرق فَأْتِ بِهَا مِنَ المغرب } أي إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويميت هو الذي يتصرف في الوجود ، في خلق ذواته وتسخير كواكبه وحركاته ، فهذه الشمس تبدوا كل يوم من المشرق فإن كنت إلها كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب؟ فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت ، أي أخرس فلا يتكلم وقامت عليه الحجة ، قال الله تعالى : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } أي لا يلهمهم حجة ولا برهاناً بل حجتهم داحضة عند ربهم ، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد .
وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار ، ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة ، وروى زيد بن أسلم أن النمرود كان عنده طعام وكان الناس يغدون إليه للميرة ، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة ، ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس ، بل خرج وليس معه شيء من الطعام ، فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه ، وقال : أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم ، فلما قدم وضع رحاله وجاء فأتكأ فنام ، فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاماً طيباً ، فعملت طعاماً ، فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال : أنى لكم هذا؟ قالت : من الذي جئت به ، فعلم أنه رزق رزقهم الله عزّ وجلّ .(1/290)
قال زيد بن أسلم : وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكاً يأمره بالإيمان بالله فأبى عليه ، ثم دعاه الثانية فأبى ثم الثالثة فأبى وقال : اجمع جموعك وأجمع جموعي ، فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس وأرسل الله عليهم باباً من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس ، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم ، وتركتهم عظاماً بادية ، ودخلت واحدة منها في منخري الملك ، فمكثت في منخري الملك أربعمائة سنة عذبه الله بها ، فكان يضرب رأسه بالمرازب في المدة حتى أهلكه الله بها .(1/291)
أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلَى قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ عَلَى عُرُوشِهَا قَالَ أَنَّى يُحْيِي هَذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِهَا فَأَمَاتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عَامٍ فَانْظُرْ إِلَى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَانْظُرْ إِلَى حِمَارِكَ وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَانْظُرْ إِلَى الْعِظَامِ كَيْفَ نُنْشِزُهَا ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْمًا فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (259)
تقدم قوله تعالى : { أَلَمْ تَرَ إِلَى الذي حَآجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ } [ البقرة : 258 ] وهو في قوة قوله هل رأيت مثل الذي حاج إبراهيم في ربه ولهذا عطف عليه بقوله : { أَوْ كالذي مَرَّ على قَرْيَةٍ وَهِيَ خَاوِيَةٌ على عُرُوشِهَا } اختلفوا في هذا المار من هو؟ فروي عن علي بن أبي طالب أنه قال : هو عزير ، ورواه ابن جرير عن ابن عباس والحسن وقتادة وهذا القول هو المشهور ، وقيل : اسمه ( حزقيل بن بوار ) وقال مجاهد : هو رجل من بني إسرائيل ، وأما القرية فالمشهور أنها ( بيت المقدس ) مر عليها بعد تخريب بختنصر لها وقتل أهلها { وَهِيَ خَاوِيَةٌ } أي ليس فيها أحد من قولهم خوت الدار تخوي خوياً .
وقوله تعالى : { على عُرُوشِهَا } أي ساقطة سقوفها وجدرانها على عرصاتها ، فوقف متفكراً فيما آل أمرها إليه بعد العمارة العظيمة ، وقال : { أنى يُحْيِي هذه الله بَعْدَ مَوْتِهَا } ؟ ، وذلك لما رأى من دثورها وشدة خرابها ، وبعدها عن العود إلى ما كنت عليه . قال الله تعالى : { فَأَمَاتَهُ الله مِئَةَ عَامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ } . قال : وعمرت البلدة بعد مضي سبعين سنة من موته ، وتكامل ساكنوها ، وتراجع بنوا إسرائيل إليها ، فلما بعثه الله بعد موته ، كان أول شيء أحيا الله فيه عينيه لينظر بهما إلى صنع الله فيه ، كيف يحيي بدنه فلما استقل سوياً { قَالَ } الله له ، أي بواسطة الملك : { كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ } . قال : وذلك أنه مات أول النهار ، ثم بعثه الله في آخر النهار ، فلما رأى الشمس باقية ظن أنها شمس ذلك اليوم ، فقال : { أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قَالَ بَل لَّبِثْتَ مِئَةَ عَامٍ فانظر إلى طَعَامِكَ وَشَرَابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ } ، وذلك أنه كان معه فيما ذكر عنب وتين وعصير فوجده كما تقدم لم يتغير منه شيء ، لا العصير استحال ، ولا التين حمض ولا أنتن ، ولا العنب نقص : { وانظر إلى حِمَارِكَ } أي كيف يحييه الله عزّ وجلّ وأنت تنظر ، { وَلِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ } أي دليلاً على المعاد { وانظر إِلَى العظام كَيْفَ نُنْشِزُهَا } أي نرفعها فيركب بعضها على بعض ، وقرىء { ننشرها } أي نحييها قاله مجاهد ، { ثُمَّ نَكْسُوهَا لَحْماً } .
قال السدي : تفرقت عظام حماره حوله يميناً ويساراً ، فنظر إليها وهي تلوح من بياضها ، فبعث الله ريحاً فجمعتها من كل موضع من تلك المحلة ، ثم ركب كل عظم في موضعه حتى صار حماراً قائماً من عظام لا لحم عليها ، ثم كساها الله لحماً وعصباً وعروقاً وجلداً ، وبعث الله ملكاً فنفخ في منخري الحمار فنهق بإذن الله عزّ وجلّ ، وذلك كله بمرأى من العزير . فعند ذلك لما تبيّن له هذا كله : { قَالَ أَعْلَمُ أَنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي أنا عالم بهذا ، وقد رأيته عياناً فأنا أعلم أهل زماني بذلك ، وقرأ آخرون : « قال إعْلَمْ » على أنه أمر له بالعلم .(1/292)
وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)
ذكروا لسؤال إبراهيم عليه السلام أسباباً ، منها أنه لما قال لنمرود : { رَبِّيَ الذي يُحْيِي وَيُمِيتُ } [ البقرة : 258 ] أحب أن يترقى من ( علم اليقين ) بذلك إلى ( عين اليقين ) ، وأن يرى ذلك مشاهدة ، فقال : { رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الموتى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بلى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي } . فأما الحديث الذي رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نحن أحق بالشك من إبراهيم ، إذ قال : رب أرني كيف تحيي الموتى ، قال : أو لم تؤمن؟ قال : بلى ، ولكن ليطمئن قلبي » ، فليس المراد هاهنا بالشك ما قد يفهمه من لا علم عنده ، بلا خلاف .
وقوله تعالى : { قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطير فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } ، اختلف المفسرون في هذه الأربعة ما هي؟ وإن كان لا طائل تحت تعيينها ، إذ لو كان في ذلك مهم لنص عليه القرآن ، فروي عن ابن عباس أنه قال : أخذ وزاً ورألاً وهو ( فرخ النعام ) وديكاً وطاووساً ، وقال مجاهد : كانت حمامة وديكاً وطاووساً وغراباً ، وقوله : { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } أي وقطعهن . وعن ابن عباس { فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ } أوثقهن فلما أوثقهن ذبحهن ثم جعل على كل جبل منهن جزءاً ، فذكروا أنه عمد إلى أربعة من الطير فذبحهن ثم قطعهن ونتف ريشهن ومزقهن وخلط بعضهن ببعض ، ثم جزأهن أجزاء وجعل على كل جبل منهن جزءاً ثم أمره الله عزّ وجلّ أن يدعوهن فدعاهن كما أمره الله عزّ وجلّ ، فجعل ينظر إلى الريش يطير إلى الريش ، والدم إلى الدم ، واللحم إلى اللحم ، والأجزاء من كل طائر يتصل بعضها إلى بعض حتى قام كل طائر على حدته وأتينه يمشين ، سعياً ليكون أبلغ له في الرؤية التي سألها .
ولهذا قال : { واعلم أَنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } أي عزيز لا يغلبه شيء ولا يمتنع من شيء ، وما شاء كان بلا ممانع لأنه القاهر لكل شيء ، حكيم في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره .(1/293)
مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (261)
هذا مثل ضربه الله تعالى لتضعيف الثواب لمن أنفق في سبيله وابتغاء مرضاته ، وأن الحسنة تضاعف بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، فقال : { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله } يعني في طاعة الله ، وقال مكحول يعني به الإنفاق في الجهاد من رباط الخيل ، وإعداد السلاح وغير ذلك ، وقال ابن عباس : الجهاد والحج يضعَّف الدرهم فيهما إلى سبعمائة ضعف ولهذا قال تعالى : { كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنبُلَةٍ مِّئَةُ حَبَّةٍ } ، وهذا المثل أبلغ في النفوس من ذكر عدد السبعمائة ، فإن هذا فيه إشارة إلى أن الأعمال الصالحة ينميها الله عزّ وجلّ لأصحابها ، كما ينمي الزرع لمن بذره في الأرض الطيبة ، وقد وردت السنة بتضعيف الحسنة إلى سبعمائة ضعف .
كما روي الإمام أحمد عن عياض بن غطيف قال : دخلنا على أبي عبيدة نعوده من شكوى أصابه بجنبه ، وامرأته قاعدة عن رأسه قلنا : كيف بات أبو عبيدة؟ قالت : والله لقد بات بأجر ، قال أبو عبيدة : ما بت بأجر ، وكان مقبلاً بوجهه على الحائط فأقبل على القوم بوجهه ، وقال ألا تسألوني عما قلت! قالوا : ما أعجبنا ما قلت فنسألك عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من أنفق نفقة فاضلة في سبيل الله فسبعمائة ، ومن أنفق على نفسه وأهله أو عاد مريضاً أو أماط أذى فالحسنة بعشر أمثالها ، والصوم جنة مالم يخرقها ، ومن ابتلاه الله عزّ وجلّ ببلاء في جسده فهو له حِطَّة » أي كفارة لذنوبه .
حديث آخر : عن ابن مسعود أن رجلاً تصدق بناقة مخطومة في سبيل الله فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لتأتين يوم القيامة بسبعمائة ناقة مخطومة » . حديث آخر : عن ابن عبد الله ابن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله جعل حسنة ابن آدم إلى عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف إلا الصوم ، والصوم لي وأنا أجزي به ، وللصائم فرحتان : فرحة عند إفطاره ، وفرحة يوم القيامة ، ولخلوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك » .
حديث آخر : عن ابن عمر « لما نزلت هذه الآية { مَّثَلُ الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ الله } قال النبي صلى الله عليه وسلم : » رب زد أمتي « ، قال : فأنزل الله : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً } [ البقرة : 245 ] ، قال : » رب زد أمتي « ، فقال فأنزل الله : { إِنَّمَا يُوَفَّى الصابرون أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ } [ الزمر : 10 ] » وقوله : { والله يُضَاعِفُ لِمَن يَشَآءُ } أي بحسب إخلاصه في عمله { والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } أي فضله واسع كثير أكثر من خلقه ، عليم بمن يستحق ومن لا يستحق سبحانه وبحمده .(1/294)
الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لَا يُتْبِعُونَ مَا أَنْفَقُوا مَنًّا وَلَا أَذًى لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَمَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَا أَذًى وَاللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا لَا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (264)
يمدح تبارك وتعالى الذين ينفقون في سبيله ، ثم لا يتبعون ما أنفقوا من الخيرات والصدقات مَنَّا على من أعطوه فلا يمنُّون به على أحد ولا يمنون به لا بقول ولا فعل .
وقوله تعالى : { وَلاَ أَذًى } أي لا يفعلون مع من أحسنوا إليه مكروهاً يحبطون به ما سلف من الإحسان ثم وعدهم الله تعالى الجزاء الجزيل على ذلك ، فقال : { لَّهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ } أي ثوابهم على الله لا على أحد سواه ، { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ } أي فيما يستقبلونه من أهوال يوم القيامة ، { وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } أي على ما خلفوه من الأولاد ولا ما فاتهم من الحياة الدنيا وزهرتها ، لا يأسفون عليها لأنهم قد صاروا إلى ما هو خير لهم من ذلك .
ثم قال تعالى : { قَوْلٌ مَّعْرُوفٌ } أي من كلمة طيبة ودعاء لمسلم ، { وَمَغْفِرَةٌ } أي عفو وغفر عن ظلم قولي أو فعلي ، { خَيْرٌ مِّن صَدَقَةٍ يَتْبَعُهَآ أَذًى } ، { والله غَنِيٌّ } عن خلقه ، { حَلِيمٌ } أي يحلم ويغفر ، ويصفح ويتجاوز عنهم ، وقد وردت الأحاديث بالنهي عن المن في الصدقة ، ففي صحيح مسلم عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم : المنّان بما أعطى ، والمسبل إزاره ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب » وعن أبي الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لا يدخل الجنة عاق ، ولا منان ، ولا مدمن خمر ، ولا مكذب بقدر » ولهذا قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تُبْطِلُواْ صَدَقَاتِكُم بالمن والأذى } ، فأخبر أن الصدقة تبطل بما يتبعها من المن والأذى ، فما يفي ثواب الصدقة بخطيئة المن والأذىن ثم قال تعالى : { كالذي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَآءَ الناس } ، أي لا تبطلوا صدقاتكم بالمن الأذى ، كما تبطل صدقة من راءى بها الناس ، فأظهر لهم أنه يريد وجه الله وإنما قصده مدح الناس له ، أو شهرته بالصفات الجميلة ليشكر بين الناس ، أو يقال إنه كريم ، ونحو ذلك من المقاصد الدنيوية ، مع قطع نظره عن معاملة الله تعالى وابتغاء مرضاته وجزيل ثوابه ولهذا قال : { وَلاَ يُؤْمِنُ بالله واليوم الآخر } .
ثم ضرب تعالى مثل ذلك المرائي بإنفاقه ، فقال : { فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ } وهو الصخر الأملس { عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ } وهو المطر الشديد ، { فَتَرَكَهُ صَلْداً } أي فترك الوابلُ ذلك الصفوانَ صلداً : أي أملس يابساً ، أي لا شيء عليه من ذلك التراب ، بل قد ذهب كله ، أي وكذلك أعمال المرائين تذهب وتضمحل عند الله ، وإن ظهر لهم أعمال فيما يرى الناس كالتراب ولهذا قال : { لاَّ يَقْدِرُونَ على شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُواْ والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين } .(1/295)
وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)
وهذا مثل المؤمنين المنفقين أموالهم ابتغاء مرضات الله عنهم في ذلك { وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } ، أي وهم متحققون ومتثبتون أن الله سيجزيهم على ذلك أوفر الجزاء . ونظير هذا في معنى قوله عليه السلام في الحديث الصحيح المتفق على صحته : « من صام رمضان إيماناً واحتساباً » الحديث أي يؤمن أن الله شرعه ويحتسب عند الله وثوابه ، قال الشعبي : { وَتَثْبِيتاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أي تصديقاً ويقيناً .
وقوله تعالى : { كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ } أي كمثل بستان بربوة ، وهو عند الجمهور المكان المرتفع من الأرض وزاد ابن عباس والضحاك : وتجري فيه الأنهار .
وقوله تعالى : { أَصَابَهَا وَابِلٌ } وهو المطر الشديد كما تقدم ، { فَآتَتْ أُكُلَهَا } أي ثمرتها ، { ضِعْفَيْنِ } أي بالنسبة إلى غيرها من الجنان ، { فَإِن لَّمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ } ، قال الضحاك : هو الرذاذ وهو اللين من المطر ، أي هذه الجنة بهذه الربوة لا تمحل أبداً لأنها إن لم يصبها وابل فطل ، وأياً ما كان فهو كفايتها ، وكذلك عمل المؤمن لا يبور أبداً بل يتقبله الله ويكثره وينمِّيه ، كل عامل بحسبه ، ولهذا قال : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي لا يخفى عليه من أعمال عباده شيء .(1/296)
أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)
قال البخاري عند تفسير هذه الآية : قال عمر بن الخطاب يوماً لأصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فيمن ترون هذه الآية نزلت : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ } ؟ قالوا : الله أعلم ، فغضب عمر فقال : قولوا : نعلم أو لا نعلم ، فقال ابن عباس : في نفسي منها شيء يا أمير المؤمنين ، فقال عمر : يا ابن أخي قل ولا تحقر نفسك ، فقال ابن عباس رضي الله عنهما : ضربت مثلاً بعمل ، قال عمر : أي عمل؟ قال ابن عباس : لرجل غني يعمل بطاعة الله ، ثم بعث الله له الشيطان فعمل بالمعاصي حتى أغرق أعماله . وفي هذا الحديث كفاية في تفسير هذه الآية ، وتبيين ما فيها من المثل بعمل من أحسن العمل أولاً ، بعد ذلك انعكس سيره فبدل الحسنات بالسيئات ، عياذاً بالله من ذلك ، فأبطل بعمله الثاني ما أسلفه فيما تقدم من الصالح ، واحتاج إلى شيء من الأول في أضيق الأحوال فلم يحصل منه شيء ، وخانه أحوج ما كان إليه . ولهذا قال تعالى : { وَأَصَابَهُ الكبر وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَآءُ فَأَصَابَهَآ إِعْصَارٌ } وهو الريح الشديد { فِيهِ نَارٌ فاحترقت } أي أحرق ثمارها وأباد أشجارها فأي حال يكون حاله؟
وقد روى ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال : ضرب الله مثلاً حسناً - وكل أمثاله حسن - قال : { أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَن تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار لَهُ فِيهَا مِن كُلِّ الثمرات } يقول : صنعه في شيبته ، { وَأَصَابَهُ الكبر } وولده وذريته ضعاف عند آخر عمره ، فجاءه إعصار فيه نار فاحترق بستانه فلم يكن عنده قوة أن يغرس مثله ، ولم يكن عند نسله خير يعودون به عليه ، وكذلك الكافر يكون يوم القيامة إذا رُدَّ إلى الله عزّ وجلَّ ليس له خير فيستعتب ، كما ليس لهذا قوة فيغرس مثل بستانه ، ولا يجده قدم لنفسه خيراً يعود عليه ، كما لم يغن عن هذا ولده وحرم أجره عند أفقر ما كان إليه ، كما حرم هذا جنته عندما كان أفقر ما كان إليها عند كبره وضعف ذريته . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه : « اللهم اجعل أوسع رزقك عليَّ عند كبر سني وانقضاء عمري » ، ولهذا قال تعالى : { كَذَلِكَ يُبَيِّنُ الله لَكُمُ الآيات لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ } أي تعتبرون وتفهمون الأمثال والمعاني وتنزلونها المراد منها ، كما قال تعالى : { وَتِلْكَ الأمثال نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَآ إِلاَّ العالمون } [ العنكبوت : 43 ] .(1/297)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَلَا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (269)
يأمر تعالى عباده المؤمنين بالأنفاق والمراد به الصدقة هاهنا من طيبات ما رزقهم من الأموال التي اكتسبوها ، يعني التجارة بتيسيره إياها لهم ، وقال علي والسدي : { مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } يعني الذهب والفضة ، ومن الثمار والزروع التي أنبتها لهم من الأرض ، قال ابن عباس : أمرهم بالإنفاق من أطيب المال وأجوده وأنفسه ونهاهم عن التصدق برذالة المال ودنيئه وهو خبيثه فإن الله طيب لا يقبل إلا طيباً ، ولهذا قال : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث } أي تقصدوا الخبيث ، { مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ } : أي لو أعطيتموه ما أخذتموه إلا أن تتغاضوا فيه ، فالله أغنى منكم فلا تجعلوا لله ما تكرهون ، وقيل معناه : لا تعدلوا عن المال الحلال وتقصدوا إلى الحرام فتجعلوا نفقتكم منه . وعن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله قسم بينكم أخلاقكم كما قسم بينكم أرزاقكم ، وإن الله يعطي الدنيا من يحب ومن لا يحب ، ولا يعطي الدين إلا لمن أحب ، فمن أعطاه الله الدين فقد أحبه ، والذي نفسي بيده لا يُسْلم عبد حتى يسلم قلبُه ولسانه ، ولا يؤمن حتى يأمن جاره بوائقه - قالوا : وما بوائقه يا نبي الله؟ قال : غشه وظلمه - ولا يكسب عبد مالاً من حرام فينفق منه فيبارك له فيه ولا يتصدق به فيقبل منه ولا يتركه خلف ظهره إلا كان زاده إلى النار ، إن الله لا يمحو السيء بالسيء ولكن يمحو السيء بالحسن ، إن الخبيث لا يمحو الخبيث » قال ابن كثير : والصحيح القول الأول .
قال ابن جرير رحمه الله : عن البراء بن عازب رضي الله عنه في قول الله : { ياأيها الذين آمنوا أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ } الآية ، قال نزلت في الأنصار؛ كانت الأنصار إذا كانت أيام جذاذ النخل أخرجت من حيطانها البسر فعلقوه على حبل بين الأسطوانتين في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل فقراء المهاجرين منه ، فيعمد الرجل منهم إلى الحشف فيدخله مع أقناء البسر يظن أن ذلك جائز ، فانزل الله فيمن فعل ذلك : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ } ، وقال ابن أبي حاتم : عن البراء رضي الله عنه { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } قال : نزلت فينا؛ كنا أصحاب نخل فكان الرجل يأتي من نخله بقدر كثرته وقلته ، فيأتي الرجل بالقنو فيعلقه في المسجد ، وكان أهل الصفة ليس لهم طعام ، فكان أحدهم إذا جاع جاء فضربه بعصاه فسقط منه البسر والتمر ، فيأكل وكان أناس ممن لا يرغبون في الخير يأتي بالقنو الحشف والشيص ، فيأتي بالقنو قد انكسر فيعلقه فنزلت : { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } قال : لو أن أحدكم أهدي له مثل ما أعطى ما أخذ إلا على إغماض وحياء ، فكنا بعد ذلك يجيء الرجل منا بصالح ما عنده .(1/298)
وعن عبد الله بن مغفل في هذه الآية { وَلاَ تَيَمَّمُواْ الخبيث مِنْهُ تُنْفِقُونَ } قال : ( كسب المسلم لا يكون خبيثاً ، ولكن لا يصَّدَق بالحشف والدرهم الزيف وما لا خير فيه ) ، وقال الإمام أحمد عن عائشة قالت : « أتي رسول الله صلى الله عليه وسلم بضب فلم يأكله ولم ينه عنه قلت : يا رسول الله نطعمه المساكين؟ قال : » لا تطعموهم مما لا تأكلون « وعن البراء { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } يقول : لو كان لرجل على رجل فأعطاه ذلك لم يأخذه إلا أن يرى أنه قد نقصه من حقه؟ ، وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس : { وَلَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَن تُغْمِضُواْ فِيهِ } يقول : لو كان لكم على أحد حق فجاءكم بحق دون حقكم لم تأخذوه بحساب الجيد حتى تنقصوه فكيف ترضون لي ما لا ترضون لأنفسكم ، وحقي عليكم من أطيب أموالكم وأنفَسه؟
وقوله تعالى : { واعلموا أَنَّ الله غَنِيٌّ حَمِيدٌ } أي وإن أمركم بالصدقات وبالطيب منها فهو غني عنها ، وما ذلك إلا أن يساوي الغني الفقير ، كقوله : { لَن يَنَالَ الله لُحُومُهَا وَلاَ دِمَآؤُهَا ولكن يَنَالُهُ التقوى مِنكُمْ } [ الحج : 37 ] وهو غني عن جميع خلقه ، وجميعُ خلقه فقراء إليه . وهو واسع الفضل لا ينفذ ما لديه ، فمن تصدق بصدقة من كسب طيب فليعلم أن الله غني واسع العطاء كريم؛ جواد وسيجزيه بها ويضاعفها له أضعافاً كثيرة ، من يقرض غير عديم ولا ظلوم ، وهو الحميد : أي المحمود في جميع أفعاله وأقواله وشرعه وقدره ، لا إله إلا هو ولا رب سواه .
وقوله تعالى : { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } ، قال ابن أبي حاتم عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن للشيطان لمة بابن آدم وللملك لمة ، فأما لمة الشيطان فإيعاد بالشر وتكذيب بالحق ، وأما لمة الملك بإيعاد بالخير وتصديق بالحق ، فمن وجد ذلك فليعلم أنه من الله فليحمد الله ، ومن وجد الأخرى فليتعوذ من الشيطان « ثم قرأ : { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ وَفَضْلاً } الآية . ومعنى قوله تعالى : { الشيطان يَعِدُكُمُ الفقر } أي يخوفكم الفقر لتمسكوا ما بأيديكم فلا تنفقوه في مرضاة الله ، { وَيَأْمُرُكُم بالفحشآء } : أي مع نهيه إياكم عن الإنفاق خشية الإملاق ، يأمركم بالمعاصي والمآثم والمحارم ومخالفة الخلاّق ، قال تعالى : { والله يَعِدُكُم مَّغْفِرَةً مِّنْهُ } أي في مقابلة ما أمركم الشيطان بالفحشاء ، { وَفَضْلاً } أي في مقابلة ما خوفكم الشيطان من الفقر { والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ } .
وقوله تعالى : { يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَآءُ } ، قال ابن عباس : يعني المعرفة بالقرآن ناسخه ومنسوخه ومحكمه ومتشابهه ومقدمه ومؤخرة وحلاله وحرامه وأمثاله .(1/299)
وقال مجاهد : { الْحِكْمَةَ } ليست بالنبوة ولكنه العلم والفقه والقرآن ، وقال أبو العالية : الحكمة خشية الله ، فإن خشية الله رأس كل حكمة ، وقد روى ابن مردويه عن ابن مسعود مرفوعاً : « رأس الحكمة مخافة الله » ، وقال أبو مالك : الحكمة السنّة . وقال زيد بن أسلم : الحكمة العقل . قال مالك : وإنه ليقع في قلبي أن الحكمة هو الفقه في دين الله ، وأمر يدخله في القلوب من رحمته وفضله ، ومما يبيّن ذلك أنك تجد الرجل عاقلاً في أمر الدنيا إذا نظر فيها ، وتجد آخر ضعيفاً في أمر دنياه عالماً بأمر دينه بصيراً به ، يؤتيه الله إياه ويحرمه هذا ، فالحكمة : الفقه في دين الله . وقال السُّدي : الحكمة النبوة . والصحيح أن الحكمة لا تختص بالنبوة بل هي أعم منها وأعلاها النبوة ، والرسالة أخص ، ولكن لأتباع الأنبياء حظ من الخير على سبيل التبع ، كما جاء في بعض الأحاديث : « من حفظ القرآن فقد أدرجت النبوة بين كتفيه غير أنه لا يوحى إليه » وقال صلى الله عليه وسلم : « لا حسد إلا في اثنتين رجل آتاه الله مالاً فسلطه على هلكته في الحق ورجل آتاه الله الحكمة فهو يقضي بها ويعلمها » .
وقوله تعالى : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } أي وما ينتفع بالموعظة والتذكار إلا من له لب وعقل ، يعي به الخطاب ومعنى الكلام .(1/300)
وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَيُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئَاتِكُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)
يخبر تعالى بأنه عالم بجميع ما يفعله العاملون من الخيرات من النفقات والمنذورات ، وتضمن ذلك مجازاته على ذلك أوفر الجزاء للعاملين لذلك ابتغاء وجهه ورجاء موعوده . وتوعد من لا يعمل بطاعته بل خالف أمره وكذب خبره وعبد معه غيره ، فقال : { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } أي يوم القيامة ينقذونهم من عذاب الله ونقمته .
وقوله تعالى : { إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ } أي إن أظهرتموها فنعم شيء هي ، وقوله تعالى : { وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } فيه دلالة على أن إسرار الصدقة أفضل من إظهارها ، لأنه أبعد عن الرياء ، إلا أن يترتب على الإظهار مصلحة راجحة من اقتداء الناس به ، فيكون أفضل من هذه الحيثية . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الجاهر بالقرآن كالجاهر بالصدقة والمسرُّ بالقرآن كالمسر بالصدقة » والأصل : أن الإسرار أفضل لهذه الآية ، ولما ثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « سبعة يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله : إمام عادل ، وشاب نشأ في عبادة الله ، ورجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه ، ورجل قلبه معلق بالمسجد إذا خرج منه حتى يرجع إليه ، ورجل ذكر الله خالياً ففاضت عيناه ، ورجل دعته امرأة ذات منصب وجمال فقال : إني أخاف الله رب العالمين ، ورجل تصدَّق بصدقة فأخفاها حتى لا تعلم شماله ما تنفق يمينه » .
وفي الحديث المروي : « صدقة السر تطفىء غضب الرب عزّ وجلّ » ، وقال ابن أبي حاتم في قوله : { إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هِيَ وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقرآء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ } قال : « أنزلت في أبي بكر وعمر رضي الله عنهما أما عمر فجاء بنصف ماله حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : » ما خلفت وراءك لأهلك يا عمر؟ « قال : خلَّفتُ لهم نصف مالي ، وأما أبو بكر فجاء بماله كله يكاد أن يخفيه من نفسه حتى دفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : » ما خلفت وراءك لأهلك يا أبا بكر؟ « فقال : عدة الله وعدة رسوله ، فبكى عمر رضي الله عنه وقال : ( بأبي أنت وأمي يا أبا بكر والله ما استبقنا إلى باب خير قط إلا كنت سابقاً ) » ثم إن الآية عامة في أن إخفاء الصدقة أفضل سواء كانت مفروضة أو مندوبة . ولكن روى ابن جرير عن ابن عباس في تفسير هذه الآية ، قال : جعل الله صدقة السر في التطوع تفضل علانيتها بسبعين ضعفاً ، وجعل صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرها يقال بخمسة وعشرين ضعفاً .
وقوله تعالى : { وَيُكَفِّرُ عَنكُم مِّن سَيِّئَاتِكُمْ } أي بدل الصدقات ولا سيما إذا كانت سراً يحصل لكم الخير في رفع الدرجات ويكفر عنكم السيئات ، وقوله : { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي لا يخفى عليه من ذلك شيء وسيجزيكم عليه .(1/301)
لَيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَمَا تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لَا تُظْلَمُونَ (272) لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرًّا وَعَلَانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)
عن ابن عباس قال : كانوا يكرهون أن يرضخوا لأنسابهم من المشركين فرخص لهم فنزلت هذه الآية : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } الآية وعن سعيد بن جبير عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يأمر بأن لا يتصدق إلاّ على أهل الإسلام حتى نزلت هذه الآية { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ } إلى آخرها ، فأمر بالصدقة بعدها على كل من سألك من كل دين .
وقوله تعالى : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلأَنْفُسِكُمْ } كقوله : { مَّنْ عَمِلَ صَالِحاً فَلِنَفْسِهِ } [ فصلت : 46 ، الجاثية : 15 ] ونظائرها في القرآن كثيرة ، وقوله : { وَمَا تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابتغآء وَجْهِ الله } ، قال الحسن البصري : نفقة المؤمن لنفسه ، ولا ينفق المؤمن إذا أنفق إلا ابتغاء وجه الله . وقال عطاء الخراساني : يعني إذا أعطيت لوجه الله فلا عليك ما كان من عمله ، وهذا معنى حسن ، وحاصله : أن المتصدق إذا تصدق ابتغاء وجه الله فقد وقع أجره على الله ، ولا عليه في نفس الأمر لمن أصاب : أَلبِرّ أو فاجر ، أو مستحق أو غيره ، وهو مثاب على قصده ، ومستند هذا تمام الآية : { وَمَا تُنْفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنْتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ } ، والحديث المخرج في الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال رجل لأتصدقن الليلة بصدقة ، فخرج بصدقته فوضعها في يد زانية ، فأصبح الناس يتحدثون : تُصُدِّق على زانية ، فقال : اللهم لك الحمد على زانية! لأتصدقن الليلة بصدقة ، فوضعها في يد غني ، فأصبحوا يتحدثون : تُصدق على غني ، قال : اللهم لك الحمد على غني! لأتصدقن الليلة بصدقة ، فخرج فوضعها في يد سارق ، فأصبحوا يتحدثون : تصدق الليلة على سارق فقال : اللهم لك الحمد على زانية وعلى غني وعلى سارق ، فأُتي فقيل له : أما صدقتك فقد قُبلت ، وأما الزانية فلعلها أن تستعفف بها عن زنا ، ولعل الغني يعتبر فينفق مما أعطاه الله ، ولعل السارق أن يستعف بها عن سرقته » .
وقوله تعالى : { لِلْفُقَرَآءِ الذين أُحصِرُواْ فِي سَبِيلِ الله } يعني المهاجرين الذين قد انقطعوا إلى الله وإلى رسوله وسكنوا المدينة ، وليس لهم سبب يردون به على أنفسهم ما يغنيهم ، و { لاَ يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الأرض } يعني سفراً للتسبب في طلب المعاش . والضرب في الارض : هو السفر . قال الله تعالى : { وَإِذَا ضَرَبْتُمْ فِي الأرض فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَقْصُرُواْ مِنَ الصلاة } [ النساء : 101 ] ، وقال تعالى : { وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الأرض يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ الله } [ المزمل : 20 ] الآية .
وقوله تعالى : { يَحْسَبُهُمُ الجاهل أَغْنِيَآءَ مِنَ التعفف } أي الجاهل بأمرهم وحالهم ، يحسبهم أغنياء من تعففهم في لباسهم وحالهم ومقالهم ، وفي هذا المعنى الحديث المتفق على صحته عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/302)
« ليس المسكين بهذا الطوّاف التي ترده التمرة والتمرتان ، واللقمة واللقمتان ، والأكلة والأكلتان ، ولكن المسكين الذي لا يجد غنى يغنيه ، ولا يفطن له فيتصدق عليه ، ولا يسأل الناس شيئاً » .
وقوله تعالى : { تَعْرِفُهُم بِسِيمَاهُمْ } : أي بما يظهر لذوي الألباب من صفاتهم ، كما قال تعالى : { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ } [ الفتح : 29 ] ، وقال : { وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول } [ محمد : 30 ] . وفي الحديث : « اتقو فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله » ، ثم قرأ : { إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ } [ الحجر : 75 ] .
وقوله تعالى { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } أي لا يلحون في المسألة ، ويكلفون الناس مال لا يحتاجون إليه ، فإن من سأل وله ما يغنيه عن المسألة فقد ألحف في المسألة . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ليس المسكين الذي ترده التمرة والتمرتان ، ولا اللقمة واللقمتان ، إنما المسكين الذي يتعفف . اقرأوا إن شئتم : يعني قوله : { لاَ يَسْأَلُونَ الناس إِلْحَافاً } » وقال الإمام أحمد عن رجل من مزينة ، أنه قالت له أمه : ألا تنطلق فتسأل رسول الله صلى الله عليه وسلم كما يسأله الناس ، فانطلقت أسأله فوجدته قائماً يخطب ، وهو يقول : « ومن استعف أعفه الله ، ومن استغنى أغناه الله ، ومن يسأل الناس وله عدل خمس أواق فقد سأل الناس إلحافاً » ، فقلت بيني وبين نفسي لنا ناقة لهي خير من خمس أواق ، ولغلامه ناقة أخرى فهي خير من خمس أواق ، فرجعت ولم أسأل . وعن عبد الله بن مسعود قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من سأل وله ما يغنيه جاءت مسألته يوم القيامة خدوشاً أو كدوحاً في وجهه « . قالوا : يا رسول الله وما غناه؟ قال : » خمسون درهما أو حسابها من الذهب « » وقوله : { وَمَا تُنفِقُواْ مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ الله بِهِ عَلِيمٌ } أي لا يخفى عليه شيء منه ، وسيجزى عليه أوفر الجزاء وأتمه يوم القيامة أحوج ما يكون إليه .
وقوله تعالى : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } ، هذا مدح منه تعالى للمنفقين في سبيله وابتغاء مرضاته ، في جميع الأوقات من ليل أو نهار ، والأحوال من سر وجهر ، حتى إن النفقة على الأهل تدخل في ذلك أيضاً كما ثبت في الصحيحين ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لسعد بن أبي وقاص حين عاده مريضاً عام الفتح ، وفي رواية عام حجة الوداع : « وإنك لن تنفق نفقة تبتغي بها وجه الله إلا ازددت بها درجة ورفعة حتى ما تجعل في في امرأتك » وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « إن المسلم إذا أنفق على أهله نفقة يحتسبها كانت له صدقة » ؟ . وقال ابن جبير عن أبيه : كان لعلي أربعة دراهم فأنفق درهماً ليلاً ودرهماً نهاراً ، ودرهماً سراً ودرهماً علانية ، فنزلت : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } . وقوله : { فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } أي يوم القيامة على ما فعلوا من الإنفاق في الطاعات ، { وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } تقدم تفسيره .(1/303)
الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبَا لَا يَقُومُونَ إِلَّا كَمَا يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطَانُ مِنَ الْمَسِّ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا وَأَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا فَمَنْ جَاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهَى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَمَنْ عَادَ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (275)
لما ذكر تعالى الأبرار المؤدين النفقات ، المخرجين الزكوات ، المتفضلين بالبر والصدقات لذوي الحاجات والقرابات ، في جميع الأحوال والأوقات ، شرع في ذكر أكلة الربا وأموال الناس بالباطل وأنواع الشبهات ، وأخبر عنهم يوم خروجهم من قبورهم وقيامهم منها إلى بعثهم ونشورهم ، فقال : { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } ، أي لا يقومون من قبورهم يوم القيامة إلا كما يقوم المصروع حال صرعه وتخبط الشيطن له ، وذلك أنه يقوم قياماً منكراً . وقال ابن عباس : آكل الربا يبعث يوم القيامة مجنوناً يخنق ، وحكي عن عبد الله بن عباس وعكرمة والحسن وقتادة أنهم قالوا في قوله تعالى : { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } يعني لا يقومون يوم القيامة ، وقال ابن جرير عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا خذ سلاحك للحرب ، وقرأ : { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } وذلك حين يقوم من قبره . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتيت ليلة أسري بي على قوم بطونهم كالبيوت فيها الحيات تجري من خارج بطونهم ، فقلت : من هؤلاء يا جبريل؟ قال : هؤلاء أكلة الربا » وعن سمرة بن جندب في حديث المنام الطويل : ( فأتينا على نهر - حسبت أنه كان يقول أحمر مثل الدم - وإذا في النهر رجل سابح يسبح ، وإذا على شط النهر رجل قد جمع عنده حجارة كثيرة ، وإذا ذلك السابح يسبح ثم يأتي ذلك الذي قد جمع الحجارة عنده فيغفر له فاه فيلقمه حجراً - وذكر في تفسيره - أنه آكل الربا ) .
وقوله تعالى : { ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قالوا إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } أي إنما جوزوا بذلك لاعتراضهم على أحكام الله في شرعه ، وليس هذا قياساً منهم للربا على البيع ، لأن المشركين لا يعترفون بمشروعية أصل البيع الذي شرعه الله في القرآن ، ولو كان هذا من باب القياس لقالوا : إنما الربا مثل البيع ، وإنما قالوا : { إِنَّمَا البيع مِثْلُ الربا } أي هو نظيره ، فلم حرم هذا وأبيح هذا؟ وهذا اعتراض منهم على الشرع ، أي هذا مثل هذا ، وقد أحل هذا وحرم هذا . وقوله : تعالى : { وَأَحَلَّ الله البيع وَحَرَّمَ الربا } يحتمل أن يكون من تمام الكلام رداً عليهم ، أي على ما قالوه من الاعتراض مع علمهم بتفريق الله بين هذا وهذا حكماً ، وهو العليم الحكيم الذي لا معقب لحكمه ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون ، وهو العالم يحقائق الأمور ومصالحها وما ينفع عباده فيبيحه لهم ، وما يضرهم فينهاهم عنه ، وهو أرحم بهم من الوالدة بولدها الطفل .(1/304)
ولهذا قال : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله } أي من بلغه نهي الله عن الربا فانتهى حال وصول الشرع إليه فله ما سلف من المعاملة ، لقوله : { عَفَا الله عَمَّا سَلَف } [ المائدة : 95 ] . وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : « وكل ربا في الجاهلية موضوع تحت قدميّ هاتين وأول ربا أضع ربا العباس » ، ولم يأمرهم برد الزيادات المأخوذة في حال الجاهلية بل عفا عما سلف كما قال تعالى : { فَلَهُ مَا سَلَفَ وَأَمْرُهُ إِلَى الله } . قال سعيد بن جبير والسُّدي : { فَلَهُ مَا سَلَفَ } ما كان أكل من الربا قبل التحريم ، وقال ابن أبي حاتم عن أم يونس العالية بنت أبقع ، أن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت لها ( أم بحنة ) أم ولد زيد بن أرقم : يا أم المؤمنين أتعرفين زيد بن أرقم؟ قالت : نعم ، قالت : فإني بعته عبداً إلى العطاء بثمانمائة ، فاحتاج إلى ثمنه فاشتريته قبل محل الأجل بستمائة ، فقالت : بئس ما شَرَيْتِ ، وبئس ما اشتريت أبلغي زيداً أنه قد أبطل جهاده مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قد بطل إن لم يتب . قالت : فقلت : أرأيت إن تركت المائتين وأخذت الستمائة؟ قالت : نعم : { فَمَن جَآءَهُ مَوْعِظَةٌ مِّنْ رَّبِّهِ فانتهى فَلَهُ مَا سَلَفَ } ، وهذا الأثر مشهور . وهو دليل لمن حرم ( مسألة العينة ) مع ما جاء فيها من الأحاديث المذكورة المقررة في كتاب الأحكام ولله الحمد والمنة .
ثم قال تعالى : { وَمَنْ عَادَ } أي إلى الربا ففعله بعد بلوغه نهي الله عنه فقد استوجب العقوبة وقامت عليه الحجة ، ولهذا قال : { فأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ، وقد قال أبو داود ، عن جابر قال : لما نزلت : { الذين يَأْكُلُونَ الربا لاَ يَقُومُونَ إِلاَّ كَمَا يَقُومُ الذي يَتَخَبَّطُهُ الشيطان مِنَ المس } قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من لم يذر المخابرة فليؤذن بحرب من الله ورسوله » ، وإنما حرمت ( المخابرة ) وهي المزارعة ببعض ما يخرج من الأرض ، و ( المزابنة ) وهي اشتراء الرطب في رؤوس النخل بالتمر على وجه الأرض ، و ( المحاقلة ) وهي اشتراء الحب في سنبله في الحقل بالحب على وجه الأرض ، إنما حرمت هذه الأشياء وما شاكلها حسماً لمادة الربا ، لأنه لا يعلم التساوي بين الشيئين قبل الجفاف ، ولهذا قال الفقهاء : الجهل بالمماثلة كحقيقة المفاضلة ، ومن هذا حرموا أشياء بما فهموا من تضييق المسالك المفضية إلى الربا والوسائل الموصلة إليه ، وتفاوت نظرهم بحسب ما وهب الله لكل منهم من العلم ، وقد قال تعالى : { وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ } [ يوسف : 76 ] .
وباب الربا من أشكل الأبواب على كثير من أهل العلم ، وقد قال أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( ثلاث وددت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم عهد إلينا فيهن عهداً ننتهي إليه : الجد ، والكلالة ، وأبواب من أبواب الربا ) ، يعني بذلك بعض المسائل التي فيها شائبة الربا ، والشريعة شاهدة بأن كل حرام فالوسيلة إليه مثله ، لأن ما أفضى إلى الحرام حرام ، كما أن ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، وقد ثبت في الصحيحين عن النعمان بن بشير قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(1/305)
« إن الحلال بيِّن ، والحرام بين ، وبين ذلك أمور مشتبهات ، فمن اتقى الشبهات استبرأ لدينه وعرضه ، ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام ، كالراعي يرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه » وفي السنن عن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « دع ما يريبك إلى ما لا يريبك » ، وفي الحديث الآخر : « الإثم ما حاك في القلب ، وترددت فيه النفس ، وكرهت أن يطلع عليه الناس » وفي رواية : « استفتِ قلبَك وإن أفتاك الناس وأفتوك » وقال ابن عباس : آخر ما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم آية الربا ، وعن أبي سعيد الخدري قال : خطبنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : ( إني لعلِّي أنهاكم عن أشياء تصلح لكم ، وآمركم باشياء لا تصلح لكم ، وإن من آخر القرآن نزولاً آية الربا ، وإنه قد مات رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يبينه لنا ، فدعوا ما يريبكم إلى ما لا يريبكم ) . وعن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الربا ثلاثة وسبعون باباً » وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « الربا سبعون جزءاً أيسرها أن ينكح الرجل أمه » ، وقال الإمام أحمد عن أبي هريرة : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » يأتي على الناس زمان يأكلون فيه الربا « . قال قيل له : الناس كلهم؟ قال : » من لم يأكله منهم ناله من غباره « » .
ومن هذا القبيل تحريم الوسائل المفضية إلى المحرمات الحديث الذي روي عن عائشة ، قالت : ( لما نزلت الآيات من آخر سورة البقرة في الربا قرأها رسول الله صلى الله عليه وسلم على الناس ثم حرم التجارة في الخمر ) قال بعض من تكلم على هذا الحديث من الأئمة : لما حرم الربا ووسائله حرم الخمر وما يفضي إليه من تجارة ونحو ذلك ، كما قال عليه السلام في الحديث المتفق عليه : « لعن الله اليهود حرمت عليهم الشحوم فجملوها فباعوها وأكلوا أثمانها » وقوله صلى الله عليه وسلم : « لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه » قالوا : وما يُشْهد عليه ويُكْتب . إلا إذا أظهر في صورة عقد شرعي ويكون داخله فاسداً ، فالاعتبار بمعناه لا بصورته ، لأن الأعمال بالنيات . وفي الصحيح : « إن الله لا ينظر إلى صوركم ولا إلى أموالكم وإنما ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم » ، وقد صنف الإمام العلاّمة أبو العباس ( ابن تيمية ) كتاباً في إبطال التحليل ، تضمن النهي عن تعاطي الوسائل المفضية إلى كل باطل ، وقد كفى في ذلك وشفى ، فرحمه الله ورضي عنه .(1/306)
يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبَا وَيُرْبِي الصَّدَقَاتِ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)
يخبر تعالى أنه يمحق الربا أي يذهبه ، إما بأن يذهبه بالكلية من يد صاحبه ، أو يحرمه بركة ماله ، فلا ينتفع به بل يعدمه به في الدنيا ، ويعاقبه عليه يوم القيامة ، كما قال تعالى : { قُل لاَّ يَسْتَوِي الخبيث والطيب وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الخبيث } [ المائدة : 100 ] . وقال تعالى : { وَيَجْعَلَ الخبيث بَعْضَهُ على بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ } [ الأنفال : 37 ] ، وقال : { وَمَآ آتَيْتُمْ مِّن رِّباً لِّيَرْبُوَاْ فِي أَمْوَالِ الناس فَلاَ يَرْبُواْ عِندَ الله } [ الروم : 39 ] الآية . وقال ابن جرير : في قوله : { يَمْحَقُ الله الربا } وهذا نظير الخبر الذي روي عن عبد الله بن مسعود أنه قال : ( الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قلّ ) وهذا الحديث قد رواه الإمام أحمد في مسنده عن ابن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الربا وإن كثر فإن عاقبته تصير إلى قل » ، وهذا من باب المعاملة بنقيض المقصود كما قال صلى الله عليه وسلم : « من احتكر على المسلمين طعامهم ضربه الله بالإفلاس والجذام » .
وقوله تعالى : { وَيُرْبِي الصدقات } قرىء بضم الياء والتخفيف من ربا الشيء يربو أي كثّره ونمّاه وقرىء ( يربي ) بالضم والتشديد من التربية . قال البخاري عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من تصدّق بعدل تمرة من كسب طيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، فإن الله يتقبلها بيمنيه ثم يربّيها لصاحبها كما يربّي أحدكم فلوه حتى يكون مثل الجبل » . وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله عزّ وجلّ يقبل الصدقة ويأخذها بيمينه فيربيها لأحدكم كما يربي أحدكم مهره أو فلوه حتى إن اللقمة لتصير مثل أحد » وتصديق ذلك في كتاب الله : { يَمْحَقُ الله الربا وَيُرْبِي الصدقات } .
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن العبد إذا تصدق من طيب يقبلها الله منه ، فيأخذها بيمينه ويربيها كما يربي أحدكم مهره أو فصيله ، وإن الرجل ليتصدق باللقمة فتربوا في يد الله ، أو قال : في كف الله ، حتى تكون مثل أحد فتصدقوا » ، وعن عائشة ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله يربي لأحدكم التمرة واللقمة كما يربي أحدكم فلوه أو فصيله حتى يكون مثل أحد » ، وعن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الرجل ليتصدق بالصدقة من الكسب الطيب ، ولا يقبل الله إلا الطيب ، فيتلقاها الرحمن بيده فيربيها كما يربي أحدكم فلوه أو وصيفه » .
وقوله تعالى : { والله لاَ يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ } أي لا يحب كفور القلب ، أثيم القول والفعل ، ولا بد من مناسبة في ختم هذه الآية بهذه الصفة ، وهي أن المرابي لا يرضى بما قسم الله له من الحلال ، ولا يكتفي بما شرع له من الكسب المباح ، فهو يسعى في أكل أموال الناس بالباطل بأنواع المكاسب الخبيثة ، فهو جحود لما عليه من النعمة ، ظلوم آثم بأكل أموال الناس بالباطل . ثم قال تعالى مادحاً للمؤمنين بربهم ، المطيعين أمره ، المؤدين شكره ، المحسنين إلى خلقه في إقامة الصلاة وإيتاء الزكاة ، مخبراً عما أعد لهم من الكرامة وأنهم يوم القياة من التبعات آمنون ، فقال : { إِنَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَأَقَامُواْ الصلاة وَآتَوُاْ الزكاة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ } .(1/307)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَذَرُوا مَا بَقِيَ مِنَ الرِّبَا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُءُوسُ أَمْوَالِكُمْ لَا تَظْلِمُونَ وَلَا تُظْلَمُونَ (279) وَإِنْ كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلَى مَيْسَرَةٍ وَأَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (281)
يقول تعالى آمراً عباده المؤمنين بتقواه ، ناهياً لهم عما يقربهم إلى سخطه ويبعدهم عن رضاه ، { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله } أي خافوه وراقبوه فيما تفعلون { وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا } أي اتركوا ما لكم على الناس من الزيادة على رؤوس الأموال بعد هذا الإنذار ، { إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي بما شرع الله لكم من تحليل البيع وتحرم الربا وغير ذلك . وقد ذكروا أن هذا السياق نزل في ( بني عمرو بن عمير ) من ثقيف و ( بني المغيرة ) من بني مخزوم ، كان بينهم ربا في الجاهلية ، فلما جاء الإسلام ودخلوا فيه طلبت ثقيف أن تأخذه منهم ، فتشاوروا وقالت بنو المغيرة : لا نؤدي الربا في الإسلام بكسب الإسلام ، فكتب في ذلك ( عتاب بن أسيد ) نائب مكة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية ، فكتب بها رسول الله صلى الله عليه وسلم إليه : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَذَرُواْ مَا بَقِيَ مِنَ الربا إِن كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ * فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } فقالوا : نتوب إلى الله ، ونذر ما بقي من الربا فتركوه كلهم . وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، لمن استمر على تعاطي الربا بعد الإنذار ، قال ابن عباس : { فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ } أي استيقنوا بحرب من الله ورسوله ، وتقدم عن ابن عباس قال : يقال يوم القيامة لآكل الربا : خذ سلاحك للحرب ، ثم قرأ : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } ، وقال علي بن ابي طلحة عن ابن عباس : { فَإِن لَّمْ تَفْعَلُواْ فَأْذَنُواْ بِحَرْبٍ مِّنَ الله وَرَسُولِهِ } فمن كان مقيماً على الربا لا ينزع عنه كان حقاً على إمام المسلمين أن يستتيبه ، فإن نزع وإلا ضرب عنقه . وقال قتادى : أوعدهم الله بالقتل كما يسمعون وجعلهم بهرجاً أين ما أتو ، فإياكم ومخالطة هذه البيوع من الربا ، فإن الله قد أوسع الحلال وأطابه ، فلا يلجئنكم إلى معصيته فاقة .
ثم قال تعالى : { وَإِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُوسُ أَمْوَالِكُمْ لاَ تَظْلِمُونَ } أي بأخذ الزيادة { وَلاَ تُظْلَمُونَ } أي بوضع رؤوس الأموال أيضاً بل لكم ما بذلتم من غير زيادة عليه ولا نقص منه ، خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع فقال : « ألا إن كل ربا كان في الجاهلية موضوع عنكم كله ، لكم رؤوس أموالكم لا تظلمون ولا تظلمون ، وأول ربا موضوع ربا العباس بن عبد المطلب موضوع كله » .
وقوله تعالى : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } ، يأمر تعالى بالصبر على المعسر الذي لا يجد وفاء ، فقال : { وَإِن كَانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إلى مَيْسَرَةٍ } لا كما كان أهل الجاهلية يقول أحدهم لمدينه إذا حل عليه الدين : إما أن تقضي وإما أن تربي ، ثم يندب إلى الوضع عنه ويعد على ذلك الخير والثواب الجزيل ، فقال : { وَأَن تَصَدَّقُواْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي وأن تتركوا رأس المال بالكلية وتضعوه عن المدين .(1/308)
وقد وردت الأحاديث من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك .
فالحديث الأول عن أبي أمامة أسعد بن زرارة ، قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من سرّه أن يظله الله يوم لا ظل إلا ظله فلييسر على معسر أو ليضع عنه » حديث آخر : عن محمد بن كعب القرظي أن أبا قتادة كان له دين على رجل ، وكان يأتيه يتقاضاه فيختبىء منه ، فجاء ذات يوم فخرج صبي فسأله عنه ، فقال : نعم هو في البيت يأكل خزيرة ، فناداه فقال : يا فلان اخرج فقد اخبرت أنك ها هنا ، فخرج إليه فقال : ما يُغَيبك عني؟ فقال : إني معسر وليس عندي ، قال : آلله إنك معسر؟ قال : نعم . فبكى أبو قتادة ، ثم قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من نفّس عن غريمه أو محا عنه كان في ظل العرش يوم القيامة » حديث آخر : عن حذيفة بن اليمان قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتى الله بعبد من عبيده يوم القيامة قال : ماذا عملت لي في الدنيا؟ فقال : ما عملت لك يا رب مثقال ذرة في الدنيا أرجوك بها - قالها ثلاث مرات - قال العبد عند آخرها : يا رب إنك كنت أعطيتني فضل مال ، وكنتُ رجلاً أبايع الناس ، وكان من خلقي الجواز ، فكنت أيسّر على الموسر وأنظر المعسر ، فقال فيقول الله عزّ وجلّ : أنا أحق من ييسر ، أدخل الجنة » ولفظ البخاري عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « كان تاجر يداين الناس ، فإذا رأى معسراً قال لفتيانه : تجاوزوا عنه لعل الله يتجاوز عنا ، فتجاوز الله عنه » حديث آخر : عن عبد الله بن سهل بن حنيف أن سهلاً حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من أعان مجاهداً في سبيل الله أو غازياً أو غارماً في عسرته أو مكاتباً في رقبته أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله » .
حديث آخر : أخرج مسلم في صحيحه من حديث عبادة بن الصامت قال : خرجت أنا وأبي نطلب العلم في هذا الحي من الأنصار قبل أن يهلكوا ، فكان أول من لقينا ( أبا اليسر ) صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعه غلام له ، معه ضَمامة ( مجموعة ) من صحف ، وعلى أبي اليسر بردة ومعافري ، وعلى غلامه بردة ومعافري ، فقال له أبي : يا عم ، إني أرى في وجهك سَعْفة من غضب ، قال : أجل كان لي على فلان بن فلان الرامي مال ، فأتيت أهله فسلمت فقلت أثَمَّ هو؟ قالوا : لا ، فخرج علي ابن له جَفْر فقلت : أين ابوك؟ فقال : سمع صوتك فدخل أريكة أمي ، فقلت : اخرج إليَّ فقد علمت أين أنت ، فخرج فقلت : ما حملك على أن اختبأت مني؟ قال : أنا والله أحدثك ثم لا أكذبك ، خشيت والله أن أحدثثك فأكذبك أو أعدك فأخلفك ، وكنت صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم وكنت والله معسراً .(1/309)
قال قلت : آلله ، قال : آلله؟ ثم قال : فأتى بصحيفته فمحاها بيده ثم قال : فإن وجدت قضاء فاقضني ، وإلا فأنت في حل ، فأشهدُ : أبصرَ عيناي هاتان - ووضع أصبعيه على عينيه - وسمع أذناي هاتان ووعاه قلبي - وأشار إلى نياط قلبه - رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول : « من أنظر معسراًَ أو وضع عنه أظله الله في ظله » .
حديث آخر : عن ابن عباس قال : خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى المسجد وهو يقول بيده هكذا - وأومأ أبو عبد الرحمن بيده إلى الأرض - : « من أنظر معسراً أو وضع عنه وقاه الله من فيح جهنم ، ألا إن عمل الجنة حَزْن بربوة - ثلاثاً - ألا إن عمل النار سهل بسهوة ، والسعيد من وقي الفتن وما من جرعة أحب إلى الله من جرعة غيظ يكظمها عبد ، ما كظمها عبد لله إلا ملأ الله جوفه إيماناً » .
ثم قال تعالى يعظ عباده ويذكرهم وزوال الدنيا وفناء ما فيها من الأموال وغيرها ، وإتيان الآخرة والرجوع إليه تعالى ، ومحاسبته تعالى خلقه على ما عملوا ومجازاته إياهم بما كسبوا من خير وشر ويحذرهم عقوبته فقال : { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } . وقد روي أن هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن العظيم ، فقال سعيد بن جبير : آخر ما نزل من القرآن كله : { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } ، وعاش النبي بعد نزول هذه الآية تسع ليال ، ثم مات يوم الاثنين لليلتين خلتا من ربيع الأول . وعن عبد الله بن عباس قال : آخر شيء نزل من القرآن : { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } وقال ابن جريج ، قال ابن عباس : آخر آية نزلت : { واتقوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى الله } الآية . قال ابن جريج : يقولون إن النبي صلى الله عليه وسلم عاش بعدها تسع ليال وبدىء يوم السبت ومات يوم الاثنين .(1/310)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا فَإِنْ كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا وَلَا تَسْأَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَى أَجَلِهِ ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلَّا تَكْتُبُوهَا وَأَشْهِدُوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ وَلَا يُضَارَّ كَاتِبٌ وَلَا شَهِيدٌ وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (282)
هذه الآية الكريمة أطول آية في القرآن العظيم ، وقد قال الإمام أبو جعفر بن جرير عن سعيد بن المسيب أنه بلغه : أن أحدث القرآن بالعرش آية الدين .
فقوله تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه } ، هذا إرشاد منه تعالى لعباده المؤمنين ، إذا تعاملوا بمعاملات مؤجلة أن يكتبوها ، ليكون ذلك أحفظ لمقدارها وميقاتها وأضبط للشاهد فيها ، وقد نبّه على هذا في آخر الآية حيث قال : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا } ، وقال مجاهد عن ابن عباس في قوله : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى فاكتبوه } ، قال : أنزلت في السلم إلى أجل معلوم ، وقال قتادة عن ابن عباس : أشهد أن السلف المضمون إلى أجل مسمى أن الله أحله وأذن فيه ، ثم قرأ : { ياأيها الذين آمنوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إلى أَجَلٍ مُّسَمًّى } رواه البخاري . وثبت في الصحيحين عن ابن عباس قال : قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة وهم يسلفون في الثمار السنة والسنتين والثلاث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أسلف فليسلف في كيل معلوم ووزن معلوم إلى أجل معلوم » ، وقوله : { فاكتبوه } أمر منه تعالى بالكتابة للتوثقة والحفظ ، فإن قيل : فقد ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن عمر قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إنا أمة أمية لا نكتب ولا نحسب » فما الجمع بينه وبين الأمر بالكتابة؟ فالجواب أن الدِّين من حيث هو غير مفتقر إلى كتابة أصلاً ، لأن كتاب الله قد سهل الله ويسر حفظه على الناس ، والسنن أيضاً محفوظة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، والذي أمر الله بكتابته إنما هو أشياء جزئية تقع بين الناس ، فأمروا أمر إرشاد لا أمر إيجاب ، كما ذهب إليه بعضهم . قال ابن جريج : من ادّان فليكتب ومن ابتاع فليُشْهد ، وقال قتادة : ذكر لنا أن ( أبا سليمان المرعشي ) كان رجلاً صحب كعباً فقال ذات يوم لأصحابه : هل تعلمون مظلوماً دعا ربه فلم يستجب له؟ فقالوا : وكيف يكون ذلك؟ قال : رجل باع بيعاً إلى أجل فلم يُشْهد ولم يكتب ، فلما حل ماله جحده صاحبه فدعا ربه فلم يستجب له لأنه قد عصى ربه ، وقال الحسن وابن جريج : كان ذلك واجباً ثم نسخ بقوله : « فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ » [ البقرة : 283 ] . والدليل على ذلك أيضاً الحديث الذي حكي عن شرع من قبلنا مقرراً في شرعنا ولم ينكر عدم الكتابة والإشهاد .
قال الإمام أحمد عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنه ذكر أن رجلاً من بني إسرائيل سأل بعض بني إسرائيل أن يسلفه ألف دينار ، فقال : ائتني بشهداء أشهدهم؟ قال : كفى بالله شهيداً .(1/311)
قال : ائتني بكفيل ، قال : كفى بالله كفيلاً ، قال : صدقت فدفعها إليه إلى أجل مسمى ، فخرج في البحر فقضى حاجته ، ثم التمس مركباً يقدم عليه للأجل الذي أجَّله فلم يجد مركباً ، فأخذ خشبة فنقرها فأدخل فيها ألف دينار وصحيفة معها إلى صاحبها ، ثم زجَّج موضعها ثم أتى بها البحر ، ثم قال : اللهم إنك قد علمت أني استسلفت فلاناً ألف دينار فسألتي كفيلاً فقلت : كفى بالله كفيلاً فرضي بذلك ، وسألني شهيداً فقلت : كفى بالله شهيداً فرضي بذلك ، وإني قد جهدت أن أجد مركباً أبعث بها إليه بالذي أعطاني فلم أجد مركباً وإني أستودعتكها فرمى بها في البحر حتى ولجت فيه ثم انصرف ، وهو في ذلك يطلب مركباً إلى بلده فخرج الرجل الذي كان أسلفه ينظر لعل مركباً تجيئه بماله ، فإذا بالخشبة التي فيها المال فأخذها لأهل حطباً ، فلما كسرها وجد المال والصحيفة ، ثم قدم الرجل الذي كان تسلف منه فأتاه بالف دينار وقال : والله ما زلت جاهداً في طلب مركب لآتيك بمالك فما وجدت مركباً قبل الذي أتيت فيه . قال : هل كنت بعثت إليَّ بشيء؟ قال : ألم أخبرك أني لم أجد مركباً قبل هذا الذي جئت فيه؟ قال : فإن الله قد أدى عنك الذي بعثت به في الخشبة فانصرف بألفك راشداً .
وقوله تعالى : { وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بالعدل } أي بالقسط والحق ولا يجر في كتابته على أحد ، ولا يكتب إلا ما اتفقوا عليه من غير زيادة ولا نقصان . وقوله : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ } أي ولا يمتنع من يعرف الكتابة إذا سئل أن يكتب للناس ولا ضرورة عليه في ذلك ، فكما علَّمه الله ما لم يكن يعلم فليتصدق على غيره ممن لا يحسن الكتابة ، وليكتب كما جاء في الحديث : « إن من الصدقة أن تعين صانعاً أو تصنع لأخرق » ، وفي الحديث الآخر : « من كتم علماً يعلمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار » ، وقال مجاهد وعطاء : واجب على الكاتب أن يكتب ، وقوله : { وَلْيُمْلِلِ الذي عَلَيْهِ الحق وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } ، أي وليملل المدين على الكاتب ما في ذمته من الدين وليتق الله في ذلك ، { وَلاَ يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً } أي لا يكتم منه شيئاً ، { فَإن كَانَ الذي عَلَيْهِ الحق سَفِيهاً } محجوراً عليه بتبذيره ونحوه { أَوْ ضَعِيفاً } أي صغيراً أو مجنوناً { أَوْ لاَ يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ } إما لعيّ أو جهل بموضع صواب ذلك من خطئه { فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بالعدل } .
وقوله تعالى : { واستشهدوا شَهِيدَيْنِ مِّن رِّجَالِكُمْ } أمر بالاستشهاد مع الكتابة لزيادة التوثقة ، { فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وامرأتان } ، وهذا إنما يكون في الأموال وما يقصد به المال ، وإنما أقيمت المرأتان مقام الرجل لنقصان عقل المرأة كما قال مسلم في صحيحه عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال :(1/312)
« » يا معشر النساء تصدقن وأكثرن الاستغفار فإني رأيتكن أكثر أهل النار « فقالت امرأة منهن جزلة : وما لنا يا رسول الله أكثر أهل النار؟ قال : » تكثرن اللعن وتكفرن العشير ، ما رأيت من ناقصات عقل ودين أغلب لذي لب منكن « ، قالت : يا رسول الله ما نقصان العقل والدين؟ قال : » أما نقصان عقلها فشهادة امرأتين تعدل شهادة رجل فهذا نقصان العقل ، وتمكث الليالي لا تصلي وتفطر في رمضان فهذا نقصان الدين « » .
وقوله تعالى : { مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشهدآء } فيه دلالة على اشتراط العدالة في الشهود ، وهذا مقيَّد حَكَم به الشافعي على كل مطلق في القرآن من الأمر بالإشهاد من غير اشتراط ، وقد استدل من رد المستور بهذه الآية الدالة على أن يكون الشاهد عدلاً مرضياً . وقوله : { أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا } يعني المرأتين إذا نسيت الشهادة { فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الأخرى } أي يحصل لها ذكر بما وقع به من الإشهاد .
وقوله تعالى : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ } ، قيل : معناه إذا دعوا للتحمل فعليهم الإجابة ، وهو قول قتادة والربيع ، وهذا كقوله : { وَلاَ يَأْبَ كَاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ الله فَلْيَكْتُبْ } ومن هاهنا استفيد أن تحمل الشهادة فرض كفاية ، قيل : هو مذهب الجمهور والمراد بقوله : { وَلاَ يَأْبَ الشهدآء إِذَا مَا دُعُواْ } للأداء لحقيقة قوله : { الشهدآء } والشاهد حقيقة فيمن تحمل فإذا دعي لأدائها فعليه الإجابة إذا تعينت ، وإلا فهو فرض كفاية والله أعلم ، وقال مجاهد : إذا دعيت لتشهد فأنت بالخيار ، وإذا شهدت فدعيت فأجب ، وقد ثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ألا أخبركم بخير الشهداء؟ الذي ياتي بشهادته قبل أن يُسْألها » ، فأما الحديث الآخر في الصحيحين : « ألا أخبركم بشر الشهداء؟ الذين يشهدون قبل أن يستشهدوا » ، وكذا قوله : « ثم يأتي قوم تسبق أيمانهم شهادتهم وتسبق شهادتهم أيمانهم » ، وفي رواية : « ثم يأتي قوم يشهدون ولا يستشهدون » فهؤلاء شهود الزور .
وقوله تعالى : { وَلاَ تسأموا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَو كَبِيراً إلى أَجَلِهِ } هذا من تمام الإرشاد ، وهو الأمر بكتابة الحق صغيراً كان أو كبيراً ، فقال : { وَلاَ تسأموا } أي لا تملوا أن تكبوا الحق على أي حال كان من القلة والكثرة إلى أجله . وقوله : { ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ الله وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ وأدنى أَلاَّ ترتابوا } أي هذا الذي أمرناكم به من الكتابة للحق إذا كان مؤجلاً ، هو { أَقْسَطُ عِندَ الله } أي أعدل ، { وَأَقْومُ لِلشَّهَادَةِ } أي أثبت للشاهد إذا وضع خطه ثم رآه تذكر به الشهادة لاحتمال أنه لو لم يكتبه أن ينساه كما هو الواقع غالباً ، { وأدنى أَلاَّ ترتابوا } وأقرب إلى عدم الريبة بل ترجعون عند التنازع إلى الكتاب الذي كتبتموه فيفصل بينكم بلا ريبة .(1/313)
وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً تُدِيرُونَهَا بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوهَا } أي إذا كان البيع بالحاضر يداً بيد فلا بأس بعدم الكتابة لانتفاء المحذور في تركها .
فأما الإشهاد على البيع فقد قال تعالى : { وأشهدوا إِذَا تَبَايَعْتُمْ } يعني أشهدوا على حقكم إذا كان فيه أجل أو لم يكن فيه أجل ، فأشهدوا على حقكم على كل حال ، وقال الشعبي والحسن : هذا الأمر منسوخ بقوله : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } [ البقرة : 283 ] ، وهذا الأمر محمول عند الجمهور على الإرشاد والندب لا على الوجوب والدليل على ذلك حديث خزيمة بن ثابت الأنصاري « أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاع فرساً من أعرابي فاستتبعه النبي صلى الله عليه وسلم ليقضيه ثمن فرسه ، فأسرع النبي صلى الله عليه وسلم وأبطأ الأعرابي فطفق رجال يعترضون الأعرابي فيساومونه بالفرس ولا يشعرون أن النبي صلى الله عليه وسلم ابتاعه ، حتى زاد بعضهم الأعرابي في السوم على ثمن الفرس الذي ابتاعه النبي صلى الله عليه وسلم ، فنادى الأعربي النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إن كنت مبتاعاً هذا الفرس فابتعه ، وإلا بعته ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم حين سمع نداء الأعرابي قال : أوليس قد ابتعته منك؟ قال الأعرابي : لا والله ما بعتك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » بل قد ابتعته منك « فطفق الناس يلوذون بالنبي صلى الله عليه وسلم والأعرابي وهما يتراجعان فطفق الأعرابي يقول : هلم شهيداً يشهد أني بايعتك . فمن جاء من المسلمين قال للأعرابي : ويلك إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يكن يقول إلا حقاً ، حتى جاء خزيمة فاستمع لمراجعة النبي صلى الله عليه وسلم ومراجعة الأعرابي يقول هلم شهيداً يشهد أني بايعتك ، قال خزيمة : أنا أشهد أنك قد بايعته ، فأقبل النبي صلى الله عليه وسلم على خزيمة فقال » بم تشهد «؟ فقال : بتصديقك يا رسول الله ، فجعل رسول الله صلى الله عليه وسلم شهادة خزيمة بشهادة رجلين » ولكن الاحتياط هو الإرشاد لما رواه الإمامان الحافظ ابن مردويه والحاكم في مستدركه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ثلاثة يدعون الله فلا يستجاب لهم : رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل دفع مال يتيم قبل أن يبلغ ، ورجل أقرض رجلا مالاً فلم يشهد » .
وقوله تعالى : { وَلاَ يُضَآرَّ كَاتِبٌ وَلاَ شَهِيدٌ } قيل : معناه لا يضار الكاتب ولا الشاهد فيكتب هذا خلاف ما يُمْلَى ، ويشهد هذا بخلاف ما سمع ، أو يكتمها بالكلية ، وهو قول الحسن وقتادة ، وقيل : معناه لا يُضِرُّ بهما .(1/314)
وقوله تعالى : { وَإِن تَفْعَلُواْ فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ } أي إن خالفتم ما أمرتم به ، أو فعلتم ما نهيتم عنه فإنه فسق كائن بكم ، أي لازم لكم لا تحيدون عنه ولا تنفكون عنه ، وقوله : { واتقوا الله } أي خافوه وراقبوه واتبعوا أمره واتركوا زجره ، { وَيُعَلِّمُكُمُ الله } كقوله { يِا أَيُّهَا الذين آمنوا إِن تَتَّقُواْ الله يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً } [ الأنفال : 29 ] ، وكقوله : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَآمِنُواْ بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ } [ الحديد : 28 ] ، وقوله : { والله بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ } أي هو عالم بحقائق الأمور ومصالحها وعواقبها فلا يخفى عليه شيء من الأشياء ، بل علمه محيط بجميع الكائنات .(1/315)
وَإِنْ كُنْتُمْ عَلَى سَفَرٍ وَلَمْ تَجِدُوا كَاتِبًا فَرِهَانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضًا فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمَانَتَهُ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)
يقول تعالى : { وَإِن كُنتُمْ على سَفَرٍ } أي مسافرين وتداينتم إلى أجل مسمى ، { وَلَمْ تَجِدُواْ كَاتِباً } يكتب لكم ، قال ابن عباس : أو وجدوه ولم يجدوا قرطاساً أو دواة أو قلماً { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } ، أي فليكن بدل الكتابة رهان مقبوضة أي في يد صاحب الحق وقد استدل بقوله : { فَرِهَانٌ مَّقْبُوضَةٌ } ، على أن الرهن لا يلزم إلا بالقبض كما هو مذهب الشافعي والجمهور ، واستدل بها آخرون على أنه لا بد أن يكون الرهن مقبوضاً في يد المرتهن وهو رواية عن الإمام أحمد ، وذهب إليه طائفة ، واستدل آخرون من السلف بهذه الآية على أنه لا يكون الرهن مشروعاً إلا في السفر ، قاله مجاهد وغيره . وقد ثبت في الصحيحين عن أنس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم توفي ودرعه مرهونة عند يهودي على ثلاثين وسقاً من شعير رهنها قوتاً لأهله .
وقوله تعالى : { فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُم بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الذي اؤتمن أَمَانَتَهُ } ، روي عن أبي سعيد الخدري أنه قال : هذه نسخت ما قبلها ، وقال الشعبي : إذا ائتمن بعضكم بعضاً فلا بأس أن لا تكتبوا أو لا تشهدوا ، وقوله : { وَلْيَتَّقِ الله رَبَّهُ } يعني المؤتمن كما جاء في الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن سمرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « على اليد ما أخذت حتى تؤديه » .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة } أي لا تخفوها وتغلُّوها ولا تظهروها . قال ابن عباس وغيره : شهادة الزور من أكبر الكبائر وكتمانها كذلك ، ولهذا قال : { وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ } قال السُّدي : يعن فاجر قلبه ، وهذه كقوله تعالى : { وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ الله إِنَّآ إِذَاً لَّمِنَ الآثمين } [ المائدة : 106 ] وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بالقسط شُهَدَآءَ للَّهِ وَلَوْ على أَنْفُسِكُمْ أَوِ الوالدين والأقربين إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقِيراً فالله أولى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الهوى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ الله كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً } [ النساء : 135 ] وهكذا قال هاهنا : { وَلاَ تَكْتُمُواْ الشهادة وَمَن يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ والله بِمَا تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ } .(1/316)
لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِنْ تُبْدُوا مَا فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (284)
يخبر تعالى أن له ملك السماوات والأرض وما فيهن وما بينهن ، وأنه المطلع على ما فيهن لا تخفى عليه الظواهر ولا السرائر والضمائر وإن دقت خفيت ، وأخبر أنه سيحاسب عباده على ما فعلوه وما أخفوه في صدورهم ، كما قال تعالى : { قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ الله } [ آل عمران : 29 ] وقال : { يَعْلَمُ السر وَأَخْفَى } [ طه : 7 ] ، والآيات في ذلك كثيرة جداً ، وقد أخبر في هذه بمزيد على العلم وهو ( المحاسبة ) على ذلك ، ولهذا لما نزلت هذه اظلاية اشتد ذلك على الصحابة رضي الله عنهم وخافوا منها ومن محاسبة الله لهم على جليل الأعمال وحقيرها ، وهذا من شدة إيمانهم وإيقانهم .
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } اشتد ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فأتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم جثوا على الركب وقالوا : يا رسول الله ، كُلِّفنا من الأعمال ما نطيق الصلاة والصيام والجهاد والصدقة ، وقد أنزلت عليك هذه الآية ولا نطيقها ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتريدون أن تقولوا كما قال أهل الكتابين من قبلكم : سمعنا وعصينا؟ بل قولوا سمعنا وأطعنا غفرانك ربنا وإليك المصير » ، فلما أقرَّ بها القوم وذلَّت بها ألسنتهم أنزل الله في أثرها : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير } [ البقرة : 285 ] ، فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل قوله : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] إلى آخره ، ورواه مسلم عن أبي هريرة ولفظه : فلما فعلوا ذلك نسخها الله فأنزل الله : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } [ البقرة : 286 ] قال : نعم ، { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } [ البقرة : 286 ] ، قال : نعم { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } [ البقرة : 286 ] ، قال : نعم { واعف عَنَّا واغفر لَنَا وارحمنآ أَنتَ مَوْلاَنَا فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } [ البقرة : 286 ] قال : نعم .
طريق أخرى : قال ابن جرير عن سعيد بن مرجانة سمعه يحدث أنه بينما هو جالس مع عبد الله بن عمر تلا هذه الآية : { للَّهِ ما فِي السماوات وَمَا فِي الأرض وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله فَيَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ } الآية ، فقال : والله لئن واخذنا الله بهذا لنهلكن ، ثم بكى ابن عمر حتى سمع نشيجه ، قال ابن مرجانة : فقمت حتى أتيت ابن عباس ، فذكرت له ما قال ابن عمر وما فعل حين تلاها فقال ابن عباس : يغفر الله لأبي عبد الرحمن ، لعمري لقد وجد المسلمون منها حين أنزلت مثل ما وجد عبد الله بن عمر فأنزل الله بعدها :(1/317)
{ لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] إلى آخر السورة ، قال ابن عباس فكانت هذه الوسوسة مما لا طاقة للمسلمين بها ، وصار الأمر إلى أن قضى الله عزّ وجلّ أن للنفس ما كسبت وعليها ما اكتسبت في القول والفعل .
طريق أخرى : عن سالم أن أباه قرأ : { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله } فدمعت عيناه ، فبلغ صنيعه ابن عباس فقال : يرحم الله أبا عبد الرحمن لقد صنع كما صنع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أنزلت فنسختها الآية التي بعدها : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } [ البقرة : 286 ] ، وقد ثبت بما رواه الجماعة في كتبهم الستة عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله تجاوز لي عن أمتي ما حدّثت به أنفسها ما لم تكلم أو تعمل » .
وفي الصحيحين عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قال الله إذا همَّ عبيد بسيئة فلا تكتبوها عليه ، فإن عملها فاكتبوها سيئة ، وإذا هم بحسنة فلم يعملها فاكتبوها حسنة فإن عملها فاكتبوها عشراً » وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إذا أحسن أحد إسلامه فإن له بكل حسنة يعملها تكتب له بعشر أمثالها إلى سبعمائة ضعف ، وكل سيئة تكتب بمثلها حتى يلقى الله عزّ وجلّ » وقال مسلم عن ابن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تعالى قال : « إن الله كتب الحسنات والسيئات - ثم بيَّن ذلك - فمن همَّ بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة ، وإن همَّ بها فعملها كتبها الله عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف أضعاف كثيرة ، وإن همَّ بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة وإن هم بها فعملها كتبها الله عنهد سيئة واحدة » وروي عن أبي هريرة قال : « جاء ناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسألوه فقالوا : إنا نجد في أنفسنا ما يتعاظم أحدنا أن يتكلم به ، قال : » وقد وجدتموه؟ « قالوا : نعم ، قال : » ذاك صريح الإيمان « . وسئل رسول الله عن الوسوسة ، قال : » تلك صريح الإيمان « .
وروي ابن جرير عن مجاهد والضحّاك أنه قال : هي محكمة لم تنسخ ، واختار ابن جرير ذلك واحتج على أنه لا يلزم من المحاسبة المعاقبة ، وأنه تعالى قد يحاسب ويغفر ، وقد يحاسب ويعاقب ، بالحديث الذي رواه قتادة عن صفوان بن محرز قال : بينما نحن نطوف بالبيت مع عبد الله بن عمر وهو يطوف إذا عرض له رجل فقال : يا ابن عمر ، ما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في النجوى؟ قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :(1/318)
« يدنو المؤمن من ربه عزّ وجلّ حتى يضع عليه كنفه فيقرره بذنوبه فيقول له : هل تعرف كذا؟ فيقول : رب أعرف مرتين ، حتى إذا بلغ به ما شاء الله أن يبلغ ، قال فإني قد سترتها عليك في الدنيا وإني أغفرها لك اليوم ، قال : فيعطى صحيفة حسناته أو كتابه بيمينه ، وأما الكفار والمنافقون فينادى بهم على رؤوس الأشهاد { هؤلاء الذين كَذَبُواْ على رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ الله عَلَى الظالمين } [ هود : 18 ] » .(1/319)
آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَقَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285) لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا لَهَا مَا كَسَبَتْ وَعَلَيْهَا مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنَا لَا تُؤَاخِذْنَا إِنْ نَسِينَا أَوْ أَخْطَأْنَا رَبَّنَا وَلَا تَحْمِلْ عَلَيْنَا إِصْرًا كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنَا رَبَّنَا وَلَا تُحَمِّلْنَا مَا لَا طَاقَةَ لَنَا بِهِ وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلَانَا فَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (286)
ذكر الأحاديث الواردة في فضل هاتين الآيتين الكريمتين نفعنا الله بهما
الحديث الأول : قال البخاري عن ابن مسعود ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من قرأ بالآيتين - من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه » .
الحديث الثاني : قال الإمام أحمد عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعطيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش لم يعطهن نبي قبلي » .
الحديث الثالث : قال مسلم عن الزبير بن عدي عن طلحة عن مرة عن عبد الله قال : « لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى وهي في السماء السابعة إليها ينتهي ما يعرج من الأرض فيقبض منها ، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها قال : { إِذْ يغشى السدرة مَا يغشى } [ النجم : 16 ] قال : فراش من ذهب قال : وأعطي رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاثاً : أعطي الصلوات الخمس ، وأعطي خواتيم سورة البقرة ، وغفر لمن لم يشرك بالله من أمته شيئاً المقحمات » .
الحديث الرابع : قال أحمد عن عقبة بن عامر الجهني ، قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اقرأ الآيتين من آخر سورة البقرة فإني أعطيتهما من كنز تحت العرش » .
الحديث الخامس : قال ابن مردويه عن حذيفة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فضلنا على الناس بثلاث : أوتيت هذه الآيات من آخر سورة البقرة من بيت كنز تحت العرش لم يعطها أحد قبلي ولا يعطاها أحد بعدي » ، الحديث .
الحديث السادس : قال ابن مردويه عن الحارث عن علي قال : لا أرى أحداً عقل الإسلام ينام حتى يقرأ آية الكرسي وخواتيم سورة البقرة فإنها من كنز أعطيه نبيكم صلى الله عليه وسلم من تحت العرش .
الحديث السابع : قال الترمذي عن النعمان بن بشير عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله كتب كتاباً قبل أن يخلق السماوات والأرض بألفي عام أنزل منه آيتين ختم بهما سورة البقرة ولا يقرأ بهن في دار ثلاث ليال فيقربها شيطان » ، ثم قال : هذا حديث غريب .
الحديث الثامن : قال ابن مردويه عن ابن عباس قال : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قرأ آخر سورة البقرة وآية الكرسي ضحك وقال : » إنهما من كنز الرحمن تحت العرش « وإذا قرأ : { مَن يَعْمَلْ سواءا يُجْزَ بِهِ } [ النساء : 123 ] ، { وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سعى وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يرى ثُمَّ يُجْزَاهُ الجزآء الأوفى } [ النجم : 39-41 ] استرجع واستكان » .
الحديث التاسع : قال ابن مردويه عن معقل بن يسار قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/320)
« أعطيت فاتحة الكتاب وخواتيم سورة البقرة من تحت العرش والمفصل نافلة » .
الحديث العاشر : قد تقدم في فضائل الفاتحة عن ابن عباس قال : « بينا رسول الله صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل إذ سمع نقيضاً فوقه فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال : هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط ، قال فنزل منه ملك فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال له : ابشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبي قبلك ، فاتحة الكتاب ، وخواتيم سورة البقرة ، لن تقرأ حرفاً منهما إلأ أوتيته » رواه مسلم والنسائي .
فقوله تعالى : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } إخبار عن النبي صلى الله عليه وسلم بذلك . روى الحاكم في مستدركه عن أنس بن مالك قال : لما نزلت هذه الآية على النبي صلى الله عليه وسلم : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ } قال النبي صلى الله عليه وسلم : « حق له أن يؤمن » ثم قال الحاكم صحيح الإسناد ولم يخرجاه .
وقوله تعالى : { والمؤمنون } عطف على الرسول ، ثم أخبر عن الجميع ، فقال : { كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ } فالمؤمنون يؤمنون بأن الله واحد أحد ، فرد صمد ، لا إله غيره ولا رب سواه ، ويصدقون بجميع الأنبياء والرسل والكتب المنزلة من السماء على عباد الله المرسلين والأنبياء ، لا يفرقون بين أحد منهم فيؤمنون ببعض ويكفرون ببعض ، بل الجميع عندهم صادقون بارُّون راشدون مهديُّون هادون إلى سبيل الخير ، وإن كان بعضهم ينسخ شريعة بعض بإذن الله حتى نسخ الجميع بشرع محمد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين الذي تقوم الساعة على شريعته ولا تزال طائفة من أمته على الحق ظاهرين ، وقوله : { وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا } أي سمعنا قولك يا ربنا وفهمناه وقمنا به وامتثلنا العمل بمقتضاه ، { غُفْرَانَكَ رَبَّنَا } سؤال للمغفرة والرحمة واللطف .
قال ابن جرير : لما نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم : { آمَنَ الرسول بِمَآ أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِن رَّبِّهِ والمؤمنون كُلٌّ آمَنَ بالله وملائكته وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ وَقَالُواْ سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا غُفْرَانَكَ رَبَّنَا وَإِلَيْكَ المصير } قال جبريل : إن الله قد أحسن الثناء عليك وعلى أمتك فسل تعطه ، فسأل : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } إلى آخر الآية ، وقوله : { لاَ يُكَلِّفُ الله نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا } أي لا يكلف أحداً فوق طاقته ، وهذا من لطفه تعالى بخلقه ورأفته بهم وإحسانه إليهم ، وهذه هي الناسخة الرافعة لما كان أشفق منه الصحابة في قوله : { وَإِن تُبْدُواْ مَا في أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحَاسِبْكُمْ بِهِ الله } [ البقرة : 284 ] ، أي هو وإن حاسب وسأل لكن لا يعذب إلا بما يملك الشخص دفعه ، فأما ما لا يملك دفعه من وسوسة النفس وحديثها فهذا لا يكلف به الإنسان ، وكراهية الوسوسة السيئة من الإيمان ، وقوله : { لَهَا مَا كَسَبَتْ } أي من خير ، { وَعَلَيْهَا مَا اكتسبت } أي من شر ، وذلك في الأعمال التي تدخل تحت التكليف .(1/321)
ثم قال تعالى مرشداً عباده إلى سؤاله وقد تكفل لهم بالإجابة كما أرشدهم وعلَّمهم أن يقولوا : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } أي إن تركنا فرضنا على جهة النسيان ، أو فعلنا حراماً كذلك ، أو أخطأنا أي الصواب في العمل جهلاً منه بوجهه الشرعي . وعن ابن عباس قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله وضع عن أمتي الخطأ والنسيان وما استكرهوا عليه » وعن أم الدرداء عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله تجاوز لأمتي عن ثلاث : الخطأ ، والنسيان والاستكراه » قال أبو بكر فذكرت ذلك للحسن ، فقال : أجل أما تقرأ بذلك قرآنا : { رَبَّنَا لاَ تُؤَاخِذْنَا إِن نَّسِينَآ أَوْ أَخْطَأْنَا } . وقوله تعالى : { رَبَّنَا وَلاَ تَحْمِلْ عَلَيْنَآ إِصْراً كَمَا حَمَلْتَهُ عَلَى الذين مِن قَبْلِنَا } أي لا تكلفنا من الأعمال الشاقة وإن أطقناها ، كما شرعته للأمم الماضية قلنا من الأغلال والآصار ، التي كانت عليهم التي بعثت نبيك محمداً صلى الله عليه وسلم نبي الرحمة بوضعه ، في شرعه الذي أرسلته به من الدين الحنيفي السهل السمح . وجاء في الحديث من طرق عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « بعثت بالحنيفية السمحة » .
وقوله تعالى : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } أي من التكليف والمصائب والبلاء لا تبتلنا بما لا قبل لنا به ، وقد قال مكحول في قوله : { رَبَّنَا وَلاَ تُحَمِّلْنَا مَا لاَ طَاقَةَ لَنَا بِهِ } قال : العزبة والغلمة .
وقوله تعالى : { واعف عَنَّا } أي فيما بيننا وبينك مما تعلمه من تقصيرنا وزللنا ، { واغفر لَنَا } أي فيما بيننا وبين عبادك فلا تظهرهم على مساوينا وأعمالنا القبيحة ، { وارحمنآ } أي فيما يستقبل فلا توقعنا بتوفيقك في ذنب آخر ، ولهذا قالوا : إن المذنب محتاج إلى ثلاثة أشياء : أن يعفو الله عنه فيما بينه وبينه ، وأن يستره عن عباده فلا يفضحه به بينهم ، وأن يعصمه فلا يوقعه في نظيره .
وقوله تعالى : { أَنتَ مَوْلاَنَا } أي أنت ولينا وناصرنا وعليك توكلنا ، وأنت المستعان وعليك التكلان ، ولا حول لنا ولا قوة إلا بك { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } أي الذين جحدوا دينك وأنكروا وحدانيتك ورسالة نبيك ، وعبدوا غيرك وأشركوا معك من عبادك ، فانصرنا عليهم .
قال ابن جرير عن أبي إسحاق : إن معاذاً رضي الله عنه كان إذا فرغ من هذه السورة { فانصرنا عَلَى القوم الكافرين } قال : آمين .(1/322)
الم (1) اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَأَنْزَلَ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدًى لِلنَّاسِ وَأَنْزَلَ الْفُرْقَانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (4)
قد ذكرنا الحديث الوارد في ان اسم الله الأعظم في هاتين الآيتين { الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } ، و { الم * الله لا إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } عند تفسير آية الكرسي ، وقد تقدم الكلام على قوله : { الم } في أول سورة البقرة بما أغنى عن إعادته ، وتقدم الكلام على قوله : { الله لاَ إله إِلاَّ هُوَ الحي القيوم } [ البقرة : 255 ] في تفسير آية الكرسي .
وقوله تعالى : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق } يعني نزل عليك القرآن يا محمد بالحق ، أي لا شك فيه ولا ريب بل هو منزل من عند الله ، أنزله بعلمه والملائكة يشهدون ، وكفى بالله شهيداً . وقوله : { مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ } أي من الكتب المنزلة قبله من السماء على عباد الله والأنبياء ، فهي تصدقه بما أخبرت به وبشرت في قديم الزمان ، وهو يصدقها لأنه طابق ما أخبرت به وبشرت من الوعد من الله بإرسال محمد صلى الله عليه وسلم وإنزال القرآن العظيم عليه ، وقوله : { وَأَنزَلَ التوراة } أي على موسى بن عمران ، { والإنجيل } أي على عيسى بن مريم عليهما السلام ، { مِن قَبْلُ } أي من قبل هذا القرآن ، { هُدًى لِّلنَّاسِ } : أي في زمانهما ، { وَأَنزَلَ الفرقان } : وهو الفارق بين الهدى والضلال ، والحق والباطل ، والغي والرشاد ، بما يذكره الله تعالى من الحجج والبينات والدلائل الواضحات ، والبراهين القاطعات ، ويبينه ويوضحه ويفسره ويقرره ويرشد إليه وينبه عليه من ذلك . وقال قتادة والربيع : الفرقان هاهنا القرآن ، واختار ابن جرير أنه مصدر هاهنا لتقدم ذكر القرآن في قوله : { نَزَّلَ عَلَيْكَ الكتاب بالحق } وهو القرآن . وأما ما روي عن أبي صالح : أن المراد بالفرقان هاهنا التوراة ، فضعيف أيضاً ، لتقدم ذكر التوراة ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بِآيَاتِ الله } أي جحدوا بها وأنكروها وردوها بالباطل ، { لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ } : أي يوم القيامة ، { والله عَزِيزٌ } أي منيع الجناب عظيم السلطان ، { ذُو انتقام } : أي ممن كذب بآياته وخالف رسله الكرام وأنبياءه العظام .(1/323)
إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)
يخبر تعالى أنه يعلم غيب السماء والأرض لا يخفى عليه شيء من ذلك ، { هُوَ الذي يُصَوِّرُكُمْ فِي الأرحام كَيْفَ يَشَآءُ } أي يخلقكم في الأرحام كما يشاء من ذكر وأنثى ، وحسن وقبيح ، وشقي وسعيد ، { لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } أي هو الذي خلق وهو المستحق للإلهية ، وحده لا شريك له وله العزة التي لا ترام ، والحكمة والأحكام ، وهذه الآية فيها تعريض بل تصريح بأن عيسى بن مريم عبد مخلوق كما خلق الله سائر البشر ، لأن الله صوره في الرحم وخلقه كما يشاء ، فكيف يكون إلهاً كما زعمته النصارى عليهم لعائن الله!! وقد تقلب في الأحشاء وتنقل من حال إلى حال!؟ كما قال تعالى : { يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ خَلْقاً مِّن بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُمَاتٍ ثَلاَثٍ } [ الزمر : 6 ] .(1/324)
هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ ابْتِغَاءَ الْفِتْنَةِ وَابْتِغَاءَ تَأْوِيلِهِ وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَالرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ (7) رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنَا إِنَّكَ جَامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (9)
يخبر تعالى أن في القرآن آيات محكمات { هُنَّ أُمُّ الكتاب } أي بينات واضحات الدلالة لا التباس فيها على أحد ، ومنه آيات أخر فيها اشتباه في الدلالة على كثير من الناس أو بعضهم ، فمن رد ما اشتبه إلى الواضح منه وحكَّم محكمه على متشابهه عنده فقد اهتدى ، ومن عكس انعكس ، ولهذا قال تعالى : { هُنَّ أُمُّ الكتاب } أي أصله الذي يرجع إليه عند الاشتباه { وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } أي تحتمل دلالتها موافقة المحكم ، وقد تحتمل شيئاً آخر من حيث اللفظُ والتركيبُ لا من حيث المراد ، وقد اختلفوا في المحكم والمتشابه ، فقال ابن عباس : المحكمات ناسخة وحلاله وحرامه وحدوده وأحكامه وما يؤمر به ويعمل به . وقال يحيى بن يعمر : الفرائض والأمر والنهي والحلال والحرام ، وقال سعيد بن جبير : { هُنَّ أُمُّ الكتاب } لأنهن مكتوبات في جميع الكتب ، وقال مقاتل : لأنه ليس من أهل دين إلا يرضى بهن . وقيل في المتشابهات : المنسوخة والمقدم والمؤخر والأمثال فيه والأقسام ، وما يؤمن به ولا يعمل به ، روي عن ابن عباس ، وقيل : هي الحروف المقطعة في أوائل السور قاله مقاتل بن حيان ، وعن مجاهد : المتشابهات يصدق بعضها بعضاً وهذا إنما هو في تفسير قوله : { كِتَاباً مُّتَشَابِهاً مَّثَانِيَ } [ الزمر : 23 ] هناك ذكروا أن المتشابه هو الكلام الذي يكون في سياق واحد ، والمثاني هو الكلام في شيئين متقابلين كصفة الجنة وصفة النار ، وذكر حال الأبرار وحال الفجّار ونحو ذلك ، وأما ها هنا فالمتشابه هو الذي يقابل المحكم ، وأحسن ما قيل فيه هو الذي قدمنا ، وهو الذي نص عليه ابن يسار رحمه الله حيث قال : { مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } فهن حجة الرب وعصمة العباد ودفع الخصوم الباطل ، ليس لهن تصريف ولا تحريف عما وضعن عليه ، قال : والمتشابهات في الصدق ليس لهن تصريف وتحريف وتأويل ، ابتلى الله فيهن العباد كما ابتلاهم في الحلال والحرام ألا يصرفن إلى الباطل ولا يحرفن عن الحق .
ولهذا قال الله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ } أي ضلال وخروج عن الحق إلى الباطل { فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } أي إنما يأخذون منه المتشابه الذي يمكنهم أن يحرفوه إلى مقاصدهم الفاسدة وينزلوه عليها لاحتمال لفظه لما يصرفونه . فأما المحكم فلا نصيب لهم فيه لأنه دامغ لهم وحجة عليهم ، ولهذا قال الله تعالى : { ابتغاء الفتنة } أي الإضلال لأتباعهم ، إيهاما لهم أنهم يحتجون على بدعتهم بالقرآن ، وهو حجة عليهم لا لهم ، كما لو احتج النصارى بأن القرآن قد نطق بأن عيسى روح الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه ، وتركوا الاحتجاج بقول : { إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ } [ الزخرف : 59 ] وبقول : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ }(1/325)
[ آل عمران : 59 ] ، وغير ذلك من الآيات المحكمة المصرحة بأنه خَلْقٌ من مخلوقات الله ، وعبد ورسول من رسل الله .
وقوله تعالى : { وابتغاء تَأْوِيلِهِ } أي تحريفه على ما يريدون ، وقال مقاتل والسدي : يبتغون أن يعلموا ما يكون وما عواقب الأشياء من القرآن ، وقد قال الإمام أحمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : « قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الكتاب وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ } . إلى قوله : { أُوْلُواْ الألباب } فقال : » إذا رأيتم الذين يجادلون فيه فهم الذين عنى الله فاحذروهم « وقد روى هذا الحديث البخاري عند تفسير هذه الآية ومسلم في كتاب القدر من صحيحه وأبو داود في السنة من سننه ثلاثتهم عن القاسم بن محمد عن عائشة رضي الله عنها قالت : » تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { هُوَ الذي أَنزَلَ عَلَيْكَ الكتاب مِنْهُ آيَاتٌ مُّحْكَمَاتٌ } إلى قوله : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « فإذا رأيتم الذين يتبعون ما تشابه منه فأولئك الذين سمَّى الله فاحذروهم » « .
وروى أحمد عن أبي أمامة » عن النبي صلى الله عليه وسلم في قوله تعالى : { فَأَمَّا الَّذِينَ في قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ مَا تَشَابَهَ مِنْهُ } قال : « هم الخوارج » ، وفي قوله تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } [ آل عمران : 106 ] قال : « هم الخوارج » ، وهذا الحديث أقل أقسامه أن يكون موقوفاً من كلام الصحابي ، ومعناه صحيح فإن أول بدعة وقعت في الإسلام فتنة الخوارج ، وكان مبدؤهم بسبب الدنيا حين قسم النبي صلى الله عليه وسلم ( غنائم حنين ) فكأنهم رأوا - في عقولهم الفاسدة - أنه لم يعدل في القسمة ففاجأوه بهذه المقالة ، فقال قائلهم وهو ( ذو الخويصرة ) - بقر الله خاصرته - إعدل فإنك لم تعدل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لقد خبت وخسرت . إن لم أكن أعدل ، أيأمنني على أهل الأرض ولا تأمنوني » ! فلما قفا الرجل استأذن عمر بن الخطاب في قتله ، فقال : « دعه فإنه يخرج من ضئضىء هذا - أي من جنسه - قوم يحقر أحدكم صلاته مع صلاتهم ، وقراءته مع قراءتهم ، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية ، فأينما لقيتموهم فاقتلوهم فإن في قتلهم أجراً لمن قتلهم » ثم كان ظهورهم أيام ( علي بن أبي طالب ) رضي الله عنه وقتلهم بالنهروان ، ثم تشعبت منهم شعوب وقبائل وآراء وأهواء ومقالات ونِحل كثيرة منتشرة ، ثم انبعثت القدرية ، ثم المعتزلة ، ثم الجهمية ، وغير ذلك من البدع التي أخبر عنها الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم في قوله : « » وستفترق هذه الأمة على ثلاث وسبعين فرقة كلها في النار إلا واحدة « ، قالو : ومن يا رسول الله؟ قال : » من كان على ما أنا عليه وأصحابي «(1/326)
أخرجه الحاكم في مستدركه بهذه الزيادة .
وروى الحافظ أبو يعلى ، عن حذيفة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه ذكر : « إنّ في أمتي قوماً يقرؤون القرآن ينثرونه نثر الدَّقل يتأولونه على غير تأويله » .
وقوله تعالى : { وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلاَّ الله } اختلف القراء في الوقف هاهنا ، فقيل على الجلالة كما تقدم عن ابن عباس رضي الله عنه أنه قال : التفسير على أربعة أنحاء ، فتفسير لا يعذر أحد في فهمه وتفسير تعرفه العرب من لغاتها ، وتفسير يعلمه الراسخون في العلم ، وتفسير لا يعلمه إلا الله ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن القرآن لم ينزل ليكذب بعضه بعضاً ، فما عرفتم منه فاعملوا به ، وما تشابه منه فآمنوا به » ، وقال عبد الرزاق : كان ابن عباس يقرأ : { وما يعلم تأويله إلا الله ويقول الراسخون آمنا به } ، وكذا رواه ابن جرير عن عمر بن عبد العزيز ومالك ابن أنس أنهم يؤمنون به ولا يعلمون تأويله ، وحكى ابن جرير أن في قراءة عبد الله بن مسعود : { إن تأويله إلا عند الله ، والراسخون في العلم يقولن آمنا به } واختار ابن جرير هذا القول .
ومنهم من يقف على قوله تعالى : { والراسخون فِي العلم } وتبعهم كثير من المفسرين وأهل الأصول ، وقالوا الخطاب بما لا يفهم بعيد ، وقد روى مجاهد عن ابن عباس أنه قال : أنا من الراسخين الذي يعلمون تأويله ، وقال مجاهد : والراسخون في العلم يعلمون تأويله ويقولون آمنا به ، وكذا قال الربيع بن أنس . وقال محمد بن جعفر بن الزبير : وما يعلم تأويله الذي أراد ما أراد إلا الله والراسخون في العلم يقولون آمنا به ، ثم ردوا تأويل المتشابهات على ما عرفوا من تأويل المحكمة التي لا تأويل لأحد فيها إلا تأويل واحد . فاتسق بقولهم الكتاب وصدق بعضه بعضاً فنفذت الحجة ، وظهر به العذر وزاح به الباطل ودفع به الكفر ، وفي الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم دعا لابن عباس فقال : « اللهم فقهه في الدين وعلمه التأويل » ومن العلماء من فصل في هذا المقام وقال : التأويل يطلق ويراد به في لقرآن معنيان ، أحدهما : التأويل بمعنى حقيقة الشيء وما يؤول أمره إليه؛ ومنه قوله تعالى : { وَقَالَ ياأبت هذا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ } [ يوسف : 100 ] وقوله : { هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ } [ الأعراف : 53 ] أي حقيقة ما أخبروا به من أمر المعاد . فإن أريد بالتأويل هذا فالوقف على الجلالة؛ لأن حقائق الأمور وكنهها لا يعلمه على الجلية إلا الله عزّ وجلّ؛ ويكون قوله { والراسخون فِي العلم } مبتدأ و { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } خبره .(1/327)
وأما إن أريد بالتأويل المعنى الآخر : وهو التفسير والبيان والتعبير عن الشيء كقوله : { نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ } [ يوسف : 36 ] أي بتفسيره ، فإن أريد به هذا المعنى فالوقف على { والراسخون فِي العلم } لأنهم يعلمون ويفهمون ما خوطبوا به بهذا الاعتبار ، وإن لم يحيطوا علماً بحقائق الأشياء على كنه ما هي عليه ، وعلى هذا فيكون قوله : { يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ } حالاً منهم ، وساغ هذا وإن يكون من المعطوف دون المعطوف عليه كقوله : { لِلْفُقَرَآءِ الْمُهَاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ } [ الحشر : 8 ] - إلى قوله - { يَقُولُونَ رَبَّنَا اغفر لَنَا وَلإِخْوَانِنَا } [ الحشر : 10 ] الآية ، وقوله تعالى : { وَجَآءَ رَبُّكَ والملك صَفّاً صَفّاً } [ الفجر : 22 ] أي وجاء الملائكة صفوفاً صفوفاً .
وقوله تعالى - إخباراً عنهم - أنهم يقولون آمنا به أي المتشابه { كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا } أي الجميع من المحكم والمتشابه حق وصدق ، وكل واحد منهما يصدق الآخر ويشهد له ، لأن الجميع من عند الله وليس شيء من عند الله بمختلف ولا متضاد ، كقوله : { أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ القرآن وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ الله لَوَجَدُواْ فِيهِ اختلافا كَثِيراً } [ النساء : 82 ] ، ولهذا قال تعالى : { وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الألباب } أي إنما يفهم ويعقل ويتدبر المعاني على وجهها أولو العقول السليمة والفهوم المستقيمة ، وقد قال ابن أبي حاتم بسنده : حدَّثنا عبد الله بن يزيد - وكان قد أدرك أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم أنَساً وأبا أمامة وأبا الدرداء - أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن الراسخين في العلم فقال : « من برت يمينه ، وصدق لسانه ، واستقام قلبه ، ومن عف بطنه وفرجه ، فذلك من الراسخين في العلم » ، وقال الإمام أحمد بسنده : سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قوماً يتدارؤون فقال : « إنما هلك من كان قبلكم بهذا؛ ضربوا كتاب الله بعضه ببعض وإنما أنزل كتاب الله ليصدق بعضه بعضاً فلا تكذبوا بعضه ببعض . فما علمتم منه فقولوا به ، وما جهلتم فكلوه إلى عالمه » .
وعن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « نزل القرآن على سبعة أحرف ، والمراء في القرآن كفر - قالها ثلاثاً - ما عرفتم منه فاعملوا به وما جهلتم منه فردوه إلى عالمه جل جلاله » وقال ابن المنذر في تفسيره عن نافع بن يزيد قال : الراسخون في العلم المتواضعون لله المتذللون لله في مرضاته ، لا يتعاظمون على من فوقهم ولا يحقرون من دونهم . ثم قال تعالى عنهم مخبراً أنهم دعوا ربهم قائلين : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا } أي لا تملها عن الهدى بعد إذ أقمتها عليه ، ولا تجعلنا كالذين في قلوبهم زيغ ، الذين يتبعون ما تشابه من القرآن ، ولكن ثبتنا على صراطك المستقيم ، ودينك القويم . { وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً } تثبت بها قلوبنا ، وتجمع بها شملنا ، وتزيدنا بها إيماناً وإيقاناً { إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب } .(1/328)
عن أم سلمة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول : « يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك » ، ثم قرأ : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب } وعن أم سلمة ، عن أسماء بنت يزيد بن السكن ، سمعتها تحدِّث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يكثر من دعائه : « » اللهم مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك « ، قالت : قلت يا رسول الله وإن القلب ليتقلب؟ قال : » نعم ، ما خلق الله من بني آدم من بشر إلا أن قلبه بين أصبعين من أصابع الله عزّ وجلّ ، فإن شاء أقامه وإن شاء أزاغه « . قلت : يا رسول الله ألا تعلمني دعوة أدعو به لنفسي ، قال : » بلى ، قولي : اللهم رب محمد النبي اغفر لي ذنبي وأذهب غيظ قلبي وأجرني من مضلات الفتن « » .
وعن عائشة رضي الله عنها قالت : « كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً ما يدعو : » يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك « . قلت : يا رسول الله ما أكثر ما تدعو بهذا الدعاء ، فقال : » ليس من قلب إلا وهو بين أصبعين من أصابع الرحمن إذا شاء أن يقيمه أقامه ، وإذا شاء أن يزيغه أزاغه . أما تسمعي قوله : { رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الوهاب } « وعن سعيد بن المسيب عن عائشة رضي الله عنها : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا استيقظ من الليل قال : » لا إله إلا أنت سبحانك أستغفرك لذنبي ، واسألك رحمتك ، اللهم زدني علماً ، ولا تزغ قلبي بعد إذ هديتني ، وهب لي من لدنك رحمة . إنك أنت الوهاب « .
وقوله تعالى : { رَبَّنَآ إِنَّكَ جَامِعُ الناس لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } أي يقولون في دعائهم إنك يا ربنا ستجمع بين خلقك يوم معادهم ، وتفصل بينهم وتحكم فيهم فيما اختلفوا فيه ، وتجزي كلاً بعمله ، وما كان عليه في الدنيا من خير وشر .(1/329)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَاللَّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (11)
يخبر تعالى عن الكفّار بأنهم وقود النار : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ الظالمين مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللعنة وَلَهُمْ سواء الدار } [ غافر : 52 ] ، وليس ما أوتوه في الدنيا من الأموال والأولاد بنافع لهم عند الله ، ولا بمنجيهم من عذابه وأليم عقابه ، كما قال تعالى : { فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله لِيُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الحياة الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 55 ] .
وقال تعالى : { لاَ يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الذين كَفَرُواْ فِي البلاد * مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } [ آل عمران : 196 ] ، وقال هاهنا : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ } أي بآيات الله ، وكذبوا رسله ، وخالفوا كتابه ، ولم ينتفعوا بوحيه إلى أنبيائه : { لَن تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُم مِّنَ الله شَيْئاً وأولئك هُمْ وَقُودُ النار } أي حطبها الذي تسجر به وتوقد به كقوله : { إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ الله حَصَبُ جَهَنَّمَ } [ الأنبياء : 98 ] الآية . وعن أم الفضل : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قام ليلة بمكة ، فقال : » هل بلغت «؟ يقولها ثلاثاً ، فقام عمر بن الخطاب - وكان أوَّاهاً - فقال : اللهم نعم ، وحرصت وجهدت ، ونصحت فاصبر ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » ليظهرن الإيمان حتى يرد الكفر إلى مواطنه ، وليخوضن رجال البحار بالإسلام ، وليأتين على الناس زمان يقرؤون القرآن فيقرؤونه ويعلمونه ، فيقولون قد قرأنا وقد علمنا فمن هذا الذي هو خير منا؟ فما في أولئك من خير « . قالوا : يا رسول الله فمن أولئك؟ قال : » أولئك منكم ، أولئك هم وقود النار « » .
وقوله تعالى : { كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ } ، قال ابن عباس : كصنيع آل فرعون ، وكذا روي عن عكرمة ومجاهد والضحَّاك وغير واحد ، ومنهم من يقول : كسنة آل فرعون ، وكفعل آل فرعون وكشبه آل فرعون ، والألفاظ متقاربة والدَّأب - بالتسكين والتحريك أيضاً كَنَهر ونَهْر - وهو الصنيع والحال والشأن والأمر والعادة ، كما يقال : لا يزال هذا دأبي ودأبك ، وقال امرؤ القيس :
كدأبك من أم الحويرث قبلها ... وجارتها أم الرباب بمأسل
والمعنى كعادتك في أم الحويرث حين أهلكتَ نفسك في حبها وبكيت دارها ورسمها! والمعنى في الآية : إنَّ الكافرين لا تغني عنهم الأموال ولا الأولاد ، بل يهلكون ويعذبون ، كما جرى لآل فرعون ومن قبلهم من المكذبين للرسل فيما جاؤوا به من آيات الله وحججه : { والله شَدِيدُ العقاب } أي شديد الأخذ ، أليم العذاب ، لا يمتنع منه أحد ، ولا يفوته شيء ، بل هو الفعال لما يريد الذي قد غلب كل شيء ، لا إله غيره ولا رب سواه .(1/330)
قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إِلَى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (12) قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتَا فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَأُخْرَى كَافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَاللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشَاءُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ (13)
يقول تعالى : قل يا محمد للكافرين { سَتُغْلَبُونَ } أي في الدنيا ، { وَتُحْشَرُونَ } أي يوم القيامة إلى جهنم وبئس المهاد . وقد ذكر محمد بن إسحاق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما أصاب من أهل بدر ما أصاب ، ورجع إلى المدينة جمع اليهود في سوق ( بني قينقاع ) وقال : « يا معشر اليهود أسلموا قبل أن يصيبكم الله بما أصاب قريشاً » فقالوا : يا محمد لا يغرنك من نفسك أن قتلت نفراً من قريش كانوا أغماراً لا يعرفون القتال ، إنك والله لو قاتلتنا لعرفت أنا نحن الناس وأنك لم تلق مثلنا ، فأنزل الله في ذلك من قوله : { قُلْ لِّلَّذِينَ كَفَرُواْ سَتُغْلَبُونَ وَتُحْشَرُونَ إلى جَهَنَّمَ وَبِئْسَ المهاد } ، إلى قوله : { لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } . ولهذا قال تعالى : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ } أي قد كان لكم أيها اليهود القائلون ما قلتم آية ، أي دلالة على أن الله معزّ دينه ، وناصر رسوله ، ومظهر كلمته ومعلٍ أمره { فِي فِئَتَيْنِ } أي طائفتين { التقتا } أي للقتال ، { فِئَةٌ تُقَاتِلُ فِي سَبِيلِ الله وأخرى كَافِرَةٌ } وهم مشركو قريش يوم بدر . وقوله : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } ، قال بعض العلماء : يرى المشركون يوم بدر المسلمين مثليهم في العدد رأي أعينهم ، أي جعل الله ذلك فيما رأوه سبباً لنصرة الإسلام عليهم . وهذا لا إشكال عليه إلا من جهة واحدة ، وهي أن المشركين بعثوا ( عمر بن سعد ) يومئذ قبل القتال يحزر لهم المسليمن ، فأخبرهم بأنهم ثلثمائة يزيدون قليلاً أو ينقصون قليلاً ، وهكذا كان الأمر ، كانوا ثلثمائة وبضعة عشر رجلاً ، ثم لما وقع القتال أمدهم الله بألف من خواص الملائكة وساداتهم .
والقول الثاني : أن المعنى في قوله تعالى : { يَرَوْنَهُمْ مِّثْلَيْهِمْ رَأْيَ العين } أي يرى الفئة المسلمة الفئة الكافرة { مِّثْلَيْهِمْ } أي ضعفيهم في العدد ومع هذا نصرهم الله عليهم ، والمشهور أنهم كانوا ما بين التسعمائة إلى الألف ، وعلى كل تقدير ، فقد كانوا ثلاثة أمثال المسلمين ، وعلى هذا فيشكل هذا القول والله أعلم ، لكن وجَّه ابن جرير هذا وجعله صحيحاً ، كما تقول : عندي ألف وأنا محتاج إلى مثليها ، وتكون محتاجاً إلى ثلاثة آلاف كذا قال . وعلى هذا فلا إشكال ، لكن بقي سؤال آخر وهو وارد على القولين ، وهو أن يقال : ما الجمع بين هذه الآية وبين قوله تعالى : في قصة بدر : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } [ الأنفال : 44 ] فالجواب : أن هذا كان في حالة ، والآخر كان في حالة أخرى ، كما قال ابن مسعود في قوله تعالى : { قَدْ كَانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ التقتا } الآية . قال : هذا يوم بدر ، قد نظرنا إلى المشركين فرأيناهم يضعفون علينا .(1/331)
ثم نظرنا إليهم فما رأيناهم يزيدون علينا رجلاً واحداً . وذلك قوله تعالى : { وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ التقيتم في أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ في أَعْيُنِهِمْ } [ الأنفال : 44 ] الآية . وقال أبو إسحاق عن عبد الله بن مسعود : لقد قللوا في أعيننا حتى قلت لرجل إلى جانبي : تراهم سبعين! قال : أراهم مائة ، قال : فأسرنا رجلاً منهم فقلنا : كم كنتم؟ قال : ألفاً ، فعندما عاين كل من الفريقين الآخر رأى المسلمون المشركين مثليهم ، أي أكثر منهم بالضعف ليتوكلوا ويتوجهوا ، ويطلبوا الإعانة من ربهم عزّ وجلّ ، ورأى المشركون المؤمنين كذلك ليحصل لهم الرعب والخوف والجزع والهلع . ثم لما حصل التصاف والتقى الفريقان قلّل الله هؤلاء في أعين هؤلاء ، وهؤلاء في أعين هؤلاء ليقدم كل منهما على الآخر : { لِيَقْضِيَ الله أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً } [ الأنفال : 44 ] أي ليفرق بين الحق والباطل فيظهر كلمة الإيمان على الكفر والطغيان ، ويعزّ المؤمنين ويذل الكافرين ، كما قال تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } [ آل عمران : 123 ] ، وقال هاهنا : { والله يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَن يَشَآءُ إِنَّ فِي ذلك لَعِبْرَةً لأُوْلِي الأبصار } أي : إن في ذلك لعبرة لمن له بصيرة وفهم ليهتدي به إلى حكم الله وأفعاله ، وقدره الجاري بنصر عباده المؤمنين في هذه الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد .(1/332)
زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَالْأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14) قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذَلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَأَزْوَاجٌ مُطَهَّرَةٌ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (15)
يخبر تعالى عما زين للناس في هذه الحياة الدنيا من أنواع الملاذ من النساء والبنين ، فبدأ بالنساء لأن الفتنة بهن أشد ، كما ثبت في الصحيح أنه صلى الله عليه وسلم قال : « ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء » فأما إذا كان القصد بهن الإعفاف وكثرة الأولاد ، فهذا مطلوب مرغوب فيه مندوب إليه ، كما وردت الأحاديث بالترغيب في التزويج والاستكثار منه ، وأن خير هذه الأمة من كان أكثرها نساء ، وقوله صلى الله عليه وسلم : « الدنيا متاع وخير متاعها المرأة الصالحة ، إن نظر إليها سرَّته ، وإن أمرها أطاعته ، وإن غاب عنها حفظته في نفسها وماله » وقوله في الحديث الآخر : « حبّب إلي النساء والطيب ، وجعلت قرة عيني في الصلاة » .
وحبُّ البنين تارة يكون للتفاخر والزينة فهو داخل في هذا ، وتارة يكون لتكثير النسل وتكثير أمة محمد صلى الله عليه وسلم ممن يعبد الله وحده لا شريك له ، فهذا محمود ممدوح كما ثبت في الحديث : « تزوجوا الودود الولود فإني مكاثر بكم الأمم يوم القيامة » وحب المال كذلك ، تارة يكون للفخر والخيلاء والتكبر على الضعفاء والتجبر على الفقراء فهذا مذموم ، وتارة يكون للنفقة في القربات وصلة الأرحام والقرابات ووجوه البر والطاعات فهذا ممدوح محمود شرعاً ، وقد اختلف المفسرون في مقدار القنطار على أقول ، وحاصلها : أنه المال الجزيل كما قاله الضحاك وغيره ، وقيل : ألف دينار ، وقيل : ألف ومائتا دينار ، وقيل : اثنا عشر ألفاً ، وقيل : أربعون ألفاً ، وقيل : ستون ألفاً ، وقيل : غير ذلك .
وحب الخيل على ثلاثة أقسام : تارة يكون ربطها أصحابها معدة لسبيل الله متى احتاجوا إليها غزواً عليها ، فهؤلاء يثابون وتارة تربط فخراً ونِواء لأهل الإسلام فهذه على صاحبها وزر . وتارة للتعفف واقتناء نسلها ولم ينس حق الله في رقابها فهذه لصاحبها ستر ، كما سيأتي الحديث بذلك إن شاء الله تعالى عند قوله تعالى : { وَأَعِدُّواْ لَهُمْ مَّا استطعتم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الخيل } [ الأنفال : 60 ] الآية ، وأما المسوّمة : فعن ابن عباس رضي الله عنهما المسومة الراعية ، والمطهمة الحسان ، وقال مكحول : المسومة الغرة والتحجيل ، وقيل : غير ذلك . وقوله تعالى : { والأنعام } يعني الإبل والبقر والغنم ، { والحرث } يعني الارض المتخذة للغراس والزراعة . وقال الإمام أحمد عن سويد بن هبيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « خير مال امرىء له مهرة مأمورة ، أو سكة مأبورة » المأمورة الكثيرة النسل ، والسكة النخل المصطف ، والمأبورة الملقحة .
ثم قال تعالى : { ذلك مَتَاعُ الحياة الدنيا } أي إنما هذا زهرة الحياة الدنيا وزينتها الفانية الزائلة ، { والله عِنْدَهُ حُسْنُ المآب } أي حسن المرجع والثواب ، قال عمر بن الخطاب : لما نزلت { زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشهوات } قلت : الآن يا رب حين زينتها لنا ، فنزلت : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم لِلَّذِينَ اتقوا } الآية ، ولهذا قال تعالى : { قُلْ أَؤُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِّن ذلكم } أي قل : يا محمد للناس أؤخبركم بخير مما زين للناس في هذه الحياة الدنيا ، من زهرتها ونعيمها الذي هو زائل لا محالة؟ ثم أخبر عن ذلك فقال : { لِلَّذِينَ اتقوا عِندَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أي تنخرق بين جوانبها وأرجائها الأنهار من أنواع الأشربة من العسل واللبن والخمر والماء وغير ذلك ، مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ، ولا خطر على قلب بشر { خَالِدِينَ فِيهَا } أي ماكثين فيها أبد الآباد لا يبغون عنها حولاً ، { وَأَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ } أي من الدنس والخبث والأذى والحيض والنفاس وغير ذلك مما يعتري نساء الدنيا ، { وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله } أي يحل عليهم رضوانه فلا يسخط عليهم بعده أبداً ، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى التي في براءة(1/333)
{ وَرِضْوَانٌ مِّنَ الله أَكْبَرُ } [ التوبة : 72 ] أي أعظم مما أعطاهم من النعيم المقيم ، ثم قال تعالى : { والله بَصِيرٌ بالعباد } أي يعطي كلا بحسب ما يستحقه من العطاء .(1/334)
الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا إِنَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنْفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ (17)
يصف تبارك وتعالى عباده المتقين الذين وعدهم الثواب الجزيل فقال تعالى : { الذين يَقُولُونَ رَبَّنَآ إِنَّنَآ آمَنَّا } أي بك وبكتابك وبرسولك ، { فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } أي بإيماننا بك وبما شرعته لنا فاغفر لنا ذنوبنا بفضلك ورحمتك { وَقِنَا عَذَابَ النار } ، ثم قال تعالى : { الصابرين } أي في قيامهم بالطاعات وتركهم المحرمات ، { والصادقين } فيما أخبروا به من إيمانهم بما يلتزمونه من الأعمال الشاقة ، { والقانتين } والقنوت : الطاعة والخضوع ، { والمنفقين } أي من أموالهم في جميع ما أمروا به من الطاعات ، وصلة الأرحام والقرابات ، وسد الخَلاّت ، ومواساة ذوي الحاجات ، { والمستغفرين بالأسحار } دل على فضيلة الاستغفار وقت الأسحار ، وقد قيل : إن يعقوب عليه السلام لما قال لبنيه : { سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ ربي } [ يوسف : 98 ] إنه أخرهم إلى وقت السحر ، وثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ينزل الله تبارك وتعالى في كل ليلة إلى السماء الدنيا حين يبقى ثلث الليل الأخير ، فيقول : هل من سائل فأعطيه؟ هل من داع فأستجيب له؟ هل من مستغفر فأغفر له؟ » .
وفي الصحيحين عن عائشة رضي الله عنها قالت : « من كل الليل قد أوتر رسول الله صلى الله عليه وسلم ، من أوله وأوسطه وآخره ، فانتهى وتره إلى السحر » وكان عبد الله بن عمر يصلي من الليل ثم يقول : يا نافع هل جاء السحر؟ فإذا قال : نعم ، أقبل على الدعاء والاستغفار حتى يصبح . وقال ابن جرير ، عن إبراهيم بن حاطب ، عن أبيه قال : سمعت رجلاً في السحر في ناحية المسجد وهو يقول : يا رب أمرتني فأطعتك ، وهذا السحر فاغفر لي ، فنظرت فإذا هو ابن مسعود رضي الله عنه ، وعن أنس بن مالك قال : كنا نؤمر إذا صلينا من الليل أن نستغفر في آخر السحر سبعين مرة .(1/335)
شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ وَمَنْ يَكْفُرْ بِآيَاتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (19) فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ (20)
شهد تعالى وكفى به شهيداً وهو أصدق الشاهدين وأعدلهم وأصدق القائلين { أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ } أي المنفرد بالإلهية لجميع الخلائق ، وأن الجميع عبيده وخلقه وفقراء إليه ، وهو الغني عما سواه كما قال تعالى : { لكن الله يَشْهَدُ بِمَآ أَنزَلَ إِلَيْكَ } [ النساء : 166 ] الآية ، ثم قرن شهادة ملائكته وأولي العلم بشهادته فقال : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم } ، وهذه خصوصية عظيمة للعلماء في هذا المقام . { قَآئِمَاً بالقسط } منصوب على الحال وهو في جميع الأحوال كذلك . { لاَ إله إِلاَّ هُوَ } تأكيد لما سبق ، { العزيز الحكيم } العزيز الذي لا يرام جنابه عظمة وكبرياء { الحكيم } في أقواله وأفعاله وشرعه وقدره . عن الزبير بن العوام قال : سمعت النبي صلى الله عليه وسلم وهو بعرفة يقرأ هذه الآية : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم } ، ثم قال : وأنا على ذلك من الشاهدين يا رب .
وعن غالب القطان : قال : أتيت الكوفة في تجارة فنزلت قريباً من الأعمش ، فلما كانت ليلة أردت أن أنحدر ، قام فتهجد من الليل فمر بهذه الآية : { شَهِدَ الله أَنَّهُ لاَ إله إِلاَّ هُوَ والملائكة وَأُوْلُواْ العلم قَآئِمَاً بالقسط لاَ إله إِلاَّ هُوَ العزيز الحكيم * إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } . ثم قال الأعمش : وأنا أشهد بما شهد الله به وأستودع الله هذه الشهادة وهي لي عند الله وديعة { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } قالها مراراً . قلت : لقد سمع فيها شيئاً فغدوت إليه فودعته ثم قلت : يا أبا محمد إني سمعتك تردد هذه الآية ، قال : أوما بلغك ما فيها؟ قلت : أنا عندك منذ شهر لم تحدثني! قال : والله لا أحدثك بها إلى سنة؛ فأقمت سنة فكنت على بابه ، فلما مضت السنة ، قلت : يا أبا محمد قد مضت السنة . قال : حدثني أبو وائل عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يجاء بصاحبها يوم القيامة ، فيقول الله عزّ وجلّ : عبدي عهد إليّ ، وأنا أحق من وفى بالعهد أدخلوا عبدي الجنة » .
وقوله تعالى : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } إخبار منه تعالى بأنه لا دين عنده يقبله من أحد سوى الإسلام ، وهو اتباع الرسل فيما بعثهم الله به في كل حين ، حتى ختموا بمحمد صلى الله عليه وسلم الذي سد جميع الطرق إليه إلا من جهة محمد صلى الله عليه وسلم ، فمن لقي الله بعد بعثة محمد صلى الله عليه وسلم بدين على غير شريعته فليس بمتقبل كما قال تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] الآية ، وقال في هذه الآية مخبراً بانحصار الدين المتقبل منه عنده في الإسلام : { إِنَّ الدِّينَ عِندَ الله الإسلام } ثم أخبر تعالى بأن الذين أوتوا الكتاب الأول إنما اختلفوا بعدما قامت عليه الحجة بإرسلا الرسل إليهم ، وإنزال الكتب عليهم ، فقال : { وَمَا اختلف الذين أُوتُواْ الكتاب إِلاَّ مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ العلم بَغْياً بَيْنَهُمْ } أي بغي بعضهم على بعض ، فاختلفوا في الحق بتحاسدهم وتباغضهم وتدابرهم ، فحمل بعضهم بغض البعض الآخر على مخالفته في جميع أقواله وأفعاله وإن كانت حقاً ، ثم قال تعالى : { وَمَن يَكْفُرْ بِآيَاتِ الله } أي من جحد ما أنزل الله في كتابه { فَإِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } أي فإن الله سيجازيه على ذلك ويحاسبه على تكذيبه ويعاقبه على مخالفته كتابه .(1/336)
ثم قال تعالى : { فَإنْ حَآجُّوكَ } أي جادلوك في التوحيد ، { فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ للَّهِ وَمَنِ اتبعن } أي فقل أخلصت عبادتي لله وحده لا شريك له ، ولا ندَّ له ، ولا ولد له ولا صاحبة له . { وَمَنِ اتبعن } أي على ديني ، يقول كمقالتي كما قال تعالى : { قُلْ هذه سبيلي أَدْعُو إلى الله على بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتبعني } [ يوسف : 108 ] الآية ، ثم قال تعالى آمراً لعبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم أن يدعو إلى طريقته ودينه والدخول في شرعه وما بعثه الله به إلى الكتابيين من المليين والأميين من المشركين ، فقال تعالى : { وَقُلْ لِّلَّذِينَ أُوتُواْ الكتاب والأميين أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُواْ فَقَدِ اهتدوا وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ } أي والله عليه حسابهم وإليه مرجعهم ومآبهم ، وهو الذي يهدي من يشاء ويضل من يشاء ، وله الحكمة البالغة والحجة الدامغة . ولهذا قال تعالى : { والله بَصِيرٌ بالعباد } أي هو عليم بمن يستحق الهداية ممن يستحق الضلالة وهو الذي { لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ } [ الأنبياء : 23 ] وما ذلك إلا لحكمته ورحمته .
وهذه الآية وأمثالها من أصرح الدلالات على عموم بعثته صلوات الله وسلامه عليه إلى جميع الخلق كما هو معلوم من دينه ضرورة ، وكما دل عليه الكتاب والسنَّة في غير ما آية وحديث فمن ذلك قوله تعالى : { قُلْ ياأيها الناس إِنِّي رَسُولُ الله إِلَيْكُمْ جَمِيعاً } [ الأعراف : 158 ] ، وقال تعالى : { تَبَارَكَ الذي نَزَّلَ الفرقان على عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً } [ الفرقان : 1 ] ، وفي الصحيحين وغيرهما مما ثبت تواتره بالوقائع المتعددة أنه صلى الله عليه وسلم بعث كتبه يدعو إلى الله ملوك الآفاق وطوائف بني آدم من عربهم وعجمهم ، كتابيهم وأميهم امتثالاً لأمر الله له بذلك ، وقد روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة ، يهودي ولا نصراني ومات ولم يؤمن بالذي أرسلت به إلا كان من أهل النار » وقال صلى الله عليه وسلم : « بعثت إلى الأحمر والأسود » ، وقال : « كان النبي بعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة » .(1/337)
وروى الإمام أحمد عن أنس رضي الله عنه : « أن غلاماً يهودياً كان يضع للنبي صلى الله عليه وسلم وضوءه ويناوله نعليه ، فمرض فأتاه النبي صلى الله عليه وسلم فدخل عليه وأبوه قاعد عند رأسه ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : » يا فلان قل لا إله إلا الله « ، فنظر إلى أبيه فسكت أبوه . فأعاد عليه النبي صلى الله عليه وسلم ، فنظر إلى أبيه ، فقال أبوه : أطع أبا القاسم ، فقال الغلام : أشهد أن لا إله إلا الله وأنك رسول الله ، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم وهو يقول : » الحمد لله الذي أخرجه بي من النار « » .(1/338)
إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (21) أُولَئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (22)
هذا ذم من الله تعالى لأهل الكتاب . بما ارتكبوه من المآثم والمحارم في تكذيبهم بآيات الله قديماً وحديثاً ، التي بلَّغتهم إياها الرسل استكباراً عليهم ، وعناداً لهم وتعاظماً على الحق واستنكافاً عن اتباعه ، ومع هذا قتلوا من قتلوا من النبيين حين بلغوهم عن الله شرعه ، بغير سبب ولا جريمة منهم إليهم إلا لكونهم دعوهم إلى الحق { وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس } وهذا هو غاية الكبر . عن أبي عبيدة بن الجراح رضي الله عنه قال : « قلت : يا رسول الله أي الناس أشد عذاباً يوم القيامة؟ قال : » رجل قتل نبياً ، أو من أمر بالمعروف ونهى عن المنكر « ، ثم قرأ رسول الله : { إِنَّ الذين يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ النبيين بِغَيْرِ حَقٍّ وَيَقْتُلُونَ الذين يَأْمُرُونَ بالقسط مِنَ الناس فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } الآية . ثم قال رسول الله : » يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة وأربعين نبياً من أول النهار في ساعة واحدة ، فقام مائة وسبعون رجلاً من بني إسرائيل فأمروا من قتلهم بالمعروف ونهوهم عن المنكر فقتلوهم جميعاً من آخر النهار من ذلك اليوم ، فهم الذين ذكر الله عزّ وجلّ « وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قتلت بنو إسرائيل ثلاثمائة نبي من أول النهار وأقاموا سوق بقلهم من آخره ، ولهذا لما أن تكبروا عن الحق واستكبروا على الخلق قابلهم الله على ذلك بالذلة والصغار في الدنيا ، والعذاب المهين في الآخرة ، فقال تعالى : { فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ } أي موجع مهين { أولئك الذين حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } .(1/339)
أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَهُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لَا رَيْبَ فِيهِ وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (25)
ينكر الله تعالى على اليهود والنصارى ، المتمسكين فيما يزعمون بكتابيهم اللذين بأيديهم ، وهما ( التوراة والإنجيل ) إذا دعوا إلى التحاكم إلى ما فيهما من طاعة الله ، فيما أمرهم به فيهما من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم ، تولوا وهم معرضون عنهما ، وهذا في غاية ما يكون من ذمهم التنويه بذكرهم بالمخالفة والعناد ، ثم قال تعالى : { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَن تَمَسَّنَا النار إِلاَّ أَيَّاماً مَّعْدُودَاتٍ } أي إنما حملهم وجرأهم على مخالفة الحق افتراؤهم على الله فيما ادعوه لأنفسهم ، أنهم إنما يعذبون في النار سبعة أيام عن كل ألف سنة في الدنيا يوماً ، وقد تقدم تفسير ذلك في سورة البقرة ، ثم قال تعالى : { وَغَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ } أي ثبتهم على دينهم الباطل ما خدعوا به أنفسهم ، من زعمهم أن النار لا تمسهم بذنوبهم إلا أياماً معدودات ، وهم الذين افتروا هذا من تلقاء أنفسهم ، واختلقوه ولم ينزل الله به سلطاناً ، قال الله تعالى متهدداً لهم ومتوعداً : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } ، أي كيف يكون حالهم وقد افتروا على الله وكذبوا رسله وقتلوا أنبياءه والعلماء من قومهم ، الآمرين بالمعروف والناهين عن المنكر!! والله تعالى سأئلهم عن ذلك كله وحاكم عليهم ومجازيهم به ، ولهذا قال تعالى : { فَكَيْفَ إِذَا جَمَعْنَاهُمْ لِيَوْمٍ لاَّ رَيْبَ فِيهِ } ؟ أي : لا شك في وقوعه وكونه ، { وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } .(1/340)
قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (27)
يقول تبارك وتعالى : { قُلِ } يا محمد معظماً لربك وشاكراً له ومفوضاً إليه ومتوكلاً عليه { اللهم مَالِكَ الملك } أي لك الملك كله ، { تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ } : أي أنت المعطي وأنت المانع ، وأنت الذي ما شئت كان وما لم تشأ لم يكن ، وفي هذه الآية تنبيه وإرشاد إلى شكر نعمة الله تعالى ، على رسوله صلى الله عليه وسلم وهذه الأمة ، لأن الله تعالى حوّل النبوّة من بني إسرائيل إلى النبي العربي القرشي خاتم الأنبياء على الإطلاق ، ورسول الله إلى جميع الثقلين الإنس والجن ، الذي جمع الله فيه محاسن من كان قبله ، وخصَّه بخصائص لم يعطها نبياً من الأنبياء ، ولا رسولاً من الرسل ، من العلم بالله وشريعته وإطلاعه على الغيوب الماضية والآتية ، وكشفه له عن حقائق الآخرة ، ونشر أمته في الآفاق في مشارق الأرض ومغاربها ، وإظهار دينه وشرعه على سائر الأديان والشرائع ، فصلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين ما تعاقب الليل والنهار ، ولهذا قال تعالى : { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك } الآية ، أي : أنت المتصرف في خلقك الفعال لما تريد ، كما رد تعالى على من يحكم عليه في أمره حيث قال : { وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ هذا القرآن على رَجُلٍ مِّنَ القريتين عَظِيمٍ } [ الزخرف : 31 ] ، قال الله رداً عليهم : { أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ } [ الزخرف : 32 ] ؟ الآية ، أي : نحن نتصرف فيما خلقنا كما نريد ، بلا ممانع ولا مدافع ، ولنا الحكمة البالغة والحجة التامة في ذلك ، وهكذا يعطي النبوة لمن يريد ، كما قال تعالى : { الله أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ } [ الأنعام : 124 ] وقال تعالى : { انظر كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ على بَعْضٍ } [ الإسراء : 21 ] الآية .
وقوله تعالى : { تُولِجُ الليل فِي النهار وَتُولِجُ النهار فِي الليل } أي تأخذ من طول هذا فتزيده في قصر هذا فيعتدلان ، ثم تأخذ من هذا في هذا فيتفاوتان ثم يعتدلان ، وهكذا في فصول السنة ربيعاً وصيفاً وخريفاً وشتاء .
وقوله تعالى : { وَتُخْرِجُ الحي مِنَ الميت وَتُخْرِجُ الميت مِنَ الحي } أي تخرج الزرع من الحب ، والحب من الزرع ، والنخلة من النواة والنواة من النخلة ، والمؤمن من الكافر والكافر من المؤمن ، والدجاجة من البيضة والبيضة من الدجاجة ، وما جرى هذا المجرى من جميع الأشياء : { وَتَرْزُقُ مَن تَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } أي تعطي من شئت من المال ما لا يعده ولا يقدر على إحصائه ، وتقتر على آخرين لما لك في ذلك من الحكمة والإرادة والمشيئة . عن ابن عباس رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « اسم الله الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في هذه الآية من آل عمران { قُلِ اللهم مَالِكَ الملك تُؤْتِي الملك مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ الملك مِمَّنْ تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ بِيَدِكَ الخير إِنَّكَ على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } » .(1/341)
لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)
نهى تبارك وتعالى عباده المؤمنين أن يوالوا الكافرين ، وأن يتخذوهم أولياء يسرون إليهم بالمودة من دون المؤمنين ، ثم توعدهم على ذلك فقال تعالى : { وَمَن يَفْعَلْ ذلك فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ } أي ومن يرتكب نهي الله من هذا فقد برىء من الله ، كما قال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَآءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بالمودة } [ الممتحنة : 1 ] - إلى أن قال - { وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَآءَ السبيل } [ الممتحنة : 1 ] ، وقال تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الكافرين أَوْلِيَآءَ مِن دُونِ المؤمنين أَتُرِيدُونَ أَن تَجْعَلُواْ للَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً مُّبِيناً } [ النساء : 144 ] ، وقال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ اليهود والنصارى أَوْلِيَآءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَآءُ بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ } [ المائدة : 51 ] الآية . وقوله تعالى : { إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً } ، أي إلا من خاف في بعض البلدان والأوقات من شرهم ، فله أن يتقيهم بظاهره لا بباطنه ونيته ، كما قال البخاري عن أبي الدرداء إنه قال : « إنا لنكشر في وجوه أقوام وقلوبنا تلعنهم » . وقال الثوري ، قال ابن عباس : ليس التقية بالعمل إنما التقية باللسان ، ويؤيده قول الله تعالى : { مَن كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بالإيمان } [ النحل : 106 ] الآية . ثم قال تعالى : { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } أي يحذركم نقمته في مخالفته وسطوته ، وعذابه والى أعداءه وعادى أولياءه ، ثم قال تعالى : { وإلى الله المصير } أي إليه المرجع والمنقلب ليجازى كل عامل بعمله .(1/342)
قُلْ إِنْ تُخْفُوا مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)
يخبر تبارك وتعالى عباده أنه يعلم السرائر والضمائر والظواهر ، وأنه لا يخفى عليه منهم خافية ، بل علمه محيط بهم في سائر الأحوال والأزمان ، والأيام واللحظات وجميع الأوقات ، وجميع ما في الأرض والسماوات ، لا يغيب عنه مثقال ذرة ولا أصغر من ذلك في جميع أقطار الأرض والبحار ، والجبال ، { والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي وقدرته نافذة في جميع ذلك . وهذا تنبيه منه لعباده على خوفه وخشيته ، لئلا يرتكبوا ما نهى عنه وما يبغضه منهم ، فإنه عالم بجميع أمورهم ، وهو قادر على معاجلتهم بالعقوبة وإن أَنظَرَ من أنظر منهم ، فإنه يمهل ثم يأخذ أخذ عزيز مقتدر ، ولهذا قال بعد هذا : { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراً } الآية ، يعني يوم القيامة يحضر للعبد جميع أعماله من خير وشر كما قال تعالى : { يُنَبَّأُ الإنسان يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ } [ القيامة : 13 ] فما رأى من أعماله حسناً سره ذلك وأفرحه ، وما رأى من قبيح ساءه وغصَّه ، وودَّ لو أنه تبرأ منه وأن يكون بينهما أمد بعيد ، كما يقول لشيطانه الذي كان مقرونا به في الدنيا ، وهو الذي جرأه على فعل السوء : { ياليت بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ المشرقين فَبِئْسَ القرين } [ الزخرف : 38 ] ، ثم قال تعالى مؤكداً ومهدداً ومتوعداً : { وَيُحَذِّرُكُمُ الله نَفْسَهُ } أي يخوفكم عقابه ، ثم قال : جلّ جلاله مرجياً لعباده لئلا ييأسوا من رحمته ويقنطوا من لطفه : { والله رَؤُوفٌ بالعباد } قال الحسن البصري : من رأفته بهم حذّرهم نفسه وقال غيره : أي رحيم بخلقه يحب لهم أن يستقيموا على صراطه المستقيم ودينه القويم ، وأن يتبعوا رسوله الكريم .(1/343)
قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ (32)
هذه الآية الكريمة حاكمة على كل من ادعى محبة الله ، وليس هو على الطريقة المحمدية ، فإنه كاذب في دعواه في نفس الأمر ، حتى يتبع الشرع المحمدي ، والدين النبوي في جميع أقواله وأفعاله ، كما ثبت في الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » ، ولهذا قال : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } أي يحصل لكم فوق ما طلبتم من محبتكم إياه ، وهو محبته إياكم وهو أعظم من الأول ، كما قال بعض العلماء الحكماء : ليس الشأن أن تحب إنما الشأن أن تُحَب ، وقال الحسن البصري : زعم قوم أنهم يحبون الله فابتلاهم الله بهذه الآية فقال : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني يُحْبِبْكُمُ الله } . عن عروة عن عائشة رضي الله عنها قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « هل الدين إلا الحب في الله والبغض في الله؟ قال الله تعالى : { قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ الله فاتبعوني } » .
ثم قال تعالى : { وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } أي باتباعكم الرسول صلى الله عليه وسلم ، يحصل لكم هذا من بركة سفارته ، ثم قال تعالى آمراً لكل أحد من خاص وعام : { قُلْ أَطِيعُواْ الله والرسول فإِن تَوَلَّوْاْ } أي تخالفوا عن أمره ، { فَإِنَّ الله لاَ يُحِبُّ الكافرين } فدل على أن مخالفته في الطريقة كفر ، والله لا يحب من اتصف بذلك ، وإن ادعى وزعم في نفسه أنه محب لله ويتقرب إليه ، حتى يبايع الرسول النبي الأمي خاتم الرسل ، ورسول الله إلى جميع الثقلين الجن والإنس ، الذي لو كان الأنبياء بل المرسولن بل أولو العزم منهم في زمانه ما وسعهم إلا اتباعه ، والدخول في طاعته واتباع شريعته ، كما سيأتي تقريره عند قوله تعالى : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين } [ آل عمران : 81 ] الآية ، إن شاء الله تعالى .(1/344)
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُهَا مِنْ بَعْضٍ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34)
يخبر تعالى أنه اختار هذه البيوت على سائر أهل الأرض ، فاصطفى { ءَادَمَ } عليه السلام خلقه بيده ونفخ فيه من روحه ، وأسجد له ملائكته ، وعلمه أسماء كل شيء ، وأسكنه الجنة ، ثم أهبطه منها لما له في ذلك من الحكمة؛ واصطفى { وَنُوحاً } عليه السلام ، وجعله أول رسول بعثه إلى أهل الأرض ، لما عبد الناس الأوثان وأشركوا بالله ما لم ينزل به سلطاناً ، وانتقم له لما طالت مدته بين ظهراني قومه يدعوهم إلى الله ليلاً ونهاراً ، سراً وجهاراً ، فلم يزدهم ذلك إلا فراراً ، فدعا عليهم فأغرقهم الله عن آخرهم ، لم ينج منهم إلا من اتبعه على دينه الذي بعثه الله به ، واصطفى { وَآلَ إِبْرَاهِيمَ } ومنهم سيد البشر خاتم الأنبياء على الإطلاق محمد صلى الله عليه وسلم ، { وَآلَ عِمْرَانَ } والمراد بعمران هذا هو والد مريم بنت عمران أم عيسى بن مريم عليه السلام ، فعيسى عليه السلام من ذرية إبراهيم كما سيأتي بيانه في سورة الأنعام إن شاء الله تعالى .(1/345)
إِذْ قَالَتِ امْرَأَتُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنْثَى وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وَإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (36)
امرأة عمران هذه هي أم مريم عليها السلام وهي ( حنة بنت فاقوذ ) ، قال محمد بن إسحاق : وكانت امرأة لا تحمل فرأت يوماً طائراً يزق فرخه ، فاشتهت الولد فدعت الله تعالى أن يهبها ولداً ، فاستجاب الله دعاءها فواقعها زوجها فحملت منه ، فلما تحققت الحمل نذرت أن يكون محرراً ، أي خالصاً مفرغاً للعبادة لخدمة بيت المقدس ، فقالت : يا رب { إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السميع العليم } أي السميع لدعائي العليم بنيتي ، ولم تكن تعلم ما في بطنها أذكراً أم أنثى ، { فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَآ أنثى والله أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذكر كالأنثى } أي في القوة . والجلد في العبادة ، وخدمة المسجد الأقصى . { وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ } فيه دليل على جواز التسمية يوم الولادة كما هو الظاهر من السياق لأنه شرع من قبلنا ، وقد حكي مقرراً وبذلك ثبتت السنّة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال : « ولد لي الليلة ولد سميته بامس أبي إبراهيم » أخرجاه ، وكذلك ثبت فيهما أن أنس بن مالك ذهب بأخيه حين ولدته أمه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فحنكه وسماه ( عبد الله ) . وفي صحيح البخاري : « أن رجلاً قال : يا رسول الله ولد لي الليلة ولد فما أسميه؟ قال : » سم ابنك عبد الرحمن « فأما حديث قتادة عن الحسن البصري ، عن سمرة بن جندب : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » كل غلام مرتهن بعقيقته يذبح عنه يوم السابع ويسمى ويحلق رأسه « فقد رواه أحمد وأهل السنن وصححه الترمذي .
وقوله تعالى إخباراً عن أم مريم أنها قالت : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } أي عوذتها بالله عزّ وجلّ من شر الشيطان ، وعوذت ذريتها وهو ولدها عيسى عليه السلام ، فاستجاب الله لها ذلك . عن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما من مولود يولد إلا مسه الشيطان حين يولد فيستهل صارخاً من مسه إياه إلا مريم وابنها « ، ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } وعن أبي هريرة قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما من مولود إلا وقد عصره الشيطان عصرة أو عصرتين إلا عيسى ابن مريم ومريم « ثم قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشيطان الرجيم } .(1/346)
فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ (37)
يخبر ربنا تعالى أنه تقبلها من أمها نذيرة ، وأنه أنبتها نباتاً حسناً أي جعلها شكلاً مليحاً ومنظراً بهيجاً ، ويسر لها أسباب القبول ، وقرنها بالصالحين من عباده ، تتعلم منهم العلم والخير والدين ، فلهذا قال : { وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا } بتشديد الفاء ونصب زكريا على المفعولية أي جعله كافلاً لها ، قال ابن إسحاق : وما ذلك إلا أنها كانت يتيمة ، وذكر غيره أن بني إسرائيل أصابتهم سنة جدب فكفل زكريا مريم لذلك ولا منافاة بين القولين والله أعلم ، وإنما قدر الله كون زكريا كفلها لسعادتها ، لتقتبس منه علماً جماً وعملاً صالحاً ، ولأنه كان زوج خالتها على ما ذكره ابن إسحاق وابن جرير وغيرهما ، وقيل : زوج أختها كما ورد في الصحيح : « فإذا بيحيى وعيسى وهما ابنا الخالة » وقد يطلق على ما ذكره ابن إسحاق ذلك أيضاً توسعاً ، فعلى هذا كانت في حضانة خالتها ، وقد ثبت في الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى في ( عمارة بنت حمزة ) أن تكون في حضانة خالتها امرأة ( جعفر بن أبي طالب ) وقال : « الخالة بمنزلة الأم » . ثم أخبر تعالى عن سيادتها وجلادتها في محل عبادتها فقال : { كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا المحراب وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } ، قال مجاهد وعكرمة والسدي : يعني وجد عندها فاكهة الصيف في الشتاء ، وفاكهة الشتاء في الصيف ، وعن مجاهد : { وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً } أي علماً ، والأول أصح وفيه دلالة على كرامات الأولياء ، وفي السنة لهذا نظائر كثيرة ، فإذا رأى زكريا هذا عندها { قَالَ يامريم أنى لَكِ هذا } أي يقول : من أين لك هذا؟ { قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } .
عن جابر « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقام أياماً لم يطعم طعاماً ، حتى شقّ ذلك عليه ، فطاف في منازل أزواجه فلم يجد عند واحدة منهن شيئاً ، فأتى فاطمة فقال : » يا بنية هل عندك شيء آكله فإني جائع؟ « قالت : لا والله - بأبي أنت وأمي - فلما خرج من عندها بعثت إليها جارة لها برغيفين وقطعة لحم ، فأخذته منها فوضعته في جفنة لها وقالت : والله لأوثرن بهذا رسول الله صلى الله عليه وسلم على نفسي ومن عندي ، وكانوا جمعاً محتاجين إلى شبعة طعام ، فبعثت حسناً - أو حسيناً - إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فرجع إليها فقالت : بأبي أن وأمي قد أتى الله بشيء فخبأته لك ، قال : » هلمي يا بنية « ، قالت : فأتيته بالجفنة فكشفت عنها فإذا هي مملوءة خبزاً ولحماً ، فلما نظرت إليها بهتُ وعرفت أنها بركة من الله ، فحمدت الله وصليت على نبيّه ، وقدمته إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما رآه حمد الله ، وقال : » من أين لك هذا يا بنية «؟ قالت : يا أبت { هُوَ مِنْ عِندِ الله إِنَّ الله يَرْزُقُ مَن يَشَآءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } فحمد الله ، وقال : » الحمد لله الذي جعلك يا بنية شبيهة بسيدة نساء بني إسرائيل فإنها كانت إذا رزقها الله شيئاً وسئلت عنه قالت : هو من عند الله ، إن الله يرزق من يشاء بغير حساب «(1/347)
، فبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى علي ثم أكل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأكل علي وفاطمة وحسن وحسين ، وجميع أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ، وأهل بيته حتى شبعوا جميعاً قالت : وبقيت الجفنة كما هي . قالت : فأوسعت ببقيتها على جميع الجيران ، وجعل الله فيها بركة وخيراً كثيراً .(1/348)
هُنَالِكَ دَعَا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قَالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعَاءِ (38) فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيَى مُصَدِّقًا بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَسَيِّدًا وَحَصُورًا وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قَالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلَامٌ وَقَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَامْرَأَتِي عَاقِرٌ قَالَ كَذَلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ مَا يَشَاءُ (40) قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزًا وَاذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيرًا وَسَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ (41)
لما رأى زكريا عليه السلام أن الله يرزق مريم عليها السلام فاكهة الشتاء في الصيف وفاكهة الصيف في الشتاء ، طمع حينئذ في الولد ، وإن كان شيخاً كبيراً قد وهن منه العظم ، واشتعل الرأس شيباً ، وكانت امرأته مع ذلك كبيرة وعاقراً ، ولكنه مع هذا كله سأل ربه وناداه نداء خفياً ، وقال : { رَبِّ هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ } أي من عندك { ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } أي ولداً صالحاً { إِنَّكَ سَمِيعُ الدعآء } . قال تعالى : { فَنَادَتْهُ الملائكة وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي المحراب } أي خاطبته الملائكة شفاها خطاباً أسمعته ، وهو قائم يصلي في محراب عبادته ، ومحل خلوته ومجلس مناجاته وصلاته ، ثم أخبر تعالى عما بشرته به الملائكة { أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بيحيى } أي بولد يوجد لك من صلبك اسمه يحيى . قال قتادة : إنما سمي يحيى لأن الله أحياه بالإيمان . وقوله { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله } . روى العوفي عن ابن عباس في هذه الآية : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله } أي بعيسى بن مريم ، وقال الربيع بن أنس : هو أول من صدق بعيسى بن مريم ، وقال ابن جريج : قال ابن عباس : كان يحيى وعيسى ابني خالة ، وكانت أم يحيى تقول لمريم : إني أجد الذي في بطني يسجد للذي في بطنك فذلك تصديقه له في بطن أمه ، وهو أول من صدق عيسى وكلمة الله عيسى ، وهو أكبر من عيسى عليه السلام وهكذا قال السدي أيضاً .
وقوله تعالى : { وَسَيِّداً } قال أبو العالية حليماً وقال قتادة : سيداً في العلم والعبادة ، وقال ابن عباس : السيد الحليم التقي ، وقال ابن المسيب : هو الفقيه العالم ، وقال عطية : السيد في خُلُقه ودينه ، وقال ابن زيد : هو الشريف ، وقال مجاهد : هو الكريم على الله عزّ وجلّ .
وقوله تعالى : { وَحَصُوراً } روي عن ابن مسعود وابن عباس ومجاهد أنهم قالوا : الذي لا يأتي النساء ، وعن أبي العالية والربيع بن أنس : هو الذي لا يولد له ولا ماء له ، وعن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول : ليس أحد من خلق الله لا يلقاه بذنب غير يحيى بن زكريا ، ثم قرأ سعيد { وَسَيِّداً وَحَصُوراً } ، ثم أخذ شيئاً من الأرض فقال : الحصور من كان ذكره مثل ذا .
وقد قال « القاضي عياض » في كتابه « الشفاء » : اعلم أن ثناء الله تعالى على يحيى أنه كان { حَصُوراً } ليس كما قاله بعضهم إنه كان هيوباً أو لا ذَكر له ، بل قد أنكر هذا حذَّاق المفسرين ، ونقاد العلماء ، وقالوا : هذه نقيصة وعيب لا يليق بالأنبياء عليهم السلام ، وإنما معناه أنه معصوم من الذنوب أي لا يأتيها كأنه حصور عنها ، وقيل : مانعاً نفسه من الشهوات ، وقيل : ليست له شهوة في النساء ، وقد بان لك من هذا أن عدم القدرة على النكاح نقص ، وإنما الفضل في كونها موجودة ثم يمنعها ، إما بمجاهدة كعيسى ، أو بكفاية من الله عزّ وجلّ كيحيى عليه السلام ، ثم هي في حق من قدر عليها - وقام بالواجب فيها ، ولم تشغله عن ربه - درجة عليا ، وهي درجة نبينا صلى الله عليه وسلم الذي لم يشغله كثرتهن عن عبادة ربه ، بل زاده ذلك عبادة بتحصينهن ، وقيامه عليهن وإكسابه لهن وهدايته إياهن ، بل قد صرح أنها ليست من حظوط دنياه هو وإن كانت من حظوظ دنيا غيره فقال : « حبب إليّ من دنياكم » .(1/349)
هذا لفظه ، والمقصود أنه مدح ليحيى بأنه حصور ليس أنه لا يأتي النساء ، بل معناه كما قاله هو وغيره : أنه معصوم من الفواحش والقاذورات ، ولا يمنع ذلك من تزويجه بالنساء الحلال وغشيانهن وإيلادهن ، بل قد يفهم وجود النسل له من دعاء زكريا المتقدم حيث قال : { هَبْ لِي مِن لَّدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً } كأنه قال ولداً له ذرية ونسل وعقب ، والله سبحانه وتعالى أعلم .
قوله تعالى : { وَنَبِيّاً مِّنَ الصالحين } ، هذه بشارة ثانية بنبوة يحيى بعد البشارة بولادته ، وهي أعلى من الأولى ، كقوله لأم موسى : { إِنَّا رَآدُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ المرسلين } [ القصص : 7 ] . فلما تحقق زكريا عليه السلام هذه البشارة ، أخذ يتعجب من وجود الولد منه بعد الكبر ، { قَالَ رَبِّ أنى يَكُونُ لِي غُلاَمٌ وَقَدْ بَلَغَنِي الكبر وامرأتي عَاقِرٌ قَالَ } : أي الملك ، { كَذَلِكَ الله يَفْعَلُ مَا يَشَآءُ } أي هكذا أمر الله عظيم لا يعجزه شيء ولا يتعاظمه أمر ، { قَالَ رَبِّ اجعل لي آيَةً } أي علامة أستدل بها على وجود الولد مني ، { قَالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ الناس ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً } أي إشارة لا تستطيع النطق مع أنك سوي صحيح ، كما في قوله : { ثَلاَثَ لَيَالٍ سَوِيّاً } ، ثم أمره بكثرة الذكر والتكبير والتسبيح في هذه الحا ، فقال تعالى : { واذكر رَّبَّكَ كَثِيراً وَسَبِّحْ بالعشي والإبكار } .(1/350)
وَإِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاءِ الْعَالَمِينَ (42) يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلَامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44)
هذا إخبار من الله تعالى بما خاطبت به الملائكة مريم عليها السلام ، عن أمر الله لهم بذلك أن الله قد اصطفاها ، أي اختارها لكثرة عبادتها وزهادتها ، وشرفها وطهارتها من الأكدار والوساوس ، واصطفاها ثانياً مرة بعد مرة لجلالتها على نساء العالمين ، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « خير نساء ركبن الإبل نساء قريش أحناه على ولد في صغره ، وأرعاه على زوج في ذات يده ، ولم تركب مريم بنت عمران بعيراً قط » وعن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « خير نسائها مريم بنت عمران وخير نسائها خديجة بنت خويلد » وعن أنس بن مالك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « خير نساء العالمين أربع ، مريم بن عمران ، وآسية امرأة فرعون ، وخديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت رسول الله » .
وفي البخاري : « كمل من الرجال كثير ولم يكمل من النساء إلا آسية امرأة فرعون ، ومريم بنت عمران ، وإن فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام » ثم أخبر تعالى عن الملائكة أنهم أمروها بكثرة العبادة والخشوع الركوع والسجود ، والدأب في العمل لما يريد الله بها من الأمر الذي قدره الله وقضاه ، مما فيه محنة لها ورفعة في الدراين ، بما أظهر الله فيها من قدرته العظيمة ، حيث خلق منها ولداً من غير أب ، فقال تعالى : { يامريم اقنتي لِرَبِّكِ واسجدي واركعي مَعَ الراكعين } أما القنوت فهو الطاعة في خشوع ، كما قال تعالى : { وَلَهُ مَن فِي السماوات والأرض كُلٌّ لَّهُ قَانِتُونَ } [ الروم : 26 ] وقال مجاهد : كانت مريم عليها السلام تقوم حتى تتورم كعباها ، والقنوت هو طول الركوع في الصلاة ، يعني امتثالاً لقول الله تعالى : { يامريم اقنتي لِرَبِّكِ } قال الحسن : يعني اعبدي لربك { واسجدي واركعي مَعَ الراكعين } أي كوني منهم : ثم قال لرسوله بعدما أطلعه على جلية الأمر : { ذلك مِنْ أَنَبَآءِ الغيب نُوحِيهِ إِلَيكَ } أي نقصه عليك ، { وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ } أي ما كنت عندهم يا محمد ، فتخبرهم عن معاينة عما جرى ، بل أطلعك الله على ذلك ، كأنك حاضر وشاهد لما كان من أمرهم ، حين اقترعوا في شأن مريم أيهم يكفلها وذلك رغبتهم في الأجر .
قال ابن جرير عن عكرمة : ثم خرجت أم مريم بها ، يعني بمريم في خرقها إلى بني الكاهن بن هارون أخي موسى عليهما السلام - وهم يومئذٍ يلون من بيت المقدس ما يلي الحجبة من الكعبة - فقالت لهم : دونكم هذه النذيرة فإني حررتها ، وهي أنثى ولا يدخل الكنيسة حائض ، وأنا لا أردها إلى بيتي فقالوا : هذه ابنة إمامنا - وكان عمران يؤمهم في الصلاة - وصاحب قرباننا فقال زكريا : ادفعوها لي فإن خالتها تحتي ، فقالوا : لا تطيب أنفسنا هي ابنة إمامنا ، فذلك حين اقترعوا عليها بأقلامهم التي يكتبون بها التوراة ، فقرعهم زكريا فكفلها . وقد ذكر عكرمة والسدي وقتادة أنهم ذهبوا إلى نهر الأردن واقترعوا هنالك إلى ان يلقوا أقلامهم فأيهم يثبت في جرية الماء فهو كافلها فألقوا أقلامهم فاحتملها الماء إلا قلم زكريا فإنه ثبت ، ويقال : إنه ذهب صاعداً يشق جرية الماء ، وكان مع ذلك كبيرهم وسيدهم وعالمهم وإمامهم ونبيّهم صلوات الله وسلامه عليه وعلى سائر النبيين .(1/351)
إِذْ قَالَتِ الْمَلَائِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46) قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47)
هذه بشارة من الملائكة لمريم عليها السلام ، بأنه سيوجد منها ولد عظيم له شأن كبير ، قال الله تعالى : { إِذْ قَالَتِ الملائكة يامريم إِنَّ الله يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ } أي بولد يكون وجوده بكلمة من الله ، أي يقول له كن فيكون ، وهذا تفسير قوله : { مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِّنَ الله } [ آل عمران : 39 ] كما ذكره الجمهور على ما سبق بيانه ، { اسمه المسيح عِيسَى ابن مَرْيَمَ } أي يكون هذا مشهوراً في الدنيا يعرفه المؤمنون بذلك ، وسمي المسيح - قال بعض السلف - : لكثرة سياحته ، وقيل : لأنه كان مسيح القدمين لا أخمص لهما ، وقيل : لأنه كان إذا مسح أحداً من ذوي العاهات برىء بإذن الله تعالى .
وقوله تعالى : { عِيسَى ابن مَرْيَمَ } نسبة إلى أمه حيث لا أب له ، { وَجِيهاً فِي الدنيا والآخرة وَمِنَ المقربين } أي له وجاهة ومكانة عند الله في الدنيا بما يوحيه الله إليه من الشريعة ، وينزله عليه من الكتاب وغير ذلك مما منحه الله به ، وفي الدار الآخرة يشفع عند الله فيمن يأذن له فيه ، فيقبل منه أسوة بإخوانه من أولي العزم صلوات الله وسلامه عليه وعليهم أجمعين ، وقوله : { وَيُكَلِّمُ الناس فِي المهد وَكَهْلاً } أي يدعو إلى عبادة الله وحده لا شريك له في حال صغره ، معجزة وآية ، وفي حال كهولته حين يوحي الله إليه : { وَمِنَ الصالحين } أي في قوله وعمله له علم صحيح وعمل صالح . وقال ابن ابي حاتم : عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « لم يتكلم في المهد إلا ثلاث ، عيسى وصبي كان في زمن جريج ، وصبي آخر » فلما سمعت بشارة الملائكة لها بذلك عن الله عزّ وجلّ ، قالت في مناجاتها : { رَبِّ أنى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ } ؟ تقول : كيف يوجد هذا الولد مني وأنا لست بذات زوج ، ولا من عزمي أن أتزوج ، ولست بغياً حاشا لله! فقال لها الملك عن الله عزّ وجلّ في جواب ذلك السؤال { كَذَلِكَ الله يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } أي هكذا أمرُ الله عظيم لا يعجزه شيء ، وصرح هاهنا بقوله : { يَخْلُقُ مَا يَشَآءُ } ، ولم يقل يفعل كما في قصة زكريا ، بل نص هاهنا على أنه يخلق لئلا يبقى لمبطل شبهة ، وأكد ذلك بقوله : { إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ } أي فلا يتأخر شيئاً ، بل يوجد عقيب الأمر بلا مهلة كقوله : و { وَمَآ أَمْرُنَآ إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بالبصر } [ القمر : 50 ] أي إنما نأمر مرة واحدة لا مثنوية فيها فيكون ذلك الشيء سريعاً كلمح البصر .(1/352)
وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ (48) وَرَسُولًا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَمُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)
يقول تعالى مخبراً عن تمام بشارة الملائكة لمريم بابنها عيسى عليه السلام : إن الله يعلِّمه الكتاب والحكمة ، الظاهر أن المراد بالكتاب هاهنا الكتابة ، والحكمة تقدم تفسيرها في سورة البقرة ، والتوراة والإنجيل . فالتوراة هو الكتاب الذي أنزل على موسى بن عمران ، والإنجيل الذي أنزل على عيسى بن مريم عليهما السلام؛ وقد كان عيسى عليه السلام يحفظ هذا . وقوله : { وَرَسُولاً إلى بني إِسْرَائِيلَ } قائلاً لهم : { أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أني أَخْلُقُ لَكُمْ مِّنَ الطين كَهَيْئَةِ الطير فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ الله } وكذلك كان يفعل : يصور من الطين شكل طير ، ثم ينفخ فيه فيطير عياناً بإذن الله عزّ وجلّ الذي جعل هذا معجزة له تدل على أنه أرسله ، { وَأُبْرِىءُ الأكمه } ، قيل : الأعشى ، وقيل : الأعمش ، وقيل : هو الذي يولد أعمى ، وهو أشبه لأنه أبلغ في المعجزة وأقوى في التحدي { والأبرص } معروف ، { وَأُحْيِ الموتى بِإِذْنِ الله } . قال كثير من العلماء : بعث الله كل نبي من الأنبياء بما يناسب أهل زمانه ، فكان الغالب على زمان موسى عليه اسلام السحر وتعظيم السحرة ، فبعثه الله بمعجزة بهرت الأبصار وحيرت كل سحَّار ، فلما استيقنوا أنها من عند العظيم الجبار ، انقادوا للإسلام وصاروا من عباد الله الأبرار ، وأما عيسى عليه السلام فبعث في زمن الأطباء وأصحاب علم الطبيعة ، فجاءهم من الآيات بما لا سبيل أحد إليه أن أن يكون مؤيداً من الذي شرَّع الشريعة ، فمن أين للطبيب قدرة على إحياء الجماد ، أو على مداواة الأكمه والأبرص ، وبعثِ من هو في قبره رهينٌ إلى يوم التناد؟ وكذلك محمد صلى الله عليه وسلم بعث في زمان الفصحاء والبلغاء وتجاويد الشعراء ، فأتاهم بكتاب من الله عزّ وجلّ ، فلو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثله أو بعشر سور من مثله ، أو بسورة من مثله لم يستطيعوا أبداً ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً ، وما ذاك إلا أن كلام الرب عزّ وجلّ لا يشبه كلام الخلق أبداً .
وقوله تعالى : { وَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ } أي أخبركم بما أكل أحدكم الآن ، وما هو مدخر له في بيته لغد ، { إِنَّ فِي ذلك } أي في ذلك كله ، { لآيَةً لَّكُمْ } أي على صدقي فيما جئتكم به ، { إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التوراة } أي مقرراً لها ومثبتاً ، { وَلأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الذي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ } فيه دلالة على أن عيسى عليه السلام نسخ بعض شريعة التوراة وهو الصحيح من القولين ، ومن العلماء من قال : لم ينسخ منها شيئاً ، وإنما أحل لهم بعض ما كانوا يتنازعون فيه ، كما قال في الآية الأخرى : { وَلأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الذي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ } [ الزخرف : 63 ] والله أعلم . ثم قال : { وَجِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ } أي بحجة ودلالة على صدقي فيما أقوله لكم ، { فاتقوا الله وَأَطِيعُونِ * إِنَّ الله رَبِّي وَرَبُّكُمْ فاعبدوه } أي أنا وأنتم سواء في العبودية له والخضوع والاستكانة إليه { هذا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ } .(1/353)
فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسَى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قَالَ مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصَارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (54)
يقول تعالى : { فَلَمَّآ أَحَسَّ عيسى } أي استشعر منهم التصميم على الكفر والاستمرار على الضلال ، قال : { مَنْ أنصاري إِلَى الله } ؟ قال مجاهد : أي من يتبعني إلى الله ، وقال سفيان الثوري : أي من أنصاري مع الله ، وقول مجاهد أقرب ، والظاهر أنه أراد من أنصاري في الدعوة إلى الله ، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول في مواسم الحج قبل أن يهاجر : « من رجل يؤويني حتى أبلغ كلام ربي ، فإن قريشاً قد منعوني أن أبلغ كلام ربي » حتى وجد الأنصار فآووه ونصروه ، وهاجر إليهم فواسوه ومنعوه من الأسود والأحمر ، رضي الله عنهم وأرضاهم . وهكذا عيسى بن مريم عليه السلام انتدب له طائفة من بني إسرائيل فآمنوا به ووازروه ونصروه ، واتبعوا النور الذي أنزل معه؛ ولهذا قال الله تعالى مخبراً عنهم : { قَالَ الحواريون نَحْنُ أَنْصَارُ الله آمَنَّا بالله واشهد بِأَنَّا مُسْلِمُونَ * رَبَّنَآ آمَنَّا بِمَآ أَنزَلَتَ واتبعنا الرسول فاكتبنا مَعَ الشاهدين } ، الحواريون قيل : كانوا قصّارين ، وقيل : سموا بذلك لبياض ثيابهم ، وقيل : صيادين ، والصحيح أن الحواري : الناصر كما ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما ندب الناس يوم الأحزاب فانتدب الزبير ، ثم ندبهم فانتدب الزبير رضي الله عنه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لكل نبي حواريّ ، وحواريّ الزبير » .
عن ابن عباس في قوله تعالى : { فاكتبنا مَعَ الشاهدين } قال : مع أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، وهذا إسناد جيد ، ثم قال تعالى مخبراً عن ملأ بني إسرائيل ، فيما هموا به من الفتك بعيسى عليه السلام ، وإرادته بالسوء والصلب ، حين تمالؤا عليه ووشوا به إلى ملك ذلك الزمان - وكان كافراً - أن هنا رجلاً يضل الناس ، ويصدهم عن طاعة الملك ، ويفسد الرعايا ، ويفرق بين الأب وابنه ، إلى غير ذلك ، مما تقلدوه في رقابهم ورموه به من الكذب ، وأنه ولد زنية ، حتى استثاروا غضب الملك بعث في طلبه من يأخذه ويصلبه وينكل به ، فلما أحاطوا بمنزله وظنوا أنهم قد ظفروا به تجاه الله تعالى من بينهم ، ورفعه من روزنة ذلك البيت إلى السماء ، وألقى الله شبهه على رجل ممن كان عنده في المنزل ، فلما دخل أولئك اعتقدوه في ظلمة الليل { عيسى } فأخذوه وأهانوه وصلبوه ووضعوا على رأسه الشوك ، وكان هذا من مكر الله بهم ، فإنه نجّى نبيه ورفعه من بين أظهرهم ، وتركهم في ضلالهم يعمهون ، يعتقدون أنهم قد ظفروا بطلبتهم ، وأسكن الله في قلوبهم قسوة وعناداً للحق ملازماً لهم ، وأورثهم ذلة لا تفارقهم إلى يوم التناد ، ولهذا قال تعالى : { وَمَكَرُواْ وَمَكَرَ الله والله خَيْرُ الماكرين } .(1/354)
إِذْ قَالَ اللَّهُ يَا عِيسَى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَجَاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (56) وَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذَلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآيَاتِ وَالذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)
اختلف المفسرون في قوله تعالى : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَرَافِعُكَ إِلَيَّ } ، فقال قتادة : هذا من المقدم والمؤخر تقديره إني رافعك إليّ ومتوفيك ، يعني بعد ذلك . وقال ابن عباس : إني متوفيك أي مميتك ، وقال وهب بن منبه : توفاه الله ثلاث ساعات من أول النهار حين رفعه إليه ، قال مطر الوراق : إني متوفيك من الدنيا وليس بوفاة موت ، وكذا قال ابن جرير : توفيه هو رفعه . وقال الأكثرون : المراد بالوفاة هاهنا النوم ، كما قال تعالى : { وَهُوَ الذي يَتَوَفَّاكُم باليل } [ الأنعام : 60 ] الآية وقال تعالى : { الله يَتَوَفَّى الأنفس حِينَ مَوْتِهَا والتي لَمْ تَمُتْ فِي مَنَامِهَا } [ الزمر : 42 ] الآية ، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول إذا قام من النوم : « الحمد لله الذي أحيانا بعد ما أماتنا » الحديث . وعن الحسن أنه قال في قوله تعالى : { إِنِّي مُتَوَفِّيكَ } يعني وفاة المنام : رفعه الله في منامه . وقوله تعالى : { وَمُطَهِّرُكَ مِنَ الذين كَفَرُواْ } أي برفعي إياك إلى السماء ، { وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة } ، وهكذا وقع فإن المسيح عليه السلام لما رفعه الله إلى السماء ، تفرقت أصحابه شيعاً بعده ، فمنهم من آمن بما بعثه الله به على أنه عبد الله ورسوله وابن أمته ، ومنهم من غلا فيه فجعله ابن الله ، وآخرون قالوا : هو الله ، وآخرون قالوا : هو ثالث ثلاثة ، وقد حكى الله مقالتهم في القرآن ورد على كل فريق ، فاستمروا على ذلك قريباً من ثلثمائة سنة .
ثم نبغ لهم ملك من ملوك اليونان يقال له : ( قسطنطين ) فدخل في دين النصرانية قيل : حيلة ليفسده ، فإنه كان فيلسوفاً ، وقيل : جهلاً منه ، إلا أنه بدَّل لهم دين المسيح وحرَّفه وزاد فيه نقص منه ، ووضعت له القوانين والأمانة الكبرى التي هي الخيانة الحقيرة ، وأحل في زمانه لحم الخنزير ، وصلوا له إلى المشرق ، وصوروا له الكنائس والمعابد والصوامع ، وزاد في صيامهم عشرة أيام من أجل ذنب ارتكبه فيما يزعمون ، وصار دين المسيح ( دين قسطنطين ) . إلا أنه بنى لهم من الكنائس والمعابد والصوامع والديارات ما يزيد على اثنتي عشر ألف معبد ، وبنى المدينة المنسوبة إليه ، واتبعه طائفة الملكية منهم ، وهم في هذا كله قاهرون لليهود ، أيده الله عليهم لأنه أقرب إلى الحق منهم ، وإن كان الجميع كفاراً عليهم لعائن الله ، فلما بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم فكان من آمن به يؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله على الوجه الحق ، فكانوا هم أتباع كل نبي على وجه الأرض ، إذ قد صدقوا النبي الأمي العربي خاتم الرسل وسيد ولد آدم على الإطلاق ، الذي دعاهم إلى التصديق بجميع الحق فكانوا أولى بكل نبي من أمته الذين يزعمون أنهم على ملته وطريقته مما قد حرفوا وبدلوا ، ثم لو لم يكن شيء من ذلك لكان قد نسخ الله شريعة جميع الرسل بما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم من الدين الحق الذي لا يغير ولا يبدل إلى قيام الساعة ، ولا يزال قائماً منصوراً ظاهراً على كل دين ، فلهذا فتح الله لأصحابه مشارق الأرض ومغاربها ، واحتازوا جميع الممالك ، ودانت لهم جميع الدول ، وكسروا كسرى وقصروا قيصر ، وسلبوهما كنوزهما وأنفقت في سبيل الله ، كما أخبرهم بذلك نبيّهم عن ربهم عزّ وجلّ في قوله :(1/355)
{ وَعَدَ الله الذين آمَنُواْ مِنْكُمْ وَعَمِلُواْ الصالحات لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأرض كَمَا استخلف الذين مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الذي ارتضى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لاَ يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً } [ النور : 55 ] الآية . فلهذا لما كانوا هم المؤمنين بالمسيح حقاً سلبوا النصارى بلاد الشام وألجؤهم إلى الروم فلجأوا إلى مدينتهم القسطنطينية ، ولا يزال الإسلام وأهله فوقهم إلى يوم القيامة .
وقد أخبر الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم أمته بأن آخرهم سيفتحون القسطنطينية ويستفيئون ما فيها من الأموال ، ويقتلون الروم مقتلة عظيمة جداً لم ير الناس مثلها ولا يرون بعدها نظيرها ، وقد جمعت في هذا جزءاً مفرداً ، ولهذا قال تعالى : { وَجَاعِلُ الذين اتبعوك فَوْقَ الذين كَفَرُواْ إلى يَوْمِ القيامة ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ * فَأَمَّا الذين كَفَرُواْ فَأُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً فِي الدنيا والآخرة وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } ، وكذلك فعل بمن كفر بالمسيح من اليهود أو غلا فيه أو أطراه من النصارى ، عذبهم في الدنيا بالقتل والسبي وأخذ الأموال وإزالة الأيدي عن الممالك وفي الدار الآخرة عذابهم أشد وأشق { وَمَا لَهُم مِّنَ الله مِن وَاقٍ } [ الرعد : 34 ] ، { وَأَمَّا الذين آمَنُوا وَعَمِلُواْ الصالحات فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ } أي في الدنيا والآخرة ، في الدنيا بالنصر والظفر ، وفي الآخرة بالجنات العاليات { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين } .
ثم قال تعالى : { ذلك نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الآيَاتِ والذكر الحكيم } أي هذا الذي قصصنا عليك يا محمد في أمر عيسى ومبدأ ميلاده وكيفية أمره ، هو مما قاله تعالى وأوحاه إليك ، ونزله عليك من اللوح المحفوظ ، فلا مرية فيه ولا شك ، كما قال تعالى في سورة مريم : { ذلك عِيسَى ابن مَرْيَمَ قَوْلَ الحق الذي فِيهِ يَمْتُرُونَ * مَا كَانَ للَّهِ أَن يَتَّخِذَ مِن وَلَدٍ سُبْحَانَهُ إِذَا قضى أَمْراً فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ } [ الآية : 34-35 ] وهاهنا قال تعالى : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ . . . } .(1/356)
إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59) الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلَا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْا نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَاءَكُمْ وَنِسَاءَنَا وَنِسَاءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ (61) إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلَّا اللَّهُ وَإِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)
يقول جلّ وعلا : { إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله } في قدرة الله حيث خلقه من غير أب { كَمَثَلِ ءَادَمَ } حيث خلقه من غير أب ولا أم ، بل { خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ } . فالذي خلق آدم من غير أب قادر على أن يخلق عيسى بطريق الأولى والأحرى ، وإن جاز ادعاء البُنُوَّة في عيسى لكونه مخلوقاً من غير أب فجواز ذلك في آدم بالطريق الأولى ، ومعلوم بالإتفاق أن ذلك باطل ، فدعواهم في عيسى أشد بطلاناً وأظهر فساداً ، ولكن الرب جل جلاله أراد أن يظهر قدرته لخلقه حين خلق آدم لا من ذكر ولا من أنثى ، وخلق حواء من ذكر بلا أنثى ، وخلق عيسى من أنثى بلا ذكر ، كما خلق بقية البرية من ذكر وأنثى ، ولهذا قال تعالى في سورة مريم : { وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِّلْنَّاسِ } [ الآية : 21 ] ، وقال هاهنا : { الحق مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُنْ مِّن الممترين } أي هذا هو القول الحق في عيسى الذي لا محيد عنه ولا صحيح سواه ، وماذا بعد الحق إلا الضلال! ثم قال تعالى آمراً رسوله صلى الله عليه وسلم أن يباهل من عاند الحق في أمر عيسى بعد ظهور البيان : { فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَآءَكَ مِنَ العلم فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ } أي نحضرهم في حال المباهلة { ثُمَّ نَبْتَهِلْ } أي نلتعن { فَنَجْعَل لَّعْنَتَ الله عَلَى الكاذبين } أي منا ومنكم . يحاجون في عيسى ويزعمون فيه ما يزعمون من البُنُوَّة والإلهية ، فأنزل الله صدر هذه السورة رداً عليهم . قال ابن إسحاق في سيرته : وقدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم وفد نصارى من نجران ستون راكباً ، فيهم أربعة عشر رجلاً من أشرافهم يؤول أمرهم إليهم فدخلوا عليه مسجده حين صلى العصر ، عليهم ثياب الحبرات جبب وأردية في جمال رجال بني الحارث بن كعب قال - يقول من رآهم من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم ما رأينا بعدهم وفداً مثلهم - وقد حانت صلاتهم فقاموا في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « دعوهم » ، فصلوا إلى المشرق . قال : فكلّم رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم أبو حارثة بن علقمة ، والعاقب عبد المسيح ، والأيهم - وهم من النصرانية على دين الملك مع اختلاف أمرهم - يقولون : هو الله ، ويقولون : هو ولد الله ، ويقولون : هو ثالث ثلاثة ، تعالى الله عن قولهم علواً كبيراً ، وكذلك النصرانية فهم يحتجون في قولهم هو الله بأنه كان يحيي الموتى ويبرىء الأكمه والأبرص والأسقام ويخبر بالغيوب ، ويخلق من الطين كهيئة الطير فينفخ فيه فيكون طيراً ، وذلك كله بأمر الله .(1/357)
وليجعله الله آية للناس ، ويحتجون في قولهم بأنه ابن الله يقولون : لم يكن له أب يعلم ، وقد تكلم في المهد بشيء لم يصنعه أحد من بني آدم قبله ، ويحتجون على قولهم بأنه ثالث ثلاثة بقول الله تعالى : فعلنا ، وأمرنا ، وخلقنا ، وقضينا ، فيقولون لو كان واحداً ما قال إلا فعلت وأمرت وقضيت وخلقت ، ولكنه هو عيسى ومريم - تعلى الله وتقدس وتنزه عما يقول الظالمون والجاحدون علواً كبيراً - وفي كل ذلك من قولهم : قد نزل القرآن .
فلما كلمه الحبران قال لهما رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أسلما » ، قال : قد أسلمنا . قال « إنكما لم تسلما فأسلما » قالا : بلى ، قد أسلمنا قبلك ، قال : « كذبتما يمنعكما من الإسلام ادعاؤكما لله ولداً وعبادتكما الصليب وأكلكما الخنزير » قالا : فمن أبوه يا محمد؟ فصمت رسول الله صلى الله عليه وسلم عنهما فلم يجبهما ، فأنزل الله في ذلك من قولهم واختلاف أمرهم صدر سورة ( آل عمران ) إلى بضع وثمانين آية منها . ثم تكلم ابن إسحاق على تفسيرها إلى أن قال : فلما أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم الخبر من الله والفصل من القضاء بينه وبينهم ، وأمر بما أمر به من ملاعنتهم إن ردوا ذلك عليه دعاهم إلى ذلك ، فقالوا : يا أبا القاسم ، دعنا ننظر في أمرنا ، ثم نأتيك بما نريد أن نفعل فيما دعوتنا إليه ، ثم انصرفوا عنه ، ثم خلوا بالعاقب ، وكان ذا رأيهم ، فقالوا : يا عبد المسيح ماذا ترى؟ فقال : والله يا معشر النصارى لقد عرفتم أن محمداً لنبي مرسل ، ولقد جاءكم بالفصل من خبر صاحبكم ، ولقد علمتم أنه ما لاعن قوم نبياً قط فبقي كبيرهم ولا نبت صغيرهم ، وإنه للإستئصال منكم إن فعلتم ، فإن كنتم أبيتم إلا إلف دينكم والإقامة على ما أنتم عليه من القول في صاحبكم فوادعوا الرجل وانصرفوا إلى بلادكم . فأتوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا أبا القاسم قد رأينا أن لا نلاعنك ، ونتركك على دينك ونرجع على ديننا ، ولكن ابعث معنا رجلاً من أصحابك ترضاه لنا يحكم بيننا في أشياء اختلفانا فيها في أموالنا فإنكم عندنا رضا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ائتوني العشية أبعث معكم القوي الأمين » ، فكان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول : ما أحببت الإمارة قط حبي إياها يومئذٍ ، رجاء أن أكون صاحبها ، فرحت إلى الظهر مهجِّراً فلما صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم الظهر سلم ، ثم نظر عن يمينه وشماله فجعلت أتطاول له ليراني ، فلم يزل يلتمس ببصره حتى رأى أبا عبيدة بن الجراح فدعاه ، فقال : « اخرج معهم فاقض بينهم بالحق فيما اختلفوا فيه »(1/358)
، قال عمر : فذهب بها أبو عبيدة رضي الله عنه .
وقال البخاري عن حذيفة رضي الله عنه قال : « جاء العاقب والسيد صاحبا نجران إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يريدان أن يلاعناه ، قال : فقال أحدهما لصاحبه : لا تفعل فوالله لئن كان نبياً فلاعَنَّاه لا نفلح نحن ولا عقبنا من بعدنا ، قالا : إنا نعطيك ما سألتنا وابعث معنا رجلاً أميناً ولا تبعث معنا إلا أميناً ، فقال : » لأبعثن معكم رجلاً أميناً ، حق أمين « فاستشرف لها أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » قم يا أبا عبيدة بن الجراح « ، فلما قام قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هذا أمين هذه الأمة « وفي الحديث عن ابن عباس » قال قال أبو جهل قبّحه الله : إن رأيت محمداً يصلي عند الكعبة لآتينه حتى أطأ على رقبته . قال فقال : « لو فعل لأخذته الملائكة عياناً ، ولو أن اليهود تمنوا الموت لماتوا ولرأوا مقاعدهم من النار ، ولو خرج الذين يباهلون رسول الله صلى الله عليه وسلم لرجعوا لا يجدون مالاً ولا أهلاً » « .
والغرض أن وفودهم كان في سنة تسع لأن الزهري قال : كان أهل نجران أول من أدى الجزية إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وآية الجزية إنما أنزلت بعد الفتح ، وهي قوله تعالى : { قَاتِلُواْ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله وَلاَ باليوم الآخر } [ التوبة : 29 ] الآية . وقال أبو بكر بن مردويه ، عن جابر : » قدم على النبي صلى الله عليه وسلم العاقب والطيب فدعاهما إلى الملاعنة ، فواعداه على أن يلاعناه الغداة ، قال : فغدا رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ بيد علي وفاطمة والحسن والحسين ثم أرسل إليهما فأبيا أن يجيبا وأقرا له بالخراج ، قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « والذي بعثني بالحق لو قالا : لا لأمطر عليهم الوادي ناراً » قال جابر : وفيهم نزلت : { نَدْعُ أَبْنَاءَنَا وَأَبْنَآءَكُمْ وَنِسَآءَنَا وَنِسَآءَكُمْ وَأَنْفُسَنَا وأَنْفُسَكُمْ } .
ثم قال تعالى : { إِنَّ هذا لَهُوَ القصص الحق } أي هذا الذي قصصناه عليك يا محمد في شأن عيسى هو الحق الذي لا معدل عنه ولا محيد ، { وَمَا مِنْ إله إِلاَّ الله وَإِنَّ الله لَهُوَ العزيز الحكيم * فَإِن تَوَلَّوْاْ } أي عن هذا إلى غيره ، { فَإِنَّ الله عَلِيمٌ بالمفسدين } أي من عدل عن الحق إلى الباطل فهو المفسد ، والله عليم به وسيجزيه على ذلك شر الجزاء ، وهو القادر الذي لا يفوته شيء سبحانه وبحمده ، ونعوذ به من حلول نقمته .(1/359)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)
هذا الخطاب يعم أهل الكتاب من اليهود والنصارى ومن جرى مجراهم ، { قُلْ ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ } ، والكلمة تطلق على الجملة المفيدة كما قال هاهنا ، ثم وصفها بقوله : { سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ } أي عدل ونصف نستوي نحن وأنتم فيها ، ثم فسرها بقوله : { أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً } لا وثناً ولا صليباً ولا صنماً ولا طاغوتاً ولا ناراً ولا شيئاً ، بل نفرد العبادة لله وحده لا شريك له ، وهذه دعوة جميع الرسل . قال الله تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] ، وقال تعالى : { وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت } [ النحل : 36 ] ، ثم قال تعالى : { وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } قال ابن جريج : يعني يطيع بعضنا بعضاً في معصية الله ، وقال عكرمة : يسجد بعضنا لبعض ، { فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } أي فإن تولوا عن هذا النصف وهذه الدعوة فاشهدوا أنتم على استمراركم على الإسلام الذي شرعه الله لكم . وقد ذكرنا في شرح البخاري عن أبي سفيان في قصته حين دخل على قيصر ، فسأله عن نسب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعن صفته ونعته وما يدعو إليه ، فأخبره بجميع ذلك على الجلية ، ثم جيء بكتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقرأه فإذا فيه :
« بسم الله الرحمن الرحيم . من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم ، سلام على من اتبع الهدى ، أما بعد فأسلم تسلم ، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين ، فإن توليت فإنما عليك إثم الأريسيين و { ياأهل الكتاب تَعَالَوْاْ إلى كَلِمَةٍ سَوَآءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ الله وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشهدوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ } » .(1/360)
يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْرَاهِيمَ وَمَا أُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ وَالْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (65) هَا أَنْتُمْ هَؤُلَاءِ حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (66) مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا النَّبِيُّ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَاللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)
ينكر تبارك وتعالى على اليهود والنصارى في محاجتهم في إبراهيم الخليل عليه السلام ودعوى كل طائفة منهم ، أنه كان منهم ، كما قال ابن عباس رضي الله عنه : اجتمعت نصارى نجران وأحبار يهود عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فتنازعوا عنده ، فقالت الأحبار : ما كان إبراهيم إلا يهودياً ، وقالت النصارى : ما كان إبراهيم إلا نصرانياً ، فأنزل الله تعالى { ياأهل الكتاب لِمَ تُحَآجُّونَ في إِبْرَاهِيمَ } الآية . أي كيف تدعون أيها اليهود أنه كان يهودياً ، وقد كان زمنه قبل أن ينزل الله التوراة على موسى؟ وكيف تدعون أيها النصارى أنه كان نصرانياً ، وإنما حدثت النصرانية بعد زمنه بدهر؟ ولهذا قال تعالى : { أَفَلاَ تَعْقِلُونَ } ؟ ثم قال تعالى : { هاأنتم هؤلاء حَاجَجْتُمْ فِيمَا لَكُم بِهِ عِلمٌ فَلِمَ تُحَآجُّونَ فِيمَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ } ؟ هذا إنكار على من يحاج فيما لا علم له به ، فإن اليهود والنصارى تحاجوا في إبراهيم بلا علم ، ولو تحاجوا فيما بأيديهم منه علم مما يتعلق بأديانهم التي شرعت لهم إلى حين بعثة محمد صلى الله عليه وسلم لكان أولى بهم ، وإنما تكلموا فيما لا يعلمون ، فأنكر الله عليهم ذلك وأمرهم برد ما لا علم لهم به إلىعالم الغيب والشهادة الذي يعلم الأمور على حقائقها وجلياتها ، ولهذا قال تعالى : { والله يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ } .
ثم قال تعالى : { مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيّاً وَلاَ نَصْرَانِيّاً وَلَكِن كَانَ حَنِيفاً مُّسْلِماً } أي متحنفاً عن الشرك قاصداً إلى الإيمان ، { وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } ، وهذه الآية كالتي تقدمت في سورة البقرة : { وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نصارى تَهْتَدُواْ } [ الآية : 135 ] الآية ثم قال تعالى : { إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ والله وَلِيُّ المؤمنين } ، يقول تعالى : أحق الناس بمتابعة إبراهيم الخليل الذين اتبعوه على دينه { وهذا النبي } يعني محمداً صلى الله عليه وسلم والذين آمنوا من أصحابه المهاجرين والأنصار ومن تبعهم بعدهم . عن عبد الله بن مسعود قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن لكل نبي ولاية من النبيين وإن وليي منهم - أبي وخليل ربي عزّ وجلّ - ابراهيم عليه السلام » ، ثم قرأ : { إِنَّ أَوْلَى الناس بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتبعوه وهذا النبي والذين آمَنُواْ } الآية ، وقوله : { والله وَلِيُّ المؤمنين } أي ولي جميع المؤمنين برسله .(1/361)
وَدَّتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَمَا يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (69) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71) وَقَالَتْ طَائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَلَا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتَى أَحَدٌ مِثْلَ مَا أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)
يخبر تعالى عن حسد اليهود للمؤمنين وبغيهم إياهم الإضلال ، وأخبر أن وبال ذلك إنما يعود على أنفسهم ، وهم لا يشعرون أنهم ممكور بهم ، ثم قال تعالى منكراً عليهم : { ياأهل الكتاب لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَأَنْتُمْ تَشْهَدُونَ } أي تعلمون صدقها وتتحققون حقها ، { ياأهل الكتاب لِمَ تَلْبِسُونَ الحق بالباطل وَتَكْتُمُونَ الحق وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ } أي تكتمون ما في كتبكم من صفة محمد صلى الله عليه وسلم وأنتم تعرفون ذلك وتتحققونه ، { وَقَالَتْ طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب آمِنُواْ بالذي أُنْزِلَ عَلَى الذين آمَنُواْ وَجْهَ النهار واكفروا آخِرَهُ } الآية . هذه مكيدة أرادوها ليلبسوا على الضعفاء من الناس أمر دينهم ، وهو أنهم اشتوروا بينهم أن يظهروا الإيمان أول النهار ، ويصلوا مع المسلمين صلاة الصبح ، فإذا جاء آخر النهار ارتدوا إلى دينهم ، ليقول الجهلة من الناس إنما ردهم إلى دينهم اطلاعهم على نقيصة وعيب في دين المسلمين ، ولهذا قالوا : { لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ } . قال مجاهد : يعني يهوداً صلت مع النبي صلى الله عليه وسلم صلاة الصبح ، وكفروا آخر النهار مكراً منهم ، ليروا الناس أن قد بدت لهم الضلالة منه بعد أن كانوا اتبعوه ، وقال ابن عباس : قالت : طائفة من أهل الكتاب إذا لقيتم أصحاب محمد أول النهار فآمنوا ، وإذا كان آخره فصلوا صلاتكم ، لعلهم يقولون هؤلاء أهل الكتاب وهم أعلم منا .
وقوله تعالى : { وَلاَ تؤمنوا إِلاَّ لِمَن تَبِعَ دِينَكُمْ } أي لا تطمئنوا أو تظهروا سركم وما عندكم إلا لمن تبع دينكم ، ولا تظهروا ما بأيديكم إلى المسلمين فيؤمنوا به ويحتجوا به عليكم ، قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الهدى هُدَى الله } أي هو الذي يهدي قلوب المؤمنين إلى أتم الإيمان ، بما ينزله على عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم من الآيات البينات ، والدلائل القاطعات والحجج الواضحات ، وإن كتمتم أيها اليهود ما بأيديكم من صفة محمد النبي الأمي ، في كتبكم التي نقلتموها عن الأنبياء الأقدمين . وقوله : { أَن يؤتى أَحَدٌ مِّثْلَ مَآ أُوتِيتُمْ أَوْ يُحَآجُّوكُمْ عِندَ رَبِّكُمْ } يقولون لا تظهروا ما عندكم من العلم للمسلمين فيتعلموه منكم ، ويساوونكم فيه ، يمتازون به عليكم لشدة الإيمان به ، أو يحاجوكم به عند ربكم ، أي يتخذوه حجة عليكم بما في أيديكم فتقوم به عليكم الدلالة وترتكب الحجة في الدنيا والآخرة ، قال الله تعالى : { قُلْ إِنَّ الفضل بِيَدِ الله يُؤْتِيهِ مَن يَشَآءُ } أي الأمور كلها تحت تصرفه وهو المعطي المانع ، يمنُّ على من يشاء بالإيمان والعلم والتصرف التام ، ويضل من يشاء فيعمي بصره وبصيرته ، ويختم على قلبه وسمعه ويجعل على بصره غشاوة ، وله الحجة والحكمة البالغة { والله وَاسِعٌ عَلِيمٌ * يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَن يَشَآءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ } ، أي اختصكم أيها المؤمنون من الفضل بما لا يُحدُّ ولا يُوصف ، بما شرف به نبيكم محمداً صلى الله عليه وسلم على سائر الأنبياء ، وهداكم به إلى أكمل الشرائع .(1/362)
وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلَى مَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)
يخبر تعالى عن اليهود بأن منهم الخونة ، ويحذر المؤمنين من الاغترار بهم ، فإن منهم { مَنْ إِن تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ } أي من المال { يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ } أي وما دونه بطريق الأولى أن يؤديه إليك ، { وَمِنْهُمْ مَّنْ إِن تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لاَّ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَآئِماً } أي بالمطالبة والملازمة والإلحاح في استخلاص حقك ، وإذا كان هذا صنيعه في الدينار ، فما فوقه أولى أن لا يؤديه إليك . وقوله { ذلك بِأَنَّهُمْ قَالُواْ لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } أي إنما حملهم على جحود الحق أنهم يقولون : ليس علينا في ديننا حرج في أكل أموال الأمين ( وهم العرب ) فإن الله قد أحلها لنا ، قال الله تعالى : { وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي وقد اختلقوا هذه المقالة ، وائتفكوها بهذه الضلالة ، فإن الله حرّم عليهم أكل الأموال إلا بحقها وإنما هم قوم بُهت . عن أبي صعصعة بن يزيد أن رجلاً سأل ابن عباس ، فقال : إنا نصيب في الغزو من أموال أهل الذمة الدجاجة والشاة ، قال ابن عباس : فتقولون ماذا؟ قال : نقول : ليس علينا بذلك بأس ، قال : هذا كما قال أهل الكتاب : { لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الأميين سَبِيلٌ } ، إنهم إذا أدوا الجزية لم تحل لكم أموالهم إلا بطيب أنفسهم . وعن سعيد بن جبير قال : لما قال أهل الكتاب ليس علينا في الأميين سبيل ، قال نبي الله صلى الله عليه وسلم : « كذب أعداء الله؛ ما من شيء كان في الجاهلية إلى وهو تحت قدميَّ هاتين إلا الأمانة فإنها مؤداة إلى البر والفاجر » . ثم قال تعالى : { بلى مَنْ أوفى بِعَهْدِهِ وَاتَّقَى } أي لكن من أوفى بعهده واتقى منكم يا أهل الكتاب . اتقى محارم الله واتبع طاعته وشريعته التي بعث بها خاتم رسله وسيدهم { فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ } .(1/363)
إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَا خَلَاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَلَا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (77)
يقول تعالى : إن الذين يعتاضون عما عاهدوا الله عليه ، من اتباع محمد صلى الله عليه وسلم وذكر صفته للناس وبيان أمره ، وعن أيمانهم الكاذبة الفاجرة الآثمة ، بالأثمان القليلة الزهيدة ، وهي عروض هذه الحياة الدنيا الفانية الزائلة ، { أولئك لاَ خَلاَقَ لَهُمْ فِي الآخرة } أي لا نصيب لهم فيها ولا حظ لهم منها ، { وَلاَ يُكَلِّمُهُمُ الله وَلاَ يَنظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ القيامة } أي برحمة منه لهم ، يعني لا يكلمهم الله كلام لطف بهم ولا ينظر إليهم بعين الرحمة ، { وَلاَ يُزَكِّيهِمْ } أي من الذنوب والأدناس ، بل يأمر بهم إلى النار ، { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، وقد وردت أحاديث تتعلق بهذه الآية الكريمة فلنذكر منها ما تيسر .
الحديث الأول : عن أبي ذر قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » ثلاثة لا يكلمهم الله ولا ينظر إليهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم « قلت : يا رسول الله من هم؟ خسروا وخابوا ، قال : وأعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم ثلاث مرات قال : » المسبل ، والمنفق سلعته بالحلف الكاذب ، والمنان « » .
الحديث الثاني : عن عدي بن عميرة الكِندي قال : « خاصم رجل من كِنْدة يُقال له امرؤ القيس بن عامر رجلاً من حضرموت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في أرض ، فقضى على الحضرمي بالبيّنة فلم يكن له بيّنة ، فقضى على امرىء القيس باليمين ، فقال الحضرمي : أمكنته من اليمين يا رسول الله؟ ذهبت ورب الكعبة أرضي ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أحد لقي الله عزّ وجلّ وهو عليه غضبان « ، وتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } ، فقال امرؤ القيس : ماذا لمن تركها يا رسول الله؟ فقال : » الجنة « قال : فاشهد أني قد تركتها له كلها » .
الحديث الثالث : عن عبد الله بن مسعود قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان » ، قال : فجاء الأشعث بن قيس فقال : ما يحدثكم أبو عبد الرحمن؟ فحدثناه فقال : كان في هذا الحديث ، « خاصمت ابن عم لي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بئر كانت لي في يده فجحدني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » بينتك أنها بئرك وإلا فيمينه « ، قال : قلت : يا رسول الله ما لي بينة ، وإن تجعلها بيمينه تذهب بئري ، إن خصمي امرؤ فاجر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من اقتطع مال امرىء مسلم بغير حق لقي الله وهو عليه غضبان « ، قال : وقرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } »(1/364)
الآية .
الحديث الرابع : قال أحمد ، عن سهل بن معاذ بن أنس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « » إن لله تعالى عباداً لا يكلمهم يوم القيامة ولا يزكيهم ولا ينظر إليهم « ، قيل : » ومن أولئك يا رسول الله؟ قال : « متبرىء من والديه راغب عنهما ، ومتبرىء من ولده ، ورجل أنعم عليه قوم فكفر نعمتهم وتبرأ منهم » « .
الحديث الخامس : عن عبد الله بن أبي أوفى ، أن رجلاً أقام سلعة له في السوق فحلف بالله لقد أعطي بها ما لم يعطه ليوقع فيها رجلاً من المسلمين ، فنزلت هذه الآية : { إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ الله وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً } الآية .
الحديث السادس : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم ولا يزكيهم ولهم عذاب أليم ، رجل منع ابن السبيل فضل ماء عنده ورجل حلف على سلعة - بعد العصر - يعني كاذباً ، ورجل بايع إماماً فإن أعطاه وفى له وإن لم يعطه لم يف له « .(1/365)
وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقًا يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتَابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتَابِ وَمَا هُوَ مِنَ الْكِتَابِ وَيَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (78)
يخبر تعالى عن اليهود عليهم لعائن الله ، أن منهم فريقاً يحرفون الكلم عن مواضعه ، ويبدلون كلام الله ويزيلونه عن المراد به ، ليوهموا الجهلة أنه في كتاب الله كذلك ، وينسبونه إلى الله وهو كذب على الله ، وهم يعلمون من أنفسهم أنهم قد كذبوا وافتروا في ذلك كله ، ولهذا قال تعالى : { وَيَقُولُونَ عَلَى الله الكذب وَهُمْ يَعْلَمُونَ } ، قال مجاهد والحسن : { يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بالكتاب } يحرفونه ، وهكذا روى البخاري عن ابن عباس أنهم يحرفون ويزيلون ، وليس أحد من خلق الله يزيل لفظ كتاب من كتب الله ، لكنهم يحرفونه يتأولونه على غير تأويله .(1/366)
مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِبَادًا لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلَكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتَابَ وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَلَا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلَائِكَةَ وَالنَّبِيِّينَ أَرْبَابًا أَيَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)
عن ابن عباس قال قال أبو رافع القرظي : حين اجتمعت الأحبار من ( اليهود والنصارى ) من أهل نجران عند رسول الله صلى الله عليه وسلم ودعاهم إلى الإسلام : أتريد يا محمد أن نعبدك كما تعبد النصارى عيسى بن مريم؟ فقال رجل من أهل نجران نصراني يقال له الرئيس : أو ذاك تريد منا يا محمد وإليه تدعونا؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « معاذ الله أن نعبد غير الله ، أو أن نأمر بعبادة غير الله ، ما بذلك بعثني ولا بذلك أمرني » ، أو كما قال صلى الله عليه وسلم ، فأنزل الله في ذلك من قولهما : { مَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُؤْتِيهُ الله الكتاب والحكم والنبوة - إلى قوله - { بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } أي ما ينبغي لبشر آتاه الله الكتاب والحكمة والنبوة ، أن يقول للناس اعبدوني من دون الله ، أي مع الله ، فإذا كان هذا لا يصلح لنبي ولا لمرسل ، فلا يصلح لأحد من الناس غيرهم بطريق الأولى والأحرى . لهذا قال الحسن البصري : لا ينبغي هذا لمؤمن أن يأمر الناس بعبادته ، قال : وذلك أن القوم كان يعبد بعضهم بعضاً ، يعني أهل الكتاب كانوا يعبدون أحبارهم ورهبانهم ، كما قال الله تعالى : { اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ الله } [ التوبة : 31 ] الآية . وفي المسند أن عدي بن حاتم قال : « يا رسول الله ، ما عبدوهم ، قال : » بلى ، إنهم أحلوا لهم الحرام وحرموا عليهم الحلال فاتبعوهم فذلك عبادتهم إياهم « ، فالجهلة من الأحبار والرهبان ، ومشايخ الضلال ، يدخلون في هذا الذم والتوبيخ ، بخلاف الرسل وأتباعهم من العلماء العاملين .
فالرسل صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ، هم السفراء بين الله وبين خلقه ، في أداء ما حملوه من الرسالة ، وإبلاغ الأمانة فقاموا بذلك أتم القيام ونصحوا الخلق ، وبلغوهم الحق ، وقوله تعالى : { ولكن كُونُواْ رَبَّانِيِّينَ بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } أي ولكن يقول الرسول للناس : كونوا ربانيين ، قال ابن عباس : أي حكماء علماء حلماء ، وقال الحسن : فقهاء ، وعن الحسن أيضاً : يعني أهل عبادة وأهل تقوى ، وقال الضحاك في قوله : { بِمَا كُنتُمْ تُعَلِّمُونَ الكتاب وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } حق على من تعلم القرآن أن يكون فقيهاً ، تَعْلمون : أي تفهمون معناه ، وقرىء تعلّمون بالتشديد من التعليم ، { وَبِمَا كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ } تحفظون ألفاظه ، ثم قال الله تعالى : { وَلاَ يَأْمُرَكُمْ أَن تَتَّخِذُواْ الملائكة والنبيين أَرْبَاباً } أي ولا يأمركم بعبادة أحد غير الله ، لا نبي مرسل ولا ملك مقرب ، { أَيَأْمُرُكُم بالكفر بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } ؟ أي لا يفعل ذلك إلا من دعا إلى عبادة غير الله ومن دعا إلى عبادة غير الله ، فقد دعا إلى الكفر ، والأنبياء إنما يأمرون بالإيمان وهو عبادة الله وحده لا شريك له كما قال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رَّسُولٍ إِلاَّ نوحي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إله إِلاَّ أَنَاْ فاعبدون } [ الأنبياء : 25 ] وقال : { وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَآ أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرحمن آلِهَةً يُعْبَدُونَ } [ الزخرف : 45 ] ؟ وقال إخباراً عن الملائكة : { وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظالمين } [ الأنبياء : 29 ] .(1/367)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ ثُمَّ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنْصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ عَلَى ذَلِكُمْ إِصْرِي قَالُوا أَقْرَرْنَا قَالَ فَاشْهَدُوا وَأَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (82)
يخبر تعالى أنه أخذ ميثاق كل نبي بعثه من لدن آدم عليه السلام إلىعيسى عليه السلام ، مهما آتى الله أحدهم من كتاب وحكمة وبلغ أي مبلغ ، ثم جاء رسول من بعده ليؤمنن به ولينصرنه ، ولا يمنعه ما هو فيه من العلم والنبوة من اتباع من بعث بعده ونصرته ، ولهذا قال تعالى وتقدس : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ النبيين لَمَآ آتَيْتُكُم مِّن كِتَابٍ وَحِكْمَةٍ } أي لَمَهْمَا أعطيتكم من كتاب وحكمة ، { ثُمَّ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مُّصَدِّقٌ لِّمَا مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَلَتَنصُرُنَّهُ قَالَ أَأَقْرَرْتُمْ وَأَخَذْتُمْ على ذلكم إِصْرِي } ، قال ابن عباس ومجاهد : يعني عهدي ، وقال محمد بن إسحاق { إِصْرِي } أي ميثاقي الشديد المؤكد ، { قالوا أَقْرَرْنَا قَالَ فاشهدوا وَأَنَاْ مَعَكُمْ مِّنَ الشاهدين * فَمَنْ تولى بَعْدَ ذلك } أي عن هذا العهد والميثاق { فأولئك هُمُ الفاسقون } ، قال علي وابن عباس رضي الله عنهما : ما بعث الله نبياً من الأنبياء إلا أخذ عليه الميثاق ، لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأمره أن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه ، وقال الحسن البصري وقتادة : أخذ الله ميثاق النبيين أن يصدق بعضهم بعضاً ، وهذا لا يضاد ما قاله علي وابن عباس ولا ينفيه بل يستلزمه ويقتضيه ، وقد قال الإمام أحمد : جاء عمر إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يا رسول الله إني أمرت بأخ لي يهودي من قريظة فكتب لي جوامع من التوراة ألا أعرضها عليك؟ قال : فتغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال عبد الله بن ثابت قلت له : ألا ترى ما بوجه رسول الله صلى الله عليه وسلم ! فقال عمر : رضيت بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد رسولاً ، قال : فسُرّي عن النبي صلى الله عليه وسلم ، وقال : « والذي نفسي بيده لو أصبح فيكم موسى عليه السلام ، ثم اتبعتموه وتركتموني لضللتم ، إنكم حظي من الأمم ، وأنا حظكم من النبيين » .
حديث آخر : وعن جابر قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا تسألوا أهل الكتاب عن شيء فإنهم لن يهدوكم وقد ضلوا ، وإنكم إما أن تصدقوا بباطل ، وإما أن تكذبوا بح ، وإنه والله لو كان موسى حياً بين أظهركم ما حل له إلا أن يتبعني » وفي بعض الأحاديث : « لو كان موسى وعيسى حيين لما وسعهما إلا اتباعي » فالرسول محمد خاتم الأنبياء صلوات الله وسلامه عليه دائماً إلى يوم الدين ، هو الإمام الأعظم الذي لو وجد في أي عصر وجد ، لكان هو الواجب الطاعة المقدم على الأنبياء كلهم ، ولهذا كان إمامهم ليلة الإسراء لما اجتمعوا ببيت المقدس ، وكذلك هو الشفيع في المحشر في إتيان الربّ جلّ جلاله لفصل القضاء بين عباده ، وهو المقام المحمود الذي لا يليق إلاّ له ، والذي يحيد عنه أولو العزم من الأنبياء والمرسلين ، حتى تنتهي النوبة إليه فيكون هو المخصوص به ، صلوات الله وسلامه عليه .(1/368)
أَفَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَلَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعًا وَكَرْهًا وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ عَلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَالنَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ (85)
يقول تعالى منكراً على من أراد ديناً سوى دين الله ، الذي أنزل به كتبه وأرسل به رسله ، وهو عبادة الله وحده لا شريك له ، الذي له أسلم من في السماوات والأرض أي استسلم له من فيهما طوعاً وكرهاً كما قال تعالى : { وَللَّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } [ الرعد : 15 ] . وقال تعالى : { وَلِلَّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض مِن دَآبَّةٍ والملائكة وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُمْ مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ } [ النحل : 49-50 ] فالمؤمن مستسلم بقلبه وقالبه لله ، والكافر مستسلم لله كرهاً ، فإنه تحت التسخير والقهر والسلطان العظيم الذي لا يخالف ولا يمانع ، وقد قال وكيع في تفسيره عن مجاهد : { وَلَهُ أَسْلَمَ مَن فِي السماوات والأرض طَوْعاً وَكَرْهاً } قال : هو كقوله : { وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ مَّنْ خَلَقَ السماوات والأرض لَيَقُولُنَّ الله } [ لقمان : 25 ] ، { وَإِلَيْهِ يُرْجَعُونَ } أي يوم المعاد فيجازي كلاً بعمله .
ثم قال تعالى : { قُلْ آمَنَّا بالله وَمَآ أُنزِلَ عَلَيْنَا } يعني القرآن ، { وَمَآ أُنزِلَ على إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ } أي من الصحف والوحي ، { والأسباط } وهم بطون بني إسرائيل المتشعبة من أولاد إسرائيل - وهو يعقوب - الاثني عشر ، { وَمَا أُوتِيَ موسى وعيسى } يعني بذلك التوراة والإنجيل ، { والنبيون مِن رَّبِّهِمْ } وهذا يعم جميع الأنبياء جملة ، { لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّنْهُمْ } يعني بل نؤمن بجميعهم ، { وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ } فالمؤمنون من هذه الأمة يؤمنون بكل نبي أرسل ، وبكل كتاب أنزل ، لا يكفرون بشيء من ذلك ، بل هم يصدقون بما أنزل من عند الله ، وبكل نبي بعثه الله .
ثم قال تعالى : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } الآية . أي من سلك طريقاً سوى ما شرعه الله فلن يقبل منه ، { وَهُوَ فِي الآخرة مِنَ الخاسرين } ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح : « من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد » .(1/369)
كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْمًا كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خَالِدِينَ فِيهَا لَا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلَا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)
قال ابن جرير عن ابن عباس قال : كان رجل من الأنصار أسلم ثم ارتد ولحق بالشرك ، ثم ندم فأرسل إلى قومه أن سلو رسول الله صلى الله عليه وسلم هل لي من توبة؟ فنزلت : { كَيْفَ يَهْدِي الله قَوْماً كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ - إلى قوله - فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، فأرسل إليه قومه فأسلم . { وَجَآءَهُمُ البينات } أي قامت عليهم الحجج والبراهين على صدق ما جاءهم به الرسول ، ووضح لهم الأمر ثم ارتدوا إلى ظلمة الشرك ، فكيف يستحق هؤلاء الهداية بعد ما تلبسوا به من العماية؟ ولهذا قال تعالى : { والله لاَ يَهْدِي القوم الظالمين } . ثم قال تعالى : { أولئك جَزَآؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ الله والملائكة والناس أَجْمَعِينَ } أي يلعنهم الله ويلعنهم خلقه ، { خَالِدِينَ فِيهَا } أي في اللعنة ، { لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العذاب وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ } أي لا يفتر عنهم العذاب ولا يخفف عنهم ساعة واحدة ، ثم قال تعالى : { إِلاَّ الذين تَابُواْ مِن بَعْدِ ذلك وَأَصْلَحُواْ فَإِنَّ الله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } ، وهذا من لطفه وبره ورأفته ورحمته وعائدته على خلقه ، أن من تاب إليه تاب عليه .(1/370)
إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَمَاتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْءُ الْأَرْضِ ذَهَبًا وَلَوِ افْتَدَى بِهِ أُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِنْ نَاصِرِينَ (91)
يقول تعالى متوعداً ومهدداً لم كفر بعد إيمانه ثم ازداد كفراً أي استمر عليه إلى الممات ، ومخبراً بأنهم لن تقبل لهم توبة عند الممات ، كما قال تعالى : { وَلَيْسَتِ التوبة لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السيئات حتى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الموت } [ النساء : 18 ] الآية . ولهذا قال هاهنا : { لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وأولئك هُمُ الضآلون } أي الخارجون عن المنهج الحق إلى طريق الغي ، قال الحافظ أبو بكر البزار عن عكرمة عن ابن عباس : أن قوماً أسلموا ثمَّ ارتدوا ، ثم أسلموا ، ثم ارتدوا ، فأرسلوا إلى قومهم يسألون لهم ، فذكروا ذلك لرسول الله صلى الله عليه وسلم فنزلت هذه الآية : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازدادوا كُفْراً لَّن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ } .
ثم قال تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كُفَّارٌ فَلَن يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِم مِّلْءُ الأرض ذَهَباً وَلَوِ افتدى بِهِ } ، أي من مات على الكفر فلن يقبل منه خير أبداً ، ولو كان قد أنفق ملء الأرض ذهباً فيما يراه قربة ، كما سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان - وكان يقري الضيف ويفك العاني ويطعم الطعام - هل ينفعه ذلك؟ فقال : « لا! إنه لم يقل يوماً من الدهر : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين » ، وكذلك لو افتدى بملء الأرض أيضاً ذهباً ما قبل منه كما قال تعالى : { وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ تَنفَعُهَا شَفَاعَةٌ } [ البقرة : 123 ] ، وقال : { لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ } [ إبراهيم : 31 ] ، وقال : { إِنَّ الذين كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَّا فِي الأرض جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ القيامة مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ المائدة : 36 ] ، ولو افتدى نفسه من الله بملء الأرض ذهباً ، بوزن جبالها وتلالها وترابها ورمالها وسهلها ووعرها وبرها وبحرها . عن أنس بن مالك ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة أرأيت لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتدياً به؟ قال فيقول : نعم ، فيقول الله : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر أبيك آدم أن لا تشرك بي شيئاً فأبيت إلا أن تشرك » .
طريق آخر : وقال الإمام أحمد ، عن أنس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يؤتى بالرجل من أهل الجنة فيقول له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول : أي رب خير منزل ، فيقول : سل وتمن ، فيقول : ما أسأل ولا أتمنى إلا أن تردني إلى الدنيا فأقتل في سبيلك عشر مرار ، لما يرى من فضل الشهادة ، ويؤتى بالرجل من أهل النار فيقول له : يا ابن آدم كيف وجدت منزلك؟ فيقول : يا رب شر منزل ، فيقول له : أتفتدي مني بطلاع الأرض ذهباً؟ فيقول : أي رب نعم ، فيقول : كذبت قد سألتك أقل من ذلك وايسر فلم تفعل فيرد إلى النار » ، ولهذا قال : { أولئك لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ وَمَا لَهُمْ مِّن نَّاصِرِينَ } أي وما لهم من أحد ينقذهم من عذاب الله ولا يجيرهم من أليم عقابه .(1/371)
لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)
روى وكيع في تفسيره عن عمرو بن ميمون { لَن تَنَالُواْ البر } قال : الجنة ، وقال الإمام أحمد عن أنس بن مالك : كان أبو طلحة أكثر الأنصار بالمدينة مالاً ، وكان أحب أمواله إليه ( بير حاء ) وكانت مستقبلة المسجد ، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يدخلها ويشرب من ماء فيها طيِّب . قال أنَس : فلما نزلت : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } ، قال أبو طلحة : يا رسول الله إن الله يقول : { لَن تَنَالُواْ البر حتى تُنْفِقُواْ مِمَّا تُحِبُّونَ } وإن أحب أموالي إليّ ( بير حاء ) ، وإنها صدقة لله أرجو بها برها وذخرها عند الله تعالى ، فضعها يا رسول الله حيث أراك الله ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « بخ بخ ، ذاك مال رابح ، ذاك مال رابح ، وقد سمعت وأنا أرى أن تجعلها في الأقربين » ، فقال أبو طلحة : أفعل يا رسول الله . فقسمها أبو طلحة في أقاربه وبني عمه . وفي الصحيحين أن عمر قال : « يا رسول الله لم أصب مالاً قط هو أنفس عندي من سهمي الذي هو بخيبر ، فما تأمرني به؟ قال : » احبِسْ الأصل ، وأسبِلْ الثمرة « » .(1/372)
كُلُّ الطَّعَامِ كَانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ إِلَّا مَا حَرَّمَ إِسْرَائِيلُ عَلَى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْرَاةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْرَاةِ فَاتْلُوهَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)
قال ابن عباس : حضرَتْ عصابة من اليهود نبي الله صلى الله عليه وسلم فقالوا : حدثنا عن خلالٍ نسألك عنهن لا يعلمهن إلا نبي ، قال : « سلوني عما شئتم ولكن اجعلوا لي ذمة الله وما أخذ يعقوب على بنيه ، لئن أنا حدثتكم شيئاً فعرفتموه لتتابعني على الإسلام » ، قالوا : فذلك لك ، قالوا : أخبرنا عن أربع خلال ، أخبرنا أي الطعام حرم إسرائيل على نفسه؟ وكيف ماء المرأة وماء الرجل؟ وكيف يكون الذكر منه والأنثى ، وأخبرنا بهذا النبي الأمي في النوم ومن وليه من الملائكة؟ فأخذ عليهم العهد لئن أخبرهم ليتابعنه . فقال : « أنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن إسرائيل مرض مرضاً شديداً وطال سقمه فنذر لله نذراً لئن شفاه الله من سقمه ليحرمنَّ أحب الطعام والشراب إليه ، وكان أحب الطعام إليه لحم الإبل وأحب الشراب إليه ألبانها »؟ فقالوا : اللهم نعم : فقال : « اللهم اشهد عليهم » ، وقال : « أنشدكم بالله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى هل تعلمون أن ماء الرجل أبيض غليظ وماء المرأة أصفر رقيق ، فأيهما علا كان له الولد والشبه بإذن الله ، إن علا ماء الرجل ماء المرأة كان ذكراً بإذن الله ، وإن علا ماء المرأة ماء الرجل كان أنثى بإذن الله » قالوا : نعم . قال : « اللهم اشهد عليهم » ، وقال : « وأنشدكم بالذي أنزل التوراة على موسى ، هل تعلمون أن هذا النبي الأمي تنام عيناه ولا ينام قلبه؟ » قالوا : اللهم نعم ، قال : « اللهم اشهد » . قال : « وإن وليي جبريل ولم يبعث الله نبياً قط إلا وهو وليه » ، قالوا : فعند ذلك نفارقك ولو كان وليك غيره لتابعناك ، فعند ذلك قال الله تعالى : { قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ } [ البقرة : 97 ] الآية .
وقال ابن جريج ، عن ابن عباس : كان إسرائيل عليه السلام - وهو يعقوب - يعتريه عرق النسا بالليل ، وكان يقلقه ويزعجه عن النوم ويقلع الوجع عنه بالنهار ، فنذر لله لئن عافاه الله لا يأكل عَرْقاً ، ولا يأكل ولد ما له عَرْق ، فاتبعه بنوه في تحريم ذلك استناباً به واقتداء بطريقه ، وقوله : { مِن قَبْلِ أَن تُنَزَّلَ التوراة } أي حرم ذلك على نفسه من قبل أن تنزل التوراة ، { قُلْ فَأْتُواْ بالتوراة فاتلوها إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } فإنها ناطقة بما قلناه ، { فَمَنِ افترى عَلَى الله الكذب مِن بَعْدِ ذَلِكَ فأولئك هُمُ الظالمون } أي فمن كذب على الله وادعى أنه شرع لهم السبت والتمسك بالتوراة دائماً ، وأنه لم يبعث نبياً آخر يدعوا إلى الله تعالى بالبراهين والحجج ، بعد هذا الذي بيناه من وقوع النسخ وظهور ما ذكرنا { فأولئك هُمُ الظالمون } ، ثم قال تعالى : { قُلْ صَدَقَ الله } أي قل يا محمد صدق الله فيما أخبر به وفيما شرعه في القرآن ، { فاتبعوا مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } أي اتبعوا ملة إبراهيم التي شرعها الله في القرآن على لسان محمد صلى الله عليه وسلم فإنه الحق الذي لا شك فيه ولا مرية ، وهي الطريقة التي لم يأت نبي بأكمل منها ولا أبين ولا أوضح ولا أتم ، كما قال تعالى :(1/373)
{ قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي ربي إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } [ الأنعام : 161 ] ، وقال تعالى : { ثُمَّ أَوْحَيْنَآ إِلَيْكَ أَنِ اتبع مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ المشركين } [ النحل : 123 ] .(1/374)
إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ (96) فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ (97)
يخبر تعالى أن أول بيت وضع للناس أي لعموم الناس ، لعبادتهم ونسكهم يطوفون به ويصلون إليه ويعتكفون عنده { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } يعني الكعبة التي بناها إبراهيم الخليل عليه السلام ، الذي يزعم كل من طائفتي النصارى واليهود أنهم على دينه ، ومنهجه ، ويحجون إلى البيت الذي بناه عن أمر الله ، ولهذا قال تعالى : { مُبَارَكاً } أي وضع مباركاً { وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ } . عن أبي ذر رضي الله عنه قال : « قلت : يا رسول الله أي مسجد وضع أول؟ قال : » المسجد الحرام « ، قلت : ثم أيّ؟ قال : » المسجد الأقصى « ، قلت : كم بينهما؟ قال : » أربعون سنة « قلت : ثم أي؟ قال : » ثم حيث أدركتك الصلاة فصل فكلها مسجد « وعن علي رضي عنه في قوله تعالى : { إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً } ، قال : كانت البيوت قبله ولكنه أول بيت وضع لعبادة الله . وزعم السدي أنه أول بيت وضع على وجه الأرض ، مطلقاً ، والصحيح قول علي رضي الله عنه .
وقوله تعالى : { لَلَّذِي بِبَكَّةَ } بكة من أسماء مكة على المشهور ، قيل : سميت بذلك لأنها تبك أعناق الظلمة والجبابرة ، بمعنى أنهم يذلون بها ويخضعون عندها ، وقيل : لأن الناس يتباكون فيها أي يزدحمون ، قال قتادة : إن الله بَكَّ به الناس جميعاً ، فيصلي النساء أمام الرجال ولا يفعل ذلك ببلد غيرها ، وقال شعبة عن إبراهيم : بكة البيت والمسجد ، وقال عكرمة : البيت وما حوله بكة ، وما وراء ذلك مكة ، وقال مقاتل بن حيان : بكة موضع البيت وما سوى ذلك مكة . وقد ذكروا لمكة أسماء كثيرة ( مكة ، وبكة ، والبيت العتيق ، والبيت الحرام ، والبلد الأمين ، وأم القرى ، والقادس لأنها تطهر من الذنوب ، والمقدسة ، والحاطمة ، والرأس ، والبلدة ، والبنية ، والكعبة ) .
وقوله تعالى : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ } أي دلالات ظاهرة أنه من بناء إبراهيم ، وأن الله عظمه وشرفه ، ثم قال تعالى : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } يعني الذي لما ارتفع البناء استعان به على رفع القواعد منه والجدران ، حيث كان يقف عليه ويناوله ولده إسماعيل ، وقد كان ملتصقاً بجدار البيت حتى أخَّره عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، في إمارته إلى ناحية الشرق بحيث يتمكن الطواف منه ، ولا يشوشون على المصلين عنده بعد الطواف ، لأن الله تعالى قد أمرنا بالصلاة عنده حيث قال : { واتخذوا مِن مَّقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى } [ البقرة : 125 ] ، وقد قدمنا الأحاديث في ذلك فأغنى عن إعادته هاهنا ولله الحمد والمنة ، وقال ابن عباس في قوله : { فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } أي فمنهم مقام إبراهيم والمشاعر ، وقال مجاهد : أثر قدميه في المقام آية بينة ، وقال أبو طالب في قصيدته اللامية المشهورة :
وموطىء إبراهيم في الصخر رطبة ... على قدميه حافياً غير ناعل(1/375)
وقال ابن أبي حاتم عن عطاء عن ابن عباس في قوله تعالى : { مَّقَامُ إِبْرَاهِيمَ } قال : الحرم كله مقام إبراهيم . وقوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } يعني حرم مكة إذا دخله الخائف يأمن من كل سوء ، وكذلك كان الأمر في حال الجاهلية ، كما قال الحسن البصري وغيره : كان الرجل يقتل فيضع في عنقه صوفة ويدخل الحرم ، فيلقاه ابن المقتول فلا يهيجه حتى يخرج ، وعن ابن عباس قال : من عاذ بالبيت أعاذه البيت ، ولكن لا يؤوى ولا يطعم ولا يسقى ، فإذا خرج أخذ بذنبه ، وقال الله تعالى : { أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا جَعَلْنَا حَرَماً آمِناً وَيُتَخَطَّفُ الناس مِنْ حَوْلِهِمْ } [ العنكبوت : 67 ] الآية ، وقال تعالى : { فَلْيَعْبُدُواْ رَبَّ هذا البيت * الذي أَطْعَمَهُم مِّن جُوعٍ وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ } [ قريش : 3-4 ] وحتى إنه من جملة تحريمها حرمة اصطياد صيدها وتنفيره عن أوكاره ، وحرمة قطع شجرها وقلع حشيشها كما ثبتت الأحاديث والآثار في ذلك .
ففي الصحيحين - واللفظ لمسلم - عن ابن عباس رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم فتح مكة : « لا هجرة ولكن جهاد ونية وإذا استنفرتم فانفروا » ، وقال يوم فتح مكة : « » إن هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة ، وإنه لم يحل القتال فيه لأحد قبلي ، ولم يحل لي إلا في ساعة من نهار ، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة : لا يعضد شوكه ، ولا ينفر صيده ، ولا يلتقط لقطته إلا من عرفها ، ولا يختلى خلاها « ، فقال العباس : يا رسول الله إلا الإذخر فإنه لقينهم ولبيوتهم ، فقال : » إلا الإذخر « وعن أبي شريح العدوي أنه قال : لعمرو بن سعيد وهو يبعث البعوث إلى مكة ائذن لي ايها الأمير أن أحدثك قولاً قام به رسول الله صلى الله عليه وسلم الغد من يوم الفتح ، سمعته أذناي ووعاه قلبي وأبصرته عيناي حين تكلم به : إنه حمد الله وأثنى عليه ثم قال : » إن مكة حرمها الله ولم يحرمها الناس فلا يحل لامرىء يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك بها دماً ، أو يعضد بها شجرة ، فإن أحد ترخص بقتال رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ، فقولوا له : إن الله أذن لنبيه ولم يأذن لكم ، وإنما أذن لي فيها ساعة من نهار ، وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس فليبلغ الغائب « ، فقيل لأبي شريح : ما قال لك عمرو؟ قال : أنا أعلم بذلك منك يا أبا شريح ، إن الحرم لا يعيذ عاصياً ولا فاراً بدم ولا فارا بخربة . وعن جابر رضي الله عنه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » لا يحل لأحد أن يحمل السلاح بمكة «(1/376)
، وعن عبد الله بن الحمراء الزهري ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو واقف بالحرورة بسوق مكة يقول : « والله إنك لخير أرض الله ، وأحب أرض الله إلى الله ، ولولا أني أخرجت منك ما خرجت » . وقال بعضهم في قوله تعالى : { وَمَن دَخَلَهُ كَانَ آمِناً } قال : آمناً من النار .
وقوله تعالى : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } هذه أول آية وجوب الحج عند الجمهور ، وقيل بل هي قوله : { وَأَتِمُّواْ الحج والعمرة للَّهِ } [ البقرة : 196 ] والأول أظهر ، وقد وردت الأحاديث المتعددة بأنه أحد أركان الإسلام ودعائمه وقواعده ، وأجمع المسلمون على ذلك إجماعاً ضرورياً ، وإنما يجب على المكلف في العمر مرة واحدة بالنص والإجماع ، لحديث أبي هريرة قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « » أيها الناس قد فرض عليكم الحج فحجوا « ، فقال رجل : أكل عام يا رسول الله؟ فسكت حتى قالها ثلاثاً ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لو قلت نعم لوجبت ولما استطعتم « ، ثم قال : » ذروني ما تركتكم فإنما هلك من كان قبلكم بكثرة سؤالهم واختلافهم على أنبيائهم ، وإذا أمرتكم بشيء فأتوا منه ما استطعتم ، وإذا نهيتكم عن شيء فدعوه « وعن ابن عباس رضي الله عنه قال : خطبنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » « أيها الناس إن الله كتب عليكم الحج » ، فقام الأقرع بن حابس فقال : يا رسول الله أفي كل عام؟ فقال : « لو قلتها لوجبت ولو وجبت لم تعملوا بها ولن تستطيعوا أن تعملوا بها ، الحج مرة فمن زاد فهو تطوع » « .
وأما الاستطاعة فأقسام : تارة يكون الشخص مستطيعاً بنفسه ، وتارة بغيره كما هو مقرر في كتب الأحكام . عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : » قام رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : من الحاج يا رسول الله؟ قال : « الشعث التفل » ، فقام آخر فقال : أي الحج أفضل يا رسول الله؟ قال : « العج والثج » ، فقام آخر فقال : ما السبيل يا رسول الله ، قال : « الزاد والراحلة » وعن أنَس « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن قول الله عز وجلّ : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } فقيل : ما السبيل؟ قال : » الزاد والراحلة « وعن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » تعجلوا إلى الحج - يعني الفريضة - فإن أحدكم لا يدري ما يعرض له « وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » من أراد الحج فليتعجل « وروى وكيع بن الجراح عن ابن عباس قال : { مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً } قال : » الزاد والبعير « .(1/377)
وقوله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } قال ابن عباس : أي ومن جحد فريضة الحج فقد كفر والله غني عنه ، وقال سعيد بن منصور عن عكرمة : لما نزلت : { وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإسلام دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ } [ آل عمران : 85 ] قالت اليهود : فنحن مسلمون ، قال الله عزّ وجلّ فأخصمهم فحجهم يعني ، فقال لهم النبي صلى الله عليه وسلم : « إن الله فرض على المسلمين حج البيت من استطاع إليه سبيلاً » ، فقالوا : لم يكتب علينا ، وأبو أن يحجوا قال الله تعالى : { وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } . عن علي رضي الله عنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من ملك زاداً وراحلة ولم يحج بيت الله فلا يضره مات يهودياً أو نصرانياً ، وذلك بأن الله قال : { وَللَّهِ عَلَى الناس حِجُّ البيت مَنِ استطاع إِلَيْهِ سَبِيلاً وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ الله غَنِيٌّ عَنِ العالمين } » وروى الحسن البصري قال : قال عمر بن الخطاب رضي الله عنه : ( لقد هممت أن أبعث رجالاً إلى هذه الأمصار فينظروا إلى كل من كان عنده جَدَة ( أي سعة ) ( فلم يحج ، فيضربوا عليهم الجزية ، ما هم بمسلمين ، ما هم بمسلمين ) .(1/378)
قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَاللَّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا تَعْمَلُونَ (98) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَهَا عِوَجًا وَأَنْتُمْ شُهَدَاءُ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)
هذا تعنيف من الله تعالى للكفرة أهل الكتاب على عنادهم للحق ، وكفرهم بآيات الله وصدهم عن سبيل الله مع علمهم بأن ما جاء به الرسول حق من الله ، وقد توعدهم الله على ذلك ، وأخبر بأنه شهيد على صنيعهم بما خالفوا ما بأيديهم عن الأنبياء ، ومعاملتهم الرسول المبشر بالتكذيب والجحود والعناد ، فأخبر تعالى أنه ليس بغافل عما يعملون ، أي وسيجزيهم على ذلك : { يَوْمَ لاَ يَنفَعُ مَالٌ وَلاَ بَنُونَ } [ الشعراء : 88 ] .(1/379)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقًا مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ (100) وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَى عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)
يحذر تبارك وتعالى عباده المؤمنين عن أن يطيعوا طائفة من أهل الكتاب ، الذي يحسدون المؤمنين على ما آتاهم الله من فضله ، وما منحهم من إرسال رسوله ، كما قال تعالى : { وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ } [ البقرة : 109 ] الآية . وهكذا قال هاهنا : { إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ الذين أُوتُواْ الكتاب يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ } ، ثم قال تعالى : { وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تتلى عَلَيْكُمْ آيَاتُ الله وَفِيكُمْ رَسُولُهُ } ، يعني أن الكفر بعيد منكم - وحاشاكم منه - فإن آيات الله تنزل على رسوله ليلاً ونهاراً ، وهو يتلوها عليكم ويبلغها إليكم ، وهذا كقوله تعالى : { وَمَا لَكُمْ لاَ تُؤْمِنُونَ بالله والرسول يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُواْ بِرَبِّكُمْ وَقَدْ أَخَذَ مِيثَاقَكُمْ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } [ الحديد : 8 ] . وكما جاء في الحديث أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لأصحابه يوماً « » أي المؤمنين أعجب إليكم إيماناً؟ « قالوا : الملائكة ، قال : » وكيف لا يؤمنون والوحي ينزل عليهم « ، قالوا : فنحن ، قال : » وكيف لا تؤمنون وأنا بين أظهركم « ، قالوا : فأي الناس أعجب إيماناً؟ قال : » قوم يجيئون من بعدكم يجدون صحفاً يؤمنون بما فيها « ثم قال تعالى : { وَمَن يَعْتَصِم بالله فَقَدْ هُدِيَ إلى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } ، أي ومع هذا فالاعتصام بالله والتوكل عليه هو العمدة في الهداية ، والعدة في مباعدة الغواية ، والوسيلة إلى الرشاد؛ وطريق السداد وحصول المراد .(1/380)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنْتُمْ عَلَى شَفَا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)
عن عبد الله بن مسعود : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } قال : أن يطاع فلا يعصى ، وأن يذكر فلا ينسى ، وأن يشكر فلا يكفر ، وروي مرفوعاً عن عبد الله قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اتقو الله حق تقاته أن يطاع فلا يعصى ، ويشكر فلا يكفر ، ويذكر فلا ينسى » وروي عن أَنَس أنه قال : لا يتقي اللَّهَ العبدُ حق تقاته حتى يخزن لسانه ، وقد ذهب سعيد بن جبير وأبو العالية إلى أن هذه الآية منسوخة بقوله تعالى : { فاتقوا الله مَا استطعتم } [ التغابن : 16 ] . وقال علي بن أبي طلحة عن ابن عباس في قوله تعالى : { اتقوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ } قال : لم تنسخ ولكن حق تقاته أن يجاهدوا في سبيله حق جهاده ، ولا تأخذهم في الله لومة لائم ، ويقوموا بالقسط ولو على أنفسهم وآبائهم وأبنائهم . وقوله تعالى : { وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنْتُمْ مُّسْلِمُونَ } ، أي حافظوا على الإسلام في حال صحتكم وسلامتكم ، لتموتوا عليه ، فإن الكريم قد أجرى عادته بكرمه ، أنه من عاش على شيء مات عليه ومن مات على شيء بعث عليه ، فعياذاً بالله من خلاف ذلك .
روى الإمام أحمد عن مجاهد : أن الناس كانوا يطوفون بالبيت وابن عباس جالس معه محجن ، فقال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله حق تقاته ولا تموتن إلا وأنتم مسلمون ، ولو أن قطرة من الزقوم قطرت في دار الدنيا لأفسدت على أهل الدنيا معايشهم ، فكيف بمن ليس له طعام إلا الزقوم »
وقال الإمام أحمد ، عن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من أحب أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتدركه منيته وهو يؤمن بالله واليوم الآخر ويأتي إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه » وفي الحديث الصحيح عن جابر قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عزّ وجلّ » وعن أنَس قال : « كان رجل من الأنصار مريضاً فجاءه النبي صلى الله عليه وسلم يعوده فوافقه في السوق فسلم عليه ، فقال له : » كيف أنت يا فلان «؟ قال بخير يا رسول الله أرجو الله وأخاف ذنوبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » لا يجتمعان في قلب عبد في هذا الموطن إلا أعطاه الله ما يرجو وآمنه مما يخاف « » .
وقوله تعالى : { واعتصموا بِحَبْلِ الله جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } قيل : { بِحَبْلِ الله } أي بعهد الله كما قال في الآية بعدها : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس }(1/381)
[ آل عمران : 112 ] أي بعهد وذمة ، وقيل : { بِحَبْلِ الله } يعني القرآن كما في حديث الحارث الأعور عن علي مرفوعاً في صفة القرآن : « هو حبل الله المتين وصراطه المستقيم » .
وروى ابن مردويه عن عبد الله رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن هذا القرآن هو حبل الله المتين ، وهو النور المبين ، وهو الشفاء النافع ، عصمة لمن تمسك به ، ونجاة لمن اتبعه » .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَفَرَّقُواْ } أمرهم بالجماعة ونهاهم عن التفرقة ، وقد وردت الأحاديث المتعددة بالنهي عن التفرق ، والأمر بالاجتماع والائتلاف ، كما في صحيح مسلم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله يرضى لكم ثلاثاً ، ويسخط لكم ثلاثاً : يرضى لكم أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً ، وأن تعتصموا بحبل الله جميعاً ، ولا تفرقوا ، وأن تناصحوا من ولاَّه الله أمركم ، ويسخط لكم ثلاثاً : قيل وقال ، وكثرة السؤال ، وإضاعة المال » .
وقوله تعالى : { واذكروا نِعْمَتَ الله عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْدَآءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً } إلى آخر الآية ، وهذا السياق في شأن الأوس والخزرج ، فإنه قد كان بينهم حروب كثيرة في الجاهلية ، وعداوة شديدة وضغائن ، وإحن ، طال بسببها قتالهم والوقائع بينهم ، فلما جاء الله بالإسلام فدخل فيه من دخل منهم صاروا إخواناً متحابين بجلال الله ، متواصلين في ذات الله؛ متعاونين على البر والتقوى . قال الله تعالى : { هُوَ الذي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وبالمؤمنين * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأرض جَمِيعاً مَّآ أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ولكن الله أَلَّفَ بَيْنَهُمْ } [ الأنفال : 62-63 ] إلى آخر الآية . وكانوا على شفا حفرة من النار بسبب كفرهم فأنقذهم الله منها أن هداهم للإيمان . وقد امتن عليهم بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم قسم غنائم حنين ، فعتب من عتب منهم ، بما فضَّل عليهم في القسمة بما أراده الله ، فخطبهم فقال : « يا معشر الأنصار ألم أجدكم ضلالاً فهداكم الله بي!! وكنتم متفرقين فألفكم الله بي! وعالة فأغناكم الله بي!؟ » فكلما قال شيئاً قالوا : الله ورسوله أمنُّ .
وقد ذكر محمد بن إسحاق بن يسار وغيره : أن هذه الآية نزلت في شأن ( الأوس والخزرج ) ، وذلك أن رجلاً من اليهود مر بملأ من الأوس والخزرج ، فساءه ما هم عليه من الإتفاق والألفة ، فبعث رجلاً معه وأمره أن يجلس بينهم ويذكرهم ما كان من حروبهم يوم بعاث وتلك الحروب ففعل ، فلم يزل ذلك دأبه حتى حميت نفوس القوم ، وغضب بعضهم على بعض ، وتثاوروا ونادوا بشعارهم ، وطلبو أسلحتهم وتواعدوا إلى الحرة ، فبلغ ذلك النبي صلى الله عليه وسلم ، فأتاهم فجعل يسكنهم ويقول : « أبدعوى الجاهلية وأنا بين أظهرركم؟ » وتلا عليهم هذه الآية فندموا على ما كان منهم واصطلحوا وتعانقوا ، وألقوا السلاح رضي الله عنهم .(1/382)
وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَلَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُولَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَكَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَأَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ اللَّهِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (107) تِلْكَ آيَاتُ اللَّهِ نَتْلُوهَا عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَمَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْمًا لِلْعَالَمِينَ (108) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَإِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)
يقول تعالى : ولتكن منكم أمة منتصبة للقيام بأمر الله في الدعوة إلى الخير ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر { وأولئك هُمُ المفلحون } قال الضحاك : هم خاصة الصحابة ، وخاصة الرواة يعني المجاهدين والعلماء ، وقال أبو جعفر الباقر ، قرأ رسول الله صلى الله عليه وسلم : { وَلْتَكُن مِّنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الخير } . ثم قال : « الخير اتباع القرآن وسنتي » والمقصود من هذه الآية أن تكون فرقة من هذه الأمة متصدية لهذا الشأن ، وإن كان ذلك واجباً على كل فرد من الأمة بحسبه ، كما ثبت في صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من رأى منكم منكراً فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان » ، وفي رواية : « وليس وراء ذلك من الإيمان حبة خردل » .
وروى الإمام أحمد عن حذيفة بن اليمان أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « والذي نفسي بيده لتأمرن بالمعروف ، ولتنهون عن المنكر ، أو ليوشكن الله أن يبعث عليكم عقاباً من عنده ، ثم لتدعنه فلا يستجيب لكم » ، { وَلاَ تَكُونُواْ كالذين تَفَرَّقُواْ واختلفوا مِن بَعْدِ مَا جَآءَهُمُ البينات } الآية . ينهى تبارك وتعالى هذه الأمة أن يكونوا كالأمم الماضين ، في افتراقهم واختلافهم وتركهم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، مع قيام الحجة عليهم .
روى الإمام أحمد عن أبي عامر ( عبد الله بن يحيى ) قال : حججنا مع ( معاوية بن أبي سفيان ) ، فلما قدمنا مكة قام حين صلى صلاة الظهر فقال : إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن أهل الكتابين افترقوا في دينهم على ثنتين وسبعين ملة ، وإن هذه الأمة ستفترق على ثلاث وسبعين ملة - يعني الأهواء - كلها في النار إلا واحدة - وهي الجماعة - وإنه سيخرج في أمتي أقوام تتجارى بهم الأهواء كما يتجارى الكَلَب بصاحبه لا يبقى منه عرق ولا مفصل إلا دخله والله يا معشر العرب لئن لم تقوموا بما جاء به نبيكم لغيركم من الناس أحرى أن لا يقوم به » .
وقوله تعالى : { يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَتَسْوَدُّ وُجُوهٌ } يعني يوم القيامة حين تبيض وجوه أهل السنة والجماعة ، وتسود وجوه أهل البدعة والفرقة ، قاله ابن عباس رضي الله عنهما . { فَأَمَّا الذين اسودت وُجُوهُهُمْ أَكْفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ } ؟ قال الحسن البصري : وهم المنافقون ، { فَذُوقُواْ العذاب بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ } ، وهذا الوصف يعم كل كافر ، { وَأَمَّا الذين ابيضت وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَةِ الله هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } يعني الجنة ماكثون فيها أبداً لا يبغون عنها حولاً .
ثم قال تعالى : { تِلْكَ آيَاتُ الله نَتْلُوهَا عَلَيْكَ } أي هذه آيات الله وحججه وبيناته نتلوها عليك يا محمد { بالحق } أي نكشف ما الأمر عليه من الدنيا والآخرة ، { وَمَا الله يُرِيدُ ظُلْماً لِّلْعَالَمِينَ } أي ليس بظالم لهم ، بل هو الحكم العدل الذي لا يجور ، لأنه القادر على كل شيء ، العالم بكل شيء ، فلا يحتاج مع ذلك إلى أن يظلم أحداً من خلقه ، ولهذا قال تعالى : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } أي الجميع ملك له وعبيد له ، { وإلى الله تُرْجَعُ الأمور } أي هو الحاكم المتصرف في الدنيا والآخرة .(1/383)
كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتَابِ لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَأَكْثَرُهُمُ الْفَاسِقُونَ (110) لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى وَإِنْ يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ مَا ثُقِفُوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَحَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَبَاءُوا بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَانُوا يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَيَقْتُلُونَ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذَلِكَ بِمَا عَصَوْا وَكَانُوا يَعْتَدُونَ (112)
يخبر تعالى عن هذه الأمة المحمدية بأنهم خير الأمم ، قال البخاري : عن أبي هريرة رضي الله عنه : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ، قال : خير الناس ، تأتون بهم في السلاسل في أعناقهم حتى يدخلوا في الإسلام ، والمعنى : أنهم خير الأمم وأنفع الناس للناس ، ولهذا قال : { تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله } ، قال الإمام أحمد : قام رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم وهو على المنبر فقال : يا رسول الله أي الناس خير؟ قال : « خير الناس أقرأهم وأتقاهم لله وآمرهم بالمعروف وأنهاهم عن المنكر وأوصلهم للرحم » وعن ابن عباس في قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } قال : هم الذين هاجروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة . والصحيح أنه هذه الآية عامة في جميع الأمة كل قرن بحسبه ، وخير قرونهم الذين بعث فيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ثم الذين يلونهم ، ثم الذين يلونهم ، كما قال في الآية الآخرى : { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً } [ البقرة : 143 ] أي خياراً { لِّتَكُونُواْ شُهَدَآءَ عَلَى الناس } [ البقرة : 143 ] الآية .
وفي مسند أحمد وجامع الترمذي من رواية حكيم بن معاوية بن حيدة عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أنتم توفون سبعين أمة أنتم خيرها وأكرمها على الله عزّ وجلّ » وهو حديث مشهور ، وقد حسنَّه الترمذي ، وإنما حازت هذه الأمة قصب السبق إلى الخيرات ، بنبيها محمد صلوات الله وسلامه عليه ، فإنه أشرف خلق الله وأكرم الرسل على الله ، وبعثه الله بشرع كامل عظيم ، لم يعطه نبي قبله ولا رسول من الرسل ، فالعمل على منهاجه وسبيله ، يقوم القليل منه ما لا يقوم العمل الكثير من أعمال غيرهم مقامه ، وفي الحديث : « وجعلت أمتي خير الأمم » .
وقد وردت أحاديث يناسب ذكرها هاهنا : عن أبي بكر الصديق رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعطيت سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وجوههم كالقمر ليلة البدر ، قلوبهم على قلب رجل واحد ، فاستزدت ربي فزادني مع كل واحد سبعين ألفاً » ، فقال أبو بكر رضي الله عنه : فرأيت أن ذلك آت على أهل القرى ومصيب من حافات البوادي .
حديث آخر : قال الإمام أحمد ، عن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال النبي صلى الله عليه وسلم : « عرضت عليّ الأمم بالموسم فراثت عليّ أمتي ، ثم رأيتهم فأعجبتني كثرتهم وهيئتهم ، قد ملؤا السهل والجبل ، فقال : أرضيت يا محمد؟ فقلت : نعم! قال : فإن مع هؤلاء سبعين ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب وهم الذين لا يسترقون ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون » ، فقام عكاشة بن محصن فقال : يا رسول الله ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال : « أنت منهم » ، فقام رجل آخر فقال : أدع الله أن يجعلني منهم ، فقال : « سبقك بها عكاشة » « .(1/384)
حديث آخر : قال الطبراني ، عن عمران بن حصين قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً بغير حساب ولا عقاب « ، قيل : من هم؟ قال : » هم الذين لا يسترقون ولا يكتوون ، ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون « » .
حديث آخر : ثبت في الصحيحين من رواية الزهري عن سعيد بن المسيب ، أن أبا هريرة حدثه قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « » يدخل الجنة من أمتي زمرة وهم سبعون ألفاً تضيء وجوههم إضاءة القمر ليلة البدر « ، قال أبو هريرة : فقام عكاشة بن حصين الأسدي يرفع نمرة عليه ، فقال : يا رسول الله : ادع الله أن يجعلني منهم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » اللهم اجعله منهم « ، ثم قام رجل من الأنصار فقال مثله ، فقال : » سبقك بها عكاشة « » .
حديث آخر : عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « » عرضت عليَّ الأمم فرأيت النبي ومعه الرهيط ، والنبي ومعه الرجل والرجلان ، والنبي وليس معه أحد ، إذ رفع لي سواد عظيم فظننت أنهم أمتي؛ فقيل لي هذا موسى وقومه ، ولكن انظر إلى الأفق ، فنظرت فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : انظر إلى الأفق الآخر فإذا سواد عظيم ، فقيل لي : هذه أمتك ومعهم سبعون ألفاً يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب « ، ثم نهض فدخل منزله فخاض الناس في أولئك الذين يدخلون الجنة بغير حساب ولا عذاب ، فقال بعضهم : فلعلهم الذين صحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال بعضهم : فلعلهم الذين ولدوا في الإسلام ولم يشركوا بالله شيئاً وذكروا أشياء ، فخرج عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : » ما الذي تخوضون فيه؟ « فأخبروه ، فقال : » هم الذي لا يرقون ولا يستقرون ولا يكتوون ولا يتطيرون ، وعلى ربهم يتوكلون « ، فقام عكاشة بن محصن فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ، قال : » أنت منهم « ، ثم قام رجل آخر فقال : ادع الله أن يجعلني منهم ، قال : » سبقك بها عكاشة « » .
حديث آخر : قال الحافظ أبو بكر بن عاصم في كتاب السنن ، عن محمد بن زياد : سمعت أبا أمامة الباهلي يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « وعدني ربي أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً ، مع كل ألف سبعون ألفاً لا حساب عليهم ولا عذاب ، وثلاث حثيات من حثيات ربي عزّ وجلّ » .(1/385)
حديث آخر : قال أبو القاسم الطبراني : عن عامر بن زيد البكالي أنه سمع عتبة بن عبد السلمي رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن ربي عزّ وجلّ وعدني أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب ، ثم يشفع كل ألف لسبعين ألفاً ، ثم يحثي ربي عزّ وجلّ بكفيه ثلاث حثيات » فكبر عمر وقال : إن السبعين الأول يشفعهم الله في آبائهم وأبنائهم وعشيرتهم ، وأرجو أن يجعلني الله في إحدى الحثيات الأواخر . قال الحافظ المقدسي في كتابه صفة الجنة : لا أعلم لهذا الإسناد علة ، والله أعلم .
حديث آخر : قال الإمام أحمد : عن عطاء بن يسار أن رفاعة الجهني حدثه قال : أقبلنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى إذا كنا بالكديد - أو قال بقديد - فذكر حديثاً وفيه ثم قال : « وعدني ربي عزّ وجلّ أن يدخل الجنة من أمتي سبعين ألفاً بغير حساب ، وإني لأرجوا أن لا يدخلوها حتى تبوؤا أنتم ومن صلح من أزواجكم وذرياتكم مساكن في الجنة » ، قال الضياء : وهذا عندي على شرط مسلم .
حديث آخر : قال عبد الرزاق ، أنبأنا معمر عن قتادة عن النضر بن أنَس عن أنَس قال : « قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إن الله وعدني أن يدخل الجنة من أمتي أربعمائة ألف « ، قال أبو بكر رضي الله عنه . زدنا يا رسول الله ، قال : » والله هكذا « ، قال عمر : حسبك يا أبا بكر ، فقال أبو بكر : دعني وما عليك أن يدخلنا الله الجنة كلنا . قال عمر : إن الله إن شاء أدخل خلقه الجنة بكف واحد ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » صدق عمر « هذا الحديث بهذا الإسناد تفرد به عبد الرزاق . قال الضياء : وقد رواه الحافظ أبو نعيم الأصبهاني عن قتادة عن أنَس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » « وعدني ربي ان يدخل الجنة من أمتي مائة ألف » ، فقال له أبو بكر : يا رسول الله زدنا ، قال : « وهكذا » ، وأشار سليمان بن حرب بيده كذلك ، قلت : يا رسول الله زدنا ، فقال عمر : إن الله قادر على أن يدخل الناس الجنة بحفنة واحدة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « صدق عمر » ، هذا حديث غريب من هذا الوجه .
حديث آخر : عن أنَس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « » يدخل الجنة من أمتي سبعون ألفاً « ، قالوا : زدنا يا رسول الله ، قال : » لكل رجل سبعون ألفاً « ، قالوا : زدنا ، وكان على كثيب ، فقالوا : فقال : » هكذا « وحثا بيديه ، قالوا : يا رسول الله : أَبْعد اللَّهُ من دخل النار بعد هذا » « .(1/386)
ومن الأحاديث الدالة على فضيلة هذه الأمة وشرفها وكرامتها على الله عزّ وجلّ ، وأنها خير الأمم في الدنيا والآخرة ما ثبت في الصحيحين عن عبد الله بن مسعود قال : « قال لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أما ترضون أن تكونوا ربع أهل الجنة « فكبرنا ، ثم قال : » أما ترضون أن تكونوا ثلث أهل الجنة « فكبرنا ، ثم قال : » إني لأرجوا أن تكونوا شطر أهل الجنة « » .
حديث آخر : قال الإمام أحمد بسنده عن ابن بريدة عن أبيه ، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أهل بالجنة عشرون ومائة صف . هذه الأمة من ذلك ثمانون صفاً » .
حديث آخر : قال الطبراني عن أبي هريرة : « لما نزلت : { ثُلَّةٌ مِّنَ الأولين * وَثُلَّةٌ مِّنَ الآخرين } [ الواقعة : 39-40 ] قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » أنتم ربع أهل الجنة ، أنتم ثلث أهل الجنة ، أنتم نصف أهل الجنة ، أنتم ثلثا أهل الجنة « » .
حديث آخر : عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « نحن الآخرون الأولون يوم القيامة ، نحن أول الناس دخولاً الجنة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، وأوتيناه من بعدهم ، فهدانا الله لما اختلفوا فيه من الحق ، فهذا اليوم الذي اختلفوا فيه ، الناس لنا في تبع ، غداً لليهود ، وللنصارى بعد غد » .
فهذه الأحاديث في معنى قوله تعالى : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بالمعروف وَتَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَتُؤْمِنُونَ بالله } ، فمن اتصف من هذه الأمة بهذه الصفات دخل معهم في هذا المدح ، كما قال قتادة : بلغنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حجة حجها رأى من الناس دَعَة ، فقرأ هذه الآية : { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ } ، ثم قال : ( من سره أن يكون من هذه الأمة فليؤد شرط الله فيها ) ، رواه ابن جرير ، ومن لم يتصف بذلك أشبه أهل الكتاب الذين ذمهم الله بقوله تعالى : { كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ } [ المائدة : 79 ] الآية ، ولهذا لما مدح تعالى هذه الأمة على هذه الصفات ، شرع في ذم أهل الكتاب وتأنيبهم ، فقال تعالى : { وَلَوْ آمَنَ أَهْلُ الكتاب } أي بما أنزل على محمد ، { لَكَانَ خَيْراً لَّهُمْ مِّنْهُمُ المؤمنون وَأَكْثَرُهُمُ الفاسقون } أي قليل منهم من يؤمن بالله وما أنزل إليكم وما أنزل إليهم ، وأكثرهم على الضلالة والكفر والفسق والعصيان .
ثم قال تعالى مخبراً عباده المؤمنين ومبشراً لهم : أن النصر والظفر لهم على أهل الكتاب الكفرة الملحدين فقال تعالى : { لَن يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذًى وَإِن يُقَاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الأدبار ثُمَّ لاَ يُنصَرُونَ } ، هكذا وقع فإنهم يوم خيبر أذلهم الله وأرغم أنوفهم ، وكذلك من قبلهم من يهود المدينة ( بني قينقاع ) وبني النضير وبني قريظة كلهم أذلهم الله ، وكذلك النصارى بالشام كسرهم الصحابة في غير ما موطن ، وسلبوهم ملك الشام أبد الآبدين ودهر الداهرين ، ولا تزال عصابة الإسلام قائمة بالشام حتى ينزل عيسى ابن مريم وهم كذلك ، ويحكم بملة الإسلام وشرع محمد عليه أفضل الصلاة والسلام ، فيكسر الصليب ويقتل الخنزير ويضع الجزية ، ولا يقبل إلا الإسلام .(1/387)
ثم قال تعالى : { ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذلة أَيْنَ مَا ثقفوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس } ، أي ألزمهم الله الذلة والصغار أينما كانوا فلا يؤمنون { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله } أي بذمة من الله وهو عقد الذمة لهم ، وضربت الجزية عليهم وإلزامهم أحكام الملة ، { وَحَبْلٍ مِّنَ الناس } أي أمان منهم لهم كما في المهادن والمعاهد والأسير إذا أمنه واحد من المسلمين ولو امرأة ، قال : ابن عباس : { إِلاَّ بِحَبْلٍ مِّنَ الله وَحَبْلٍ مِّنَ الناس } أي بعهد من الله وعهد من الناس ، وقوله : { وَبَآءُوا بِغَضَبٍ مِّنَ الله } أي ألزموا ، فالتزموا بغضب من الله وهم يستحقونه ، { وَضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ المسكنة } أي ألزموها قدراً وشرعاً ، ولهذا قال : { ذلك بِأَنَّهُمْ كَانُواْ يَكْفُرُونَ بِآيَاتِ الله وَيَقْتُلُونَ الأنبيآء بِغَيْرِ حَقٍّ } أي إنما حملهم على ذلك الكبر والبغي والحسد ، فأعقبهم ذلك الذلة والصغار والمسكنة أبداً متصلا بذل الآخرة . ثم قال تعالى : { ذلك بِمَا عَصَوْاْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ } أي إنما حملهم على الكفر بآيات الله وقتل رسول الله - وقُيِّضوا لذلك - أنهم كانوا يكثرون العصيان لأوامر الله والغشيان لمعاصي الله والاعتداء في شرع الله ، فعياذاً بالله من ذلك ، والله عزّ وجلّ المستعان .(1/388)
لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُولَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَمَا يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا وَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (116) مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هَذِهِ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَلَكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)
المشهور عند كثير من المفسرين أن هذه الآيات نزلت فيمن آمن من أحبار أهل الكتاب كعبد الله بن سلام ، و ( أسد بن عبيد ) و ( ثعلبة بن شعبة ) وغيرهم ، أي لا يستوي من تقدم ذكرهم بالذم من أهل الكتاب ، وهؤلاء الذين أسلموا ، ولهذا قال تعالى : { لَيْسُواْ سَوَآءً } أي ليسوا كلهم على حد سواء ، بل منهم المؤمن ومنهم المجرم ، ولهذا قال تعالى : { مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ } أي قائمة بأمر الله مطيعة لشرعه ، متبعة نبي الله فهي ( قائمة ) يعني مستقيمة ، { يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } أي يقيمون الليل ، ويكثرون التهجد ، ويتلون القرآن في صلواتهم ، { يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر وَيَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر وَيُسَارِعُونَ فِي الخيرات وأولئك مِنَ الصالحين } ، وهؤلاء هم المذكورون في آخر السورة { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ } [ آل عمران : 199 ] الآية ، ولهذا قال تعالى هاهنا : { وَمَا يَفْعَلُواْ مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَروهُ } أي لا يضيع عند الله بل يجزيهم به أوفر الجزاء ، { والله عَلِيمٌ بالمتقين } أي لا يخفى عليه عمل عامل ولا يضيع لديه أجر من أحسن عملاً .
ثم قال تعالى : مخبراً عن الكفرة المشركين بأنه { لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ مِّنَ الله شَيْئاً } أي لا ترد عنهم بأس الله ولا عذابه إذا أراده بهم ، { وأولئك أَصْحَابُ النار هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ } ، ثم ضرب مثلاً لا ينفقه الكفار في هذه الدار فقال : { مَثَلُ مَا يُنْفِقُونَ فِي هذه الحياة الدنيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيهَا صِرٌّ } أي برد شديد قاله ابن عباس ، وقال عطاء : برد وجليد : { فِيهَا صِرٌّ } أي نار وهو يرجع إلى الأول ، فإن البرد الشديد ولا سيما الجليد يحرق الزروع والثمار كما يحرق الشيء بالنار ، { أَصَابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظلموا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ } أي فأحرقته يعني بذلك الصعقة إذا نزلت على حرث قد آن جذاذه أو حصاده فدمرته ، وأعدمت ما فيه من ثمر أو زرع ، فذهبت به وأفسدته فعدمه صاحبه أحوج ما كان إليه ، فكذلك الكفار يمحق الله ثواب أعمالهم في هذه الدنيا كما يذهب ثمرة هذا الحرث بذنوب صاحبه ، وكذلك هؤلاء بنوها على غير أصل وعلى غير أساس { وَمَا ظَلَمَهُمُ الله ولكن أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ } .(1/389)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لَا يَأْلُونَكُمْ خَبَالًا وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) هَا أَنْتُمْ أُولَاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلَا يُحِبُّونَكُمْ وَتُؤْمِنُونَ بِالْكِتَابِ كُلِّهِ وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِهَا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لَا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)
يقول تبارك وتعالى ناهياً عباده المؤمنين عن اتخاذ المنافقين بطانة ، أي يطلعونهم على سرائرهم وما يضمرونه لأعدائهم ، والمنافقون بجهدهم وطاقتهم لا يألون المؤمنين خبالاً ، أي يسعون في مخالفتهم وما يضرهم بكل ممكن ، وبما يستطيعون من المكر والخديعة؛ ويودون ما يعنت المؤمنين ويحرجهم ويشق عليهم ، وقوله تعالى : { لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ } أي من غيركم من أهل الأديان ، وبطانة الرجل هم خاصة أهله الذين يطلعون على داخل أمره ، وقد روى البخاري والنسائي عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما بعث الله من نبي ولا استخلف من خليفة إلا كانت له بطانتان : بطانة تأمره بالخير وتحضُّه عليه ، وبطانة تأمره بالسوء وتحضه عليه ، والمعصوم من عصمه الله » .
وقال ابن أبي حاتم : قيل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه : إن هاهنا غلاماً من أهل الحيرة حافظ كاتب ، فلو اتخذته كاتباً! فقال : قد اتخذت إذاً بطانة من دون المؤمنين . ففي هذا الأثر مع هذه الآية دليل على أن أهل الذمة لا يجوز استعمالهم في الكتابة التي فيها استطالة على المسلمين ، واطلاع على دواخل أمورهم التي يخشى أن يفشوها إلى الأعداء من أهل الحرب ، ولهذا قال تعالى : { لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ } أي تمنوا وقوعكم في المشقة .
ثم قال تعالى : { قَدْ بَدَتِ البغضآء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ } أي قد لاح على صفحات وجوههم ، وفلتات ألسنتهم من العداوة ، مع ما هم مشتملون عليه في صدورهم من البغضاء للإسلام وأهله ، ما لا يخفى مثله على لبيب عاقل ، ولهذا قال تعالى : { قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ } ، وقوله تعالى : { هَآأَنْتُمْ أولاء تُحِبُّونَهُمْ وَلاَ يُحِبُّونَكُمْ } أي أنتم أيها المؤمنون تحبون المنافقين بما يظهرون لكم من الإيمان فتحبونهم على ذلك ، وهم لا يحبونكم لا باطناً ولا ظاهراً ، { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ } أي ليس عندكم من شيء منه شك ولا ريب ، وهم عندهم الشك والريب والحيرة ، عن ابن عباس : { وَتُؤْمِنُونَ بالكتاب كُلِّهِ } أي بكتابكم وكتابهم وبما مضى من الكتب قبل ذلك ، وهم يكفرون بكتابكم فأنتم أحق بالبغضاء لهم منهم لكم ، { وَإِذَا لَقُوكُمْ قالوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } والأنامل أطراف الأصابع ، قاله قتادة .
وقال الشاعر :
وما حملت كفاي أنملي العشرا ... وقال ابن مسعود والسدي : الأنامل الأصابع ، وهذا شأن المنافقين يظهرون للمؤمنين الإيمان والمودة ، وهم في الباطن بخلاف ذلك من كل وجه كما قال تعالى : { وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأنامل مِنَ الغيظ } وذلك أشد الغيظ والحنق ، قال الله تعالى : { قُلْ مُوتُواْ بِغَيْظِكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي مهما كنتم تحسدون عليه المؤمنين ويغيظكم ذلك منهم ، فاعلموا أن الله متم نعمته على عباده المؤمنين ومكمل دينه ، ومعل كلمته ومظهر دينه ، فموتوا أنتم بغيظكم ، { إِنَّ الله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي هو عليم بما تنطوي عليه ضمائركم ، وتكنه سرائركم من البغضاء والحسد والغل للمؤمنين ، وهو مجازيكم عليه في الدنيا بأن يريكم خلاف ما تأملون ، وفي الآخرة بالعذاب الشديد في النار التي أنتم خالدون فيها ، لا محيد لكم عنها ، ولا خروج لكم منها .(1/390)
ثم قال تعالى : { إِن تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُواْ بِهَا } وهذه الحال دالة على شدة العداوة منهم للمؤمنين ، وهو أنه إذا أصاب المؤمنين خصب ونصر وتأييد وكثروا وعز أنصارهم ساء ذلك المافقين ، وإن أصاب المسلمين سنة أي جدب أو أديل عليهم الأعداء - لما لله تعالى في ذلك من الحكمة كما جرى يوم أُحُد - فرح المنافقون ذلك . قال الله تعالى مخاطباً للمؤمنين : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً } الآية ، يرشدهم تعالى إلى السلامة من شر الأشرار وكيد الفجار ، باستعمال الصبر والتقوى والتوكل على الله ، الذي هو محيط بأعدائهم فلا حول ولا قوة لهم إلا به ، وهو الذي ما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، ولا يقع في الوجود شيء إلا بتقديره ومشيئته ومن توكل عليه كفاه .
ثم شرع تعالى في ذكر قصة أُحُد وما كان فيها من الإختبار لعباده المؤمنين ، والتمييز بين المؤمنين والمنافقين ، وبيان الصابرين فقال تعالى : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ . . . } .(1/391)
وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121) إِذْ هَمَّتْ طَائِفَتَانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلَا وَاللَّهُ وَلِيُّهُمَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123)
المراد بهذه الوقعة يوم أُحُد عند الجمهو ، وعن الحسن البصري : المراد بذلك يوم الأحزاب . وكانت وقعة أُحُد يوم السبت من شوّال سنة ثلاث من الهجرة ، قال قتادة : لإحدى عشرة ليلة خلت من شوّال ، وقال عكرمة : يوم السبت للنصف من شوّال فالله أعلم ، وكان سببها أن المشركين حين قتل من قتل من أشرافهم يوم بدر ، وسلمت العير بما فيها من التجارة التي كانت مع أبي سفيان قال أبناء من قتل ورؤساء من بقي لأبي سفيان : ارصد هذه الأموال لقتال محمد فأنفقوها في ذلك فجمعوا الجموع والأحابيش وأقبلوا في نحو ثلاثة آلاف حتى نزلوا قريباً من أُحُد تلقاء المدينة ، فصلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الجمعة فلما فرغ منها استشار الناس : « أيخرج إليهم أم يمكث بالمدينة »؟ فأشار ( عبد الله بن أُبي ) بالمقام بالمدينة ، فإن أقاموا بشر محبس ، وإن دخلوها قاتلهم الرجال في وجوههم ، ورماهم النساء والصبيان بالحجارة من فوقهم ، وإن رجعوا رجعوا خائبين وأشار آخرون من الصحابة ممن لم يشهد بدراً بالخروح إليهم . فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلبس لامته وخرج عليهم ، وقد ندم بعضهم ، وقالوا : لعلنا استكرهنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالوا : يا رسول الله إن شئت أن نمكث ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما ينبغي لنبي إذا لبس لامته أن يرجع حتى يحكم الله له » ، فسار صلى الله عليه وسلم في ألف من أصحابه ، فلما كانوا بالشوط رجع ( عبد الله بن أُبي ) بثلث الجيش مغضباً لكونه لم يرجع إلى قوله ، وقال هو وأصحابه : لو نعلم اليوم قتالاً لاتبعناكم ولكنا لا نراكم تقاتلون ، واستمر رسول الله صلى الله عليه وسلم سائراً حتى نزل الشعب من أحد في عدوة الوادي ، وجعل ظهره وعسكره إلى أحد ، وقال : « لا يقاتلن أحد حتى نأمره بالقتال » .
وتهيأ رسول الله صلى الله عليه وسلم للقتال وهو في سبعمائة من أصحابه ، وأمَّر على الرماة ( عبد الله بن جبير ) أخا بني عمرو ابن عوف ، والرماة يومئذ خمسون رجلاً فقال لهم : « انضحوا الخيل عنا ولا تؤتين من قبلكم ، والزموا مكانكم إن كانت النوبة لنا أو علينا ، وإن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا مكانكم » ، وظاهر رسول الله صلى الله عليه وسلم بين درعين ، وأعطى اللواء ( مصعب بن عمير ) أخا بني عبد الدار . وأجاز رسول الله صلى الله عليه وسلم بعض الغلمان يومئذٍ وأخر آخرين حتى أمضاهم يوم الخندق بعد هذا اليوم بقريب من سنتين ، وتهيأ قريش وهم ثلاثة آلاف ، ومعهم مائة فرس قد جنبوها فجعلوا على ميمنة الخيل ( خالد بن الوليد ) وعلى الميسرة ( عكرمة بن أبي جهل ) ، ودفعوا اللواء إلى بني عبد الدار ، ثم كان بين الفريقين ما سيأتي تفصيله في موضعه إن شاء الله تعالى .(1/392)
ولهذا قال تعالى : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } أي تنزلهم وتجعلهم ميمنة وميسرة وحيث أمرتهم ، { والله سَمِيعٌ عَلِيمٌ } أي سميع لما تقولون عليم بضمائركم .
وقوله تعالى : { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ } الآية . قال البخاري ، قال عمر : سمعت جابر بن عبد الله يقول : فينا نزلت : { إِذْ هَمَّتْ طَّآئِفَتَانِ مِنكُمْ أَن تَفْشَلاَ } الآية قال : نحن الطائفتان ( بنو حارثة ) و ( بنو سلمة ) ، وما يسرني أنها لم تنزل لقوله تعالى : { والله وَلِيُّهُمَا } .
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } أي يوم بدر ، وكان يوم الجمعة وافق السابع عشر من شهر رمضان من سنة اثنتين من الهجرة ، وهو يوم الفرقان الذي أعز الله فيه الإسلام وأهله ، ودمغ فيه الشرك وخرب محله وحزبه ، هذا مع قلة عدد المسلمين يومئذ ، فإنهم كانوا ثلثمائة وثلاثة عشر رجلاً ، فيهم فارسان وسبعون بعيراً والباقون مشاة ليس معهم من العدد جميع ما يحتاجون إليه ، وكان العدوّ يومئذ ما بين التسعمائة إلى الألف في سوابغ الحديد والبيض والعدة الكاملة ، والخيول المسوَّمة والحلي الزائد . فأعز الله رسوله وأظهر وحيه وتنزيله ، وبيّض وجه النبي وقبيله وأخزى الشيطان وجيله ، ولهذا قال تعالى ممتناً على عباده المؤمنين وحزبه المتقين ، { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ } أي قليل عددكم لتعلموا أن النصر إنما هو من عند الله لا بكثرة العَدَد والعُدَد ، ولهذا قال تعالى في الآية الأخرى : { وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً } [ التوبة : 25 ] . وقال الإمام أحمد ، عن سماك قال : سمعت عياضاً الأشعري ، قال : شهدت اليرموك وعلينا خمسة أمراء . وقال عمر : إذا كان قتالاً فعليكم أبو عبيدة ، قال : فكتبنا إليه أنه قد جأش إلينا الموت واستمددناه ، فكتب إلينا إنه قد جائني كتابكم تستمدونني وإني أدلكم على من هو أعز نصراً ، وأحصن جنداً ، الله عزّ وجلّ فاستنصروه ، فإن محمداً صلى الله عليه وسلم قد نصر في يوم بدر في أقل من عدتكم ، فإذا جاءكم كتابي هذا فقاتلوهم ولا تراجعوني . قال : فقاتلناهم فهزمناهم أربع فراسخ ، قال : وأصبنا أموالاً فتشاورنا ، فأشار علينا عياض أن نعطي عن كل ذي رأس عشرة . و ( بدر ) محلة بين مكة والمدينة تعرف ببئرها منسوبة إلى رجل حفرها يقال له ( بدر بن النارين ) قال الشعبي : بدر بئر لرجل يسمى بدراً ، وقوله : { فاتقوا الله لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } أي تقومون بطاعته .(1/393)
إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلَاثَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلَى إِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا وَيَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هَذَا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلَافٍ مِنَ الْمَلَائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَمَا جَعَلَهُ اللَّهُ إِلَّا بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126) لِيَقْطَعَ طَرَفًا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خَائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ (128) وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)
اختلف المفسرون في هذا الوعد : هل كان يوم بدر أو يوم أُحُد؟ على قولين أحدهما : إن قوله : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ } متعلق بقوله : { وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ الله بِبَدْرٍ } [ آل عمران : 123 ] واختاره ابن جرير . قال عباد بن منصور عن الحسن في قوله : { إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَلَنْ يَكْفِيكُمْ أَن يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاَثَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة } ، قال : هذا يوم بدر . وقال الربيع بن أنَس : أمد الله المسلمين بألف ، ثم صاروا ثلاثة آلاف ثم صاروا خمسة آلاف ، فإن قيل : فما الجمع بين هذه الآية على هذا القول وبين قوله في قصة بدر : { إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فاستجاب لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِّنَ الملائكة مُرْدِفِينَ } [ الأنفال : 9 ] - إلى قوله - { إِنَّ الله عَزِيزٌ حَكِيمٌ } [ الأنفال : 10 ] ؟ فالجواب أن التنصيص على الألف هاهنا لا ينافي الثلاثة الآلاف فما فوقها لقوله : { مُرْدِفِينَ } بمعنى يردفهم غيرهم ويتبعهم ألوف أخر مثلهم ، وهذا السياق شبيه بهذا السياق في سورة آل عمران ، فالظاهر أن ذلك كان يوم بدر كما هو المعروف من أن قتال الملائكة إنما كان يوم بدر ، والله أعلم .
( القول الثاني ) : إن هذا الوعد متعلق بقوله : { وَإِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّىءُ المؤمنين مَقَاعِدَ لِلْقِتَالِ } [ آل عمران : 121 ] وذلك يوم أُحُد ، وهو قول مجاهد وعكرمة والضحاك ، لكن قالوا : لم يحصل الإمداد بالخمسة الآلاف لأن المسلمين فروا يومئذٍ ، وقوله تعالى : { بلى إِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ } يعني تصبروا على مصابرة عدوكم ، وتتقوني وتطيعوا أمري ، وقوله تعالى : { وَيَأْتُوكُمْ مِّن فَوْرِهِمْ هذا } ، قال الحسن وقتادة : أي من وجههم هذا ، وقال مجاهد وعكرمة : أي من غضبهم هذا . وقال ابن عباس : من سفرهم هذا ، ويقال : من غضبهم هذا ، وقوله تعالى : { يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ ءالاف مِّنَ الملائكة مُسَوِّمِينَ } أي معلمين بالسيما . عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : كان سيما الملائكة يوم بدر الصوف الأبيض ، وكان سيماهم أيضاً في نواصي خيولهم .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه في هذه الآية { مُسَوِّمِينَ } قال : بالعهن الأحمر ، وقال ابن عباس رضي الله عنه : أتت الملائكة محمداً صلى الله عليه وسلم مسوّمين بالصوف فسوم محمد وأصحابه أنفسهم وخيلهم على سيماهم بالصوف ، وقال قتادة وعكرمة : { مُسَوِّمِينَ } أي بسيما القتال . وعن ابن عباس قال : كان سيما الملائكة يوم بدر عمائم بيض قد أرسلوها في ظهورهم ، ويوم حنين عمائم حمر ، ولم تضرب الملائكة في يوم سوى يوم بدر ، وكانوا يكونون عدداً ومدداً لا يضربون . وقوله تعالى : { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ } أي وما أنزل الله الملائكة وأعلمكم بإنزالهم إلا بشارة لكم وتطييباً لقلوبكم وتطميناً ، وإلا فإنما النصر من عند الله الذي لو شاء لانتصر من أعدائه بدونكم ، ومن غير احتياج إلى قتالكم لهم ، كما قال تعالى بعد أمره المؤمنين بالقتال :(1/394)
{ ذَلِكَ وَلَوْ يَشَآءُ اللَّهُ لاَنْتَصَرَ مِنْهُمْ ولكن لِّيَبْلُوَاْ بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ } [ محمد : 4 ] ، ولهذا قال هاهنا : { وَمَا جَعَلَهُ الله إِلاَّ بشرى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله العزيز الحكيم } أي هو ذو العزة التي لا ترام ، والحكمة في قدره والأحكام .
ثم قال تعالى : { لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِّنَ الذين كفروا } أي أمركم بالجهاد والجلاد لما له في ذلك من الحكمة في كل تقدير ، ولهذا ذكر جميع الأقسام الممكنة في الكفار المجاهدين ، فقال : { لِيَقْطَعَ طَرَفاً } أي ليهلك أمة { مِّنَ الذين كفروا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنقَلِبُواْ } أي يرجعوا { خَآئِبِينَ } ، أي لم يحصلوا على ما أملوا ، ثم اعترض بجملة دلت على أن الحكم في الدنيا والآخرة له وحده لا شريك له فقال تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } ، أي بل الأمر كله إليّ ، كما قال تعالى : { فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البلاغ وَعَلَيْنَا الحساب } [ الرعد : 40 ] ، وقال : { لَّيْسَ عَلَيْكَ هُدَاهُمْ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ البقرة : 272 ] ، وقال : { إِنَّكَ لاَ تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ ولكن الله يَهْدِي مَن يَشَآءُ } [ القصص : 56 ] ، وقال محمد بن إسحاق في قوله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } أي ليس لك من الحكم شيء في عبادي إلا ما أمرتك به فيهم . ثم ذكر بقية الأقسام فقال : { أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ } أي مما هم فيه من الكفر فيهديهم بعد الضلالة { أَوْ يُعَذِّبَهُمْ } أي في الدنيا والآخرة على كفرهم وذنوبهم ، ولهذا قال : { فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } أي يستحقون ذلك ، قال البخاري : عن ابن عمر رضي الله عنهما قال : كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على رجال من المشركين يسميهم بأسمائهم حتى أنزل الله تعالى : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } الآية . وقال البخاري أيضاً ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا أراد أن يدعوا على أحد أو يدعو لأحد قنت بعد الركوع وربما قال : إذا قال : « سمع الله لمن حمده ، ربنا ولك الحمد : اللهم أنج الوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعياش بن أبي ربيعة والمستضعفين من المؤمنين . اللهم اشدد وطأتك على مضر واجعلها عليهم سنين كسني يوسف » يجهر بذلك ، وكان يقول في بعض صلاته في صلاة الفجر : « اللهم العن فلاناً وفلاناً » لأحياء من أحياء العرب حتى أنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } الآية .
وقال الإمام أحمد : عن أنَس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم كسرت رباعيته يوم أُحُد وشج في وجهه حتى سال الدم على وجهه فقال : « كيف يفلح قوم فعلوا هذا بنبيهم وهو يدعوهم إلى ربهم عزّ وجلّ » فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظَالِمُونَ } .
وقال ابن جرير : عن قتادة قال : أصيب النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد وكسرت رباعيته ، وفرق حاجبه ، فوقع وعليه درعان والدم يسيل ، فمر به سالم مولى أبي حذيفة فأجلسه ومسح عن وجهه ، فأفاق وهو يقول : « كيف بقوم فعلوا هذا بنبيّهم وهو يدعوهم إلى الله عزّ وجلّ؟ » فأنزل الله : { لَيْسَ لَكَ مِنَ الأمر شَيْءٌ } الآية .
ثم قال تعالى : { وَللَّهِ مَا فِي السماوات وَمَا فِي الأرض } الآية ، أي الجميع ملك له وأهلهما عبيد بين يديه ، { يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ } أي هو المتصرف فلا معقب لحكمه ، ولا يسأل عما يفعل وهم يسألون { والله غَفُورٌ رَّحِيمٌ } .(1/395)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا الرِّبَا أَضْعَافًا مُضَاعَفَةً وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (131) وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134) وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولَئِكَ جَزَاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (136)
يقول تعالى ناهياً عباده المؤمنين عن تعاطي الربا وأكله أضعافاً مضاعفة ، كما كانوا في الجاهلية يقولون إذا حل أجل الدين : إما أن تقضي وإما أن تربي ، فإن قضاه وإلا زاده في المدة وزاده في القدر ، وهكذا كل عام فربما تضاعف القليل حتى يصير كثيراً مضاعفاً وأمر تعالى عباده بالتقوى لعلهم يفلحون في الأولى وفي الآخرة ، ثم توعدهم بالنار وحذرهم منها ، فقال تعالى : { واتقوا النار التي أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ * وَأَطِيعُواْ الله والرسول لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } ، ثم ندبهم إلى المبادرة إلى فعل الخيرات والمسارعة إلى نيل القربات ، فقال تعالى : { وسارعوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السماوات والأرض أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ } أي كما أعدت النار للكافرين . وقد قيل : إن في معنى قوله : { عَرْضُهَا السماوات والأرض } تنبيهاً على اتساع طولها ، كما قال في صفة فرش الجنة : { بَطَآئِنُهَا مِنْ إِسْتَبْرَقٍ } [ الرحمن : 54 ] أي فما ظنك بالظهائر ، وقيل : بل عرضها كطولها لأنها قبة تحت العرش والشيء المقبب والمستدير عرضه كطوله ، وقد دل على ذلك ما ثبت في الصحيح : « إذا سألتم الله الجنة فاسألوه الفردوس فإنه أعلى الجنة وأوسط الجنة ، ومنه تفجر أنهار الجنة ، وسقفها عرش الرحمن » وهذه الآية كقوله في ( سورة الحديد ) : { سابقوا إلى مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السمآء والأرض } [ الآية : 21 ] الآية . وقد روينا في مسند الإمام أحمد أن ( هرقل ) كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم « إنك دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » سبحان الله فأين الليل إذا جاء النهار « » .
وهذا يحتمل معنيين ، أحدهما : أن يكون المعنى في ذلك أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار أن لا يكون في مكان ، وإن كنا لا نعلمه ، وكذلك النار تكون حيث شاء الله عزّ وجلّ ، وهذا أظهر ، والثاني : أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب ، فإن الليل يكون من الجانب الآخر ، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السماوات تحت العرش وعرضها ، كما قال الله عزّ وجلّ : { عَرْضُهَا السماوات والأرض } والنار في أسفل سافلين ، فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض وبين وجود النار ، والله أعلم .
ثم ذكر تعالى صفةَ أهل الجنة فقال : { الذين يُنفِقُونَ فِي السَّرَّآءِ والضرآء } أي في الشدة والرخاء ، والمنشط والمكره ، والصحة والمرض ، وفي جميع الأحوال ، كما قال : { الذين يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بالليل والنهار سِرّاً وَعَلاَنِيَةً } [ البقرة : 274 ] ، والمعنى : أنهم لا يشغلهم أمر عن طاعة الله تعالى والإنفاق في مراضيه ، والإحسان إلى خلقه من قراباتهم وغيرهم بأنواع البر ، وقوله تعالى : { والكاظمين الغيظ والعافين عَنِ الناس } ، أي إذا ثار بهم الغيظ كظموه بمعنى كتموه فلم يعملوه ، وعفوا مع ذلك عمن أساء إليهم ، وقد ورد في بعض الآثار :(1/396)
« يقول تعالى يا ابن آدم اذكرني إذا غضبت ، أذكرك إذا غضبت فلا أهلكك فيمن أهلك » .
وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ليس الشديد بالصُرَعة ولكن الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب » وقال الإمام أحمد ، عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » أيكم مال وارثه أحب إليه من ماله « ، قالوا : يا رسول الله ما منا أحد إلا ماله أحب إليه من مال وارثه ، قال : » اعلموا أنه ليس منكم أحد إلا مال وارثه أحب إليه من ماله ، مالَكَ من مالِكَ إلا ما قدمت ، وما لوارثك إلا ما أخرت « قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ما تعدون الصرعة فيكم! قلنا الذي لا تصرعه الرجال ، قال : « لا ، ولكن الذي يملك نفسه عن الغضب » ، قال : وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أتدرون ما الرقوب » قلنا الذي لا ولد له ، قال : « لا ، ولكن الرقوب الذي لا يقدم من ولده شيئاً » « .
حديث آخر : قال الإمام أحمد ، عن سهل بن معاذ بن أنَس عن أبيه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » من كظم غيظاً وهو قادر على أن ينفذه دعاه الله على رؤوس الخلائق حتى يخيره من أي الحور شاء « .
حديث آخر : عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله تعالى : { والكاظمين الغيظ } أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : » من كظم غيظاً وهو يقدر على إنفاذه ملأ الله جوفه أمناً وإيماناً « .
فقوله تعالى : { والكاظمين الغيظ } أي لا يعملون غضبهم في الناس بل يكفون عنهم شرهم ويحتسبون ذلك عند الله عزّ وجلّ ، ثم قال تعالى : { والعافين عَنِ الناس } أي مع كف الشر يعفون عمن ظلمهم في أنفسهم ، فلا يبقى في أنفسهم موجدة على أحد ، وهذا أكمل الأحوال ولهذا قال : { والله يُحِبُّ المحسنين } فهذا من مقامات الإحسان . وفي الحديث : » ثلاث أقسم عليهن ، ما نقص مال من صدقة وما زاد الله عبداً بعفو إلا عزاً ، ومن تواضع لله رفعه الله « وروى الحاكم في مستدركه ، عن أُبيّ بن كعب ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » ومن سره أن يشرف له البنيان وترفع له الدرجات ، فليعف عمن ظلمه ، ويعطِ من حرمه ، ويصلْ من قطعه « وعن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إذا كان يوم القيامة نادى منادٍ يقول : أين العافون عن الناس ، هلموا إلى ربكم ، وخذوا أجوركم ، وحق على كل امرىء مسلم إذا عفا أن يدخل الجنة « .(1/397)
وقوله تعالى : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } أي إذا صدر منهم ذنب أتبعوه بالتوبة والاستغفار . قال الإمام أحمد ، عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن رجلاً أذنب ذنباً فقال : رب إن أذنبت ذنباً فاغفره لي ، فقال الله عزّ وجلّ : عبدي عمل ذنباً فعلم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ، ثم عمل ذنباً آخر فقال : رب إني عملت ذنباً فاغفره ، فقال تبارك وتعالى : علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ، ثم عمل ذنباً آخر فقال : رب إني عملت ذنباً فاغفر لي ، فقال عزَّ وجلَّ : علم عبدي أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به قد غفرت لعبدي ، ثم عمل ذنباً آخر فقال : رب إني عملت ذنباً فاغفره فقال الله عزّ وجلّ عبدي علم أن له رباً يغفر الذنب ويأخذ به أشهدكم أني قد غفرت لعبدي فليعمل ما شاء » وعن علي رضي الله عنه قال : كنت إذا سمعت من رسول الله صلى الله عليه وسلم حديثاً نفعني الله بما شاء منه ، وإذا حدثني عنه غيره استحلفته ، فإذا حلف لي صدقته؛ وإن أبا بكر رضي الله عنه حدثني ، وصدق أبو بكر ، أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من رجل يذنب ذنباً فيتوضأ ويحسن الوضوء ثم يصلي ركعتين فيستغفر الله عزّ وجلّ ، إلا غفر له » ومما يشهد لصحة هذا الحديث ما رواه مسلم في صحيحه عن أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما منكم من أحد يتوضأ فيبلغ - أو فيسبغ - الوضوء ، ثم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، إلا فتحت له أبواب الجنة الثمانية يدخل من أيها شاء » وعن أنَس رضي الله عنه قال : بلغني أن إبليس حين نزلت هذه الآية : { والذين إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظلموا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ الله فاستغفروا لِذُنُوبِهِمْ } بكى .
وعن أبي بكر رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « عليكم بلا إله إلا الله والاستغفار ، فأكثروا منهما فإن إبليس قال : أهلكت الناس بالذنوب ، وأهلكوني بلا إله إلا الله والاستغفار ، فلم رأيت ذلك أهلكتهم بالأهواء فهم يحسبون أنهم مهتدون » وروى الإمام أحمد في مسنده عن أبي سعيد عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « قال إبليس : يا رب وعزتك لا أزال أغوي بني آدم ما دامت أرواحهم في أجسادهم ، فقال الله تعالى : وعزتي وجلالي لا أزال أغفر لهم ما استغفروني » .(1/398)
وقوله تعالى : { وَمَن يَغْفِرُ الذنوب إِلاَّ الله } أي لا يغفرها أحد سواه ، وقوله : { وَلَمْ يُصِرُّواْ على مَا فَعَلُواْ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أي تابوا من ذنوبهم ورجعوا إلى الله عزّ وجلّ عن قريب ، ولم يستمروا على المعصية ويصروا عليها غير مقلعين عنها ، ولو تكرر منهم الذنب تابوا منه ، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما أصر من استغفر وإن عاد في اليوم سبعين مرة » ، { وَهُمْ يَعْلَمُونَ } أن من تاب تاب الله عليه وهذا كقوله تعالى : { أَلَمْ يعلموا أَنَّ الله هُوَ يَقْبَلُ التوبة عَنْ عِبَادِهِ } [ التوبة : 104 ] ، وكقوله : { وَمَن يَعْمَلْ سواءا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ الله يَجِدِ الله غَفُوراً رَّحِيماً } [ النساء : 110 ] ونظائر هذا كثيرة جداً . ثم قال تعالى بعد وصفهم بما وصفهم به : { أولئك جَزَآؤُهُمْ مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ } أي جزاؤهم على هذه الصفات { مَّغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَجَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أي من أنواع المشروبات ، { خَالِدِينَ فِيهَا } أي ماكثين فيها ، { وَنِعْمَ أَجْرُ العاملين } يمدح تعالى الجنة .(1/399)
قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هَذَا بَيَانٌ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138) وَلَا تَهِنُوا وَلَا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ (141) أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143)
يقول تعالى مخاطباً عباده المؤمنين لما أصيبوا يوم أحد وقتل منهم سبعون : { قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُمْ سُنَنٌ } ، أي قد جرى نحو هذا على الأمم الذين كانوا من قبلكم من أتباع الأنبياء ، ثم كانت العاقبة لهم والدائرة على الكافرين ، ولهذا قال تعالى : { فَسِيرُواْ فِي الأرض فانظروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ المكذبين } ، ثم قال تعالى : { هذا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ } يعني القرآن فيه بيان الأمور على جليتها وكيف كان الأمم الأقدمون مع أعدائهم ، { وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ } يعني القرآن فيه خبر ما قبلكم وهدى لقلوبكم وموعظة أي زاجر عن المحارم والمآثم ، ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين : { وَلاَ تَهِنُوا } أي لا تضعفوا بسبب ما جرى ، { وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُّؤْمِنِينَ } أي العاقبة والنصرة لكم أيها المؤمنون ، { إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القوم قَرْحٌ مِّثْلُهُ } أي إن كنتم قد أصبتكم جراح وقتل منكم طائفة فقد أصاب أعداءكم قريب من ذلك من قتل وجراح ، { وَتِلْكَ الأيام نُدَاوِلُهَا بَيْنَ الناس } أي نديل عليكم الأعداء تارة ، وإن كانت لكم العاقبة لما لنا في ذلك من الحكمة ، ولهذا قال تعالى : { وَلِيَعْلَمَ الله الذين آمَنُواْ } قال ابن عباس : في مثل هذا لنرى من يصبر على مناجزة الأعداء { وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَآءَ } يعني يقتلون في سبيله ويبذلون مهجهم في مرضاته ، { والله لاَ يُحِبُّ الظالمين * وَلِيُمَحِّصَ الله الذين آمَنُواْ } أي يكفر عنهم من ذنوبهم إن كانت لهم ذنوب ، وإلا رفع لهم في درجاتهم بحسب ما أصيبوا به .
وقوله تعالى : { وَيَمْحَقَ الكافرين } أي فإنهم إذا ظفروا بغواً وبطروا ، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم ومحقهم وفنائهم ، ثم قال تعالى : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } ، أي أحسبتم أن تدخلوا الجنة ولم تبتلوا بالقتال والشدائد ، كما قال تعالى في سورة البقرة : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الذين خَلَوْاْ مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البأسآء والضرآء وَزُلْزِلُواْ } [ الآية : 214 ] . وقال تعالى : { أَحَسِبَ الناس أَن يتركوا أَن يقولوا آمَنَّا وَهُمْ لاَ يُفْتَنُونَ } [ العنكبوت : 2 ] الآية ، ولهذا قال هاهنا : { أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُواْ الجنة وَلَمَّا يَعْلَمِ الله الذين جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصابرين } أي لا يحصل لكم دخول الجنة حتى تبتلوا ، ويرى الله منكم المجاهدين في سبيله ، والصابرين على مقاومة الأعداء .
وقوله تعالى : { وَلَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الموت مِن قَبْلِ أَن تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَأَنْتُمْ تَنظُرُونَ } أي قد كنتم أيها المؤمنون قبل هذا اليوم تتمنون لقاء العدو ، وتحترقون عليه وتودون مناجزتهم ومصابرتهم ، فها قد حصل لكم الذي تمنيتموه وطلبتموه فدونكم فقاتلوا وصابروا ، وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « لا تتمنوا لقاء العدو ، وسلوا الله العافية ، فإذا لقيتموهم فاصبروا واعلموا أن الجنة تحت ظلال السيوف » ، ولهذا قال تعالى : { فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ } يعني الموت شاهدتموه وقت حد الأسنة واشتباك الرماح ، وصفوف الرجال للقتال ، والمتكلمون يعبرون عن هذا بالتخييل ، وهو مشاهدة ما ليس بمحسوس كالمحسوس ، كما تتخيل الشاة صداقة الكبش ، وعداوة الذئب .(1/400)
وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَنْ يَنْقَلِبْ عَلَى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُؤَجَّلًا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَنْ يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146) وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلَّا أَنْ قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانْصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (147) فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)
لما انهزم من انهزم من المسلمين يوم أحُد وقتل من قتل منهم ، نادى الشيطان : ألا إن محمداً قد قتل ، ورجع ( ابن قميئة ) إلى المشركين فقال لهم : قتلت محمداً ، وإنما كان قد ضرب رسول الله فشجه في رأسه ، فوقع ذلك في قلوب كثير من الناس ، واعتقدوا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قتل وجوزوا عليه ذلك - كما قد قص الله عن كثير من الأنبياء عليهم السلام - فحصل ضعف ووهن وتأخر عن القتال ، ففي ذلك أنزل الله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } أي له أسوة بهم في الرسالة وفي جواز القتل عليه . قال ابن أبي نجيح عن أبيه : إن رجلاً من المهاجرين مر على رجل من الأنصار وهو يتشحط في دمه فقال له : يا فلان أشعرت أن محمداً صلى الله عليه وسلم قد قتل ، فقال الأنصاري : إن كان محمداً قد قتل فقد بلغ ، فقاتلوا عن دينكم ، فنزل : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } . ثم قال تعالى منكراً على من حصل له ضعف : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } أي رجعتم القهقرى ، { وَمَن يَنقَلِبْ على عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ الله شَيْئاً وَسَيَجْزِي الله الشاكرين } أي الذين قاموا بطاعته وقاتلوا عن دينه ، واتبعوا رسوله حياً وميتاً ، وكذلك ثبت في الصحاح والمسانيد والسنن أن الصدّيق رضي الله عنه تلاهذه الآية لما مات رسول الله صلى الله عليه وسلم .
عن عائشة رضي الله عنها أن أبا بكر رضي الله عنه أقبل على فرس من مسكنه بالسنح حتى نزل فدخل المسجد ، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة فتيمَّم رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو مغطى بثوب حبرة : فكشف عن وجهه ثم أكب عليه وقبّله وبكى ، ثم قال : بأبي أن وأمي والله لا يجمع الله عليك موتتين : أما الموتة التي كتب عليك فقد متها ، وروى الزهري : عن ابن عباس أن أبا بكر خرج وعمر يكلم الناس فقال : اجلس يا عمر ، قال أبو بكر : أما بعد من كان يعبد محمداً فإن محمداً قد مات ، ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ، قال الله تعالى : { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرسل } إلى قوله { وَسَيَجْزِي الله الشاكرين } ، قال : فوالله لكأن الناس لم يعلموا أن الله أنزل هذه الآية حتى تلاها عليهم أبو بكر ، فتلاها منه الناس كلهم فما أسمع بشراً من الناس إلا يتلوها . وأخبرني سعيد بن المسيب أن عمر قال : والله ما هو إلا أن سمعت أبا بكر تلاها فعرقت حتى ما تقلني رجلاي ، وحتى هويت إلى الأرض .(1/401)
وقال أبو القاسم الطبراني ، عن عكرمة عن ابن عباس : أن علياً كان يقول في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } والله لا ننقلب على أعقابنا عبد إذا هدانا الله ، والله لئن مات أو قتل لأقاتلن على ما قاتل عليه حتى أموت ، والله إني لأخوه ووليه وابن عمه ووارثه فم أحق به مني؟ وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } أي لا يموت أحد إلا بقدر الله وحتى يستوفي المدة التي ضربها الله له ، ولهذا قال : { كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } كقوله : { وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتَابٍ } [ فاطر : 11 ] ، وكقوله : { هُوَ الذي خَلَقَكُمْ مِّن طِينٍ ثُمَّ قضى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسَمًّى عِندَهُ } [ الأنعام : 2 ] وهذه الآية فيها تشجيع للجبناء وترغيب لهم في القتال ، فإن الإقدام الإحجام لا ينقص من العمر ولا يزيد فيه ، كما قال ابن أبي حاتم عن حبيب بن ظبيان : قال رجل من المسلمين وهو ( حجر بن عدي ) : ما يمنعكم أن تعبروا إلى هؤلاء العدو هذه النطفة - يعني دجلة - { وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ الله كِتَاباً مُّؤَجَّلاً } ثم أقحم فرسه دجلة ، فلما أقحم أقحم الناس ، فلما رآهم العدوّ قالوا : ديوان . . . فهربوا .
وقوله تعالى : { وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الآخرة نُؤْتِهِ مِنْهَا } أي من كان عمله للدنيا فقط ناله منها ما قدره الله له ، ولم يكن له في الآخرة من نصيب ، ومن قصد بعمله الدار الآخرة أعطاه الله منها وما قسم له في الدنيا كما قال تعالى : { مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخرة نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدنيا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخرة مِن نَّصِيبٍ } [ الشورى : 20 ] ، وقال تعالى : { مَّن كَانَ يُرِيدُ العاجلة عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَآءُ لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً * وَمَنْ أَرَادَ الآخرة وسعى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً } [ الإسراء : 18-19 ] ولهذا قال هاهنا : { وَسَنَجْزِي الشاكرين } أي سنعطيهم من فضلنا ورحمتنا في الدنيا والآخرة بحسب شكرهم وعملهم . ثم قال تعالى مسلياً للمؤمنين عما كان وقع في نفوسهم يوم أحد ، { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } قيل معناه : كم من نبي قتل وقتل معه ربيون من أصحابه كثير ، وهذا القول هو اختيار ابن جرير . وقد عاتب الله بهذه الآيات والتي قبلها من انهزم يوم أحد وتركوا القتال لما سمعوا الصائح يصيح بأن محمداً قد قتل ، فعذلهم الله على فرارهم وتركهم القتال فقال لهم : { أَفإِنْ مَّاتَ أَوْ قُتِلَ } ، أيها المؤمنون ارتددتم عن دينكم و { انقلبتم على أَعْقَابِكُمْ } وقيل : وكم من نبي قتل بين يديه من أصحابه ربيون كثير .(1/402)
وكلام ابن إسحاق في السيرة يقتضي قولاً آخر ، فإنه قال : وكأين من نبي أصابه القتل ومع ربيون أي جماعات فما وهنوا بعد نبيهم ، وما ضعفوا عن عدوهم ، وما استكانوا لما أصابهم في الجهاد عن الله وعن دينهم وذلك الصبر { والله يُحِبُّ الصابرين } . فجعل قوله : { مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } حالاً وقد نصر هذا القول السهيلي وبالغ فيه ، وله اتجاه لقوله : { فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ } الآية . وقرأ بعضهم : { قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } أي ألوف ، وقال ابن عباس ومجاهد وقتادة : الربيون الجموع الكثيرة ، وقال الحسن : { رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ } ، أي علماء كثير ، وعنه أيضاً : علماء صبر أي أبرار أتقياء ، وحكى ابن جرير عن بعض نحاة البصرة أن الربيين هم الذين يعبدون الرب عزّ وجلّ ، قال : ورد بعضهم عليه فقال : لو كان كذلك لقيل الربيون بفتح الراء ، وقال ابن زيد : الربيون الأتباع والرعية والربانيون الولاة ، { فَمَا وَهَنُواْ لِمَآ أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ الله وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا استكانوا } قال قتادة : { وَمَا ضَعُفُواْ } بقتل نبيهم ، { وَمَا استكانوا } يقول : فما ارتدوا عن نصرتهم ولا عن دينهم أن قاتلوا على ما قاتل عليه نبي الله حتى لحقوا بالله ، وقال ابن عباس : { وَمَا استكانوا } تخشعوا ، قال ابن زيد : وما ذلوا لعدوهم ، { والله يُحِبُّ الصابرين * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغفر لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا في أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصرنا عَلَى القوم الكافرين } أي لم يكن لهم هجير إلا ذلك ، { فَآتَاهُمُ الله ثَوَابَ الدنيا } أي النصر والظفر والعاقبة { وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخرة } أي جمع لهم ذلك مع هذا { والله يُحِبُّ المحسنين } .(1/403)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خَاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَأْوَاهُمُ النَّارُ وَبِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152) إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (153)
يحذر تعالى عباده المؤمنين عن طاعة الكافرين والمنافقين ، فإن طاعتهم تورث الردى في الدنيا والآخرة ، ولهذا قال تعالى : { إِن تُطِيعُواْ الذين كَفَرُواْ يَرُدُّوكُمْ على أَعْقَابِكُمْ فَتَنقَلِبُواْ خَاسِرِينَ } ، ثم أمرهم بطاعته وموالاته والاستعانة به والتوكل عليه فقال تعالى : { بَلِ الله مَوْلاَكُمْ وَهُوَ خَيْرُ الناصرين } ، ثم بشرهم بأنه سيلقي في قلوب أعدائهم الخوف منهم والذلة لهم بسبب كفرهم وشركهم ، مع ما ادخره لهم في الدار الآخرة من العذاب والنكال ، فقال : { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب بِمَآ أَشْرَكُواْ بالله مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَمَأْوَاهُمُ النار وَبِئْسَ مثوى الظالمين } وقد ثبت في الصحيحين عن جابر بن عبد الله أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « أعطيت خمساً لم يعطهن أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجداً وطهوراً ، وأحلت لي الغنائم ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصة وبعثت إلى الناس عامة » وقال الإمام أحمد : عن أبي موسى قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أعطيت خمساً : بعثت إلى الأحمر والأسود ، وجعلت لي الأرض طهوراً ومسجداً ، وأحلت لي الغنائم ولم تحل لمن كان قبلي ، ونصرت بالرعب مسيرة شهر ، وأعطيت الشفاعة ، وليس من نبي إلا وقد سأل الشفاعة وإني قد اختبأت شفاعتي لمن مات لا يشرك بالله شيئاً » قال ابن عباس في قوله تعالى { سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الذين كَفَرُواْ الرعب } قذف الله في قلب أبي سفيان الرعب فرجع إلى مكة ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « إن أبا سفيان قد أصاب منكم طرفاً ، وقد رجع وقذف الله في قلبه الرعب » وقوله تعالى : { وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ الله وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ } قال ابن عباس : وعدهم الله النصر ، { إِذْ تَحُسُّونَهُمْ } أي تقتلونهم { بِإِذْنِهِ } أي بتسليطه إياكم عليهم { حتى إِذَا فَشِلْتُمْ } الفشل : الجبن { وَتَنَازَعْتُمْ فِي الأمر وَعَصَيْتُمْ } كما وقع للرماة { مِّن بَعْدِ مَآ أَرَاكُمْ مَّا تُحِبُّونَ } وهو الظفر بهم { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا } وهم الذين رغبوا في المغنم حين رأوا الهزيمة { وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } ثم أدالهم عليكم ليختبركم ويمتحنكم { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } أي غفر لكم ذلك الصنيع . قال ابن جريج : قوله : { وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ } قال : لم يستأصلكم { والله ذُو فَضْلٍ عَلَى المؤمنين } .
عن ابن مسعود قال : إن النساء كن يوم أحد خلف المسلمين يجهزن على جرحى المشركين ، فلو حلفت يومئذ رجوت أن أبر ، أنه ليس منا أحد يريد الدنيا حتى أنزل الله : { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } ، فلما خالف أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وعصوا ما أمروا به أفرد النبي صلى الله عليه وسلم في تسعة ، سبعة من الأنصار ورجلين من قريش وهو عاشرهم صلى الله عليه وسلم ، فلما أرهقوه قال :(1/404)
« » رحم الله رجلاً ردهم عنا « قال : فقام رجل من الأنصار فقاتل ساعة حتى قتل ، فلما أرهقوه أيضاً قال : » رحم الله رجلاً ردهم عنا « ، فلم يزل يقول ذلك حتى قتل السبعة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه : » ما أنصفنا أصحابنا « ، فجاء أبو سفيان فقال : اعل هبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » قولوا الله أعلى وأجل ، فقالوا : الله أعلى وأجل فقال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « قولوا الله مولانا والكافرون لا مولى لهم » ، فقال أبو سفيان يوم بيوم بدر ( فيوم علينا ويوم لنا : ويوم نساء ويوم نسر ) حنظلة بحنظلة وفلان بفلان : فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لا سواء : أما قتلانا فأحياء يرزقون؛ وأما قتلاكم ففي النار يعذبون » ، فقال أبو سفيان : لقد كان في القوم مُثْلة - وإن كانت لعن غير مَليّ منا - ما أمرت ولا نهيت ، ولا أحببت ولا كرهت ، ولا ساءني ولا سرني ، قال : فنظروا فإذا حمزة قد بقر بطنه وأخذت هند كبده فلاكتها فلم تستطع أن تأكلها ، فقال رسو الله صلى الله عليه وسلم : « أكلت شيئاً »؟ قالوا : لا ، قال : « ما كان الله ليدخل شيئاً من حمزة في النار » ، قال : فوضع رسول الله صلى الله عليه وسلم حمزة فصلى عليه ، وجيء برجل من الأنصار فوضع إلى جنبه فصلى عليه فرفع الأنصاري وترك حمزة ، حتى جيء بآخر فوضع إلى جنب حمزة فصلى عليه ، ثم رفع وترك حمزة ، حتى صلى عليه يومئذ سبعين صلاة « .
وقال البخاري عن البراء قال : » لقينا المشركين يومئذ وأجلس النبي صلى الله عليه وسلم حبشاً من الرماة وأمر عليهم ( عبد الله ابن جبير ) ، وقال : « لا تبرحوا ، إن رأيتمونا ظهرنا عليهم فلا تبرحوا ، وإن رأيتموهم ظهروا علينا فلا تعينونا » . فلما لقيناهم هربوا حتى رأيت النساء يشتددن في الجبل رفعن عن سوقهن . وقد بدل خلاخلهن فأخذوا يقولون : الغنيمة الغنيمة ، فقال عبد الله بن جبير : عهد إليَّ النبي صلى الله عليه وسلم أن لا تبرحوا فأبوا ، فلما أبوا صرف وجوههم فأصيب سبعون قتيلاً ، فأشرف أبو سفيان فقال : أفي القوم محمد ، فقال : « لا تجيبوه » ، فقال : أفي القوم ابن أبي قحافة؟ قال : « لا تجيبوه » ، فقال أفي القوم ابن الخطاب ، فقال : إن هؤلاء قتلوا فلو كانوا أحياء لأجابوا ، فلم يملك عمر نفسه فقال له : كذبت يا عدو الله ، أبقى الله لك ما يحزنك؛ قال أبو سفيان : اعل هبل فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أجيبوه » ، قالوا : ما نقول؟ قال : « قولوا : الله أعلى وأجل » ، قال أبو سفيان : لنا العزى ولا عزى لكم فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « أجيبوه » ، قالوا : ما نقول؟ قال : « قولوا : الله مولانا ولا مولى لكم » ، قال أبو سفيان : يوم بيوم بدر ، والحرب سجال؛ وستجدون مُثْلة لم آمر بها ولم تسؤني «(1/405)
وعن الزبير بن العوام قال : والله لقد رأيتني أنظر إلى خدم هنا وصواحباتها مشمرات هوارب ما دون أخذهن كثير ولا قليل ، ومالت الرماة إلى العسكر حين كشفنا القوم عنه يريدون النهب ، وخلوا ظهورنا للخيل فأوتينا من أدبارنا ، وصرخ صارخ ألا إن محمداً قد قتل فانكفأنا وانكفأ علينا القوم بعد أن أصبنا أصحاب اللواء حتى ما يدنوا منه أحد من القوم ، قال محمد بن إسحاق : فلم يزل لواء المشركين صريعاً حتى أخذته ( عمرة بنت علقمى الحارثية ) فدفعته لقريش فلاثوا بها وقال السدي عن عبد الله بن مسعود قال : ما كنت أرى أن أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد الدنيا حتى نزل فينا ما نزل يوم أحُد { مِنكُم مَّن يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنكُم مَّن يُرِيدُ الآخرة } .
وقوله تعالى : { ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ } قال ابن إسحاق : انتهى أنَس بن النضر عم أنَس بن مالك إلى ( عمر بن الخطاب ) و ( طلحة بن عبد الله ) في رجال من المهاجرين والأنصار قد ألقوا ما بأيديهم ، فقال : ما يخليكم؟ فقالوا : قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال : فما تصنعون بالحياة بعده؟ قوموا فموتوا على ما مات عليه؛ ثم استقبل القوم فقاتل حتى قتل رضي الله عنه - وقال البخاري عن أنَس بن مالك أن عمه يعني ( أنَس بن النضر ) غاب عن بدر فقال : غبت عن أول قتال النبي صلى الله عليه وسلم لئن أشهدني الله مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ليَرينَّ الله ما أجد ، فلقي يوم أحد فهزم الناس ، فقال اللهم إن أعتذر إليك مما صنع هؤلاء - يعني المسلمين - وأبرأ إليك مما جاء به المشركون؛ فتقدم بسيفه فلقي سعد بن معاذ فقال : أين يا سعد إني أجد ريحح الجنة دون أحد ، فمضى فقتل فما عرف حتى عرفته أخته بشامة أو ببنانه وبه بضع وثمانون من طعنة وضربة ورمية بسهم .
وقوله تعالى : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ } أي صرفكم عنهم إذ تصعدون أي في الجبال هاربين من أعدائكم ، { وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ } أي وأنتم لا تلوون على أحد من الدهش والخوف والرعب ، { والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } أي وهو قد خلفتموه وراء ظهوركم يدعوكم إلى ترك الفرار من الأعداء ، وإلى الرجعة والعودة والكرة ، قال السدي : لما اشتد المشركون على المسلمين بأحد فهزموهم دخل بعضهم المدينة ، وانطلق بعضهم إلى الجبل فوق الصخرة فقاموا عليها ، فجعل الرسول صلى الله عليه وسلم يدعو الناس :(1/406)
« إليّ عباد الله ، إليّ عباد الله » فذكر الله صعودهم إلى الجبل ، ثم ذكر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم إياهم فقال : { إِذْ تُصْعِدُونَ وَلاَ تَلْوُونَ على أحَدٍ والرسول يَدْعُوكُمْ في أُخْرَاكُمْ } .
عن البراء بن عازب رضي الله عنه قال : « جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم على الرماة يوم أحد - وكانوا خمسين رجلاً - ( عبد الله بن جبير ) قال : ووضعهم موضعاً ، وقال : » إن رأيتمونا تخطفنا الطير فلا تبرحوا حتى أرسل إليكم « ، قال ، فهزموهم ، قال : فلقد والله رأيت النساء يشتددن على جبل وقد بدت أسواقهن وخلاخلهن رافعات ثيابهن فقال أصحاب عبد الله : الغنيمة أي قوم الغنيمة! ظهر أصحابكم فما تنظرون؟ قال عبد الله بن جبير : أنسيتم ما قال لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ فقالوا : إنا لنأتين الناس فلنصيبن من الغنيمة . فلما أتوهم صرفت وجوههم فأقبلوا منهزمين فذلك الذي يدعوهم الرسول في أخراهم ، فلم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا اثنا عشر رجلاً فأصابوا منا سبعين . وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أصابوا من المشركين يوم بدر مائة وأربعين ، سبعين أسيراً وسبعين قتيلاً . قال أبو سفيان : أفي القوم محمد أفي القوم محمد ، أفي القوم محمد؟ ثلاثاً - قال فنهاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجيبوه ، ثم قال : أفي القوم ابن أبي قحافة ، أفي القوم ابن أبي قحافة؟ أفي القوم ابن الخطاب ، أفي القوم ابن الخطاب؟ ثم أقبل على أصحابه ، فقال : أما هؤلاء فقد قتلوا وكفيتموهم ، فما ملك عمر نفسه أن قال : كذبت والله يا عدو الله إن الذين عددت لأحياء كلهم ، وقد أبقى الله لك ما يسوؤك ، فقال : يوم بيوم بدر ، والحرب سجال . إنكم ستجدون في القوم مثلة لم آمر بها ولم تسؤني . ثم أخذ يرتجز يقول : اعل هبل ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ألا تجيبوه «؟ قالوا : يا رسول الله ما نقول؟ قال : » قولوا الله أعلى وأجل « ، قال : لنا العزى ولا عزى لكم ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » ألا تجيبوه؟ « قالوا : يا رسول الله وما نقول؟ قال : » قولوا مولانا ولا مولى لكم « » .
وقد روى البخاري عن قيس بن أبي حازم قال : رأيت يد طلحة شلاء وقى بها النبي صلى الله عليه وسلم يعني يوم أحد ، وفي الصحيحين ، عن أبي عثمان النهدي قال : لم يبق مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض تلك الأيام التي قاتل فيهن رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا طلحة بن عبيد الله وسعد عن حديثهما .(1/407)
وعن سعيد بن المسيب يقول : سمعت سعد بن أبي وقاص يقول : نثل لي رسول الله صلى الله عليه وسلم كنانته يوم أحد ، وقال : « ارم فداك أبي وأمي » ، وعن سعد بن أبي وقاص أنه رمى يوم أحد دون رسول الله صلى الله عليه وسلم قال سعد : فلقد رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يناولني النبل ، ويقول : « ارم فداك أبي وأمي » حتى أنه ليناولني السهم ليس له نصل فأرمي به .
وثبت في الصحيحين من حديث ابراهيم بن سعد بن أبي وقاص عن أبيه قال : « رأيت يوم أحد عن يمين النبي صلى الله عليه وسلم وعن يساره رجلين عليهما ثياب بيض يقاتلان عنه أشد القتال ما رأيتهما قبل ذلك اليوم ولا بعده ، يعني جبريل وميكائيل عليهما السلام ، وعن أنَس بن مالك : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أفرد يوم أحد في سبعة من الأنصار واثنين من قريش ، فلما أرهقوه قال : » من يردهم عنا وله الجنة - أو هو رفيقي في الجنة - « ، فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ، ثم أرهقوه أيضاً فقال : » من يردهم عنا وله الجنة « فتقدم رجل من الأنصار فقاتل حتى قتل ، فلم يزل كذلك حتى قتل السبعة فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لصاحبيه : » ما أنصفنا أصحابنا « وقال أبو الأسود عن عروة ابن الزبير قال : » كان ( أُبيّ بن خلف ) أخو بني جمح قد حلف وهو بمكة ليقتلن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فلما بلغت رسول الله صلى الله عليه وسلم حلفته قال : « بل أنا أقتله إن شاء الله » ، فلما كان يوم أُحُد أقبل ( أُبيّ ) في الحديد مقنعاً وهو يقول : لا نجوتُ إن نجا محمد ، فحمل على رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد قتله ، فاستقبله ( مصعب بن عمير ) أخو بني عبد الدار يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه فقتل مصعب بن عمير ، وأبصر رسول الله صلى الله عليه وسلم ترقوة أبي بن خلف من فرجه بين سابغة الدرع والبيضة وطعنه فيها بحربته فوقع إلى الأرض عن فرسه ، ولم يخرج من طعنته دم ، فأتاه أصحابه فاحتملوه وهو يخور خوار الثور ، فقالوا له : ما أجزعك إنما هو خدش؟ فذكر لهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « بل أنا أقتل أُبيًّا » ، ثم قال : والذي نفسي بيده لو كان هذا الذي بي بأهل ذي المجاز لماتوا أجمعون «(1/408)
، فمات إلى النار { فَسُحْقاً لأَصْحَابِ السعير } [ الملك : 11 ] .
وذكر محمد بن إسحاق قال : « لما أسند رسول الله صلى الله عليه وسلم في الشعب أدركه ( أُبيّ بن خلف ) وهو يقول : لا نجوتُ إن نجوتَ ، فقال القوم : يا رسول الله يعطف عليه رجل منا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » دعوه « ، فلما دنا منه تناول رسول الله صلى الله عليه وسلم الحربة من الحارث بن الصمة ، فقال بعض القوم كما ذكر لي : فلما أخذها رسول الله صلى الله عليه وسلم منه انتفض بها انتقاضة تطايرنا عنه تطاير الشعر عن ظهر البعير إذا انفضَّ ، ثم استقبله رسول الله صلى الله عليه وسلم فطعنه في عنقه طعنة تدأدأ منها عن فرسه مراراً » .
وثبت في الصحيحين عن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « اشتد غضب الله على قوم فعلوا برسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو حينئذ يشير إلى رباعيته - واشتد غضب الله على رجل يقتله رسول الله صلى الله عليه وسلم في سبيل الله » وعن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت : « كان أبو بكر إذا ذكر يوم أحد قال : ذاك يوم كله لطلحة ، ثم أنشأ يحدث ، قال : كنت أول من فاء يوم أحد فرأيت رجلاً يقاتل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم دونه - وأراه قال حميَّة - فقلت : كن طلحة حيث فاتني ما فاتني ، فقلت : يكون رجلاً من قومي أحب إلي ، وبيني وبين المشركين رجل لا أعرفه وأنا أقرب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم منه ، وهو يخطف المشي خطفاً لا أعرفه فإذا هو ( أبو عبيدة بن الجراح ) فانتهيت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد كسرت رباعيته وشج في وجهه ، وقد دخل في وجنته حلقتان من حلق المغفر ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » عليكما صاحبكما يريد طلحة « وقد نزف فلم نلتفت إلى قوله قال : وذهبت لأنزع ذلك من وجهه ، فقال ( أبو عبيدة ) : أقسمت عليك بحقي لما تركتني فتركته ، فكره أن يتناولها بيده فيؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فأزمَّ عليها بفيه فاستخرج إحدى الحلقتين ، ووقعت ثنيته مع الحلقة ، وذهبت لأصنع ما صنع فقال : أقسمت عليك بحقي لما تركتني ، قال ، ففعل مثل ما فعل في المرة الأولى ، ووقعت ثنيته الأخرى مع الحلقة ، فكان أبو عبيدة من أحسن الناس هتماً ، فأصلحنا من شأن رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم أتينا ( طلحة ) في بعض تلك الجفار ، فإذا به بضع وسبعون أو أقل أو أكثر من طعنة ورمية وضربة ، وإذا قد قطعت أصبعه ، فأصلحنا من شأنه »(1/409)
وقال ابن وهب : إن ( مالكاً ) أبا أبي سعيد الخدري لما جرح النبي صلى الله عليه وسلم يوم أحد مصَّ الجرج حتى أنقاه ولاح أبيض فقيل له : مجه ، فقال : لا والله لا أمجه أبداً ، ثم أدبر يقاتل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « من أراد أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا فاستشهد » وقد ثبت في الصحيحين عن سهل بن سعد أنه سئل عن جرح رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : جرح وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وكسرت رباعيته وهشمت البيضة على رأسه صلى الله عليه وسلم ، فكانت فاطمة تغسل الدم وكان علي يسكب عليه الماء بالمجن ، فلما رأت فاطمة أن الماء لا يزيد الدم إلا كثرة أخذت قطعة من حصير فأحرقتها ، حتى إذا صارت رماداً ألصقته بالجرح فاستمسك الدم .
وقوله تعالى : { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ } أي فجزاكم غماً على غم ، كما تقول العرب : نزلت ببني فلان ، نزلت على بني فلان ، وقال ابن جرير : وكذا قوله : { وَلأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النخل } [ طه : 71 ] أي على جذوع النخل . قال ابن عباس : الغم الأول بسبب الهزيمة وحين قيل قتل محمد صلى الله عليه وسلم ، والثاني حين علاهم المشركون فوق الجبل ، وقال النبي صلى الله عليه وسلم : « اللهم ليس لهم أن يعلونا » ، وعن عبد الرحمن بن عوف : الغم الأول بسبب الهزيمة ، والثاني حين قيل : قتل محمد صلى الله عليه وسلم كان ذلك عندهم أشد وأعظم من الهزيمة . وقال السدي : الغم الأول بسبب ما فاتهم من الغنيمة والفتح ، والثاني بإشراف العدو عليهم . وقال محمد بن إسحاق : { فَأَثَابَكُمْ غَمّاًً بِغَمٍّ } أي كرباً بعد كرب من قتل من قتل من إخوانكم ، وعلو عدوكم عليكم ، وما وقع في أنفسكم من قتل نبيكم ، فكان ذلك متتابعاً عليكم غماً بغم . وقال مجاهد وقتادة : الغم الأول سماعهم قتل محمد ، والثاني ما أصابهم من القتل والجراح . وقوله تعالى : { لِّكَيْلاَ تَحْزَنُواْ على مَا فَاتَكُمْ } أي على ما فاتكم من الغنيمة والظفر بعدوكم { وَلاَ مَآ أَصَابَكُمْ } من الجراح والقتل قاله ابن عباس والسدي { والله خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ } سبحانه وبحمده ، لا إله إلا هو جل وعلا .(1/410)
ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)
يقول تعالى ممتناً على عباده فيما أنزل عليهم من السكينة والأمنة وهو النعاس الذي غشيهم وهم مشتملون السلاح في حال همهم وغمهم ، والنعاس في مثل تلك الحال دليل على الأمان . كما قال في سورة الأنفال في قصة بدر : { إِذْ يُغَشِّيكُمُ النعاس أَمَنَةً مِّنْهُ } [ الأنفال : 11 ] الآية ، وقال ابن أبي حاتم ، عن عبد الله بن مسعود قال : ( النعاس في القتال من الله ، وفي الصلاة من الشيطان ) . وقال البخاري ، عن أبي طلحة قال : كنت فيمن تغشاه النعاس يوم أحد ، حتى سقط سيفي من يدي مرارا يسقط وآخذه ويسقط وآخذه . وعن أنس بن مالك أن أبا طلحة قال : غشينا النعاس ونحن في مصافنا يوم أحد فجعل سيفي يسقط من يدي وآخذه ، ويسقط وآخذه ، قال : والطائفة الآخرى المنافقون ليس لهم همٌّ إلا أنفسهم ، أجبن قوم وأرعبه وأخذله للحق ، { يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية } أي إنما هم أهل شك وريب في الله عزّ وجلّ ، فإن الله عزّ وجلّ يقول : { ثُمَّ أَنزَلَ عَلَيْكُمْ مِّن بَعْدِ الغم أَمَنَةً نُّعَاساً يغشى طَآئِفَةً مِّنْكُمْ } يعني أهل الإيمان واليقين والثبات والتوكل الصادق ، وهم الجازمون بأن الله عزّ وجلّ سينصر رسوله وينجز له مأموله ولهذا قال : { وَطَآئِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ } يعني لا يغشاهم النعاس من القلق والجزع والخوف { يَظُنُّونَ بالله غَيْرَ الحق ظَنَّ الجاهلية } كما قال في الآية الأخرى : { بَلْ ظَنَنْتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ الرسول والمؤمنون إلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً } [ الفتح : 12 ] وهكذا هؤلاء اعتقدوا أن المشركين لما ظهروا تلك الساعة أنها الفيصلة ، وان الإسلام قد باد وأهله ، وهذا شأن أهل الريب والشك ، إذا حصل أمر من الأمور الفظيعة تحصل لهم هذه الظنون الشنيعة ، ثم أخبر تعالى عنهم أنهم { يَقُولُونَ } في تلك الحال { هَل لَّنَا مِنَ الأمر مِن شَيْءٍ } فقال تعالى : { قُلْ إِنَّ الأمر كُلَّهُ للَّهِ يُخْفُونَ في أَنْفُسِهِم مَّا لاَ يُبْدُونَ لَكَ } ثم فسر ما أخفوه في أنفسهم بقوله : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } ، أي يسرون هذه المقالة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم . قال ابن إسحاق عن عبد الله بن الزبير قال : قال الزبير : لقد رأيتني مع رسول الله صلى الله عليه وسلم حين اشتد الخوف علينا أرسل الله علينا النوم ، فما منا من رجل إلا ذقنه في صدره قال : فوالله إني لأسمع قول ( متعب بن قشير ) ما أسمعه إلا كالحلم يقول : { لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } فحفظتها منه ، وفي ذلك أنزل الله : { يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الأمر شَيْءٌ مَّا قُتِلْنَا هَاهُنَا } لقول معتب . قال الله تعالى : { قُل لَّوْ كُنتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الذين كُتِبَ عَلَيْهِمُ القتل إلى مَضَاجِعِهِمْ } أي هذا قدر قدره الله عزّ وجلّ وحكم حتم لا محيد عنه ولا مناص منه .(1/411)
وقوله تعالى : { وَلِيَبْتَلِيَ الله مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ } أي يختبركم بما جرى عليكم ليميز الخبيث من الطيب ، ويظهر أمر المؤمن من المنافق للناس في الأقوال والأفعال ، { والله عَلِيمٌ بِذَاتِ الصدور } أي بما يختلج في الصدور من السرائر والضمائر . ثم قال تعالى : { إِنَّ الذين تَوَلَّوْاْ مِنكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان إِنَّمَا استزلهم الشيطان بِبَعْضِ مَا كَسَبُواْ } أي ببعض ذنوبهم السالفة ، كما قال بعض السلف : إن من ثواب الحسنة الحسنة بعدها ، وإن من جزاء السيئة السيئة بعدها . ثم قال تعالى : { وَلَقَدْ عَفَا الله عَنْهُمْ } أي عما كان منهم من الفرار ، { إِنَّ الله غَفُورٌ حَلِيمٌ } أي يغفر الذنب ويحلم عن خلقه ويتجاوز عنهم .(1/412)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَقَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ إِذَا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كَانُوا غُزًّى لَوْ كَانُوا عِنْدَنَا مَا مَاتُوا وَمَا قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذَلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156) وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَلَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)
ينهى تعالى عباده المؤمنين عن مشابهة المؤمنين مشابهة الكفار في اعتقادهم الفاسد الدال عليه قولهم عن إخوانهم الذين ماتوا في الأسفار والحروب : لو كانوا تركوا ذلك لما أصابهم ما أصابهم ، فقال تعالى : { ياأيها الذين آمَنُواْ لاَ تَكُونُواْ كالذين كَفَرُواْ وَقَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ } أي عن إخوانهم ، { إِذَا ضَرَبُواْ فِي الأرض } أي سافروا للتجارة ونحوها ، { أَوْ كَانُواْ غُزًّى } أي كانوا في الغزو ، { لَّوْ كَانُواْ عِنْدَنَا } أي في البلد ، { مَا مَاتُواْ وَمَا قُتِلُواْ } أي ما ماتوا في السفر وما قتلوا في الغزو . وقوله تعالى : { لِيَجْعَلَ الله ذلك حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ } أي خلق هذا الاعتقاد في نفوسهم ليزدادوا حسرة على موتاهم ، ثم قال تعالى رداً عليهم : { والله يُحْيِي وَيُمِيتُ } أي بيده الخلق وإليه يرجع الأمر ، ولا يحيا أحد ولا يموت أحد إلا بمشيئته وقَدَره ، ولا يزاد في عمر أحد ولا ينقص منه شيء إلا بقضائه وقدره ، { والله بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } أي علمه وبصره نافذ في جميع خلقه ، لا يخفى عليه من أمورهم شيء ، وقوله تعالى : { وَلَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ الله أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِّنَ الله وَرَحْمَةٌ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ } تضمن هذا أن القتل في سبيل الله والموت أيضاً وسيلة إلى نيل رحمة الله وعفوه ورضوانه ، وذلك خير من البقاء في الدنيا وجمع حطامها الفاني ، ثم أخبر تعالى بأن كل من مات أو قتل فمصيره ومرجعه إلى الله عزّ وجلّ فيجزيه بعمله ، إن خيراً فخير وإن شراً فشر فقال تعالى : { وَلَئِنْ مُّتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لإِلَى الله تُحْشَرُونَ } .(1/413)
فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلَا غَالِبَ لَكُمْ وَإِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160) وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَا كَسَبَتْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (161) أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللَّهِ كَمَنْ بَاءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (163) لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ (164)
يقول تعالى مخاطباً رسوله ممتناً عليه وعلى المؤمنين فيما أَلان به قلبه على أمته المتبعين لأمره التاركين لزجره وأطاب لهم لفظه { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } أي بأي شيء جعلك الله لهم ليناً لولا رحمة الله بك وبهم ، وقال قتادة : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } يقول : فبرحمة من الله لنت لهم و ( ما ) صلة والعرب تصلها بالمعرفة كقوله { فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ } [ النساء : 155 ، المائدة : 13 ] ، وبالنكرة كقوله : { عَمَّا قَلِيلٍ } [ المؤمنون : 40 ] وهكذا هاهنا . قال : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لَهُمْ } أي برحمة من الله ، وقال الحسن البصري : هذا خلق محمد صلى الله عليه وسلم بعثه الله به ، وهذه الآية الكريمة شبيهة بقوله تعالى : { لَقَدْ جَآءَكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بالمؤمنين رَءُوفٌ رَّحِيمٌ } [ التوبة : 128 ] ثم قال تعالى : { وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ القلب لاَنْفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ } ، والفظ : الغليظ والمراد به هاهنا غليظ الكلام لقوله بعد ذلك : { غَلِيظَ القلب } أي لو كنت سيء الكلام قاسي القلب عليهم لانفضوا عنك وتركوك ، ولكن الله جمعهم عليك ، وألان جانبك لهم تأليفاً لقلوبهم ، كما قال عبد الله بن عمرو : إني أرى صفة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الكتب المتقدمة « أنه ليس بفظ ولا غليظ ، ولا صخّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح » . ولهذا قال تعالى : { فاعف عَنْهُمْ واستغفر لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } . ولذلك كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يشاور أصحابه في الأمر إذا حدث ، تطييباً لقلوبهم ، ليكون أنشط لهم فيما يفعلونه ، كما شاورهم يوم بدر في الذهاب إلى العير ، فقالوا : يا رسول الله لو استعرضت بنا عرض البحر لقطعناه معك ، ولو سرت بنا إلى برك الغماد لسرنا معك ، ولا نقول لك كما قال قوم موسى لموسى : اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون ، ولكن نقول : اذهب فنحن معك وبين يديك وعن يمينك وعن شمالك مقاتلون . وشاورهم أيضاً أين يكون المنزل ، حتى أشار المنذر بن عمرو بالتقدم أمام القوم ، وشاروهم في أُحُد في أن يقعد في المدينة أو يخرج إلى العدوّ ، فأشار جمهورهم بالخروج إليهم ، فخرج إليهم ، وشاروهم يوم الخندق في مصالحة الأحزاب بثلث ثمار المدينة عامئذ فأبى ذلك عليه السعدان ، سعد ابن معذ وسعد بن عبادة ، فترك ذلك ، وشاورهم يوم الحديبية في أن يميل على ذراري المشركين ، فقال له الصديق : إنا لمن نجيء لقتال أحد وإنما جئنا معتمرين ، فأجابه إلى ما قال ، فكان صلى الله عليه وسلم يشاورهم في الحروب ونحوها .
وروينا عن ابن عباس في قوله تعالى : { وَشَاوِرْهُمْ فِي الأمر } قال : نزلت في أبي بكر وعمر ، وكانا حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم ووزيريه وأبوي المسلمين ، وقد روى الإمام أحمد عن عبد الرحمن بن غنم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي بكر وعمر :(1/414)
« لو اجتمعتما في مشورة ما خالفتكما » ، وروى ابن مردويه ، عن علي بن أبي طالب قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزم؟ فقال : « مشاورة أهل الرأي ثم اتباعهم » ، وقد قال ابن ماجة عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « المستشار مؤتمن » .
وقوله تعالى : { فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى الله } ، أي إذا شاورتهم في الأمر وعزمت عليه فتوكل على الله فيه { إِنَّ الله يُحِبُّ المتوكلين } ، وقوله تعالى : { إِن يَنصُرْكُمُ الله فَلاَ غَالِبَ لَكُمْ وَإِن يَخْذُلْكُمْ فَمَن ذَا الذي يَنصُرُكُم مِّنْ بَعْدِهِ وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } وهذه الآية كما تقدم من قوله : { وَمَا النصر إِلاَّ مِنْ عِندِ الله العزيز الحكيم } [ آل عمران : 126 ] ، ثم أمرهم بالتوكل عليه فقال : { وَعَلَى الله فَلْيَتَوَكَّلِ المؤمنون } ، وقوله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } ، قال ابن عباس ومجاهد : ما ينبغي لنبي أن يخون ، وقال ابن أبي حاتم ، عن ابن عباس : فقدوا قطيفة يوم بدر فقالوا : لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أخذها فأنزل الله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } أي يخون . وقال ابن جرير ، عن ابن عباس ، أن هذه الآية : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } نزلت في قطيفة حمراء فقدت يوم بدر ، فقال بعض الناس : لعل رسول الله أخذها ، فأكثروا في ذلك ، فأنزل الله : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } ، وعنه قال : إتهم المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء فُقد ، فأنزل الله تعالى : { وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ } ، وهذا تنزيه له صلوات الله وسلامه عليه من جميع وجوه الخيانة في أداء الأمانة وقسم الغنيمة وغير ذلك . { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة ثُمَّ توفى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ } وهذا تهديد شديد ووعيد أكيد ، وقد وردت السنّة بالنهي عن ذلك أيضاً في أحاديث متعددة . قال الإمام أحمد عن أبي مالك الأشجعي ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « أعظم الغلول عند الله ذراع في الأرض ، تجدون الرجلين جارين في الأرض - أو في الدار - فيقطع أحدهما من حظ صاحبه ذراعاً فإذا قطعه طوقه من سبع أرضين يوم القيامة » .
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد ، عن عبد الرحمن بن جبير قال : سمعت المستورد بن شداد يقول ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « من ولي لنا عملاً وليس له منزل فليتخذ منزلاً ، أو ليست له زوجة فليتزوج ، أو ليس له خادم فليتخذ خادماً ، أو ليس له دابة فليتخذ دابة ، ومن أصاب شيئاً سوى ذلك فهو غال » .(1/415)
( حديث آخر ) : قال ابن جرير عن عكرمة عن ابن عباس قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل شاة لها ثغاء ينادي : يا محمد يا محمد! فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك ، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل جملاً له رغاء يقول : يا محمد يا محمد! فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك ، ولأعرفن أحدكم يوم القيامة يحمل فرساً له حمحمة ينادي : يا محمد يا محمد! فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك ، ولأعرفن أحدكم يأتي يوم القيامة يحمل قسماً من أدم ينادي : يا محمد يا محمد! فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك » .
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد : « استعمل رسول الله صلى الله عليه وسلم رجلاً من الأزد يقال له ابن اللتبية على الصدقة ، فجاء فقال : هذا لكم وهذا أهدي لي ، فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على المنبر ، فقال : » ما بال العامل نبعثه على عمل فيقول : هذا لكم وهذا أهدي لي ، أفلا جلس في بيت أبيه وأمه فينظر أيهدى إليه أم لا؟ والذي نفس محمد بيده لا يأتي أحدكم منها بشيء إلا جاء به يوم القيامة على رقبته ، وإن كان بعيراً له رغاء ، أو بقرة لها خوار ، أو شاة تيعر « ، ثم رفع يديه حتى رأينا عفرة إبطيه ، ثم قال : » اللهم هل بلغت «؟ ثلاثاً » .
( حديث آخر ) : قال أبو عيسى الترمذي ، عن معاذ بن جبل قال : « بعثني رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى اليمن ، فلما سرت أرسل في أثري فرددت ، فقال : » أتدري لم بعثت إليك؟ لا تصيبن شيئاً بغير إذني فإنه غلول : { وَمَن يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ القيامة } لهذا دعوتك فامض لعملك « » .
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد عن أبي هريرة قال : « قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً فذكر الغلول فعظمه وعظم أمره ، ثم قال : » لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته بعير له رغاء فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته فرس لها حمحمة فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك ، لا ألفين أحدكم يجيء يوم القيامة على رقبته صامت ، فيقول : يا رسول الله أغثني ، فأقول : لا أملك لك من الله شيئاً قد بلغتك « أخرجه الشيخان .
وقوله تعالى : { أَفَمَنِ اتبع رِضْوَانَ الله كَمَن بَآءَ بِسَخَطٍ مِّنَ الله وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المصير } أي لا يستوي من اتبع رضوان الله فيما شرعه فاستحق رضوان الله وجزيل ثوابه ، ومن استحق غضب الله وألزمه به فلا محيد له عنه ومأواه يوم القيامة جهنم وبئس المصير ، وهذه الآية لها نظائر كثيرة في القرآن كقوله تعالى :(1/416)
{ أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَآ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الحق كَمَنْ هُوَ أعمى } [ الرعد : 19 ] ، كقوله : { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا } [ القصص : 61 ] الآية . ثم قال تعالى : { هُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ الله } قال الحسن البصري : يعني أهل الخير وأهل الشر درجات ، وقال أبو عبيدة والكسائي : منازل ، يعني متفاوتون في منازلهم ، درجاتهم في الجنة ودركاتهم في النار ، كقوله تعالى : { وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ } [ الأنعام : 132 ، الأحقاف : 19 ] الآية ولهذا قال تعالى : { والله بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ } ، أي وسيوفيهم إياها ، لا يظلمهم خيراً ولا يزيدهم شراً ، بل يجازي كل عامل بعمله . وقوله تعالى : { لَقَدْ مَنَّ الله عَلَى المؤمنين إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِّنْ أَنْفُسِهِمْ } أي من جنسهم ليتمكنوا من مخاطبته وسؤاله ومجالسته والانتفاع به ، كما قال تعالى : { قُلْ إِنَّمَآ أَنَاْ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يوحى إِلَيَّ أَنَّمَآ إلهكم إله وَاحِدٌ } [ الكهف : 110 ، فصلت : 6 ] الآية ، وقال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِنَ المرسلين إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطعام وَيَمْشُونَ فِي الأسواق } [ الفرقان : 20 ] ، وقال تعالى : { وَمَآ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نوحي إِلَيْهِمْ مِّنْ أَهْلِ القرى } [ يوسف : 109 ] ، وقال تعالى : { يَامَعْشَرَ الجن والإنس أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنْكُمْ } [ الأنعام : 130 ] ؟ فهذا أبلغ في الامتنان أن يكون الرسول إليهم منهم ، بحيث يمكنهم مخاطبته ومراجعته في فهم الكلام عنه ، ولهذا قال تعالى : { يَتْلُواْ عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ } يعني القرآن { وَيُزَكِّيهِمْ } أي يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر لتزكوا نفوسهم ، وتطهر من الدنس والخبث الذي كانوا متلبسين به في حال شركهم وجاهليتهم ، { وَيُعَلِّمُهُمُ الكتاب والحكمة } يعني القرآن والسنّة ، { وَإِن كَانُواْ مِن قَبْلُ } أي من قبل هذا الرسول ، { لَفِي ضَلالٍ مُّبِينٍ } أي لفي غي وجهل ظاهر جلي بيِّن لكل واحد .(1/417)
أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (165) وَمَا أَصَابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ نَافَقُوا وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا قَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قَالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتَالًا لَاتَّبَعْنَاكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمَانِ يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِمْ مَا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قَالُوا لِإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُوا لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (168)
يقول تعالى : { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ } وهي ما أصيب منهم يوم أحُد من قتلى السبعين منهم ، { قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا } يعني يوم بدر فإنهم قتلوا من المشركين سبعين قتيلاً ، وأسروا سبعين أسيراً { قُلْتُمْ أنى هذا } أي من أين جرى علينا هذا؟ { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } . عن عمر بن الخطاب قال : لما كان يوم أحد من العام المقبل عوقبوا بما صنعوا يوم بدر من أخذهم الفداء ، فقتل منهم سبعون ، وفر أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عنه وكسرت رباعيته ، وهشمت البيضة على رأسه ، وسال الدم على وجهه ، فأنزل الله { أَوَ لَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُّصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِّثْلَيْهَا قُلْتُمْ أنى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } بأخذكم الفداء ، وهكذا قال الحسن البصري وقوله : { قُلْ هُوَ مِنْ عِندِ أَنْفُسِكُمْ } أي بسبب عصيانكم لرسول الله صلى الله عليه وسلم حين أمركم أن لا تبرحوا من مكانكم فعصيتم ، يعني بذلك الرماة ، { إِنَّ الله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي يفعل ما يشاء ويحكم ما يريد لا معقب لحكمه . ثم قال تعالى : { وَمَآ أَصَابَكُمْ يَوْمَ التقى الجمعان فَبِإِذْنِ الله } أي فراركم بين يدي عدوكم ، وقتلهم لجماعة منكم وجراحتهم لآخرين ، كان بقضاء الله وقدره ، وله الحكمة في ذلك ، { وَلِيَعْلَمَ المؤمنين } أي الذين صبروا وثبتوا ولم يتزلزلوا ، { وَلِيَعْلَمَ الذين نَافَقُواْ وَقِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ قَاتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَوِ ادفعوا قَالُواْ لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } يعني بذلك أصحاب ( عبد الله بن أبي ابن سلول ) الذين رجعوا معه في أثناء الطريق فاتبعهم رجال من المؤمنين يحرضونهم على الإتيان والقتال والمساعدة ، ولهذا قال : { أَوِ ادفعوا } ، قال ابن عباس وعكرمة : يعني كثروا سواد المسلمين ، وقال الحسن : ادفعوا بالدعاء ، وقال غيره : رابطوا ، فتعللوا قائلين : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } ، قال مجاهد : يعنون لو نعلم أنكم تلقون حرباً لجئناكم ، ولكن لا تلقون قتالاً . وقد روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج إلى أُحد في الف رجل من أصحابه؛ حتى إذا كان بالشوط بين أُحد والمدينة انحاز عنه عبد الله بن أبي ابن سلول بثلث الناس فقال : أطاعهم فخرج وعصاني ، ووالله ما ندري علام نقتل انفسنا هاهنا أيها الناس ، فرجع بمن اتبعه من الناس من قومه أهل النفاق وأهل الريب ، واتبعهم عبد الله بن عمرو بن حرام أخو بني سلمة يقول : يا قوم أذكِّركم الله أن تخذلوا نبيكم وقومكم عندما حضر من عدوكم ، قالوا : لو نعلم أنكم تقاتلون ما أسلمناكم ، ولكن لا نرى أن يكون قتال ، فلما استعصوا عليه وأبوا إلا الإنصراف عنهم قال : أبعدكم الله أعداء الله فسيغني الله عنكم ، ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قال الله عزّ وجلّ : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } ، استدلوا به على أن الشخص قد تتقلب به الأحوال فيكون في حال أقرب إلى الكفر ، وفي حال أقرب إلى الإيمان لقوله : { هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلإِيمَانِ } .(1/418)
قال تعالى : { يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ } يعني أنهم يقولون القول ولا يعتقدون صحته ، ومنه قولهم هذا : { لَوْ نَعْلَمُ قِتَالاً لاَّتَّبَعْنَاكُمْ } فإنهم يتحققون أن جنداً من المشركين قد جاءوا من بلاد بعيدة يتحرقون على المسلمين بسبب ما اصيب من أشرافهم يوم بدر ، وهم أضعاف المسلمين وأنه كائن بينهم قتال لا محالة ، ولهذا قال تعالى : { والله أَعْلَمُ بِمَا يَكْتُمُونَ } ، ثم قال تعالى : { الذين قَالُواْ لإِخْوَانِهِمْ وَقَعَدُواْ لَوْ أَطَاعُونَا مَا قُتِلُوا } أي لو سمعوا من مشورتنا عليهم في القعود وعدم الخروج ما قتلوا مع من قتل ، قال الله تعالى : { قُلْ فَادْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِن كُنْتُمْ صَادِقِينَ } أي إن كان القعود يسلم به الشخص من القتل والموت فينبغي أنكم لا تموتون ، والموت لا بد آت إليكم ولو كنتم في بروج مشيدة ، فادفعوا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين ، قال مجاهد : نزلت هذه الآية في عبد الله بن أبي ابن سلول وأصحابه .(1/419)
وَلَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ وَأَنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171) الَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِلَّهِ وَالرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ مَا أَصَابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَاتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174) إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)
يخبر تعالى عن الشهداء بأنهم ، وإن قتلوا في هذه الدار ، فإن أرواحهم حية مرزوقة في دار القرار ، روى ابن جرير بسنده عن أنَس بن مالك في قصة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين أرسلهم نبي الله إلى أهل ( بئر بعونة ) قال : لا أدري أربعين أو سبعين ، وعلى ذلك الماء عامر بن الطفيل الجعفري ، فخرج أولئك النفر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حتى أتو غاراً مشرفاً على الماء فقعدوا فيه ، ثم قال بعضهم لبعض : أيكم يبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم أهل هذا الماء؟ فقال - اراه أبو ملحان الأنصاري - أنا أبلغ رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فخرج حتى أتى حول بيتهم فاجتثى أمام البيوت ثم قال : يا أهل بئر معونة إني رسول رسول الله إليكم ، إني أشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله ، فآمنوا بالله ورسوله . فخرج إليه رجل من كسر البيت برمح فضربه في جنبه حتى خرج من الشق الآخر ، فقال : الله أكبر فزت ورب الكعبة ، فاتبعوا أثره حتى أتو أصحابه في الغار فقتلهم أجمعين ( عامر بن الطفيل ) .
وقال ابن إسحاق : حدثني أنس بن مالك أن الله أنزل فيهم قرآناً ، بلغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا ورضينا عنه ، ثم نسخت فرفعت بعد ما قرأناها زماناً ، وأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } ، وقد قال مسلم في صحيحه ، عن مسروق قال : سألنا عبد الله عن هذه الآية : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } فقال : أما إنا قد سالنا عن ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : « أرواحهم في جوف طير خضر لها قناديل معلقة بالعرش ، تسرح من الجنة حيث شاءت ثم تأوي إلى تلك القناديل ، فاطلع عليهم ربهم اطلاعة فقال : هل تشتهون شيئاً؟ فقالوا : أي شيء نشتهي ونحن نسرح من الجنة حيث شئنا؟ ففعل ذلك بهم ثلاث مرات ، فلما رأوا أنهم لن يتركوا من أن يسألوا قالوا : يا رب نريد أن تردَّ أرواحنا في أجسادنا حتى نقتل في سبيلك مرة أخرى ، فلما رأى أن ليس لهم حاجة تركوا » .
( حديث آخر ) : عن أنَس ، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « ما من نفس تموت لها عند الله خير ، يسرها أن ترجع إلى الدنيا إلا الشهيد ، فإنه يسره أن يرجع إلى الدنيا فيقتل مرة أخرى مما يرى من فضل الشهادة » .
( حديث آخر ) : عن جابر قال ، قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/420)
« أعلمت أن الله أحيا أباك فقال له : تمنَّ ، فقال له : أردُّ إلى الدنيا فأقتل فيك مرة أخرى ، قال : إني قضيت أنهم إليها لا يرجعون » وقال البخاري ، عن ابن المنكدر ، سمعت جابراً قال : لما قتل أبي جعلت أبكي وأكشف الثوب عن وجهه ، فجعل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهوني والنبي صلى الله عليه وسلم لم ينه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : « لا تبكيه - أو ما تبكيه - ما زالت الملائكة تظله بأجنحتها حتى رفع » .
( حديث آخر ) : عن ابن عباس قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « لما أصيب إخوانكم يوم أُحد جعل الله أرواحهم في أجواف طير خضر ترد أنهار الجنة وتأكل من ثمارها ، وتأوي إلى قناديل من ذهب في ظل العرش ، فلما وجدوا طيب مأكلهم ومشربهم ، وحسن مقيلهم ، قالوا : يا ليت إخواننا يعلمون ما صنع الله بنا لئلا يزهدوا في الجهاد ، ولا ينكلوا عن الحرب ، فقال الله عزّ وجلّ : أنا أبلغهم عنكم ، فأنزل الله هذه الآيات : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاءٌ عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ } وما بعدها » .
( حديث آخر ) : عن طلحة بن خراش الأنصاري قال : « سمعت جابر بن عبد الله قال : نظر إليّ رسول الله صلى الله عليه وسلم ذات يوم فقال : » يا جابر مالي أراك مهتماً؟ « قلت : يا رسول الله استشهد أبي وترك ديناً عليه ، قال ، فقال : » ألا أخبرك ما كلم الله أحداً قط إلا من وراء حجاب ، وإنه كلم أباك كفاحاً « قال علي : والكفاح المواجهة . » قال سلني أعطك قال : أسألك أن أرد إلى الدنيا فأقتل فيك ثانية فقال الرب عزّ وجلّ إنه قد سبق مني القول أنهم إليها لا يرجعون ، قال : أي رب فأبلغ من ورائي فأنزل الله : { وَلاَ تَحْسَبَنَّ الذين قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ الله أَمْوَاتاً } الآية « » .
وقد روينا في مسند الإمام أحمد حديثاً فيه البشارة لكل مؤمن بأن روحه تكون في الجنة تسرح أيضاً فيها وتأكل من ثمارها وترى ما فيها من النضرة والسرور ، وتشاهد ما أعد الله لها من الكرامة ، وهو بإسناد صحيح عزيز عظيم اجتمع فيه ثلاثة من الأئمة الأربعة ( أصحاب المذاهب المتبعة ) فإن الإمام أحمد رحمه الله رواه عن محمد بن إدريس الشافعي رحمه الله ، عن مالك بن أنَس الأصبحي رحمه الله ، عن الزهري عبد الرحمن بن كعب بن مالك عن أبيه رضي الله عنه قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « نسمة المؤمن طائر يعلق في شجر الجنة حتى يرجعه الله إلى جسده يوم يبعثه » قوله : « يعلق » أي يأكل .(1/421)
وفي الحديث : « إن روح المؤمن تكون على شكل طائر في الجنة » وأما أرواح الشهداء فكما تقدم في حواصل طير خضر فهي كالكواكب بالنسبة إلى أرواح عموم المؤمنين فإنها تطير بأنفسها ، فنسأل الله الكريم المنان أن يميتنا على الإيمان .
وقوله تعالى : { فَرِحِينَ بِمَآ آتَاهُمُ الله } إلىآخر الآية : أي الشهداء الذين قتلوا في سبيل الله أحياء عند ربهم ، وهم فرحون بما هم فيه من النعمة والغبطة ، ومستبشرون بإخوانهم الذين يقتلون بعدهم في سبيل الله أنهم يقدمون عليهم ، وأنهم لا يخافون مما أمامهم ولا يحزنون على ما تركوه وراءهم ، نسأل الله الجنة . وقال محمد بن إسحاق : { وَيَسْتَبْشِرُونَ } أي ويسرون بلحوق من لحقهم من إخوانهم على ما مضوا عليه من جهادهم ، ليشركوهم فيما هم فيه من ثواب الله الذي أعطاهم . قال السدي : يؤتى الشهيد بكتاب فيه يقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ، ويقدم عليك فلان يوم كذا وكذا ، فيسر بذلك كما يسر أهل الدنيا بغائبهم إذا قدم . قال سعيد بن جبير : لما دخلوا الجنة ورأوا ما فيها من الكرامة للشهداء قالوا : يا ليت إخواننا الذين في الدنيا يعلمون ما عرفناه من الكرامة ، فإذا شهدوا القتال باشروها بأنفسهم حتى يستشهدوا فيصيبوا ما أصبنا من الخير ، فأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بأمرهم وما هم فيه من الكرامة ، وأخبرهم - أي ربهم - أني قد أنزلت على نبيكم وأخبرته بأمركم وما أنتم فيه فاستبشرا بذلك ، فذلك قوله : { وَيَسْتَبْشِرُونَ بالذين لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ } الآية .
وقد ثبت في الصحيحين عن أنَس في قصة أصحاب بئر معونة السبعين من الأنصار الذين قتلوا في غداة واحدة ، وقنت رسول الله صلى الله عليه وسلم يدعو على الذين قتلوهم ويلعنهم . قال أنَس : ونزل فيهم قرآن قرأناه حتى رفع : « أن بلِّغوا عنا قومنا أنا قد لقينا ربنا فرضي عنا وأرضانا » .
ثم قال تعالى : { يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ وَأَنَّ الله لاَ يُضِيعُ أَجْرَ المؤمنين } ، قال عبد الرحمن بن زيد بن أسلم : هذه الآية جمعت المؤمنين كلهم سواء الشهداء وغيرهم ، وقلما ذكر الله فضلاً ذكر به الأنبياء وثواباً أعطاهم الله إياه إلا ذكر الله ما أعطى المؤمنين من بعدهم .
وقوله تعالى : { الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح } هذا كان يوم ( حمراء الأسد ) وذلك أن المشركين لما أصابوا ما أصابوا من المسلمين كروا راجعين إلى بلادهم ، فلما استمروا في سيرهم ندموا لم لا تمَّموا على أهل المدينة وجعلوها الفيصلة ، فلما بلغ ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب المسلمين إلى الذهاب وراءهم ليرعبهم ويريهم أن بهم قوة وجلداً ، ولم يأذن لأحد سوى من حضر الوقعة يوم أحد سوى جابر بن عبد الله رضي الله عنه لما سنذكره ، فانتدب المسلمون على ما بهم ما الجراح والإثخان طاعة لله عزّ وجلّ ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وعن عكرمة أنه : لما رجع المشركون عن أحد قالوا : لا محمداً قتلتم ، ولا الكواعب أردفتم ، بئسما صنعتم ، ارجعوا فسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فندب المسلمين فانتدبوا حتى بلغوا ( حمراء الأسد ) فقال المشركون : نرجع من قابل ، فرجع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكانت تعد غزوة فأنزل الله تعالى : { الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح لِلَّذِينَ أَحْسَنُواْ مِنْهُمْ واتقوا أَجْرٌ عَظِيمٌ } .(1/422)
قال محمد بن إسحاق : عن أبي السائب مولى عائشة بنت عثمان : أن رجلاً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كان قد شهد أُحداً ، قال : شهدنا أُحداً ، مع رسول الله صلى الله عليه وسلم أنا وأخي ورجعنا جريحين ، فلما أذن مؤذن رسول الله صلى الله عليه وسلم بالخروج في طلب العدو قلت لأخي : أتفوتنا غزوة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ والله ما لنا من دابة نركبها ، وما منا إلا جريح ثقيل ، فخرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وكنت أيسر جراحاً منه؛ فكان إذا غلب حملته عقبة؛ حتى انتهينا إلى ما انتهى إليه المسلمون . وقال البخاري عن عائشة رضي الله عنها : { الذين استجابوا للَّهِ والرسول } الآية ، قلت لعروة : يا ابن أختي كان أبوك منهم ( الزبير ) و ( أبو بكر ) رضي الله عنهما لما أصاب نبي الله صلى الله عليه وسلم ما أصابه يوم أحد وانصرف عنه المشركون خاف أن يرجعوا فقال : « من يرجع في أثرهم » ، فانتدب منهم سبعون رجلاً فيهم أبو بكر والزبير . وروي عن عروة قال قالت لي عائشة إن أباك من الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح . وكانت وقعة أُحُد في شوّال ، وكان التجار يقدمون المدينة في ذي القعدة فينزلون ببدر الصغرى في كل سنة مرة ، وإنهم قدموا بعد وقعة أحد ، وكان أصاب المؤمنين القرح واشتكوا ذلك إلى النبي صلى الله عليه وسلم واشتد عليهم الذي أصابهم ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم ندب الناس لينطلقوا معه ويتبعوا ما كانوا متبعين ، وقال : « إنما يرتحلون الآن فيأتون الحج ولا يقدرون على مثلها حتىعام مقبل » ، فجاء الشيطان يخوف أولياءه فقال : { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ } وقال الحسن البصري في قوله : { الذين استجابوا للَّهِ والرسول مِن بَعْدِ مَآ أَصَابَهُمُ القرح } إن أبا سفيان وأصحابه أصابوا من المسلمين ما أصابوا ورجعوا ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » إن أبا سفيان قد رجع وقد قذف الله في قلبه الرعب ، فمن ينتدب في طلبه « ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر وعثمان وعلي وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فتبعوهم ، فبلغ أبا سفيان أن النبي صلى الله عليه وسلم يطلبه فلقي عيراً من التجار فقال : ردوا محمداً ولكم من الجعل كذا وكذا ، وأخبروهم أني قد جمعت جموعاً وأني راجع إليهم ، فجاء التجار فأخبروا رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » حسبنا الله ونعم الوكيل « فأنزل الله هذه الآية » .(1/423)
وقوله تعالى : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً } الآية ، أي الذين توعدهم الناس بالجموع وخوفوهم بكثرة الأعداء فما اكترثوا لذلك ، بل توكلوا على الله واستعانوا به ، { وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } ، وقال البخاري ، عن ابن عباس : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } قالها إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار ، وقالها محمد صلى الله عليه وسلم حين قال لهم الناس { إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } وفي رواية له : كان آخر قول إبراهيم عليه السلام حين ألقي في النار : { حَسْبُنَا الله وَنِعْمَ الوكيل } . وعن أبي رافع أن النبي صلى الله عليه وسلم وجه علياً في نفر معه في طلب أبي سفيان فلقيهم أعرابي من خزاعة فقال : إن القوم قد جمعوا لكم فقالوا : حسبنا الله ونعم الوكيل فنزلت فيهم هذه الآية .
وفي الحديث : « إذا وقعتم في الأمر العظيم فقولوا : حسبنا الله ونعم الوكيل » وقد قال الإمام أحمد ، عن عوف ابن مالك أنه حدثهم ، « أن النبي صلى الله عليه وسلم قضى بين رجلين ، فقال المقضي عليه لما أدبر : حسبي الله ونعم الوكيل ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » ردوا عليّ الرجل « فقال : » ما قلت «؟ ، قال : » قلت حسبي الله ونعم الوكيل « فقال النبي صلى الله عليه وسلم : » إن الله يلوم على العجز ولكن عليك بالكيس ، فإذا غلبك أمر فقل : حسبي الله ونعم الوكيل « » .
قال تعالى : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } أي لما توكلوا على الله كفاهم ما أهمهم ، ورد عنهم بأس من أراد كيدهم فرجعوا إلى بلدهم : { بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } مما أضمر لهم عدوهم ، { واتبعوا رِضْوَانَ الله والله ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } . عن ابن عباس في قول الله : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ } ، قال ( النعمة ) أنهم سلموا ، و ( الفضل ) أن عيراً مرت في أيام الموسم فاشتراها رسول الله صلى الله عليه وسلم فربح فيها مالاً فقسمه بين أصحابه . وقال مجاهد في قوله الله تعالى : { الذين قَالَ لَهُمُ الناس إِنَّ الناس قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فاخشوهم } قال هذا أبو سفيان قال لمحمد صلى الله عليه وسلم موعدكم بدر حيث قتلتم أصحابنا ، فقال محمد صلى الله عليه وسلم : « عسى » ، فانطلق رسول الله صلى الله عليه وسلم لموعده حتى نزل بدراً فوافقوا السوق فيها فابتاعوا ، فذلك قول الله عزّ وجلّ : { فانقلبوا بِنِعْمَةٍ مِّنَ الله وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سواء } الآية ، قال : وهي غزوة بدر الصغرى .(1/424)
ثم قال تعالى : { إِنَّمَا ذلكم الشيطان يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ } أي يخوفكم أولياءه ويوهمكم أنهم ذوو بأس وذوو شدة قال الله تعالى : { فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ } إذا سوَّل لكم وأوهمكم فتوكلوا عليّ والجأوا إليَّ ، فإني كافيكم وناصركم عليهم ، كما قال تعالى : { أَلَيْسَ الله بِكَافٍ عَبْدَهُ وَيُخَوِّفُونَكَ بالذين مِن دُونِهِ } [ الزمر : 36 ] ، وقال تعالى : { فقاتلوا أَوْلِيَاءَ الشيطان إِنَّ كَيْدَ الشيطان كَانَ ضَعِيفاً } [ النساء : 76 ] ، وقال تعالى : { أولئك حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلاَ إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الخَاسِرُونَ } [ المجادلة : 19 ] ، وقال : { كَتَبَ الله لأَغْلِبَنَّ أَنَاْ ورسلي إِنَّ الله قَوِيٌّ عَزِيزٌ } [ المجادلة : 21 ] ، وقال : { وَلَيَنصُرَنَّ الله مَن يَنصُرُهُ } [ الحج : 40 ] ، وقال تعالى : { ياأيها الذين آمنوا إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ } [ محمد : 7 ] الآية ، وقال تعالى : { إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا والذين آمَنُواْ فِي الحياة الدنيا وَيَوْمَ يَقُومُ الأشهاد } [ غافر : 51 ] والآيات في ذلك كثيرة .(1/425)
وَلَا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (177) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ (178) مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشَاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَإِنْ تُؤْمِنُوا وَتَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179) وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِمَا آتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْرًا لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلِلَّهِ مِيرَاثُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)
يقول تعالى لنبيّه : { وَلاَ يَحْزُنكَ الذين يُسَارِعُونَ فِي الكفر } وذلك من شدة حرصه على الناس ، كان يحزنه مبادرة الكفار إلى المخالفة والعناد والشقاق ، فقال تعالى : ولا يحزنك ذلك { إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً يُرِيدُ الله أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظّاً فِي الآخرة } أي حكمته فيهم أنه يريد بمشيئته وقدرته أن لا يجعل لهم نصيباً في الآخرة { وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ } . ثم قال تعالى مخبراً عن ذلك إخباراً مقرراً : { إِنَّ الذين اشتروا الكفر بالإيمان } أي استبدلوا هذا بهذا ، { لَن يَضُرُّواْ الله شَيْئاً } أي ولكن يضرون أنفسهم { وَلهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } . ثم قال تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } ، كقوله : { أَيَحْسَبُونَ أَنَّمَا نُمِدُّهُمْ بِهِ مِن مَّالٍ وَبَنِينَ * نُسَارِعُ لَهُمْ فِي الخيرات بَل لاَّ يَشْعُرُونَ } [ المؤمنون : 55-56 ] وكقوله : { فَذَرْنِي وَمَن يُكَذِّبُ بهذا الحديث سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ } [ القلم : 44 ] وكقوله : { وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ الله أَن يُعَذِّبَهُمْ بِهَا فِي الدنيا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ } [ التوبة : 85 ] .
ثم قال تعالى : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } أي لا بد أن يعقد شيئاً من المحنة ، يظهر فيه وليه ويفضح به عدوّه ، يعرف به المؤمن الصابر ، والمنافق الفاجر ، يعني بذلك ( يوم أحد ) الذي امتحن الله به المؤمنين ، فظهر به إيمانهم وصبرهم وجلدهم وثباتهم وطاعتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، وهتك به ستار المنافقين ، فظهر مخالفتهم ونكولهم عن الجهاد وخيانتهم لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، ولهذا قال تعالى : { حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } ، قال مجاهد : ميز بينهم يوم أحد ، وقال قتادة : ميز بينهم بالجهاد والهجرة ، وقال السدي : قالوا : إن كان محمد صادقاً فليخبرنا عمن يؤمن به منا ومن يكفر به فأنزل الله تعالى : { مَّا كَانَ الله لِيَذَرَ المؤمنين على مَآ أَنْتُمْ عَلَيْهِ حتى يَمِيزَ الخبيث مِنَ الطيب } أي حتى يخرج المؤمن من الكافر روى ذلك ابن جرير . ثم قال تعالى : { وَمَا كَانَ الله لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الغيب } أي أنتم لا تعلمون غيب الله في خلقه حتى يميز لكم المؤمن من المنافق ، لولا ما يعقده من الأسباب الكاشفة عن ذلك ، ثم قال تعالى : { وَلَكِنَّ الله يَجْتَبِي مِن رُّسُلِهِ مَن يَشَآءُ } . كقوله تعالى : { عَالِمُ الغيب فَلاَ يُظْهِرُ على غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنِ ارتضى مِن رَّسُولٍ } [ الجن : 26-27 ] الآية . ثم قال تعالى : { فَآمِنُواْ بالله وَرُسُلِهِ } أي أطيعوا الله ورسوله واتبعوه فيما شرع لكم { وَإِن تُؤْمِنُواْ وَتَتَّقُواْ فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ } .
وقوله تعالى : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } أي لا يحسبن البخيل أن جمعه المال ينفعه بل هو مضرة عليه في دينه ، وربما كان في دنياه ، ثم أخبر بمآل أمر ماله يوم القيامة فقال : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/426)
« من آتاه الله مالاً فلم يؤد زكاته مثّل له شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوقه يوم القيامة ، يأخذ بلهزمتيه - يعني بشدقيه - ثم يقول أنا مالك ، أنا كنزك » ، ثم تلا هذه الآية : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين يَبْخَلُونَ بِمَآ آتَاهُمُ الله مِن فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَّهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَّهُمْ } إلى آخر الآية .
( حديث آخر ) : عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « إن الذي لا يؤدي زكاة ماله يمثل له ماله يوم القيامة شجاعاً أقرع له زبيبتان ثم يلزمه يطوقه يقول . أنا مالك أنا كنزك » .
( حديث آخر ) : عن عبد الله بن مسعود عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « ما من عبد لا يؤدي زكاة ماله إلا جعل له شجاع أقرع يتبعه يفر منه فيتبعه فيقول : أنا كنزك » ، ثم قرأ عبد الله مصداقه من كتاب الله : { سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ القيامة } .
وقال العوفي ، عن ابن عباس : نزلت في أهل الكتاب الذين بخلوا بما في أيديهم من الكتب المنزلة أن يبينوها ، رواه ابن جرير ، والصحيح الأول وإن دخل هذا في معناه ، وقد يقال : إن هذا أولى بالدخول والله سبحانه وتعالى أعلم . وقوله تعالى : { وَللَّهِ مِيرَاثُ السماوات والأرض } أي { وَأَنفِقُواْ مِمَّا جَعَلَكُم مُّسْتَخْلَفِينَ فِيهِ } [ الحديد : 7 ] ، فإن الأمور كلها مرجعها إلى الله عزّ وجلّ . فقدموا من أموالكم ما ينفعكم يوم معادكم { والله بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ } أي بنياتكم وضمائركم .(1/427)
لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ سَنَكْتُبُ مَا قَالُوا وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَنَقُولُ ذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ (181) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ (182) الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جَاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّنَاتِ وَبِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جَاءُوا بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَالْكِتَابِ الْمُنِيرِ (184)
قال ابن عباس : لما نزل قوله تعالى : { مَّن ذَا الذي يُقْرِضُ الله قَرْضاً حَسَناً فيضاعفه لَهُ أَضْعَافاً كَثِيرَةً } [ البقرة : 245 ] ، قالت اليهود : يا محمد! افتقر ربك فسأل عباده القرض؟ فأنزل الله : { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } الآية؟ وقال محمد بن إسحاق ، عن عكرمة أنه حدثه عن ابن عباس قال : دخل أبو بكر الصدّيق بيت المدراس فوجد من يهود ناساً كثيرة قد اجتمعوا على رجل منهم يقال له ( فنحاص ) وكان من علمائهم وأحبارهم ، ومعه حبر يقال له أشيع ، فقال له أبو بكر : ويحك يا فنحاص اتق الله وأسلم فوالله إنك لتعلم أن محمداً رسول من عند الله قد جاءكم بالحق من عنده ، تجدونه مكتوباً عندكم في التوراة والإنجيل . فقال فنحاص : والله يا أبا بكر ما بنا إلى الله من حاجة من فقر ، وإنه إلينا لفقير ، ما نتضرع إليه كما يتضرع إلينا ، وإنا عنه لأغنياء ، ولو كان عنا غنياً ما استقرض منا كما يزعم صاحبكم ، ينهاكم عن الربا ويعطينا ، ولو كان غنياً ما أعطانا الربا ، فغضب أبو بكر رضي الله عنه فضرب وجه فنحاص ضرباً شديداً ، وقال : والذي نفسي بيده لولا الذي بيننا وبينك من العهد لضربت عنقك يا عدوّ الله فأكذبونا ما استطعتم إن كنتم صادقين ، فذهب ( فنحاص ) إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال : يا محمد أبصر ما صنع بي صاحبك ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ما حملك على ما صنعت يا أبا بكر »؟ فقال : يا رسول الله إن عدو الله قال قولاً عظيماً ، يزعم أن الله فقير وأنهم عنه أغنياء ، فلما قال ذلك غضبت لله مما قال فضربت وجهه ، فجحد فنحاص ذلك وقال : ما قلت ذلك ، فأنزل الله : { لَّقَدْ سَمِعَ الله قَوْلَ الذين قالوا إِنَّ الله فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَآءُ } الآية . وقوله { سَنَكْتُبُ مَا قَالُواْ } تهديد ووعيد ، ولهذا قرنه تعالى بقوله : { وَقَتْلَهُمُ الأنبياء بِغَيْرِ حَقٍّ } أي هذا قولهم في الله ، وهذه معاملتهم رسل الله ، وسيجزيهم الله على ذلك شر الجزاء ، ولهذا قال تعالى : { وَنَقُولُ ذُوقُواْ عَذَابَ الحريق * ذلك بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ الله لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ } أي يقال لهم ذلك تقريعاً وتوبيخاً وتحقيراً وتصغيراً .
وقوله تعالى : { الذين قالوا إِنَّ الله عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حتى يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النار } ، يقول تعالى تكذيباً لهؤلاء الذين زعموا أن الله عهد إليهم في كتبهم ، أن لا يؤمنوا لرسول حتى يكون من معجزاته أن من تصدق بصدقة من أمته فتقبلت منه أن تنزل نار من السماء تأكلها ، قاله ابن عباس والحسن وغيرهما ، قال الله عزّ وجلّ : { قُلْ قَدْ جَآءَكُمْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِي بالبينات } أي بالحجج والبراهين ، { وبالذي قُلْتُمْ } أي وبنار تأكل القرابين المتقبلة ، { فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ } ؟ أي فلم قابلتموهم بالتكذيب والمخالفة والمعاندة وقتلتموهم ، { إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ } أنكم تتبعون الحق وتنقادون للرسل ، ثم قال تعالى مسلياً لنبيّه محمد صلى الله عليه وسلم : { فَإِن كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ جَآءُوا بالبينات والزبر والكتاب المنير } أي لا يوهنك تكذيب هؤلاء لك ، فلك أسوة بمن قبلك من الرسل ، الذين كذبوا مع ما جاءوا به من البينات ، وهي الحجج والبراهين القاطعة { والزبر } وهي الكتب المتلقاة من السماء كالصحف المنزلة على المرسلين { والكتاب المنير } أي والواضح الجلي .(1/428)
كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ (185) لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)
يخبر تعالى إخباراً عاماً يعم جميع الخليقة بأن كل نفس ذائقة الموت كقوله تعالى : { كُلُّ مَنْ عَلَيْهَا فَانٍ * ويبقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الجلال والإكرام } [ الرحمن : 26-27 ] ، فهو تعالى وحده الحي الذي لا يموت ، والجن والإنس يموتون ، وكذلك الملائكة وحملة العرش وينفرد الواحد الأحد القهار بالديمومة والبقاء فيكون آخراً كما كان أولاً ، وهذه الآية فيها تعزية لجميع الناس فإنه لا يبقى أحد على وجه الأرض حتى يموت ، فإذا انقضت المدة وفرغت النطفة التي قدر الله وجودها من صلب آدم وانتهت البرية ، أقام الله القيامة وجازى الخلائق بأعمالها جليلها وحقيرها ، كثيرها وقليلها ، كبيرها وصغيرها ، فلا يظلم أحداً مثقال ذرة ، ولهذا قال تعالى : { وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة } وروى ابن أبي حاتم عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه قال : لما توفي النبي وجاءت التعزية جاءهم آت يسمعون حسه ولا يرون شخصه فقال : السلام عليكم أهل البيت ورحمة الله وبركاته { كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الموت وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ القيامة } أي في الله عزاء من كل مصيبة ، وخلفاً من كل هالك ، ودركاً من كل فائت ، فبالله ثقوا وإياه فارجو ، فإن المصاب من حرم الثواب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، قال جعفر بن محمد : فأخبرني أبي أن علي بن أبي طالب قال : أتدرون من هذا؟ هذا الخضر عليه السلام ، وقوله : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } أي من جنب النار ونجا منها وأدخل الجنة فقد فاز كل الفوز . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « موضع سوط في الجنة خير من الدنيا وما فيها اقرءوا إن شئتم : { فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ } » .
وقوله تعالى : { وَما الحياة الدنيا إِلاَّ مَتَاعُ الغرور } تصغير لشأن الدنيا ، وتحقير لأمرها ، وأنها دنيئة فانية قليلة زائلة كما قال تعالى : { بَلْ تُؤْثِرُونَ الحياة الدنيا * والآخرة خَيْرٌ وأبقى } [ الأعلى : 16-17 ] وقال : { وَمَآ أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الحياة الدنيا وَزِينَتُهَا وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ وأبقى } [ القصص : 60 ] ، وفي الحديث : « والله ما الدنيا في الآخرة إلا كما يغمس أحدكم أصبعه في اليم فلينظر بم ترجع إليه » وقال قتادة : هي متاع متروكة أوشكت - والله الذي لا إله إلا هو - أن تضمحل عن أهلها ، فخذوا من هذا المتاع طاعة الله إن استطعتم ولا قوة إلا بالله .
وقوله تعالى : { لَتُبْلَوُنَّ في أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ } كقوله تعالى : { وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْءٍ مِّنَ الخوف والجوع وَنَقْصٍ مِّنَ الأموال والأنفس والثمرات } [ البقرة : 155 ] إلى آخر الآيتين ، أي لا بد أن يبتلى المؤمن في شيء من ماله أو نفسه أو ولده أو أهله ، ويبتلى المؤمن على قدر دينه ، فإن كان في دينه صلابة زيد في البلاء { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } ، يقول تعالى للمؤمنين عند مقدمهم المدينة قبل وقعة بدر ، مسلياً لهم عما ينالهم من الأذى من أهل الكتاب والمشركين ، وآمراً لهم بالصفح والعفو حتى يفرج الله ، فقال تعالى : { وَإِن تَصْبِرُواْ وَتَتَّقُواْ فَإِنَّ ذلك مِنْ عَزْمِ الأمور } ، قال ابن أبي حاتم ، عن أسامة بن زيد : كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ، ويصبرون على الأذى ، قال تعالى : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } ، قال : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله فيهم .(1/429)
وعن عروة بن الزبير أن أسامة بن زيد حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ركب على حمار عليه قطيفة فدكية ، وأردف أسامة بن زيد وراءه يعود ( سعد بن عبادة ) ببني الحارث بن الخزرج قبل وقعة بدر ، حتى مر على مجلس فيه ( عبد الله بن أبي بن سلول ) وذلك قبل أن يسلم ابن أبي ، وإذا في المجلس أخلاط من المسلمين والمشركين عبدة الأوثان ، وأهل الكتاب واليهود والمسلمين ، وفي المجلس عبد الله بن رواحة ، فلما غشيت المجلس عجاجة الدابة خمّر عبد الله بن أُبي أنفه بردائه وقال : لا تغبروا علينا ، فسلم رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم وقف ، فنزل ودعاهم إلى الله عزّ وجلّ وقرأ عليهم القرآن ، فقال عبد الله بن أُبي : أيها المرء إنه لا أحسن مما تقول إن كان حقاً فلا تؤذنا به في مجالسنا ، ارجع إلى رحلك فمن جاءك فاقصص عليه ، فقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه : بلى يا رسول الله فاغشنا به في مجالسنا فإنا نحب ذلك ، فاستب المسلمون والمشركون واليهود حتى كادوا يتثاورون ، فلم يزل النبي صلى الله عليه وسلم يخفضهم حتى سكتوا ، ثم ركب النبي صلى الله عليه وسلم دابته فسار حتى دخل على ( سعد بن عبادة ) فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « يا سعد ألم تسمع إلى ما قال أبو حباب » ؟ يريد عبد الله بن أُبي ، قال كذا وكذا ، فقال سعد : يا رسول الله اعف عنه واصفح ، فوالذي أنزل عليك الكتاب لقد جاءك الله بالحق الذي نزل عليك ، ولقد اصطلح أهل هذه البحيرة على أن يتوجوه فيعصبوه بالعصابة ، فلما أبى الله ذلك بالحق الذي أعطاك الله شرق بذلك ، فذلك الذي فعل به ما رأيت ، فعفا عنه رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأصحابه يعفون عن المشركين وأهل الكتاب كما أمرهم الله ويصبرون على الأذى . قال الله تعالى : { وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الذين أُوتُواْ الكتاب مِن قَبْلِكُمْ وَمِنَ الذين أشركوا أَذًى كَثِيراً } الآية ، وقال تعالى :(1/430)
{ وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الكتاب لَوْ يَرُدُّونَكُم مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الحق فاعفوا واصفحوا حتى يَأْتِيَ الله بِأَمْرِهِ } [ البقرة : 109 ] الآية . وكان النبي صلى الله عليه وسلم يتأول في العفو ما أمره الله به حتى أذن الله له فيهم ، فلما غزا رسول الله صلى الله عليه وسلم بدراً فقتل الله به صناديد كفار قريش ، قال عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه من المشركين وعبدة الأوثان : هذا أمر قد توجه فبايعوا الرسول صلى الله عليه وسلم على الإسلام ، فبايعوا وأسلموا ، فكل من قام بحق أو أمر بمعروف ، أو نهى عن منكر فلا بد أن يؤذى فما له دواء إلا الصبر في الله ، والاستعانة بالله ، والرجوع إلى الله .(1/431)
وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ (187) لَا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِمَا أَتَوْا وَيُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِمَا لَمْ يَفْعَلُوا فَلَا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِنَ الْعَذَابِ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (188) وَلِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (189)
هذا توبيخ من الله وتهديد لأهل الكتاب الذين أخذ الله عليهم العهد على ألسنة الأنبياء أن يؤمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم وأن ينوهوا بذكره في الناس فيكونوا على أهبة من أمره ، فإذا أرسله الله تابعوه ، فكتموا ذلك وتعرضوا عما وعدوا عليه من الخير في الدنيا والآخرة بالدون الطفيف ، والحظ الدنيوي السخيف ، فبئست الصفقة صفقتهم ، وبئست البيعة بيعتهم ، وفي هذا تحذير للعلماء أن يسلكوا مسلكهم فيصيبهم ما أصابهم ، ويسلك بهم مسلكهم ، فعلى العلماء أن يبذلوا ما بأيديهم من العلم النافع ، الدال على العمل الصالح ، ولا يكتموا منه شيئاً ، فقد ورد في الحديث المروي من طرق متعددة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : « من سئل عن علم فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار » وقوله تعالى : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } الآية ، يعني بذلك المرائين المتكثرين بما لم يعطوا كما جاء في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم : « من ادعى دعوى كاذبة ليتكثر بها لم يزده الله إلى قلة » وفي الصحيحين أيضاً : « المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور » .
وقد روي أن مروان قال لبوابه : اذهب يا رافع إلى ابن عباس فقال له : لئن كان كل امرىء منا فرح بما أوتي وأحب أن يحمد بما لم يفعل معذباً لنعذبن أجمعين!! فقال ابن عباس : ما لكم وهذه ، وإنما نزلت هذه في أهل الكتاب ، ثم تلا ابن عباس : { وَإِذْ أَخَذَ الله مِيثَاقَ الذين أُوتُواْ الكتاب لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلاَ تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَآءَ ظُهُورِهِمْ واشتروا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ * لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } الآية ، وقال ابن عباس : سألهم النبي صلى الله عليه وسلم عن شيء فكتموه وأخبروه بغيره فخرجوا قد أروه أن قد أخبروه بما سألهم عنه ، واستحمدوا بذلك إليه وفرحوا بما أتوا من كتمانهم ما سألهم عنه . وفي رواية عن أبي سعيد الخدري : أن رجالاً من المنافقين في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا إذا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الغزو تخلفوا عنه ، وفرحوا بمقعدهم خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فإذا قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الغزو اعتذروا إليه وحلفوا ، وأحبوا أن يحمدوا بما لم يفعلوا ، فنزلت : { لاَ تَحْسَبَنَّ الذين يَفْرَحُونَ بِمَآ أَتَوْاْ وَّيُحِبُّونَ أَن يُحْمَدُواْ بِمَا لَمْ يَفْعَلُواْ } الآية .
وقد روى ابن مردويه عن محمد بن ثابت الأنصاري أن ( ثابت بن قيس الأنصاري ) قال : يا رسول الله والله لقد خشيت أن أكون هلكت ، قال : لمَ؟ قال : نهى الله المرء أن يحب أن يحمد بما لم يفعل وأجدني أحب الحمد ، ونهى الله عن الخيلاء وأجدني أحب الجمال ، ونهى الله أن نرفع أصواتنا فوق صوتك وأنا امرؤ جهير الصوت ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم :(1/432)
« أما ترضى أن تعيش حميداً وتقتل شهيداً وتدخل الجنة » فقال : بلى ، يا رسول الله فعاش حميداً وقتل شهيداً يوم مسيلمة الكذاب . وقوله تعالى : { فَلاَ تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفَازَةٍ مِّنَ العذاب } أي لا تحسب أنهم ناجون من العذاب ، بل لا بد لهم منه ، ولهذا قال تعالى : { وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } ، ثم قال تعالى : { وَللَّهِ مُلْكُ السماوات والأرض والله على كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ } أي هو مالك كل شيء والقادر على كل شيء ، فلا يعجزه شيء ، فهابوه ولا تخالفوه ، واحذروا غضبه ونقمته ، فإنه العظيم الذي لا أعظم منه ، القدير الذي لا أقدر منه .(1/433)
إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191) رَبَّنَا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ (192) رَبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلْإِيمَانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الْأَبْرَارِ (193) رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدْتَنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ (194)
معنى الآية إن الله تعالى يقول : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } أي هذه في ارتفاعها واتساعها ، وهذه في انفخاضها وكثافتها واتضاعها ، وما فيهما من الآيات المشاهدة العظيمة من كواكب سيارات ، وثوابت وبحار وجبال وقفار وأشجار ونبات وزروع وثمار وحيوان ومعادن ، ومنافع مختلفة الألوان والطعوم والراوئح والخواص ، { واختلاف اليل والنهار } أي تعاقبهما وتقارضهما الطول والقصر ، فتارة يطول هذا ويقصر هذا ، ثم يعتدلان ثم يأخذ هذا من هذا فيطول الذي كان قصيراً ، ويقصر الذي كان طويلاً وكل ذلك تقدير العزيز العليم ، ولهذا قال تعالى : { لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } أي العقول التامة الزكية التي تدرك الأشياء بحقائقها على جلياتها ، وليسوا كالصم البكم الذين لا يعقلون ، الذين قال الله فيهم : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ } [ يوسف : 105 ] . ثم وصف تعالى أولي الألباب فقال : { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ } . كما ثبت في الصحيحين عن عمران بن حصين : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « صل قائماً ، فإن لم تستطع فقاعداً ، فإن لم تستطع فعلى جنبك » أي لا يقطعون ذكره في جميع أحوالهم بسرائرهم وضمائرهم وألسنتهم ، { وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } أي يفهمون ما فيهما من الحكم الدالة على عظمة الخالق وقدرته وحكمته واختياره ورحمته . وقال الداراني : أين لأخرج من منزلي فما يقع بصري على شيء إلا رأيت لله علي فيه نعمة ولي فيه عبرة ، وعن الحسن البصري أنه قال : تفكر ساعة خير من قيام ليلة ، وقال : الحسن الفكرة مرآة تريك حسناتك وسيئاتك .
وعن عيسى عليه السلام أنه قال : طوبى لمن كان قيله تذكراً ، وصمته تفكراً ، ونظره عبراً . وقال مغيث الأسود : زوروا القبور كل يوم تفكركم ، وشاهدوا الموقف بقلوبكم ، وانظروا إلى المنصرف بالفريقين إلى الجنة أو النار ، وأشعروا قلوبكم وأبدانكم ذكر النار ومقامعها وأطباقها ، وكان يبكي عند ذلك حتى يرفع صريعاً من بين أصحابه . وقال ابن المبارك : مرّ رجل براهب عند مقبرة ومزبلة فناداه فقال : يا راهب إن عندك كنزين من كنوز الدنيا لك فيهما معتبر : كنز الرجال ، وكنز الأموال . وعن ابن عمر : أنه كان إذا أراد أن يتعاهد قلبه يأتي الخربة فيقف على بابها فينادي بصوت حزين فيقول : أين أهلك؟ ثم يرجع إلى نفسه فيقول : { كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ } [ القصص : 88 ] . وقال بعض الحكماء : من نظر إلى الدنيا بغير العبرة انطمس من بصر قلبه بقدر تلك الغفلة . وقال بشر الحافي : لو تفكر الناس في عظمة الله تعالى لما عصوه ، وعن عيسى عليه السلام أنه قال : يا ابن آدم الضعيف اتق الله حيث ما كنت ، وكن في الدنيا ضعيفاً ، واتخذ المساجد بيتاً ، وعلم عينيك البكاء ، وجسدك الصبر وقلبك الفكر ، ولا تهتم برزق غد .(1/434)
وعن أمير المؤمنين عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه أنه بكى يوماً بين أصحابه فسئل عن ذلك ، فقال : فكرت في الدنيا ولذاتها وشهواتها فاعتبرت منها بها ، ما تكاد شهواتها تنقضي حتى تكدرها مرارتها . ولئن لم يكن فيها عبرة لمن اعتبر ، إن فيها مواعظ لمن ادكر .
وقد ذم الله تعالى من لا يعتبر بمخلوقاته الدالة على ذاته وصفاته وشرعه وقدره وآياته فقال : { وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السماوات والأرض يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ * وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بالله إِلاَّ وَهُمْ مُّشْرِكُونَ } [ يوسف : 105-106 ] ، ومدح عباده المؤمنين : { الذين يَذْكُرُونَ الله قِيَاماً وَقُعُوداً وعلى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السماوات والأرض } ، قائلين : { رَبَّنَآ مَا خَلَقْتَ هَذا بَاطِلاً } أي ما خلقت هذا الخلق عبثاً ، بل بالحق لتجزي الذين أساءوا بما عملوا ، وتجزي الذين أحسنوا بالحسنى ، ثم نزهوه عن العبث وخلق الباطل ، فقالوا : { سُبْحَانَكَ } أي عن أن تخلق شيئاً باطلاً ، { فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } أي يا من خلق الخلق بالحق والعدل؛ يا من هو منزه عن النقائص والعيب والعبث ، قنا من عذاب النار بحولك وقوتك ، ووفقنا لعمل صالح تهدينا به إلى جنات النعيم ، وتجيرنا به من عذابك الأليم ، ثم قالوا : { رَبَّنَآ إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النار فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ } أي أهنته وأظهرت خزيه لأهل الجمع ، { وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } أي يوم القيامة لا مجير لهم منك ، ولا محيد لهم عما أردت بهم ، { رَّبَّنَآ إِنَّنَآ سَمِعْنَا مُنَادِياً يُنَادِي لِلإِيمَانِ } أي داعياً يدعو إلى الإيمان ، وهو الرسول صلى الله عليه وسلم ، { أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا } أي يقول آمنوا بربكم فآمنا أي فاستجبنا له واتبعناه أي بإيماننا واتباعنا نبيك ، { رَبَّنَا فاغفر لَنَا ذُنُوبَنَا } أي استرها ، { وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا } فيما بيننا وبينك ، { وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبرار } أي ألحقنا بالصالحين ، { رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا على رُسُلِكَ } قيل : معناه على الإيمان برسلك ، وقيل : معناه على ألسنة رسلك ، وهذا أظهر . { وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ القيامة } أي على رؤوس الخلائق ، { إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الميعاد } أي لا بد من الميعاد الذين أخبرت عنه رسلك وهو القيام يوم القيامة بين يديك .
وقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يقرأ هذه الآيات العشر من آخر آل عمران إذا قام من الليل لتهجده فقال البخاري رحمه الله ، عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : بت عند خالتي ميمونة فتحدث رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أهلة ساعة ثم رقد ، فلما كان ثلث الليل الآخر قعد فنظر إلى السماء فقال : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } الآيات ، ثم قام فتوضأ واستن ، ثم صلى إحدى عشرة ركعة ، ثم أذن بلال فصلى ركعتين ثم خرج فصلى بالناس الصبح .(1/435)
وعن ابن عباس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ذات ليلة بعدما مضى ليل فنظر إلى السماء ، وتلا هذه الآية : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } إلى آخر السورة ، ثم قال : « اللهم اجعل في قلبي نوراً ، وفي سمعي نوراً ، وفي بصري نوراً ، وعن يميني نوراً ، وعن شمالي نوراً ، ومن بين يدي نوراً ، ومن خلفي نوراً ، ومن فوقي نوراً ، ومن تحتي نوراً ، وأعظم لي نوراً يوم القيامة » .
وعن عطاء قال : « انطلقت أنا وابن عمر وعبيد بن عمير إلى عائشة رضي الله عنها ، فدخلنا عليها وبيننا وبينها حجاب ، فقالت : يا عبيد ما يمنعك من زيارتنا ، قال : قول الشاعر ( زر غباً تزدد حباً ) ، فقال ابن عمر : ذرينا أخبرينا بأعجب ما رأيتيه من رسول الله صلى الله عليه وسلم !؟ فبكت وقالت : كل أمره كان عجباً ، أتاني في ليلتي حتى مس جلده جلدي ثم قال » ذريني أتعبد لربي عزّ وجلّ « ، قالت ، فقلت : والله إني لأحب قربك ، وإني أحب أن تعبد ربك ، فقام إلى القربة فتوضأ ولم يكثر صب الماء ، ثم قام يصلي فبكى حتى بلّ لحيته ، ثم سجد فبكى حتى بل الأرض ، ثم اضطجع على جنبه فبكى حتى إذا أتى بلال يؤذنه بصلاة الصبح ، قالت ، فقال : يا رسول الله ما يبكيك وقد غفر الله لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال : » ويحك يا بلال وما يمنعني أن أبكي وقد أنزل الله عليّ في هذه الليلة : { إِنَّ فِي خَلْقِ السماوات والأرض واختلاف اليل والنهار لآيَاتٍ لأُوْلِي الألباب } « ، ثم قال : » ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها « » .(1/436)
فَاسْتَجَابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لَا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَأُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ وَأُوذُوا فِي سَبِيلِي وَقَاتَلُوا وَقُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ثَوَابًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَاللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوَابِ (195)
يقول الله تعالى : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ } أي فأجابهم ربهم كما قال الشاعر :
وداعٍ دعا يا من يجيب إلى الندا * فلم يستجبه عند ذاك مجيب ... عن أم سلمة قالت : يا رسول الله ، لا نسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء ، فأنزل الله تعالى : { فاستجاب لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } إلى آخر الآية ، وقالت الأنصار : هي أول ظعينة قدمت علينا ، ومعنى الآية أن المؤمنين ذوي الألباب لما سألوا ما سألوا مما تقدم ذكره فاستجاب لهم ربهم ، عقب ذلك بفاء التعقيب ، كما قال تعالى : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الداع إِذَا دَعَانِ } [ البقرة : 186 ] . وقوله تعالى : { أَنِّي لاَ أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِّنْكُمْ مِّن ذَكَرٍ أَوْ أنثى } هذا تفسير للإجابة أي قال لهم مخبراً أنه لا يضيع عمل عامل لديه ، بل يوفي كل عامل بقسط عمله من ذكر أو أنثى ، وقوله : { بَعْضُكُم مِّن بَعْضٍ } أي جميعكم في ثوابي سواء ، { فالذين هَاجَرُواْ } أي تركوا دار الشرك وأتوا إلى دار الإيمان ، وفارقوا الأحباب والإخوان والخلان والجيران ، { وَأُخْرِجُواْ مِن دِيَارِهِمْ } أي ضايقهم المشركون بالأذى حتى ألجأوهم إلى الخروج من بين أظهرهم ، ولهذا قال : { وَأُوذُواْ فِي سَبِيلِي } أي إنما كان ذنبهم إلى الناس أنهم آمنوا بالله وحده كما قال تعالى : { يُخْرِجُونَ الرسول وَإِيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُواْ بالله رَبِّكُمْ } [ الممتحنة : 1 ] ، وقال تعالى : { وَمَا نَقَمُواْ مِنْهُمْ إِلاَّ أَن يُؤْمِنُواْ بالله العزيز الحميد } [ البروج : 8 ] ، وقوله تعالى : { وَقَاتَلُواْ وَقُتِلُواْ } وهذا أعلى المقامات أن يقاتل في سبيل الله فيعقر جواده ويعفر وجهه بدمه وترابه ، وقد ثبت في الصحيحين أن رجلاً قال : « يا رسول الله! أرأيت إن قتلت في سبيل الله صابراً محتسباً مقبلاً غير مدبر ، أيكفر الله عني خطاياي؟ قال : » نعم « ، ثم قال : » كيف قلت «؟ فأعاد عليه ما قال ، فقال : » نعم ، إلا الدين قاله لي جبريل آنفاً « ، ولهذا قال تعالى : { لأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار } أي تجري في خلالها الأنهار من أنواع المشارب من لبن وعسل وخمر وماء غير آسن ، وغير ذلك مما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر . وقوله : { ثَوَاباً مِّن عِندِ الله } أضافه إليه ونسبه إليه ليدل على أنه عظيم ، لأن العظيم الكريم لا يعطي إلا جزيلاً كثيراً كما قال الشاعر :
إن يعذب يكن غراماً وإن يع ... طِ جزيلاً فإنه لا يبالي
وقوله تعالى : { والله عِندَهُ حُسْنُ الثواب } أي عنده حسن الجزاء لمن عمل صالحاً .(1/437)
لَا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلَادِ (196) مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (197) لَكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرَارِ (198)
يقول تعالى : لا تنظر إلى ما هؤلاء الكفار مترفون فيه من النعمة والغبطة والسرور ، فعما قليل يزول هذا كله عنهم ، ويصبحون مرتهنين بأعمالهم السيئة ، فإنما نمد لهم فيما هم فيه استدراجاً ، وجميع ما هم فيه { مَتَاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ المهاد } ، وهذه الآية كقوله تعالى : { مَا يُجَادِلُ في آيَاتِ الله إِلاَّ الذين كَفَرُواْ فَلاَ يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي البلاد } [ غافر : 4 ] ، وقال تعالى : { مَتَاعٌ فِي الدنيا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ العذاب الشديد بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ } [ يونس : 70 ] ، وقال تعالى : { نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إلى عَذَابٍ غَلِيظٍ } [ لقمان : 24 ] ، وقال تعالى : { فَمَهِّلِ الكافرين أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً } [ الطارق : 17 ] أي قليلاً ، وقال تعالى : { أَفَمَن وَعَدْنَاهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاَقِيهِ كَمَن مَّتَّعْنَاهُ مَتَاعَ الحياة الدنيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ القيامة مِنَ المحضرين } [ القصص : 61 ] ؟ وهكذا لما ذكر حال الكفار في الدنيا وذكر أن مآلهم إلى النار قال بعده : { لَكِنِ الذين اتقوا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا نُزُلاً مِّنْ عِندِ الله وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } . عن عبد الله بن عمرو قال : إنما سمّاهم الأبرار لأنهم بروا الآباء والأبناء ، كما أن لوالديك عليك حقاً ، كذلك لولدك عليك حق . وعن أبي الدرداء أنه كان يقول : ما من مؤمن إلا والموت خير له ، وما من كافر إلا والموت خير له ، ومن لم يصدقني فإن الله يقول : { وَمَا عِندَ الله خَيْرٌ لِّلأَبْرَارِ } ، ويقول : { وَلاَ يَحْسَبَنَّ الذين كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ ليزدادوا إِثْمَاً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } [ آل عمران : 178 ] .(1/438)
وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلَّهِ لَا يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا أُولَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (199) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)
يخبر تعالى عن طائفة من أهل الكتاب أنهم يؤمنون بالله حق الإيمان ، ويؤمنون بما أنزل على محمد مع ما هم مؤمنون به من الكتب المتقدمة ، وأنهم خاشعون لله أي مطيعون له خاضعون متذللون بين يديه ، لا يشترون بآيات الله ثمناً قليلاً أي لا يكتمون ما بأيديهم من البشارة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، وذكر صفته ونعته ومبعثه وصفة أمته ، وهؤلاء ثم خيرة أهل الكتاب وصفوتهم سواء كانوا هوداً أو نصارى ، وقد قال تعالى : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب مِن قَبْلِهِ هُم بِهِ يُؤْمِنُونَ } [ القصص : 52 ] الآية . وقد قال تعالى : { الذين آتَيْنَاهُمُ الكتاب يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاَوَتِهِ أولئك يُؤْمِنُونَ بِهِ } [ البقرة : 121 ] الآية . وقد قال تعالى : { وَمِن قَوْمِ موسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بالحق وَبِهِ يَعْدِلُونَ } [ الأعراف : 159 ] ، وقال تعالى : { لَيْسُواْ سَوَآءً مِّنْ أَهْلِ الكتاب أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ الله آنَآءَ الليل وَهُمْ يَسْجُدُونَ } [ آل عمران : 113 ] ، وقال تعالى : { إِنَّ الذين أُوتُواْ العلم مِن قَبْلِهِ إِذَا يتلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَآ إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً } [ الإسراء : 107-108 ] . وهذه الصفات توجد في اليهود ولكن قليلاً ، كما وجد في ( عبد الله بن سلام ) وأمثاله ممن آمن من أحبار اليهود ولم يبلغوا عشرة أنفس ، وأما النصارى ، فكثير منهم يهتدون وينقادون للحق ، كما قال تعالى : { لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ الناس عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ اليهود والذين أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الذين قالوا إِنَّا نصارى } [ المائدة : 82 ] ، إلى قوله تعالى : { فَأَثَابَهُمُ الله بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا } [ المائدة : 85 ] الآية . وهكذا قال هاهنا : { أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ } الآية .
وقد ثبت في الحديث أن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه لما قرأ سورة { كهيعص } [ مريم : 1 ] بحضرة النجاشي ملك الحبشة وعند البطاركة والقساوسة بكى وبكوا معه حتى أخضبوا لحاهم ، وثبت في الصحيحين أن النجاشي لما مات نعاه النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ، وقال : « إن أخاً لكم بالحبشة قد مات فصلّوا عليه » فخرج إلى الصحراء فصفهم وصلى عليه ، وروى ابن أبي حاتم ، عن أنَس بن مالك قال : لما توفي النجاشي ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « استغفرا لأخيكم » ، فقال بعض الناس : يأمرنا أن نستغفر لعلج مات بأرض الحبشة ، فنزلت : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ للَّهِ } الآية . وقال ابن أبي نجيح عن مجاهد : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب } يعني مسلمة أهل الكتاب ، وقال عباد بن منصور : سألت الحسن البصري عن قول الله : { وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الكتاب لَمَن يُؤْمِنُ بالله } الآية ، قال : هم أهل الكتاب الذين كانوا قبل محمد صلى الله عليه وسلم فاتبعوه وعرفوا الإسلام فأعطاهم الله تعالى أجر اثنين ، للذي كانوا عليه من الإيمان قبل محمد صلى الله عليه وسلم ، واتباعهم محمداً صلى الله عليه وسلم .(1/439)
وقد ثبت في الصحيحين عن أبي موسى قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « ثلاثة يؤتون أجرهم مرتين » فذكر منهم رجلاً من أهل الكتاب آمن بنبيّه وآمن بي ، وقوله تعالى : { لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ الله ثَمَناً قَلِيلاً } أي لا يكتمون ما بأيديدهم من العلم كما فعلته الطائفة المرذولة منهم بل يبذلون ذلك مجانا ولهذا قال تعالى : { أولائك لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ الله سَرِيعُ الحساب } قال مجاهد : سريع الحساب يعني سريع الإحصاء .
وقوله تعالى : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } قال الحسن البصري : أمروا أن يصبروا على دينهم الذي ارتضاه الله لهم وهو الإسلام ، فلا يدعوه لسراء ولا لضراء ولا لشدة ولا لرخاء ، حتى يموتوا مسلمين ، وأن يصابروا الأعداء الذين يكتمون دينهم ، وكذلك قال غير واحد من علماء السلف ، وأما المرابطة فهي المداومة في مكان العبادة والثبات وقيل : انتظار الصلاة بعد الصلاة قاله ابن عباس ويشهد له حديث : « ألا أخبركم بما يمحوا الله به الخطايا ويرفع به الدرجات!! إسباغ الوضوء على المكاره ، وكثرة الخطا إلى المساجد ، وانتظار الصلاة بعد الصلاة ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط ، فذلكم الرباط » وعن أبي سلمة بن عبد الرحمن قال : أقبل عليّ أبو هريرة يوماً فقال : أتدري يا ابن أخي فيم نزلت هذه الآية؟ { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ } قلت : لا ، قال : أما إنه لم يكن في زمان النبي صلى الله عليه وسلم غزو يرابطون فيه ، ولكنها نزلت في قوم يعمرون المساجد ويصلون الصلاة في مواقيتها ، ثم يذكرون الله فيها فعليهم أنزلت : { اصبروا } أي على الصلوات الخمس ، { وَصَابِرُواْ } أنفسكم وهواكم ، { وَرَابِطُواْ } في مساجدكم ، { واتقوا الله } فيما عليكم { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } .
وعن جابر بن عبد الله قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « » ألا أدلكم على ما يمحو الله به الخطايا ويكفر به الذنوب؟ « قلنا : بلى ، يا رسول الله ، قال : » إسباغ الوضوء في أماكنها وكثرة الخطا إلى المساجد وانتظار الصلاة بعد الصلاة فذلكم الرباط « وقيل : المراد بالمرابطة هاهنا ( مرابطة الغزو ) في نحور العدو ، وحفظ ثغور الإسلام ، وصيانتها عن دخول الأعداء إلى حوزة بلاد المسلمين وقد وردت الأخبار بالترغيب في ذلك وذكر كثرة الثواب فيه ، فروى » البخاري في صحيحه « عن سهل بن سعد الساعدي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » رباط يوم في سبيل الله خير من الدنيا وما عليها « .
( حديث آخر ) : روى مسلم عن سلمان الفارسي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : » رباط يوم وليلة خير من صيام شهر وقيامه ، وإن مات جرى عليه عمله الذي كان يعمله وأجرى عليه رزقه وأمن الفتان « .(1/440)
( حديث آخر ) : قال صلى الله عليه وسلم : « كل ميت يختم له على عمله إلا المرابط في سبيل الله يجري عليه عمله حتى يبعث ويأمن الفتان » .
( حديث آخر ) : عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من مات مرابطاً في سبيل الله أجري عليه عمله الصالح الذي كان يعمله ، وأجري عليه رزقه ، وأمن من الفتان وبعثه الله يوم القيامة آمناً من الفزع الأكبر » .
( طريق أُخرى ) : قال الإمام أحمد ، عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « من مات مرابطاً وقي فتنة القبر وأمن من الفزع الأكبر ، وغدا عليه ريح برزقه من الجنة وكتب له أجر المرابط إلى يوم القيامة » .
( طريق أُخرى ) : قال الترمذي ، عن أبي صالح مولى عثمان بن عفان ، قال : سمعت عثمان وهو على المنبر يقول إني كتمتكم حديثاً سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم كراهية تفرقكم عني ثم بدا لي أن أحدثكموه ليختار امرؤ لنفسه ما بدا له ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « رباط يوم في سبيل الله خير من ألف يوم فيما سواه من المنازل » .
( حديث آخر ) : قال الترمذي : مرّ سلمان الفارسي بشرحبيل بن السمط وهو في مرابطة له وقد شق عليه وعلى أصحابه فقال : ألا أحدثك يا ابن السمط بحديث سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم ؟ قال : بلى ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « رباط يوم في سبيل الله أفضل - أو قال خير - من صيام شهر وقيامه ، ومن مات فيه وقي فتنة القبر ونمي له عمله إلى يوم القيامة » .
( حديث آخر ) : قال أبو داود : « عن سهل بن الحنظلة أنهم ساروا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين حتى كانت عشية ، فحضرت الصلاة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فجاء رجل فارس فقال : يا رسول الله إني انطلقت بين أيديكم حتى طلعت جبل كذا وكذا ، فإذا أنا بهوازن على بكرة أبيهم بظعنهم ونعمهم وشياههم ، فتبسم النبي صلى الله عليه وسلم وقال : » تلك غنيمة المسلمين غداً إن شاء الله « ، ثم قال : » من يحرسنا الليلة «؟ قال أنَس بن أبي مرثد : أنا يا رسول الله ، قال : » فاركب « ، فركب فرساً ، فجاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » استقبل هذا الشعب حتى تكون في أعلاه ولا تغز من قبلك الليلة « ، فلما أصبحنا خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى مصلاه فركع ركعيتين ، فقال : » هل أحسستم فارسكم «؟ ، فقال رجل : يا رسول الله ما أحسسناه ، فثوّب بالصلاة ، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم وهو يصلي يلتفت إلى الشعب ، حتى إذا قضى صلاته ، قال : » أبشروا فقد جاءكم فارسكم « ، فجعلنا ننظر في خلال الشجر في الشعب فإذا هو قد جاء ، حتى وقف على النبي صلى الله عليه وسلم فقال : إني انطلقت حتى كنت في أعلى هذا الشعب حيث أمرتني ، فلما أصبحنا طلعت الشعبين كليهما ، فنظرت فلم أر أحداً ، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم : » هل نزلت الليلة «؟ قال : لا ، إلا مصلياً أو قاضي حاجة ، فقال له : » أوجبتَ فلا عليك أن لا تعمل بعدها « » .(1/441)
( حديث آخر ) : قال الإمام أحمد بسنده عن أبي ريحانة ، قال : « كنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة فأتينا ذات ليلة إلى شرف فبتنا عليه ، فأصابنا برد شديد حتى رأيت من يحفر في الأرض يدخل فيها ويلقي عليه الحجفة ( يعني الترس ) فلما رأى ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم من الناس نادى : » من يحرسنا هذه الليلة فأدعوا له بدعاء يكون له فيه فضل؟ « فقال رجل من الأنصار : أنا يا رسول الله ، قال : » ادن « ، فدنا منه ، فقال : » من أنت «؟ فتسمى له الأنصاري ، ففتح رسول الله صلى الله عليه وسلم بالدعاء فأكثر منه . قال أبو ريحانه : فلما سمعت ما دعا به قلت : أنا رجل آخر ، فقال : » ادن « ، فدنوت ، فقال : » من أنت «؟ قال ، فقلت : أبو ريحانة ، فدعا بدعاء دون ما دعا به للأنصاري ، ثم قال : » حرمت النار على عين دمعت - أو بكت من خشية الله ، وحرمت النار على عين سهرت في سبيل الله « ، وروى النسائي منه : » حرمت النار « إلى آخره .
( حديث آخر ) : قال الترمذي ، عن ابن عباس قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : » عينان لا تَمَسُّهما النار ، عين بكت من خشية الله ، وعين باتت تحرس في سبيل الله « .
( حديث آخر ) : روى البخاري في » صحيحه « عن أبي هريرة ، قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » تعس عبد الدينار وعبد الدرهم وعبد الخميصة ، إن أعطي رضي ، وإن لم يعط سخط ، تعس وانتكس ، وإذا شيك فلا انتقش . طوبى لعبد أخذ بعنان فرسه في سبيل الله ، أشعث رأسه ، مغبرة قدماه ، إن كان في الحراسة كان في الحراسة . وإن كان في الساقة كان في الساقة ، إن استأذن لم يؤذن له ، وإن شفع لم يشفع « فهذا آخر ما تيسر إيراده من الأحاديث المتعلقة بهذا المقام ، ولله الحمد على جزيل الأنعام ، على تعاقب الأعوام والأيام .(1/442)
تنبيه : قال ابن جرير : كتب أبو عبيدة إلى عمر بن الخطاب يذكر له جموعاً من الروم وما يتخوف منهم ، فكتب إليه عمر : أما بعد ، فإنه مهما ينزل بعبد مؤمن من منزلة شدة يجعل الله له بعدها فرجاً ، وإنه لن يغلب عسر يسرين ، وإن الله تعالى يقول : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ اصبروا وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ واتقوا الله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } وروى الحافظ ابن عساكر عن محمد بن إبراهيم بن أبي سكينة قال : أملى عليَّ عبد الله بن المبارك هذه الأبيات بطرسوس وأنشدها إلى ( الفضيل بن عياض ) في سنة سبعين ومائة :
يا عابد الحرمين لو أبصرتنا ... لعلمت أنك في العبادة تلعب
من كان يخضب خده بدموعه ... فنحورنا بدمائنا تتخضب
أو كان يتعب خيله في باطل ... فخيولنا يوم الصبيحة تتعب
ريح العبير لكم ونحن عبيرنا ... رهج السنابك والغبار الأطيب
ولقد أتانا من مقال نبينا ... قول صحيح صادق لا يكذب
لا يستوي غبَّار خيل الله في ... أنف امرىء ودخان نار تلهب
هذا كتاب الله ينطق بيننا ... ليس الشهيد بميت لا يكذب
قال : فلقيت الفضيل بن عياض بكتابه في المسجد الحرام ، فلما قرأه ذرفت عيناه وقال : صدق أبو عبد الرحمن ونصحني ، ثم قال : أنت ممن يكتب الحديث؟ قال ، قلت : نعم ، قال : فاكتب هذا الحديث كراء حملك كتاب أبي عبد الرحمن إلينا ، وأملى عليّ الفضيل بن عياض : حدثنا منصور بن المعتمر عن أبي صالح عن أبي هريرة أن رجلاً قال : « يا رسول الله علِّمني عملاً أنال به ثواب المجاهدين في سبيل الله ، فقال : » هل تستطيع أن تصلي فلا تفتر ، وتصوم فلا تفطر؟ « فقال : يا رسول الله أنا أضعف من أن أستطيع ذلك ، ثم قال النبي صلى الله عليه وسلم : » فوالذي نفسي بيده لو طُوِّقت ذلك ما بلغت المجاهدين في سبيل الله ، أوما علمت أن الفرس المجاهد ليستن في طوله فيكتب له بذلك الحسنات؟! « وقوله تعالى { واتقوا الله } أي في جميع أموركم وأحوالكم ، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم لمعاذ حين بعثه إلى اليمن : » اتق الله حيثما كنت ، وأتبع السيئة الحسنة تمحها وخالق الناس بخلق حسن « ، { لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ } أي في الدنيا والآخرة .(1/443)
يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا (1)
يأمر الله تعالى خلقه بتقواه وهي عبادته وحده لا شريك له ، ومنبها لهم على قدرته التي خلقهم بها { مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } وهي آدم عليه السلام { وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا } وهي حواء عليها السلام ، خلقت من ضلعه الأيسر من خلفه وهو نائم فاستيقظ فرآها فأعجبته ، فأنس إليه وأنست إليه . وقال ابن أبي حاتم عن ابن عباس : خلقت المرأة من الرجل فجعلت نهمتها في الرجل ، وخلق الرجل من الأرض فجعلت نهمته في الأرض فاحبسوا نساءكم ، وفي الحديث الصحيح : « إن المرأة خلقت من ضلع ، وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه ، فإن ذهبت تقيمه كسرته ، وأن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عوج » وقوله : { وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَآءً } أي وذرأ منهما : أي من آدم وحواء رجالاً كثيراً ونساء ، ونشرهم في أقطار العالم على اختلاف اصنافهم وصفاتهم وألوانهم ولغاتهم ، ثم إليه بعد ذلك المعاد والمحشر ، ثم قال تعالى : { واتقوا الله الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ والأرحام } أي واتقوا الله بطاعتكم إياه ، قال مجاهد والحسن : { الذي تَسَآءَلُونَ بِهِ } أي كما يقال أسألك بالله وبالرحم ، وقال الضحاك : واتقوا الله الذي تعاقدون وتعاهدون به واتقوا الأرحام أن تقطعوها ولكن بروها وصلوها قاله ابن عباس وعكرمة . وقرأ بعضهم : { والأرحام } بالخفض عطفاً على الضمير في ( به ) أي تساءلون بالله وبالأرحام كما قال مجاهد وغيره .
وقوله : { إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً } أي هو مراقب لجميع أحوالكم وأعمالكم ، كما قال : { والله على كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ } [ المجادلة : 6 ، البروج : 9 ] ؛ وفي الحديث الصحيح : « اعبد الله كأنك تراه ، فإن لم تكن تراه فإنه يراك » ، وهذا إرشاد وأمر بمراقبة الرقيب ، ولهذا ذكر تعالى أن أصل الخلق من أب واحد وأم واحدة ، ليعطف بعضهم على بعض ويحثهم على ضعفائهم ، وقد ثبت في « صحيح مسلم » من حديث ( جرير بن عبد الله البجلي ) : أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر - وهم مجتابو النِّمار أي من عريهم وفقرهم - قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر ، فقال في خطبته : { ياأيها الناس اتقوا رَبَّكُمُ الذي خَلَقَكُمْ مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ } حتى ختم الآية ثم قال : { ياأيها الذين آمَنُواْ اتقوا الله وَلْتَنظُرْ نَفْسٌ مَّا قَدَّمَتْ لِغَدٍ } [ الحشر : 18 ] ثم حضهم على الصدقة ، فقال : « تصدق رجل من ديناره ، من درهمه ، من صاع بره ، من صاع تمره » وذكر تمام الحديث .(1/444)
وَآتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إِلَى أَمْوَالِكُمْ إِنَّهُ كَانَ حُوبًا كَبِيرًا (2) وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا (3) وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْءٍ مِنْهُ نَفْسًا فَكُلُوهُ هَنِيئًا مَرِيئًا (4)
يأمر تعالى بدفع أموال اليتامى إليهم إذا بلغوا الحلم كاملة موفرة ، وينهى عن أكلها وضمها إلى أموالهم ، ولهذا قال : { وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب } . قال سفيان الثوري : لا تعجل بالرزق الحرام قبل أن يأتيك الرزق الحلال الذي قدّر لك ، وقال سعيد بن جبير : لا تتبدلوا الحرام من أموال الناس بالحلال من أموالكم ، يقول : لا تبدلوا أموالكم الحلال وتأكلوا أموالهم الحرام ، وقال سعيد بن المسيب : لا تعط مهزولاً وتأخذ سميناً ، وقال الضحاك لا تعط زيفا وتأخذ جيداً ، وقال السدي : كان أحدهم يأخذ الشاة السمينة من غنم اليتيم ، ويجعل مكانها الشاة المهزولة ، ويقول : شاة بشاة ، ويأخذ الدرهم الجيد ويطرح مكانه الزيف ويقول درهم بدرهم . وقوله : { وَلاَ تأكلوا أَمْوَالَهُمْ إلى أَمْوَالِكُمْ } ، قال مجاهد وسعيد بن جبير : أي لا تخلطوها فتأكلوها جميعاً ، وقوله : { إِنَّهُ كَانَ حُوباً كَبِيراً } قال ابن عباس : أي إثماً عظيماً . وفي الحديث المروي في « سنن أبو داود » : « اغفر لنا حوبنا وخطايانا » وروى ابن مردويه بإسناده عن ابن عباس : أن أبا أيوب طلق امرأته ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « يا أبا أيوب إن طلاق أم أيوب كان حوباً » قال ابن سيرين : الحوب الإثم ، وعن أنس : أن أبا ايوب أراد طلاق أم أيوب ، فاستأذن النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « إن طلاق أم أيوب لحوب » فأمسكها والمعنى : إن أكلكم أموالهم مع أموالكم إثم عظيم وخطأ كبير فاجتنبوه .
وقوله : { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ مِّنَ النسآء مثنى } أي إذا كان تحت حجر أحدكم يتيمة . وخاف أن لا يعطيها مهر مثلها فليعدل إلى ما سواها ، فإنهن كثير ولم يضيق الله عليه ، وقال البخاري عن عائشة : أن رجلاً كانت له يتيمة فنكحها وكان لها عذق ، وكان يمسكها عليه ، ولم يكن لها من نفسه شيء فنزلت فيه ، { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ } أحسبه قال : كانت شريكته في ذلك العذق وفي ماله ، ثم قال البخاري : عن ابن شهاب قال : أخبرني عروة بن الزبير أنه سأل عائشة عن قول الله تعالى { وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ فِي اليتامى } قالت : يا ابن أختي هذه اليتيمة تكون في حجر وليها تشركه في ماله ويعجبه مالها وجمالها ، فيريد وليها أن يتزوجها بغير أن يُقْسط في صداقها فيعطيها مثل ما يعطيها غيره ، فنهوا أن ينكحوهن إلا أن يقسطوا إليهن ، ويبلغوا بهن أعلى سنتهن في الصداق ، وأمروا أن ينكحوا ما طاب له من النساء سواهن ، قال عروة : قالت عائشة : وإن الناس استفتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الآية فأنزل الله : { وَيَسْتَفْتُونَكَ فِي النسآء } [ النساء : 127 ] قالت عائشة : وقول الله في الآية الأخرى :(1/445)
{ وَتَرْغَبُونَ أَن تَنكِحُوهُنَّ } [ النساء : 127 ] رغبة أحدكم عن يتيمته إذا كانت قليلة المال والجمال ، فنهو أن ينكحوا من رغبوا في مالها وجمالها من النساء إلا بالقسط من أجل رغبتهم عنهن إذا كن قليلات المال والجمال .
وقوله { مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } أي انكحوا ما شئتم من النساء سواهن إن شاء أحدكم ثنتين ، وإن شاء ثلاثاً ، وإن شاء أربعاً ، كما قال الله تعالى : { جَاعِلِ الملائكة رُسُلاً أولي أَجْنِحَةٍ مثنى وَثُلاَثَ وَرُبَاعَ } [ فاطر : 1 ] أي منهم من له جناحان ، ومنهم من له ثلاثة ، ومنهم من له أربعة ، ولا ينفي ما عدا ذلك في الملائكة لدلالة عليه ، بخلاف قصر الرجال على أربع فمن هذه الآية كما قال ابن عباس وجمهور العلماء ، لأن المقام مقام امتنان وإباحة ، فلو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لذكره ، قال الشافعي : وقد دلت سنّة رسول الله صلى الله عليه وسلم المبينة عن الله أنه لا يجوز لأحد غير رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يجمع بين أكثر من أربع نسوة ، وهذا الذي قاله الشافعي مجمع عليه بين العلماء ، إلا ما حكي عن طائفة من الشيعة أنه يجوز الجمع بين أكثر من أربع إلى تسع ، وقال بعضهم : بلا حصر . وقد يتمسك بعضهم بفعل رسول الله صلى الله عليه وسلم في جمعه بين أكثر من أربع إلى تسع كما ثبت في الصحيح ، وهذا عند العلماء من خصائصه دون غيره من الأمة لما سنذكره من الأحاديث الدالة على الحصر في أربع ، ولنذكر الأحاديث في ذلك . قال الإمام أحمد عن سالم عن أبيه : أن ( غيلان بن سلمة الثقفي ) أسلم وتحته عشر نسوة ، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم : « اختر منهن أربعاً » ، فلما كان في عهد عمر طلق نساءه ، وقسم ماله بين بنيه ، فبلغ ذلك عمر فقال : إني لأظن الشيطان فيما يسترق من السمع سمع بموتك فقذفه في نفسك ، ولعلك لا تلبث إلا قليلاً ، وايم الله لتراجعن نساءك ولترجعن مالك أو لأورثهن منك ولآمرن بقبرك فيرجم كما رجم قبر أبي رغال وعن ابن عمر : أن ( غيلان بن سلمة ) كان عنده عشر نسوة ، فأسلم وأسلمن معه فأمره النبي صلى الله عليه وسلم أن يختار منهن أربعاً ، هكذا أخرجه النسائي في « سننه » . فوجه الدلالة أنه لو كان يجوز الجمع بين أكثر من أربع لسوّغ له رسول الله صلى الله عليه وسلم سائرهن في بقاء العشرة وقد أسلمن ، فلما أمره بإمساك أربع وفراق سائرهن ، دل على أنه لا يجوز الجمع بين أكثر من أربع بحال ، فإذا كان هذا في الدوام ، ففي الاستئناف بطريق الأولى والأحرى ، والله سبحانه أعلم بالصواب .
( حديث آخر ) : قال الشافعي في مسنده عن نوفل بن معاوية الديلي قال : أسلمت وعندي خمس نسوة ، فقال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم(1/446)
« اختر أربعاً أيتهن شئت وفارق الأخرى » ، فعمدت إلى أقدمهن صحبة ، عجوز عاقر معي منذ ستين سنة فطلقتها ، فهذه كلها شواهد لحديث غيلان كما قاله البيهقي ، وقوله : { فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ } أي إن خفتم من تعداد النساء أن لا تعدلوا بينهن كما قال تعالى : { وَلَن تستطيعوا أَن تَعْدِلُواْ بَيْنَ النسآء وَلَوْ حَرَصْتُمْ } [ النساء : 129 ] فمن خاف من ذلك فليقتصر على واحدة أو على الجواري السراري ، فإنه لا يجب قسم بينهن ، ولكن يستحب ، فمن فعل فحسن ومن لا فلا حرج . وقوله : { ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } قال بعضهم : ذلك أدنى أن لا تكثر عيالكم قاله زيد بن أسلم والشافعي وهو مأخوذ من قوله تعالى : { وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً } [ التوبة : 28 ] أي فقرأ { فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ الله مِن فَضْلِهِ إِن شَآءَ } [ التوبة : 28 ] وقال الشاعر :
فما يدري الفقير متى غناه ... وما يدري الغني متى يعيل؟
وتقول العرب : عال الرجل يعيل عيلة إذا افتقر ، ولكن في هذا التفسير هاهنا نظر ، فإنه كما يخشى كثرة العائلة من تعداد الحرائر كذلك يخشى من تعداد السراي أيضاً ، والصحيح قول الجمهور : { ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } أي لا تجوروا يقال : عال في الحكم إذا قسط وظلم وجار ، وقال أبو طالب في قصيدته المشهورة :
بميزان قسط لا يخيس شعيرةً ... له شاهد من نفسه غير عائل
عن عائشة عن النبي صلى الله عليه وسلم { ذلك أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ } قال : « لا تجوروا » ، روي مرفوعاً والصحيح عن عائشة أنه موقوف ، وروي عن ابن عباس وعائشة ومجاهد أنهم قالوا : لا تميلوا .
وقوله تعالى : { وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } قال ابن عباس : النحلة المهر عن عائشة نحلة : فريضة ، وقال ابن زيد : النحلة في كلام العرب الواجب ، يقول : لا تنكحها إلا بشي واجب لها ، وليس ينبغي لأحد بعد النبي صلى الله عليه وسلم أن ينكح امرأة إلا بصداق واجب ، ومضمون كلامهم أن الرجل يجب عليه دفع الصداق إلى المرأة حتما ، وأن يكون طيب النفس بذلك ، كما يمنح المنيحة ويعطي النحلة طيباً ، كذلك يجب أن يعطي المرأة صداقها طيباً بذلك ، فإن طابت هي له به بعد تسميته أو عن شيء منه فليأكله حلالاً طيباً ، ولهذا قال : { فَإِن طِبْنَ لَكُمْ عَن شَيْءٍ مِّنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَّرِيئاً } . وقال هشيم : كان الرجل إذا زوج بنته أخذ صداقها دونها فنهاهم الله عن ذلك ونزل : { وَآتُواْ النسآء صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً } .(1/447)
وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا وَارْزُقُوهُمْ فِيهَا وَاكْسُوهُمْ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (5) وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا (6)
ينهى سبحانه وتعالى عن تمكين السفهاء من التصرف في الأموال ، التي جعلها الله للناس قياماً ، أي تقوم بها معايشهم من التجارات وغيرها ، ومن هاهنا يؤخذ [ الحجر على السفهاء ] وهم أقسام : فتارة يكون الحجر للصغر ، فإن الصغير مسلوب العبارة ، وتارة يكون الحجر للجنون ، وتارة لسوء التصرف لنقص العقل أو الدين ، وتارة للفلس وهو ما إذا أحاطت الديون برجل وضاق ماله عن وفائها ، فإذا سأل الغرماء الحاكم الحجر عليه حجر عليه ، وقال ابن عباس في قوله : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ } قال : هم بنوك والنساء ، وقال الضحاك : هم النساء والصبيان ، وقال سعيد بن جبير : هم اليتامى ، وقال مجاهد وعكرمة : هم النساء ، وقال ابن أبي حاتم عن أبي أمامة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن النساء سفهاء إلا التي أطاعت قيمها » وقوله : { وارزقوهم فِيهَا واكسوهم وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } قال ابن عباس لا تعمد إلى مالك وما خوّلك الله وجعله لك معيشة ، فتعطيه امرأتك أو بنتك ، ثم تنظر إلى ما في أيديهم ، ولكن أمسك مالك وأصلحه ، وكن أنت الذي تنفق عليهم من كسوتهم ومؤنتهم ورزقهم ، وقال ابن جرير عن أبي موسى قال : ثلاثة يدعون الله فلا يستجيب لهم ، رجل له امرأة سيئة الخلق فلم يطلقها ، ورجل أعطى ماله سفيهاً . وقد قال الله : { وَلاَ تُؤْتُواْ السفهآء أَمْوَالَكُمُ } ، ورجل كان له على رجل دين فلم يشهد عليه . وقال مجاهد { وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً } يعني في البر والصلة ، وهذه الآية الكريمة تضمنت الإحسان إلى العائلة في الكساوى والأرزاق ، بالكلام الطيب وتحسين الأخلاق .
وقوله تعالى : { وابتلوا اليتامى } أي اختبروهم { حتى إِذَا بَلَغُواْ النِّكَاحَ } قال مجاهد : يعني الحلم ، قال الجمهور من العلماء : البلوغ في الغلام تارة يكون بالحلم ، وهو أن يرى في منامه ما ينزل به الماء الدافق الذي يكون منه الولد ، وعن علي : قال حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم « لا يتم بعد احتلام ولا صمات يوم إلى الليل » وفي الحديث الآخر عن عائشة وغيرها من الصحابة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « رفع القلم عن ثلاثة عن الصبي حتى يحلم - أي يستكمل خمس عشرة سنة - وعن النائم حتى يستيقظ ، وعن المجنون حتى يفيق » ، وأخذوا ذلك من الحديث الثابت في الصحيحين عن ابن عمر قال : عُرِضْتُ على النبي صلى الله عليه وسلم يوم أُحد وأنا ابن أربع عشرة فلم يجزني ، وعرضت عليه يوم الخندق وأنا ابن خمس عشرة سنة فأجازني ، فقال عمر بن عبد العزيز لما بلغه هذا الحديث : إن هذا الفرق بين الصغير والكبير ، وقال أبو عبيد في الغريب عن عمر : أن غلاماً ابتهر جارية في شعره ، فقال عمر : انظروا إليه فلم يوجد أنبت فدرأ عنه الحد ، قال أبو عبيدة : ابتهرها أي قذفها ، والابتهار : أن يقول فعلت بها وهو كاذب ، فإن كان صادقاً فهو الابتيار قال الكميت في شعره :(1/448)
قبيح بمثلي نعت الفتاة ... إما ابتهاراً وإما ابتياراً
وقوله : { فَإِنْ آنَسْتُمْ مِّنْهُمْ رُشْداً فادفعوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } يعني صلاحاً في دينهم وحفظاً لأموالهم كذا روي عن ابن عباس والحسن البصري وغير واحد من الأئمة ، وهكذا قال الفقهاء : إذا بلغ الغلام مصلحاً لدينه وماله انفك الحجر عنه ، فيسلم إليه ماله الذي تحت يد وليه ، وقوله : { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ } ينهى تعالى عن أكل أموال اليتامى من غير حاجة ضرورية { إِسْرَافاً وَبِدَاراً } أي مبادرة قبل بلوغهم ، ثم قال تعالى : { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } عنه ولا يأكل منه شيئاً ، وقال الشعبي : هو عليه كالميتة والدم ، { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } نزلت في والي اليتيم الذي يقوم عليه ويصلحه إذا كان محتاجاً أن يأكل منه . عن عائشة قالت : أنزلت هذه الآية في والي اليتيم { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } بقدر قيامه عليه . قال الفقهاء : له أن يأكل من أقل الأمرين أجرة مثله أو قدر حاجته ، واختلفوا هل يرد إذا أيسر؟ على قولين : ( أحدهما ) لا ، لأنه أكل بأجرة عمله وكان فقيراً ، وهذا هو الصحيح عند أصحاب الشافعي ، لأن الآية أباحت الأكل من غير بدل .
روي أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال : « إن عندي يتيماً عنده مال وليس لي مال ، آكل من ماله ، قال : » كل بالمعروف غير مسرف « وقال ابن جرير : جاء أعرابي إلى ابن عباس فقال : إن في حجري أيتاماً ، وإن لهم إبلاً ولي إبل ، وأنا أمنح من إبلي فقراء ، فماذا يحل من ألبانها؟ فقال : إن كنت تبغي ضالتها وتهنا جرباها وتلوط حوضها وتسعى عليها فاشرب غير مضر بنسل ، ولا ناهك في الحلب . ( والثاني ) : نعم ، لأن مال اليتيم على الحظر ، وإنما أبيح للحاجة ، فيرد بدله كأكل مال الغير للمضطر عند الحاجة ، وقد قال ابن أبي الدنيا : قال عمر رضي الله عنه : إني أنزلت نفسي من هذا المال منزلة والي اليتيم ، إن استغنيت استعففت ، وإن احتجت استقرضت ، فإذا أيسرت قضيت . وعن ابن عباس : { وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } ، قال : يأكل من ماله يقوت على نفسه حتى لا يحتاج إلى مال اليتيم ، وقال عامر الشعبي : لا يأكل منه إلا أن يضطر إليه كما يضطر إلى الميتة فإن أكل منه قضاه . { وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ } يعني من الأولياء { وَمَن كَانَ فَقِيراً } أي منهم { فَلْيَأْكُلْ بالمعروف } أي بالتي هي أحسن كما قال في الآية الأخرة : { وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ اليتيم إِلاَّ بالتي هِيَ أَحْسَنُ حتى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ }(1/449)
[ الأنعام : 152 ، الإسراء : 34 ] أي لا تقربوه إلا مصلحين له فإن احتجتم إليه أكلتم منه بالمعروف .
وقوله تعالى : { فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ } يعني بعد بلوغهم الحلم وإيناسكم الرشد منهم فحينئذ سلموا إليهم أموالهم ، فإذا دفعتم إليهم أموالهم { فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ } وهذا أمر من الله تعالى للأولياء أن يشهدوا على الأيتام إذا بلغوا الحلم وسلموا إليهم أموالهم لئلا يقع من بعضهم جحود وإنكار لما قبضه وتسلمه . ثم قال : { وكفى بالله حَسِيباً } أي وكفى بالله محاسباً وشاهداً ورقيباً على الأولياء في حال نظرهم للأيتام وحال تسليمهم لأموالهم ، هل هي كاملة موفرة أو منقوصة مبخوسة؟ ولهذا ثبت في « صحيح مسلم » أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « يا ابا ذر إني أراك ضعيفاً ، وإني أحب لك ما أحب لنفسي : لا تَأَمرنَّ على اثنين ، ولا تَلِينَّ مال يتيم » .(1/450)
لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوَالِدَانِ وَالْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا (7) وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا (8) وَلْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعَافًا خَافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَلْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا (9) إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا (10)
قال سعيد بن جبير وقتادة : كان المشركون يجعلون المال للرجال الكبار ، ولا يورثون النساء ولا الأطفال شيئاً فأنزل الله : { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } الآية . أي الجميع فيه سواء في حكم الله تعالى ، يستوون في أصل الوراثة ، وإن تفاوتوا بحسب ما فرض الله لكل منهم ، بما يدلى به إلى الميت من قرابة ، أو زوجيه ، أو ولاء ، فإنه لحمة كلحمة النسب . وروى ابن مردويه عن جابر قال : أتت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : يا رسول الله إن لي ابنتين قد مات أبوهما وليس لهما شيء . فأنزل الله تعالى { لِّلرِّجَالِ نَصيِبٌ مِّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون } الآية . وقوله : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة } الآية . قيل : المراد : وإذا حضر قسمة الميراث ذوو القربى ممن ليس بوارث ، { واليتامى والمساكين } فليرضخ لهم من التركة نصيب ، وإن ذلك كان واجباً في ابتداء الإسلام ، وقيل : يستحب ، واختلفوا هل هو منسوخ أم لا؟ على قولين ، فقال البخاري عن ابن عباس : هي محكمة وليست بمنسوخة ، وقال عكرمة عن ابن عباس في هذه الآية : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى } نسختها الآية التي بعدها { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ } [ النساء : 11 ] . وروى العوفي عن ابن عباس : كان ذلك قبل أن تنزل الفرائض ، فأنزل الله بعد ذلك الفرائض فأعطى كل ذي حق حقه ، فجعلت الصدقة فيما سمَّى المتوفى ، وقال ابن أبي حاتم عن عطاء عن ابن عباس في قوله : { وَإِذَا حَضَرَ القسمة أُوْلُواْ القربى واليتامى والمساكين } نسختها آية الميراث ، فجعل لكل إنسان نصيبه مما ترك الوالدان والأقربون مما قل منه أو كثر . وهذا مذهب جمهور الفقهاء والأئمة الأربعة وأصحابهم ، والمعنى : أنه إذا حضر هؤلاء الفقراء من القرابة الذين لا يرثون واليتامى والمساكين قسمة مال جزيل ، فإن أنفسهم تتوق إلى شيء منه ، وإذا رأوا هذا يأخذ وهذا يأخذ وهم يائسون لا شيء يعطونه ، فأمر الله تعالى وهو الرؤوف الرحيم أن يرضخ لهم شيء من الوسط يكون براً بهم وصدقة عليهم ، وإحساناً إليهم وجبراً لكسرهم ، كما قال الله تعالى : { كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَآ أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ } [ الأنعام : 141 ] وذم الذين ينقلون المال خفية خشية أن يطلع عليهم المحاويج وذوو الفاقة كما أخبر به عن أصحاب الجنة : { إِذْ أَقْسَمُواْ لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ } [ القلم : 17 ] أي بليل ، وقال : { فانطلقوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ * أَن لاَّ يَدْخُلَنَّهَا اليوم عَلَيْكُمْ مِّسْكِينٌ } [ القلم : 23-24 ] ف { دَمَّرَ الله عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا } [ محمد : 10 ] فمن جحد حق الله عليه عاقبه في أعز ما يملكه .
وقوله تعالى : { وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ } الآية ، قال ابن عباس : هذا في الرجل يحضره الموت ، فيسمعه رجل يوصي بوصية تضر بورثته ، فأمر الله تعالى الذي يسمعه أن يتقي الله ويوفقه ويسدده للصواب ، فينظر لورثته كما كان يجب أن يصنع بورثته إذا خشي عليهم الضيعة؛ وهكذا قال مجاهد وغير واحد وثبت في الصحيحين :(1/451)
« أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما دخل على سعد بن أبي وقاص يعوده ، قال : يا رسول الله إني ذو مال ولا يرثني إلا ابنة ، أفأتصدق بثلثي مالي ، قال : لا ، قال : فالشطر؟ قال : لا ، قال : فالثلث قال : » الثلث ، والثلث كثير « ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : » إنك أن تذر ورثتك أغنياء خير من أن تذرهم عالة يتكففون الناس « وفي الصحيح عن ابن عباس قال : لو أن الناس غضوا من الثلث إلى الربع ، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » الثلث ، والثلث كثير « .
قال الفقهاء : إن كان ورثة الميت أغنياء استحب للميت أن يستوفي في وصيته الثلث ، وإن كانوا فقراء استحب أن ينقص الثلث؛ وقيل : المراد بالآية فليتقوا الله في مباشرة أموال اليتامى { وَلاَ تَأْكُلُوهَآ إِسْرَافاً وَبِدَاراً } [ النساء : 6 ] حكاه ابن جرير عن ابن عباس ، وهو قول حسن يتأيد بما بعده من التهديد في أكل أموال اليتامى ظلماً ، أي كما تحب أن تعامل ذريتك من بعدك ، فعامل الناس في ذراريهم إذا وليتهم ، ثم أعلمهم أن من أكل أموال اليتامى ظلماً فإنما يأكل في بطنه ناراً ولهذا قال : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَاراً وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيراً } أي إذا أكلوا أموال اليتامى بلا سبب فإنما يأكلون ناراً تتأجج في بطونهم يوم القيامة - وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » اجتنبوا السبع الموبقات : قيل يا رسول الله وما هن؟ قال : الشرك بالله ، والسحر؛ وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق؛ وأكل الربا ، وأكل مال اليتيم؛ والتولي يوم الزحف ، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات « وقال السدي : يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة ولهب النار يخرج من فيه ومن مسامعه وأنفه وعينيه ، يعرفه كل من رآه بأكل مال اليتيم ، وقال ابن مردويه عن أبي برزة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : » « يبعث يوم القيامة القوم من قبورهم تأجج أفواههم ناراً » قيل يا رسول الله من هم؟ قال : ألم تر أن الله قال : { إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ اليتامى ظُلْماً } الآية . وعن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أحرّج مال الضعيفين : المرأة ، واليتيم » أي أوصيكم باجتناب مالهما .(1/452)
يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِسَاءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَلِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كَانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَا أَوْ دَيْنٍ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيمًا حَكِيمًا (11)
هذه الآية الكريمة والتي بعدها ، والآية التي هي خاتمة هذه السورة هن آيات علم الفرائض ، وهو مستنبط من هذه الآيات الثلاث ، ومن الأحاديث الواردة في ذلك مما هو كالتفسير لذلك ، ولنذكر منها ما هو متعلق بتفسير ذلك ، وأما تقرير المسائل ونصب الخلاف والأدلة ، والحجاج بين الأئمة ، فموضعه كتب الأحكام والله المستعان .
وقد ورد الترغيب في تعلم الفرائض ، وهذه الفرائض الخاصة من أهم ذلك؛ روى أبو داود وابن ماجة عن عبد الله بن عمرو مرفوعاً : « العلم ثلاثة وما سوى ذلك فهو فضل : آية محكمة ، أو سنّة قائمة ، أو فريضة عادلة » ، وعن أبي هريرة قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « تعلموا الفرائض وعلموه الناس فإنه نصف العلم ، وهو ينسى ، وهو أول شيء ينزع من أمتي » قال ابن عيينة : إنما سمي الفرائض نصف العلم لأنه يبتلى به الناس كلهم ، وقال البخاري عند تفسيره هذه الآية : « عن جابر بن عبد الله قال : عادني رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر في بني سلمة ماشيين ، فوجدني النبي صلى الله عليه وسلم لا أعقل شيئاً ، فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش عليَّ فأفقت فقلت : ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله ، فنزلت : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } » ( حديث آخر ) عن جابر قال : « جاءت امرأة سعد بن الربيع إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت : يا رسول الله هاتان ابنتا سعد بن الربيع قتل أبوهما معك في يوم أُحد شهيداً ، وإن عمهما أخذ مالهما فلم يدع لهما مالاً ولا ينكحان إلا ولهما مال ، فقال : » يقضي الله في ذلك « فنزلت آية الميراث ، فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى عمهما فقال : » أعط ابنتي سعد الثلثين ، وأمهما الثمن ، وما بقي فهو لك « » .
فقوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } أي يأمركم بالعدل فيهم ، فإن أهل الجاهلية كانوا يجعلون جميع الميراث للذكر دون الإناث ، فأمر الله تعالى بالتسوية بينهم في أصل الميراث ، وفاوت بين الصنفين ، فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وذلك لاحتياج الرجل إلى مؤنة النفقة والكلفة ، ومعاناة التجارة والتكسب ، وتحمل المشاق فناسب أن يعطي ضعفي ما تأخذه الأنثى ، وقد استنبط بعض الأذكياء من قوله تعالى : { يُوصِيكُمُ الله في أَوْلاَدِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأنثيين } أنه تعالى أرحم بخلقه من الوالدة بولدها ، حيث أوصى الوالدين بأولادهم ، فعلم أنه أرحم بهم منهم . وقال البخاري عن ابن عباس : كان المال للولد ، وكانت الوصية للوالدين؛ فنسخ الله من ذلك ما أحب فجعل للذكر مثل حظ الأنثيين ، وجعل للأبوين لكل واحد منهما السدس والثلث ، وجعل للزوجة الثمن والربع ، وللزوج الشطر والربع ، وقال العوفي عن ابن عباس : لما نزلت الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر والأنثى والأبوين كرهها الناس أو بعضهم وقالوا : تعطى المرأة الربع أو الثمن ، وتعطى الابنة النصف ، ويعطى الغلام الصغير ، وليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم؛ ولا يحوز الغنيمة؛ اسكتوا عن هذا الحديث لعل رسول الله صلى الله عليه وسلم ينساه؛ أو نقول له فيغير! فقالوا : يا رسول الله تعطى الجارية نصف ما ترك أبوها؛ وليست تركب الفرس؛ ولا تقاتل القوم ، ويعطى الصبي الميراث وليس يغني شيئاً؛ وكانوا يفعلون ذلك في الجاهلية؛ لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم؛ ويعطونه الأكبر فالأكبر ، فنزلت الآية .(1/453)
وقوله : { فَإِن كُنَّ نِسَآءً فَوْقَ اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } قال بعض الناس : قوله « فوق » زائدة ، وتقديره فإن كن نساء اثنتين كما في قوله : { فاضربوا فَوْقَ الأعناق } [ الأنفال : 12 ] وهذا غير مسلَّم لا هنا ولا هناك ، فإنه ليس في القرآن شيء زائد لا فائدة فيه . وهذا ممتنع ، ثم قوله : { فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ } لو كان المراد ما قالوه لقال فلهما ثلثا ما ترك : وإنما استفيد كون الثلثين للبنتين من حكم الأختين في الآية الأخيرة ، فإنه تعالى حكم فيها للأختين بالثلثين . وإذا ورث الأختان الثلثين فلأن يرث البنتان الثلثين بالطريق الأولى ، وقد تقدم في حديث جابر أن النبي صلى الله عليه وسلم حكم لابنتي سعد بن الربيع بالثلثين فدل الكتاب والسنة على ذلك ، وأيضاً فإنه قال : { وَإِن كَانَتْ وَاحِدَةً فَلَهَا النصف } ، فلو كان للبنتين النصف لنص عليه أيضاً لما حكم به للواحدة على انفرادها؛ دل على أن البنتين في حكم الثلاث والله أعلم . وقوله تعالى : { وَلأَبَوَيْهِ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس } إلى آخره ، الأبوان لهما في الإرث أحوال : ( أحدها ) أن يجتمعا مع الأولاد فيفرض لكل واحد منهما السدس فإن لم يكن للميت إلا بنت واحدة ، فرض لها النصف ، وللأبوين لكل واحد منهما السدس؛ وأخذ الأب السدس الآخر بالتعصيب فيجمع له والحالة هذه بين الفرض والتعصيب ( الحال الثاني ) : أن ينفرد الأبوان بالميراث ، فيفرض للأم الثلث والحالة هذه أخذ الأب الباقي بالتعصيب المحض؛ فيكون قد أخذ ضعفي ما حصل للأم وهو الثلثان ، فلو كان معهما زوج أو زوجة ويأخذ الزوج النصف والزوجة الربع . ثم اختلف العلماء : ماذا تأخذ الأم بعد ذلك ، على ثلاثة أقوال : ( أحدها ) : أنها تأخذ ثلث الباقي في المسألتين؛ لأن الباقي كأنه جميع الميراث بالنسبة إليهما ، وقد جعل الله لها نصف ما جعل للأب ، فتأخذ ثلث الباقي ويأخذ الأب الباقي ثلثيه؛ هذا قول عمر وعثمان؛ وبه يقول ابن مسعود وزيد بن ثابت ، وهو قول الفقهاء السبعة والأئمة الأربعة وجمهور العلماء ( والثاني ) : أنها تأخذ ثلث جميع المال لعموم قوله : { فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُمِّهِ الثلث } ، فإن الآية أعم من أن يكون معها زوج أو زوجة أو لا؛ وهو قول ابن عباس ، وهو ضعيف .(1/454)
( والقول الثالث ) : أنها تأخذ ثلث جميع المال في ( مسألة الزوجة ) خاصة ، فإنها تأخذ الربع وهو ثلاثة من اثني عشر ، وتأخذ الأم الثلث وهو أربعة ، فيبقى خمسة للأب ، وأما في ( مسألة الزوج ) فتأخذ ثلث الباقي لئلا تأخذ أكثر من الأب لو أخذت ثلث المال ، فتكون المسألة من ستة : للزوج النصف ثلاثة وللأم ثلث الباقي بعد ذلك وهو سهم وللأب الباقي بعد ذلك وهو سهمان . ويحكى هذا عن ابن سيرين ، وهو مركب من القولين الأولين ، وهو ضعيف أيضاً والصحيح الأول والله أعلم ( والحال الثالث ) من أحوال الأبوين وهو اجتماعهما مع الأخوة ، سواء كانوا من الأبوين أو من الأب أو من الأم ، فإنهم لا يرثون مع الأب شيئاً ولكنهم مع ذلك يحجبون الأم عن الثلث إلى السدس ، فيفرض لها مع وجودهم السدس ، فإن لم يكن وارث سواها وسوى الأب أخذ الأب الباقي ، وحكم الأخوين فيما ذكرناه كحكم الأخوة عند الجمهور .
وقوله : { فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السدس } أضروا بالأم ولا يرثون ، ولا يحجبها الأخر الواحد عن الثلث ويحجبها ما فوق ذلك ، وكان أهل العلم يرون أنهم إنما حجبوا أمهم عن الثلث أن أباهم يلي إنكاحهم ونفقتهم عليهم دون أمهم ، وهذا كلام حسن .
وقوله { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } أجمع العلماء من السلف والخلف على أن الدين مقدم على الوصية ، وذلك عند إمعان النظر يفهم من فحوى الآية الكريمة ، وروى أحمد والترمذي عن علي بن أبي طالب قال : إنكم تقرأون { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِهَآ أَوْ دَيْنٍ } وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى بالدين قبل الوصية ، وإن أعيان بني الأم يتوارثون دون بني العلات ، يرث الرجل أخاه لأبيه وأمه دون أخيه لأبيه .
وقوله : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } أي إنما فرضنا للآباء والأبناء ، وساوينا بين الكل في أصل الميراث ، على خلاف ما كان عليه الأمر في الجاهلية ، لأن الإنسان قد يأتيه النفع الدنيوي أو الأخروي أو هما من أبيه ما لا يأتيه من ابنه ، وقد يكون بالعكس ولذا قال : { آبَآؤُكُمْ وَأَبناؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً } أي أن النفع متوقع ومرجو من هذا كما هو متوقع ومرجو من الآخر ، فلهذا فرضنا لهذا وهذا ، وساوينا بين القسمين في أصل الميراث ، والله أعلم .
وقوله : { فَرِيضَةً مِّنَ الله } أي هذا الذي ذكرناه من تفصيل الميراث وإعطاء بعض الورثة أكثر من بعض هو فرض من الله حكم به وقضاه ، والله عليم حكيم ، الحكيم : الذي يضع الأشياء في محالها ويعطي كلاً ما يستحقه بحسبه ، ولهذا قال : { إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً حَكِيماً } .(1/455)
وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أَزْوَاجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَإِنْ كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلَالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذَلِكَ فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصَى بِهَا أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)
يقول تعالى : ولكم أيها الرجال نصف ما ترك أزواجكم إذا متن عن غير ولد ، فإن كان لهن ولد فلكم الربع مما تركن من بعد الوصية أو الدين ، وقد تقدم أن الدين مقدم على الوصية ، وبعده الوصية ثم الميراث ، وهذا أمر مجمع عليه بين العلماء وحكم أولاد البنين وإن سفلوا حكم أولاد الصلب ، ثم قال : { وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ } إلى آخره ، وسواء في الربع أو الثمن الزوجة والزوجتان الاثنتان ، والثلاث والأربع يشتركن فيه . وقوله : { مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ } الخ . الكلام عليه كما تقدم . وقوله تعالى : { وَإِن كَانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلاَلَةً } الكلالة : مشتقة من الإكليل ، وهو الذي يحيط بالرأس من جوانبه ، والمراد هنا من يرثه من حواشيه لا أصوله ولا فروعه ، كما روى الشعبي عن أبي بكر الصديق أنه سئل عن الكلالة فقال : أقول فيها برأيي فإن يكن صواباً فمن الله ، وإن يكن خطأ فمني ومن الشيطان ، والله ورسوله بريئان منه : الكلالة من لا ولد له ولا والد . فلما ولي عمر قال : إني لأستحي أن أخالف أبا بكر في رأي رآه ، كذا رواه ابن جرير وغيره ، وهو قول الأئمة الأربعة وجمهور السلف والخلف وقد حكى الإجماع عليه غير واحد .
وقوله تعالى : { وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ } أي من أم كما هو في قراءة ( سعد بن أبي وقاص ) . وكذا فسرها أبو بكر الصديق : { فَلِكُلِّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا السدس فَإِن كانوا أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث } وإخوة الأم يخالفون بقية الورثة من وجوه : ( أحدها ) أنهم يرثون مع من أدلوا به وهي الأم ، ( والثاني ) أن ذكورهم وإناثهم في الميراث سواء ، ( والثالث ) لا يرثون إلا إن كان ميتهم يورث كلالة فلا يرثون مع أب ولا جد ولا ولد ولا ولد ابن ، ( الرابع ) أنهم لا يزادون على الثلث وإن كثر ذكورهم وإناثهم ، قضى عمر أن ميراث الأخوة من الأم بينهم للذكر مثل حظ الأنثى ، قال الزهري : ولا أرى عمر قضى بذلك حتىعلم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهذه الآية هي التي قال الله تعالى فيها : { فَإِن كانوا أَكْثَرَ مِن ذلك فَهُمْ شُرَكَآءُ فِي الثلث } واختلف العلماء في المسألة المشتركة وهي ( زوج وأم أو جدة واثنان من ولد الأم وواحد أو أكثر من ولد الأبوين ) ، فعلى قول الجمهور للزوج النصف ، وللأم أو الجدة السدس ، ولولد الأم الثلث ويشاركهم فيه ولد الأب والأم بما بينهم من القدر المشترك وهو أخوة الأم ، وقد وقعت هذه المسألة في زمان أمير المؤمنين عمر فأعطى الزوج النصف والأم السدس ، وجعل الثلث لأولاد الأم فقال له أولاد الأبوين : يا أمير المؤمنين هب أن أبانا كان حماراً ألسنا من أم واحدة؟ فشرك بينهم وهو مذهب مالك والشافعي .(1/456)
وكان علي بن أبي طالب لا يشرّك بينهم ، بل يجعل الثلث لأولاد الأم ، ولا شيء لأولاد الأبوين ، والحالة هذه لأنهم عصبة ، وقال وكيع بن الجراح : لم يُخْتلف عنه في ذلك ، وهذا قول أبي بن كعب ، وأبي موسى الأشعري وهو مذهب أبي حنيفة والإمام أحمد ، واختاره أبو الحسين بن اللبان الفرضي رحمه الله في كتاب الإيجاز .
وقوله : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ } أي لتكن وصيته على العدل لا على الإضرار والجور والحيف ، بأن يحرم بعض الورثة أو ينقصه ، أو يزيده على ما فرض الله له من الفريضة ، فمن سعى في ذلك كان كمن ضاد الله في حكمه وشرعه ، ولهذا قال ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « الإضرار في الوصية من الكبائر » ورواه ابن جرير عن ابن عباس موقوفاً ، قال : والصحيح الموقوف ، ولهذا اختلف الأئمة في الإقرار للوارث هل هو صحيح أم لا؟ على قولين ( أحدهما ) : لا يصح لأنه مظنة التهمة ، وقد ثبت في الحديث الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الله قد أعطى كل ذي حق حقه فلا وصية لوارث » ، وهذا مذهب مالك وأحمد بن حنبل وأبي حنيفة والقول القديم للشافعي رحمهم الله ، وذهب في الجديد إلى أنه يصح الإقرار ، وهو مذهب طاوس وعطاء وهو اختيار البخاري في صحيحه ، واحتج بأن رافع بن خديج أوصى أن لا تكشف الفزارية عما أغلق عليه بابها قال : وقال بعض الناس : لا يجوز إقراره لسوء الظن بالورثة ، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : « إياكم والظن فإن الظن أكذب الحديث » ، وقال الله تعالى : { إِنَّ الله يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤدُّواْ الأمانات إلى أَهْلِهَا } [ النساء : 58 ] فلم يخص وارثاً ولا غيره ، انتهى ما ذكره . فمتى كان الإقرار صحيحاً مطابقاً لما في نفس الأمر ، جرى فيه هذا الخلاف ، ومتى كان حيلة ووسيلة إلى زيادة بعض الورثة ونقصان بعضهم فهو حرام بالإجماع وبنص هذه الآية الكريمة : { غَيْرَ مُضَآرٍّ وَصِيَّةً مِّنَ الله والله عَلِيمٌ حَلِيمٌ } .(1/457)
تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُهِينٌ (14)
أي هذه الفرائض والمقادير التي جعلها الله للورثة ، بحسب قربهم من الميت واحتياجهم إليه وفقدهم له عند عدمه ، هي حدود الله فلا تعتدوها ولا تجاوزوها ، ولهذا قال : { وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ } أي فيها فلم يزد بعض الورثة ، ولم ينقص بعضهم بحيلة ووسيلة بل تركهم على حكم الله وفريضته وقسمته : { يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهار خَالِدِينَ فِيهَا وذلك الفوز العظيم * وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خَالِداً فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ } أي لكونه غيَّر ما حكم الله به ، وضاد الله في حكمه ، وهذا إنما يصدر عن عدم الرضا بما قسم الله وحكم به ، ولهذا يجازيه بالإهانة في العذاب الأليم المقيم . عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الرجل ليعمل بعمل أهل الخير سبعين سنة ، فإذا أوصى وحاف في وصيته فيختم له بشر عمله فيدخل النار ، وإن الرجل ليعمل بعمل أهل الشر سبعين سنة فيعدل في وصيته فيختم له بخير عمله فيدخل الجنة » ، قال ، ثم يقول أبو هريرة : اقرأوا إن شئتم : { تِلْكَ حُدُودُ الله } إلى قوله : { عَذَابٌ مُّهِينٌ } وقال أبو داود في باب الإضرار في الوصية عن شهر بن حوشب أن أبا هريرة حدثه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن الرجل ليعمل أو المرأة بطاعة الله ستين سنة ثم يحضرهما الموت فيضران في الوصية فتجب لهما النار » وقال : قرأ عليَّ أبو هريرة من هاهنا : { مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَآ أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَآرٍّ } - حتى بلغ - { وذلك الفوز العظيم } .(1/458)
وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا (15) وَاللَّذَانِ يَأْتِيَانِهَا مِنْكُمْ فَآذُوهُمَا فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا (16)
كان الحكم في ابتداء الإسلام أن المرأة إذا ثبت زناها بالبينة العادلة ، حبست في بيت فلا تمكن من الخروج منه إلى أن تموت ، ولهذا قال : { واللاتي يَأْتِينَ الفاحشة } يعني الزنا { مِن نِّسَآئِكُمْ فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعةً مِّنْكُمْ فَإِن شَهِدُواْ فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ سَبِيلاً } فالسبيل الذي جعله الله هو الناسخ لذلك ، قال ابن عباس رضي الله عنه : كان الحكم كذلك حتى أنزل الله سورة النور فنسخها بالجلد أو الرجم؛ وهو أمر متفق عليه ، روى مسلم وأصحاب السنن عن عبادة بن الصامت عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : « خذوا عني خذوا عني؛ قد جعل الله لهن سبيلاً؛ البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام؛ والثب بالثيب جلد مائة والرجم » وقد روى الإمام أحمد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال : « خذوا عني خذوا عني؛ قد جعل الله لهن سبيلاً؛ البكر بالبكر جلد مائة ونفي سنة؛ والثيب بالثيب جلد مائة والرجم » وقد ذهب الإمام أحمد بن حنبل إلى القول بمقتضى هذا الحديث ، وهو الجمع بين الجلد والرجم في حق الثيب الزاني ، وذهب الجمهور إلى أن الثيب الزاني إنما يرجم فقط من غير جلد ، قالوا : لأن النبي صلى الله عليه وسلم رجم ماعزاً والغامدية واليهوديين ، ولم يجلدهم قبل ذلك فدل على أن الجلد ليس بحتم ، بل هو منسوخ على قولهم ، والله أعلم .
وقوله تعالى : { واللذان يَأْتِيَانِهَا مِنكُمْ فَآذُوهُمَا } أي واللذان يفعلان الفاحشة فآذوهما ، قال ابن عباس : أي بالشتم والتعيير والضرب بالنعال ، وكان الحكم كذلك حتى نسخة الله بالجلد أو الرجم ، وقال مجاهد : نزلت في الرجلين إذا فعلا اللواط ، وقد روى أهل السنن عن ابن عباس مرفوعاً قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « من رأيتموه يعمل علم قوم لوط فاقتلوا الفاعل والمفعول به » وقوله { فَإِن تَابَا وَأَصْلَحَا } أي أقلعا ونزعا عما كانا عليه وصلحت أعمالهما وحسنت : { فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَآ } أي لا تعنفوهما بكلام قبيح بعد ذلك ، لأن التائب من الذنب كمن لا ذنب له : { إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً } ، وقد ثبت في الصحيحين « إذا زنت أمة أحدكم فليجلدها الحد ولا يثرب عليها » أي لا يعيرها بما صنعت بعد الحد الذي هو كفارة لما صنعت .(1/459)
إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا (17) وَلَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ حَتَّى إِذَا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قَالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَلَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَهُمْ كُفَّارٌ أُولَئِكَ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا (18)
يقول سبحانه وتعالى : إنما يقبل الله التوبة ممن عمل السوء بجهالة ثم يتوب قبل الغرغرة ، قال مجاهد : كل من عصى الله خطأ أو عمداً فهو جاهل حتى ينزع عن الذنب ، وقال قتادة : كان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يقولون : كل ذنب أصابه عبد فهو جهالة ، وقال ابن عباس : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } قال : ما بينه وبين أن ينظر إلى ملك اموت . وقال الضحاك : ما كان دون الموت فهو قريب ، وقال قتادة والسدي : ما دام في صحته ، وقال الحسن البصري : { ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } ، ما لم يغرغر ، ( ذكر الأحاديث في ذلك ) : قال الإمام أحمد عن ابن عمر عن النبي صلى الله عليه وسلم ، قال : « إن الله يقبل توبة العبد ما لم يغرغر » ( حديث آخر ) : قال ابن مردويه عن عبد الله بن عمر ، سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : « ما من عبد مؤمن يتوب قبل الموت بشهر إلا قبل الله منه أدنى من ذلك؛ وقيل موته بيوم وساعة يعلم الله منه التوبة والإخلاص إليه إلا قبل منه » ( وحديث آخر ) : قال أبو داود الطيالسي عن عبد الله بن عمر ، يقول : من تاب قبل موته بعام تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بشهر تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بجمعة تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بيوم تيب عليه ، ومن تاب قبل موته بساعة تيب عليه ، فقلت له : إنما قال الله : { إِنَّمَا التوبة عَلَى الله لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السواء بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ } فقال إنما أحدثك ما سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم . ( حديث آخر ) : قال أبو بكر بن مردويه : عن أبي هريرة قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « إن الله يقبل توبة عبده ما لم يغرغر » .(1/460)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهًا وَلَا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئًا وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْرًا كَثِيرًا (19) وَإِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدَالَ زَوْجٍ مَكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَارًا فَلَا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئًا أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا (20) وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أَفْضَى بَعْضُكُمْ إِلَى بَعْضٍ وَأَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا (21) وَلَا تَنْكِحُوا مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِنَ النِّسَاءِ إِلَّا مَا قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتًا وَسَاءَ سَبِيلًا (22)
روى البخاري عن ابن عباس : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } ، قال : كانوا إذا مات الرجل كان أولياؤه أحق بامرأته إن شاء بعضهم تزوجها وإن شاءوا زوجوها ، وإن شاءوا لم يزوجوها فهم أحق بها من أهلها ، فنزلت هذه الآية : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } هكذا ذكره البخاري وأبو داود والنسائي . وروي عن ابن عباس : كانت المرأة في الجاهلية إذا توفي عنها زوجها فجاء رجل فألقى عليها ثوباً كان أحق بها ، فنزلت : { يَا أَيُّهَا الذين آمَنُواْ لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } وقال زيد بن أسلم في الآية : كان أهل يثرب إذا مات الرجل منهم في الجاهلية ورث امرأته من يرث ماله وكان يعضلها حتى يرثها ، أو يزوجها من أراد ، وكان أهل تهامة يسيء الرجل صحبة المرأة حتى يطلقها ، ويشترط عليها أن لا تنكح إلا من أراد حتى تفتدي منه ببعض ما أعطاها فنهى الله المؤمنين عن ذلك . وقال أبو بكر بن مردويه عن محمد ابن أبي أمامة بن سهل بن حنيف عن أبيه قال : لما توفي أبو قيس بن الأسلت أراد ابنه أن يتزوج امرأته وكان لهم ذلك في الجاهلية فأنزل الله : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } ، وقال ابن جريج : نزلت في ( كبيشة بنت معن بن عاصم بن الأوس ) توفي عنها أبو قيس بن الأسلت فجنح عليها ابنه جاءت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت يا رسول الله : لا أنا ورثت زوجي ولا أنا تركت فأنكح ، فأنزل الله هذه الآية . فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية وكل ما كان فيه نوع من ذلك والله أعلم .
وقوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ } أي لا تضاروهن في العشرة لتترك لك ما أصدقتها أو بعضه أو حقاً من حقوقها عليك ، أو شيئاً من ذلك على وجه القهر لها والإضرار ، وقال ابن عباس في قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } ، يقول : ولا تقهروهن { لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ } يعني الرجل تكون له المرأة وهو كاره لصحبتها ولها عليه مهر فيضرها لتفتدي به ، وكذا قال الضحاك وقتادة وغير واحد . واختاره ابن جرير ، وقال ابن المبارك عن ابن السلماني قال : نزلت هاتان الآيتان إحداهما في أمر الجاهلية ، والأخرى في أمر الإسلام يعني قوله تعالى : { لاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَرِثُواْ النسآء كَرْهاً } في الجاهلية ، { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ } في الإسلام ، وقوله : { إِلاَّ أَن يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُّبَيِّنَةٍ } قال ابن مسعود ، وابن عباس : يعني بذلك الزنا ، يعني إذا زنت فلك أن تسترجع منها الصداق الذي أعطيتها ، وتضاجرها حتى تتركه لك وتخالعها كما قال تعالى :(1/461)
{ وَلاَ يَحِلُّ لَكُمْ أَن تَأْخُذُواْ مِمَّآ آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَن يَخَافَآ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله } [ البقرة : 229 ] الآية ، وقال ابن عباس وعكرمة والضحاك : الفاحشة المبينة النشوز والعصيان واختار ابن جرير أنه يعم ذلك كله الزنا والعصيان ، والنشوز وبذاء اللسان ، وغير ذلك يعني أن كله يبيح مضاجرتها حتى تبرئه من حقها أو بعضه ويفارقها ، وهذا جيد والله أعلم .
وهذا يقتضي أن يكون السياق كله كان في أمر الجاهلية ولكن نهي المسلمون عن فعله في الإسلام : وقال عبد الرحمن بن زيد : كان العضل في قريش بمكة : ينكح الرجل المرأة الشريفة ، فلعلها لا توافقه فيفارقها على أن لا تتزوج إلا بإذنه ، فيأتي بالشهود فيكتب ذلك عليها ويشهد ، فإذا جاء الخاطب ، فإن أعطته وأرضته أذن لها وإلا عضلها ، قال فهذا قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ } الآية . وقال مجاهد في قوله : { وَلاَ تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُواْ بِبَعْضِ مَآ آتَيْتُمُوهُنَّ } هو كالعضل في سورة البقرة ، وقوله تعالى : { وَعَاشِرُوهُنَّ بالمعروف } أي طيبوا أقوالكم لهن وحسنوا أفعالكم وهيئاتكم بحسب قدرتكم ، كما تحب ذلك منها فافعل أنت بها مثله ، كما قال تعالى : { وَلَهُنَّ مِثْلُ الذي عَلَيْهِنَّ بالمعروف } [ البقرة : 228 ] ، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : « خيركم خيركم لأهله؛ وأنا خيركم لأهلي » وكان من أخلاقه صلى الله عليه وسلم أن جميل العشرة ، دائم البشر؛ يداعب أهله؛ ويتلطف بهم ويوسعهم نفقته ، ويضاحك نساءه حتى أنه كان يسابق عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها يتودّد إليها بذلك ، قالت : سابقني رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبقته وذلك قبل أن أحمل اللحم ، ثم سابقته بعد ما حملت اللحم فسبقني ، فقال : « هذه بتلك » . ويجمع نساءه كل ليلة في بيت التي يبيت عندها رسول الله صلى الله عليه وسلم فيأكل معهن العشاء في بعض الأحيان ، ثم تنصرف كل واحدة إلى منزلها ، وكان ينام مع المرأة من نسائه في شعار واحد ، يضع عن كتفيه الرداء وينام بالإزار ، وكان إذا صلى العشاء يدخل منزله يسمر مع أهله قليلاً قبل أن ينام يؤانسهم بذلك صلى الله عليه وسلم ، وقد قال الله تعالى : { لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ } [ الأحزاب : 21 ] ، وأحكام عشرة النساء وما يتعلق بتفصيل ذلك موضعه كتب الأحكام ، ولله الحمد .
وقوله تعالى : { فَإِن كَرِهْتُمُوهُنَّ فعسى أَن تَكْرَهُواْ شَيْئاً وَيَجْعَلَ الله فِيهِ خَيْراً كَثِيراً } ، أي فعسى أن يكون صبركم في إمساكهن مع الكراهة ، فيه خير كثير لكم في الدنيا والآخرة ، كما قال ابن عباس : هو أن يعطف عليها فيرزق منها ولداً ، ويكون في ذلك الولد خير كثير ، وفي الحديث الصحيح : « لا يفرك مؤمن مؤمنة إن سخط منها خلقاً رضي منها آخر » .
وقوله تعالى : { وَإِنْ أَرَدْتُّمُ استبدال زَوْجٍ مَّكَانَ زَوْجٍ وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً فَلاَ تَأْخُذُواْ مِنْهُ شَيْئاً أَتَأْخُذُونَهُ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُّبِيناً } أي إذا أراد أحدكم أن يفارق امرأة ويستبدل مكانها غيرها ، فلا يأخذ مما كان أصدق الأولى شيئاً ولو كان قنطاراً من المال ، وفي هذه الآية دلالة على جواز الإصداق بالمال الجزيل ، وقد كان عمر بن الخطاب نهى عن كثرة الإصداق ثم رجع عن ذلك كما قال الإمام أحمد عن عمر بن الخطاب يقول : ألا لا تغالوا في صداق النساء ، فإنها لو كانت مكرمة في الدنيا أو تقوى عند الله كان أولاكم بها النبي صلى الله عليه وسلم ، ما أصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم امرأة من نسائه ولا أصدقت امرأة من بناته أكثر من اثنتي عشرة أوقية .(1/462)
( طريق أخرى عن عمر ) : قال الحافظ أبو يعلى عن الشعبي عن مسروق قال : ركب عمر بن الخطاب منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال : أيها الناس ما إكثاركم في صداق النساء!! وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه والصدقات فيما بينهم أربعمائة درهم؛ فما دون ذلك . ولو كان الإكثار في ذلك تقوى عند الله أو كرامة لم تسبقوهم إليها . فلأعرفن ما زاد رجل في صداق امرأة على أربعمائة درهم . قال : ثم نزل . فاعترضته امرأة من قريش فقالت : يا أمير المؤمنين نهيت الناس عن يزيدوا في مهر النساء على اربعمائة درهم؟ قال : نعم ، فقالت أما سمعت ما أنزل الله في القرآن؟ قال : وأي ذلك؟ فقالت : أما سمعت الله يقول : { وَآتَيْتُمْ إِحْدَاهُنَّ قِنْطَاراً } الآية . قال : اللهم غفراً ، كل الناس أفقه من عمر . ثم رجع فركب المنبر فقال : أيها الناس إني كنت نهيتكم أن تزيدوا النساء في صدقاتهن على أربعمائة درهم ، فمن شاء أن يعطي من ماله ما أحب . قال أبو يعلى : وأظنه قال : فمن طابت نفسه فليفعل إسناده جيد قوي . وفي رواية : امرأة أصابت ورجل أخطأ ، ولهذا قال منكراً : { وَكَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَقَدْ أفضى بَعْضُكُمْ إلى بَعْضٍ } أي وكيف تأخذون الصداق من المرأة وقد أفضيت إليها وافضت إليك قال ابن عباس : يعني بذلك الجماع . وقد ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للمتلاعنين بعد فراغهما من تلاعنهما : « » الله يعلم أن أحدكما كاذب ، فهل منكما تائب « قالها ثلاثاً فقال الرجل : يا رسول الله مالي - يعني ما أصدقها - قال : » لا مال لك إن كنت صدقت فهو بما استحللت من فرجها ، وإن كنت كذبت عليها فهو أبعد لك منها « » .
وقوله تعالى : { وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } المراد بذلك العقد ، وقال سفيان الثوري في قوله : { وَأَخَذْنَ مِنكُم مِّيثَاقاً غَلِيظاً } قال : إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ، وقال الربيع بن أنس في الآية : هو قوله : « أخذتموهن بأمانة الله ، وأستحللتم فروجهن بكلمة الله » ، وفي صحيح مسلم عن جابر في خطبة حجة الوداع : أن النبي صلى الله عليه وسلم قال فيها :(1/463)
« واستوصوا بالنساء خيراً فإنكم أخذتموهن بأمانة الله ، واستحللتم فروجهن بكلمة الله » .
وقوله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } الآية ، يحرم الله تعالى زوجات الآباء تكرمة لهم ، وإعظاماً واحتراماً أن توطأ من بعده ، حتى إنها لتحرم على الابن بمجرد العقد عليها ، وهذا أمر مجمع عليه . قال ابن أبي حاتم عن عدي بن ثابت عن رجل من الأنصار قال : لما توفي أبو قيس - يعني ابن الأسلت - وكان من صالحي الأنصار ، فخطب ابنه قيس امرأته فقالت : إنما أعدُّك ولداً وأنت من صالحي قومك ، ولكني آتي رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقالت : « إن أبا قيس توفي فقال : » خيراً « ، ثم قالت : إن ابنه قيساً خطبني وهو من صالحي قومه ، وإنما كنت أعدُّه ولداً فما ترى؟ فقال لها : » ارجعي إلى بيتك « قال فنزلت : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } » الآية . وقد زعم السهيلي أن نكاح نساء الآباء كان معمولاً به في الجاهلية ، ولهذا قال : { إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } ، كما قال : { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين إِلاَّ مَا قَدْ سَلَفَ } [ النساء : 23 ] قال : وقد فعل ذلك كنانة بن خزيمة ، تزوج بامرأة أبيه فأولدها ابنه النضر بن كنانة ، قال : وقد قال صلى الله عليه وسلم : « ولدت من نكاح لا من سفاح » قال : فدل على أنه كان سائغاً لهم ذلك ، فأراد أنهم كانوا يعدونه نكاحاً؛ وعن ابن عباس قال : كان أهل الجاهلية يحرمون ما حرم الله إلا امرأة الأب والجمع بين الأختين ، فأنزل الله تعالى : { وَلاَ تَنكِحُواْ مَا نَكَحَ آبَاؤُكُمْ مِّنَ النسآء } ، { وَأَن تَجْمَعُواْ بَيْنَ الأختين } [ النساء : 23 ] ، وهكذا قال عطاء وقتادة ، ولكن فيما نقله السهيلي من قصة كنانة نظر والله أعلم ، وعلى كل تقدير فهو حرام في هذه الأمة ، مبشع غاية التبشع ولهذا قال تعالى : { إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَمَقْتاً وَسَآءَ سَبِيلاً } ، وقال : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الفواحش مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } [ الأنعام : 151 ] ، وقال : { وَلاَ تَقْرَبُواْ الزنى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَآءَ سَبِيلاً } [ الإسراء : 32 ] ، فزاد هاهنا : { وَمَقْتاً } أي بغضاً أي هو أمر كبير في نفسه ، ويؤدي إلى مقت الأبن أباه بعد أن يتزوج بامرأته ، فإن الغالب أن من تزوج بامرأة يبغض من كان زوجها قبله ، ولهذا حرمت أمهات المؤمنين على الأمة لأنهن أمهات لكونهن زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهو كالأب ، بل حقه أعظم من حق الآباء بالإجماع ، بل حبه مقدم على حب النفوس صلوات الله وسلامه عليه .
وقال عطاء في قوله تعالى : { وَمَقْتاً } أي يمقت الله عليه ، { وَسَآءَ سَبِيلاً } أي وبئس طريقاً لمن سلكه من الناس ، فمن تعاطاه بعد هذا فقد ارتد عن دينه ، فيقتل ويصير ماله فيئاً لبيت المال ، كما رواه الإمام أحمد وأهل السنن عن البراء بن عازب عن خاله أبي بردة : أنه بعثه رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى رجل تزوج امرأة أبيه من بعده أن يقتله ويأخذ ماله ، وقال الإمام أحمد عن البراء بن عازب قال : مر بي عمي ( الحارث بن عمير ) ومعه لواء قد عقده له النبي صلى الله عليه وسلم فقلت له : أي عم أين بعثك النبي؟ قال : بعثني إلى رجل تزوج امرأة أبيه فأمرني أن أضرب عنقه .(1/464)