? وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (34) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ(5/54)
الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (37) وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِن أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِن بَسَطتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31) ? .(5/55)
عن مجاهد في قول الله : ? إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً ? ، قال : ابني آدم هابيل وقابيل لصُلب آدم ، فقرّب أحدهما شاةً ، وقرّب الآخر بقلاً ، فقبل من صاحب الشاة ، فقتله صاحبه .
قال البغوي : وقال محمد بن إسحاق عن بعض أهل العلم بالكتاب الأول: إن آدم كان يغشى حواء في الجنة قبل أن يصيب الخطيئة ، فحملت فيها بقابيل وتوأمته أقليما فلم تجد عليهما وحمًا ولا وصبًا ولا طلقًا حتى ولدتهما ، ولم تر معهما دمًا ، فلما هبط إلى الأرض تغشّاها فحملت بهابيل وتوأمته ، فوجدت عليهما الوحم ، والوصب ، والطلق ، وكان آدم إذا شبّ أولاده يزوج غلام هذا البطن جارية بطن أخرى ، فكان الرجل منهم يتزوج أية أخواته شاء إلا توأمته التي ولدت معه ، لأنه لم يكن يومئذٍ نساء إلا أخواتهم ، فلما ولد قابيل وتوأمته أقليما ثم هابيل وتوأمته لبودا ، وكان بينهما سنتان - في قول الكلبي - وأدركوا ، أمرَ الله تعالى آدم عليه السلام أن ينكح قابيل لبودا أخت هابيل ، وينكح هابيل أقليما أخت قابيل ، وكانت أخت قابيل أحسن من أخت هابيل ، فذكر ذلك آدم لولده فرضي هابيل وسخط قابيل ، وقال : هي أختي أنا أحق بها ، ونحن من ولادة الجنة ، وهما من ولادة الأرض ، فقال له أبوه : إنها لا تحل لك ، فأبى أن يقبل ذلك ، وقال : إن الله لم يأمره بهذا ، وإنما هو من رأيه ، فقال لهما آدم عليه السلام : فقرّبا قربانًا ، فأيّكما يقبل قربانه فهو أحقّ بها ، وكانت القرابين إذا كانت مقبولة نزلت نار من السماء بيضاء فأكلتها ، وإذا لم تكن مقبولة لم تنزل النار ، وأكلته الطير والسباع ؛ فخرجا ليقرّبا قربانًا ، وكان قابيل صاحب زرع ، فقرّب صبرة من طعام من أردأ زرعه ، وأضمر في نفسه : ما أبالي يقبل مني أم لا ، لا يتزوج أختي أبدًا ، وكان هابيل صاحب غنم ، فعمد إلى أحسن كبش في غنمه فقرّب به ، وأضمر في نفسه رضا الله عز وجل ، فوضعا قربانهما على الجبل ، ثم دعا آدم عليه السلام ، فنزلت نار من(5/56)
السماء وأكلت قربان هابيل ، ولم تأكل قربان قابيل ، فذلك قوله عز وجل : ? فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا ? ، يعني : هابيل ، ? وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الآخَرِ ? ، يعني : قابيل ، فنزلوا على الجبل وقد غضب قابيل لردّ قربانه ، وكان يضمر الحسد في نفسه ، إلى أن أتى آدم مكة لزيارة البيت ، فلما غاب آدم أتى قابيلُ هابيلَ وهو في غنمه ، قال لأقتلنك قال : ولِمَ ؟ قال : لأن الله تعالى قبل قربانك وردّ قرباني ، وتنكح أختي الحسناء ، وأنكح أختك الدميمة ، فيتحدث الناس أنك خير مني ، ويفتخر ولدك على ولدي . قال هابيل : وما ذنبي ؟ ? إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِن بَسَطتَ ? ، أي : مددت ? إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَاْ بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لَأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ ? .
قال عبد الله بن عمرو : وأيم الله إن كان المقتول لأشد الرجلين ، ولكن منعه التحرج أن يبسط إلى أخيه يده ؛ وهنا في الشرع جائز لمن أريد قتله أن ينقاد ويستسلم طلبًا للأجر ، كما فعل عثمان رضي الله عنه . انتهى .
وقوله : ? إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ ? ، عن قتادة : قوله : ? إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ ? ، يقول : بقتلك إياي ، ? وَإِثْمِكَ ? قبل ذلك . وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا تُقتل نفس ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها ، لأنه كان أول من سنّ القتل » .
وقوله تعالى :? فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? عن مجاهد : ? فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ ? ، قال : شجعت .(5/57)
وقوله تعالى : ? فَبَعَثَ اللّهُ غُرَاباً يَبْحَثُ فِي الأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ? ، قال مجاهد : بعث الله غرابًا يبحث في الأرض ، حتى حفر لآخر ميت إلى جنبه فغيّبه ، وابن آدم القاتل ينظر إليه فقال : يَا ويلتي أعجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوءة أخي فأصبح من النادمين ، قال الحسن البصري : علاه الله بندامة بعد خسران .
قوله عز وجل : ? مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32) ? .
عن قتادة : قوله : ? مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ َنفْسٍ ? الآية ، من قتلها على غير نفس ، ولا فساد أفسدته ، ? فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً ? عظّم - والله - أجرها وعظّم أزرها ، فأحيها يا ابن آم بمالك ، وأحيها بعفوك إن استطعت ، ولا قوة إلا بالله ، وإنا لا نعلمه يحلّ دم رجل مسلم من أهل هذه القبلة إلا بإحدى ثلاث : رجل كفر بعد إسلامه فعليه القتل ، أو زنى بعد إحصانه فعليه الرجم ، أو قتل متعمدًا فعليه القود . وقال سليمان بن علي : قلت للحسن : يا أبا سعيد أهي لنا كما كانت لبني إسرائيل ؟ قال : إي والذي لا إله غيره ، ما كانت دماء بني إسرائيل أكرم على الله من دمائنا .(5/58)
قوله عز وجل : ? إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تَابُواْ مِن قَبْلِ أَن تَقْدِرُواْ عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (34) ? .
عن الحسن : ? إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ? ، قال : نزلت في أهل الشرك . وعن زيد بن أبي حبيب : أن عبد الملك بن مروان كتب إلى أنس يسأله عن هذه الآية ، فكتب إليه أنس يخبره ، أن هذه الآية نزلت في أولئك النفر العرنيين وهم من بجيلة ، قال أنس : فارتدوا عن الإِسلام ، وقتلوا الراعي ، واستاقوا الإِبل ، وأخافوا السبيل ، وأصابوا الفرج الحرام .
وقال الوليد بن مسلم : قلت لمالك بن أنس : تكون محاربة في المِصْر ؟ قال : نعم ، والمحارب عندنا من حمل السلاح على المسلمين في مِصْرٍ أو خلاء ، فكان ذلك منه على غير ثائرة كانت بينهم ولا دخل ولا عداوة ، قاطعًا للسبيل والطريق والديار ، مختفيًا لهم بسلاحه ، فقتل أحدًا منهم ، قتله الإِمام كقتلة المحارب ، ليس لوليّ المقتول فيه عفو ولا قود .
وعن ابن عباس : قوله : ? إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ ? إلى قوله : ? أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ ? ، قال : إذا حارب فقتل فعليه القتل إذا ظهر عليه قبل توبته ، ولو حارب ، وأخذ المال ، وقتل فعليه الصلب إن ظهر عليه قبل توبته ، وإذا حارب ، ولم يقتل ، فعليه قطع اليد والرجل من خلاف إن ظهر عليه قبل توبته ، وإذا حارب ، وأخاف السبيل فإنما عليه النفي .
وقال أبو حنيفة : معنى النفي في هذا الموضع : الحبس .(5/59)
قال ابن جرير : وأولى الأقوال في ذلك عندي بالصواب قول من قال : معنى النفي عن الأرض في هذا الموضع هو نفيه من بلد إلى بلد غيره ، وحبسه في السجن في البلد الذي نفي إليه ، حتى يظهر توتبه من فسوقه ، ونزوعه من معصيته ربه .
وعن الشعبي : أن حارثة بن بدر خرج محاربًا فأخاف السبيل ، وسفك الدم ، وأخذ الأموال ، ثم جاء تائبًا من قبل أن يقدر عليه ، فقبل علي بن أبي طالب عليه السلام توبته وجعل له أمانًا منشورًا على ما كان أصاب من دم أو مال .
وقال الشافعي : تضع توبته عنه حق الله الذي وجب عليه بمحاربته ولا يسقط عنه حقوق بني آدم . وقال : فتحول إذا أعطاه الإمام أمانًا فهو آمن ، ولا يقام عليه حدّ ما كان أصاب .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ وَجَاهِدُواْ فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (37) ? .
عن أبي وائل : ? وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ? ، قال : القربة في الأعمال . وقال ابن زيد في قوله : ? وَابْتَغُواْ إِلَيهِ الْوَسِيلَةَ ? ، قال : المحبة تحبّبوا إلى الله ، وقرأ : ? أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ? . وعن جابر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « من قال حين يسمع النداء : اللهم رب هذه الدعوة التامة ، والصلاة القائمة ، آت محمدًا الوسيلة والفضيلة ، وابعثه مقامًا محمودًا الذي وعدته ، حلّت له شفاعتي يوم القيامة » . رواه أهل السنن .(5/60)
وقوله تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُواْ بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * يُرِيدُونَ أَن يَخْرُجُواْ مِنَ النَّارِ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ? ، عن عكرمة أن نافع بن الأزرق قال لابن عباس : يا أعمى البصر أعمى القلب ، تزعم أن قومًا يخرجون من النار ، وقد قال الله جل وعز : ? وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنْهَا ? ؟ ! فقال ابن عباس : ويحك ، اقرأ ما فوقها هذه للكفار .
قوله عز وجل : ? وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُواْ أَيْدِيَهُمَا جَزَاء بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (39) أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (40) ? .
عن إبراهيم : قال في قراءة عبد الله : { والسارقون والسارقات فاقطعوا أيديهما } .(5/61)
وقال الشعبي في قراءة عبد الله : { والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما } . وعن ابن عمر قال : ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قطع في مجنّ قيمته ثلاثة دراهم ) . وعن عائشة قالت : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « تقطع اليد في ربع دينار فصاعدًا » متفق عليهما . قال قتادة : لا تأووا لهم أن تقيموا فيهم الحدود ، فإنه والله ما أمر الله بأمر قط إلا وهو صلاح ولا نهى عن أمر قط إلا وهو فساد . وكان عمر بن الخطاب يقول : اشتدوا على السراق فاقطعوهم يدًا يدًا ، ورجلاً رجلاً . وعن عبد الله بن عمرو قال : سرقت امرأة حليًّا فجاء الذين سرقتهم فقالوا : يا رسول الله سرقتنا هذه المرأة فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اقطعوا يدها اليمنى » . فقالت المرأة : هل من توبة ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أنت اليوم من خطيئتك كيوم ولدتك أمك » ، قال : فأنزل الله جل وعز : ? فَمَن تَابَ مِن بَعْدِ ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? . رواه ابن جرير .
وقوله تعالى : ? أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? ، أي : هو المالك لجميع ذلك ، الحاكم الذي لا معقّب له ، يعذب من يشاء ويغفر لمن يشاء . قال ابن عباس : ? يُعَذِّبُ مَن يَشَاءُ ? على الصغيرة ? وَيَغْفِرُ لِمَن يَشَاءُ ? على الكبيرة ، ? وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس السابع والسبعون(5/62)
? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا(5/63)
أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)? .
* * *(5/64)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ وَمِنَ الَّذِينَ هِادُواْ سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِن بَعْدِ مَوَاضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ وَمَن يُرِدِ اللّهُ فِتْنَتَهُ فَلَن تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللّهِ شَيْئاً أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) ? .(5/65)
عن عبد الله بن كثير في قوله : ? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قَالُواْ آمَنَّا بِأَفْوَاهِهِمْ وَلَمْ تُؤْمِن قُلُوبُهُمْ ? . قال : هم المنافقون . وعن سعيد بن المسيب أن أبا هريرة قال : بينا نحن مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذ جاءه رجل من اليهود ، وكانوا قد أشاروا في صاحب لهم زنى بعد ما أحصن ، قال بعضهم لبعض : إن هذا النبي - صلى الله عليه وسلم - قد بعث ، وقد علمتم أن قد فرض عليكم الرجم في التوراة فكتمتوه واصطلحتم بينكم عقوبة دونه ، فانطلقوا فنسأل هذا النبي ، فإن أفتانا بما فرض علينا في التوراة من الرجم ، تركنا ذلك ، فقد تركنا ذلك في التوراة فهي أحق أن تطاع وتصدق . فأتوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : يا أبا القاسم ، إنه زنى صاحب لنا قد أحصن ، فما ترى عليه من العقوبة ؟ قال أبو هريرة : فلم يرجع إليهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى قام وقمنا معه ، فانطلق يؤمّ مدارس اليهود حتى أتاهم فوجدهم يتدارسون التوراة في بيت المدارس فقال لهم : « يا معشر اليهود أنشدكم بالله الذي أنزل التوراة على موسى ، ماذا تجدون في التوراة من العقوبة على من زنى وقد أحصن » ؟ قالوا : إنا نجده يحمّم ويجلد ، وسكت حبرهم في جانب البيت فلما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - صمته ألظّ به النشدة ، فقال حبرهم : اللهم إذ نشدتنا ، فإنا نجد عليهم الرجم . فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « فماذا كان أول ما ترخّصتم به أمر الله » ؟ قال : زنى ابن عم ملك فلم يرجمه ، ثم زنى رجل آخر في أسرة الناس ، فأراد ذلك الملك رجمه فقام دونه قومه فقالوا : والله لا ترجمه حتى ترجم فلانًا ابن عم الملك ، فاصطلحوا بينهم عقوبة دون الرجم وتركوا الرجم . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أقضي بما في التوراة » ، فأنزل الله في ذلك : ? يَا(5/66)
أَيُّهَا الرَّسُولُ لاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ ? إلى قوله : ? وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ? . رواه ابن جرير .
وعن البراء بن عازب : ? يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هَذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُواْ ? . يقولون : ائتوا محمدًا فإن أفتاكم بالتحميم والجد فخذوه ، وإن أفتاكم بالرجم فاحذروا .
وقوله تعالى : ? سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ ? ، قال الحسن : تلك الحكام سمعوا كذبة ، وأكلوا رشوة .(5/67)
وقوله تعالى : ? فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَإِن تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَن يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ ? . قال ابن زيد : كان في حكم حييّ بن أخطب : للنضريّ دِيتان ، وللقرظيّ دية ، لأنه كان من النضير . قال : وأخبر نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما في التوراة ، قال : ? وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ ? إلى آخر الآية ، فلما رأت ذلك قريظة ، لم يرضوا بحكم ابن أخطب ، فقالوا : نتحاكم إلى محمد فقال الله تبارك وتعالى:? فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ? فخيّره .? وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ? الآية كلها ؛ وكان الشريف إذا زنى بالدنيئة رجموها هي ، وحموا وجه الشريف ، وحملوه على البعير ، وجعلوا وجهه من قبل ذنب البعير ، وإذا زنى الدنيء بالشريفة رجموه ، وفعلوا بها هي ذلك ، فتحاكموا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فرجمهما . وعن الشعبي في قوله : ? فَإِن جَآؤُوكَ فَاحْكُم بَيْنَهُم أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ ? . قال : إذا جاءوا إلى حكام المسلمين ، فإن شاء حكم بينهم ، وإن شاء أعرض عنهم ، وإن حكم بينهم بما في كتاب الله . وعن مجاهد في قوله : ? وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ ? . قال : بالعدل . وعن ابن عباس : قوله : ? وَكَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَعِندَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللّهِ ? ،يعني : حدود الله ، فأخبر الله بحكمه في التوراة . وعن عبد الله بن كثير : ? ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِن بَعْدِ ذَلِكَ ? ، قال : تولّيهم ما تركوا من كتاب الله .(5/68)
قوله عز وجل : ? إِنَّا أَنزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ لِلَّذِينَ هَادُواْ وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ وَكَانُواْ عَلَيْهِ شُهَدَاء فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ (44) وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45) وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ (46) وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (47) ? .
عن عكرمة قوله : ? يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُواْ ? : النبي - صلى الله عليه وسلم - ومن قبله من الأنبياء ، يحكمون بما فيها من الحق .
وقوله تعالى : ? وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُواْ مِن كِتَابِ اللّهِ ? ، قال قتادة : الربانيون فقهاء اليهود ، والأحبار علماؤهم . ? فَلاَ تَخْشَوُاْ النَّاسَ وَاخْشَوْنِ وَلاَ تَشْتَرُواْ بِآيَاتِي ثَمَناً قَلِيلاً ? . قال السدي : لا تخشوا الناس فتكتموا ما أنزلت ،ولا تأخذوه طمعًا قليلاً على أن تكتموا ما أنزلت . وقال ابن زيد : ولا تأخذوا به رشوة .(5/69)
وقوله تعالى :? وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ?. قال ابن زيد : هم من حكم بكتابه الذي كتب بيده ، وترك كتاب الله ، وزعم أن كتابه هذا من عند الله ، فقد كفر . وعن طاوس عن ابن عباس : ? وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ ? . قال : هي به كفر ، وليس كفرًا بالله وملائكته وكتبه ورسله . وقال عطاء : كفر دون كفر ، وظلم دون ظلم ، وفسق دون فسق . وقال الحسن : نزلت في اليهود ، وهي علينا واجبة . وقال ابن عباس : من جحد ما أنزل الله فقد كفر ، ومن أقرّ به ولم يحكم فهو ظالم .(5/70)
وقوله : ? وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ فِيهَا أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَالْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَالأَنفَ بِالأَنفِ وَالأُذُنَ بِالأُذُنِ وَالسِّنَّ بِالسِّنِّ وَالْجُرُوحَ قِصَاصٌ فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ? . قال ابن عباس : كان على بني إسرائيل القصاص في القتل ، وليس بينهم دية في نفس ولا جرح ؛ قال : وذلك قول الله تعالى ذكره : ? وَكَتَبْنَا عَلَيْهِمْ ? في التوراة ، فخفّف الله عن أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، فجعل عليهم الدية في النفس والجراح ، وذلك تخفيف من ربكم ورحمة ؛ ? فَمَن تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَّهُ ? . قال الشعبي : كفارة لمن تصدق به . وعن أبي السفر قال : دفع رجل من قريش رجلاً من الأنصار فاندقّت ثنيته ، فرفعه الأنصاري إلى معاوية ، فلما ألحّ عليه الرجل قال معاوية : شأنك وصاحبك قال : وأبو الدرداء عند معاوية فقال أبو الدرداء : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « ما من مسلم يصاب بشيء من جسده فيهبه ، إلا رفعه الله به درجة وحطّ عنه به خطيئة » . فقال له الأنصاري : أنت سمعته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ؟ قال : سمعته أذناي ووعاه قلبي . فخلّي سبيل القرشيّ . فقال معاوية : مُروا له بمال . رواه ابن جرير . وقال مجاهد : إذا أصاب رجل رجلاً ، ولا يعلم المصاب من أصاب ، فاعترف له المصيب ، فهو كفارة للمصيب .(5/71)
وقوله تعالى : ? وَقَفَّيْنَا عَلَى آثَارِهِم ? ، أي : النبيين الذين أسلموا من قبلك يا محمد ? بِعَيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ? نبيًا مصدقًا لما بين يديه من التوراة ، ? وَآتَيْنَاهُ الإِنجِيلَ فِيهِ هُدًى وَنُورٌ وَمُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْرَاةِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ * وَلْيَحْكُمْ أَهْلُ الإِنجِيلِ بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فِيهِ ? ، أي : وأمرنا أهله أن يحكموا بما أنزل الله فيه ، ? وَمَن لَّمْ يَحْكُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ ? ، أي : المخالفون لأمر الله ، الخارجون عن طاعته .
قوله عز وجل : ? وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ عَمَّا جَاءكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49) أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50) ? .(5/72)
عن قتادة : قوله : ? وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ? أمينًا وشاهدًا على الكتب التي خلت قبله . وقال ابن عباس : ? وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ ? ، يعني : أمينًا عليه يحكم على ما كان قبله من الكتب . وعن مسروق : أنه كان يحلّف اليهودي والنصراني [ بالله ]،ثم قرأ : ? فَاحْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ ? ، وأنزل الله أن لا يشركوا به شيئًا .
وقوله تعالى : ? لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُم فَاسْتَبِقُوا الخَيْرَاتِ إِلَى الله مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ ? عن قتادة : قوله : ? لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجاً ? ، يقول : سبيلاً وسنة ، والسنن مختلفة . للتوراة شريعة ، وللإِنجيل شريعة ، وللقرآن شريعة ، يحلّ الله فيها ما يشاء ، ويحرّم ما يشاء ، بلاءً ليعلم من يطيعه ممن يعصيه ، والدين واحد ، الذي لا يقبل غيره ، التوحيد والإِخلاص لله الذي جاءت به الرسل .(5/73)
وقوله تعالى : ? وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ ? ، عن ابن عباس قال : قال كعب بن أسد ، وابن صوريا ، وشاس بن قيس بعضهم لبعض : اذهبوا بنا إلى محمد لعلّنا نفتنه عن دينه ، فأتوه فقالوا : يا محمد إنك قد عرفت أنا أحبار يهود ، وأشرافهم ، وساداتهم ، وأنا إن اتبعناك اتبعنا يهود ولم يخالفونا ، وإنَّ بيننا وبين قومنا خصومة فنحاكمهم إليك فتقضي لنا عليهم ونؤمن لك ونصدقك . فأبى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأنزل الله فيهم : ? وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللّهُ إِلَيْكَ ? إلى قوله : ? لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الثامن والسبعون(5/74)
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ (53) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ (58) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا(5/75)
بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (62) لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (63) وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ (66) ? .
* * *(5/76)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ (52) وَيَقُولُ الَّذِينَ آمَنُواْ أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَأَصْبَحُواْ خَاسِرِينَ (53) ? .
عن عطية بن سعد قال : جاء عبادة بن الصامت من بني الحارث بن الخزرج إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إن لي موالي من يهود كثيرٌ عددهم ، وإني أبرأ إلى الله ورسوله من ولاية يهود ، وأتولى الله ورسوله . فقال عبد الله بن أبيّ : إني رجل أخاف الدوائر ، لا أبرأ من ولاية مواليّ . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لعبد الله بن أبيّ : « يا أبا الحباب ؛ ما بخلت به من ولاية يهود على عبادة بن الصامت فهو إليك دونه » قال : قد قبلت ، فأنزل الله : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ? إلى قوله : ? فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ? .
وقوله : ? بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ? .
قال البغوي : في العون والنصرة ويدهم واحدة على المسلمين . ? وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ? .(5/77)
قال ابن جرير : يعني تعالى ذكره بقوله : ? وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ? : ومن يتولَّ اليهود والنصارى دون المؤمنين ، فإنه منهم . يقول : فإن من تولاهم ، ونصرَهم على المؤمنين ، فهو من أهل دينهم وملتهم ، فإنه لا يتولى متولّ أحدًا إلا وهو به وبدينه ، وما هو عليه راضٍ . وإذا رضيه ورضي دينَه ، فقد عادى ما خالفه وسَخِطه ، وصار حكمه حكمه .
وقوله تعالى : ? فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ يُسَارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشَى أَن تُصِيبَنَا دَآئِرَةٌ ? ، قال قتادة : أناس من المنافقين كانوا يوادون اليهود ، ويناصحونهم دون المؤمنين . ? فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ ? قال : بالقضاء ، ? أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ فَيُصْبِحُواْ عَلَى مَا أَسَرُّواْ فِي أَنْفُسِهِمْ نَادِمِينَ ? من موادتهم اليهود ومن غشهم للإِسلام وأهله . وقال السدي : ? فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ ? فتح مكة ، ? أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ ? ، قال : الأمر : الجزية . وقال مجاهد : ? فَعَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِّنْ عِندِهِ ? حينئذٍ يقول الذين آمنوا أهؤلاء الذين أقسموا باللّه جهد أيمانهم إنهم لمعكم حبطت أعمالهم فأصبحوا خاسرين .
قال البغوي : يعني : يقول الذين آمنوا في وقت إظهار الله تعالى نفاق المنافقين : ? أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ ? حلفوا بالله ? جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ ? ، أي : حلفوا بأغلظ الإيمان ، ? إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ ? ، أي : إنهم لمؤمنون ؟ يريد أن المؤمنين حينئذٍ يتعجبون من كذبهم ، وحلفهم بالباطل ؛ قال الله تعالى : ? حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ ? بطل كل خير عملوه ، ? فَأَصْبَحُوا خَاسِرِينَ ? خسروا الدنيا بافتضاحهم ، والآخرة بالعذاب ، وفوات الثواب .(5/78)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ (55) وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ (56) ? .
قال الضحاك في قوله : ? فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ? هو : أبو بكر وأصحابه ، لمَّا ارتدّ من ارتدّ من العرب عن الإسلام ، جاهدهم أبو بكر وأصحابه حتى ردّهم إلى الإسلام . وعن مجاهد في قول الله : ? يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ? ، قال : أناسٌ من أهل اليمن . وعن عياض الأشعري قال : لما نزلت هذه الآية : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ ? ، قال : أومأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أبي موسى بشيء كان معه فقال : « هم قوم هذا » . رواه ابن جرير .
وقوله تعالى : ? أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ ? ، قال عليّ رضي الله عنه : أهل رقة على أهل دينهم ، أهل غلظة على من خالفهم في دينهم .(5/79)
وقوله تعالى : ? يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاءُ وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ? عن أبي ذر رضي الله عنه قال : ( أمرني خليلي - صلى الله عليه وسلم - بسبع : أمرني : بحب المساكين والدنو منهم ، وأمرني : أن أنظر إلى من هو دوني ولا أنظر إلى من هو فوقي ، وأمرني : أن أصل الرحم وإن أدبرَتْ ، وأمرني : أن لا أسأل أحدًا شيئًا ، وأمرني : أن أقول الحق وإن كان مرًّا ، وأمرني : أن لا أخاف في الله لومة لائم ، وأمرني : أن أكثر من قول : لا حول ولا قوة إلا بالله فإنها من كنز تحت العرش ) . رواه أحمد .
وقوله تعالى : ? إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ? ، أي : متخشّعون في صلاتهم وزكاتهم . وعن عبد الملك قال : سألت أبا جعفر عن هذه الآية : ? إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ? ، قلنا : مَنِ الذين آمنوا ؟ قال : الذين آمنوا . قلنا : بلغنا أنها نزلت في عليّ بن أبي طالب . قال : عليُّ من الذين آمنوا . وقوله تعالى : ? وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ? .
وقوله تعالى : ? وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ ? ، قال السدي : أخبرهم - يعني الرب تعالى ذكره - من الغالب فقال : لا تخافوا الدولة ولا الدائرة .
قال البغوي : ? وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ ? ، يعني يقول : للقيام بطاعة الله ونصرة رسوله والمؤمنين . قال ابن عباس رضي الله عنه : يريد المهاجرين والأنصار . ? فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ ? ، يعني : أنصار الله هم الغالبون .(5/80)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (57) وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ (58) ? .
عن ابن عباس قال : كان رفاعة بن زيد بن التابوث ، وسويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثم نافقا ، وكان رجال من المسلمين يوادونهما فأنزل الله فيهما : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَكُمْ هُزُواً وَلَعِباً مِّنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاء ? إلى قوله : ? وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ? .
وقوله تعالى : ? وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاَةِ اتَّخَذُوهَا هُزُواً وَلَعِباً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْقِلُونَ ? ، قال السدي : كان رجل من النصارى بالمدينة إذا سمع المنادي ينادي : أشهد أن محمدًا رسول الله ، قال : حُرق الكاذب . فدخل خادمه ذات ليلة من الليالي بنار وهو نائم ، وأهله نيام فسقطت شرارة ، فأحرقت البيت فاحترق هو وأهله .(5/81)
قوله عز وجل : ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ (59) قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (60) وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ (61) وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (62) لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (63) ? .
قال ابن عباس : أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نفر من اليهود فيهم أبو ياسر بن أخطب ورافع بن أبي رافع ، فسألوه عمن يؤمن به من الرسل ، قال : « أؤمن بالله وما أنزل إلينا ، وما أنزل إلى إبراهيم ، وإسماعيل ، وإسحاق ، ويعقوب ، والأسباط ، وما أوتي موسى وعيسى ، وما أوتي النبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون » فلما ذكر عيسى حجدوا نبوته وقالوا : لا نؤمن بمن آمن به ، فأنزل الله فيهم : ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنزِلَ مِن قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ ? .
قال ابن جرير : معنى الكلام : هل تنقمون منا إلا إيماننا بالله وفسقكم ؟(5/82)
وقوله تعالى : ? قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ? ، عن السدي : ? قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللّهِ ? ، يقول : ثوابًا عند الله .
قال البغوي : قل يا محمد : ? هَلْ أُنَبِّئُكُمْ ? أخبركم ، ? بِشَرٍّ مِنْ ذَلِكَ ? الذي ذكرتم ، يعني قولهم : لم نر أهل دين أقلّ حظًا في الدنيا والآخرة منكم ، ولا دينًا شرًا من دينكم ، فذكر الجواب بلفظ الابتداء ، وإن لم يكن الابتداء شرًا ، لقوله : ? أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ ? النار ، ? مَثُوبَةً ? ثوابًا وجزاء ، ? عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ ? ، أي : هو : ? مَن لَّعَنَهُ اللّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ ? ، يعني : اليهود ، ? وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ ? فالقردة : أصحاب السبت ، والخنازير : كفار مائدة عيسى عليه السلام ، ? وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ ? ، أي : جعل منهم عبد الطاغوت ، أي : أطاع الشيطان فيما سوّل له ، ? أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَاناً وَأَضَلُّ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ? .
قال ابن جرير : قل لهم يا محمد : هؤلاء المؤمنون بالله وبكتبه الذين تستهزئون منهم ، أَشَرٌ أم مَنْ لعنه الله ؟
وقوله تعالى : ? وَإِذَا جَآؤُوكُمْ قَالُوَاْ آمَنَّا وَقَد دَّخَلُواْ بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُواْ بِهِ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُواْ يَكْتُمُونَ ? ، هذه الآية كقوله تعالى : ? وَقَالَت طَّآئِفَةٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ آمِنُواْ بِالَّذِيَ أُنزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَجْهَ النَّهَارِ وَاكْفُرُواْ آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ? .(5/83)
وقوله تعالى : ? وَتَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ? ، قال ابن زيد : هؤلاء اليهود ، ? لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ? . ? لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ ? إلى قوله : ? لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ? ، قال : يصنعون ويعملون واحد ، قال لهؤلاء حين لم ينتهوا كما قال لهؤلاء حين عملوا . قال ابن عباس : ما في القرآن آية أشدّ توبيخًا من هذه الآية ? لَوْلاَ يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ ? الآية . وقال الضحاك : ما في القرآن آية أخوف عندي منها ، إنا لا ننهى .
قوله عز وجل : ? وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ (66) ? .(5/84)
عن ابن عباس : قوله : ? وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ? ، قال : ليس يعنون بذلك أن يد الله موثقة ، ولكنهم يقولون : إنه بخيل أمسك ما عنده ، تعالى الله عما يقولون علوًا كبيرًا . وقال قتادة : أما قوله : ? يَدُ اللّهِ مَغْلُولَةٌ ? قالوا : الله بخيل غير جواد ، قال الله : ? بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ ? .
قال ابن كثير : ? غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُواْ بِمَا قَالُواْ ? وهكذا وقع لهم ، فإن عندهم من البخل ، والحسد ، والجبن ، والذلة أمر عظيم .
قال ابن جرير : واختلف أهل الجدل في تأويل قوله : ? بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ ? ، فقال بعضهم : عنى بذلك نعمتاه ، وقال آخرون منهم : عنى بذلك القوة ، وقال آخرون منهم : بل يد الله صفة من صفاته ، هي يد ، غير أنها ليست بجارحة كجوارح آدم ، وبذلك تظاهرت الأخبار عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقال به العلماء وأهل التأويل . انتهى ملخصًا .
قال البغوي : ويد الله صفة من صفات ذاته ، كالسمع والبصر والوجه ، وقال جل ذكره : ? لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ ? ، وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « كلتا يديه يمين » . والله أعلم بصفاته . فعلى العباد فيها الإيمان والتسليم . وقال أئمة السلف من أهل السنَّة في هذه الصفات : أمِرُّوهَا كما جاءت بلا كيف .
وقوله تعالى : ? وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً ? ، قال قتادة : حملهم حسد محمد - صلى الله عليه وسلم - والعرب على أن كفروا به ، وهم يجدونه مكتوبًا عندهم .(5/85)
وقوله تعالى : ? وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَاداً وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ? ، قال قتادة : أولئك أعداء الله اليهود ، ? كُلَّمَا أَوْقَدُواْ نَاراً لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللّهُ ? فلن تلقى اليهود ببلد إلا وجدتهم من أذل أهله ، لقد جاء الإسلام حين جاءوهم تحت أيدي المجوس أبغض خلقه إليه . وقال السدي : كلما أجمعوا أمرهم على شيء ، فرّقه الله وأطفأ حربهم ونارهم وقذف في قلوبهم الرعب .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتَابِ آمَنُواْ وَاتَّقَوْاْ لَكَفَّرْنَا عَنْهُمْ سَيِّئَاتِهِمْ وَلأدْخَلْنَاهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ ? ، قال قتادة : يقول : آمنوا بما أنزل الله ، واتقوا ما حرم الله .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ أَنَّهُمْ أَقَامُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيهِم مِّن رَّبِّهِمْ لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ? ، قال ابن عباس : ? لأكَلُواْ مِن فَوْقِهِمْ ? ، يعني : لأرسل السماء عليهم مدرارًا ، ? وَمِن تَحْتِ أَرْجُلِهِم ? تخرج الأرض بركتها .
وقوله تعالى : ? مِّنْهُمْ أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ? عن قتادة : قال الله فيهم : ? أُمَّةٌ مُّقْتَصِدَةٌ ? ، يقول : على كتابه وأمره ؛ ثم ذم أكثر القوم فقال : ? وَكَثِيرٌ مِّنْهُمْ سَاء مَا يَعْمَلُونَ ? . وقال الربيع : إلا مدة المقتصدة الذين لا هم قصّروا في الدين ، ولا هم غلوا . والله أعلم .
* * *
الدرس التاسع والسبعون(5/86)
? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (74) مَّا(5/87)
الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (77) لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ(5/88)
أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (67) ? .
قال قتادة : أخبر الله نبيه - صلى الله عليه وسلم - أنه سيكفيه الناس ، ويعصمه منهم ، وأمره بالبلاغ . وعن ابن عباس : قوله : ? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ? ، يعني : إن كتمت آية مما أنزل إليك من ربك لم تبلّغ رسالتي . وعن سعيد بن جبير : لما نزلت : ? يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ? ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا تحرسوني إن ربي قد عصمني » .
قوله عز وجل : ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَاناً وَكُفْراً فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَالَّذِينَ هَادُواْ وَالصَّابِؤُونَ وَالنَّصَارَى مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وعَمِلَ صَالِحاً فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (69) ? .(5/89)
عن ابن عباس قال : جاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم - رافع بن حارثة وسلام بن مشكم ، ومالك بن الصيف ، ورافع بن حرملة فقالوا : يا محمد تزعم إنك على ملة إبراهيم ودينه ، وتؤمن بما عندنا من التوراة ، وتشهد إنها من عند الله حق ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بلى ، ولكنكم أحدثتم ، وجحدتم ما فيها مما أخذ عليكم من الميثاق ، وكتمتم منها ما أمرتم أن تبيّنوه للناس ، وأنا برئ من إحداثكم . قالوا : فإنا نأخذ بما في أيدينا فإنا على الحق والهدى ، ولا نؤمن بك ولا نتبعك . فأنزل الله : ? قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ التَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ ? إلى : ? فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ? . وقال ابن زيد : فقد صرنا من أهل الكتاب : التوراة لليهود ، والإنجيل للنصارى . وما أنزل إليكم من ربكم ما أنزل إليك من ربك ، أي : ? لَسْتُمْ عَلَى شَيْءٍ حَتَّىَ تُقِيمُواْ ? حتى تعملوا بما فيه ، وعن السدي قوله : ? فَلاَ تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ ? ، يقول : لا تحزن .
قوله عز وجل : ? لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (71) ? .
عن قتادة : قوله : ? وَحَسِبُواْ أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ ? الآية ، يقول : حب القوم أن لا يكون بلاء . ? فَعَمُواْ وَصَمُّواْ ? كلما عرض بلاء ابتلوا به هلكوا فيه .(5/90)
وقال البغوي : قوله تعالى : ? لَقَدْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ ? في التوحيد والنبوة ، ? وَأَرْسَلْنَا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّمَا جَاءهُمْ رَسُولٌ بِمَا لاَ تَهْوَى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُواْ ? عيسى ومحمد صلوات الله عليهما ? وَفَرِيقاً يَقْتُلُونَ ? يحيى وزكريا ، ? وَحَسِبُواْ ? ظنوا : ? أَن لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ? ، أي عذاب وقتل . وقيل : ابتلاء واختبار ؛ أي : ظنوا أن لا يبتلوا ، ولا يعذبهم الله ، ? فَعَمُواْ ? عن الحق فلم يبصره ، ? وَصَمُّواْ ? عنه فلم يسمعوه ، يعني : عموا وصموا بعد موسى صلوات الله وسلامه عليه ? ثُمَّ تَابَ اللّهُ عَلَيْهِمْ ? ببعث عيسى عليه السلام ، ? ثُمَّ عَمُواْ وَصَمُّواْ كَثِيرٌ مِّنْهُمْ ? بالكفر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، ? وَاللّهُ بَصِيرٌ بِمَا يَعْمَلُونَ ? .(5/91)
قوله عز وجل : ? لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَقَالَ الْمَسِيحُ يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ إِنَّهُ مَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللّهُ عَلَيهِ الْجَنَّةَ وَمَأْوَاهُ النَّارُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَارٍ (72) لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ وَمَا مِنْ إِلَهٍ إِلاَّ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِن لَّمْ يَنتَهُواْ عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) أَفَلاَ يَتُوبُونَ إِلَى اللّهِ وَيَسْتَغْفِرُونَهُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (74) مَّا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلاَنِ الطَّعَامَ انظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الآيَاتِ ثُمَّ انظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً وَاللّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ وَأَضَلُّواْ كَثِيراً وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ (77) ? .
عن السدي : ? لَّقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ ثَالِثُ ثَلاَثَةٍ ? ، قال : قالت النصارى : هو المسيح وأمه ، فذلك قول الله تعالى : ? أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ? .(5/92)
وقوله تعالى : ? يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لاَ تَغْلُواْ فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ ? ، أي : لا تتجاوزوا الحد ، ولا تقولو على الله إلا الحق ؛ والغلوّ والتقصير مذمومان في الدين . ? وَلاَ تَتَّبِعُواْ أَهْوَاء قَوْمٍ قَدْ ضَلُّواْ مِن قَبْلُ ? ، يعني : رؤساء الضالة من فريقي اليهود والنصارى ، ? وَأَضَلُّواْ كَثِيراً ? ، يعني : من اتبعهم على أهوائهم ? وَضَلُّواْ عَن سَوَاء السَّبِيلِ ? ، وفي الحديث المشهور عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « افترقت اليهود على إحدى وسبعين فرقة ، وافترقت النصارى : على ثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاثة وسبعين فرقة ، كلها في النار إلا واحدة قالوا : من هي يا رسول الله ؟ قال : من كان على مثل ما أنا عليه اليوم وأصحابي » .
قوله عز وجل : ? لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذَلِكَ بِمَا عَصَوا وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ (78) كَانُواْ لاَ يَتَنَاهَوْنَ عَن مُّنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ مَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (79) تَرَى كَثِيراً مِّنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَبِئْسَ مَا قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنفُسُهُمْ أَن سَخِطَ اللّهُ عَلَيْهِمْ وَفِي الْعَذَابِ هُمْ خَالِدُونَ (80) وَلَوْ كَانُوا يُؤْمِنُونَ بِالله والنَّبِيِّ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِيَاء وَلَكِنَّ كَثِيراً مِّنْهُمْ فَاسِقُونَ (81) ? .(5/93)
عن ابن عباس : قوله : ? لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ? ، قال : لعنوا بكل لسان ، لعنوا على عهد موسى في التوراة ، ولعنوا على عهد داود في الزبور ، ولعنوا على عهد عيسى في الإنجيل ، ولعنوا على عهد محمد - صلى الله عليه وسلم - في القرآن ، وقال قتادة : لعنهم الله على لسان داود في زمانهم ، فجعلهم قردةً خاسئين ، وفي الإنجيل على لسان عيسى ، فجعلهم خنازير . وعن ابن مسعود قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الرجل من بني إسرائيل كان إذا رأى أخاه على الذنب نهاه عنه تعذيرًا ، فإذا كان من الغد لم يمنعه ما رأى منه أن يكون أكيله وخليطه وشريبه ، فلما رأى ذلك منهم ضرب بقلوب بعضهم على بعض ، ولعنهم على لسان نبيهم داود وعيسى ابن مريم ، ? ذَلِكَ بِمَا عَصَواْ وَّكَانُواْ يَعْتَدُونَ ? » . ثم قال : « والذي نفسي بيده ، لتأمرنّ بالمعروف ولتنهونّ عن المنكر ولتأخذنّ على يدي المسيء ، ولتأطرنّه على الحق أطرًا أو ليعزبنّ الله قلوب بعضكم على بعض وليلعننكم كما لعنهم » . رواه ابن جرير .
وفي رواية أبي عبيدة : « فضرب الله على قلوب بعضهم ببعض ، ونزل فيهم القرآن ، فقال : ? لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى لِسَانِ دَاوُودَ وَعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ?- حتى بلغ - : ? ولكن كثيرًا منهم فاسقون ? » .(5/94)
قوله عز وجل : ? لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثَابَهُمُ اللّهُ بِمَا قَالُواْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاء الْمُحْسِنِينَ (85) وَالَّذِينَ كَفَرُواْ وَكَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (86) ? .
عن مجاهد في قول الله : ? وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُوَاْ إِنَّا نَصَارَى ? ، قال : هم الوفد الذين جاءوا مع جعفر وأصحابه من أرض الحبشة . وقوله تعالى : ? ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَاناً ? ، القسيسون : العلماء ، والرهبان : العباد .
قال ابن كثير : وقوله تعالى : ? وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قَالُوا إِنَّا نَصَارَى ? ، أي : الذين زعموا أنهم نصارى ، من أتباع المسيح وعلى منهاج إنجيله ، فيهم مودة للإسلام وأهله في الجملة ، وما ذاك إلا لما في قلوبهم ، - إذ كانوا على دين المسيح - من الرقة والرأفة .(5/95)
وقوله تعالى : ? وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ? ، قال ابن عباس : مع محمد - صلى الله عليه وسلم - وأمته . والله أعلم .
الدرس الثمانون
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (91) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ(5/96)
وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ وَلاَ تَعْتَدُواْ إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ أَنتُم بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) ? .
عن أبي مالك في هذه الآية : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ ? الآية . قال عثمان بن مظعون وأناس من المسلمين : حرموا عليهم النساء ، وامتنعوا من الطعام والطيب ، وأراد بعضهم أن يقطع ذكره ، فنزلت هذه الآية . وعن عكرمة : ? وَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلاَلاً طَيِّباً ? ، يعني : ما أحل الله لهم من الطعام .
قوله عز وجل : ? لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89) ? .(5/97)
قال ابن عباس : لما نزلت : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تُحَرِّمُواْ طَيِّبَاتِ مَا أَحَلَّ اللّهُ لَكُمْ ? في القوم الذين كانوا حرموا النساء واللحم على أنفسهم ، قالوا يا رسول الله كيف نصنع بأيماننا التي حلفنا عليها ؟ فأنزل الله تعالى ذكره : ? لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ ? الآية . وعن الحسن : ? وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ? ، يقول : بما تعمّدت فيه المآثم فعليك الكفارة . قال قتادة : أما اللغو فلا كفارة فيه . وقالت عائشة : أيمان الكفارة كل يمين حلف فيها الرجل على أحد من الأمور في غضب أو غيره ، ليفعلن ، ليتركن ، فذلك عقد الأيمان التي فرض الله فيها الكفارة . وقال تعالى ذكره : ? لاَ يُؤَاخِذُكُمُ اللّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمَانِكُمْ وَلَكِن يُؤَاخِذُكُم بِمَا عَقَّدتُّمُ الأَيْمَانَ ? .(5/98)
وقوله تعالى : ? فَكَفَّارَتُهُ إِطْعَامُ عَشَرَةِ مَسَاكِينَ مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ ? عن عبد الله بن حنش قال : سألت الأسود عن : ? أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ? ، قال : الخبز ، والتمر ، والزيت ، والسمن . وأفضله اللحم . وقال ابن عمر : من أوسط ما يطعم أهله : الخبز والتمر ، والخبز والسمن ، والخبز والزيت ، ومن أفضل ما يطعم الخبز واللحم . وقال الحسن : يجزيك أن تطعم عشرة مساكين أكلة واحدة حتى يشبعوا . وعن إبراهيم عن عمر قال : إني أحلف على اليمين ثم يبدو لي ، فإذا رأيتني قد فعلت فأطعم عشرة مساكين ، لكل مسكين مدّين من حنطة . وعن عبد الكريم الجزري قال : قلت لسعيد بن جبير : أجمعهم ؟ قال : لا ، أعطهم مدّين ، مدّين من حنطة مًدا لطعامه ، ومدًّا لإِدامه من حنطة لكل مسكين . وعن عليّ : يغدّيهم ويعشّيهم . وعن ابن عباس : ? مِنْ أَوْسَطِ مَا تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ ? ، قال : من عسرهم ويسرهم .
وعن مجاهد في قوله تعالى : ? أَوْ كِسْوَتُهُمْ ? ، قال : أدناه ثوب وأعلاه ما شئت . وقال عطاء : لا يجزي في الرقبة إلا صحيح . وقال : يجزي المولود في الإِسلام .
وقوله تعالى : ? فَمَن لَّمْ يَجِدْ فَصِيَامُ ثَلاَثَةِ أَيَّامٍ ? ، أي : متتابعات . قال : معتمر بن سليمان : قلت لعمر بن راشد : الرجل يحلف ولا يكون عنده من الطعام إلا بقدر ما يكفّر ، قال : كان قتادة يقول : يصوم ثلاثة أيام .(5/99)
وقوله تعالى : ? ذَلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمَانِكُمْ إِذَا حَلَفْتُمْ وَاحْفَظُواْ أَيْمَانَكُمْ كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ? ، عن عبد الرحمن بن سمرة قال : قال لي النبي - صلى الله عليه وسلم - : « يا عبد الرحمن بن سمرة ، لا تسأل الإمارة ، فإنك إن أعطيتها عن مسألة وُكِلْت إليها ، وإن أعطيتها عن غير مسألة أُعِنْتَ عليها ، وإذا حلفت على يمين فرأيت غيرها خيرًا منها فكفّر عن يمينك ، وأت الذي هو خير » . متفق عليه .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَن ذِكْرِ اللّهِ وَعَنِ الصَّلاَةِ فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ (91) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَاحْذَرُواْ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا عَلَى رَسُولِنَا الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93) ? .(5/100)
قال ابن زيد في قوله : ? رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ? : الرجس : الشر . وعن محمد بن قيس قال : لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المدينة أتاه الناس ، وقد كانوا يشربون الخمر ويأكلون الميسر ، فسألوه عن ذلك ، فأنزل الله تعالى : ? يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِمَا إِثْمٌ كَبِيرٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَإِثْمُهُمَا أَكْبَرُ مِن نَّفْعِهِمَا ? فقالوا : هذا شيء قد جاء فيه رخصة نأكل الميسر ، ونشرب الخمر ونستغفر من ذلك ، حتى أتى رجل صلاة المغرب فجعل يقرأ : قل يا أيُّها الكافرون أعبد ما تعبدون ولا أنتم عابدون ما أعبد . فجعل لا يجود ذلك ولا يدري ما يقرأ ، فأنزل الله : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْرَبُواْ الصَّلاَةَ وَأَنتُمْ سُكَارَى ? فكان الناس يشربون الخمر حتى يجيء وقت الصلاة ، فيدعون شربها ليأتون الصلاة وهم يعلمون ما يقولون ، فلم يزالوا كذلك حتى أنزل الله تعالى : ? إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالأَنصَابُ وَالأَزْلاَمُ رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ ? إلى قوله : ? فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ? فقالوا : انتهينا .(5/101)
وقوله تعالى : ? إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاء فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ ? . قال ابن عباس : نزل تحريم الخمر في قبيلتين من قبائل الأنصار ، شربوا حتى إذا ثملوا عبث بعضهم على بعض ، فلما صحوا جعل الرجل يرى الأثر بوجهه ولحيته فيقول : فعل بي هذا أخي فلان - وكانوا إخوة ليس في قلوبهم ضغائن - والله لو كان بي رؤوفًا رحيمًا ما فعل بي هذا ، فوقعت في قلوبهم ضغائن ، فأنزل الله : ? إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ ? إلى قوله : ? فَهَلْ أَنتُم مُّنتَهُونَ ? فقال ناس من المتكلفين : رجس في بطن فلان قتل يوم بدر ، وقتل فلان يوم أحد ؟ ! فأنزل الله : ? لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ ? الآية . وقال قتادة : لما أنزل الله تعالى تحريم الخمر في سورة المائدة بعد سورة الأحزاب ، قال في ذلك رجال من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أصيب فلان يوم بدر ، وفلان يوم أحد وهم يشربونها فأخبرهم أنهم من أهل الجنة ، فأنزل الله تعالى ذكره : ? لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُواْ إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ? ، يقول : شربها القوم على تقوى من الله وإحسان ، وهي لهم يومئذٍ حلال ، ثم حرّمت بعدهم ، فلا جناح عليهم في ذلك . وفي حديث أبي هريرة عند أحمد : ثم نزلت آية المائدة فقالوا : يا رسول الله ناس قتلوا في سبيل الله وماتوا على فرشهم وكانوا يشربونها ؟ فأنزل الله تعالى : ? لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ ? الآية . فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لو حرّم عليهم لتركوه كما تركتموه » .(5/102)
وقوله : ? إِذَا مَا اتَّقَواْ وَّآمَنُواْ ? ، أي : اتقوا الشرك وصدقوا ، ? وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَواْ ? الخمر والميسر بعد تحريمهما ، ? وَّآمَنُواْ ثُمَّ اتَّقَواْ ? ما حرم الله عليهم كله ، ? وَّأَحْسَنُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الحادي والثمانون
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (98) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ(5/103)
كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللّهُ مَن يَخَافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدَى بَعْدَ ذَلِكَ فَلَهُ عَذَابٌ أَلِيمٌ (94) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقْتُلُواْ الصَّيْدَ وَأَنتُمْ حُرُمٌ وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعَامُ مَسَاكِينَ أَو عَدْلُ ذَلِكَ صِيَاماً لِّيَذُوقَ وَبَالَ أَمْرِهِ عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ وَاللّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (95) ? .
عن مجاهد في قوله : ? لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللّهُ بِشَيْءٍ مِّنَ الصَّيْدِ تَنَالُهُ أَيْدِيكُمْ وَرِمَاحُكُمْ ? ، قال : ? أَيْدِيكُمْ ? صغار الصيد ، أخذ الفراخ والبيض ، وما لا يستطيع أن يفروا . الرماح قال : كبار الصيد .
وقوله تعالى : ? وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ? ، قال عطاء : يحكم عليه في العمد والخطأ والنسيان . وقال الزهري : نزل القرآن بالعمد ، وجرت السنَّة في الخطأ ، يعني : في المُحْرِم يصيي الصيد .(5/104)
وعن السدي قوله : ? وَمَن قَتَلَهُ مِنكُم مُّتَعَمِّداً فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ? ، قال : أما جزاء مثل ما قتل من النعم فإن قتل نعامة أو حمارًا فعليه بدنة ، وإن قتل بقرة أو إبلاً أو أروى فعليه بقرة ، أو قتل غزالاً أو أرنبًا فعليه شاة ، وإن قتل ضبعًا أو حرباء أو يربوعًا فعليه سخلة قد أكلت العشب وشربت اللبن . وسئل عطاء : أيغرم في صغير الصيد كما يغرم في كبيره ؟ قال : أليس يقول الله تعالى : ? فَجَزَاء مِّثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ ? ؟ وقال ابن عباس : ( إذا أصاب المحرم الصيد وجب عليه جزاؤه من النعم ، فإن وجد جزاءه ذبحه فتصدق به ، فإن لم يجد جزاءه قوّم الجزاء دراهم ، ثم قوّم الدراهم حنطة ، ثم صام مكان كل نصف صاع يومًا ، قال : إنما أريد بالطعام الصوم ، فإذا وجد طعامًا وجد جزاءً ) .
وفي رواية : ( إذا أصاب الرجل الصيد حكم عليه فإن لم يكن عنده قوّم عليه ثمنه طعامًا ، ثم صام لكل نصف صاع يومًا ) .
وفي رواية : ( فإن قتل ظبيًا أو نحره فعليه شاة تذبح بمكة ، فإن لم يجد فإطعام ستة مساكين ، فإن لم يجد فصيام ثلاثة أيام ) . وقال الضحاك : ( وما كان من جرادة أو نحوها ففيه قبضة من طعام ، وما كان من طير البَر ففيه أن يقوّم ويتصدّق بثمنه ، وإن شاء صام لكل نصف صاع يومًا ) . وقال مجاهد : ( فإن لم يجد صام عن كل مُدِّ يومًا ) . قال عطاء : ( فكل شيء في القرآن ( أو ) فليختر منه صاحبه ما شاء ) . وقال قبيصة بن جابر : ( أصبت ظبيًا وأنا محرِم ، فأتيت عمر فسألته عن ذلك ، فأرسل إلى عبد الرحمن بن عوف ، فقلت : يا أمير المؤمنين إن أمره أهون من ذلك ، قال : فضربني بالدّرة ثم قال : قتلت الصيد وأنت محرِم ثم تغمص الفتيا ؟ قال : فجاء عبد الرحمن فحكما بشاة ) .(5/105)
وفي رواية : ثم قال عمر : ( يا قبيعة بن جابر إني أراك شاب السن ، فسيح الصدر ، بيّن اللسان ، وإن الشاب يكون فيه تسعة أخلاق حسنة وخلق سيِّء ، فيفسد الخلق السيِّئ الأخلاق الحسنة فإيّاك وعثرات الشباب ). وعن إبراهيم قال : ما كان من دم فبمكة ، وما كان من صدقة أو صوم حيث شاء . وقال عطاء : الدم والطعام بمكة ، والصيام حيث شاء ، واختار ابن جرير القول الأول . وقال ابن جريج : قلت لعطاء : رجل أصاب صيدًا في الحج أو العمرة ، فأرسل بجزائه في المحرّم أو غيره من المشهور أيجزئ عنه ؟ قال : نعم ، ثم قرأ : ? هَدْياً بَالِغَ الْكَعْبَةِ ? ، قال يحيى : وبه نأخذ .
وقال ابن جريج : قلت لعطاء : ما ? عَفَا اللّهُ عَمَّا سَلَف ? ؟ قال : عما كان في الجاهلية . قلت : ما ? وَمَنْ عَادَ فَيَنتَقِمُ اللّهُ مِنْهُ ? ؟ قال : من عاد في الإسلام فينتقم الله منه ، وعليه مع ذلك الكفارة . وقال السدي : أمّا ? وَبَالَ أَمْرِهِ ? فعقوبة أمره .
قوله عز وجل : ? أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96) ? .
عن ابن عباس في قوله : ? أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ ? ، قال : صيده ما صيد منه . وقال عمر : صيده ما صيد منه ، وطعامه ما قذف . وقال ابن عباس : طعامه ما وجد على الساحل ميتًا . وعن عكرمة في قوله : ? مَتَاعاً لَّكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ ? ، قال : لمن كان بحضرة البحر ، وللسيارة في السفر .(5/106)
وقوله تعالى : ? وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ? ، أي : اصطياده ، ? مَا دُمْتُمْ حُرُماً ? وفي قصة صيد أبي قتادة فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « هل منكم أحد أمره أن يحمل عليها ، أو أشار إليها » ؟ قالوا : لا . قال : « فكلوا ما بقي من لحمها » . وعن أبي سلمة قال : نزل عثمان بن عفان المعرج وهو محرِم ، فأهدى صاحب المعرج له قطًا فقال لأصحابه : « كلوا فإنه إنما أصيد على اسمي » ، فأكلوا ولم يأكل . وعن أبي الشعثاء قال : قلت لابن عمر : كيف ترى في قوم حرام لقوا قوم حلالاً ، ومعهم لحم صيد ، فإما باعوهم وإما أطعموهم ؟ فقال : حلال . وعن الزبير أنه كان يتزود لحوم الوحش ، وهو محرِم . وعن أبي مجلز : ? وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُماً ? ، قال : ما كان يعيش في البر والبحر لا يصيده ، وما كان حياته في الماء فذاك . وقال عطاء : أكثر ما يكون حيث يفرخ فهو منه .
قوله عز وجل : ? جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ وَأَنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (98) مَّا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ (99) قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُواْ اللّهَ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100) ? .(5/107)
قال مجاهد : إنما سميت الكعبة لأنها مربعة ، وعن سعيد بن جبير : ? قِيَاماً لِّلنَّاسِ ? ، قال : صلاحًا لدينهم . وعن ابن عباس : قوله : ? جَعَلَ اللّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِّلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلاَئِدَ ? ، يعني : قيامًا لدينهم ومعالم لحجّهم . وقال السدي : جعل الله هذه الأربعة قيامًا للناس ، وهو قوام أمرهم .
وقوله تعالى : ? قُل لاَّ يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ? ، قال السدي : هم المشركون . والطيب : هم المؤمنون .
وقال ابن كثير : يعني : أن القليل الحلال النافع خير من الحرام الكثير الضار .
وقال البغوي : نزلت في شريح بن ضبعة البكري ، وحجاج بن بكر بن وائل ، ? فَاتَّقُواْ اللّهَ ? ولا تتعرضوا للحجاج . والله أعلم .
* * *
الدرس الثاني والثمانون(5/108)
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ (102) مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ(5/109)
بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) ? .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَإِن تَسْأَلُواْ عَنْهَا حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللّهُ عَنْهَا وَاللّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ (102) ? .
قال ابن عباس : ( كان قوم يسألون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استهزاء ، فيقول الرجل : مَنْ أبي ؟ ، والرجل تضل ناقته فيقول : أين ناقتي ؟ فأنزل الله فيهم هذه الآية ) .
وعن أنس قال : سأل الناس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أحفوه بالمسألة ، فصعد المنبر ذات يوم فقال : « لا تسألوني عن شيء إلا بيّنت لكم » . قال أنس : فجعلت أنظر يمينًا وشمالاً فأرى كل إنسان لافًّا ثوبه يبكي فأنشأ رجل كان إذا لاح يدعى إلى غير أبيه فقال : يا رسول الله من أبي ؟ فقال : « أبوك حذافة » ، قال : فأنشأ عمر فقال : رضينا بالله ربًا وبالإسلام دينًا وبمحمد - صلى الله عليه وسلم - نبيًا ، وأعوذ بالله من سوء الفتن . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم أر الشر والخير كاليوم قط ، إنه صوّرت لي الجنة والنار حتى رأيتهما وراء الحائط وكان قتادة يذكر هذا الحديث عند هذه الآية .
وفي رواية : ( فنزلت : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَسْأَلُواْ عَنْ أَشْيَاء إِن تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ ? ) .(5/110)
عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله كتب عليكم الحج »، فقال رجل : لكلّ عام يا رسول الله ؟ حتى عاد مرتين أو ثلاثًا . فقال : « من السائل » ؟ فقال : فلان . فقال : « والذي نفسي بيدي لو قلت نعم لوجبت ، ولو وجبت عليكم ما أطقتموه ، ولو تركتموه لكفرتم » ، فأنزل الله هذه الآية . قال ابن جرير : نزلت الآية بالنهي عن المسائل كلها ، فأخبر كل مخبر منهم ببعض ما نزلت الآية من أجله أو أجل غيره . وعن أبي ثعلبة الخشني مرفوعًا : « إن الله تعالى فرض فرائض فلا تضيّعوها ، ونهى عن أشياء فلا تنتهكوها ، وحدّ حدودًا فلا تعتدوها ، وعفا عن أشياء من غير نسيان فلا تبحثوا عنها » .
وقوله تعالى : ? قَدْ سَأَلَهَا قَوْمٌ مِّن قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُواْ بِهَا كَافِرِينَ ? . قال ابن عباس : نهاكم أن تسألوا عن مثل الذي سألت النصارى من المائدة ، فأصبحوا بها كافرين .
قوله عز وجل : ? مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ وَلَكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ وَأَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْقِلُونَ (103) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْاْ إِلَى مَا أَنزَلَ اللّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُواْ حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلاَ يَهْتَدُونَ (104) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) ? .(5/111)
عن سعيد بن المسيب قال : ( البحيرة ) : التي يمنع درّها للطواغيت ، فلا يحلبها أحد من الناس . ( والسائبة ) : كانوا يسيّبونها لآلهتهم ، فلا يحمل عليها شيء . قال : وقال أبو هريرة : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « رأيت عمرو بن عامر الخزاعي يجرّ قصبه في النار ، كان أول من سيّب السوائب » . ( والوصيلة ) : الناقة البكر تبكر في أول نتاج الإِبل بأنثى ، ثم تثنّي بعد بأنثى ، وكانوا يسيّبونها لطواغيتهم إن وصلت إحداهما بالأخرى ليس بينهما ذكر . ( والحام ) : فحل الإِبل يضرب الضراب المعدود فإذا قضى ضرابه ، ودعوه للطواغيت ، وأعفوه عن الحمل ، فلم يحمل عليه شيء ، وسموه الحامي . رواه البخاري . وقال ابن زيد : البَحيرة : كان الرجل يجدع أذني ناقته ثم يعتقها كما يعتق جاريته وغلامه ، لا تحلب ولا تركب . والسائبة : يسيّبها بغير تجديع . وقال قتادة : قوله : ? مَا جَعَلَ اللّهُ مِن بَحِيرَةٍ وَلاَ سَآئِبَةٍ وَلاَ وَصِيلَةٍ وَلاَ حَامٍ ? ، لتشديد شدّده الشيطان على أهل الجاهلية في أموالهم ، وتغليظ عليهم ولا يعقلون .(5/112)
وقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ? . قال ابن مسعود : وليس هذا بزمانها ، قولوها ما قبلت منكم ، فإذا رُدّت عليكم فعليكم أنفسكم . وقيل لابن عمر : لو جلست في هذه الأيام فلم تأمر ولم تنه ، فإن الله تعالى يقول : ? عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ? ، فقال ابن عمر : إنها ليست لي ولا لأصحابي ، لأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « ألا فليبلّغ الشاهد الغائب » ، فكنا نحن الشهود وأنتم الغيّب ، ولكن هذه الآية لأقوام يجيئون من بعدنا إن قالوا لم يقبل منهم . وعن أبي أمية الشعباني قال : سألت أبا ثعلبة الخشني كيف تصنع بهذه الآية . ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ عَلَيْكُمْ أَنفُسَكُمْ لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ? ؟ فقال أبو ثعلبة : سألت عنها خيرًا مني ، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : « ائتمروا بالمعروف وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحًّا مطاعًا وهوى متّبعًا ، وإعجاب كلّ ذي رأي برأيه فعليك بخويصة نفسك وذر عوامّهم ، فإن وراءكم أيامًا أجر العامل فيها كأجر خمسين منكم » . وعن قيس بن حازم قال : قال أبو بكر وهو على المنبر : ( يا أيها الناس إنكم تقرءون هذه الآية على غير موضعها ، ? لاَ يَضُرُّكُم مَّن ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ? ، وإن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه عمّهم الله بعقابه ) . رواهما ابن جرير . وعن أبي سعيد الخدري قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « من رأى منكم منكر فليغيّره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان » . رواه مسلم .(5/113)
قوله عز وجل : ? يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ أَوْ آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (108) ? .
عن سعيد بن المسيب في قوله : ? اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ? . قال : من أهل دينكم أو ? آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ? ، قال : من غير أهل ملّتكم . قال شريح : لا تجوز شهادة اليهودي والنصراني إلا في وصية , ولا تجوز في وصية إلا في سفر . وعن السدي : ? يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنَانِ ذَوَا عَدْلٍ مِّنكُمْ ? . قال : هذا في الحضر ، أو ? آخَرَانِ مِنْ غَيْرِكُمْ ? في السفر ، ? إِنْ أَنتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الأَرْضِ فَأَصَابَتْكُم مُّصِيبَةُ الْمَوْتِ ? هذا في الرجل يدركه الموت في سفره ، وليس بحضرته أحد من المسلمين ، فيدعو رجلين من اليهود والنصارى والمجوس فيوصي إليهما .(5/114)
وقوله تعالى : ? تَحْبِسُونَهُمَا مِن بَعْدِ الصَّلاَةِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لاَ نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَلاَ نَكْتُمُ شَهَادَةَ اللّهِ إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الآثِمِينَ ? عن الشعبي : أن رجلاً من المسلمين حضرته الوفاة بدقوقا هذه ، قال : فحضرته الوفاة فلم يجد أحدًا من المسلمين يشهده على وصيته ، فأشهد رجلين من أهل الكتاب ، قال : فقدما الكوفة فأتيا الأشعريّ فأخبراه ، وقدما بتركته ووصيّته ، فقال الأشعري : هذا أمر لم يكن بعد الذي كان في عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، قال : فأحلفهما بعد العصر بالله ، ما خانا ولا كذبا ، ولا بدلا ولا كتما ، ولا غيّرا وأنها لَوَصِيَّةُ الرجل وتركته . قال : فأمضى شهادتهما . وقال سعيد بن جبير : إن صدقهما الورثة قُبِلَ قولهما ، وإن اتهموهما أُحلفا بعد صلاة العصر .(5/115)
وقوله تعالى : ? فَإِنْ عُثِرَ عَلَى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرَانِ يِقُومَانُ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الأَوْلَيَانِ فَيُقْسِمَانِ بِاللّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِن شَهَادَتِهِمَا وَمَا اعْتَدَيْنَا إِنَّا إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ ? . قال سعيد بن جبير : إذا كان الرجل بأرض الشرك فأوصى إلى رجلين من أهل الكتاب ، فإنهما يحلفان بعد العصر ، فإذا اطلع عليهما بعد حلفهما أنهما خانا شيئًا ، حلف أولياء الميت أنه كان كذا وكذا ثم استحقوا . وعن ابن عباس قال : خرج رجل من بني سهم مع تميم الداري وعدي بن بداء ، فمات السهمي بأرض ليس فيها مسلم ، فلما قدموا بتركته فقدوا جامًا من فضة مخوصًا بالذهب ، فأحلفهما رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ثم وجد الجام بمكة فقالوا : اشتريناه من تميم الداري ، وعدي بن بداء ، فقام رجلان من أولياء السهمي فحلفا لشهادتنا أحق من شهادتهما وأن الجام لصاحبهم ، قال : وفيهم أنزلت : ? يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ ? .
وقال البغوي : ( ? فَآَخَرَانِ يَقُومَانِ مَقَامَهُمَا مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيَانِ ? تثنية الأولى ، واستُحق بضم التاء على المجهول ، هذا قراءة العامة ، يعني الذين استحق عليهم ، أي : فيهم ولأجلهم الإثم ، وهم ورثة الميت استحق الحالفان بسببهم الإثم ، وقرأ حفص : استَحَق بفتح التاء والحاء وهي قراءة عليّ والحسن ، أي : حق ووجب عليهم الإِثم . يقال : حق والمستحق بمعنى واحد . ? الأوْلَيَانِ ? نعت للآخران ، أي : فآخران الأوليان ، ومعنى الآية : إذا ظهرت خيانة الحالفين يقوم اثنان آخران من أقارب الميت ، ? فَيُقْسِمَانِ بِاللَّهِ لَشَهَادَتُنَا أَحَقُّ مِنْ شَهَادَتِهِمَا ? ، يعني : يميننا أحق من يمينهما ) . انتهى ملخصًا .(5/116)
وقال ابن العربي في ( أحكام القرآن ) المسألة الخامسة والثلاثون : ( قوله تعالى : ? الأَوْلَيَانِ ? وهذا فصل مشكل المعنى ، مشكل الإِعراب ، كثر فيه الاختلاط ، إما إعرابه ففيه أربعة أقوال : الأول : أنه بدل من الضمير في يقومان ويكون التقدير : فالأوليان يقومان مقام الأولين ) . إلى آخر كلامه .
وقال في ( جامع البيان ) : ومرة قرأ استُحق فهو فاعل ، أي : من الورثة الذين استحق عليهم الأوليان بالشهادة ، أن يجردوهما للقيام بالشهادة .
وقوله تعالى : ? ذَلِكَ أَدْنَى أَن يَأْتُواْ بِالشَّهَادَةِ عَلَى وَجْهِهَا أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ وَاتَّقُوا اللّهَ وَاسْمَعُواْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ?. قال قتادة : ذلك أحرى أن يصدقُوا في شهادتهم ، وأن يخافوا العقاب ، وقال ابن زيد في قوله : ? أَوْ يَخَافُواْ أَن تُرَدَّ أَيْمَانٌ بَعْدَ أَيْمَانِهِمْ ? ، قال : فتبطل أيمانهم وتؤخذ أيمان هؤلاء . والله أعلم .
* * *
الدرس الثالث والثمانون(5/117)
? يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (112) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ (115) وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي(5/118)
وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) ?
* * *
قوله عز وجل : ? يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? يَوْمَ يَجْمَعُ اللّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ مَاذَا أُجِبْتُمْ قَالُواْ لاَ عِلْمَ لَنَا ? إلا علمٌ أنت أعلم به منا .
قال ابن كثير : وهو من باب التأدب مع الرب ، جل جلاله ، أي : لا علم لنا بالنسبة إلى علمك المحيط بكل شيء ، فنحن وإن كنا قد أجبنا وعرفنا من أجابنا ، ولكن منهم من كنا إنما نطلع على ظاهره ، لا علم لنا بباطنه ، وأنت العليم بكل شيء ، المطلع على كل شيء . فعلمنا بالنسبة إلى علمك كَلا عِلْم ، فإنك ? أَنْتَ عَلامُ الْغُيُوبِ ? .(5/119)
قوله عز وجل : ? إِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدتُّكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ وَإِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنفُخُ فِيهَا فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَتُبْرِئُ الأَكْمَهَ وَالأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَإِذْ تُخْرِجُ الْمَوتَى بِإِذْنِي وَإِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَنكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (110) وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُواْ بِي وَبِرَسُولِي قَالُوَاْ آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ (111) ? .
عن السدي : ? وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ ? ، يقول : قذفت في قلوبهم . وقال الحسن . ألهمهم الله ذلك .
قال ابن كثير : ويحتمل أن يكون المراد : وإذا أوحيت إليهم بواسطتك .
قال البغوي : والحواريون [ خواص ] أصحاب عيسى عليه السلام .(5/120)
قوله عز وجل : ? إِذْ قَالَ الْحَوَارِيُّونَ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَن يُنَزِّلَ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ قَالَ اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (112) قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنَا أَنزِلْ عَلَيْنَا مَآئِدَةً مِّنَ السَّمَاءِ تَكُونُ لَنَا عِيداً لِّأَوَّلِنَا وَآخِرِنَا وَآيَةً مِّنكَ وَارْزُقْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114) قَالَ اللّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَن يَكْفُرْ بَعْدُ مِنكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَاباً لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ (115) ? .
عن ابن عباس : أنه كان يحدث عن عيسى - صلى الله عليه وسلم - أنه قال لبني إسرائيل : ( هل لكم أن تصوموا لله ثلاثين يومًا ثم تسألوه فيعطيكم ما سألتم ؟ فإن أجر العامل على من عمل له ، ففعلوا ثم قالوا : يا معلّم الخير ، قلت لنا : إن أجر العامل على من عمل له ، وأمرتنا أن نصوم ثلاثين يومًا ففعلنا ، ولم نكن نعمل لأحد ثلاثين يومًا ، إلا أطعمنا حين نفرغ طعامًا ، فهل يستطيع ربك أن ينزل علينا مائدة من السماء ؟ قال عيسى : ? اتَّقُواْ اللّهَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ * قَالُواْ نُرِيدُ أَن نَّأْكُلَ مِنْهَا وَتَطْمَئِنَّ قُلُوبُنَا وَنَعْلَمَ أَن قَدْ صَدَقْتَنَا وَنَكُونَ عَلَيْهَا مِنَ الشَّاهِدِينَ ? إلى قوله : ? لاَّ أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِّنَ الْعَالَمِينَ ? ، قال : فأقبلت الملائكة تطير من السماء عليها سبعة أحْواتٍ وسبعة أرغفة ، حتى وضعتها بين أيديهم ، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أوّلهم ) .(5/121)
وعن عمار بن ياسر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « نزلت المائدة خبزًا ولحمًا ، وأمروا أن لا يخونوا ولا يدّخروا ولا يرفعوا ، فخانوا وادّخروا ورفعوا فمسخوا قردة وخنازير ». رواه ابن جرير . وقال عبد الله بن عمرو : ( إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة من كفر من أصحاب المائدة ، والمنافقون ، وآل فرعون ) .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ قَالَ سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (117) إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) ? .(5/122)
قال السدي : لما رفع الله عيسى ابن مريم إليه قالت النصارى ما قالت ، وزعموا أن عيسى أمرهم بذلك ، فسأله عن قوله فقال : ? سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ? إلى قوله : ? وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ? . وعن ابن جريج : ? وَإِذْ قَالَ اللّهُ يَا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَأَنتَ قُلتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِن دُونِ اللّهِ ? ؟ قال : والناس يسمعون ، فراجعه بما قد رأيت ، وأقرّ له بالعبودية عن نفسه ، فعلم من كان يقول في عيسى ما يقول ، إنه إنما كان باطلاً . وعن ميسرة قال : قال الله تعالى : يا عيسى أَأَنت قلت للناس اتَّخذوني وأمي إلهين من دون اللّه ؟ قال : فأرعدت مفاصله ، وخشي أن يكون قد قالها ، فقال : ? سُبْحَانَكَ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ مَا لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِن كُنتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِي وَلاَ أَعْلَمُ مَا فِي نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ ? .(5/123)
وقوله : ? مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً مَّا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنتَ أَنتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? عن السدي في قوله : ? إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ ? ، ? وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ ? فتخرجهم من النصرانية وتهديهم إلى الإسلام ، ? فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? ، وهذا قول عيسى في الدنيا ، واختاره ابن جرير . وقال سائر المفسرين : إنما يقول الله هذا القول يوم القيامة .
قال ابن كثير : والذي قاله قتادة وغيره هو الأظهر ، والله أعلم : أن ذلك كائن يوم القيامة ، ليدل على تهديد النصارى ، وتقريعهم وتوبيخهم ، على رؤوس الأشهاد يوم القيامة . وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إنكم محشورون وإن ناسًا يؤخذ بهم ذات الشمال فأقول كما قال العبد الصالح : ? وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ ? إلى قوله : ? الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? » . رواه البخاري .
قوله عز وجل : ? قَالَ اللّهُ هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا فِيهِنَّ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (120) ?
قال الضحاك : عن ابن عباس في قوله : ? هَذَا يَوْمُ يَنفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ? ، يقول : يوم ينفع الموحدين توحيدهم . وفي الحديث الصحيح : « إن الصدق يهدي إلى البرّ ، وإن البر يهدي إلى الجنّة » . والله أعلم .
* * *
الدرس الرابع والثمانون(5/124)
[ سورة الأنعام ]
مكية ، وهي مائة وخمس وستون آية
قال ابن عباس : ( نزلت سورة الأنعام بمكة ليلاً جملة واحدة ، حولها سبعون ألف ملك ، يجأرون حولها بالتسبيح ) . رواه الطبراني .
ورُوِيَ مرفوعًا : « من قرأ سورة الأنعام ، يصلّي عليه أولئك السبعون ألف ملك ليله ونهاره » .
بسم الله الرحمن الرحيم
? الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ(5/125)
يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ (14) قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهِ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) ? .(5/126)
قوله عز وجل : ? الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَجَعَلَ الظُّلُمَاتِ وَالنُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ (3) ? .
قال كعب : فاتحة التوراة فاتحة الأنعام ، وخاتمة التوراة خاتمة هود . وقال ابن عباس : افتتح الله الخلق بالحمد ، وختمه بالحمد . وقال ابن زيد في قوله : ? ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِم يَعْدِلُونَ ? ، قال : الآلهة التي عبدوها عدلوها بالله ، قال : وليس لله عدل ولا ندّ ، وليس معه آلهة ، وما اتخذ صاحبة ولا ولدًا .
وقوله تعالى : ? هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن طِينٍ ? ، قال الضحاك : خلق آدم من طين ، وخلق الناس من سلالة من ماء مهين .
وقوله تعالى : ? ثُمَّ قَضَى أَجَلاً وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ? ، قال الحسن : ? قَضَى أَجَلاً ? ما بين أن يخلق إلى أن يموت ، ? وَأَجَلٌ مُّسمًّى عِندَهُ ? ، قال : ما بين أن يموت إلى أن يبعث . وقال ابن عباس : الدنيا والآخرة .
وقوله تعالى : ? ثُمَّ أَنتُمْ تَمْتَرُونَ ? أنتم تشكّون في البعث .
وقوله تعالى : ? وَهُوَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَفِي الأَرْضِ ? ، أي : هو إله من في السماوات ومن في الأرض ، كما قال تعالى : ? وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ ? ، ? يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَجَهرَكُمْ وَيَعْلَمُ مَا تَكْسِبُونَ ? .(5/127)
قوله عز وجل : ? وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (5) أَلَمْ يَرَوْاْ كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِم مِّن قَرْنٍ مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ وَأَرْسَلْنَا السَّمَاء عَلَيْهِم مِّدْرَاراً وَجَعَلْنَا الأَنْهَارَ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَنْشَأْنَا مِن بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6) ? .
عن قتادة في قوله : ? مَّكَّنَّاهُمْ فِي الأَرْضِ مَا لَمْ نُمَكِّن لَّكُمْ ? ، يقول : أعطيناهم ما لم نعطكم .
قوله عز وجل : ? وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) وَقَالُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ (8) وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ (9) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (10) قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) ? .(5/128)
عن ابن عباس : قوله : ? وَلَوْ نَزَّلْنَا عَلَيْكَ كِتَاباً فِي قِرْطَاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ ? يقول : لو نزلنا من السماء صحفًا فيها كتاب ، فلمسوه بأيديهم لزادهم ذلك تكذيبًا . وعن قتادة : ? وَلَوْ أَنزَلْنَا مَلَكاً لَّقُضِيَ الأمْرُ ثُمَّ لاَ يُنظَرُونَ ? ، يقول : ولو أنهم أنزلنا إليهم ملكًا ثم لم يؤمنوا لن يُنْظَروا . وقال ابن عباس : لو أتاهم ملك في صورته لماتوا . وعن قتادة : ? وَلَوْ جَعَلْنَاهُ مَلَكاً لَّجَعَلْنَاهُ رَجُلاً ? ، يقول : في صورة آدمي . قال ابن عباس : لأنهم لا يستطيعون النظر إلى الملائكة .
وقوله تعالى : ? وَلَلَبَسْنَا عَلَيْهِم مَّا يَلْبِسُونَ ? ، قال السدي : يقول : شبّهنا عليهم ما يشبّهون على أنفسهم . وقال قتادة : ما لبس قوم على أنفسهم إلا لبس الله عليهم ، والَلبس إنما هو من الناس .
وقوله تعالى : ? وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ? ، قال السدي : ? فَحَاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُواْ مِنْهُم ? من الرسل ? مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ? ، يقول : وقع بهم العذاب الذي استهزءوا به .
وقوله تعالى : ? قُلْ سِيرُواْ فِي الأَرْضِ ثُمَّ انظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ? ، يقول تعالى : قل يا محمد لهؤلاء المستهزئين بك ، المكذبين بما أنزل الله عليك : سيروا في الأرض ، فانظروا ديار المكذبين : كعاد ، وثمود ، وقوم لوط ، وغيرهم . قال قتادة : دمّر الله عليهم وأهلكهم ، ثم صيرهم إلى النار .(5/129)
قوله عز وجل : ? قُل لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُل لِلّهِ كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (12) وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13) قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ (14) قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16) ? .
قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - قل يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم : ? لِّمَن مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? ؟ يقول : لمن ملك ما في السماوات والأرض ؟ ثم أخبرهم أن ذلك لله الذي استعبد كل شيء ، وقهر كل شيء بملكه وسلطانه ، لا للأوثان والأنداد ، ولا لما يعبدونه ويتخذونه إلهًا من الأصنام التي لا تملك لأنفسها نفعًا ، ولا تدفع عنها ضرًّا .
وقوله : ? كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ ? ، يقول : قضى أنه بعباده رحيم ، لا يعجل عليهم بالعقوبة ، ويقبل منهم الإِنابة والتوبة . انتهى . وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن الله لما خلق الخلق ، كتب كتابًا عنده فوق العرش : إن رحمتي تغلب غضبي » .
وقوله تعالى : ? لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لاَ رَيْبَ فِيهِ ? .(5/130)
قال البغوي : اللام فيه لام القسم ، والنون نون التأكيد ، مجازه واللهِ ? لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ ? ، أي : في يوم القيامة ? لاَ رَيْبَ فِيهِ ? . ? الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ? ، أي : لا يوحّدون الله ولا يصدقون بوعده ووعيده .
وقال ابن جرير : ( يقول تعالى ذكره : ليجمعنّ الله الذين خسروا أنفسهم ، يقول : الذين أهلكوا أنفسهم وغبنوها ، بادعائهم من الندّ والعديل ، فأوبقوها بإيجابهم سخط الله وأليم عقابه في المعاد ) . انتهى .
وقيل : ? قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَتَّخِذُ وَلِيّاً فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ? .
قال ابن جرير : ( يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : قل يا محمد لهؤلاء المشركين العادلين بربهم الأوثانَ والأصنامَ ، والمنكرين عليك إخلاص التوحيد لربك ، الداعين إلى عبادة الآلهة والأوثان : أشيئًا غيرَ الله تعالى أتخذ وليًّا ، أستنصره وأستعينه على النوائب والحوادث )انتهى .وهذه الآية كقوله تعالى : ? قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ ? ؟ .
وقوله : ? فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? أي : مبتدعها . وعن السدي : ? وَهُوَ يُطْعِمُ وَلاَ يُطْعَمُ ? ، قال : يَرزُق ولا يُرزَق . وقوله تعالى : ? قُلْ إِنِّيَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ? ، أي : من هذه الأمة : ? وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكَينَ ? . ? قُلْ إِنِّيَ أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ? ، يعني : عذاب يوم القيامة ، ? مَّن يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ ? .(5/131)
قوله عز وجل : ? وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدُيرٌ (17) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18) قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (20) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) ? .
عن مجاهد في قول الله تعالى : ? أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً ? ؟ قال : أُمر محمدٌ أن يسأل قريشًا ثم أمر أن يخبرهم فيقول : ? اللّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ ? وعن قتادة : قوله : ? قُلْ أَيُّ شَيْءٍ أَكْبَرُ شَهَادةً قُلِ اللّهُ شَهِيدٌ بِيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآنُ لأُنذِرَكُم بِهِ وَمَن بَلَغَ ? ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : « يا أيها الناس بلّغوا ولو آية من كتاب الله ، فإنه من بلغه آية من كتاب الله ، فقد بلغه أمر الله أخذه أو تركه » . وقال محمد بن كعب القرظي : من بلغه القرآن فكأنما رأى النبي - صلى الله عليه وسلم - .(5/132)
وقوله تعالى : ? أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ قُلْ إِنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَإِنَّنِي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ ? ، هذه الآية كقوله في الآية الأخرى : ? فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ ? .
وقوله تعالى : ? الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ? ، عن قتادة : قوله : ? الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمُ ? يعرفون أن الإِسلام دين الله ، وأن محمدًا رسول الله يجدونه مكتوبًا عندهم في التوراة والإِنجيل .
قال ابن جرير :وقوله :? الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ ? مِنْ نَعْتِ ? الَّذِينَ ? الأولى . انتهى .
وقوله تعالى : ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ? ، أي : المفترون ، والمكذبون .
قال ابن كثير :? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ? أي : لا أظلم ممن تَقَوَّل على الله ، فادّعى أن الله أرسله ولم يكن أرسله ، ثم لا أظلم ممن كذب بآيات الله ، وحِجَجِه ، وبراهينه ، ودلالاته ، ? إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ? ، أي : لا يفلح هذا ولا هذا ، لا المفتري ولا المكذب .
* * *
الدرس الخامس والثمانون(5/133)
? وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (32) قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ(5/134)
لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (37) وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41)?.
* * *(5/135)
قوله عز وجل : ? وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ أَيْنَ شُرَكَآؤُكُمُ الَّذِينَ كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (22) ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انظُرْ كَيْفَ كَذَبُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (24) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا حَتَّى إِذَا جَآؤُوكَ يُجَادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (25) وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِن يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (26) ? .
قال معمر : قال قتادة في قوله : ? ثُمَّ لَمْ تَكُن فِتْنَتُهُمْ ? قال : مقالتهم ؛ وسمعت غير قتادة يقول : معذرتهم . وعن سعيد بن جبير قال : أتى رجل ابن عباس فقال : قال الله : ? وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ? وقال في آية أخرى : ? وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ? ، قال ابن عباس : أمّا قوله : ? وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ? ، فإنه لما رأوا أنه لا يدخل الجنة إلا أهل الإِسلام ، فقالوا : تعالوا لنجحد ، قالوا : ? وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ? فختم الله على أفواههم ، وتكلّمت أيديهم وأرجلهم ، ? وَلاَ يَكْتُمُونَ اللّهَ حَدِيثاً ? . وعن قتادة : ? وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً ? ، قال : يسمعون بآذانهم ولا يعون منه شيئًا ، كمثل البهيمة التي تسمع النداء ولا تعي ما يقال لها .(5/136)
وعن ابن عباس : قوله : ? وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ? ، يعني : ينهون الناس عن محمد أن يؤمنوا به ، ? وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ ? ، يعني : يتباعدون عنه . وقال قتادة : ينهون عن النبي - صلى الله عليه وسلم - ويتباعدون عنه .
قوله عز وجل : ? وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (28) وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (30) ? .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ تَرَىَ إِذْ وُقِفُواْ عَلَى النَّارِ فَقَالُواْ يَا لَيْتَنَا نُرَدُّ وَلاَ نُكَذِّبَ بِآيَاتِ رَبِّنَا وَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ? .
قال البغوي : ( وجواب ( لو ) محذوف ، معناه : لو تراهم في تلك الحالة لرأيت عجبًا ، ? بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ? ، أي : ليس الأمر على ما قالوا ، ? وَلَوْ رُدُّواْ لَعَادُواْ لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ? ، قال قتادة : ولو وصل الله لهم دنيا كدنياهم لعادوا إلى أعمالهم أعمال السوء . وقالا : فيه الفتح ? بَلْ بَدَا لَهُم مَّا كَانُواْ يُخْفُونَ مِن قَبْلُ ? ، أي : أظهروا وما كانوا يكتمون من معرفة الحق في الدنيا ) . انتهى . وشهد لهذا قوله تعالى : ? فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ? .(5/137)
وقوله تعالى : ? وَقَالُواْ إِنْ هِيَ إِلاَّ حَيَاتُنَا الدُّنْيَا وَمَا نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ ? ، أي : ما هي إلا هذه الحياة الدنيا لا معاد بعدها .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُواْ عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُواْ بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُواْ العَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ ? ، قال ابن عباس : هذا في موقف ، وقولهم : ? وَاللّهِ رَبِّنَا مَا كُنَّا مُشْرِكِينَ ? في موقف آخر ، وفي يوم القيامة موقف ، ففي موقف يفرّون ، وفي موقف ينكرون .
قوله عز وجل : ? قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قَالُواْ يَا حَسْرَتَنَا عَلَى مَا فَرَّطْنَا فِيهَا وَهُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (31) وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَلَلدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (32) ? .
قال السدي : ليس من رجل ظالم يموت فيدخل قبره ، إلا جاءه رجل قبيح الوجه ، أسود اللون ، منتن الريح ، عليه ثياب دَنِسة ، حتى يدخل معه قبره ، فإذا رآه قال له : ما أقبح وجهك ! قال : كذلك كان عملك قبيحًا ! قال : ما أنتن ريحك ! قال : كذلك كان عملك منتنًا ! قال : ما أدْنس ثيابك ! قال فيقول : إن عملك كان دنسًا . قال : من أنت ؟ قال : أنا عملك ! قال : فيكون معه في قبره ، فإذا بعث يوم القيامة قال له : إني كنت أحملك في الدنيا باللذَّات والشهوات ، فأنت اليوم تحملني . قال : فيركب على ظهره فيسوقه حتى يدخلَه النار . فذلك قوله : ? يَحْمِلُونَ أَوْزَارَهُمْ عَلَى ظُهُورِهِمْ ? .(5/138)
قوله عز وجل : ? قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ وَأُوذُواْ حَتَّى أَتَاهُمْ نَصْرُنَا وَلاَ مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ وَلَقدْ جَاءكَ مِن نَّبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34) وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ (35) إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالْمَوْتَى يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36) وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (37) ? .
عن أبي صالح قال : جاء جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو جالس حزين فقال : ما يحزنك ؟ فقال : « كذبني هؤلاء » . فقال له جبريل : إنهم لا يكذبونك ، إنهم ليعلمون أنك صادق ، ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون . وعن ناجية بن كعب أن أبا جهل قال للنبي - صلى الله عليه وسلم - : إنا لا نكذبك ، ولكن نكذب الذي جئت به ، فأنزل الله تعالى : ? فَإِنَّهُمْ لاَ يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآيَاتِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ? .
وعن قتادة : قوله : ? وَلَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِّن قَبْلِكَ فَصَبَرُواْ عَلَى مَا كُذِّبُواْ ? يعزّي نبيه - صلى الله عليه وسلم - كما تسمعون ، ويخبره أن الرسل قد كُذبت قبله ، فصبروا على ما كُذبوا حتى حكم الله وهو خير الحاكمين .(5/139)
وعن ابن عباس : قوله : ? وَإِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْرَاضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَن تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّمَاء ? والنفق : السرب ، فتذهب فيه ? فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ? أو تجعل لك سلّمًا فتصعد عليه ? فَتَأْتِيَهُم بِآيَةٍ ? أفضل مما أتيناهم فافعل ، ? وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْجَاهِلِينَ ? ، يقول الله سبحانه : لو شئت لجمعتهم على الهدى أجمعين . وعن مجاهد : ? إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ ? المؤمنون للذكر ، ? وَالْمَوْتَى ? الكفار حين ? يَبْعَثُهُمُ اللّهُ ? مع الموتى . وقال قتادة : هذا مثل المؤمن ، سمع كتاب الله فانتفع به وأخذ به وعقله ، ومثل الكافر أصمّ أبكم لا يبصر هذا ولا ينتفع به .
وقوله تعالى : ? وَقَالُواْ لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ? ، يقول تعالى : ? وَقَالُواْ ? ، يعني : كفار قريش ? لَوْلاَ ? هلا أنزل عليه ، ? آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ? كتفجير الأنهار له ، وإنزال الملائكة معه ، وإلقاء الكنوز إليه ؟ ? قُلْ إِنَّ اللّهَ قَادِرٌ عَلَى أَن يُنَزِّلٍ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ? لأنه لو أنزلها ثم لم يؤمنوا لعالجهم بالعقوبة ، كما قال تعالى : ? وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ ? .(5/140)
قوله عز وجل : ? وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ فِي الظُّلُمَاتِ مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (39) قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ (41) ? .
قوله تعالى : ? وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ? عن مجاهد في قوله :? أُمَمٌ أَمْثَالُكُم ? أصناف مصنفة تعرف بأسمائها ،وقال ابن جريج: الذرّة فما فوقها من ألوان ما خلق الله من الدواب .(5/141)
وقال ابن عباس في قوله : ? مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ? ما تركنا شيئًا إلا قد كتبناه في أم الكتاب ، ? ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ? ، قال : يعني بالحشر : الموت . وعن أبي هريرة في قوله : ? إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثَالُكُم مَّا فَرَّطْنَا فِي الكِتَابِ مِن شَيْءٍ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ ? ، قال : يحشر الله الخلق كلهم يوم القيامة ، البهائم والدواب والطير وكل شيء فبلغ من عدل الله يومئذٍ أن يأخذ الجمّاء والقرناء ثم يقول : كوني ترابًا ، فلذلك يقول الكافر : ( يا ليتني كنت ترابًا ) . وعن أبي ذر قال : بينا أنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا انتطحت عنزان ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أتدرون فيما انتطحوا » ؟ قالوا : لا ندري قال : « لكن الله يدري ، وسيقضي بينهما » . رواه ابن جرير .
وقوله تعالى : ? وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا صُمٌّ وَبُكْمٌ ? ، أي : لا يسمعون الخير ولا يتكلمون به ، ? فِي الظُّلُمَاتِ ? في ضلالات الكفر ، ? مَن يَشَإِ اللّهُ يُضْلِلْهُ ? فيموت على الكفر ، ? وَمَن يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? ، أي : الإسلام .(5/142)
? قُلْ أَرَأَيْتُكُم ? . قال البغوي : هل رأيتم ؟ والكاف فيه للتأكيد ، وقال الفراء رحمه الله : العرب تقول : أرأيتك ، وهم يريدون أخبرنا ، كما يقول : أرأيتك إن فعلت كذا ، ماذا نفعل أي أخبرني ؟ قال ابن عباس : قل يا محمد لهؤلاء المشركين : ? أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ ? قبل الموت ، ? أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ ? ، يعني : يوم القيامة ، ? أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ ? في صرف العذاب عنكم ، ? إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? وأراد أن الكفار يدعون الله في حال الاضطراب ، كما أخبر الله عنهم : ? وَإِذَا غَشِيَهُم مَّوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ? ، ثم قال : ? بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ ? ، أي : تدعون الله ولا تدعون غيره ، ? فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء ? قيّد الإِجابة بالمشيئة ، والأمور كلها بمشيئته ، ? وَتَنسَوْنَ ? وتتركون ، ? مَا تُشْرِكُونَ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس السادس والثمانون(5/143)
? وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (49) قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن(5/144)
شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (45) ? .(5/145)
عن ابن عباس : قوله : ? فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ? ، يعني : تركوا ما ذكروا به . وعن قتادة في قوله : ? فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ ? . قال : يعني : الرخاء ، وسعة الرزق . ? حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً ? . قال : أعجب ما كانت إليهم وأعزها لهم . ? فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ? ، قال السدي : فإذا هم مهلكون ، فتغيّر حالهم . وقال البغوي : ? فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ? ، آيسون من كل خير . وقال أبو عبيدة : المبلس النادم الحزين . وروى عقبة بن عامر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إذا رأيت الله يعطي العبد ما يحب وهو مقيم على معصيته ، فإنما ذلك استدراج ثم تلا ? فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ ? » الآية . رواه أحمد وغيره . وقال ابن زيد في قوله : ? فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ ? قال : استؤصلوا .? وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? .
قوله عز وجل : ? قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَى قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَهٌ غَيْرُ اللّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47) وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا يَمَسُّهُمُ الْعَذَابُ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (49) ? .
قال مجاهد في قوله : ? ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ? : يعرضون . وقال ابن عباس : يعدلون .(5/146)
وقال ابن جرير : ? انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ? ، يقول : انظر كيف نتابع عليهم الحجج ونضرب لهم الأمثال والعبر ليعتبروا ويذكَّروا ، فينيبوا ، ? ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ? ، يقال : صدف فلان عني بوجهه ، أي : عدل وأعرض .
وقال ابن كثير : ? ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ ? ، أي : ثم هم مع هذا البيان ? يَصْدِفُونَ ? ، أي : يعرضون عن الحق ، ويصدّون الناس عن إتباعه .
قوله عز وجل : ? قُل لاَّ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَفَلاَ تَتَفَكَّرُونَ (50) وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51) وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَيْءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52) وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ لِّيَقُولواْ أَهَؤُلاء مَنَّ اللّهُ عَلَيْهِم مِّن بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53) وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَن عَمِلَ مِنكُمْ سُوءاً بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِن بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (54) وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) ? .(5/147)
عن قتادة في قوله :? قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ ? . قال الأعمى : الكافر الذي قد عمي عن حق الله ، وأمره ، ونعمه عليه . والبصير : العبد المؤمن الذي أبصر بصرًا نافعًا فوحّد الله وحده ، وعمل بطاعة ربه ، وانتفع بما آتاه الله .
وقوله تعالى : ? وَأَنذِرْ بِهِ ? ، أي : القرآن : ? الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ ? ، أي : يخافون هول يوم الحشر ، كما قال تعالى : ? وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ ? . ? لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ ? يشفع لهم بغير إذنه ? لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ? فيتركون معاصيه ، ويفعلون ما أمرهم . وعن ابن مسعود قال : مرّ الملأ من قريش بالنبي - صلى الله عليه وسلم - وعنده صهيب ، وعمار ، وبلال ، وخباب ، ونحوهم من ضعفاء المسلمين ، فقالوا : يا محمد رضيت بهؤلاء من قومك ، أهؤلاء الذين منّ الله عليهم من بيننا ، أنحن نكون تبعًا لهؤلاء ؟ اطردهم عنك فلعلّّك إن طردتهم أن نتبعك ، فنزلت هذه الآية ? وَلاَ تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ? ? وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُم بِبَعْضٍ ? إلى آخر الآية .
وعن مجاهد في قول الله : ? الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ ? . قال : الصلاة المكتوبة . وقال إبراهيم : هم أهل الذكر . وقال أبو جعفر : كان يقرئهم القرآن . وعن ماهان : أن قومًا جاءوا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - [ فقالوا : يا محمد أصبنا ذنوبًا عظامًا ، فما أخاله ردَّ عليهم شيئًا ، فانصرفوا ] ، فأنزل الله هذه الآية : ? وَإِذَا جَاءكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِنَا فَقُلْ سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ ? الآية . وقال مجاهد : من عمل بمعصية الله فذاك منه جهل حتى يرجع .(5/148)
وقوله تعالى : ? وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ? . قال ابن زيد : الذين يأمرونك بطرد هؤلاء .
وقال البغوي : ( ? وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ ? ، أي : هكذا ، وقيل : معناه : وكما فصلنا لك في هذه السورة دلائلنا وأعلامنا على المشركين ، ? وَكَذَلِكَ نفَصِّلُ الآيَاتِ ? ، أي : نميّز ونبيّن لك حجتنا في كل حق ينكره أهل الباطل ، ? وَلِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ ? ، أي : طريق المجرمين ) . انتهى ، والله أعلم .
* * *
الدرس السابع والثمانون(5/149)
? قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59) وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ(5/150)
نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (66) لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) ? .
* * *(5/151)
قوله عز وجل : ? قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قُل لاَّ أَتَّبِعُ أَهْوَاءكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَكَذَّبْتُم بِهِ مَا عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ (57) قُل لَّوْ أَنَّ عِندِي مَا تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الأَمْرُ بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58) وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لاَ يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَمَا تَسْقُطُ مِن وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُهَا وَلاَ حَبَّةٍ فِي ظُلُمَاتِ الأَرْضِ وَلاَ رَطْبٍ وَلاَ يَابِسٍ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (59) ? .
عن السدي : ? وَعِندَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ ? ، قال : يقول : خزائن الغيب . وقال ابن عباس : هن خمس : ? إِنَّ اللَّهَ عِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ ? إلى : ? إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ? .
وقوله تعالى : ? إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ? ، قال البغوي : يعني : الكل مكتوب في اللوح المحفوظ .
قوله عز وجل : ? وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ أَلاَ لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ (62) ? .(5/152)
عن السدي : ? وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُم بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُم بِالنَّهَارِ ? ، أمّا يتوفاكم بالليل ففي النوم ، وأمّا : يعلم ما جرحتم بالنهار ، فيقول : ما اكتسبتم من الإِثم . وعن قتادة : ? ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ ? في النهار ، والبعث : اليقظة عن السدي ? لِيُقْضَى أَجَلٌ مُّسَمًّى ? ، قال : هو أجل الحياة في الموت .
وعن قتادة : قوله : ? وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُم حَفَظَةً حَتَّىَ إِذَا جَاء أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ? ، يقول : حفظة يا ابن آدم ، يحفظون عليك عملك ورزقك وأجلك ، إذا توفيت ذلك قبضت إلى ربك .
وعن إبراهيم في قوله : ? تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لاَ يُفَرِّطُونَ ? ، قال : أعوان ملك الموت .
قوله عز وجل : ? قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً لَّئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللّهُ يُنَجِّيكُم مِّنْهَا وَمِن كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنتُمْ تُشْرِكُونَ (64) قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65) ? .(5/153)
عن ابن عباس : قوله : ? قُلْ مَن يُنَجِّيكُم مِّن ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ? . يقول : إذا أضل الرجل الطريق دعا الله : لئن أنجيتنا من هذه لنكونن من الشاكرين . وعن السدي : ? قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ ? فعذاب السماء ، ? أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ? فيخسف بكم الأرض . وعن مجاهد :? أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً ? الأهواء المفترقة . وعن ابن عباس : ? وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ? ، قال : يسلّط بعضكم على بعض بالقتل والعذاب . وعن جابر : لما أنزل الله تعالى على النبي - صلى الله عليه وسلم - : ? قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَن يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِّن فَوْقِكُمْ أَوْ مِن تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ? . قال : « أعوذ بوجهك » . ? أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَيُذِيقَ بَعْضَكُم بَأْسَ بَعْضٍ ? . قال : « هاتان أيسر أو أهون » .
قوله عز وجل : ? وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُل لَّسْتُ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (66) لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68) وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69)?.(5/154)
عن السدي : ? وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ ? ، يقول : كذب قريش بالقرآن ? وَهُوَ الْحَقُّ ? وأما الوكيل فالحفيظ ، وأما : ? لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ? فكان نبأ القرآن استقر يوم بدر بما كان يَعِدهم من العذاب . وعن مجاهد : ? لِّكُلِّ نَبَإٍ مُّسْتَقَرٌّ ? لكل نبأ حقيقة ، إما في الدنيا وإما في الآخرة ? وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ? ، ما كان في الدنيا فسوف ترونه ، وما كان في الآخرة فسوف يبدو لكم .
وعن قتادة في قوله : ? وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ? . قال : نهاه الله أن يجلس مع الذين يخوضون في آيات الله يكذبون بها ، فإن نسي فلا يقعد بعد الذكرى مع القوم الظالمين . وقال السدي : فإذا ذكرت فقم . وقال ابن جريج : كان المشركون يجلسون إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - يحبون أن يسمعوا منه ، فإذا سمعوا استهزءوا ، فنزلت .
وقوله تعالى : ? وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ? .
قال البغوي : روي عن ابن عباس أنه قال : لما نزلت هذه الآية : ? وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ ? ، قال المسلمون : كيف نقعد في المسجد الحرام ، ونطوف بالبيت وهم يخوضون أبدًا .
وفي رواية : قال المسلمون : فإنا نخاف الإثم حين نتركهم ولا ننهاهم ، فأنزل الله عز وجل : ? وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ ? الخوض ? مِنْ حِسَابِهِم ? أي : من إثم الخائضين ، ? مِّن شَيْءٍ وَلَكِن ذِكْرَى ? ، أي : ذكَّروهم وعظوهم بالقرآن ? لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ? الخوض إذا وعظتهم ، فرخّص في مجالستهم على الوعظ .(5/155)
قوله عز وجل : ? وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَذَكِّرْ بِهِ أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُواْ بِمَا كَسَبُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70) ? .
عن مجاهد في قول الله : ? وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَعِباً وَلَهْواً ? ، قال : كقوله : ? ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً ? .
وقوله تعالى : ? وَذَكِّرْ بِهِ ? ، أي : القرآن . ? أَن تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ? . قال ابن عباس : تهلك ، ? لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللّهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ وَإِن تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لاَّ يُؤْخَذْ مِنْهَا ? . قال قتادة : لو جاءت بملء الأرض ذهبًا لم يقبل منها .
قوله عز وجل : ? قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَىَ وَأُمِرْنَا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (71) وَأَنْ أَقِيمُواْ الصَّلاةَ وَاتَّقُوهُ وَهُوَ الَّذِيَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ وَيَوْمَ يَقُولُ كُن فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73) ? .(5/156)
عن السدي : ? قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّيَاطِينُ فِي الأَرْضِ حَيْرَانَ لَهُ أَصْحَابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنَا ? ، قال المشركون للمؤمنين : اتّبعوا سبيلنا واتركوا دين محمد ، فقال الله تعالى ذلك : ? قُلْ أَنَدْعُو مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُنَا وَلاَ يَضُرُّنَا ? هذه الآلهة ? وَنُرَدُّ عَلَى أَعْقَابِنَا بَعْدَ إِذْ هَدَانَا اللّهُ ? ، فيكون مثلنا كمثل الذي استهوته الشياطين في الأرض ، يقول : مَثَلُكم إن كفرتم بعد الإيمان ، كمثل رجل كان مع قوم على الطريق ، فضلّ الطريق ، فحيّرته الشياطين ، واستهوته في الأرض ، وأصحابه على الطريق ، فجعلوا يدعونه إليهم ، يقولون : ائتنا فإنا على الطريق ، فأبى أن يأتيهم فذلك مثل من يتبعكم بعد المعرفة بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ، ومحمد الذي يدعو إلى الطريق ، والطريق هو الإسلام . وقال ابن عباس : كالذي استغوته الغيلان في المهامة ، فأضلّوه فهو حائر بائر .
وقوله تعالى : ? قَوْلُهُ الْحَقُّ ? ، أي : الصدق ، ? وَلَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّوَرِ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ ? والصور : قرن ينفخ فيه إسرافيل . قال تعالى : ? وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ ? . والله أعلم .
الدرس الثامن والثمانون(5/157)
? وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84)(5/158)
وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (88) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لأَبِيهِ آزَرَ أَتَتَّخِذُ أَصْنَاماً آلِهَةً إِنِّي أَرَاكَ وَقَوْمَكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (74) وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغاً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) ? .(5/159)
قال ابن إسحاق : آزر أبو إبراهيم . وكان - فيما ذكر لنا والله أعلم - رجلاً من أهل كُوَثى من قرية بالسواد ، سواد الكوفة . وعن ابن عباس : قوله : ? نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? ، أي : خلق السماوات والأرض .
قال البغوي : ? وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ ? ، أي : كما أريناه البصيرة في دينه ، والحق في خلاف قومه ، كذلك نريه ملكوت السماوات والأرض . قال مجاهد : تفرجت لإِبراهيم السماوات السبع حتى العرش فنظر فيهنّ ، وتفرجت الأرض السبع فنظر فيهنّ .
وعن قتادة : ? فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَباً قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ ? ، علم أن ربه دائم لا يزول ، فقرأ حتى بلغ : ? هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ ? ، رأى خلقًا هو أكبر من الخلقين الأولين وأنور .
وقال ابن إسحاق : قال ذلك إبراهيم حين خرج من السرب الذي ولدته أمه فيه حين تخوّفت عليه من نمرود بن كنعان .
قال ابن كثير : والحق أن إبراهيم عليه الصلاة والسلام كان في هذا المقام مناظرًا لقومه ، مبيّنًا لهم بطلان ما كانوا عليه من عبادة الهياكل والأصنام .
وقال الشيخ ابن سعدي : ( والمناظرة تخالف غيرها في أمور كثيرة منها أن المناظر يقول الشيء الذي لا يعتقده ليبني عليه حجته ، وليقيم الحجة على خصمه ، كما قال في تكسيره الأصنام لما قالوا له : أأنت فعلت هذا بآلهتنا يا إبراهيم ؟ فأشار إلى الصنم الذي لم يكسره فقال : بل فعله كبيرهم هذا ، ومعلوم أن غرضه إلزامهم بالحجة وقد حصلت فهذا يسهّل علينا فهم معنى قوله : ? هَذَا رَبِّي ? ، أي : إن كان يستحق الإلهية بعد النظر في حالته ووصفه فهو ربي ، مع أنه يعلم العلم اليقيني أنه لا يستحق من الربوبية والإِلهية مثقال ذرة ، ولكن أراد أن يلزمهم بالحجة ) . انتهى .(5/160)
قوله عز وجل : ? وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ وَلاَ أَخَافُ مَا تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ (80) وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ (82) وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83) ? .
عن ابن جريج : ? وَحَآجَّهُ قَوْمُهُ قَالَ أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ ? . قال : دعا قومه مع الله إلهًا ، وخوّفوه بآلهتهم أن يصيبه منها خبل ، فقال إبراهيم : ? أَتُحَاجُّونِّي فِي اللّهِ وَقَدْ هَدَانِ ? ؟ قال : قد عرفت ربّي لا أخاف ما تشركون به ، ? وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ * وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ? أمن يعبد ربًا واحدًا أم من يعبد أربابًا كثيرة ؟(5/161)
قال ابن إسحاق : يقول الله تعالى ذكره : ? الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم ? ، أي : الذين أخلصوا كإخلاص إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - لعبادة الله توحيده ، ? وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ ? ، أي : شرك ، ? أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُم مُّهْتَدُونَ ? الأمن من العذاب ، والهدى في الحجة بالمعرفة والاستقامة . يقول الله تعالى : ? وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاء إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ? .
قوله عز وجل : ? وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ وَمِن ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِّنَ الصَّالِحِينَ (85) وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطاً وَكُلاًّ فضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ (86) وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (87) ذَلِكَ هُدَى اللّهِ يَهْدِي بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَلَوْ أَشْرَكُواْ لَحَبِطَ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (88) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ وَالنُّبُوَّةَ فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ (89) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ (90) ? .(5/162)
قال البغوي : ? وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنَا ? وفّقنا وأرشدنا . ? وَنُوحاً هَدَيْنَا مِن قَبْلُ ? ، أي : من قبل إبراهيم ، ? وَمِن ذُرِّيَّتِهِ ? ، أي : من ذرية نوح عليه السلام ، لأنه ذكر في جملتهم يونس ولوطًا ولم يكونا من ذرية إبراهيم .
قال ابن كثير : إذا أوصى الرجل لذريته أو وقف على ذريته أو وهبهم ، دخل أولاد البنات فيهم .
وعن مجاهد في قول الله تعالى : ? وَاجْتَبَيْنَاهُمْ ? ، قال : أخلصناهم .
وقوله تعالى : ? أُوْلَئِكَ الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ وَالْحُكْمَ ? ، يعني : الفهم والنبوة . ? فَإِن يَكْفُرْ بِهَا هَؤُلاء ? ، يعني : أهل مكة ، ? فَقَدْ وَكَّلْنَا بِهَا قَوْماً لَّيْسُواْ بِهَا بِكَافِرِينَ ? ، قال في ( جامع البيان ) : يعني : المهاجرين والأنصار ومن تبعهم إلى يوم القيامة . وقال قتادة : يعني : النبيين ، واختاره ابن جرير . ? أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ? . وعن مجاهد : أنه سأل ابن عباس : ( أفي ( ص ) سجدة ؟ فقال نعم ، ثم تلا : ? وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ ? إلى قوله : ? فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ? ، ثم قال : هو منهم ) . رواه البخاري .
وقوله تعالى : ? قُل لاَّ أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً ? ، أي : لا أطلب منكم على إبلاغي إياكم هذا القرآن أجره ? إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرَى لِلْعَالَمِينَ ? كقوله : ? وَمَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى رَبِّ الْعَالَمِينَ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس التاسع والثمانون(5/163)
? وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94) ? .
* * *(5/164)
قوله عز وجل : ? وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ (92) ? .
قال ابن كثير : ? وَمَا قَدَرُواْ اللّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ? وما عظموا الله حق تعظيمه ، ? إِذْ قَالُواْ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ? . قال ابن عباس : نزلت في قريش ، ? قُلْ مَنْ أَنزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاء بِهِ مُوسَى نُوراً وَهُدًى لِّلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيراً ? ، قال مجاهد : هم اليهود .
وقال البغوي : قرأ ابن كثير ، وأبو عمرو بالياء .(5/165)
وقال سعيد بن جبير : جاء رجل من اليهود يقال له : مالك بن الصيف يخاصم النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - : « أنشدك الله الذي أنزل التوراة على موسى أما تجد في التوراة أن الله يبغض الحبر السمين » ؟ وكان حبرًا سمينًا ، فغضب وقال : والله ما أنزل على بشر من شيء . وقال السدي : نزلت في فنحاص بن عازوارء وهو قائل هذه المقالة . وفي القصة : أن مالك بن الصيف لما سمعت منه اليهود تلك المقالة عتبوا عليه وقالوا : أليس أن الله أنزل التوراة على موسى فلم قلت : ? مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى بَشَرٍ مِّن شَيْءٍ ? ؟ فقال مالك بن الصيف : أغضبني محمد فقلت ذلك ، فقالوا له : وأنت إذا غضبت تقول على الله غير الحق ؟ ! فنزعوه من الحبرية وجعلوا مكانه كعب ابن الأشرف .
وقوله تعالى : ? وَعُلِّمْتُم مَّا لَمْ تَعْلَمُواْ أَنتُمْ وَلاَ آبَاؤُكُمْ ? ، قال مجاهد : وعلمتم معشر العرب ما لم تعلموا أنتم ولا آباؤكم .
وقوله تعالى : ? قُلِ اللّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ ? ، أي : قل : الله أنزله ، ثم دعهم في غيّهم ، وجهلهم يلعبون ، فسوف يعلمون عاقبة ذلك . وعن ابن عباس : قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى نورًا وهدى للناس قل الله أنزله .
قال ابن كثير : وهذا الذي قاله ابن عباس هو المتعيّن في تفسير هذه الكلمة ، لا ما قاله بعض المتأخرين من أن المعنى : ? قُلِ اللّهُ ? ، أي : لا يكون خطابك لهم إلا هذه الكلمة ، كلمة الله ؛ وهذا الذي قال هذا القائل يكون أمرًا بكلمة مفردة من غير تركيب ، والإتيان بكلمة مفردة لا يفيد في لغة العرب فائدة يحسن السكوت عليها .(5/166)
وقوله تعالى : ? وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ مُّصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَلِتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا ? ، قال ابن عباس : أم القرى مكة ، ومن حولها الأرض كلها . ? وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ ? أي : القرآن ، ? وَهُمْ عَلَى صَلاَتِهِمْ يُحَافِظُونَ ? أي : يداومون عليها ، ويقيمونها في أوقاتها .
قوله عز وجل : ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93) وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ (94) ? .
قال ابن كثير : ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا ? ، أي : لا أحد أظلم ممن كذب على الله ، فجعل له شركاء أو ولدًا ، أو ادّعى أن الله أرسله إلى الناس ولم يرسله ، ولهذا قال تعالى : ? أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ ? . قال عكرمة وقتادة : نزلت في مسيلمة الكذاب .(5/167)
? وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ ? ، أي : ومن ادعى أنه يعارض ما جاء من عند الله من الوحي ، بما يفتريه من القول ، كقوله تعالى : ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ? الآية .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَرَاتِ الْمَوْتِ ? ، أي : سكراته ? وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ ? ، قال ابن عباس : والبسط الضرب . وقال السدي : ? وَالْمَلآئِكَةُ بَاسِطُواْ أَيْدِيهِمْ ? بالعذاب .
وقال ابن جرير : يقولون لهم : ? أَخْرِجُواْ أَنفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ? وهو عذاب جهنم ? بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ ? .
وقوله تعالى : ? وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ? ، قال السدي : ? وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ ? من المال والخدم ? وَرَاء ظُهُورِكُمْ ? في الدنيا . وقال الحسن البصري : ( يؤتى بابن آدم يوم القيامة كأنه بَذَجٌ فيقول الله عز وجل : يا ابن آدم ، فيقول : يا رب جمعته وتركته أوفر ما كان ، فيقول له : يا ابن آدم أين ما قدّمت لنفسك ؟ فلا يراه قدّم شيئًا ، وتلا هذه الآية ? وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُم مَّا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاء ظُهُورِكُمْ ? ) الآية .
قال في ( القاموس ) : ( البَذَجُ محرّكة : ولد الضأن ) .
وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « يقول ابن آدم : مالي مالي ، وهل لك من مالك إلا ما أكلت فأفنيت ، أو لبست فأبليت ، أو تصدّقت فأمضيت ؟ وما سوى ذلك فذاهب وتاركه للناس » .(5/168)
وقوله تعالى : ? وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاء ? . قال السدي : فإن المشركين كانوا يزعمون أنهم كانوا يعبدون الآلهة لأنهم شفعاء لهم يشفعون لهم عند الله ، وأن هذه الآلهة شركاء لله .
وقوله تعالى : ? لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ? عن مجاهد : ? لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ? ، قال : تواصلهم في الدنيا ، ? وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ? ، قال ابن عباس : يعني : الأرحام والمنازل . وعن السدي : ? لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ ? ، يقول : تقطّع ما بينكم .
وقال ابن كثير : وقوله : ? وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ? تقريع لهم وتوبيخ على ما كانوا اتخذوا في الدنيا من الأنداد ، والأصنام ، والأوثان ، ظانين أنها تنفعهم في معاشهم ومعادهم ، إن كان ثَمَّ معاد ، فإذا كان يوم القيامة تقطّعت بهم الأسباب ، وانزاح الضلال ، وضلّ عنهم ما كانوا يفترون ، ويناديهم الرب ، جلّ جلاله ، على رءووس الخلائق : ? أَيْنَ شُرَكَاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ ? ؟ ? وَقِيلَ لَهُمْ أَيْنَ مَا كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ يَنْتَصِرُونَ ? ؟ ولهذا قال ها هنا : ? وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ ? ، أي : في العبادة لهم فيكم قسط في استحقاق العبادة لهم ، ثم قال تعالى : ? لَقَد تَّقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنكُم مَّا كُنتُمْ تَزْعُمُونَ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس التسعون(5/169)
? إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104)(5/170)
وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (107) وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (108) وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) ? .
* * *(5/171)
قوله عز وجل : ? إِنَّ اللّهَ فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَمُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذَلِكُمُ اللّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فَالِقُ الإِصْبَاحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) ? .
قال السدي : أما : ? فَالِقُ الْحَبِّ وَالنَّوَى ? ففالق الحب عن السنبلة ، وفالق النواة من النخلة . وقال مجاهد : الشقّان اللذان فيهما . وقال : ? فَالِقُ الإِصْبَاحِ ? إضاءة الفجر . وعن ابن عباس في قوله : ? وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْبَاناً ? ، يعني : عدد الأيام ، والشهور ، والسنين ? ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ ? .
? وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُواْ بِهَا فِي ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَهُوَ الَّذِيَ أَنشَأَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ? .
قال في ( جامع البيان ) : الفقه : تدقيق النظر ، فهو أليق بالاستدلال بالأنفس لدقته ، بخلاف الاستدلال بالآفاق ففيه ظهور ، ولهذا قال في الأول : ? لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ? .
وعن سعيد بن جبير في قوله : ? فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ? . قال : مستودعون ما كانوا في أصلاب الرجال ، فإذا قروا في أرحام النساء أو على ظهر الأرض وفي بطنها فقد استقرّوا .(5/172)
قوله عز وجل : ? وَهُوَ الَّذِيَ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً وَمِنَ النَّخْلِ مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99) ? .
عن السدي قوله : ? مِنْهُ خَضِراً نُّخْرِجُ مِنْهُ حَبّاً مُّتَرَاكِباً ? فهذا السنبل . وعن قتادة : قوله : ? مِن طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ ? ، قال : عذوق متهدّلة .
? وَجَنَّاتٍ مِّنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ? ، أي : مشتبهًا وَدَقُهُما ، مختلفًا ثمرهما .
وقيل : مشتبه في النظر ، مختلف في الطعم .
? انظُرُواْ إِلِى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ ? . قال ابن عباس : نضجه ، ? إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ? .
قوله عز وجل : ? وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء الْجِنَّ وَخَلَقَهُمْ وَخَرَقُواْ لَهُ بَنِينَ وَبَنَاتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ وهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (101) ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (102) لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103) ? .(5/173)
قال ابن عباس : وجعلوا لِلّه شرَكاء الجن والله خلقهم وخرقوا له بنين وبنات ، يعني : أنهم تخرّصوا . وقال السدي : يقول : قطعوا له بنين وبنات ؛ قالت العرب : الملائكة بنات الله ، وقالت اليهود والنصارى : المسيح وعزير أبناء الله . وقال مجاهد : خرقوا : كذبوا .
وقال ابن زيد في قوله : ? بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? . قال : هو الذي ابتدع خلقهما ، جلّ جلاله ، فخلقهما ولم يكونا شيئًا قبله . ? أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَلَمْ تَكُن لَّهُ صَاحِبَةٌ ? ، والولد إنما يكون من الذكر والأنثى ، ولا ينبغي أن يكون لله سبحانه صاحبة فيكون له ولد ، وذلك أنه هو الذي خلق كل شيء ، يقول : فإذا كان لا شيء إلا الله خلقه ، فأنى يكون لله ولد ولم تكن له صاحبة فيكون له منها ولد ؟ ؟
? ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَاعْبُدُوهُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ ? يدبّرهم ويرزقهم .
? لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ? . قال ابن عباس : يقول : لا يحيط بصر أحد بالملك . وقال قتادة : هو أعظم من أن تدركه الأبصار . وعن عطية العوفي في قوله : ? وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ? . قال : هم ينظرون إلى الله ، لا تحيط أبصارهم به من عظمته ، وبصره يحيط بهم ؛ فذلك قوله : ? لاَّ تُدْرِكُهُ الأَبْصَارُ وَهُوَ يُدْرِكُ الأَبْصَارَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ ? . قال أبو العالية : لطيف باستخراجها ، خبير بمكانها .(5/174)
قوله عز وجل : ? قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (104) وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ وَلِيَقُولُواْ دَرَسْتَ وَلِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105) اتَّبِعْ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (107) وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (108) ? .
قال ابن زيد : البصائر : الهدى ، بصائر في قلوبهم لدينهم ، ? وَكَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ ? ، لهؤلاء العادلين بربهم ، كما صرفتها في هذه السورة ، ولئلا يقولوا : ? دَرَسْتَ ? ، أي : قرأت الكتب ، ? وَلِنُبَيِّنَهُ ? ، أي : القرآن ? لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ? ، وقيل : اللام لام العاقبة ، أي : عاقبة أمرهم أن يقولوا درست . وعن قتادة قال : كان المسلمون يسبّون أصنام الكفار فيسبّ الكفار الله ، فأنزل الله ? وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ ? ، أي : اعتداءً وجهلاً ؛ ? كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ? .(5/175)
قوله عز وجل : ? وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لَئِن جَاءتْهُمْ آيَةٌ لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا قُلْ إِنَّمَا الآيَاتُ عِندَ اللّهِ وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ (109) وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110) وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111) ? .
قال مجاهد : سألت قريش محمدًا - صلى الله عليه وسلم - أن يأتيهم بآية ، واستحلفهم ? لَّيُؤْمِنُنَّ بِهَا ? ، ? وَمَا يُشْعِرُكُمْ ? وما يدريكم ? أَنَّهَا إِذَا جَاءتْ لاَ يُؤْمِنُونَ ? ؟ ? وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ ? . قال : نحول بينهم وبين الإيمان ، ولو جاءتهم كل آية فلا يؤمنوا ، كما حُلْنا بينهم وبين الإِيمان أول مرة . وقال ابن عباس : لما جحد المشركون ما أنزل الله ، لم تثبت قلوبهم على شيء ، ? وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ? . قال عطاء : نخذلهم وندعهم في ضلالتهم يتمادون .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلآئِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً مَّا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ ? .(5/176)
قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : يا محمد إيئس من فلاح هؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام ، القائلين لك : لئن جئتنا بآية لنؤمنن لك ، فإننا لو نزلنا إليهم الملائكة حتى يروها عيانًا ، وكلمهم الموتى بإحيائنا إيّاهم حجَّة لك ، ودلالة على نبوتك ، وأخبروهم أنك محقّ فيما تقول ، وأن ما جئتهم به حقّ من عند الله ، وحشرنا عليهم كل شيء ، فجعلناهم لك قُبُلاً ، ما آمنوا ولا صدّقوك ولا اتّبعوك ، إلا أن يشاء الله ذلك لمن شاء منهم ، ولكن أكثرهم يجهلون .
وعن ابن عباس : ? وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلاً ? . قال : معاينة ، يقول : لو استقبلهم ذلك كله لم يؤمنوا إلا أن يشاء الله . والله أعلم .
* * *
الدرس الحادي والتسعون(5/177)
? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ (120) وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَوَ مَن كَانَ(5/178)
مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (122) وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ (124) فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (127) وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (129) يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ(5/179)
الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (112) وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ (113) أَفَغَيْرَ اللّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنَزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِّن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114) وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115) ? .
عن أبي ذر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « يا أبا ذر هل تعوّذت بالله من شر شياطين الإِنس والجن » ، قال : قلت : يا رسول الله هل للإِنس من شياطين ، قال : « نعم » . رواه ابن جرير . قال قتادة : من الجن شياطين ومن الإنس شياطين . يوحي بعضهم إلى بعض .(5/180)
وعن عكرمة قوله : ? زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً ? ، قال : تزيين الباطل بالألسنة .
وقال ابن عباس في قوله : ? وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ ? ، قال : لتميل . وقال ابن زيد : وليهووا ذلك ? وَلِيَرْضَوْهُ ? .
وعن ابن عباس : ? وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ ? وليكتسبوا ما هم مكتسبون .
وقال قتادة في قوله : ? وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ صِدْقاً وَعَدْلاً لاَّ مُبَدِّلِ لِكَلِمَاتِهِ ? ، يقول : صدقًا وعدلاً فيما حكم .
قوله عز وجل : ? وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللّهِ إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَن يَضِلُّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117) فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَمَا لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُم مَّا حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَّيُضِلُّونَ بِأَهْوَائِهِم بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَذَرُواْ ظَاهِرَ الإِثْمِ وَبَاطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِمَا كَانُواْ يَقْتَرِفُونَ (120) وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) ? .(5/181)
قال عكرمة : لما نزل تحريم الميتة ، أوحت فارس إلى أوليائها من قريش ، أن خاصموا محمدًا ، وكانت أولياءهم في الجاهلية ، وقولوا له : إن ما ذبحت فهو حلال وما ذبح الله - قال ابن عباس - : بِشمشارٍ من ذهب فهو حرام ، فأنزل الله هذه الآية : ? وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ ? ، قال الشياطين فارس ، وأولياؤهم قريش .
وفي رواية : فوقع في أنفس ناس من المسلمين من ذلك شيء فنزلت : ? وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ ? الآية .
وعن ابن عباس : قوله : ? فَكُلُواْ مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ إِن كُنتُمْ بِآيَاتِهِ مُؤْمِنِينَ ? ، قال : قالوا : يا محمد أما ما قتلتم وذبحتم فتأكلونه ، وأما ما قتل ربكم فتحرمونه ؟ فأنزل الله : ? وَلاَ تَأْكُلُواْ مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَآئِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ ? وإن أطعتموهم في أكل ما نهيتكم عنه إنكم إذًا لمشركون . وقال ابن عباس : ( المسلم يكفيه اسمه ، إن نسي أن يسمي حين يذبح ، فليذكر اسم الله وليأكله ) .
قوله عز وجل : ? أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (122) ? .
عن ابن عباس : ? أَوَ مَن كَانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْنَاهُ ? ، يعني : من كافر كان فهديناه ? وَجَعَلْنَا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ ? ، يعني بالنور : القرآن ، ومن صّدق به وعمل به ? كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ ? ، يعني بالظلمات : الكفر والضلالة .(5/182)
قوله عز وجل : ? وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا لِيَمْكُرُواْ فِيهَا وَمَا يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنفُسِهِمْ وَمَا يَشْعُرُونَ (123) وَإِذَا جَاءتْهُمْ آيَةٌ قَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتَى مِثْلَ مَا أُوتِيَ رُسُلُ اللّهِ اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُواْ صَغَارٌ عِندَ اللّهِ وَعَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا كَانُواْ يَمْكُرُونَ (124) ? .
عن مجاهد : ? أَكَابِرَ مُجَرِمِيهَا ? ، قال : عظماؤها . وقال ابن جريج : يمكرون بدين الله ونبيه عليه السلام وعباده المؤمنين .وقال السدي : الصَّغار : الذلة .
قوله عز وجل : ? فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (125) وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (127) ? .(5/183)
عن أبي جعفر قال : سئل النبي - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية : ? فَمَن يُرِدِ اللّهُ أَن يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلإِسْلاَمِ ? ، قالوا : كيف يشرح صدره يا رسول الله ؟ قال : « نور يقذف فيه فينشرح له وينفسح » . قالوا : فهل لذلك من أمارة يعرف بها ؟ قال : « الإِنابة إلى دار الخلود ، والتجافي عن دار الغرور ، والاستعداد للموت » . رواه ابن جرير . وعن عمر بن الخطاب أنه قرأ هذه الآية : ? وَمَن يُرِدْ أَن يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً ? بنصب الراء ، وقرأ بعض من عنده من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ضيقًا حرِجًا ، فقال عمر : ابغوني رجلاً من كنانة ، واجعلواه راعيًا ، وليكن مدلجّيًا ، فأتوه به فقال له عمر : يا فتى ما الحرجة ؟ قال : الحرجة فينا الشجرة تكون بين الأشجار ، التي لا تصل إليها راعية ، ولا وحشية ، ولا شيء . فقال عمر : كذلك قلب المنافق ، لا يصل إليه شيء من الخير . وعن عطاء : ? كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ? ، يقول : مثله كمثل الذي لا يستطيع أن يصعد في السماء . وقال ابن جريج : ? كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاء ? من شدة ذلك عليه ، ? كَذَلِكَ يَجْعَلُ اللّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ ? ، قال ابن عباس : الرجس الشيطان . وقال ابن زيد : الرجس عذاب الله .
وقوله تعالى : ? وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً ? ، قال ابن عباس : يعني به : الإسلام . ? قَدْ فَصَّلْنَا الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السَّلاَمِ عِندَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ? ،
قال السدي : هو السلام ، والدار : الجنة .(5/184)
قوله عز وجل : ? وَيَوْمَ يِحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ وَقَالَ أَوْلِيَآؤُهُم مِّنَ الإِنسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ وَبَلَغْنَا أَجَلَنَا الَّذِيَ أَجَّلْتَ لَنَا قَالَ النَّارُ مَثْوَاكُمْ خَالِدِينَ فِيهَا إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَليمٌ (128) وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (129) ? .
عن قتادة : ? يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُم مِّنَ الإِنسِ ? ، قال : قد أضللتم كثيرًا من الإنس .
وعن ابن جريج : قوله : ? رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنَا بِبَعْضٍ ? ، قال : كان الرجل في الجاهلية ينزل الأرض فيقول : أعوذ بكبير هذا الوادي ، فذلك استمتاعهم ، فاعتذروا يوم القيامة ، وأما استمتاع الجن والإنس ، فإنه كان فيما ذكر ، ما ينال الجن من الإنس من تعظيمهم إيّاهم في استعاذتهم بهم ، فيقولون : قد سُدْنا الجن والإنس . وقال محمد بن كعب : هو طاعة بعضهم بعضًا ، وموافقة بعضهم لبعض .
وقوله تعالى :? وَكَذَلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ? أي : نسلّط بعضهم على بعض . وقال قتادة : يتبع بعضهم بعضًا في النار . وعن ابن عباس : أن الله تعالى إذا أراد بقوم خيرًا ولّى أمرهم خيارهم ، وإذا أراد بقوم شرًّا ولّى أمرهم شرارهم . وعن قتادة : فجعل بعضهم أولياء بعض ، فالمؤمن وليّ المؤمن أينما كان ،والكافر وليّ الكافر حيث كان.(5/185)
قوله عز وجل : ? يَا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَالإِنسِ أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي وَيُنذِرُونَكُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُواْ شَهِدْنَا عَلَى أَنفُسِنَا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (130) ذَلِكَ أَن لَّمْ يَكُن رَّبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا غَافِلُونَ (131) وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132) وَرَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَسْتَخْلِفْ مِن بَعْدِكُم مَّا يَشَاءُ كَمَا أَنشَأَكُم مِّن ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ مَا تُوعَدُونَ لآتٍ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135) ? .
قال البغوي : ? وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِّمَّا عَمِلُواْ ? ، يعني : في الثواب والعقاب على قدر أعمالهم في الدنيا . وعن ابن عباس : ? عَلَى مَكَانَتِكُمْ ? يعني : على ناحيتكم . قال الزجاج : اعملوا على ما أنتم عليه ، ? إِنِّي عَامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن تَكُونُ لَهُ عَاقِبَةُ الدِّارِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الثاني والتسعون(5/186)
? وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (138) وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ (139) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (140) وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (142) ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ(5/187)
الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (145) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَجَعَلُواْ لِلّهِ مِمِّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَالأَنْعَامِ نَصِيباً فَقَالُواْ هَذَا لِلّهِ بِزَعْمِهِمْ وَهَذَا لِشُرَكَآئِنَا فَمَا كَانَ لِشُرَكَآئِهِمْ فَلاَ يَصِلُ إِلَى اللّهِ وَمَا كَانَ لِلّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلَى شُرَكَآئِهِمْ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (136) وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ (137) ? .(5/188)
قال مجاهد : يسمّون لله جزءًا من الحرث ، ولشركائهم وأوثانهم جزءًا ، فما ذهبت به الريح مما سمّوا لله إلى جزء أوثانهم تركوه ، وما ذهب من جزء أوثانهم إلى جزء الله رموه ، وقالوا : الله غنيّ عن هذا ؛ والأنعام : السائبة ، والبحيرة : التي سمّوا . قال قتادة : وكانوا إذا أصابتهم السِّنة استعانوا بما جزّءوا لله وأخّروا ما جزّءوا لشركائهم قال الله : ? سَاء مَا يَحْكُمُونَ ?.
وقوله تعالى : ? وَكَذَلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَلِيَلْبِسُواْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ ? عن مجاهد : في قول الله ? قَتْلَ أَوْلاَدِهِمْ شُرَكَآؤُهُمْ ? شياطينهم ، يأمرونهم أن يئدوا أولادهم خيفة العيلة .
قوله عز وجل : ? وَقَالُواْ هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لاَّ يَطْعَمُهَا إِلاَّ مَن نّشَاء بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُهَا وَأَنْعَامٌ لاَّ يَذْكُرُونَ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاء عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِم بِمَا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (138) ? .
عن مجاهد : ? وَحَرْثٌ حِجْرٌ ? ، يقول : حرام . وعن قتادة : قوله : ? هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ? الآية ، تحريم كان عليهم من الشياطين في أموالهم وتغليظ وتشديد . وقال ابن زيد في قوله : ? هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ ? نحتجرها على من نريد وعمن نريد ، لا نطعمها إلا من شاء بزعمهم ، قال : إنما احتجروا ذلك لآلهتهم ، وقالوا : نحتجرها ونجعلها للرجال .(5/189)
وقال السدي : أما : أنعام حرمت ظهورها ، فهي : البحيرة والسائبة والحام ، وأما الأنعام التي لا يذكرون اسم اللّه عليها إذا ولدوها ، ولا إن نحروها . وقال أبو وائل : لا يحجّون عليها . وقال مجاهد : كان من إبلهم طائفة لا يذكرون اسم الله عليها ، ولا في شيء من شأنها ، لا إن ركبوها ، ولا إن حلبوها ، ولا إن حملوا ، ولا إن منحوا ، ولا إن عملوا شيئًا .
قوله عز وجل : ? وَقَالُواْ مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا وَإِن يَكُن مَّيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكَاء سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حِكِيمٌ عَلِيمٌ (139) ? .
عن مجاهد : ? مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِّذُكُورِنَا ? السائبة ، والبحيرة . وقال السدي : فهذه الأنعام ما ولد منها حيّ فهو خالص للرجال دون النساء وأما ما ولد من ميت فيأكله الرجال والنساء .
وعن مجاهد في قوله : ? سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ ? ، قال : قولهم الكذب في ذلك .
قوله عز وجل : ? قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (140) ? .(5/190)
قال السدي : ثم ذكر ما صنعوا في أولادهم وأموالهم فقال : ? قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ ? ، قال قتادة : هذا صنيع أهل الجاهلية ، كان أحدهم يقتل ابنته مخافة السباء والفاقة ، وجعلوا بحيرة وسائبة ووصيلة وحامًا تحكّمًا من الشياطين في أموالهم . وقال ابن عباس : إذا سرّك أن تعلم جهل العرب ، فأقرأ ما فوق الثلاثين والمائة من سورة الأنعام ، ? قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُواْ أَوْلاَدَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَحَرَّمُواْ مَا رَزَقَهُمُ اللّهُ افْتِرَاء عَلَى اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ ? .
قوله عز وجل : ? وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ وَالنَّخْلَ وَالزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141) وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (142) ? .
قال السدي في قوله : ? وَهُوَ الَّذِي أَنشَأَ جَنَّاتٍ مَّعْرُوشَاتٍ وَغَيْرَ مَعْرُوشَاتٍ ? أما جنات : فالبساتين ، وأما المعروشات : فما عرش كهيئة الكرم . وعن ابن جريج : قوله : ? مُتَشَابِهاً وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ ? ، قال : متشابهًا في المنظر ، وغير متشابه في الطعم .
وقوله تعالى : ? كُلُواْ مِن ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ? ، قال عطاء : من النخل والعنب والحبّ كله . وقال مجاهد : إذا حضرك المساكين طرحت لهم منه ، وإذا أنقيته وأخذت في كيله حثوث لهم منه ، وإذا علمت كيله عزلت زكاته .(5/191)
وقال محمد بن جعفر عن أبيه : ? وَآتُواْ حَقَّهُ يَوْمَ حَصَادِهِ ? ، قال : شيئًا سوى الحق الواجب .
وعن السدي : ? وَلاَ تُسْرِفُواْ ? لا تعطوا أموالكم فتقعدوا فقراء . وقال عطاء في قوله : ? وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ? ينهى عن السرف في كل شيء ، ثم تلا : ? لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا ? .
وقوله تعالى : ? وَمِنَ الأَنْعَامِ حَمُولَةً وَفَرْشاً كُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ? ، قال ابن عباس : الحمولة : هي الكبار . والفرش : الصغار من الإِبل . وقال السدي : أما الحمولة : فالإِبل ، وأما الفرس : فالفصلان ، والعجاجيل ، والغنم ، وما حمل عليه : فهو حمولة .
قوله عز وجل : ? ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (143) وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحَامُ الأُنثَيَيْنِ أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144) ? .(5/192)
عن الضحاك : ? مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ ? ذكر وأنثى . قال ابن جريج : يقول : من أين حرّمت هذا ؟ من قِبَل الذكرين أم من قِبَل الأنثيين ، أما اشتملت عليه أرحام الأنثيين ؟ وإنها لا تشتمل إلا على ذكر أو أنثى ، فمن أين جاء التحريم ؟ فأجابوهم : وجدنا آباءنا كذلك يفعلون . وقال السدي : فما حرمت عليكم ذكرًا ولا أنثى من الثمانية ، إنما ذكر هذا من أجل ما حرَّموا من الأنعام . وعن ابن عباس : قوله : ? ثَمَانِيَةَ أَزْوَاجٍ مِّنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ ? فهذه أربعة أزواج ، ? وَمِنَ الإِبْلِ اثْنَيْنِ وَمِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ ? . ? قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الأُنثَيَيْنِ ? ، يقول : لم أحرم شيئًا من ذلك ، ? نَبِّؤُونِي بِعِلْمٍ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? ، يقول : كله حلال .
وقال ابن زيد في قوله : ? أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاء إِذْ وَصَّاكُمُ اللّهُ بِهَذَا ? : الذي تقولون ؟ وقال السدي : كانوا يقولون يعني : الذين كانوا يتخذون البحائر والسوائب : إن الله أمر بهذا ، فقال الله : ? فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ ? .
قوله عز وجل : ? قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (145) ? .(5/193)
قال ابن جرير : يقول جل ثناؤه لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - : ? قُل ? يا محمد - لهؤلاء الذين جعلوا لله مما ذرأ من الحرث والأنعام نصيبًا ، ولشركائهم من الآلهة والأنداد مثله ، والقائلين : هذه أنعام وحَرْث لا يطعمها إلا من نشاء بزعمهم ، والمحرّمين من أنعام أُخر ظهورها ، والتاركين ذكر اسم الله على أخر منها ، والمحرّمين بعض ما في بطون بعض أنعامهم على إناثهم وأزواجهم ، ومحلّيه لذكورهم ، المحرَّمين ما رزقهم الله افتراءً على الله ، وإضافة منهم ما يحرّمون من ذلك ، إلى أن الله هو الذي حرّمه عليهم - : أجاءكم من الله رسول بتحريمه ذلك عليكم ؟ فأنبئونا به ، أم وصّاكم الله بتحريمه ، مشاهدة منكم له ، فسمعتم منه تحريمه ذلك عليكم ، فحرّمتموه ؟ فإنكم كذبتم إن ادعيتم ذلك ، ولا يمكنكم دعواه ، إذا ادّعيتموه ، علم الناس كذبكم ، فإني لا أجد فيما أوحي إليّ من كتابه وآي تنزيله شيئًا محرّمًا على آكل يأكله مما تذكرون أنه حرمه من هذه الأنعام ، التي تضيفون تحريم ما حرّم عليكم منها إلى الله ، ? إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً ? قد ماتت بغير تذكية ? أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً ? وهو : النصُب ، أو إلا أن يكون : ? لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً ? ، يقول : أو إلا أن يكون فسقًا يعني بذلك : أو إلا أن يكون مذبوحًا ، ذبحه ذابح من المشركين من عبدة الأوثان لصنمه وآلهته ، فذكر عليه اسم وثنه ، فإن ذلك الذبح فسق نهى الله عنه وحرّمه ، ونهى من آمن به عن أكل ما ذبح كذلك لأنه ميتة . وهذا إعلام من الله جل ثناؤه للمشركين الذين جادلوا نبي الله وأصحابه في تحريم الميتة بما جادلوهم به ، إن الذي جادلوهم فيه من ذلك هو الحرام الذي حرمه الله ، وإن الذي زعموا أن الله حرّمه حلال قد أحلّه الله ، وإنهم كذبة في إضافتهم تحريمه إلى الله .(5/194)
ثم ساق بسنده عن ابن طاوس عن أبيه في قوله : ? قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً ? ، قال : كان أهل الجاهلية يحرّمون أشياء ويحلّون أشياء ، فقال الله قل : لا أجد فيما كنتم تحرّمون وتستحلّون إلا هذا : ? إِلاَّ أَن يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ ? .
وعن عكرمة : ? أَوْ دَماً مَّسْفُوحاً ? ، قال : لولا هذه الآية لتتّبع المسلمون من العروق ما تتبّعت اليهود . وعن ابن عمر أنه سئل عن القنفذ فقرأ : ? قُل لاَّ أَجِدُ فِي مَا أُوْحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ ? الآية ، فقال شيخ عنده : سمعت أبا هريرة يقول : ذُكِر عند النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : « خبيث من الخبائث » . فقال ابن عمر : إن كان النبي - صلى الله عليه وسلم - قاله فهو كما قال . رواه أبو داود .
وقوله تعالى : ? فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? ، أي : من اضطر إلى كل ما حرّمه الله ? غَيْرَ بَاغٍ ? ، أي : في أكله تلذذًا من غير ضرورة ? وَلاَ عَادٍ ? ، أي : غير متجاوز في أكله ، فلا حرج عليه . قال مجاهد : ? غَيْرَ بَاغٍ ? يبتغيه ? وَلاَ عَادٍ ? يتعدى على ما يمسك نفسه . وقوله تعالى : ? فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? .
قال البغوي : أباح الله أكل هذه المحرّمات عند الاضطرار في غير العدوان. والله أعلم .
* * *
الدرس الثالث والتسعون(5/195)
? وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ(5/196)
فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا أَوِ الْحَوَايَا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ (146) فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147) ?.
عن ابن عباس : ? وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ? ، قال : البعير والنعامة ونحو ذلك من الدواب . وعن قتادة : ? وَمِنَ الْبَقَرِ وَالْغَنَمِ حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُمَا ? الثروب ، ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : « قاتل الله اليهود ، حرم عليهم الثروب ثم أكلوا أثمانها » . وقال ابن جريج : إنما حرم عليهم الثرب ، وكل شحم كان كذلك ليس في عظم . وقال السدي : الثرب وشحم الكليتين ، وكانت اليهود تقول : إنما حرّمه إسرائيل فنحن نحرّمه .
وعن ابن عباس : ? إِلاَّ مَا حَمَلَتْ ظُهُورُهُمَا ? ، يعني : ما علق بالظهر من الشحوم . وقال أبو صالح : الإِلية مما حملت ظهورهما . وعن مجاهد : الحوايا المبعر والمربض . وعن ابن جريج : ? أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ? ، قال : شحم الإلية بالعصعص فهو حلال ، وكل شيء في القوائم ، والجنب ، والرأس ، والعين و مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ فهو حلال .(5/197)
وعن قتادة : ? ذَلِكَ جَزَيْنَاهُم بِبَغْيِهِمْ وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ? إنما حرم ذلك عليهم عقوبة ببغيهم .
وقوله تعالى : ? وِإِنَّا لَصَادِقُونَ ? ، أي : فيما أخبرنا من تحريمنا ذلك عليهم ، لا كما زعموا أن إسرائيل حرّمه . وقال السدي : كانت اليهود يقولون : إنما حرّمه إسرائيل - يعني : الثرب وشحم الكليتين - فنحن نحرّمه ، فذلك قوله : ? فَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل رَّبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ وَاسِعَةٍ وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ? انتهى . والآية عامة في جميع المكذبين .
قوله عز وجل : ? سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم حَتَّى ذَاقُواْ بَأْسَنَا قُلْ هَلْ عِندَكُم مِّنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنَا إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إَلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (149) قُلْ هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَلاَ تَتَّبِعْ أَهْوَاء الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَهُم بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150) ? .
عن ابن عباس :قوله:? لَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلاَ آبَاؤُنَا ? قال :? كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِم ? ، ثم قال : ? وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ ? فإنهم قالوا : عبادتنا الآلهة تقرّبنا إلى الله زلفى ، فأخبرهم الله أنها لا تقرّبهم .
وقوله : ? وَلَوْ شَاء اللّهُ مَا أَشْرَكُواْ ? . يقول الله سبحانه : لوشئت لجمعتهم على الهدى أجمعين . وعن مجاهد : ? وَلاَ حَرَّمْنَا مِن شَيْءٍ ? ، قال : قول قريش يعني : أن الله حرّم هذا البحيرة والسائبة .(5/198)
وقوله تعالى : ? إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ أَنتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ ? ، كقوله تعالى : ? وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ? .
وقوله تعالى : ? قُلْ فَلِلّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ? . قال الربيع بن أنس : لا حجّة لأحد عصى الله ، ولكن لله الحجة البالغة على عباده ، وقال : ? فَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ? . قال : لا يسئل عما يفعل وهم يسئلون . وعن السدي قوله : ? هَلُمَّ شُهَدَاءكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللّهَ حَرَّمَ هَذَا ? ، يقول : أروني الذين يشهدون أن الله حرّم هذا مما حرّمت العرب ، وقالوا : أمرنا الله به ، قال الله لرسوله : ? فَإِن شَهِدُواْ فَلاَ تَشْهَدْ مَعَهُمْ ? .
قوله عز وجل : ? قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) ? .
قال ابن عباس : الإِملاق : الفقر ، قتلوا أولادهم خشية الفقر . وعن قتادة : ? وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ? سرّها وعلانيتها .(5/199)
قوله عز وجل : ? وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَى وَبِعَهْدِ اللّهِ أَوْفُواْ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) ? .
عن مجاهد : ? وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? . قال : التجارة فيه . وقال الضحاك : يبتغي له فيه ، ولا يأخذ من ربحه شيئًا ؛ وقال ابن زيد : قال الله : ? وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ ? . وعن ربيعة في قوله : ? حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ? ، قال : الحلم . وعن مجاهد : ? وَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ? بالعدل .
وقال ابن زيد في قوله : ? وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُواْ ? ، قال : قولوا الحق ، وقال السدي : هؤلاء الآيات التي أوصى بها من محكم القرآن . وعن الربيع بن خيثم أنه قال لرجل : هل لك في صحيفة عليها خاتم محمد ؟ ثم قرأ هؤلاء الآيات : ? قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئاً ? .
قوله عز وجل : ? وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ذَلِكُمْ وَصَّاكُم بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153) ? .(5/200)
عن مجاهد في قول الله : ? وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ? ، قال : البدع والشبهات . وعن ابن مسعود قال : خطّ لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يومًا خطًّا فقال : « هذا سبيل الله » ، ثم خطّ عن يمين ذلك الخطّ وعن شماله خطوطًا فقال : « هذه سبل ، على كل سبيل منها شيطان يدعوا إليها » ، ثم قرأ هذه الآية : ? وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَلاَ تَتَّبِعُواْ السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَن سَبِيلِهِ ? . وقال ابن زيد : سبيله الإسلام .
وعن عبادة بن الصامت قال : قال رسول الله : « أيّكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث » ؟ ثم تلا : ? قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ ? حتى فرغ من ثلاث آيات ، ثم قال : « ومن وفّى بهنّ فأجره على الله ، ومن انتقص منهنَّ فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته ، ومن أخّره إلى الآخرة كان أمره إلى الله ، إن شاء أخذه وإن شاء عفا عنه » . رواه ابن أبي حاتم . والله أعلم .
* * *
الدرس الرابع والتسعون(5/201)
? ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ (157) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158) إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (159) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (160) قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ(5/202)
أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لَّعَلَّهُم بِلِقَاء رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَاتَّقُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ لَغَافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَّبَ بِآيَاتِ اللّهِ وَصَدَفَ عَنْهَا سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ (157) ? .
قال ابن جرير : يعني جل ثناؤه بقوله : ? ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ? ، ثم قل بعد ذلك يا محمد : آتى ربك موسي الكتاب . وعن مجاهد : ? تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ ? ، قال : المؤمنين . وعن الربيع : ? ثُمَّ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ تَمَاماً عَلَى الَّذِيَ أَحْسَنَ ? فيما أعطاه الله . وقال قتادة : من أحسن في الدنيا تمّم له ذلك في الآخرة . ? وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ? فيه حلاله وحرامه .(5/203)
? وَهَذَا كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ ? وهو : القرآن الذي أنزله على محمد عليه السلام ? فَاتَّبِعُوهُ ? ، يقول : فاتبعوا حلاله وحرّموا حرامه ، ? لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ? .
وعن ابن عباس : قوله : ? أَن تَقُولُواْ إِنَّمَا أُنزِلَ الْكِتَابُ عَلَى طَآئِفَتَيْنِ مِن قَبْلِنَا ? وهم : اليهود والنصارى ، ? وَإِن كُنَّا عَن دِرَاسَتِهِمْ ? تلاوتهم ، ? لَغَافِلِينَ ? وقال ابن زيد : الدراسة : القراءة والعلم .
وعن السدي : ? أَوْ تَقُولُواْ لَوْ أَنَّا أُنزِلَ عَلَيْنَا الْكِتَابُ لَكُنَّا أَهْدَى مِنْهُمْ فَقَدْ جَاءكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ ? ، يقول : قد جاءكم بيّنة لسان عربيّ مبين ، حين لم تعرفوا دراسة الطائفتين ، وحين قلتم : لو جاءنا كتاب لكنا أهدى منهم .
وعن ابن عباس : ? وَصَدَفَ عَنْهَا ? ، يقول : أعرض عنها ، ? سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آيَاتِنَا سُوءَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصْدِفُونَ ? ، قال قتادة : يعرضون .
قوله عز وجل : ? هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً قُلِ انتَظِرُواْ إِنَّا مُنتَظِرُونَ (158) ? .
عن مجاهد : ? إِلاَّ أَن تَأْتِيهُمُ الْمَلآئِكَةُ ? ، يقول : عند الموت حين توفَّاهم ، ? أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ ? ذلك يوم القيامة ، ? أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ ? طلوع الشمس من مغربها . وعن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ? يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا ? طلوع الشمس من مغربها » . رواه ابن جرير .(5/204)
وعن السدي : ? يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آيَاتِ رَبِّكَ لاَ يَنفَعُ نَفْساً إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِن قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْراً ? ، يقول : كسبت في تصديقها خيرًا : عملاً صالحًا ، فهؤلاء أهل القبلة ، وإن كانت مصدّقة ولم تعمل قبل ذلك خيرًا ، فعملت بعد أن رأت الآية لم يقبل منها ، وإن عملت قبل الآية خيرًا ثم عملت بعد الآية خيرًا قُبِل منها .
وقال الضحاك : من أدركه بعض الآيات وهو على عمل صالح مع إيمانه ، قبل الله منه العمل بعد نزول الآية ، كما قبل منه قبل ذلك .
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ إِنَّمَا أَمْرُهُمْ إِلَى اللّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (159) مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (160) ? .(5/205)
عن قتادة :? إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً ? من اليهود والنصارى . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآية : ? إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُواْ دِينَهُمْ وَكَانُواْ شِيَعاً لَّسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْءٍ ? وليسوا منك : « هم أهل البدع ، وأهل الشبهات ، وأهل الضلالة من هذه الأمة » . رواه ابن جرير . وعن سعيد بن جبير قال : لما نزلت : ? مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا ? ، قال رجل من القوم : فإنّ لا إله إلا الله حسنة ، قال : « نعم أفضل الحسنات » . وعن قتادة : قوله : ? مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ? ذكر لنا أن نبيّ الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : « الأعمال ستة ، مُوجِبة ومُوجِبة ، ومُضْعِفة ومُضْعِفة ، ومِثْل ومِثْل ؛ فأما الموجبتان : فمن لقي الله لا يشرك به شيئًا دخل الجنّة ، ومن لقي الله مشركًا به دخل النار ، والضعف : فنفقة المؤمن في سبيل الله سبعمائة ضعف ، ونفقته على أهل بيته عشر أمثالها ، وأما مثل ومثل : فإذا هم العبد بحسنة فلم يعلمها كتبت له حسنة ، وإذا همّ بسيئة ثم عملها كتبت عليه سيّئة » .(5/206)
قوله عز وجل : ? قُلْ إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِّلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (162) لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163) قُلْ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِي رَبّاً وَهُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْءٍ وَلاَ تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى ثُمَّ إِلَى رَبِّكُم مَّرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (165) ? .
يقول تعالى : ? قُلْ ? يا محمد لهؤلاء العادلين بربهم الأوثان والأصنام : ? إِنَّنِي هَدَانِي رَبِّي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً ? . قال ابن جرير : يقول : مستقيمًا ؛ وذكر قراءتين ثم قال : والصواب من القول في ذلك عندي : أنهما قراءتان مشهورتان في قراءة الأمصار متفقتا المعنى ، فبأيّهما قرأ القارئ فهو للصواب مصيب ، غير أن فتح القاف وتشديد الياء أعجب إليّ لأنه أفصح اللغتين وأشهرهما . وعن قتادة : ? وَنُسُكِي ? . قال : ذبحي . ? وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ? ، أي : أول المسلمين من هذه الأمة . وقوله تعالى : ? وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ ? ، أي : جعلكم تعمرونها جيلاً بعد جيل ، وقرنًا بعد قرن ، وخلفًا بعد سلف .(5/207)
قال ابن زيد وغيره : ? وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ ? أي : فاوت بينكم في الأرزاق والأخلاق ? لِّيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ ? أي : ليختبركم فيما أنعم به عليكم ، ? إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ? ترهيب لمن عصاه ، وترغيب لمن أطاعه . والله أعلم .
* * *
الدرس الخامس والتسعون
[ سورة الأعراف ]
مكية ، وهي مائتان وستون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
? آلمص (1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3) وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ (9) وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ(5/208)
لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22) قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) ? .
* * *(5/209)
قوله عز وجل : ? آلمص (1) كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ (3) ? .
قال أبو العالية : ? حَرَجٌ ? ، أي : ضيق ، معناه : لا يضيق صدرك بالإبلاغ وتأدية ما أرسلت به . ? اتَّبِعُواْ ? ، أي : وقل لهم : ? اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء ? تطيعونهم في معصية الله ، ? قَلِيلاً مَّا تَذَكَّرُونَ ? .
قوله عز وجل : ? وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَاءهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ (4) فَمَا كَانَ دَعْوَاهُمْ إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا إِلاَّ أَن قَالُواْ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (5) فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِم بِعِلْمٍ وَمَا كُنَّا غَآئِبِينَ (7) وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَن ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَمَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُم بِمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يِظْلِمُونَ (9) ? .
قال الزجاج في قوله تعالى : ? بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ ? أو : لتصريف العذاب ، أي : مرة ليلاً ومرة نهارًا .
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى : ? فَلَنَسْأَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَلَنَسْأَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ ? يسأل الله الناس عما أجابوا المرسلين ، ويسأل المرسلين عما بلّغوا .(5/210)
وعن السدي في قوله : ? وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ? قال : توزن الأعمال ، وعن حذيفة قال : ( صاحب الموازين يوم القيامة جبريل عليه السلام ، قال : يا جبريل ، زِنْ بينهم ! فَرُدّ مِنْ بعضٍ على بعض ، قال : وليس ثَمّ ذهب ولا فضّة . فإن كان للظالم حسنات أخذ من حسناته فردّ على المظلوم وإن لم يكن له حسنات حمل عليه من سيئات صاحبه ، فيرجع الرجل وعليه مثل الجبال ، فذلك قوله : ? وَالْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ ? .
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ (10) وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (11) قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ (12) قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ (15) قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ (17) قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ (18) ? .(5/211)
عن قتادة : ? وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ? ، قال : خلق الله آدم من طين ? ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ? في بطون أمهاتكم خلقًا من بعد خلق ، علقة ثم مضغة ثم عظامًا ، ثم كسى العظام لحمًا ، ثم أنشأناه خلقًا آخر . وعن مجاهد في قول الله : ? وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ? ، قال : آدم ، ? ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ? ، قال : في ظهر آدم . وقال ابن جرير : ? وَلَقَدْ خَلَقْنَاكُمْ ثُمَّ صَوَّرْنَاكُمْ ? معناه : ولقد خلقنا أباكم آدم ، ثم صوّرناه ? ثُمَّ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ ? .
قال ابن كثير : وذلك أنه تعالى لما خلق آدم عليه السلام بيده من طين لازب ، وصوّره بشرًا سويًا ، ونفخ فيه من روحه ، أمر الملائكة بالسجود له تعظيمًا لشأن الله تعالى وجلاله ، فسمعوا كلهم وأطاعوا ، إلا إبليس لم يكن من الساجدين .
وقوله تعالى : ? قَالَ مَا مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قَالَ أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ ? ، قال ابن عباس : أول من قاس إبليس فأخطأ القياس ، فمن قاس الدين بشيء من رأيه قرنه الله مع إبليس .
وقوله تعالى : ? قَالَ فَاهْبِطْ مِنْهَا فَمَا يَكُونُ لَكَ أَن تَتَكَبَّرَ فِيهَا فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ أَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ * قَالَ إِنَّكَ مِنَ المُنظَرِينَ ? ، أي : المؤخرّين عن الموت إلى يوم الوقت المعلوم ، حين يموت جميع الناس ، وهي : النفخة الأولى ? قَالَ فَبِمَا أَغْوَيْتَنِي لأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ ? قال مجاهد : الحق .(5/212)
وعن ابن عباس في قوله : ? ثُمَّ لآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَآئِلِهِمْ وَلاَ تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ ? ، يقول : أشكّكهم في آخرتهم ، ? وَمِنْ خَلْفِهِمْ ? أرغّبهم في دنياهم ، ? وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ ? أشبّه عليهم أمر دينهم ، ? وَعَن شَمَآئِلِهِمْ ? أشهّى لهم المعاصي . وقال قتادة : أتاهم من بين أيديهم فأخبرهم أنه لا بعث ولا جنة ولا نار ، ومن خلفهم من أمر الدنيا فزيّنها لهم ودعاهم إليها ، وعن أيمانهم من قِبَل حسناتهم بطّأهم عنها ، وعن شمائلهم زيّن لهم السيئات والمعاصي ودعاهم إليها ، وأمرهم بها . أتاك يا ابن آدم من كل وجه ، غير أنه لم يأتك من فوقك ، لم يستطع أن يحول بينتك وبين رحمة الله .
وعن ابن عباس : ? قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً ? ، يقول : صغيرًا منفيًّا . وقال السدي : أما : ? مَذْؤُوماً ? : فمنفيًّا ، وأما : ? مَّدْحُوراً ? : فمطرودًا . وعن ابن عباس : ? مَذْؤُوماً ? : ممقوتًا . انتهى .
والمذؤم : هو المذموم وهو المعيب ، والمذؤم بالهمز أبلغ في العيب . وعن قتادة : ? اخْرُجْ مِنْهَا مَذْؤُوماً مَّدْحُوراً ? لعينًا شقيًا ، ? لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ ? .
قوله عز وجل : ? وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِن سَوْءَاتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هَذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَن تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ (20) وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) ? .(5/213)
قال وهب بن منبه : كان عليهما نور لا ترى سوآتهما . وقال قتادة : فحلف لهما بالله حتى خدعهما ، وقد يُخدع المؤمن بالله ، فقال : إني خلقت قبلكما ، وأنا أعلم منكما ، فاتبعاني أرشدكما .
قوله عز وجل : ? فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْءَاتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَن تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُل لَّكُمَا إِنَّ الشَّيْطَآنَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُّبِينٌ (22) قَالاَ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (23) ? .
عن أُبيّ بن كعب قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « كان آدم كأنه نخلة سحوق ، كثير شعر الرأس ، فلما وقع بالخطيئة بدت له عورته ، وكان لا يراها ، فانطلق فارًّا فتعرّضت له شجرة فحبسته بشعره فقال لها : أرسليني ، فقالت : لست بمرسلتك ، فناداه ربه : يا آدم أمنّي تفرّ ؟ قال : لا ، ولكنّي أستحييك » . رواه ابن جرير .
وعن ابن عباس : ? وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِن وَرَقِ الْجَنَّةِ ? ، قال : جعلا يأخذان من ورق الجنة يجعلان على سوآتهما ، وقال : لما أكل آدم من الشجرة قيل له : لم أكلت من الشجرة التي نهيتك عنها ؟ قال: حواء أمرتني . قال : فإني قد أعقبتها أن لا تحمل إلا كرهًا ولا تضع إلا كرهًا ، فرنّت حواء عند ذلك فقيل لها : الرنة عليك وعلى ولدك .
وعن الضحاك في قوله : ? رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ ? ، قال : هي الكلمات التي تلقّاها آدم من ربه . وعن قتادة قال : قال آدم عليه السلام : يا رب أرأيت إن تبت واستغفرتك . قال : إذًا أدخلك الجنة . وأما إبليس فلم يسأله التوبة ، وسأل النظرة فأعطي كل واحد منهما ما سأل .(5/214)
قوله عز وجل : ? قَالَ اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ (24) قَالَ فِيهَا تَحْيَوْنَ وَفِيهَا تَمُوتُونَ وَمِنْهَا تُخْرَجُونَ (25) ? .
عن السدي : ? اهْبِطُواْ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ ? ، قال : اهبطوا إلى الأرض : آدم وحواء ، إبليس والحية .
قال ابن كثير : والعمدة في العداوة : آدم ، وإبليس . ولهذا قال تعالى في سورة طه ? اهْبِطَا مِنْهَا جَمِيعاً ? وحواء تبع لآدم ، والحية إن كان ذكرها صحيحًا فهي تبع لإِبليس .
وعن أبي العالية في قوله : ? وَلَكُمْ فِي الأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ ? ، قال : هو قوله : ? الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الأَرْضَ فِرَاشاً ? . وقال ابن عباس : القبور . ? وَمَتَاعٌ إِلَى حِينٍ ? إلى يوم القيامة ، وإلى انقطاع الدنيا . والله المستعان .
* * *
الدرس السادس والتسعون(5/215)
? يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (30) يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ(5/216)
فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (34) يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (39) إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ(5/217)
(42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) ? .
قوله عز وجل : ? يَا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنزَلْنَا عَلَيْكُمْ لِبَاساً يُوَارِي سَوْءَاتِكُمْ وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26)? .
قال عروة بن الزبير : اللباس الثياب . وقال ابن عباس : الريش المال . وعن قتادة : ? وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ? هو : الإيمان . وعن عوف الجهني : هو : الحياء . وعن ابن عباس : ? وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ? ، قال : لباس التقوى العمل الصالح . وعن عثمان مرفوعًا : ? وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ذَلِكَ مِنْ آيَاتِ اللّهِ ? ، قال : السمت الحسن . وقال عروة بن الزبير : لباس التقوى : خشية الله . وكل هذه الأقوال متفقة المعنى .(5/218)
قوله عز وجل : ? يَا بَنِي آدَمَ لاَ يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطَانُ كَمَا أَخْرَجَ أَبَوَيْكُم مِّنَ الْجَنَّةِ يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا لِيُرِيَهُمَا سَوْءَاتِهِمَا إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لاَ تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ (27) وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا وَاللّهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء أَتَقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدَى وَفَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلاَلَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاء مِن دُونِ اللّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (30) ? .
عن ابن عباس في قوله : ? يَنزِعُ عَنْهُمَا لِبَاسَهُمَا ? ، قال : كان لباسهما الظفر ، فلما أصابا الخطيئة نزع عنهما ، وتركت الأظفار تذكرة وزينة . وقال وهب بن المنبه : كان لباس آدم وحواء نورًا على فروجهما .
وعن مجاهد : قوله : ? إِنَّهُ يَرَاكُمْ هُوَ وَقَبِيلُهُ ? قال : الجن والشياطين . وقال مالك بن دينار : إن عدوًا يراك ولا تراه لشديد المؤنة ، إلا من عصم الله .
وعن مجاهد في قوله : ? وَإِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً قَالُواْ وَجَدْنَا عَلَيْهَا آبَاءنَا ? فاحشتهم أنهم كانوا يطوفون بالبيت عراة . ? قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ ? بالعدل .
وعن الربيع في قوله : ? وَأَقِيمُواْ وُجُوهَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ? ، قال : في الإِخلاص لا تدعوا غيره ، وأن تخلصوا له الدين .(5/219)
وعن الحسن : ? كَمَا بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ ? ، قال : كما بدأكم في الدنيا كذلك تعودون يوم القيامة أحياء . وعن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « يحشر الناس عراة غرلاً ، وأول من يكسى إبراهيم - صلى الله عليه وسلم - » ، ثم قرأ : ? كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ ? . رواه ابن جرير وغيره .
قوله عز وجل : ? يَا بَنِي آدَمَ خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31) قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32) قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (33) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (34) ? .
عن ابن عباس : ? خُذُواْ زِينَتَكُمْ عِندَ كُلِّ مَسْجِدٍ ? ، قال : الثياب . وقال مجاهد : ما وارى العورة ولو عباءة .(5/220)
وعن ابن عباس في قوله : ? وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ ? ، قال : أحلّ الله الأكل والشرب ما لم يكن سرفًا أو مخيلة ، وقال : إن الجاهلية كانوا يحرّمون أشياء أحلها الله من الرزق وغيرها فأنزل الله : ? قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ ? ، يعني : يشارك المسلمون المشركين في الطيبات في الحياة الدنيا ، ثم يخلص الله الطيبات في الآخرة للذين آمنوا ، وليس للمشركين فيها شيء .
وعن مجاهد في قوله : ? قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ? ، قال : نهى عن الإِثم وهي : المعاصي كلها ، وأخبر أن الباغي بَغْيُه كائن على نفسه .
قوله عز وجل : ? يَا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ اتَّقَى وَأَصْلَحَ فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (36) ? .
قال في فتح البيان : ( إن ) حرف شرط ، ( وما ) مزيدة للتأكيد معنى الشرط . ? يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِّنكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي ? التي فيها الفرائض والأحكام ، ? فَمَنِ اتَّقَى ? الشرك منكم ، ? وَأَصْلَحَ ? عمله ، ? فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ ? في الآخرة ، ? وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ? وهذا الشرط والجزاء ، جزاء ? إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ ? . ? وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ? منكم ، عطف على أتقى ، ? وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا ? فتركوا العمل بها ، ? أُوْلََئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? .(5/221)
قوله عز وجل : ? فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ حَتَّى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قَالُواْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَافِرِينَ (37) قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَكِن لاَّ تَعْلَمُونَ (38) وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (39) ? .
عن مجاهد : ? أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مِّنَ الْكِتَابِ ? ما كتب لهم من الشقاوة والسعادة . وقال ابن عباس : من عمل خيرًا جزي به ، ومن عمل شرًا جزي به . وقال ابن زيد : من الأعمال والأعمار والأرزاق . وعن السدي : ? كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا ? ، يقول : كلما دخلت أهل ملة لعنوا أصحابهم على ذلك الدين ، يلعن المشركون المشركين ، تلعن الآخرة الأولى .(5/222)
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُواْ عَنْهَا لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (42) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ وَقَالُواْ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (43) ? .(5/223)
عن ابن عباس : ? لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء ? قال : عنى بها الكفار ، إن السماء لا تفّتح لأرواحهم وتفتّح لأرواح المؤمنين . وقال مجاهد : لا يصعد لهم كلام ولا عمل . وعن البراء أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ذكر قبض روح الفاجر ، وأنه يصعد بها إلى السماء قال : « فيصعدون بها فلا يمرّون على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذا الروح الخبيث ؟ فيقولون فلان ، بأقبح أسمائه التي كان يدعى بها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها إلى السماء ، فيستفتحون له فلا يفتح له » ، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ? لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ? . رواه ابن جرير وغيره . وعن الحسن : ? حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ? ، قال : حتى يدخل البعير في خرق الإِبرة . وعن محمد بن كعب : ? لَهُم مِّن جَهَنَّمَ مِهَادٌ ? ، قال : الفراش ، ? وَمِن فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ ? ، قال : اللحف .(5/224)
وقوله تعالى : ? وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ لاَ نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَهَا أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ ? ، قال الضحاك : العداوة . عن أبي نضرة قال : يحبس أهل الجنّة دون الجنّة حتى يقضى لبعضهم من بعض ، حتى يدخلوا الجنة حين يدخلونها ، ولا يَطلب أحد منهم أحدًا بقلامة ظفر ظلمها إياه . ويحبس أهل النار دون النار حتى يقضى لبعضهم من بعض فيدخلوا النار ، ولا يَطلب أحد منهم أحدًا بقلامة ظفر ظلمها إياه . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « كل أهل النار يرى منزله من النار فيقولون : لو هدانا الله فتكون عليهم حسرة . وكل أهل الجنة يرى منزلة من النار فيقولون : لولا أن هدانا الله ، فهذا شكرهم » . رواه ابن جرير . وعن عاصم بن ضمرة عن عليّ قال : ذكر عمر شيئًا لا أحفظه ، ثم ذكر الجنة فقال : يدخلون فإذا شجرة يخرج من تحت ساقها عينان ، قال : فيغتسلون من إحداهما ، فتجري عليهم نضرة النعيم ، فلا تشعث أشعارهم ولا تغيّر أبشارهم ، ويشربون من الأخرى فيخرج كل قذى وقذر أو شيء من بطونهم ، قال : ثم يفتح باب الجنة فيقال لهم : ? سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ ? ، قال : فتستقبلهم الولدان فيحفّون بهم كما تحفّ الولدان بالحميم إذا جاء من غيبة ، ثم يأتون فيبشّرون أزواجهم فيسمّونهم بأسمائهم وأسماء آبائهم فيقلن : أنت رأيته ؟ قال : فيستخفّهنّ الفرح ، قال : فيجئن حتى يقفن على أسكفة الباب قال : فيجيئون فيدخلون ، فإذا أسّ بيوتهم بجندل اللؤلؤ ، وإذا صروح صفر وخضر وحمر ومن كل لون ، وسرر مرفوعة ، وأكواب موضوعة ، ونمارق مصفوفة ، وزرابيّ مبثوثة ، فلولا أن الله قدّرها لهم لالتمعت أبصارهم مما يرون فيها ، فيعانقون الأزواج ويقعدون على السرر ويقولون : ? الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي هَدَانَا(5/225)
لِهَذَا وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْلا أَنْ هَدَانَا اللّهُ لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ? الآية .
وعن الأغر : ? وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ? ، قال : نودوا أن صحّوا فلا تسقموا ، وخلدوا فلا تموتوا وانعموا فلا تبأسوا . وقال أبو سعيد : ينادي مناد : إن لكم أن تصحّوا فلا تسقموا أبدًا . وبالله التوفيق .
* * *
الدرس السابع والتسعون
? وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (49) وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ(5/226)
نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (53) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَن لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ كَافِرُونَ (45) ? .
عن السدي : ? وَنَادَى أَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابَ النَّارِ أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّاً فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّاً قَالُواْ نَعَمْ ? ، وجد أهل الجنة ما وُعدوا من ثواب وأهل النار ما وُعدوا من عقاب .
قوله عز وجل : ? وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) ? .(5/227)
قال مجاهد : الأعراف : حجاب بين الجنة والنار . وقال السدي : وهو السور . وقال ابن عباس : ( إن الأعراف تلّ بين الجنة والنار ، حبس عليه ناس من أهل الذنوب [ بين الجنة والنار ] ) .
وعنه قوله : ? وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ ? . قال : ( يعرفون أهل النار بسواد الوجوه ، وأهل الجنة ببياض الوجوه ، قال : وهم في ذلك يحيّون أهل الجنة بالسلام ? لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ ? أن يدخلوها ، وهم داخلوها إن شاء الله ) .
وقال الحسن : ( والله ما جعل ذلك الطمع في قلوبهم إلا لكرامة يريدها بهم ) . وقال حذيفة : ( هم قوم تجاوزت بهم حسناتهم النار ، وقصَّرت بهم سيئاتهم عن الجنة ، فـ ? وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أَصْحَابِ النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47) ? فبينا هم كذلك اطلع إليهم ربك تبارك وتعالى فقال : اذهبوا وادخلوا الجنة فإني قد غفرت لكم ) .
قوله عز وجل : ? وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَهَؤُلاء الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ اللّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (49) ? .
عن ابن عباس : ? وَنَادَى أَصْحَابُ الأَعْرَافِ رِجَالاً ? في النار ، ? يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيمَاهُمْ قَالُواْ مَا أَغْنَى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ ? وتكبركم ؟(5/228)
وقال البغوي : قال الكلبي : ينادون وهم على السور : يا وليد بن المغيرة، ويا أبا جهل بن هشام ، ويا فلان ، ثم ينظرون إلى الجنة فيرون فيها الفقراء والضعفاء ممن كانوا يستهزءون بهم ، فيقول أصحاب الأعراف لأولئك الكفار : ? أَهَؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنَالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ? ، أي : حلفتم أنهم لا يدخلون الجنة ؟ ثم يقال لأصحاب الأعراف : ? ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ ? . وقال أبو مجلز : هذا خبر من الله عن أمره أهل الجنة بدخلولها .
قوله عز وجل : ? وَنَادَى أَصْحَابُ النَّارِ أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُواْ دِينَهُمْ لَهْواً وَلَعِباً وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا وَمَا كَانُواْ بِآيَاتِنَا يَجْحَدُونَ (51) ? .
قال ابن زيد في قوله : ? أَنْ أَفِيضُواْ عَلَيْنَا مِنَ الْمَاء أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ ? ، قال : يستطعمونهم ويستسقونهم فأجابهم أهل الجنة : إن الله حرّم الماء والطعام على الذين جحدوا توحيده ، وكذّبوا في الدنيا رسله . وقال ابن عباس : ينادي الرجل أخاه وأباه فيقول : قد احترقت ، أفض عليّ من الماء ، فيقال لهم : أجيبوهم ، فيقولون : ? إِنَّ اللّهَ حَرَّمَهُمَا عَلَى الْكَافِرِينَ ? .
وعن مجاهد : ? فَالْيَوْمَ نَنسَاهُمْ كَمَا نَسُواْ لِقَاء يَوْمِهِمْ هَذَا ? ، قال : نسوا في العذاب . وقال ابن عباس : نتركهم من الرحمة كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا ، وقال نسيهم الله من الخير ولم ينسهم من الشر .(5/229)
وقال ابن جرير : وتأويل الكلام : فاليوم نتركهم في العذاب ، كما تركوا العمل في الدنيا للقاء الله يوم القيامة وكما كانوا بآيات الله يجحدون .
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ جِئْنَاهُم بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ فَهَل لَّنَا مِن شُفَعَاء فَيَشْفَعُواْ لَنَا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (53) ? .
عن قتادة : ? هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ ? عاقبته . وقال مجاهد : جزاؤه . وقال الربيع بن أنس : فلا يزال يقع تأويله أمرًا بعد أمر حتى يأتي تأويله يوم القيامة ، ففي ذلك أنزل : ? هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ ? حيث أثاب الله تبارك وتعالى أولياءه وأعداءه ثواب أعمالهم . ? يقول ? يومئذٍ ? الَّذِينَ نَسُوهُ مِن قَبْلُ قَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ ? الآية . وقال مجاهد : ? نَسُوهُ ? أعرضوا عنه .
وقوله تعالى : ? قَدْ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ? ، قال ابن كثير : أي : خسروا أنفسهم بدخولهم النار وخلودهم فيها ، ? وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ? ، أي : ذهب عنهم ما كانوا يعبدونهم من دون الله ، فلا يشفعون فيهم ، ولا ينقذونهم مما هم فيه . والله أعلم .
* * *
الدرس الثامن والتسعون(5/230)
? إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54) ? .
قال ابن جرير : يقول الله تعالى ذكره : إن سيّدكم ، ومصلح أموركم أيها الناس هو : المعبود الذي له العبادة من كل شيء ، الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، وذلك يوم الأحد ، والاثنين ، والثلاثاء ، والأربعاء ، والخميس ، والجمعة . انتهى .(5/231)
وقال ابن إسحاق : كان أول ما خلق الله تبارك وتعالى النور والظلمة ، ثم ميّز بينهما ، فجعل الظلمة ليلاً أسود مظلمًا ، وجعل النور نهارًا مضيئًا مبصرًا ، ثم سمك السماوات السبع من دخان - يقال والله أعلم : من دخان الماء - حتى استقللن ولم يحبكهن ، وقد أغطش في السماء الدنيا ليلها وأخرج ضحاها ، فجرى فيها الليل والنهار ، وليس فيها شمس ولا قمر ولا نجوم ، ثم دحى الأرض وأرساها بالجبال ، وقدّر فيها الأقوات ، وبث فيها ما أراد من الخلق ، ففرغ من الأرض وما قدّر فيها من أقواتها في أربعة أيام ، ? ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء وَهِيَ دُخَانٌ ? كما قال . فحبكهن وجعل في السماء الدنيا : شمسها ، وقمرها ، ونجومها ، ? وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاء أَمْرَهَا ? فأكمل خلقهن في يومين ، ففرغ من خلق السماوات والأرض في ستة أيام ، ثم استوى في اليوم السابع فوق سماواته ، ثم قال للسماوات وللأرض : ? اِئْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ ? . انتهى .
وقال ابن جرير في قوله تعالى : ? ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? وأولى المعاني بقول الله جلّ ثناءه : ? ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء فَسَوَّاهُنَّ ? ، علا عليهن وارتفع ، فدبرهن بقدرته وخلقهن سبع سماوات .(5/232)
وقال البغوي في قوله تعالى : ? ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ? قال الكلبي ، ومقاتل : استقر . وقال أبو عبيدة : صعد ؛ وأوّلت المعتزلة الاستواء بالاستيلاء ؛ فأما أهل السنة يقولون : الاستواء على العرش صفة لله تعالى بلا كيف ، يجب على الرجل الإِيمان به ، ويكل العلم فيه إلى الله عز وجل . وسأل رجل مالك بن أنس عن قوله : ? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? كيف استوى ؟ فأطرق رأسه مليًا وعلاه الرخصاء ثم قال : الاستواء غير مجهول ، والكيف غير معقول ، والإيمان به واجب ، والسؤال عنه بدعة ، وما أظنك إلا ضالاً . ثم أمر به فأخرج . وروي عن سفيان الثوري ،والأوزاعي ، والليث بن سعد ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن المبارك ، وغيرهم من علماء السنة ، في هذه الآيات التي جاءت في الصفات المتشابهات : أَمِرِّوها كما جاءت بلا كيف . انتهى .
وقال ابن كثير : ( وأما قوله تعالى : ? ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ ? فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدًا ، ليس هذا موضع بسطها ، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح : مالك ، والأوزاعي ، والثوري ، والليث ابن سعد ، والشافعي ، وأحمد ، وإسحاق بن راهويه ، وغيرهم من أئمة المسلمين قديمًا وحديثًا ، وهو : إمرارها كما جاءت من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل ، والظاهر المتبادر إلى أذهان المشّبهين منفيّ عن الله ، فإن الله لا يشبهه شيء من خلقه ، و? وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ? ، بل الأمر كما قال الأئمة ، منهم : نُعَيْم بن حماد الخزاعي شيخ البخاري قال : من شبّه الله بخلقه كفر ، ومن جحد ما وصف الله به نفسه فقد كفر ، وليس فيما وصف الله به نفسه ولا رسوله تشبيه ، فمن أثبت لله تعالى ما وردت به الآيات الصريحة والأخبار الصحيحة ، على الوجه الذي يليق بجلال الله ، ونفى عن الله تعالى النقائص ، فقد سلك سبيل الهدى ) .(5/233)
وقال في جامع البيان : أجمع السلف على أن استواءه على العرش صفة له بلا كيف ، نؤمن به ، ونكل العلم إلى الله تعالى .
وقال البخاري : باب ? وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ? ? وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ? ، قال أبو العالية : ? اسْتَوَى إِلَى السَّمَاء ? ارتفع ، ? فَسَوَّاهُنَّ ? خلقهن . وقال مجاهد : ? اسْتَوَى ? علا على العرش ، ثم ذكر حديث عمران بن حصين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « كان الله ولم يكن شيء قبله ، وكان عرشه على الماء ، ثم خلق السماوات والأرض ، وكتب في الذكر كل شيء » . الحديث .
وقال البيهقي : ( اتفقت أقاويل أهل التفسير على أن العرش هو : السرير وأنه جسم خلقه الله ، وأمر ملائكته بحمله ) .
وقال الحافظ ابن حجر العسقلاني : ( وقد نقل أبو إسماعيل الهروي في كتاب الفاروق بسنده إلى داود بن علي قال : كنا عند أبي عبد الله بن الأعرابي ، يعني : محمد بن زياد اللغوي ، فقال له رجل : ? الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى ? ، فقال : هو على العرش كما أخبر ، قال : يا أبا عبد الله إنما معناه : استولى ، فقال : اسكت ، لا يقال استولى على الشيء إلا أن يكون له مضاد ) .(5/234)
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية في العقيدة الواسطية : ( وقد دخل فيما ذكرناه من الإيمان بالله : الإيمان بما أخبر الله به في كتابه وتواتر عن رسوله وأجمع عليه سلف الأمة من أنه سبحانه فوق سماواته على عرشه ، علا على خلقه وهو سبحانه معهم أينما كانوا ، يعلم ما هم عاملون ، كما جمع بين ذلك في قوله : ? هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَاء وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ ? ، وليس معنى قوله : ? وَهُوَ مَعَكُمْ ? أنه : بالخلق مختلط ، فإن هذا لا توجبه اللغة ، وهو خلاف ما أجمع عليه سلف الأمة ، وخلاف ما فطر الله عليه الخلق ، بل القمر آية من آيات الله من أصغر مخلوقاته ، وهو موضوع في السماء ، وهو مع المسافر وغير المسافر أينما كان ، وهو سبحانه فوق العرش رقيب على خلقه ، مهيمن عليهم مطلع عليهم ، إلى غير ذلك من معاني ربوبيته ، وكل هذا الكلام الذي ذكره الله من أنه فوق العرش وأنه معنا ، حق على حقيقته ، لا يحتاج إلى تأويل ، ولكن يصان عن الظنون الكاذبة ، مثل أن يظنّ أن ظاهر قوله : ? فِي السَّمَاء ? أن السماء تقلّه أو تظلّه ، وهذا باطل بإجماع أهل العلم والإِيمان ، فإن الله قد وسع كرسيّه السماوات والأرض ، وهو الذي يمسك السماوات والأرض أن تزولا ، ويمسك السماء أن تقع على الأرض إلا بإذنه ، ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره ) . انتهى .
وقال عبد الله بن رواحة رضي الله عنه :
شهدت بأن وعد الله حق ( ... وأن النار مثوى الكافرينا (
وأن العرش فوق الماء طاف ( ... وفوق العرش رب العالمينا (
وتحمله الملائكة شداد ( ... ملائكة الإِله مسوّمينا ((5/235)
وقال عبد الله بن المبارك : ( نعرف ربنا بأنه فوق سبع سماواته ، على العرش استوى ، بائن من خلقه ، ولا نقول كما قالت الجهمية ) .
وقال أبو عمرو الطلمنكي : ( أجمع المسلمون من أهل السنة على أن الله استوى على عرشه بذاته ) .
وقال أيضًا : ( أجمع أهل السنة على أن الله استوى على عرشه ، على الحقيقة لا على المجاز ) . انتهى .
وقال ابن القيّم في ( الجيوش الإسلامية ) - لمّا ذكر إثبات استواء الرب على العرش بالآيات القرآنية ، والأحاديث الصحيحة النبوية ، وأقوال الصحابة والتابعين والأئمة الأربعة وغيرهم - : ( والاستواء معلوم في اللغة ، وهو : العلوّ ، والارتفاع ، والتمكن . ومن الحجّة أيضًا في أن الله سبحانه وتعالى على العرش فوق السماوات السبع ، أن الموجودين أجمعين إذا كربهم أمر رفعوا وجوههم إلى السماء يستغيثون الله ربهم . وقوله - صلى الله عليه وسلم - للأَمَة التي أراد مولاها أن يعتقها : « أين الله » ؟ فأشارت إلى السماء ، ثم قال لها : « من أنا » ؟ قالت : أنت رسول الله . قال : « اعتقها فإنها مؤمنة » . فاكتفى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منها برفع رأسها إلى السماء ) . انتهى .
وقال الطحاوي في ( العقيدة السلفية ) : ( والعرش والكرسي حق ، وهو سبحانه مستغن عن العرش وما دونه ، محيط بكل شيء وفوقه ، وقد أعجز عن الإِحاطة خلقه ) . انتهى وبالله التوفيق . وقد قال تعالى : ? وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ? .
وقوله تعالى : ? يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً ? ، أي : سريعًا ، كما قاله ابن عباس .
وقوله تعالى : ? وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ? .(5/236)
قال ابن كثير : أي : الجميع تحت قهره وتسخيره ومشيئته ، ولهذا قال منبهًا : ? أَلاَ لَهُ الْخَلْقُ وَالأَمْرُ ? ، أي : له الملك والتصرف ، ? تَبَارَكَ اللّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ ? .
قوله عز وجل : ? ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفاً وَطَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ (56) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? ادْعُواْ رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَخُفْيَةً ? ، قال : السر أنه لا يحب المعتدين في الدعاء ولا في غيره . وقال ابن جريج : يكره رفع الصوت والنداء والصياح بالدعاء ، ويأمر بالتضرع والاستكانة . ? وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ? ، أي : لا تفسدوا فيها بالشرك والمعاصي ، ? بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ? ، أي : يبعث الرسل وبيان الشريعة . ? وَادْعُوهُ خَوْفاً ? من عقابه ، ? وَطَمَعاً ? في ثوابه ، ? إِنَّ رَحْمَتَ اللّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ? .
قال ابن كثير : أي : إن رحمته مُرْصَدة للمحسنين ، الذين يتبعون أوامره ويتركون زواجره ، كما قال تعالى : ? وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ? الآية ، وقال : ? قَرِيبٌ ? ولم يقل : قريبة ، لأنه ضمن الرحمة معنى الثواب ، أو لأنها مضافة إلى الله ، فلهذا قال : ? قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ ? . وقال مطر الورّاق : استنجزوا موعود الله بطاعة الله ، فإنه قضى أن رحمته قريب من المحسنين . رواه ابن أبي حاتم .(5/237)
قوله عز وجل : ? وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57) وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58) ? .
لما ذكر تعالى أنه خالق السماوات والأرض ، وأنه المدبر لخلقه ، وأمر بدعائه ، نبّه على أنه الرازق ، وأنه يعيد الموتى يوم القيامة فقال : ? وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ ? ، أي : قدّام المطر ، ? حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَاباً ثِقَالاً سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَنزَلْنَا بِهِ الْمَاء فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ كَذَلِكَ نُخْرِجُ الْموْتَى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ? . قال مجاهد : إذا أراد الله أن يخرج الموتى ، أمطر السماء حتى تنشقّ عنهم الأرض ، ثم يرسل الأرواح فتعود كل روح إلى جسدها ، فذلك يحيي الموتى بالمطر كإحيائه الأرض . وعن قتادة : ? وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً ? . قال : هذا مثل ضربه الله في الكافر والمؤمن . وقال ابن عباس : المؤمن طيب وعمله طيب ، كما البلد الطيب ثمره طيب ، والكافر هو الخبيث وعمله خبيث . والله أعلم .
الدرس التاسع والتسعون(5/238)
? لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ (64) وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا(5/239)
أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (72) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ(5/240)
(81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) ? .
قوله عز وجل : ? لَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ فَقَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللَّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (60) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلاَلَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (62) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَلِتَتَّقُواْ وَلَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63) فَكَذَّبُوهُ فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا إِنَّهُمْ كَانُواْ قَوْماً عَمِينَ (64) ? .
أي : عن الحق . قال البغوي : قوله تعالى : ? أَوَعَجِبْتُمْ ? أَلِف استفهام دخلت على واو العطف . وعن زيد بن أسلم : كان قوم نوح قد ضاق بهم السهل والجبل . وعن ابن عباس : أنه نجا مع نوح في السفينة ثمانون رجلاً ؛ والقصة مبسوطة في سورة هود وسورة نوح .(5/241)
قوله عز وجل : ? وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (65) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ إِنَّا لَنَرَاكَ فِي سَفَاهَةٍ وِإِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (66) قَالَ يَا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفَاهَةٌ وَلَكِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاتِ رَبِّي وَأَنَاْ لَكُمْ نَاصِحٌ أَمِينٌ (68) أَوَعَجِبْتُمْ أَن جَاءكُمْ ذِكْرٌ مِّن رَّبِّكُمْ عَلَى رَجُلٍ مِّنكُمْ لِيُنذِرَكُمْ وَاذكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69) ? .
عن قتادة : ? فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ ? أي : نعمة الله . وقال ابن إسحاق : كانت منازل عاد وجماعتهم حين بعث الله فيهم هودًا الأحقاف والأحقاف : الرمل بين عُمان إلى حضرموت فاليمن كله ، وكانوا مع ذلك قد فشوا في الأرض كلها ، وقهروا أهلها بفضل قوتهم التي آتاهم الله ، وكانوا أصحاب أوثان يعبدونها من دون الله .
قوله عز وجل : ? قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِنَعْبُدَ اللّهَ وَحْدَهُ وَنَذَرَ مَا كَانَ يَعْبُدُ آبَاؤُنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قَالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ رِجْسٌ وَغَضَبٌ أَتُجَادِلُونَنِي فِي أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤكُم مَّا نَزَّلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (71) فَأَنجَيْنَاهُ وَالَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَمَا كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (72) ? .(5/242)
قال ابن زيد في قوله تعالى : ? وَقَطَعْنَا دَابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ? قال : استأصلناهم ، وقد قال الله تعالى : ? وَأَمَّا عَادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ * سَخَّرَهَا عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيهَا صَرْعَى كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ * فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ? .
قوله عز وجل : ? وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (73) وَاذْكُرُواْ إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاء مِن بَعْدِ عَادٍ وَبَوَّأَكُمْ فِي الأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِن سُهُولِهَا قُصُوراً وَتَنْحِتُونَ الْجِبَالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُواْ آلاء اللّهِ وَلاَ تَعْثَوْا فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُواْ لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَتَعْلَمُونَ أَنَّ صَالِحاً مُّرْسَلٌ مِّن رَّبِّهِ قَالُواْ إِنَّا بِمَا أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا بِالَّذِيَ آمَنتُمْ بِهِ كَافِرُونَ (76) فَعَقَرُواْ النَّاقَةَ وَعَتَوْاْ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَقَالُواْ يَا صَالِحُ ائْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالَةَ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ وَلَكِن لاَّ تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79) ? .(5/243)
عن أبي الطفيلي قال : قالت ثمود لصالح : ائتنا بآية إن كنت من الصادقين ، قال : فقال لهم صالح : اخرجوا إلى هضبة من الأرض ، فخرجوا فإذا هي تتمخض كما تتمخض الحامل ، ثم إنها انفرجت فخرجت من وسطها الناقة ، فقال صالح : ? هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوَءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? ، ? لَّهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَّعْلُومٍ ? فلما ملّوها عقروها ، فقال لهم : ? تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ ? .
وذكر أهل التفسير : أن ثمود أصبحوا يوم الخميس ، وهو اليوم الأول من أيام النظرة ووجوههم مصفرّة كما وعدهم صالح عليه السلام ، وأصبحوا في اليوم الثاني ووجوههم محمّرة ، وأصبحوا في اليوم الثالث ووجوههم مسودّة ، فلما أصبحوا من يوم الأحد وقد تحنّطوا وقعدوا ينتظرون نقمة الله وعذابه ، عياذًا بالله من ذلك ، لا يدرون ماذا يفعل بهم ولا كيف يأتيهم العذاب ، وأشرقت الشمس ، جاءتهم صيحة من السماء ورجفة شديدة من أسفل منهم ، ففاضت الأرواح ، وزهقت النفوس في ساعة واحدة ، فأصبحوا في دارهم جاثمين .
قوله عز وجل : ? وَلُوطاً إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ أَتَأْتُونَ الْفَاحِشَةَ مَا سَبَقَكُم بِهَا مِنْ أَحَدٍ مِّن الْعَالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجَالَ شَهْوَةً مِّن دُونِ النِّسَاء بَلْ أَنتُمْ قَوْمٌ مُّسْرِفُونَ (81) وَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَن قَالُواْ أَخْرِجُوهُم مِّن قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ (83) وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84) ? .
قال عمرو بن دينار : ما نزل ذكر على ذكر في الدنيا حتى كان قوم لوط .(5/244)
وعن قتادة في قوله : ? إِنَّهُمْ أُنَاسٌ يَتَطَهَّرُونَ ? ، قال : عابوهم بغير عيب ، وذمّوهم بغير ذمّ .
وقوله تعالى : ? فَأَنجَيْنَاهُ وَأَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ? ، أي : الباقين في العذاب .
وقوله تعالى : ? وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِم مَّطَراً ? أي : حجارة ، كما قال تعالى: ? جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ * مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس المائة(5/245)
? وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (85) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا(5/246)
قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (95) وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ? .
* * *(5/247)
قوله عز وجل : ? وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ قَدْ جَاءتْكُم بَيِّنَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَوْفُواْ الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاَحِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (85) وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً وَاذْكُرُواْ إِذْ كُنتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَإِن كَانَ طَآئِفَةٌ مِّنكُمْ آمَنُواْ بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَطَآئِفَةٌ لَّمْ يْؤْمِنُواْ فَاصْبِرُواْ حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ بَيْنَنَا وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (87) ? .
قوله : ? قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ ? .
قال ابن كثير : هذه دعوة الرسل كلهم . ? قَدْ جَاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ ? ، أي : قد أقام الله الحجج والبينات على صدق ما جئتكم به ، ثم وعظهم في معاملتهم الناس بأن يوفوا الكيل والميزان ، ولا يبخسوا الناس أشياءهم ، أي : لا يخونوا الناس في أموالهم ، ويأخذوها على وجه البخس وهو نقص المكيال والميزان خفية وتدليسًا . انتهى .
وعن ابن عباس : قوله : ? وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ? ، قال : كانوا يجلسون في الطريق فيخبرون من أتى عليهم ، أن شعيبًا عليه السلام كذب فلا يفتنكم عن دينكم . وعن السدي : ? وَلاَ تَقْعُدُواْ بِكُلِّ صِرَاطٍ تُوعِدُونَ ? ، قال : العشارون . وعن مجاهد : ? وَتَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ ? ، قال : أهلها ? وَتَبْغُونَهَا عِوَجاً ? تلتمسون لها الزيغ .
وقوله تعالى : ? حَتَّى يَحْكُمَ اللّهُ ? .(5/248)
قال ابن كثير : أي : يفصل ، ? وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ? فإنه سيجعل العاقبة للمتقين ، والدمار على الكافرين .
قوله عز وجل : ? قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنَا عَلَى اللّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنَا فِي مِلَّتِكُم بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللّهُ مِنْهَا وَمَا يَكُونُ لَنَا أَن نَّعُودَ فِيهَا إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ رَبُّنَا وَسِعَ رَبُّنَا كُلَّ شَيْءٍ عِلْماً عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ وَأَنتَ خَيْرُ الْفَاتِحِينَ (89) ? .
قوله : ? أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ ? . قال ابن كثير : ( يقول : أَوَأنتم فاعلون ذلك ، ولو كنا كارهين ما تدعوننا إليه ؟ فإنا إن رجعنا إلى ملّتكم ودخلنا معكم فيما أنتم فيه ، فقد أعظمنا الفرية على الله ) . انتهى .
وقال السدي : يقول : ما ينبغي لنا أن نعود في شرككم بعد إذ نجانا الله منها ، إلا أن يشاء الله ربنا ، فالله لا يحب الشرك ، ولكن يقول : إلا أن يكون الله قد علم شيئًا فإنه وسع كل شيء علمًا .
وعن قتادة : ? افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ ? : اقض بيننا وبين قومنا بالحق . وعن ابن عباس : ما كنت أدري ما قوله : ? رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنَا وَبَيْنَ قَوْمِنَا بِالْحَقِّ ? حتى سمعت ابنة ذي يزن تقول لزوجها : انطلق أفاتحك .(5/249)
قوله عز وجل : ? وَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَّخَاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ شُعَيْباً كَانُواْ هُمُ الْخَاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ (93) ? .
عن قتادة : ? كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ? كأن لم يعيشوا ، كأن لم ينعموا . وعن ابن عباس : قوله : ? فَكَيْفَ آسَى ? ، يعني : فكيف أحزن . قال ابن إسحاق : أصاب شعيبًا على قومه حزن لما يرى بهم من نقمة الله ، ثم قال يعزّي نفسه فيما ذكر الله عنه ، ? يَا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَنَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسَى عَلَى قَوْمٍ كَافِرِينَ ? .
قوله عز وجل : ? وَمَا أَرْسَلْنَا فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنَا أَهْلَهَا بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَواْ وَّقَالُواْ قَدْ مَسَّ آبَاءنَا الضَّرَّاء وَالسَّرَّاء فَأَخَذْنَاهُم بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (95) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? ثُمَّ بَدَّلْنَا مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ? ، يقول : مكان الشدة الرخاء . وعن مجاهد في قول الله : ? مَكَانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ ? والحسنة : الرخاء والمال ، والولد . ? حَتَّى عَفَواْ ? ، قال : كثرت أموالهم وأولادهم .(5/250)
قوله عز وجل : ? وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (96) أَفَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا بَيَاتاً وَهُمْ نَآئِمُونَ (97) أَوَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرَى أَن يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنَا ضُحًى وَهُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَفَأَمِنُواْ مَكْرَ اللّهِ فَلاَ يَأْمَنُ مَكْرَ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ (99) أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (100) ? .
عن ابن عباس :قوله :? أَوَلَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الأَرْضَ مِن بَعْدِ أَهْلِهَا ?، يقول : أو لم يتبيّن لهم . وقال ابن زيد : أو لم نبيّن لهم ، ? أَن لَّوْ نَشَاء أَصَبْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ ? ، قال : والهدى : البيان الذي بعث هاديًا مبيّنًا حتى يعرفوا ، لولا البيان لم يعرفوا .
قال الزجاج : قوله : ? وَنَطْبَعُ ? : منقطع عما قبله ، لأن قوله : ? أَصَبْنَاهُم ? ماضِ ، ? وَنَطْبَعُ ? مستقبل .
قوله عز وجل : ? تِلْكَ الْقُرَى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَآئِهَا وَلَقَدْ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ (101) وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم مِّنْ عَهْدٍ وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ (102) ? .
عن أُبَيّ بن كعب : ? فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ مِن قَبْلُ ? ، قال : كان في عمله يوم أقرّوا له بالميثاق .(5/251)
وقال ابن كثير : الباء سببية ، أي : فما كانوا ليؤمنوا بما جاءتهم به الرسل بسبب تكذيبهم بالحق ، أول ما ورد عليهم ؛ حكاه ابن عطية رحمه الله ، وهو متجه حسن ، كقوله : ? وَمَا يُشْعِرُكُمْ أَنَّهَا إِذَا جَاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ * وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ? ولهذا قال هنا : ? كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللّهُ عَلَىَ قُلُوبِ الْكَافِرِينَ ? ? وَمَا وَجَدْنَا لأَكْثَرِهِم ? ، أي : لأكثر الأمم الماضية من عهد ? وَإِن وَجَدْنَا أَكْثَرَهُمْ لَفَاسِقِينَ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الواحد بعد المائة(5/252)
? ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ (108) قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي(5/253)
الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَقَالَ مُوسَى يَا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُم بِبَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (105) قَالَ إِن كُنتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِهَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ (107) وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ (108) ? .
قال البغوي : قوله تعالى :? ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى بِآيَاتِنَا ? بأدلّتنا ، ? إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَظَلَمُواْ بِهَا ? فجحدوا بها .
وقوله : ? حَقِيقٌ عَلَى أَن لاَّ أَقُولَ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ ? ، أي : أنا خليق بأن لا أقول على الله إلا الحق .
وعن قتادة : ? فَأَلْقَى عَصَاهُ فَإِذَا هِيَ ثُعْبَانٌ مُّبِينٌ ? ، قال : تحوّلت حيّة عظيمة . وقال ابن عباس : ألقى عصاه فتحولت حية عظيمة فاغرة فاها ، مسرعة إلى فرعون ، فلما رأى فرعون أنها قاصدة إليه اقتحم عن سريره فاستغاث بموسى أن يكفّها عنه ففعل .(5/254)
وقوله : ? وَنَزَعَ يَدَهُ فَإِذَا هِيَ بَيْضَاء لِلنَّاظِرِينَ ? ،يقول : من غير برص . قال مجاهد : وكان موسى رجلاً آدم ، فأخرج يده فإذا هي بيضاء ، أشد بياضًا من اللبن من غير سوء ، قال : من غير برص آية لفرعون .
قوله عز وجل : ? قَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَن يُخْرِجَكُم مِّنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ (110) قَالُواْ أَرْجِهْ وَأَخَاهُ وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (112) وَجَاء السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قَالْواْ إِنَّ لَنَا لأَجْراً إِن كُنَّا نَحْنُ الْغَالِبِينَ (113) قَالَ نَعَمْ وَإَنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? أَرْجِهْ وَأَخَاهُ ? ، قال : أخّره ، ? وَأَرْسِلْ فِي الْمَدَآئِنِ حَاشِرِينَ ? ، قال : الشُّرَط ، فحشر له كل ساحر متعالم ، فلما أتوا فرعون ، قالوا : بم يعمل هذا الساحر قالوا : يعمل بالحيّات ، قالوا : والله ما في الأرض قوم يعملون بالسحر ، والحيّات ، والجبال ، والعصيّ أعلم منا ، فما أَجْرُنا إن غَلبنا ؟ فقال لهم : أنتم قرابتي وخاصّتي ، وأنا صانع إليكم كل شيء أحببتم .(5/255)
قوله عز وجل : ? قَالُواْ يَا مُوسَى إِمَّا أَن تُلْقِيَ وَإِمَّا أَن نَّكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قَالَ أَلْقُوْاْ فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ وَجَاءوا بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنْ أَلْقِ عَصَاكَ فَإِذَا هِيَ تَلْقَفُ مَا يَأْفِكُونَ (117) فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ (119) وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ (122) قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنتُم بِهِ قَبْلَ أَن آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُواْ مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قَالُواْ إِنَّا إِلَى رَبِّنَا مُنقَلِبُونَ (125) وَمَا تَنقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآيَاتِ رَبِّنَا لَمَّا جَاءتْنَا رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ (126) ? .
قال مجاهد : ? يَأْفِكُونَ ? يكذبون . وعن السدي قال : ? قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُوا مَا أَنتُم مُّلْقُونَ * فَأَلْقَوْا حِبَالَهُمْ وَعِصِيَّهُمْ ? وكانوا بضعة وثلاثين ألف رجل ، ليس منهم رجل إلا معه حبل وعصا ، ? فَلَمَّا أَلْقَوْاْ سَحَرُواْ أَعْيُنَ النَّاسِ وَاسْتَرْهَبُوهُمْ ? ، يقول : فرَّقوهم ، فأوجس في نفسه خيفة موسى . وقال ابن عباس : ألقوا حبالاً غلاظًا ، وخشبًا طوالاً ، قال : فأقبلت : ? يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِن سِحْرِهِمْ أَنَّهَا تَسْعَى ? .(5/256)
وقال السدي : أوحى الله إلى موسى : لا تخف وألق ما في يمينك تلقف ما يأفكون ، فألقى عصاه فأكلت كل حية لهم . فلما رأوا ذلك سجدوا ، وقالوا : ? آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ? . وقال ابن إسحاق : أوحى الله إليه أن ألق ما في يمينك ، فألقى عصاه من يده فاستعرضَت ما ألقوا من حبالهم وعصيّهم ، وهي : حيات في أعين فرعون وأعين الناس تسعى ، فجعلت تلقفها : تبتلعها حيّة ، حتى ما يرى بالوادي قليل ولا كثير مما ألقوا ، ثم أخذها موسى ، فإذا هى عصاه في يده كما كانت ، ووقع السحرة سجّدًا قالوا : ? آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ? ، لو كان هذا سحرًا ما غلبنا .
وعن مجاهد في قوله : ? فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ? ، قال : ظهر الحق ، وذهب الإِفك الذي كانوا يعملون . وقال ابن عباس : لما رأت السحرة ما رأت ، عرفت أن ذلك أمر من السماء ، وليس بسحر ، فخروا سجدًا ، وقالوا : آمنا برب العالمين رب موسى وهارون وأمير السحرة ، فقال له موسى : أرأيتك إن غلبتك أتؤمن لي ، وتشهد أن ما جئت به حق ؟ قال الساحر : لآتينّ غدًا بسحر لا يغلبه سحر ، فوالله لإِن غلبتني لأؤمننّ به ولأِشهدنّ أنك حق ، وفرعون ينظر إليهم ؛ فهو قول فرعون : ? إِنَّ هَذَا لَمَكْرٌ مَّكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ ? إذا التقيتما لتظاهرا فتخرجا منها أهلها . وعن السدي : ? لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُم مِّنْ خِلاَفٍ ? فقتلهم وصلبهم ، كما قال عبد الله بن عباس حين قالوا : ? رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْراً وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ ? قال : كانوا في أول النهار سحرة ، وفي آخر النهار شهداء . والله أعلم .
* * *
الدرس الثاني بعد المائة(5/257)
? وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (131) وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ(5/258)
مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ (137) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَقَالَ الْمَلأُ مِن قَوْمِ فِرْعَونَ أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قَالَ سَنُقَتِّلُ أَبْنَاءهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قَاهِرُونَ (127) قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللّهِ وَاصْبِرُواْ إِنَّ الأَرْضَ لِلّهِ يُورِثُهَا مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129) ? .(5/259)
قال البغوي : قوله تعالى : ? وَقَالَ الْمَلأ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ ? له : ? أَتَذَرُ مُوسَى وَقَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الأرْضِ ? وأرادوا بالإفساد في الأرض دعاءهم الناس إلى مخالفة فرعون في عبادته ? وَيَذَرَكَ ? أي : وليذرك ? وَآلِهَتَكَ ? فلا يعبدك ولا يعبدها . قال ابن عباس : كان لفرعون بقرة يعبدها ، وكان إذا رأى بقرة حسناء أمرهم أن يعبدوها ، فلذلك أخرج السامريّ لهم عجلاً . وقال السدي : كان فرعون قد اتخذ لقومه أصنامًا وأمرهم بعبادتها ، وقال لقومه : هذه آلهتكم ، أراد بها : أنه ربّها وربّكم ، فذلك قوله : ? أنا ربكم الأعلى ? . وقال ابن عباس : لما آمنت السحرة اتبع موسى ستمائة ألف من بني إسرائيل .
وقال مجاهد في قول الله : ? قَالُواْ أُوذِينَا مِن قَبْلِ أَن تَأْتِينَا وَمِن بَعْدِ مَا جِئْتَنَا ? من إرسال الله إياك ، وبعده ، ? قَالَ عَسَى رَبُّكُمْ أَن يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ ? .
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ قَالُواْ لَنَا هَذِهِ وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُواْ بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (131) ? .
عن ابن مسعود ? وَلَقَدْ أَخَذْنَا آلَ فِرْعَونَ بِالسِّنِينَ ? قال : سني الجوع . وقال مجاهد : الجائحة ? وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ ? دون ذلك . وقال قتادة : أخذهم الله بالسنين : بالجوع عامًا فعامًا ? وَنَقْصٍ مِّن الثَّمَرَاتِ ? ، فأما السنين : فكان ذلك في باديتهم وأهل مواشيهم . وأمَّا بنقص من الثمرات : فكان ذلك في أمصارهم وقراهم .(5/260)
وقال مجاهد في قوله : ? فَإِذَا جَاءتْهُمُ الْحَسَنَةُ ? العافية والرخاء ، ? قَالُواْ لَنَا هَذِهِ ? نحن أحق بها ، ? وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ ? بلاء وعقوبة ، ? يَطَّيَّرُواْ ? يتشاءموا ? بِمُوسَى وَمَن مَّعَهُ ? .
وقال ابن عباس : ? أَلا إِنَّمَا طَائِرُهُمْ عِندَ اللّهُ ? ، قال : الأمر من قبل الله ? وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ? .
قوله عز وجل : ? وَقَالُواْ مَهْمَا تَأْتِنَا بِهِ مِن آيَةٍ لِّتَسْحَرَنَا بِهَا فَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132) فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الطُّوفَانَ وَالْجَرَادَ وَالْقُمَّلَ وَالضَّفَادِعَ وَالدَّمَ آيَاتٍ مُّفَصَّلاَتٍ فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (133) وَلَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ قَالُواْ يَا مُوسَى ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ لَئِن كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَلَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرَائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلَى أَجَلٍ هُم بَالِغُوهُ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (135) ? .
قال ابن عباس : لما جاء موسى بالآيات ، كان أول الآيات الطوفان ، فأرسل الله عليهم السماء ، وقال : القٌمَّل هو : السوس الذي يخرج من الحنطة . وقال سعيد ابن جبير : لما أتى موسى فرعون قال له : أرسل معي بني إسرائيل فأبى عليه ، فأرسل الله عليهم الطوفان ، وهو : المطر ، فصبّ عليهم منه شيئًا خافوا أن يكون عذاب ، فقالوا لموسى : ادع لنا ربك عندك لئن كشفت عنا الرجز لنؤمن لك ولنرسلن معك بني إسرائيل ، فدعا ربه ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل .(5/261)
فأنبت الله لهم في تلك السنة شيئًا لم ينبته لهم قبل ذلك ، من الزرع ، والثمر ، والكلأ ، فقالوا : هذا ما كنا نتمنى ، فأرسل الله عليهم الجراد فسلّطه على الكلأ ، فلما رأوا أثره في الكلأ عرفوا أنه لا يبقي الزرع ، فقالوا يا موسى ادع لنا ربك فيكشف عنا الجراد ، فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم الجراد ، فلم يؤمنوا ، ولم يرسلوا معه بني إسرائيل .
فداسوا وأحرزوا في البيوت ، فقالوا : أحرزنا ، فأرسل الله عليهم القمل وهو : السوس الذي يخرج منه ، فكان الرجل يخرج عشرة أجربة إلى الرحا فلا يردّ منها ثلاثة أقفزة ، فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا القمل فنؤمن لك ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم ، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل .
فبينا هو جالس عند فرعون ، إذ سمع نقيق ضفدع ، فقال لفرعون : ما تلقى أنت وقومك من هذا ؟ فقال : وما عسى أن يكون كيد هذا ؟ فما أمسوا حتى كان الرجل يجلس إلى ذقنه في الضفادع ، ويهمّ أن يتكلم فتثب الضفادع في فيه ، فقالوا لموسى : ادع لنا ربك يكشف عنا هذه الضفادع ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم ، فأبوا أن يرسلوا معه بني إسرائيل .
فأرسل الله عليهم الدم ، وكانوا ما استقوا من الأنهار والآبار ، أو ما كان في أوعيتهم وجدوه دمًا عبيطًا ، فشكوا إلى فرعون فقالوا : إنا قد ابتلينا بالدم ، وليس لنا شراب ، فقال : إنه قد سحركم ، فقالوا : من أين سحرنا ونحن لا نجد في أوعيتنا شيئًا من الدم إلا وجدناه دمًا عبيطًا ؟ فأتوه فقالوا : يا موسى ادع لنا ربك يكشف عنا هذا الدم ، فنؤمن لك ، ونرسل معك بني إسرائيل ، فدعا ربه فكشف عنهم ، فلم يؤمنوا ولم يرسلوا معه بني إسرائيل .(5/262)
قوله عز وجل : ? فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (136) وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ بِمَا صَبَرُواْ وَدَمَّرْنَا مَا كَانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَقَوْمُهُ وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ (137) ? .
عن الحسن في قوله : ? وَأَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كَانُواْ يُسْتَضْعَفُونَ مَشَارِقَ الأَرْضِ وَمَغَارِبَهَا الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ? ، قال : الشام .
وقال البغوي : يعني : مصر والشام ? الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا ? بالماء ، والأشجار ، والثمار ، والخصب ، والسعة .
وعن مجاهد في قول الله : ? وَتَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنَى عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ? ، قال : ظهور قوم موسى على فرعون ، وتمكين الله لهم في الأرض ما ورثهم منها .
وعن ابن عباس : قوله : ? وَمَا كَانُواْ يَعْرِشُونَ ? ، يقول : يبنون . وقال مجاهد : ? يَعْرِشُونَ ? يبنون البيوت والمساكن ما بلغت ، وكان عنبهم غير معروش ، وقد قال تعالى : ? فَأَخْرَجْنَاهُم مِّن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ * وَكُنُوزٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ * كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا بَنِي إِسْرَائِيلَ ? .(5/263)
قوله عز وجل : ? وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْاْ عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَّهُمْ قَالُواْ يَا مُوسَى اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (139) قَالَ أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهاً وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ (140) وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (141) ? .
عن أبي واقد الليثي قال : خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبل حنين ، فمررنا بسدرة قلت : يا نبي الله اجعل لنا هذه ذات أنواط ، كما للكفار ذات أنواط ، وكان الكفار ينوطون سلاحهم بسدرة يعكفون حولها ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « الله أكبر ، هذا كما قالت بنو إسرائيل لموسى : ? اجْعَل لَّنَا إِلَهاً كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ ? ، إنكم ستركبون سنن الذين من قبلكم » . رواه ابن جرير وغيره . وعن السدي : ? إِنَّ هَؤُلاء مُتَبَّرٌ مَّا هُمْ فِيهِ ? ، يقول : مهلك ما هم فيه .
قال البغوي : والتتبير : الإهلاك ، ? وَبَاطِلٌ ? : مضمحل وزائل ، ? مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ? ، قال : يعني : موسى : ? أَغَيْرَ اللّهِ أَبْغِيكُمْ ? ، أي : أبغي لكم وأطلب إلهًا ، ? وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ ? ، أي : على عالمي زمانكم ؟ وقوله تعالى : ? وَإِذْ أَنجَيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سُوَءَ الْعَذَابِ يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ ? ، أي : اختبار من الله لكم ، وقيل : للإِشارة إلى الإِنجاء ، فالبلاء بمعنى المنحة لا المحنة . والله أعلم .(5/264)
الدرس الثالث بعد المائة
? وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (147) وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فَي(5/265)
أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْنَاهَا بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقَالَ مُوسَى لأَخِيهِ هَارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلاَ تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) ? .
عن مجاهد : ? وَوَاعَدْنَا مُوسَى ثَلاَثِينَ لَيْلَةً ? هو : ذو القعدة ، وعشر من ذي الحجة . فذلك قوله : ? فَتَمَّ مِيقَاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ? .(5/266)
قوله عز وجل : ? وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ انظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً وَخَرَّ موسَى صَعِقاً فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ ? ، قال : أعطني . وعن أبي بكر الهذلي قال : لما تخلّف موسى عليه السلام بعد الثلاثين حتى سمع كلام الله ، اشتاق إلى النظر إليه فقال : ? رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي ? وليس لبشر أن يطيق أن ينظر إليّ في الدنيا ، من نظر إليّ مات ، قال : إلهي سمعت منطقك ، واشتقت إلى النظر إليك ، ولأن أنظر إليك ثم أموت أحب إليّ من أن أعيش ولا أراك قال : ? فانظر إلى الجبل فإن استقر مكانه فسوف تراني .
وعن ابن عباس في قول الله : ? فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً ? ، قال : ما تجلّى منه إلا قدر الخنصر ، ? جَعَلَهُ دَكّاً ? ، قال : ترابًا ، ? وَخَرَّ موسَى صَعِقاً ? ، قال : مغشيًّا عليه فمرّت به الملائكة ، وقد صعق فقالت : يا ابن النساء الحيّض ، لقد سألت ربك أمرًا عظيمًا ، ? فَلَمَّا أَفَاقَ قَالَ سُبْحَانَكَ ? لا إله إلا أنت ، ? تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ ? ، قال : أنا أول من آمن أنه لا يراك أحد من خلقك ، يعني : في الدنيا .(5/267)
قوله عز وجل : ? قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاَتِي وَبِكَلاَمِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُن مِّنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ (145) ? .
عن السدي : ? وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِّكُلِّ شَيْءٍ ? من الحلال والحرام . وقال سعيد بن جبير : ما أمروا ونهوا عنه.
وعن السدي : ? فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ ? بجد واجتهاد ، ? وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُواْ بِأَحْسَنِهَا ? بأحسن ما يجدون فيها .
وقال ابن عباس : قوله : ? وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ ? يريد ألواح التوراة .
وعن مجاهد في قوله : ? سَأُرِيكُمْ دَارَ الْفَاسِقِينَ ? ، قال : مصيرهم في الآخرة .
وقال ابن كثير : أي : سترون عاقبة من خالف أمري وخرج عن طاعتي .
قوله عز وجل : ? سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَإِن يَرَوْاْ كُلَّ آيَةٍ لاَّ يُؤْمِنُواْ بِهَا وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الرُّشْدِ لاَ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَإِن يَرَوْاْ سَبِيلَ الْغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَكَانُواْ عَنْهَا غَافِلِينَ (146) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَلِقَاء الآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (147) ? .
قال ابن عيينة في قول الله : ? سَأَصْرِفُ عَنْ آيَاتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ ? يقول : أنزع عنهم فهم القرآن ، وأصرفهم عن آياتي .(5/268)
قوله عز وجل : ? وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِن بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَّهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّهُ لاَ يُكَلِّمُهُمْ وَلاَ يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُواْ ظَالِمِينَ (148) وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ وَرَأَوْاْ أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّواْ قَالُواْ لَئِن لَّمْ يَرْحَمْنَا رَبُّنَا وَيَغْفِرْ لَنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (149) ? .
قال البغوي : ? وَلَمَّا سُقِطَ فَي أَيْدِيهِمْ ? ، أي : ندموا على عبادة العجل ؛ تقول العرب لكل نادم على أمر قد سقط في يديه .
قوله عز وجل : ? وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِن بَعْدِيَ أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الألْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُواْ يَقْتُلُونَنِي فَلاَ تُشْمِتْ بِيَ الأعْدَاء وَلاَ تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151) ? .
عن ابن عباس : ? وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفاً ? ، يقول : أسفًا حزينًا ، فأخذ برأس أخيه يجرّه إليه ، وألقى الألواح من الغضب .
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُواْ الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِّن رَّبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَالَّذِينَ عَمِلُواْ السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِهَا وَآمَنُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (153) وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154) ? .(5/269)
قال ابن كثير : أما الغضب الذي نال بني إسرائيل في عبادتهم العجل ، فهو أن الله تعالى لم يقبل لهم توبة حتى قتل بعضهم بعضًا ، كما تقدم في سورة البقرة ؛ وأما الذلة فأعقبهم ذلك ذلّة وصغارًا في الحياة الدنيا ، ? وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ ? ، قال أبو قلابة : هي والله لكل مفتر إلى يوم القيامة . وقال ابن عيينة : كل صاحب بدعة ذليل .
وقوله تعالى : ? وَلَمَّا سَكَتَ ? أي : سكن ، ? عَن مُّوسَى الْغَضَبُ ? ? أَخَذَ الأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ? .
قال ابن كثير : يقول تعالى : ? وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ ? ، أي : غضبه على قومه ، ? أَخَذَ الألْوَاحَ ? ، أي : التي كان ألقاها من شدة الغضب على عبادتهم العجل ، غيرة لله وغضبًا له ، ? وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ ? ، يقول كثير من المفسرين : إنه لما ألقاها تكسرت ، ثم جمعها بعد ذلك . والله أعلم .
* * *
الدرس الرابع بعد المائة(5/270)
? وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ(5/271)
فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ (162) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَاخْتَارَ مُوسَى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِّمِيقَاتِنَا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قَالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ (155) وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ? .
قال السدي : إن الله أمر موسى عليه السلام أن يأتيه في ناس من بني إسرائيل ، يعتذرون إليه من عبادة العجل ، ووعدهم موعدًا ، واختار موسى من قومه سبعين رجلاً على عينه ، ثم ذهب بهم ليعتذروا ، فلما أتوا ذلك المكان قالوا : لن نؤمن لك يا موسى حتى نرى الله جهرة ، فإنك قد كلمته فأرناه ، فأخذتهم الصاعقة فماتوا ، فقام موسى يبكي ويدعو الله ويقول : رب ماذا أقول لبني إسرائيل إذا أتيتهم وقد أهلكت خيارهم ، ? لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُم مِّن قَبْلُ وَإِيَّايَ أَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ السُّفَهَاء مِنَّا ? ؟ .(5/272)
قال في ( جامع البيان ) : من التجاسر على طلب الرؤية ، فإن بعضًا من السبعين طلبوا الرؤية ، أو من عبادة العجل ، ولذلك قيل : علماؤهم ما عبدوا العجل ، ? إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ ? اختبارك وامتحانك . ? تُضِلُّ بِهَا مَن تَشَاء وَتَهْدِي مَن تَشَاء أَنتَ وَلِيُّنَا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الْغَافِرِينَ * وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ? عن ابن جريج : ? وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً ? ، قال : مغفرة ، ? وَفِي الآخِرَةِ إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ? ، قال ابن عباس : تبنا إليك .
وقال البغوي : ? وَاكْتُبْ لَنَا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةً ? النعمة والعافية ? وَفِي الآخِرَةِ ? ، أي : وفي الآخرة جنة ، أي : المغفرة ، والجنة . ? إِنَّا هُدْنَا إِلَيْكَ ? ، أي : تبنا إليك .
قوله عز وجل : ? قَالَ عَذَابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشَاء وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ (156) الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157) ? .(5/273)
قال أبو بكر الهذلي : فلما نزلت : ? وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ? ، قال إبليس : أنا من الشيء ، فنزعها الله من إبليس ؛ قال : ? فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِنَا يُؤْمِنُونَ ? فقال اليهود : نحن نتّقي ، ونؤتي الزكاة ، ونؤمن بآيات ربنا ، فنزعها الله من إبليس ومن اليهود ، وجعلها لهذه الأمة . وعن الحسن ، وقتادة في قوله : ? وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ? قالا : وسعت في الدنيا البرّ والفاجر ، وهي يوم القيامة للذين اتقو خاصة . وعن ابن عباس : ? فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ? ، يعني : الشرك . وقال قتادة : يتّقون معاصي الله .
وعن عطاء بن يسار قال : لقيت عبد الله بن عمرو فقلت : أخبرني عن صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في التوراة ، قال : ( أجل ، والله إنه لموصوف في التوراة كصفته في القرآن ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً ? ، وحرزًا للأميّيّن أنت عبدي ورسولي ، سمّيتك المتوكّل ، ليس بفظّ ولا غليظ ولا صخّاب في الأسواق ، ولا يجزي بالسّيئة السيئة ، ولكن يعفو ويصفح ، ولن نقبضه حتى نقيم به الملّة العوجاء ، بأن يقولوا : لا إله إلا الله ، فنقيم به قلوبًا غلفًا وآذانًا صمًّا وأعينًا عميًا ) . رواه ابن جرير .(5/274)
وعن ابن عباس : ? وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَآئِثَ ? وهو : لحم الخنزير والربا وما كانوا يستحلّونه من المحرّمات من المآكل التي حرّمها الله ? وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ ?، قال : عهدهم . وقال الحسن : العهود التي أعطوها من نفسهم . وعن قتادة : ? وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلاَلَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ? فجاء محمد - صلى الله عليه وسلم - بإقالة منه ، وتجاوز عنه . وقال مجاهد : من اتبع محمدًا ودينه من أهل الكتاب ، وضع عنهم ما كان عليهم من التشديد في دينهم ، ? فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ ? ، قال ابن عباس : حموه ووقّروه .
قوله عز وجل : ? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158) ? .
في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « أعطيت خمسًا لم يعطهنّ أحد من الأنبياء قبلي : نصرت بالرعب مسيرة شهر ، وجعلت لي الأرض مسجدًا وطهورًا ، فأيّما رجل من أمتي أدركته الصلاة فليصلّ ، وأحلّت لي المغانم ولم تحلّ لأحد قبلي ، وأعطيت الشفاعة ، وكان النبي يبعث إلى قومه خاصّة وبعثت إلى الناس عامة » . وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « والذي نفسي بيده ، لا يسمع بي رجل من هذه الأمة يهودي ولا نصراني ، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار » .(5/275)
قوله عز وجل : ? وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (159) وَقَطَّعْنَاهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْبَاطاً أُمَماً وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى إِذِ اسْتَسْقَاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْحَجَرَ فَانبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتَا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُنَاسٍ مَّشْرَبَهُمْ وَظَلَّلْنَا عَلَيْهِمُ الْغَمَامَ وَأَنزَلْنَا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَالسَّلْوَى كُلُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَمَا ظَلَمُونَا وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَإِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُواْ هَذِهِ الْقَرْيَةَ وَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ وَقُولُواْ حِطَّةٌ وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئَاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِّنَ السَّمَاءِ بِمَا كَانُواْ يَظْلِمُونَ (162) ? .(5/276)
يقول تعالى : ? وَمِن قَوْمِ مُوسَى ? بني إسرائيل ، ? أُمَّةٌ يَهْدُونَ ? الناس ، ? بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ? في الحكم ، وهم : الثابتون على الحق قرنًا بعد قرن ، ومن آمن منهم بمحمد - صلى الله عليه وسلم - كعبد الله بن سلام وأتباعه ، كما قال تعالى : ? لَيْسُواْ سَوَاء مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَآئِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللّهِ آنَاء اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ * يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ ? ، وقال تعالى : ? وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْهِمْ خَاشِعِينَ لِلّهِ لاَ يَشْتَرُونَ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُوْلَئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الخامس بعد المائة(5/277)
? واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (167) وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا(5/278)
آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) ? .
قوله عز وجل : ? واَسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ (163) ? .
قال ابن عباس : هي قرية . يقال : أيلة بين مدين والطور ، على شاطئ البحر ، ? إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً ? ، يقول : ظاهرة على الماء من كل مكان ، ? وَيَوْمَ لاَ يَسْبِتُونَ لاَ تَأْتِيهِمْ كَذَلِكَ نَبْلُوهُم بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ? .
قال ابن كثير : ? كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ ? ، أي : نختبرهم بإظهار السمك لهم على ظهر الماء ، في اليوم المحرّم عليهم صيده ، وإخفائها عنهم في اليوم الحلال لهم صيده . ? كَذَلِكَ نَبْلُوهُمْ ? نختبرهم ، ? بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ? ، يقول : بفسقهم عن طاعة الله ، وخروجهم عنها ، وهؤلاء قوم احتالوا على انتهاك محارم الله ، بما تعاطوا من الأسباب الظاهرة ، التي معناها في الباطن تعاطي الحرام ، ثم ذكر حديث أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا ترتكبوا ما ارتكب اليهود فتستحلّوا محارم الله بأدنى الحيل » .(5/279)
وقال قتادة : أتاهم الشيطان فقال : إنما حرّم عليكم أكلها يوم السبت . وقال ابن عباس : ابتدعوا السبت فابتلوا فيه ، فحرّمت عليهم ، فكانوا إذا كان يوم السبت شرّعت لهم الحيتان ينظرون إليها في البحر ، فإذا انقضى السبت ذهبت فلم تر حتى السبت المقبل ، فإذا جاء السبت جاءت شرّعًا ، فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا كذلك ، ثم إن رجلاً منهم أخذ حوتًا ، فحزمه بأنفه ، ثم ضرب له وتدًا في الساحل وربطه وتركه في الماء ، فلما كان الغد أخذه فشواه فأكله ، ففعل ذلك وهم ينظرون لا ينكرون ، ولا ينهاه منهم أحد ، إلا عصبة منهم نهوه حتى ظهر ذلك في الأسواق ، وفعل علانية .
قوله عز وجل : ? وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَاباً شَدِيداً قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُواْ يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ (166) ? .
عن عكرمة قال : قال ابن عباس : نسمع الله يقول : ? أَنجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُواْ بِعَذَابٍ بَئِيسٍ ? فلا أدري ما فعل بالفرقة الساكتة . قال عكرمة : قلت له : جعلني الله فداك ، ألا تراهم قد أنكروا وكرهوا ما هم عليه وقالوا : ? لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللّهُ مُهْلِكُهُمْ ? . وإن لم يقل الله : أنجيتهم ، لم يقل : أهلكتهم ، فأعجبه قولي فرضي ، وأمر لي ببردين فكسانيهما ، وقال : نجت الفرقة الساكتة .(5/280)
وعن قتادة : ? فَلَمَّا عَتَوْاْ عَن مَّا نُهُواْ عَنْهُ ? ، يقول : لما مرد القوم على المعصية ، ? قُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ ? فصاروا قردة لها أذناب تعاوي بعدما كانوا رجالاً ونساء .
قوله عز وجل : ? وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (167) ? .
عن مجاهد : ? وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ ? ، قال : أمر ربك . وعن ابن عباس : ? وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَن يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذَابِ ? ، قال : يهود ، وما ضرب عليهم من الذلة والمسكنة .
قوله عز وجل : ? وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ أَلَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِم مِّيثَاقُ الْكِتَابِ أَن لاَّ يِقُولُواْ عَلَى اللّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَدَرَسُواْ مَا فِيهِ وَالدَّارُ الآخِرَةُ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (169) وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170) ? .
عن ابن عباس : ? وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً ? ، قال : كل أرض يدخلها قوم من اليهود .(5/281)
وقوله تعالى : ? مِّنْهُمُ الصَّالِحُونَ ? ، قال ابن عباس ، ومجاهد : يريد الذين أدركوا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وآمنوا به . ? وَمِنْهُمْ دُونَ ذَلِكَ ? ، يعني : الذين بقوا على الكفر . ? وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ ? .
قال البغوي : بالخصب والعافية ، ? وَالسَّيِّئَاتِ ? الجدب ، والشدة . ? لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ? لكي يرجعوا إلى طاعة ربهم ويتوبوا .
وعن مجاهد في قوله : ? فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُواْ الْكِتَابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هَذَا الأدْنَى وَيَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنَا وَإِن يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِّثْلُهُ يَأْخُذُوهُ ? ، قال : ما أشرف لهم من شيء في اليوم من الدنيا حلال أو حرام يأخذونه ، ويبتغون المغفرة ، فإن يجدوا الغد مثله يأخذوه . وقال قتادة : إي والله ، لَخُلْفُ سوء .
قال ابن كثير : ثم أثنى تعالى على من تمسك بكتابه الذي يقوده إلى إتباع رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - ، كما هو مكتوب فيه ، فقال تعالى : ? وَالَّذِينَ يُمَسَّكُونَ بِالْكِتَابِ ? ، أي : اعتصموا به واقتدوا بأوامره ، وتركوا زواجره ? وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ إِنَّا لاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ ? .
وقال في ( جامع البيان ) : ( أي أجرهم لإصلاحهم ) . انتهى .
وفي الحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « بدأ الإِسلام غريبًا وسيعود غريبًا كما بدأ ، فطوبى للغرباء » . قيل : من هم ؟ قال : « الذين يصلحون إذا فسد الناس » . وفي رواية : « الذين يصلحون ما أفسد الناس من سنتي » .
قوله عز وجل : ? وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَظَنُّواْ أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُواْ مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171) ? .(5/282)
عن ابن عباس : قوله : ? وَإِذ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ ? فقال لهم موسى : ? خُذُواْ مَا آتَيْنَاكُم بِقُوَّةٍ ? ، يقول : من العمل بالكتاب ، وإلا خرّ عليكم الجبل فأهلككم ، فقالوا : بل نأخذ ما آتانا الله بقوة ، ثم نكثوا بعد ذلك . وقال قتادة : نزعه الله من أصله ثم جعله فوق رؤوسهم فقال : لتأخذنّ أمري أو لأرمينّكم به . وقال الحسن : لما نظروا إلى الجبل ، خرّ كل رجل ساجدًا على حاجبه الأيسر ، ونظر بعينه اليمنى فَرَقًا من أن يسقط عليه ، ولذلك ليس في الأرض يهودي يسجد إلا على حاجبه الأيسر ، يقولون : هذه السجدة التي رُفعت عنا بها العقوبة . والله أعلم .
* * *
الدرس السادس بعد المائة(5/283)
? وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ (177) مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (180) وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (182)(5/284)
وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَإِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِن بَنِي آدَمَ مِن ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَأَشْهَدَهُمْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ قَالُواْ بَلَى شَهِدْنَا أَن تَقُولُواْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هَذَا غَافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُواْ إِنَّمَا أَشْرَكَ آبَاؤُنَا مِن قَبْلُ وَكُنَّا ذُرِّيَّةً مِّن بَعْدِهِمْ أَفَتُهْلِكُنَا بِمَا فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَكَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ وَلَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174) ? .
في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « يقال للرجل من أهل النار يوم القيامة لو كان لك ما على الأرض من شيء أكنت مفتديًا به ؟ قال فيقول : نعم ، فيقول : قد أردت منك أهون من ذلك ، قد أخذت عليك في ظهر آدم أن لا تشرك بي شيئًا ، فأبيت إلا أن تشرك بي » . وقال ابن عباس : ( إن الله مسح صلب آدم فاستخرج منه كل نسمة هو خالقها إلى يوم القيامة ، فأخذ منهم الميثاق أن يعبدوه ولا يشركوا به شيئًا ، وتكفّل لهم بالأرزاق ، ثم أعادهم في صلبه ، فلن تقوم الساعة حتى يولد من أعطى الميثاق يومئذٍ ، فمن أدرك منهم الميثاق الآخر فوفّى به ، نفعه الميثاق الأول ، ومن أدرك الميثاق الآخر فلم يف به ، لم ينفعه الميثاق الأول ، ومن مات صغيرًا قبل أن يدرك الميثاق الآخر ، مات على الميثاق الأول على الفطرة ) .(5/285)
قوله عز وجل : ? وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ (175) وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ (177) مَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَمَن يُضْلِلْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (178) ? .
عن عكرمة قال في : ? الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا ? ، قال : هو بلعم . وقال ابن مسعود وغيره : هو رجل من مدينة الجبارين وكان يعلم اسم الله الأعظم ، وملخص ما ذكره المفسرون : أنه كان مجاب الدعوة ، وأن قومه ، طلبوه أن يدعو على موسى وقومه فأبى ، فلم يزالوا به حتى أجابهم ودعا ، فكان يدعو على قومه فقالوا له : ويحك إنك تدعو علينا ! فقال : لا أملك إلا ذلك ، فاندلع لسانه على صدره فقال : قد ذهبت دنياي وآخرتي ولم يبق إلا المكر والحيلة ، فأخرجوا النساء إلى العسكر ومروهن أن لا يمتنعن ممن أرادهن ، فإنهم إن زنوا أكفيتموهم ، فخرج النساء إلى بني إسرائيل ، فزنى رجل من أشرافهم فوقع عليهم الطاعون .(5/286)
فهلك منهم عشرون ألفًا في ساعة من النهار ، وجعل الطاعون يجوس في بني إسرائيل ، فأخذ رجل من أشرافهم حربته ثم دخل على الزاني قبته وهما متضاجعان فانتظمهما بحربته ، وكانت من حديد كلها ، ثم خرج بالرجل والمرأة وجعل يقول : اللهم هكذا يفعل بمن يعصيك ، ورفع الطاعون . وعن مجاهد : ? فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ ? ، قال : تطرده ، هو مثل الذي يقرأ الكتاب ولا يعمل به . وعن ابن عباس : قوله : ? فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ ? الحكمة لم يحملها ، وإن ترك لم يهتد لخير ، هو الكلب إن كان رابضًا لهث وإن طرد لهث .
وقوله تعالى : ? سَاء مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا وَأَنفُسَهُمْ كَانُواْ يَظْلِمُونَ ? .
قال ابن كثير : وقوله تعالى : ? سَاء مَثَلاً ? مثل : ? الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا ? ، أي : ساء مثلهم أن شُبّهوا بالكلاب التي لا همّة لها إلا في تحصيل أكلة ، أو شهوة .
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (179) ? .
عن ابن عباس : ? وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ ? خلقنا . وقال مجاهد : ? لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا ? شيئًا من أمر الآخرة ، ? وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا ? الهدى ? وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا ? الحق ، ثم جعلهم كالأنعام ، ثم جعلهم أسوأ شرًا من الأنعام فقال : ? بَلْ هُمْ أَضَلُّ ? ، ثم أخبر أنهم : ? هُمُ الْغَافِلُونَ ? .(5/287)
قوله عز وجل : ? وَلِلّهِ الأَسْمَاء الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (180) ? .
في الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « إن لله تسعة وتسعين اسمًا ، مائة إلا واحدًا من أحصاها دخل الجنة ، وهو وتر يحب الوتر » . زاد الترمذي : « هو الله الذي لا إله إلا هو : الرحمن ، الرحيم ، الملك ، القدوس ، السلام ، المؤمن ، المهيمن ، العزيز ، الجبار ، المتكبر ، الخالق ، البارئ ، المصور ، الغفار ، القهار ، الوهاب ، الرزاق ، الفتاح ، العليم ، القابض ، الباسط ، الخافض ، الرافع ، المعزّ ، المذلّ ، السميع ، البصير ، الحكم ، العدل ، اللطيف ، الخبير ، الحليم ، العظيم ، الغفور ، الشكور ، العليّ ، الكبير ، الحفيظ ، المقيت ، الحسيب ، الجليل ، الكريم ، الرقيب ، المجيب ، الواسع ، الحكيم ، الودود ، المجيد ، الباعث ، الشهيد ، الحقّ ، الوكيل ، القويّ ، المتين ، الوليّ ، الحميد ، المحصي ، المبدئ ، المعيد ، المحيي ، المميت ، الحي ، القيّوم ، الواجد ، الماجد ، الواحد ، الأحد ، الفرد ، الصمد ، القادر ، المقتدر ، المقدّم ، المؤخّر ، الأوّل ، الآخر ، الظاهر ، الباطن ، الوالي ، المتعالي ، البرّ ، التوّاب ، المنتقم ، العفوّ ، الرؤوف ، مالك الملك ، ذو الجلال والإكرام ، المقسط ، الجامع ، الغنيّ ، المغني ، المانع ، الضارّ ، النافع ، النور ، الهادي ، البديع ، الباقي ، الوارث ، الرشيد ، الصبور » .
قوله تعالى : ? وَذَرُواْ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَآئِهِ ? الإِلحاد : هو الميل عن القصد . قال ابن عباس : إلحاد الملحدين أن دعوا اللات في أسماء الله ، وقال مجاهد : اشتّقوا اللات من الله ، والعزّى من العزيز . وقال قتادة : ? يُلْحِدُونَ ? يشركون .(5/288)
قوله عز وجل : ? وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ (181) وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ (182) وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (184) أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَن يُضْلِلِ اللّهُ فَلاَ هَادِيَ لَهُ وَيَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186) ? .
عن قتادة : قوله : ? وَمِمَّنْ خَلَقْنَا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ? بلغنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول إذا قرأها : « هذه لكم ، وقد أعطي القوم بين أيديكم مثلها : ? وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ ? » .
وقوله تعالى :? وَالَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُم مِّنْ حَيْثُ لاَ يَعْلَمُونَ ?، قال سفيان الثوري : نسبغ عليهم النعمة وننسيهم الشكر . وقال قتادة : ذكر لنا أن نبي - صلى الله عليه وسلم - كان على الصفا فدعا قريشًا ، فجعل يفخذهم فخذًا فخذًا : « يا بني فلان ، يا بني فلان » ، فحذّرهم بأس الله ووقائع الله ، فقال قائلهم : إن صاحبكم هذا لمجنون بات يصوّت إلى الصباح ، فأنزل الله تبارك وتعالى : ? أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِم مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُّبِينٌ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس السابع بعد المائة(5/289)
? يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (187) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى(5/290)
الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (198) خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ (202) وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لاَ تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (187) ? .(5/291)
عن السدي : قوله : ? يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا ? ، يقول : متى قيامها ? قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ رَبِّي لاَ يُجَلِّيهَا لِوَقْتِهَا إِلاَّ هُوَ ? ، يقول : لا يرسلها لوقتها إلا هو ? ثَقُلَتْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? ، يقول : خفيت في السماوات والأرض ، فلم يعلم قيامها متى تقوم ملك مقرّب ، ولا نبيّ مرسل . وقال ابن جريج : إذا جاءت انشقّت السماء وانتثرت النجوم ، وكوّرت الشمس ، وسيّرت الجبال ، وكان ما قال الله فذلك ثقلها .
وعن قتادة : ? لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً ? قضى الله أنها لا تأتيكم إلا بغتة ، وذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : « إن الساعة تهيج بالناس ، والرجل يُصْلِح حوضه ، والرجل يسقي ماشيته ، والرجل يقيم سلعته في السوق ، ويخفض ميزانه ويرفعه » . ? يَسْأَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْهَا ? ، قال مجاهد : استحفيت عنها السؤال حتى علمتها ، ? قُلْ إِنَّمَا عِلْمُهَا عِندَ اللّهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ? .
قوله عز وجل : ? قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَاْ إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188) ? .
عن ابن عباس : ? وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ ? أي : من المال . وفي رواية : لعلمت إذا اشتريت شيئًا ما أربح فيه ، فلا أبيع شيئًا إلا ربحت فيه ولا يصيبني الفقر . وقال ابن زيد في قوله : ? وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ ? ، قال : لاجتنبت ما يكون من الشر واتقيته .(5/292)
قوله عز وجل : ? هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَت دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) ? .
عن قتادة : ? فَلَمَّا تَغَشَّاهَا حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ ? استبان حملها . وقال السدي : ? فَلَمَّا أَثْقَلَت ? كبر الولد في بطنها ، ? دَّعَوَا اللّهَ رَبَّهُمَا لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً لَّنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ ? ، قال ابن عباس : أشفقا أن يكون بهيمة .
وقال سعيد بن جبير : لما هبط آدم وحواء ألقيت الشهوة في نفسه فأصابها فليس إلا أن أصابها حملت ، فليس إلا أن حملت تحرك في بطنها ولدها قال : فجاءها إبليس فقال : ما هذا أترين في الأرض إلا : ناقة ، أو بقرة ، أو ضائنة ، أو ماعزة ، أو بعض ذلك ؟ قالت : والله ما من شيء إلا وهو يضيق عن ذلك ، قال : فأطيعيني وسمّيه عبد الحارث تلدي شبهكما مثلكما ، قالت : لآدم عليه السلام فقال : هو صاحبنا الذي قد أخرجنا من الجنة ، فمات ثم حملت بآخر فجاءها فقال : أطيعيني وسمّيه عبد الحارث ، وكان اسمه في الملائكة ( الحارث ) ، وإلا ولدت ناقة ، أو بقرة ، أو ضائنة ، أو ماعزة ، أو قتلته ، فإني أنا قتلت الأول ، قال : فذكرت ذلك لآدم ، فكأنه لم يكرهه ، فسمته عبد الحارث ، فذلك قوله : ? لَئِنْ آتَيْتَنَا صَالِحاً ? ، يقول : شبهنا مثلنا ? فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً ? ، قال : شبههما مثلهما ، ? جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ? .(5/293)
قال ابن عباس : أشركاه في طاعته في غير عبادة ، ولم يشركا بالله ولكن أطاعاه . وقال قتادة : أشركا في الاسم ، ولم يشركا في العبادة . وقال الحسن : عني بهذا ذرية آدم ، ومن أشرك منهم بعده ، يعني بقوله : ? فَلَمَّا آتَاهُمَا صَالِحاً جَعَلاَ لَهُ شُرَكَاء فِيمَا آتَاهُمَا ? . وعن السدي : قوله : ? فَتَعَالَى اللّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ ? ، يقول : هذه فصل من آية آدم خاصة في آلهة العرب .
قوله عز وجل : ? أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ (192) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَتَّبِعُوكُمْ سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ (193) إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (194) أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ (198) ? .(5/294)
قال البغوي : قوله تعالى : ( ? أَيُشْرِكُونَ مَا لاَ يَخْلُقُ شَيْئاً ? ، يعني : إبليس والأصنام ? وَهُمْ يُخْلَقُونَ ? أي : هم مخلوقون ، ? وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً ? أي : الأصنام لا تنصر من أطاعها ، ? وَلاَ أَنفُسَهُمْ يَنصُرُونَ ? قال الحسن : لا يدفعون عن أنفسهم مكروه من أرادهم بكسر ونحوه ؛ ثم خاطب المؤمنين فقال : ? وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى ? وإن تدعو المشركين إلى الإِسلام لا يتّبعوكم ، ? سَوَاء عَلَيْكُمْ أَدَعَوْتُمُوهُمْ ? إلى الدين ، ? أَمْ أَنتُمْ صَامِتُونَ ? عن دعائهم لا يؤمنون .
? إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ ? يعني : الأصنام ? عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ ? يريد : أنها مملوكة ? فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? أنها : آلهة .
? أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا ? ؟ أراد أن قدرة المخلوقين تكون بهذه الجوارح والآلات وليست للأصنام ، فأنتم مفضّلون عليها ، فكيف تعبدون من أنتم أفضل وأقدر منهم ، ? قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ? يا معشر المشركين ، ? ثُمَّ كِيدُونِ ? أنتم وهم ، ? فَلاَ تُنظِرُونِ ? . أي : لا تمهلوني .(5/295)
? إِنَّ وَلِيِّيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ ? ، يعني : القرآن ، ? وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ * وَالَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَلا أَنفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ * وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لاَ يَسْمَعُواْ ? يعني: الأصنام ? وَتَرَاهُمْ? يا محمد ? يَنظُرُونَ إِلَيْكَ ? ، يعني : الأصنام ، ? وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ? هذا قول المفسرين . وقال الحسن : ? وَإِن تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى ? يعني : المشركين ? لاَ يَسْمَعُواْ ? لا يعقلون ذلك بقلوبهم ، ? وَتَرَاهُمْ يَنظُرُونَ إِلَيْكَ ? بأعينهم ? وَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ? بقلوبهم ) . انتهى ملخصًا .
قوله عز وجل : ? خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ (199) وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200) إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ (201) وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ (202)?.(5/296)
وعن مجاهد في قوله : ? خُذِ الْعَفْوَ ? ، قال : عفو أخلاق الناس وعفو أمورهم . وعن قتادة : ? خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ? قال : أخلاق أمر الله بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - ودلّه عليها . وعن ابن عباس قال : ( استأذن الحرّ بن قيس لعيينة بن حصن عند عمر بن الخطاب ، فأذن له فدخل عليه فقال : ياابن الخطاب فوالله ما تعطينا الجزل ، ولا تحكم بيننا بالعدل ، فغضب عمر حتى همّ أن يوقع به ، فقال له الحرّ يا أمير المؤمنين إن الله تعالى قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ? خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ? ، وإن هذا من الجاهلين ، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه وكان وقّافًا عند كتاب الله عز وجل ) . رواه البخاري .
وقال ابن زيد في قوله : ? خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ? ، قال : فكيف بالغضب يا رب ؟ قال : ? وَإِمَّا يَنزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ? . وعن مجاهد في قوله : ? طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ ? قال : الغضب . وعن السدي : ? إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ ? ، يقول : إذا زلّوا تابوا .
وعن ابن عباس : ? وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لاَ يُقْصِرُونَ ? ، قال : لا الإِنس يقصرون عما يعملون من السيئات ، ولا الشياطين تمسك عنهم .(5/297)
قوله عز وجل : ? وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي هَذَا بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203) وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ (205) إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ (206) ? .
عن قتادة : قوله : ? وَإِذَا لَمْ تَأْتِهِم بِآيَةٍ قَالُواْ لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا ? ، أي : لولا آتيتنا بها من قِبَل نفسك ، هذا قول كفار قريش . وعن ابن عباس :قوله : ? لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا ? ، يقول : لولا تلقّيتها ، وقال مرة أخرى : لولا أحدثتها بإنشائها .
وقال البغوي : قال الكلبي : كان أهل مكة يسألون النبي - صلى الله عليه وسلم - الآيات تعنّتًا ، فإذا أخّرت قالوا : ? لَوْلاَ اجْتَبَيْتَهَا ? ، أي : هلا أحدثتها وأنشأتها من عندك ? قُلْ ? لهم يا محمد : ? إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي ? .
وقوله تعالى :? وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ? يأمر تعالى بالإِنصات عند تلاوة القرآن إعظامًا له واحترامًا ، ويتأكد ذلك في الصلاة كما وردت به الأحاديث .(5/298)
وقوله تعالى : ? وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ ? عن عبيد بن عمير قال : يقول الله : ( إذا ذكرني عبدي في نفسه ذكرته في نفسي ، وإذا ذكرني عبدي وحده ذكرته وحدي ، وإذا ذكرني في ملأ ذكرته في أحسن منهم وأكرم ) . ? إِنَّ الَّذِينَ عِندَ رَبِّكَ ? ، يعني : الملائكة ، ? لاَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيُسَبِّحُونَهُ وَلَهُ يَسْجُدُونَ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الثامن بعد المائة
[ سورة الأنفال ]
مدنية ، وهي خمس وسبعون آية
بسم الله الرحمن الرحيم(5/299)
? يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي(5/300)
قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (1) ? .(5/301)
قال مجاهد : الأنفال : الغنائم . وقال ابن عباس : نزلت في بدر . وعن عبادة بن الصامت قال : ( خرجنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فشهدت معه بدرًا ، فالتقى الناس فهزم الله تعالى العدو ، فانطلقت طائفة في آثارهم يهزمون ويقتلون ، وأقبلت طائفة على العسكر يحوزونه ويجمعونه ، وأحدقت طائفة برسول الله - صلى الله عليه وسلم -، لا يصيب العدو منه غرّة ، حتى إذا كان الليل وفاء الناس بعضهم إلى بعض ، قال الذين جمعوا الغنائم : نحن حويناها فليس لأحد فيها نصيب ، وقال الذين خرجوا في طلب العدو : لستم بأحق بها منا ، نحن منعنا عنها العدو وهزمناهم ، وقال الذين أحدقوا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - : خفنا أن يصيب العدو منه غرّة فاشتغلنا به فنزلت : ? يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ ? فقسمها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بين المسلمين وكان رسول الله- صلى الله عليه وسلم - إذا أغار في أرض العدو نفل الربع ، فإذا أقبل راجعًا نفل الثلث ، وكان يكره الأنفال ) . رواه أحمد وغيره .
وعن عكرمة قال : لما كان يوم بدر قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « من صنع كذا فله من النفل كذا » ، فخرج شبان الرجال فجعلوا يصنعونه ، فلما كان عند القسمة قال الشيوخ : نحن أصحاب الرايات وقد كنا ردءًا لكم ، فأنزل الله في ذلك : ? قُلِ الأَنفَالُ لِلّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ? .(5/302)
قوله عز وجل : ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (3) أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (4) ? .
قال ابن عباس : المنافقون لا يدخل قلوبهم شيء من ذكر الله عند أداء فرائضه ، ولا يؤمنون بشيء من آيات الله ، ولا يتوكّلون على الله ، ولا يصلّون إذا غابوا ، ولا يؤدّون زكاة أموالهم ، فأخبر الله أنهم ليسوا بمؤمنين ، ثم وصف المؤمنين فقال : ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ? فأدّوا فرائضه ، ? وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً ? ، يقول : تصديقًا ، ? وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ? ، يقول : لا يرجون غيره ، وعن سفيان قال : سمعت السدي يقول في قوله : ? إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ ? ، قال : هو الرجل يريد أن يظلم ، أو قال : يهمّ بمعصية الله ، أحسبه قال : فينزع عنه . وعن الربيع : ? وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَاناً ? ، قال : خشية .(5/303)
قوله عز وجل : ? كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ (5) يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ (6) وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) ? .(5/304)
قال المبرد في قوله تعالى : ? كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ? تقديره : الأنفال لله والرسول وإن كرهوا ، كما أخرجك ربك من بيتك بالحق وإن كرهوا . وقال عكرمة : ? فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بِيْنِكُمْ وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ ? ، ? كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ? الآية ، إن هذا خير لكم ، كما كان إخراجك من بيتك بالحق خير لك . وعن مجاهد : ? كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ ? ، قال : كذلك يجادلونك في الحق . وعن ابن عباس قال : لما سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بأبي سفيان مقبلاً من الشام ، ندب إليهم المسلمين وقال : « هذه عير قريش فيها أموالهم ، فاخرجوا إليها لعلّ الله أن ينفلكموها » ، فانتدب الناس فخفّ بعضهم وثقل بعضهم ، وذلك أنهم لم يظنوا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يلقى حربًا . وقال أيضًا : لما شاور النبي - صلى الله عليه وسلم - في لقاء القوم ، وقال له سعد بن عبادة ما قال ، وذلك يوم بدر ، أمر الناس فتعبّوا للقتال ، وأمرهم بالشوكة ، وكره ذلك أهل الإِيمان ، فأنزل الله : ? كَمَا أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ * يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ ? . قال ابن إسحاق : أي : كراهة للقاء القوم ، وإنكارًا لمسير قريش حين ذكروا لهم .(5/305)
وعن قتادة : قوله : ? وَإِذْ يَعِدُكُمُ اللّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتِيْنِ أَنَّهَا لَكُمْ وَتَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذَاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ ? ، قال : الطائفتان : إحداهما أبو سفيان بن حرب ، إذ أقبل بالعير من الشام ، والطائفة الأخرى : أبو جهل معه نفر من قريش ، فكره المسلمون الشوكة والقتال ، وأحبوا أن يلقوا العير ، وأراد الله ما أراد .
وقال ابن زيد في قول الله : ? وَيُرِيدُ اللّهُ أَن يُحِقَّ الحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ? : أن يقتل هؤلاء الذين أرادوا أن يقطع دابرهم ، هذا خير لكم من العير .
قوله عز وجل : ? إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى وَلِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) ? .
عن ابن عباس : حدّثني عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : لما كان يوم بدر ونظر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى المشركين وعدّتهم ، ونظر إلى أصحابه نيّفًا على ثلاثمائة ، فاستقبل القبلة فجل يدعو يقول : « اللهم أنجز لي ما وعدتني ، اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض » . فلم يزل كذلك حتى سقط رداؤه ، وأخذه أبو بكر الصديق رضي الله عنه ، فوضع رداءه عليه ثم التزمه من ورائه ، ثم قال : كفاك فداك يا نبي الله أبي وأمي مناشدتك ربك ، فإنه سينجز لك ما وعدك . فأنزل الله : ? إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ ? . قال مجاهد : ما مدّ النبي - صلى الله عليه وسلم - مما ذكر الله غير ألف من الملائكة مردفين ، وذكر الثلاثة ، والخمسة بشرى ، ما مدّوا بأكثر من هذا الألف الذي ذكر الله عز وجل في الأنفال ، وأما الثلاثة والخمسة كانت بشرى .(5/306)
قوله عز وجل : ? إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِّنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الأَقْدَامَ (11) إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ (12) ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (13) ذَلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ عَذَابَ النَّارِ (14) ? .
قال ابن مسعود : النعاس في القتال أمنة من الله عز وجل ، وفي الصلاة من الشيطان . وعن سعيد بن المسيب : ? وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُم مِّن السَّمَاء مَاء لِّيُطَهِّرَكُم بِهِ وَيُذْهِبَ عَنكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ ? ، قال : طشٌ كان يوم بدر فثبّت الله به الأقدام . وعن مجاهد : رجز الشيطان وسوسته ، أطفأ الله بالمطر الغبار ، ولبّد به الأرض ، وطابت به أنفسهم ، وثبّت به أقدامهم .
وقوله تعالى : ? إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ ? ، قال ابن عباس : يعني : بالبنان الأطراف .
قال البغوي : وروي عن أبي داود المازني ، وكان شهد بدرًا قال : إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه ، إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي ، فعرفت أنه قد قتله غيري .(5/307)
? ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَآقُّواْ اللّهَ ? خالفوا الله ورسوله . ? وَمَن يُشَاقِقِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَإِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ ? . ? ذَلِكُمْ ? ، أي : هذا العذاب والضرب الذي عجلته لكم أيها الكفار ببدر ، ? فَذُوقُوهُ ? عاجلاً ، ? وَأَنَّ لِلْكَافِرِينَ ? ، أي : واعلموا وأيقنوا أن للكافرين آجلاً في المعاد ، ? عَذَابَ النَّارِ ? .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُواْ زَحْفاً فَلاَ تُوَلُّوهُمُ الأَدْبَارَ (15) وَمَن يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ فَقَدْ بَاء بِغَضَبٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (16) ? .
عن الضحاك : ? إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِّقِتَالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلَى فِئَةٍ ? ، قال : المتحرّف : المتقدم من أصحابه ليرى غِرَّة من العدوّ فيصيبها ، قال : والمتحيّز : الفارّ إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - وأصحابه ، كذلك من فرّ اليوم إلى أميره وأصحابه . وفي الصحيحين عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « أنه عدّ الفرار من الزحف في السبع الموبقات ».
قوله عز وجل : ? فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ (18) ? .(5/308)
عن مجاهد في قول الله : ? فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ ? لأصحاب محمد - صلى الله عليه وسلم - حين قال هذا : قتلت ، وهذا : قتلت . ? وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ ? ، قال لمحمد حين حَصَب الكفار . وقال محمد بن كعب القرظي : لما دنا القوم بعضهم من بعض ، أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضة من تراب فرمى بها في وجوه القوم ،وقال : « شاهت الوجوه ، فدخلت في أعينهم كلهم » ، وأقبل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقتلونهم ويأسرونهم وكانت هزيمتهم في رمية رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وأنزل الله : ? وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى ? الآية . إلى : ? إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ? .
وقوله تعالى : ? ذَلِكُمْ وَأَنَّ اللّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكَافِرِينَ ? ، قال البغوي : ذلكم الذي ذكرت من القتل والرمي والبلاء الحسن ، ? وَأَنَّ اللّهَ ? ، قيل : فيه إضمار أي : واعلموا أن الله ? مُوهِنُ ? مضعف ،? كَيْدِ الْكَافِرِينَ ? .
قوله عز وجل : ? إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) ? .
عن الزهري في قوله : ? إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ ? ، قال : استفتح أبو جهل بن هشام فقال : اللهم أيّنا كان أفجر لك ، وأقطع للرحم فاحنه اليوم ، يعني : محمدًا عليه الصلاة والسلام ونفسه ؛ قال الله عز وجل : ? إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ ? فضربه ابنا عفراء وأجهز عليه ابن مسعود . وعن مجاهد : قوله : ? إِن تَسْتَفْتِحُواْ فَقَدْ جَاءكُمُ الْفَتْحُ ? كفار قريش في قولهم ربنا افتح بيننا وبين محمد وأصحابه ، ففتح بينهم يوم بدر .(5/309)
وعن ابن إسحاق في قوله : ? وَإِن تَنتَهُواْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ? ، قال : يقول لقريش : ? وَإِن تَعُودُواْ نَعُدْ ? لمثل الوقعة التي أصابتكم يوم بدر ، ? وَلَن تُغْنِيَ عَنكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَلَوْ كَثُرَتْ وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ? وإن كثر عددكم في أنفسكم لن تغني عنكم شيئًا ، ? وَأَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ? ينصرهم على من خالفهم . والله أعلم .
* * *
الدرس التاسع بعد المائة
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (23) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل(5/310)
لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ(5/311)
فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ (20) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (22) وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (23) ? .
عن ابن إسحاق : قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنتُمْ تَسْمَعُونَ ? ، أي : تخالفون أمره وأنتم تسمعون أقواله .
وعن مجاهد في قول الله : ? وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ ? ، قال : عاصون .
وقال ابن زيد في قوله : ? إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ ? ، قال : الدواب الخلق الصم ، البكم ، الذين لا يعقلون ، وليس بالأصم في الدنيا ، ولا بالأبكم ، ولكن صم القلوب ، وبكمها وعميها ، وقرأ : ? فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ? .
وقال ابن جريج : قوله : ? وَلَوْ عَلِمَ اللّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَّأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ ? قالوا : ائت بقرآن غير هذا ، وقالوا : لولا اجتبيتها . ولوجاءهم بقرآن غيره لتولّوا وهم معرضون .(5/312)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25) وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26) ? .
عن مجاهد في قول الله : ? لِمَا يُحْيِيكُمْ ? قال : الحق . وقال قتادة : هو هذا القرآن فيه الحياة ، والعفة ، والعصمة في الدنيا والآخرة .
وعن ابن عباس : ? وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ? قال : يحول بين المؤمن والكفر ، وبين الكافر والإِيمان . وعن مجاهد في قوله : ? يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ ? ، أي : حتى يتركه لا يعقل . وعن أنس بن مالك قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يكثر أن يقول : « يا مقلّب القلوب ثبّت قلبي على دينك » . قال : فقلنا : يا رسول الله آمنا بك وبما جئت به ، فهل تخاف علينا ؟ قال : « نعم ، إن القلوب بين أصبعين من أصابع الله تعالى يقلّبها » . رواه أحمد وغيره .
وعن ابن عباس : ? وَاتَّقُواْ فِتْنَةً لاَّ تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً ? ، قال : أمر الله المؤمنين أن لا يقرّوا المنكر بين أظهرهم ، فيعمّهم الله بالعذاب . وقال ابن زيد : الفتنة الضلالة .(5/313)
وعن عكرمة قوله : ? وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ ? ، قال : يعني : بمكة مع النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ومن تبعه من قريش وحلفائها ، ومواليها قبل الهجرة . ? فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ? ، يعني : بالمدينة .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28) يِا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29) ? .
قال ابن زيد في قوله : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ ? قال : نهاكم أن تخونوا الله والرسول ، كما صنع المنافقون . وقال ابن عباس : ? لاَ تَخُونُواْ اللّهَ ? ، يقول : بترك فرائضه ، ? وَالرَّسُولَ ? ، يقول : بترك سنته ، وارتكاب معصيته ، ? وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ ? والأمانة : الأعمال لا تنقصوها .
وقوله تعالى : ? وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلاَدُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ ? ، قال ابن مسعود : ما منكم أحد إلا مشتمل على فتنة ، فمن استعاذ منكم فليستعذ بالله من مضلات الفتن .
وعن ابن إسحاق :? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إَن تَتَّقُواْ اللّهَ يَجْعَل لَّكُمْ فُرْقَاناً ? أي : فصلاً بين الحق والباطل ، ? وَيُكَفِّرْ عَنكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ? .(5/314)
قوله عز وجل : ? وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ (30) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ (31) وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مِّنَ السَّمَاءِ أَوِ ائْتِنَا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (32) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَمَا كَانُواْ أَوْلِيَاءهُ إِنْ أَوْلِيَآؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (34) وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْفُرُونَ (35) ?.(5/315)
قال البغوي : قوله تعالى : ? وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا ? هذه الآية معطوفة على قوله : ? وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ ? واذكر : ? وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ ? ، ? وَإِذْ قَالُواْ اللَّهُمَّ ? لأن هذه السورة مدنية ، وهذا المكر والقول إنما كان بمكة ، ولكن الله ذكّرهم بالمدينة ، كقوله تعالى : ? إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ ? وكان هذا المكر على ما ذكره ابن عباس وغيره من أهل التفسير : أن قريشًا فَرَقوا لما أسلمت الأنصار أن يتعالى أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فاجتمع نفر من كبارهم في دار الندوة ، ليتشاوروا في أمر رسول - صلى الله عليه وسلم - فاعترضهم إبليس - لعنه الله - في صورة شيخ ، فلما رأوه قالوا : من أنت ؟ قال : شيخ من نجد سمعت باجتماعكم ، فأردت أن أحضركم ، ولن تعدموا مني رأيًا ونصحًا ، قالوا : ادخل ، فدخل ، فقال أبو البختري : أما أنا فأرى أن تأخذوا محمدًا وتحبسوه في بيت ، وتشدّوا وثاقه ، وتسدّوا باب البيت ، غير كوة تلقون إليه طعامه وشرابه ، وتتربصوا به ريب المنون حتى يهلك فيه كما هلك من كان قبله من الشعراء . قال : فصرخ عدوا الله الشيخ النجدي وقال : بئس الرأي رأيتم ، والله لئن حبستموه في بيت فخرج أمره من وراء الباب الذي أغلقتم دونه إلى أصحابه ، فيوشك أن يثبوا عليكم ، ويقاتلوكم ، ويأخذوه من أيديكم . قالوا : صدق الشيخ النجدي .(5/316)
فقال هشام بن عمرو من بني عامر بن لؤي : أما أنا فأرى أن تحملوه على بعير تخرجوه من أظهركم ، فلا يضرّكم ما صنع ، ولا أين وقع إذا غاب عنكم واسترحتم منه . فقال إبليس لعنه الله : ما هذا لكم برأي تعتمدون عليه ، تعمدون إلى رجل قد أفسد أحلامكم ، فتخرجونه إلى غيركم فيفسدهم ؟ ألم تروا إلى حلاوة منطقه وفصاحة لسانه ، وأخذ القلوب بما تسمع من حديثه ؟ والله لئن فعلتم ذلك ليذهبنّ وليستميلنّ قلوب قوم ثم يسير بهم إليكم ، فيخرجكم من بلادكم . قالوا : صدق الشيخ النجدي .
فقال أبو جهل : والله لأشيرنّ عليكم برأي ما أرى غيره ، إني أرى أن تأخذوا من كل بطن من قريش شابًا نسيبًا وسبطًا فتيًّا ، ثم يعطى كل فتى ، منهم سيفًا صارمًا ، ثم يضربونه ضربة رجل واحد ، فإذا قتلوه تفرّق دمه في القبائل كلها ، ولا أظن هذا الحي من بني هاشم يقوون على حرب قريش كلها ، وأنهم إذا رأوا ذلك قبلوا العقل فتؤدي قريش ديته . فقال إبليس : صدق هذا الفتى ، وهو أجودكم رأيًا ، القول ما قال ، لا أرى رأيًا غيره .
فتفرّقوا على قول أبي جهل وهم مجمعون له . فأتى جبريل النبي - صلى الله عليه وسلم - وأخبره بذلك ، وأمره أن لا يبيت في مضجعه الذي يبيت فيه ، فأذن الله له عند ذلك بالخروج إلى المدينة ، فأمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليّ بن أبي طالب أن ينام في مضجعه وقال له : « اتَّشِح ببردتي هذه ، فإنه لا يخلصَ إليك منهم أمر تكرهه » ، ثم خرج النبي - صلى الله عليه وسلم - فأخذ قبضة من تراب فأخذ الله أبصارهم عنه ، فجعل ينثر التراب على رءوسهم وهو يقرأ : ? إِنَّا جَعَلْنَا فِي أَعْنَاقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِيَ إِلَى الأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ * وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدّاً وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدّاً فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لاَ يُبْصِرُونَ ? .(5/317)
ومضى إلى الغار من ثور هو وأبو بكر ، وخلّف عليًّا بمكة حتى يؤدّي عنه الودائع التي كانت عنده ، وكانت الودائع تودع عنده - صلى الله عليه وسلم - لصدقه وأمانته ، وبات المشركون يحرسون عليًّا في فراش رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يحسبون أنه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فلما أصبحوا ثاروا إليه فرأوا عليًّا رضي الله عنه فقالوا : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري ، فاقتفوا أثره وأرسلوا في طلبه ، فلما بلغوا الغار رأوا على بابه نسج العنكبوت ، فقالوا : لو دخله لم يكن نسج العنكبوت على بابه ، فمكث فيه ثلاثًا ، ثم قدم المدينة ، فذلك قوله تعالى : ? وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ ?.
قال ابن إسحاق : فمكرت لهم بكيدي المتين ، ثم خلّصتك منهم .(5/318)
وقال ابن جريج : قوله : ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِينَ ? ، قال : كان النضر بن الحارث يختلف تاجرًا إلى فارس ، فيمر بالعبّاد وهم يقرؤون الإنجيل ويركعون ويسجدون ، فجاء مكة فوجد محمد - صلى الله عليه وسلم - قد أنزل عليه وهو يركع ويسجد ، فقال النضر : ? قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ? الذي سمع من العبّاد ، فنزلت : ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا قَالُواْ قَدْ سَمِعْنَا لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ? ، قال : فقصّ ربنا ما كانوا قالوا بمكة ، وقصّ قولهم إذ قالوا : ? اللَّهُمَّ إِن كَانَ هَذَا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِندِكَ ? الآية . وقال قتادة . قال ذلك سفهة هذه الأمة وجهلتها فعاد الله بعائدته ورحمته على سفهة هذه الأمة ، وجهلهتا . وقال ابن عباس : لم يعذّب الله قرية حتى يخرج النبي منها والذين آمنوا ، ويلحق بحيث يأمن ، فقال : ? وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَأَنتَ فِيهِمْ وَمَا كَانَ اللّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَهُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ? ، يعني : المسلمين ، فلما خرجوا قال الله تعالى : ? وَمَا لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللّهُ وَهُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ? الآية فعذّبهم الله يوم بدر .
وعن ابن عباس : قوله : ? وَمَا كَانَ صَلاَتُهُمْ عِندَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكَاء وَتَصْدِيَةً ? المكاء : التصفير ، والتصدية : التصفيق .(5/319)
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَيَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلَىَ بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (37) قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ (38) وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه فَإِنِ انتَهَوْاْ فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَإِن تَوَلَّوْاْ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ (40) ? .
قال الضحاك في قوله : ? إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ ? الآية . قال : هم أهل بدر .
وقيل : نزلت في المطعمين منهم .
وقيل : نزلت في أبي سفيان .
قال ابن كثير : وعلى كل تقدير فهي عامة ، وإن كان سبب نزولها خاصًا .
وعن ابن عباس : قوله : ? لِيَمِيزَ اللّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ ? فيميز أهل السعادة من أهل الشقاوة .
وقال ابن إسحاق في قوله : ? قُل لِلَّذِينَ كَفَرُواْ إِن يَنتَهُواْ يُغَفَرْ لَهُم مَّا قَدْ سَلَفَ وَإِنْ يَعُودُواْ فَقَدْ مَضَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينِ ? ، أي : من قتل منهم يوم بدر .
وعن ابن عباس : ? وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ ? ، يعني : حتى لا يكون شرك .
وقال ابن جريج :? وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَ تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّه ? أي : لا يفتن مؤمن عن دينه ويكون التوحيد لله خالصًا ليس فيه شرك ، ويخلع ما دونه من الأنداد .(5/320)
وعن ابن إسحاق : ? وَإِن تَوَلَّوْاْ ? عن أمرك إلى ما هم عليه من كفرهم ، ? فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَوْلاَكُمْ ? الذي أعزّكم ونصركم عليهم يوم بدر في كثرة عددهم وقلة عددكم ، ? نِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس العاشر بعد المائة
? وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (44) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ(5/321)
وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ (54)?.
* * *(5/322)
قوله عز وجل : ? وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ إِن كُنتُمْ آمَنتُمْ بِاللّهِ وَمَا أَنزَلْنَا عَلَى عَبْدِنَا يَوْمَ الْفُرْقَانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَن بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (43) وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَيُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ (44) ? .
قال ابن عباس : ( كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إذا بعث سرية فغنموا خمس الغنيمة ، فضرب ذلك الخمس في خمسة ثم قرأ : ? وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ وَلِلرَّسُولِ ? . قال : قوله : ? فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ ? مفتاح كلام ? لِّلَّهِ ما فِي السَّمَاواتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ? فجعل الله سهم الله والرسول واحدًا ) .
وعن الأعمش عن إبراهيم قال : كان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما يجعلان سهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في الكراع والسلاح ، فقلت لإبراهيم : ما كان عليّ رضي الله عنه يقول فيه ؟ قال : كان عليّ أشدهم فيه .(5/323)
وعن حكيم بن سعد عن عليّ رضي الله عنه قال : يعطي كل إنسان نصيبه من الخمس ، ويلي الإمام سهم الله ورسوله .
وعن ابن عباس : قوله : ? يَوْمَ الْفُرْقَانِ ? ، يعني : بالفرقان يوم بدر ، فرّق الله فيه بين الحق والباطل . وعن قتادة : قوله : ? إِذْ أَنتُم بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيَا وَهُم بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوَى ? وهما شفيرا الوادي ، ? وَالرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنكُمْ ? ، يعني : أبا سفيان انحدر بالعير حتى قدم بها مكة .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ تَوَاعَدتَّمْ لاَخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعَادِ ? . قال كعب بن مالك : إنما خرج رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والمسلمون يريدون عير قريش ، حتى جمع الله بينهم وبين عدوهم على غير ميعاد .
وقوله تعالى : ? وَلَكِن لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ? . قال ابن إسحاق : أي : ليقضي الله ما أراد بقدرته . ? لِّيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَن بَيِّنَةٍ ? لما رأى من الآيات والعبرة ، ويؤمن من آمن على مثل ذلك ، ? وَإِنَّ اللّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ? .
وعن مجاهد : ? إِذْ يُرِيكَهُمُ اللّهُ فِي مَنَامِكَ قَلِيلاً ? . قال : أراهم الله إياه في منامه قليلاً ، وأخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - أصحابه بذلك ، فكان تثبيتًا لهم ، ? وَلَوْ أَرَاكَهُمْ كَثِيراً لَّفَشِلْتُمْ وَلَتَنَازَعْتُمْ فِي الأَمْرِ وَلَكِنَّ اللّهَ سَلَّمَ ? . قال ابن عباس يقول : سلّم الله لهم أمرهم حتى أظهرهم على عدوّهم .(5/324)
وعن ابن جريج : قوله : ? وَإِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً ? . قال ابن مسعود : قلّلوا في أعيننا حتى قلت لرجل : تراهم يكونون مائة ؟ وقال السدي : قال ناس من المشركين : إن العير قد انصرفت فارجعوا ، فقال أبو جهل : الآن إذ برز لكم محمد وأصحابه ؟ فلا ترجعوا حتى تستأصلوهم ، وقال : يا قوم لا تقتلوهم بالسلاح ، ولكن خذوهم أخذًا فاربطوهم بالحبال ، يقوله من القدرة في نفسه .
وعن ابن إسحاق : ? لِّيَقْضِيَ اللّهُ أَمْراً كَانَ مَفْعُولاً ? ، أي : ليؤلّف بينهم على الحرب ، للنقمة ، ممن أراد الانتقام منه ، والإنعام على من أراد إتمام النعمة عليه من أهل ولايته ، ? وَإِلَى اللّهِ تُرْجَعُ الأمُورُ ? .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُواْ وَاذْكُرُواْ اللّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلَحُونَ (45) وَأَطِيعُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ وَقَالَ لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ فَلَمَّا تَرَاءتِ الْفِئَتَانِ نَكَصَ عَلَى عَقِبَيْهِ وَقَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكُمْ إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49) ? .(5/325)
قال مجاهد في قوله تعالى : ? وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ ? . قال : نصركم . قال : وذهبت ريح أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حين نازعوه يوم أحد . وقال محمد بن كعب القرظي : لما خرجت قريش من مكة إلى بدر ، خرجوا بالقيان والدفوف ، فأنزل الله : ? وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَراً وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَاللّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ?.
وعن ابن عباس قال : خرج إبليس يوم بدر في جند من الشياطين معه ، رأيته في صورة رجل من بني مدلج ، في صورة سراقة بن مالك بن جعشم . فقال الشيطان للمشركين ? لاَ غَالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جَارٌ لَّكُمْ ? فلما اصطفّ الناس ، أخذ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قبضة من التراب فرمى بها وجوه المشركين فولّوا مدبرين ، وأقبل جبريل إلى إبليس ، فلما رآه وكانت يده في يد رجل من المشركين ، انتزع إبليس يده فولّى مدبرًا وشيعته ، فقال الرجل : يا سراقة تزعم أنك لنا جار ، قال : ? إِنِّي أَرَى مَا لاَ تَرَوْنَ إِنِّيَ أَخَافُ اللّهَ وَاللّهُ شَدِيدُ الْعِقَابِ ? ، وذلك حين رأى الملائكة .
وعن الشعبي في هذه الآية : ? إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ ? . قال : كان ناس من أهل مكة تكلّموا بالإِسلام فخرجوا مع المشركين يوم بدر ، فلما رأوا قلّة المسلمين قالوا : ? غَرَّ هَؤُلاء دِينُهُمْ ? .
وقوله تعالى : ? وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? ، أي : من اعتصم بالله نصره .(5/326)
قوله عز وجل : ? وَلَوْ تَرَى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ (50) ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَأَنَّ اللّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِّلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَأَخَذَهُمُ اللّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقَابِ (52) ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ وَأَنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَذَّبُواْ بآيَاتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْنَاهُم بِذُنُوبِهِمْ وَأَغْرَقْنَا آلَ فِرْعَونَ وَكُلٌّ كَانُواْ ظَالِمِينَ (54) ? .
عن مجاهد : قوله : ? إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُواْ الْمَلآئِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَأَدْبَارَهُمْ ? . قال : يوم بدر . وعن الحسن قال : قال رجل : يا رسول الله إني رأيت بظهر أبي جهل مثل الشراك فما ذاك ؟ قال : « ضرب الملائكة » . رواه ابن جرير .
وقوله تعالى : ? وَذُوقُواْ عَذَابَ الْحَرِيقِ ? ، أي : ويقولون لهم : ذوقوا عذاب الحريق ذلك بما قدمت أيديكم وأن اللّه ليس بظلام للعبيد . وعن مجاهد : ? كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ? كفعل آل فرعون ، كسنن آل فرعون .
وعن السدي : ? ذَلِكَ بِأَنَّ اللّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِّعْمَةً أَنْعَمَهَا عَلَى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنفُسِهِمْ ? ، يقول : نعمة الله محمد - صلى الله عليه وسلم - أنعم به على قريش وكفروا ، فنقله إلى الأنصار .
وقال ابن كثير : ( يخبر تعالى عن تمام عدله وقسطه في حكمه ، بأنه تعالى لا يغيّر نعمة أنعمها على أحد إلا بسبب ذنب ارتكبه .(5/327)
وقوله تعالى : ? كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ ? ، أي : كصنعه بآل فرعون وأمثالهم حين كذبوا بآياته ، أهلكهم بسبب ذنوبهم ، وسلبهم تلك النعم التي أسداها إليهم ، وما ظلمهم الله في ذلك ، بل كانوا هم الظالمين ) . انتهى ملخصًا . والله أعلم .
* * *
الدرس الحادي عشر بعد المائة
? إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58) وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60) وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ(5/328)
عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) ? .
قوله عز وجل : ? إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ فَهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَهُمْ لاَ يَتَّقُونَ (56) فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ (58) ? .
عن مجاهد : قوله : ? الَّذِينَ عَاهَدتَّ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنقُضُونَ عَهْدَهُمْ ? ،قال : قريظة مالؤوا على محمد يوم الخندق أعداءه . وعن ابن عباس : قوله : ? فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِم مَّنْ خَلْفَهُمْ ? يقول : نكّل بهم من وراءهم .(5/329)
وقال البغوي : ? وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن قَوْمٍ ? معاهدين ، ? خِيَانَةً ? بما يظهر لكم من آثار الغدر ، كما ظهر من قريظة والنضير ، ? فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ ? فاطرح إليهم عهدهم ، ? عَلَى سَوَاءٍ ? ، يقول : أعلمهم قبل حربك إياهم أنك قد فسخت العهد بينك وبينهم ، حتى تكون أنت وهم في العلم بنقض العهد سواء ، فلا يتوهّمون أنك نقضت العهد بنصب الحرب معهم ، ? إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخَائِنِينَ ? . وعن عمرو بن عبسة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « من كان بينه وبين قوم عهد فلا يحلّن عقدة ولا يشدّها ، حتى ينقضي أمدها أو ينبذ إليهم على سواء » . رواه أحمد وغيره .
قوله عز وجل : ? وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَبَقُواْ إِنَّهُمْ لاَ يُعْجِزُونَ (59) وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ (60) ? .
عن السدي : ولا تحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون يقول : لا يفوتون .
قال البغوي : ? سَبَقُواْ ? ، أي : فاتوا ، نزلت في الذين انهزموا يوم بدر من المشركين . وعن عقبة بن عامر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول على المنبر : « قال الله ? وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ ? ألا إن القوّة الرمي ، ألا إن القوة الرمي » ثلاثًا .
قال ابن كثير : ثم أمر تعالى بإعداد الآت الحرب لمقاتلتهم حسب الطاقة والإمكان والاستطاعة فقال : ? وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ ? .(5/330)
وقوله تعالى : ? وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ ? ، قال ابن زيد : هم المنافقون . وعن ابن إسحاق : ? وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ ? ، أي : لا يضيع لكم عند الله أجره في الآخرة ، وعاجل خلّفه في الدنيا .
قوله عز وجل : ? وَإِن جَنَحُواْ لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا وَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63) ? .
قال ابن كثير : يقول تعالى : إذا خفت من قوم خيانة ، فانبذ إليهم عهدهم على سواء ، فإن استمرّوا على حربك ومنابذتك فقاتلهم ، ? وَإِنْ جَنَحُوا ? ، أي : مالوا ? لِلسَّلْمِ ? ، أي : المسالمة ، والمصالحة ، والمهادنة . ? فَاجْنَحْ لَهَا ? ، أي : فمل إليها ، واقبل منهم ذلك ، لهذا لما طلب المشركون عام الحديبية الصلح ووضع الحرب بينهم وبين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أجابهم إلى ذلك ، مع ما اشترطوا من الشروط الأخر . انتهى .
وعن ابن إسحاق : ? وَإِن يُرِيدُواْ أَن يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللّهُ ? هو من وراء ذلك ، ? هُوَ الَّذِيَ أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَبِالْمُؤْمِنِينَ * وَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ ? على الهدى الذي بعثك به إليهم ، ? لَوْ أَنفَقْتَ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مَّا أَلَّفَتْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَلَكِنَّ اللّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ ? بدينه الذي جمعهم عليه . يعني : الأوس والخزرج . وقال ابن مسعود :( نزلت هذه الآية في المتحابّين في الله ).(5/331)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفاً مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ (65) الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) ? .
عن الشعبي في قوله : ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ? قال : حسبك الله وحسب من كان معك . وعن عطاء في قوله : ? إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ ? ، قال : كان الواحد لعشرة ، ثم جعل الواحد باثنين ، لا ينبغي له أن يفرّ منهما . وعن ابن عباس قال : لما نزلت هذه الآية ثقلت على المسلمين ، وأعظموا أن يقاتل عشرون مائتين ، ومائة ألفًا ، فخفّف الله عنهم ونسختها الآية الأخرى فقال : ? الآنَ خَفَّفَ اللّهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ ? ، قال : وكانوا إذا كانوا على الشطر من عدوّهم ، لم يبلغ لهم أن يفرّوا منهم ، وإن كانوا دون ذلك ، لم يحب عليهم أن يقاتلوا ، وجاز لهم أن يتحوّزوا عنهم .
قال البغوي : وقرأ عاصم وحمزة : ? ضَعْفاً ? بفتح الضاد ها هنا ، وفي سورة الروم ، والباقون : بضمّها . والله أعلم .
الدرس الثاني عشر بعد المائة(5/332)
? مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69) يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70) وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) ? .
* * *(5/333)
قوله عز وجل : ? مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللّهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (68) فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلاً طَيِّباً وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (69) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ? وذلك يوم بدر ، والمسلمون يومئذٍ قليل ، فلما كثروا واشتدّ سلطانهم أنزل الله تبارك وتعالى بعد هذا في الأسارى ، ? فَإِمَّا مَنّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاء ? فجعل الله النبي والمؤمنين في أمر الأسارى بالخيار ، إن شاءوا قتلوهم وإن شاءوا استبعدوهم ، وإن شاءوا فادوهم . وعن مجاهد قال : الإثخان : القتل .(5/334)
وعن ابن عباس قال : لما أسروا الأسارى ، يعني : يوم بدر قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أين أبو بكر وعمرو وعليّ » ؟ قال : « ما ترون في الأسارى » ؟ فقال أبو بكر : يا رسول الله هم بنو العم والعشيرة ، وأرى أن تأخذ منهم فدية تكون لنا قوة على الكفار ، وعسى الله أن يهديهم للإِسلام . فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما ترى يا ابن الخطاب » ؟ فقال : لا والذي لا إله إلا هو ، ما رأى الذي رأى أبو بكر يا نبيّ الله ، ولكن أرى أن تمكنّنا منهم فتمكّن عليًّا من عقيل فيضرب عنقه ، وتمكنّي من فلان نسيب لعمر فأضرب عنقه ، فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدها ، فهوى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال أبو بكر ولم يهو ما قلت ، قال عمر : فلما كان من الغد جئت إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا هو وأبو بكر قاعدان يبكيان فقلت : يا رسول الله أخبرني من أيّ شيء تبكي أنت وصاحبك ؟ فإن وجدت بكاء بكيت ، وإن لم أجد بكاء تباكيت ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أبكي للذي عرض عليّ أصحابكم في أخذهم الفداء، ولقد عرض عليّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة » ، شجرة قريبة من رسول الله ، فأنزل الله عز وجل : ? مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ ? إلى قوله : ? حَلاَلاً طَيِّباً ? وأحلّ الله الغنيمة لهم .
وعن الحسن في قوله : ? لَّوْلاَ كِتَابٌ مِّنَ اللّهِ سَبَقَ ? الآية . قال : إن الله كان مطعم هذه الأمة الغنيمة ، وأنهم أخذوا الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤمروا به ، قال : فعاب الله ذلك عليهم ثم أحلّه الله .(5/335)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى إِن يَعْلَمِ اللّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِّمَّا أُخِذَ مِنكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (70) وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّمَن فِي أَيْدِيكُم مِّنَ الأَسْرَى ? إلى قوله : ? وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? يعني : بذلك من أسر يوم بدر يقول : إن علمتم بطاعتي ونصحتم لرسولي آتيتكم خيرًا مما أخذ منكم وغفرت لكم ، قال : وكان العباس أسر يوم بدر فافتدى نفسه بأربعين أوقية ، من ذهب ، فقال العباس حين نزلت هذه الآية : لقد أعطاني الله خصلتين ما أحبّ أنّ لي بهما الدنيا : أني أسرت يوم بدر ففديت نفسي بأربعين أوقية فآتاني أربعين عبدًا ، وأنا أرجوا المغفرة التي وعدنا الله .
وعن السدي : ? وَإِن يُرِيدُواْ خِيَانَتَكَ فَقَدْ خَانُواْ اللّهَ مِن قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ ? ، يقول : قد كفروا بالله ونقضوا عهده فأمكن منهم ببدر .
قوله عز وجل : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ وَاللّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73) ? .(5/336)
عن ابن عباس : قوله : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُوْلَئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ? يعني : في الميراث ، جعل الميراث للمهاجرين والأنصار دون الأرحام ، قال الله : ? وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يُهَاجِرُواْ مَا لَكُم مِّن وَلاَيَتِهِم مِّن شَيْءٍ حَتَّى يُهَاجِرُواْ ? ، يقول : ما لكم من ميراثهم من شيء ، وكانوا يعلمون بذلك حتى أنزل الله ? وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ? في الميراث ، فنسخت التي قبلها ، وكان الميراث لذوي الأرحام . ? وَإِنِ اسْتَنصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ ? يعني : إن استنصركم الأعراب المسلمون أيها المهاجرون والأنصار على عدوهم ، ? فَعَلَيْكُمُ ? أن تنصروهم ، ? إِلاَّ عَلَى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُم مِّيثَاقٌ ? وعن أبي مالك قال : قال رجل : نورّث أرحامنا من المشركين ، فنزلت : ? وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ? الآية .
وعن ابن عباس : قوله : ? وَالَّذينَ كَفَرُواْ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ? ، يعني : في الميراث ? إِلاَّ تَفْعَلُوهُ ? ، يقول : إلا تأخذوا في الميراث بما أمرتكم به ? تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ? ؛ وقال ابن جريج : إلا تعاونوا وتناصروا في الدين ، ? تَكُن فِتْنَةٌ فِي الأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ ? .
وقال البغوي : فالفتنة في الأرض قوة الكفر ، والفساد الكبير ضعف الإِسلام .
وقال ابن كثير : أي : إن لم تجانبوا المشركين وتوالوا المؤمنين ، وإلا وقعت فتنة في الناس ، وهو التباس الأمر ، واختلاط المؤمنين بالكافرين ، فيقع بين الناس فساد منتشر عريض طويل .(5/337)
قوله عز وجل : ? وَالَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ آوَواْ وَّنَصَرُواْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقّاً لَّهُم مَّغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَالَّذِينَ آمَنُواْ مِن بَعْدُ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ مَعَكُمْ فَأُوْلَئِكَ مِنكُمْ وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (75) ? .
المهاجرون على طبقتين : أهل الهجرة الأولى ، وهم : السابقون الأولون الذين هاجروا قبل صلح الحديبية ، والطبقة الثانية : الذين هاجروا بعد الحديبية وقبل الفتح ، كما قال تعالى : ? لا يَسْتَوِي مِنكُم مَّنْ أَنفَقَ مِن قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُوْلَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِّنَ الَّذِينَ أَنفَقُوا مِن بَعْدُ وَقَاتَلُوا وَكُلّاً وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنَى ? .
وقوله تعالى : ? وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? . قال قتادة : كان لا يرث الأعرابيّ المهاجر حتى أنزل الله : ? وَأُوْلُواْ الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللّهِ ? واستدل بعموم الآية على توريث الخال ونحوه من ذوي الأرحام .
وقال ابن كثير : ( الآية عامة تشمل جميع القرابات ) . انتهى . والله أعلم .
* * *
الدرس الثالث عشر بعد المائة
[ سورة التوبة ]
مدنية ، وهي مائة وتسع وعشرون آية(5/338)
عن ابن عباس قال : قلت لعثمان بن عفان : ما حملكم على أن عمدتم إلى الأنفال وهي من المثاني ، وإلى براءة وهي من المئين ، وقرنتم بينهما ، ولم تكتبوا بينهما سطر ( بسم الله الرحمن الرحيم ) ، ووضعتموها في السبع الطوال ، ما حملكم على ذلك ؟ فقال عثمان : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان مما يأتي عليه الزمان وهو ينزل عليه السور ذوات العدد فكان إذا أنزل عليه الشيء دعا بعض من كان يكتب فيقول : « ضعوا هذه الآية في السورة الذي يذكر فيها كذا وكذا » . وكانت الأنفال من أول ما نزل بالمدينة ، وكانت براءة من آخر ما نزل من القرآن وكانت قصتها شبيهة بقصتها وخشيت أنها منها ، وقبض رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ولم يبيّن لنا أنها منها ، فمن أجل ذلك قرنت بينهما ، ولم أكتب بينهما سطر بسم الله الرحمن الرحيم ووضعتها في السبع الطوال . رواه الترمذي وغيره .(5/339)
? بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6) كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ(5/340)
إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12) أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16) ? .
* * *(5/341)
قوله عز وجل : ? بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَأَنَّ اللّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ (2) وَأَذَانٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِن تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ وَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4) فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُواْ الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُواْ لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَخَلُّواْ سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (5) ? .(5/342)
قال ابن إسحاق : بعث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أبا بكر الصديق رضي الله عنه أميرًا على الحجّ من سنة تسع ، ليقيم للناس حجّهم ، والناس من أهل الشرك على منازلهم من حجّهم ، فخرج أبو بكر ومن معه من المسلمين ، ونزلت سورة براءة في نقض ما بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين المشركين من العهد الذي كانوا عليه فيما بينه وبينهم ، أن لا يُصدّ عن البيت أحد جاءه ، وأن لا يخاف أحد في الشهر الحرام ؛ وكان ذلك عهدًا عامًا بينه وبين الناس من أهل الشرك وكانت بين ذلك عهود بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قبائل من العرب خصائص إلى أجل مسمى ، فنزلت فيه وفيمن تخلّف عنه من المنافقين في تبوك ، وفي قول من قال منهم ، فكشف الله فيها سرائر أقوام كانوا يستخفون بغير ما يظهرون ، منهم من سمّي لنا ومنهم من لم يسمّ لنا ، فقال : ? بَرَاءةٌ مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ? ، أي : لأهل العهد العام من أهل المشركين من العرب ? فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ? إلى قوله : ? أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ ? ، أي : بعد هذه الحجّة .
وعن أبي هريرة قال : بعثني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مع أبي بكر في الحجّة التي أمّره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عليها . قبل حجّة الوداع في رهط يؤذّنون في الناس يوم النحر : « ألا لا يحج بعد العام مشرك ، ولا يطوف بالبيت عريان » . قال الزهري : فكان حميد يقول : يوم النحر الأكبر . رواه ابن جرير وغيره .
وعن ابن إسحاق : ? إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّم مِّنَ الْمُشْرِكِينَ ? ، أي : العهد الخاص إلى الأجل المسمى ? ثُمَّ لَمْ يَنقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُواْ عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ? .(5/343)
وعن مجاهد في قوله : ? فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الْحُرُمُ ? : إنها الأربعة التي قال الله : ? فَسِيحُواْ فِي الأَرْضِ ? ، قال : هي الحرم من أجل أنهم أنظروا فيها حتى يسيحوها . وفي الحديث الصحيح : « أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله ، وأني رسول الله ، ويقيموا الصلاة ، ويؤتوا الزكاة ، فإذا فعلوا ذلك عصموا منّي دماءهم وأموالهم ، إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله تعالى » . رواه مسلم .
قوله عز وجل : ? وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلاَمَ اللّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَعْلَمُونَ (6) ? .
قال ابن إسحاق : ? وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ ? ، أي : من هؤلاء الذين أمرتك بقتالهم ، ? فَأَجِرْهُ ? ، قال مجاهد : إنسان يأتيك ، فيسمع ما تقول ويسمع ما أنزل عليك فهو آمن ، حتى يأتيك فيسمع كلام الله ، وحتى يبلغ مأمنه حيث جاء . قال السدي : كلام الله القرآن .
قوله عز وجل : ? كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِندَ اللّهِ وَعِندَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْاْ بِآيَاتِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّواْ عَن سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاء مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (9) لاَ يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11) ? .(5/344)
قال ابن كثير : يبيّن لك حكمته في البراءة من المشركين ، ونظرته إياهم أربعة أشهر ، ثم بعد ذلك السيف المرهف أين ثقفوا فقال تعالى : ? كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ ? ، أي : أمان ، ويتركون فيما هم فيه وهم مشركون بالله كافرون به وبرسوله .
? إِلاَّ الَّذِينَ عَاهَدتُّمْ عِندَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ? ، يعني : يوم الحديبية . قال ابن إسحاق : هم قبائل بني بكر الذين كانوا دخلوا في عهد قريش وعقدهم يوم الحديبية ، إلى المدة التي كانت بين رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وبين قريش ، فلم يكن نقضها إلا هذا الحي من قريش وبنو الديل من بكر ، فأمر بإتمام العهد لمن لم يكن نقض عهده من بني بكر إلى مدته ، ? فَمَا اسْتَقَامُواْ لَكُمْ فَاسْتَقِيمُواْ لَهُمْ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ? .
وقوله تعالى : ? كَيْفَ وَإِن يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لاَ يَرْقُبُواْ فِيكُمْ إِلاًّ وَلاَ ذِمَّةً ? أي : كيف يكون لهؤلاء المشركين الذين نقضوا عهدهم ، أو لمن لا عهد له منهم عهد وذمة ، وهم إن يظهرو عليكم لا يرقبوا فيكم إلا ولا ذمة ؟ قال ابن عباس : الإِلّ : القرابة ، والذمة : العهد . وقال الشاعر :
أفسد الناس خلوف خلفوا ( ... قطعوا الإِلّ وأعراق الرحم (
وقوله تعالى : ? يُرْضُونَكُم بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ? ، أي : لا عهد لهم .
وقوله تعالى : ? فَإِن تَابُواْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَآتَوُاْ الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ? . قال ابن مسعود : أمرتم بالصلاة والزكاة فمن لم يزكّ فلا صلاة له . وقال الربيع عن أنس مرفوعًا : « من فارق الدنيا على الإِخلاص لله وعبادته لا يشرك به ، وأقام الصلاة ، وآتى الزكاة ، فارقها والله عنه راضٍ » . رواه البزار .(5/345)
قوله عز وجل : ? وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ (12) أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللّهُ أَحَقُّ أَن تَخْشَوْهُ إِن كُنتُم مُّؤُمِنِينَ (13) قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ (14) وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15) أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللّهُ الَّذِينَ جَاهَدُواْ مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُواْ مِن دُونِ اللّهِ وَلاَ رَسُولِهِ وَلاَ الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ (16)? .
عن ابن عباس : قوله : ? وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم ? ، يعني : أهل العهد من المشركين ، سمّاهم : أئمة الكفر ، وهم كذلك ، يقول الله لنبيه : وإن نكثوا العهد الذي بينك وبينهم ، فقاتل ? أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ? لأنهم لا أيمان لهم ? لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ ? .
وعن السدي : قوله : ? أَلاَ تُقَاتِلُونَ قَوْماً نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّواْ بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ? ، يقول : همّوا بإخراجه فأخرجوه ، ? وَهُم بَدَؤُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ? بالقتال . قال مجاهد : قتال قريش حلفاء محمد - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله : ? وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُّؤْمِنِينَ ? ، قال السدي : خزاعة يشف صدورهم من بني بكر ، ? وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ? حين قتلهم بنو بكر وأعانهم قريش .(5/346)
وقوله : ? وَيَتُوبُ اللّهُ عَلَى مَن يَشَاءُ ? ، أي : فيهديه إلى الإِسلام ، ? وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ? . وقال ابن زيد في قوله : ? أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُواْ ? إلى قوله : ? وَلِيجَةً ? ، قال : إني أتركهم دون التمحيص .
قال البغوي : ? وَلِيجَةً ? بطانة وأولياء يوالونهم ويفيضون إليهم أسرارهم . والله أعلم .
* * *
الدرس الرابع عشر بعد المائة
? مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ(5/347)
تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (27) ? .
* * *(5/348)
قوله عز وجل : ? مَا كَانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَن يَعْمُرُواْ مَسَاجِدَ الله شَاهِدِينَ عَلَى أَنفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ وَفِي النَّارِ هُمْ خَالِدُونَ (17) إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18) أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَجَاهَدَ فِي سَبِيلِ اللّهِ لاَ يَسْتَوُونَ عِندَ اللّهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِندَ اللّهِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْفَائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُم بِرَحْمَةٍ مِّنْهُ وَرِضْوَانٍ وَجَنَّاتٍ لَّهُمْ فِيهَا نَعِيمٌ مُّقِيمٌ (21) خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً إِنَّ اللّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22) ? .
قال ابن إسحاق : ثم ذكر قول قريش : إنا أهل الحرم ، وسقاة الحاج ، وعمّار هذا البيت ولا أحد أفضل منا ، قال : ? إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ? ، أي : أن عمارتكم ليست على ذلك ، ? إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ ? ، أي : من عمرها بحقها ، ? مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ ? فأولئك عمارها ، ? فَعَسَى أُوْلَئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْمُهْتَدِينَ ? . ( وعسى ) من الله حق .(5/349)
وعن ابن عباس : قوله : ? أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ? ، قال العباس بن عبد المطلب حين أسر يوم بدر : لئن كنتم سبقتمونا بالإِسلام والهجرة والجهاد ، لقد كنا نعمر المسجد الحرام ونسقي الحاجّ ونفكّ العاني ، قال الله : ? أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ ? إلى قوله : ? الظَّالِمِينَ ? ، يعني : أن ذلك كان في الشرك ، ولا أقبل ما كان في الشرك .
وقال السدي : افتخر عليّ ، وعباس ، وشيبة بن عثمان ، فقال العباس : أنا أفضلكم ، أنا أسقي حجّاج بيت الله ، وقال شيبة : أنا أعمر مسجد الله ، وقال عليّ : أنا هاجرت مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجاهدت معه في سبيل الله ، فأنزل الله : ? الَّذِينَ آمَنُواْ وَهَاجَرُواْ وَجَاهَدُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ? إلى : ? نَعِيمٌ مُّقِيمٌ ? . وعن جابر بن عبد الله قال : ( إذا دخل أهل الجنة الجنة قال الله سبحانه : أعطيكم أفضل من هذا ، فيقولون : ربنا أيّ شيء أفضل من هذا ؟ قال : رضواني ) .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (24) ? .(5/350)
قال البغوي : لما نزلت الآية الأولى قال الذين أسلموا ولم يهاجروا : إن نحن هاجرنا ضاعت أموالنا وذهبت تجارتنا وخرجت دورنا وقطّعنا أرحامنا . فنزلت : ? قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ ? الآية . والله أعلم .
قوله عز وجل : ? لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئاً وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا وَعذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَذَلِكَ جَزَاء الْكَافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللّهُ مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَلَى مَن يَشَاءُ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (27) ? .(5/351)
حُنَيْن : موضع بين مكة والطائف ، اجتمعت فيه هوازن وثقيف بعد الفتح ، فخرج عليهم النبي - صلى الله عليه وسلم - في اثني عشر ألفًا ، عشرة من المهاجرين والأنصار ، وألفان من الطلقاء ، فقال رجل من أصحاب النبي - صلى الله عليه وسلم - : لن نُغلب اليوم من قلة ، فلما التقوا انهزم المسلمون ، وثبت رسول الله ومعه العباس ، وأبو سفيان بن الحارث ابن عم النبي - صلى الله عليه وسلم - ونفرٌ معهم ، فلما غشيه المشركون نزل عن بغلته وهو يقول : « أنا النبي لا كذب أنا ابن عبد المطلب » ، قال البراء بن عازب : فما رؤي يومئذٍ أحد من الناس كان أشدّ منه . وقال رجل كان في المشركين يوم حنين : لما التقينا نخن وأصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين ، لم يقوموا لنا حلب شاة ، قال : فلما كشفناهم جعلنا نسوقهم في أدبارهم حتى انتهينا إلى صاحب البغلة البيضاء ، فإذا هو رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : فتلقّانا عنده رجال بيض الوجوه حسان الوجوه ، فقالوا لنا : شاهت الوجوه ارجعوا ، قال : فانهزمنا وركبوا أكتافنا فكانت إياها . وقال السدي : نادى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يوم حنين :« أين الأنصار ؟ أين الذين بايعوا تحت الشجرة ؟» فتراجع الناس ، فأنزل الله الملائكة بالنصر ، فهزموا المشركين يومئذ ، وذلك قوله : ? ثُمَّ أَنَزلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَنزَلَ جُنُوداً لَّمْ تَرَوْهَا ? الآية . والله أعلم .
* * *
الدرس الخامس عشر بعد المائة(5/352)
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ(5/353)
فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28) قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29) ? .
عن الضحاك في قوله : ? إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ ? قال : قذر ، وقيل : خبيث . وعن قتادة : قوله:? فَلاَ يَقْرَبُواْ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا? وهو العام الذي حجّ فيه أبو بكر، ونادى عليّ - رحمة الله عليهما - بالأذان، وذلك لتسمع سنين مضين من هجرة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وحجّ نبي الله - صلى الله عليه وسلم - من العام المقبل حجة الوداع .(5/354)
وقال ابن عباس : لما نفى الله المشركين عن المسجد الحرام ، ألقى الشيطان في قلوب المؤمنين الحزن قالوا : من أين تأكلون وقد نفي المشركون وانقطعت عنكم العير ؟ فقال الله : ? وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ إِن شَاء ? فأمرهم بقتال أهل الكتاب وأغناهم من فضله .
وعن مجاهد : ? قَاتِلُواْ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِالْيَوْمِ الآخِرِ وَلاَ يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُواْ الْجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ ? حين أمر محمد وأصحابه بغزوة تبوك .
قوله عز وجل : ? وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ وَقَالَتْ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَهاً وَاحِداً لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللّهُ إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) ? .(5/355)
عن ابن عباس : قوله : ? وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللّهِ ? وإنما قالوا هو ابن الله من أجل أن عزيرًا كان في أهل الكتاب ، وكانت التوراة عندهم يعملون بها ما شاء الله أن يعملوا ، ثم أضاعوها وعملوا بغير الحق ، وكان التابوت فيهم ، فلما رأى الله أنهم قد أضاعوا التوراة وعملوا بالأهواء ، رفع الله عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم ، وأرسل الله عليهم مرضًا فاستطلقت بطونهم ، حتى جعل الرجل يمشي كبده ، حتى نسوا التوراة ونسخت من صدورهم وفيهم عزير فمكثوا ما شاء الله أن يمكثوا بعدما نسخت التوراة من صدورهم وكان عزير قبل من علمائهم ، فدعا عزير الله وابتهل إليه ، أن يرد إليه الذي نسخ من صدورهم من التوراة ، فبينما هو يصلي مبتهلاً إلى الله ، نزل نور من الله فدخل جوفه فعاد إليه الذي كان ذهب من جوفه من التوراة ، فأذّن في قومه فقال : يا قوم قد آتاني الله التوراة وردّها إليّ ، فعلق يعلّمهم ، فمكثوا ما شاء الله وهو يعلّمهم ؛ ثم إن التابوت نزل بعد ذلك ، وبعد ذهابه منهم ، فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان فيه على الذي كان عزيز يعلّمهم فوجدوه ، مثله ، فقالوا : والله ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله . وعن السدي : ? يُضَاهِؤُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَبْلُ ? ، قال : النصارى يضاهئون قول اليهود في عزير . وعن ابن عباس : قالوا مثل قول أهل الأوثان ، قاتلهم الله ، يقول : لعنهم الله ، وكل شيء في القرآن قتل فهو لعن .
وقوله تعالى : ? أَنَّى يُؤْفَكُونَ ? . قال البغوي : أنى يصرفون عن الحق بعد قيام الأدلة عليه ؟ وعن الحسن : ? اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً ? قال : في الطاعة . وفي حديث عدي بن حاتم عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « كانوا يحلّون لهم ما حرّم الله فيستحلّونه ، ويحرّمون ما أحلّ الله فيحرّمونه » .(5/356)
وعن السدي : ? يُرِيدُونَ أَن يُطْفِؤُواْ نُورَ اللّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ ? ، يقول : يريدون أن يطفئوا الإسلام بكلامهم . وعن عائشة رضي الله عنها قالت : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى » ، فقلت : يا رسول الله إن كنت لأظنّ حين أنزل الله عز وجل : ? هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ? أن ذلك تامّ ، قال : « إنه سيكون من ذلك ما شاء الله عز وجل ، ثم يبعث الله ريحًا طيبة ، فيتوفى كل من كان في قلبه مثقال حبة خردل من إيمان ، فيبقى من لا خير فيه ، فيرجعون إلى دين آبائهم » . رواه مسلم .
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34) يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ (35) ? .
عن السدي : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيراً مِّنَ الأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ ? أما الأحبار فمن اليهود ، وأما الرهبان فمن النصارى ، وأما سبيل الله فمحمد - صلى الله عليه وسلم - . وعن ابن عمر قال : ( كل مال أدّيت زكاته فليس بكنز ، وإن كان مدفونًا في الأرض ، وكل مال لم تؤدّ زكاته فهو الكنز الذي ذكره الله في القرآن يُكْوَى به صاحبه وإن لم يكن مدفونًا ) .(5/357)
قوله عز وجل : ? إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36) إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (37) ? .
عن ابن عمر قال : خطب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال : « يا أيها الناس ، إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض ، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم ، أوّلهنّ رجب مضر بين جمادى ، وشعبان ، وذو القعدة ، وذو الحجة ، والمحرم » . رواه ابن جرير وغيره .
وقال ابن زيد في قوله : ? فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ? ، قال : الظلم العمل بمعاصي الله والترك لطاعته .(5/358)
وعن ابن عباس : قوله : ? إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ ? في كلّهّن ، ثم خصّ من ذلك أربعة أشهر ، فجعلهنّ حرمًا ، وعظّم حرماتهنّ ، وجعل الذنب فيهن أعظم ، والعمل الصالح والأجر أعظم ، ? وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً ? يقول : جميعًا . وقال : ? إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ ? ، يقول : يتركون المحرّم عامًا ، وعامًا يحرّمونه . وقال مجاهد : كان رجل من بني كنانة يأتي كل عام في الموسم على حمار له فيقول : أيها الناس ، إني لا أعاب ، ولا أحاب ، ولا مردّ لما أقول ، إنا قد حرّمنا المحرّم ، وأخّرنا صفر ، ثم يجيء العام المقبل بعده فيقول مثل مقالته ويقول : إنا قد حرمنا صفر ، وأخّرنا المحرّم ، فهو قوله : ? لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ ? ، قال : يعني : الأربعة ? فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ ? لتأخير هذا الشهر الحرام . والله أعلم .
* * *
الدرس السادس عشر بعد المائة(5/359)
? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ(5/360)
عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ (50) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52) قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ(5/361)
مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40) انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (41) ? .
قال مجاهد : أمروا بغزوة تبوك بعد الفتح ، وبعد الطائف ، وبعد حنين أمروا بالنفير في الصيف ، حين خرفت النخل ، وطابت الثمار ، واشتهوا الظلال ، وشقّ عليهم المخرج . وقال ابن عباس : ( إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - استنفر حيًّا من أحياء العرب فاثّاقلوا عنه ، فأمسك عنهم المطر فكان ذلك عذابهم ، فذلك قوله : ? إِلاَّ تَنفِرُواْ يُعَذِّبْكُمْ عَذَاباً أَلِيماً ? .(5/362)
وقوله تعالى : ? إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُواْ ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللّهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ? . قال مجاهد : ذكر ما كان في أول شأنه حين بعثه ، يقول الله : فأنا فاعل ذلك به وناصره كما نصرته إذ ذاك ، وهو ثاني اثنين . وقال قتادة : فكان صاحبه أبو بكر ، وأما الغار فجبل بمكة يقال له ثور . وعن أنس : أن أبا بكر رضي الله عنه حدّثهم قال : بينما أنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - في الغار ، وأقدام المشركين فوق رؤوسنا ، قلت : يا رسول الله لو أن أحدهم رفع قدمه أبصرنا ، فقال : « يا أبا بكر ما ظنّك باثنين الله ثالثهما » ؟ .
وعن ابن عباس : ? وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُواْ السُّفْلَى ? وهي : الشرك بالله ? وَكَلِمَةُ اللّهِ هِيَ الْعُلْيَا ? وهي : لا إله إلا الله .
وقوله تعالى : ? انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ ? عن الحسن : قوله : ? انْفِرُواْ خِفَافاً وَثِقَالاً ? قال : شيبًا وشبّانًا . وقال الحكم : مشاغيل وغير مشاغيل .(5/363)
قوله عز وجل : ? لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لاَّتَّبَعُوكَ وَلَكِن بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنَا لَخَرَجْنَا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (42) عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43) لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45) وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ (46) لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالاً ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ (48) وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49) ? .
عن قتادة : قوله :? لَوْ كَانَ عَرَضاً قَرِيباً ? إلى قوله: ? لَكَاذِبُونَ ? أنهم يستطيعون الخروج ، ولكن كانت ثبطة من عند أنفسهم والشيطان ، وزهادة في الخير .(5/364)
وعن مجاهد : ? عَفَا اللّهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ ? ، قال : ناس قالوا : استأذنوا رسول الله ، فإن أذن لكم فاقعدوا ، وإن لم يأذن لكم فاقعدوا . وقال قتادة : عاتبه كما تسمعون ، ثم أنزل الله التي في سورة النور ، فرخّص له في أن يأذن لهم إن شاء . انتهى .
قلت : نزول هذه الآية بعد نزول آية النور ، لأنها نزلت في غزوة تبوك ، وآية النور نزلت في الخندق وهو في سنة خمس . والله أعلم .
قال ابن عيينة : انظروا إلى هذا اللطف بدأ بالعفو قبل أن يخبره بالذنب .
وعن ابن عباس : قوله:? لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ? فهذا تعيير للمنافقين حين استأذنوا في القعود عن الجهاد من غير عذر ، وعذر الله المؤمنين فقال : لم يذهبوا حتى يستأذنوه .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً وَلَكِن كَرِهَ اللّهُ انبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُواْ مَعَ الْقَاعِدِينَ ? ، قال ابن إسحاق : كان الذين استأذنوه فيما بلغني من ذوي الشرف ، منهم : عبد الله بن أبيّ ابن سلول والجد بن قيس ، وكانوا أشرافًا في قومهم ، فثبّطهم الله لعلمه بهم ، أن يخرجوا معه فيفسدوا عليه جنده .
وعن قتادة :? ولأَوْضَعُواْ خِلاَلَكُمْ ? قال : لأسرعوا خلالكم ? يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ ? بذلك ، ? وَفِيكُمْ ? من يسمع كلامهم . ? لَقَدِ ابْتَغَوُاْ الْفِتْنَةَ مِن قَبْلُ وَقَلَّبُواْ لَكَ الأُمُورَ ? ، قال ابن إسحاق : أي : ليخذلوا عنك أصحابك ويردّوا عليك أمرك ، ? حَتَّى جَاء الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ وَهُمْ كَارِهُونَ ? .
وعن ابن عباس : ? وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ ائْذَن لِّي وَلاَ تَفْتِنِّي ? ، قال : هو الجد بن قيس قال : قد علمت الأنصار أني إذا رأيت النساء لم أصبر حتى أفتتن ، ولكن أعينك بمالي .(5/365)
وقوله تعالى : ? أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ ? ، قال ابن إسحاق : أي : إن كان إنما يخشى من نساء بني الأصفر وليس ذلك به ، فما سقط فيه من الفتنة بتخلّفه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - والرغبة بنفسه عن نفسه أعظم .
وقال البغوي : ? أَلاَ فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُواْ ? أي : في الشرك والإِثم وقعوا ، بنفاقهم وخلافهم أمر الله ورسوله ، ? وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ? .
قوله عز وجل : ? إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ وَيَتَوَلَّواْ وَّهُمْ فَرِحُونَ (50) قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51) قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52) ? .
عن قتادة : قوله : ? إِن تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ ? إن كان فتح للمسلمين كَبُر ذلك عليهم وساءهم ، ? وَإِن تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُواْ قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِن قَبْلُ ? ، قال مجاهد : حذرنا .
وعن ابن عباس : قوله : ? هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ ? ، يقول : فتح ، أو شهادة . ? وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ ? بالموت ، ? أَوْ بِأَيْدِينَا ? ، قال : القتل .(5/366)
قوله عز وجل : ? قُلْ أَنفِقُواْ طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَّن يُتَقَبَّلَ مِنكُمْ إِنَّكُمْ كُنتُمْ قَوْماً فَاسِقِينَ (53) وَمَا مَنَعَهُمْ أَن تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقَاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلاَةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى وَلاَ يُنفِقُونَ إِلاَّ وَهُمْ كَارِهُونَ (54) فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (55) وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57) ? .
عن الحسن : ? إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? ، قال : بأخذ الزكاة والنفقة في سبيل الله .
وعن ابن عباس : قوله : ? لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ ? ملجأ يقول : حرزًا ? أَوْ مَغَارَاتٍ ? ، يعني : الغيران ? أَوْ مُدَّخَلاً ? ، يقول : ذهابًا في الأرض ، وهو النفق في الأرض ، وهو السرب .
قال البغوي : ومعنى الآية : أنهم لو يجدون مخلصًا منكم ، ومهربًا لفارقوكم . والله أعلم .
* * *
الدرس السابع عشر بعد المائة(5/367)
? وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (66) الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ(5/368)
أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) ? .
* * *(5/369)
قوله عز وجل : ? وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا رَضُواْ وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ (59) إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ وَفِي سَبِيلِ اللّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِّنَ اللّهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60) ? .
عن قتادة : قوله : ? وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ? ، يقول : ومنهم من يطعن عليك في الصدقات ؛ وذكر لنا أن رجلاً من أهل البادية حديث عهد بأعرابية ، أتى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - وهو يقسم ذهبًا وفضة فقال : يا محمد والله لئن كان الله أمرك أن تعدل ما عدلت . فقال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : « ويلك فمن جاء يعدل عليك بعدي » ؟ ثم قال نبي الله - صلى الله عليه وسلم - : « احذروا هذا وأشباهه ، فإن أمتي أشباه هذا ، يقرؤون ، القرآن لا يجاوز تراقيهم ، فإذا خرجوا فاقتلوهم ، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم ، ثم إذا خرجوا فاقتلوهم » .
وقوله تعالى : ? وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا آتَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ سَيُؤْتِينَا اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللّهِ رَاغِبُونَ ? .
قال البغوي : وجواب ( لو ) محذوف ، أي : لكان خيرًا لهم وأَعْوَدَ عليهم .(5/370)
وعن الحسن : ? إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ ? ، قال : الفقير : الجالس في بيته ، والمسكين : الذي يسعى . وقال ابن عباس : المساكين الطوافون ، والفقراء فقراء المسلمين . وقال مجاهد : الفقير الذي لا يسأل ، والمسكين الذي يسأل . وقال ابن أبْزَى : كان ناس من المهاجرين لأحدهم الدار ، والزوجة ، والعبد ، والناقة يحجّ عليها ويغزو ، فنسبهم الله إلى أنهم فقراء وجعل لهم سهمًا في الزكاة .
وعن قتادة : ? وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ? ، قال : جُباتها الذين يجمعونها ويسعون فيها .
وعن ابن عباس : قوله : ? وَالْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ ? وهم قوم كانوا يأتون رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قد أسلموا ، وكان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يرضخ لهم من الصدقات ، فإذا أعطاهم من الصدقات فأصابوا منها خيرًا قالوا : هذا دين صالح ، وإن كان غير ذلك عابوه وتركوه وعن أبي جعفر قال : في الناس اليوم المؤلّفة قلوبهم . وعن الحسن : ? وَفِي الرِّقَابِ ? ، قال : هم المكاتبون .
وعن مجاهد في قوله : ? وَالْغَارِمِينَ ? هم قوم ركبتهم الديون في غير فساد ولا تبذير ، فجعل الله لهم في هذه الآية سهمًا .
وقال ابن زيد في قوله : ? وَفِي سَبِيلِ اللّهِ ? ، قال : الغازي في سبيل الله .
وعن مجاهد : ? وَابْنِ السَّبِيلِ ? ، قال : لابن السبيل حقّ من الزكاة وإن كان غنيًا ، إذا كان منقطعًا به . وعن حذيفة في قوله : ? إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاء وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا ? ، قال : إن شئت جعلته في صنف واحد أو صنفين أو لثلاثة . وقال عطاء : لو وضعتها في صنف واحد من هذه الأصناف أجزأك ، ولو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعفّفين ، فجبرتهم بها كان أحبّ إليّ .(5/371)
قوله عز وجل : ? وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ (62) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ اللّهَ وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِداً فِيهَا ذَلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِم قُلِ اسْتَهْزِئُواْ إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ (64) وَلَئِن سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ (65) لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ (66) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيِقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ ? يسمع من كل أحد .(5/372)
وقوله : ? يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ ? ، يعني : يؤمن بالله ويصدّق المؤمنين . وقال ابن إسحاق : يقول الله ? قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ ? أي : يستمع الخير ويصدّق به . وقال قتادة : ذكر لنا أن رجلاً من المنافقين قال : والله إن هؤلاء لخيارنا وأشرافنا ، وإن كان ما يقول محمد حقًا لهم شرٌّ من الحمير . قال فسمعها رجل من المسلمين فقال : والله إنّ ما يقول محمد حقّ ولأنت شرٌّ من الحمار . فسعى بها الرجل إلى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، فأرسل إلى الرجل فدعاه فقال له : « ما حملك على الذي قلت » ؟ فجعل يلتعن ويحلف بالله ما قال ذلك . قال : وجعل الرجل المسلم يقول : اللهم صدّق الصادق وكذّب الكاذب . فأنزل الله في ذلك : ? يَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُواْ مُؤْمِنِينَ ? .
وعن مجاهد : ? يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ ? ، يقول : يقولون القول بينهم ، ثم يقولون : عسى الله أن لا يفشى سرّنا علينا . وقال قتادة : كانت تسمى هذه السورة : الفاضحة ، فاضحة المنافقين . وعن ابن عمر قال : قال رجل في غزوة تبوك في مجلس : ما رأينا مثل قرّائنا هؤلاء أرغب بطونًا ، ولا أكذب ألسنًا ، ولا أجبن عند اللقاء . فقال رجل في المجلس : كذبت ، ولكنك منافق ، لأخبرنّ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، فبلغ ذلك النبي - صلى الله عليه وسلم - ، ونزل القرآن . قال عبد الله بن عمر : فأنا رأيته متعلّقًا بحقب ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تنكبه الحجارة وهو يقول : يا رسول الله إنما كنا نخوض ونلعب ، ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « ? أَبِاللّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لاَ تَعْتَذِرُواْ قَدْ كَفَرْتُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ ? » .(5/373)
وقوله تعالى : ? إِن نَّعْفُ عَن طَآئِفَةٍ مِّنكُمْ نُعَذِّبْ طَآئِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ ? ، قال ابن إسحاق : كان الذي عفى عنه فيما بلغني مخشيّ بن حمير الأشجعي حليف بني سلمة ، وذلك أنه أنكر منهم بعض ما سمع .
قوله عز وجل : ? الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُم مِّن بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (67) وَعَدَ الله الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ كَانُواْ أَشَدَّ مِنكُمْ قُوَّةً وَأَكْثَرَ أَمْوَالاً وَأَوْلاَداً فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُم بِخَلاَقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ بِخَلاَقِهِمْ وَخُضْتُمْ كَالَّذِي خَاضُواْ أُوْلَئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الُّدنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (69) أَلَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَقَوْمِ إِبْرَاهِيمَ وِأَصْحَابِ مَدْيَنَ وَالْمُؤْتَفِكَاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70) ? .
عن مجاهد في قول الله : ? وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ ? ، قال : لا يبسطونها بنفقة في حق . وقال قتادة : يقبضون أيديهم عن كل خير . ? نَسُواْ اللّهَ فَنَسِيَهُمْ ? نسوا من الخير ولم ينسوا من الشر .
وقوله تعالى : ? كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ? .(5/374)
قال البغوي : أي : فعلتم كفعل الذين من قبلكم بالعدول عن أمر الله ، فلعنتم كما لعنوا . وقال ابن عباس : ما أشبه الليلة بالبارحة ، ? كَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ ? هؤلاء بنو إسرائيل شبّهنا بهم . وعن الحسن : ? فَاسْتَمْتَعُواْ بِخَلاقِهِمْ ? ، قال : بدينهم .
وقال البغوي : فتمتّعوا وانتفعوا ? بِخَلاقِهِمْ ? بنصيبهم من الدنيا باتباع الشهوات ، رضوا به عوضًا عن الآخرة ? فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ ? أيها الكفار والمنافقون ? كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ ? وسلكتم سبيلهم ? وَخُضْتُم ? في الباطل والكذب على الله وتكذيب رسله والاستهزاء بالمؤمنين ? كَالَّذِي خَاضُوا ? أي : كما خاضوا . وساق حديث أبي سعيد عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « لتتبعن سنن من قبلكم شبرًا بشبر ، وذراعًا بذراع ، حتى لو دخلوا جحر ضبّ تبعتموهم » . قلنا : يا رسول الله اليهود والنصارى ؟ قال : « فمن » .
قوله عز وجل : ? وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72) ? .
قال ابن كثير : لما ذكر تعالى صفات المنافقين الذميمة ، عطف بذكر صفات المؤمنين الحميدة فقال : ? وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ ? ، أي : يتناصرون ويتعاضدون .(5/375)
وقوله تعالى : ? وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ? . عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله يقول لأهل الجنة : يا أهل الجنة ، فيقولون : لبيك ربنا وسعديك ، فيقول : هل رضيتم ؟ فيقولون : وما لنا لا نرضى وقد أعطيتنا ما لم تعط أحدًا من خلقك ؟ فيقول : أنا أعطيكم أفضل من ذلك . قالوا : يا رب وأيّ شيء أفضل من ذلك ؟ قال : أحلّ عليكم رضواني فلا أسخط عليكم بعده أبدًا » . متفق عليه . والله أعلم .
* * *
الدرس الثامن عشر بعد المائة(5/376)
? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (74) وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ(5/377)
كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (82) فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) ? .
* * *(5/378)
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ (73) يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ وَلَقَدْ قَالُواْ كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُواْ بَعْدَ إِسْلاَمِهِمْ وَهَمُّواْ بِمَا لَمْ يَنَالُواْ وَمَا نَقَمُواْ إِلاَّ أَنْ أَغْنَاهُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ مِن فَضْلِهِ فَإِن يَتُوبُواْ يَكُ خَيْراً لَّهُمْ وَإِن يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللّهُ عَذَاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الأَرْضِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (74) ? .
عن ابن مسعود في قوله تعالى : ? جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ ? ، قال : بيده فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، فإن لم يستطع فليكفهرّ في وجهه . وعن ابن عباس : قوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ ? فأمره الله بجهاد الكفار بالسيف ، والمنافقين باللسان ، وأذهب الرفق عنهم ؛ وعنه قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - جالسًا في ظل شجرة فقال : إنه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم بعيني شيطان ، فإذا جاء فلا تكلّموه ، فلم يلبث أن طلع رجل أزرق ، فدعاه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : عَلام تشتمني أنت وأصحابك ؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه فحلفوا بالله ما قالوا وما فعلوا ، حتى تجاوز عنهم ، فأنزل الله : ? يَحْلِفُونَ بِاللّهِ مَا قَالُواْ ? ثم نعتهم جميعًا إلى آخر الآية .(5/379)
وعن حذيفة بن اليمان قال : كنت آخذًا بخطام ناقة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أقود به وعمّار يسوق الناقة ، حتى إذا كنا بالعقبة ، فإذا أنا باثني عشر راكبًا قد اعترضوه فيها ، قال فأنبهت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بهم فصرخ بهم فولوا مدبرين ، فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « هل عرفتم القوم ؟ » قلنا : لا يا رسول الله قد كانوا متلثّمين ، ولكنا قد عرفنا الركاب ، قال : « هؤلاء المنافقون إلى يوم القيامة ، وهل تدرون ما أرادوا » ؟ قلنا : لا . قال : « أرادوا أن يزاحموا رسول الله في العقبة » . قلنا : يا رسول الله أفلا تبعث إلى عشائرهم حتى يبعث إليك كل قوم برأس صاحبهم . قال : « لا ، أكره أن تتحدّث العرب بينهما أن محمدًا قاتل بقوم » ، حتى إذا أظهره الله بهم أقبل عليهم يقتلهم .
قوله عز وجل : ? وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتَاهُم مِّن فَضْلِهِ بَخِلُواْ بِهِ وَتَوَلَّواْ وَّهُم مُّعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُواْ اللّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُواْ يَكْذِبُونَ (77) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ وَأَنَّ اللّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78) الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (79) اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِن تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَن يَغْفِرَ اللّهُ لَهُمْ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ (80) ? .(5/380)
عن ابن عباس : قوله : ? وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ لَئِنْ آتَانَا مِن فَضْلِهِ ? الآية ، وذلك أن رجلاً يقال له ثعلبة بن أبي حاطب من الأنصار ، أتى مجلسًا فأشهدهم فقال لئن آتاني الله من فضله آتيت منه كل ذي حقّ حقّه ، وتصدّقت منه ، ووصلت منه القرابة ، فابتلاه الله فآتاه من فضله ، فأخلف الله ما وعده ، وأغضب الله بما أخلف ما وعده فقصّ الله شأنه في القرآن : ? وَمِنْهُم مَّنْ عَاهَدَ اللّهَ ? الآية إلى قوله : ? يَكْذِبُونَ ? . وفي الحديث الصحيح : « آية المنافق ثلاث : إذا حدّث كذب ، وإذا وعد أخلف ، وإذا اؤتمن خان » . وعن ابن عباس : قوله : ? الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ ? ، قال : جاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وجاءه رجل من الأنصار بصاع من طعام ، فقال بعض المنافقين : والله ما جاء عبد الرحمن بما جاء به إلا رياء ، وقالوا : إن كان الله ورسوله لغنييّن عن هذا الصاع » .
وعن ابن عباس : قوله : ? اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لاَ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ ? إلى قوله : ? الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ? فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية : « اسمع ربي قد رخّص لي فيهم فوالله لأستغفرنّ أكثر من سبعين مرة فلعلّ الله أن يغفر لهم ». فقال الله من شدة غضبه عليهم : ? سَوَاء عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَن يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ? .(5/381)
قوله عز وجل : ? فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلاَفَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُواْ أَن يُجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً لَّوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (82) فَإِن رَّجَعَكَ اللّهُ إِلَى طَآئِفَةٍ مِّنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُل لَّن تَخْرُجُواْ مَعِيَ أَبَداً وَلَن تُقَاتِلُواْ مَعِيَ عَدُوّاً إِنَّكُمْ رَضِيتُم بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُواْ مَعَ الْخَالِفِينَ (83) وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ (84) وَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَأَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ أَن يُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الدُّنْيَا وَتَزْهَقَ أَنفُسُهُمْ وَهُمْ كَافِرُونَ (85) ? .
قال ابن إسحاق : ذكر قول بعضهم لبعض حين أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بالجهاد ، وأجمع السير إلى تبوك على شدة الحر وجدب البلاد ، يقول الله جل ثناؤه : ? وَقَالُواْ لاَ تَنفِرُواْ فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرّاً ? .
وعن ابن عباس : قوله : ? فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً ? ، قال : هم المنافقون والكفار الذين اتخذوا دينهم هزوًا ولعبًا ، يقول الله تبارك وتعالى : ? فَلْيَضْحَكُواْ قَلِيلاً ? في الدنيا ? وَلْيَبْكُواْ كَثِيراً ? في النار .(5/382)
وعن جابر بن عبد الله أن رأس المنافقين مات بالمدينة ، فأوصى أن يصلي عليه النبي - صلى الله عليه وسلم - ، وأن يكفّن في قميصه ، فكفّنه في قميصه وصلى عليه وقام على قبره ، فأنزل الله تبارك وتعالى : ? وَلاَ تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِّنْهُم مَّاتَ أَبَداً وَلاَ تَقُمْ عَلَىَ قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُواْ وَهُمْ فَاسِقُونَ ? .
قوله عز وجل : ? وَإِذَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُواْ بِاللّهِ وَجَاهِدُواْ مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَقَالُواْ ذَرْنَا نَكُن مَّعَ الْقَاعِدِينَ (86) رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَفْقَهُونَ (87) لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ جَاهَدُواْ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنفُسِهِمْ وَأُوْلَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? اسْتَأْذَنَكَ أُوْلُواْ الطَّوْلِ مِنْهُمْ ? ، يعني : أهل الغنى والخوالف هنّ النساء . والله أعلم .
* * *
الدرس التاسع عشر بعد المائة(5/383)
? وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (93) يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ(5/384)
السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الأَعْرَابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَقَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُواْ اللّهَ وَرَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِنْهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (90) لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُواْ لِلّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِن سَبِيلٍ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (91) وَلاَ عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لاَ أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّواْ وَّأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاء رَضُواْ بِأَن يَكُونُواْ مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (93) ? .(5/385)
قال الفراء : ? الْمُعَذِّرُونَ ? المعتذرون ، أدغمت التاء في الذال ونقلت حركة التاء إلى العين . قال أبو عمرو بن العلاء : كلا الفريقين كان مسيئًا ، قوم تكلّفوا عذرًا بالباطل وهم الذين عناهم الله تعالى بقوله : ? وَجَاء الْمُعَذِّرُونَ ? ، وقوم تخلّفوا من غير تكلّف عذر فقعدوا جرأة على الله تعالى وهم المنافقون .
وعن ابن عباس : قوله : ? لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى ? إلى قوله : ? حَزَناً أَلاَّ يَجِدُواْ مَا يُنفِقُونَ ? وذلك : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمر الناس أن ينبعثوا غازين معه ، فجاءته عصابة من أصحابه فيهم عبد الله بن مغفل المزني فقالوا : يا رسول الله احملنا ، فقال لهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « والله ما أجد ما أحملكم عليه » فتولوّا ولهم بكاء ، وعزيزٌ عليهم أن يجلسوا عن الجهاد ولا يجدون نفقة ومحملاً فلما رأى الله حرصهم على محبته ومحبة رسوله أنزل عذرهم في كتابه فقال : ? لَّيْسَ عَلَى الضُّعَفَاء وَلاَ عَلَى الْمَرْضَى وَلاَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَجِدُونَ مَا يُنفِقُونَ حَرَجٌ ? إلى قوله : ? فَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ ?) .
قوله عز وجل : ? يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذَا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُل لاَّ تَعْتَذِرُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللّهُ مِنْ أَخْبَارِكُمْ وَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِن تَرْضَوْاْ عَنْهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ (96) ? .(5/386)
قال كعب بن مالك في حديثه المشهور : لما قدم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من تبوك جلس للناس ، فلما فعل ذلك جاءه المخلّفون فطفقوا يعتذرون إليه ويحلفون له ، وكانوا بضعة وثمانين رجلاً ، فقبل منهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - علانيتهم ووكّل سرائرهم إلى الله ؛ وصَدَقْتُه حديثي ، فوالله ما أنعم الله عليّ من نعمة قطّ بعد أن هداني للإسلام، أعظم في صدقي رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، أن لا أكون كذبته فأهلك كما هلك الذين كذبوا ، إن الله قال للذين كذبوا حين أنزل الوحي شرّ ما قال لأحد : ? سَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَكُمْ إِذَا انقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُواْ عَنْهُمْ فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ ? إلى قوله : ? فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَرْضَى عَنِ الْقَوْمِ الْفَاسِقِينَ ? .
قوله عز وجل : ? الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (99) وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100) ? .(5/387)
عن إبراهيم قال : جلس أعرابي إلى زيد بن صوحان وهو يحدّث أصحابه ، وكانت يده قد أصيبت يوم نهاوند فقال : إن حديثك ليعجبني ، وإن يدك لتريبني ، فقال زيد : وما يريبك من يدي ؟ إنها الشمال ، فقال الأعرابي : والله ما أدري اليمين تقطعون أم الشمال . فقال زيد بن صوحان : صدق الله : ? الأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْراً وَنِفَاقاً وَأَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُواْ حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللّهُ عَلَى رَسُولِهِ ? . قال ابن جرير : يقول : وأخلق أن لا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله . وقال قتادة : هم أقلّ علمًا بالسنن .
وقوله تعالى : ? وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ مَغْرَماً ? ، قال عطاء : لا يرجو على إعطائه ثوابًا ، ولا يخاف على إمساكه عقابًا ، إنما ينفق خوفًا ورياء ? وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ السَّوْءِ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الأَعْرَابِ مَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنفِقُ قُرُبَاتٍ عِندَ اللّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ ? . قال قتادة : دعاء الرسول ? أَلا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَّهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? .
وعن سعيد بن المسيب : قوله : ? وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ ? ، قال : هم الذين صلّوا القبلتين جميعًا . وقال الشعبي : هم الذين بايعوا بيعة الرضوان .
قال ابن جرير : ( وأما الذين اتبعوا المهاجرين والأنصار بإحسان ، فهم الذين أسلموا وسلكوا منهاجهم في الهجرة والنصرة وأعمال الخير ) . انتهى .
? رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ? فيا ويل من سبّهم وأبغضهم ، وقد أخبر الله أنه راضٍ عنهم . والله أعلم .
* * *
الدرس العشرون بعد المائة(5/388)
? وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ(5/389)
الظَّالِمِينَ (109) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ لاَ تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ (101) وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (102) خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (105) وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106) ? .(5/390)
عن ابن إسحاق : ? وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ ? ، أي : لجّوا فيه وأبوا غيره . وعن ابن عباس في قول الله : ? وَمِمَّنْ حَوْلَكُم مِّنَ الأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُواْ عَلَى النِّفَاقِ ? إلى قوله ? عَذَابٍ عَظِيمٍ ?، قال : قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - خطيبًا يوم الجمعة فقال : « اخرج يا فلان فإنك منافق ، اخرج يا فلان فإنك منافق » ، فأخرج من المسجد ناسًا منهم ، فضحهم فلقيهم عمر وهم يخرجون من المسجد فاختبأ منهم حياء أنه لم يشهد الجمعة ، وظن أن الناس قد انصرفوا واختبؤوا هم من عمر ، ظنوا أنه قد علم بأمرهم ، فجاء عمر فدخل المسجد ، فإذا الناس لم يصلّوا فقال له رجل من المسلمين : أبشر يا عمر فقد فضح الله المنافقين اليوم . فهذا العذاب الأول حين أخرجهم من المسجد ، والعذاب الثاني ، عذاب القبر .
وقال ابن زيد : ? سَنُعَذِّبُهُم مَّرَّتَيْنِ ? ، قال : أما عذاب الدنيا : فالأموال والأولاد وقرأ قول الله : ? فَلاَ تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلاَ أَوْلاَدُهُمْ إِنَّمَا يُرِيدُ اللّهُ لِيُعَذِّبَهُم بِهَا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? بالمصائب فيهم ، هي لهم عذاب ، وفي المؤمنين أجر .(5/391)
وقوله تعالى : ? وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُواْ عَمَلاً صَالِحاً وَآخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللّهُ أَن يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? ، قال ابن زيد : هم الثمانية اللذين ربطوا أنفسهم بالسواري ، منهم : كردم ، ومرداس ، وأبو لبابة . وقال قتادة : كانوا تخلّفوا عن غزوة تبوك . وقال ابن أبي ذئب : سمعت أبا عثمان يقول : ما في القرآن آية أرجى عندي بهذه الأمة من قوله : ? وَآخَرُونَ اعْتَرَفُواْ بِذُنُوبِهِمْ ? إلى : ? إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? . وعن ابن عباس قال : ( جاؤوا بأموالهم - يعني : أبا لبابة وأصحابه - حين أطلقوا ، فقالوا : يا رسول الله هذه أموالنا فتصدّق بها عنا واستغفر لنا ، قال : « ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئًا ، » فأنزل الله : ? خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِم بِهَا ? ، يعني بالزكاة : طاعة الله والإِخلاص ، ? وَصَلِّ عَلَيْهِمْ ? ، يقول : استغفر لهم ، ? إِنَّ صَلاَتَكَ سَكَنٌ لَّهُمْ ? ، يقول : رحمة لهم ) .
وعن عبد الله بن أبي أوفى قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - إذا أُتي بصدقة قوم صلّى عليهم ، فأتاه أبي بصدقته فقال : « اللهم صلِّ على آل أبي أوفى » . رواه مسلم . وعن ابن مسعود قال : إن الصدقة تقع في يد الله قبل أن تقع في يد السائل ، ثم قرأ : ? أَلَمْ يَعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَأْخُذُ الصَّدَقَاتِ وَأَنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ? ، قال ابن عباس : يعني : إن استقاموا . وعن مجاهد : ? وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ ? ، قال : هذا وعيد ? وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ? .(5/392)
وقوله تعالى : ? وَآخَرُونَ مُرْجَوْنَ ? ، أي : مؤخّرون ? لِأَمْرِ اللّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَإِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ? ، قال مجاهد : هم هلال بن أمية ، ومرارة بن الربيع ، وكعب بن مالك . وقال الضحاك : هم الثلاثة الذين خلّفوا عن التوبة ، يريد غير أبي لبابة وأصحابه ، ولم ينزل الله عذرهم فضاقت عليهم الأرض بما رحبت ، وكان أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيهم فرقتين : فرقة تقول : هلكوا حين لم ينزل الله فيهم ما أنزل في أبي لبابة وأصحابه ، وتقول فرقة أخرى : عسى الله أن يعفو عنهم ، وكانوا مرجئين لأمر الله ، ثم أنزل الله رحمته ومغفرته ، فقال : ? وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ ? الآية .
قوله عز وجل : ? وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً وَكُفْراً وَتَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَاداً لِّمَنْ حَارَبَ اللّهَ وَرَسُولَهُ مِن قَبْلُ وَلَيَحْلِفَنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلاَّ الْحُسْنَى وَاللّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ (107) لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَن يَتَطَهَّرُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَم مَّنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَىَ شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110) ? .(5/393)
عن ابن عباس : ? وَالَّذِينَ اتَّخَذُواْ مَسْجِداً ضِرَاراً ? وهم أناس من الأنصار ابتنوا مسجدًا فقال لهم أبو عامر : ابنو مسجدكم واستعدّوا بما استطعتم من قوة ومن سلاح ، فإني ذاهب إلى قيصر مالك الروم فآتي بجند من الروم ، فأخرج محمدًا وأصحابه ، فلما فرغوا من مسجدهم أتوا النبي - صلى الله عليه وسلم - فقالوا : قد فرغنا من بناء مسجدنا فنحبّ أن تصلّي فيه وتدعو لنا بالبركة ، فأنزل الله : ? لاَ تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَّمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَن تَقُومَ فِيهِ ? إلى قوله : ? وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ ? .
وعن قتادة : قال ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال لأهل قباء : « إن الله قد أحسن عليكم الثناء في الطهور ، فما تصنعون » ؟ قالوا : إنا نغسل عنا أثر الغائط والبول . وعن جابر قال : ( رأيت المسجد الذي بني ضرارًا يخرج منه الدخان على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) . رواه ابن جرير .
وعن ابن عباس : قوله : ? لاَ يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْاْ رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ ? يعني : شكًّّّا ? إِلاَّ أَن تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ ? يعني : الموت . وقال قتادة : يقول : حتى يموتوا . وقال خلف بن ياسين : رأيت مسجد المنافقين الذي ذكره الله تعالى في القرآن ، وفيه حجر يخرج منه الدخان ، وهو اليوم مزبلة . والله أعلم .
* * *
الدرس الحادي والعشرون بعد المائة(5/394)
? إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (116) لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ(5/395)
اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112) ? .
عن قتادة أنه تلا هذه الآية : ? إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ ? ، قال : ثامَنهم الله فأغلى لهم الثمن . وعن شمر بن عطية قال : ما من مسلم إلا ولله في عنقه بيعة ، وفّى بها أو مات عليها ، في قول الله : ? إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ? إلى قوله : ? وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ? . ثم حلاّهم فقال : ? التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ ? إلى : ? وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ ? .
وقال ابن عباس : ? السَّائِحُونَ ? : الصائمون . وقالت عائشة : سياحة هذه الأمة الصيام . وروى أبو داود أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « سياحة أمتي الجهاد في سبيل الله » .
وفي صحيح البخاري عن أبي سعيد الخدري قال : « يوشك أن يكون خير مال الرجل غنم يتبع بها شغف الجبال ومواقع القطر ، يفرّ بدينه من الفتن » .(5/396)
قوله عز وجل : ? مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُواْ أُوْلِي قُرْبَى مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ (113) وَمَا كَانَ اسْتِغْفَارُ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَن مَّوْعِدَةٍ وَعَدَهَا إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ (114) وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ إِنَّ اللّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (115) إِنَّ اللّهَ لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ (116) ? .
عن عمرو بن دينار أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « استغفر إبراهيم لأبيه وهو مشرك ، فلا أزال أستغفر لأبي طالب حتى ينهاني عنه ربي ». فقال أصحابه : لنستغفرنّ لأبائنا كما استغفر النبي - صلى الله عليه وسلم - لعمّه ، فأنزل الله : ? مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ ? إلى قوله : ? تَبَرَّأَ مِنْهُ ? . وعن ابن عباس قال : لم يزل إبراهيم يستغفر لأبيه حتى مات فلما مات لم يستغفر له . وقال عطاء : ما كنت أدع الصلاة على أحد من أهل هذه القبلة ، ولو كانت خبيثة حبلى من الزنا ، لأني لم أسمع بحجب الصلاة إلا عن المشركين .
وقوله تعالى : ? إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لأوَّاهٌ حَلِيمٌ ? . قال ابن مسعود : الأوّاه : الدّعاء ، وقال مرة : الرحيم . وروى عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « الأواه : الخاشع المتضرّع » .(5/397)
وعن مجاهد : ? وَمَا كَانَ اللّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُم مَّا يَتَّقُونَ ? ، قال : بيان الله للمؤمنين أن لا يستغفروا للمشركين خاصة ، وفي بيان طاعته ومعصيته عامة ، فافعلوا وذروا .
قوله عز وجل : ? لَقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (117) وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ وَظَنُّواْ أَن لاَّ مَلْجَأَ مِنَ اللّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُواْ إِنَّ اللّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ (119) ? .
عن معمر عن عبد الله بن محمد بن عقيل : ? فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ ? قال : خرجوا في غزوة تبوك الرجلان والثلاثة على بعير ، وخرجوا في حرٍّ شديد ، وأصابهم يومئذٍ عطش شديد ، فجعلوا ينحرون إبلهم فيعصرون أكراشها ويشربون ماءه ، وكان ذلك عسرة من الماء ، وعسرة من الطهر ، وعسرة من النفقة . قال قتادة : فتاب الله عليهم وأقفلهم من غزوهم . وقال ابن عباس : من تاب الله عليه لم يعذبه أبدًا .(5/398)
وقوله تعالى : ? وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ ? . قال كعب بن مالك في حديثه الطويل : خلّفنا أيها الثلاثة عن أمر أولئك الذين قبل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - توبتهم حين حلفوا له فبايعهم واستغفر لهم ، وأرجأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أمرنا حتى قضى الله فيه ، فبذلك قال الله : ? وَعَلَى الثَّلاَثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ ? . وعن نافع قال : قيل للثلاثة الذين خلفوا : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ ? محمد وأصحابه . وعن ابن مسعود رضي الله عنه قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « عليكم بالصدق فإن الصدق يهدي إلى البر ، وإن البر يهدي إلى الجنة ، ولا يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يكتب عند الله صدّيقًا ، وإياكم والكذب فإن الكذب يهدي إلى الفجور ، وإن الفجور يهدي إلى النار ، ولا يزال الرجل يكذب ويتحرّى الكذب حتى يكتب عند الله كذّابًا » . متفق عليه . والله أعلم .
* * *
الدرس الثاني والعشرون بعد المائة(5/399)
? مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون (127) لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ(5/400)
أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لاَ يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَلاَ نَصَبٌ وَلاَ مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَطَؤُونَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَلاَ يَنَالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَّيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُم بِهِ عَمَلٌ صَالِحٌ إِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَلاَ يُنفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَلاَ كَبِيرَةً وَلاَ يَقْطَعُونَ وَادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللّهُ أَحْسَنَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (121) وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً فَلَوْلاَ نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَآئِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُواْ فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُواْ قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُواْ إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122) يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) ? .(5/401)
عن قتادة : قوله : ? مَا كَانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُم مِّنَ الأَعْرَابِ أَن يَتَخَلَّفُواْ عَن رَّسُولِ اللّهِ وَلاَ يَرْغَبُواْ بِأَنفُسِهِمْ عَن نَّفْسِهِ ? هذا إذا غزا نبي الله بنفسه ، فليس لأحد أن يتخلف . ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لو لا أن أشقّ على أمتي ما تخلّفت خلف سرية تغزو في سبيل الله ، لكني لا أجد سعة فأنطلق بهم معي ويشقّ عليّ أن أدعهم بعدي » . وقال قتادة : ما زاد قوم في سبيل الله بعدًا إلا ازدادوا من الله قربًا .
وقال الضحاك في قوله : ? وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُواْ كَآفَّةً ? الآية . كان نبي الله إذا غزا بنفسه لم يحلّ لأحد من المسلمين أن يتخلّف عنه إلا أهل العذر ، وكان إذا أقام فأسرت السرايا لم يحلّ لهم أن ينطلقوا إلا بإذنه ، فكان الرجل إذا أسرى فنزل بعده قرآن تلاه نبي الله على الصحابة القاعدين معه ، فإذا رجعت السرية قال لهم : الذين أقاموا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله أنزل بعدكم على نبيه قرآنًا فيقرئونهم ويفقّهونهم في الدين » .
وقيل : نزلت هذه الآية حين نزل أحياء العرب المدينة ، فغلت أسعارهم وفسدت طرقهم . وفي الحديث الصحيح : « من يرد الله به خيرًا يفقّه في الدين » .
وقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ قَاتِلُواْ الَّذِينَ يَلُونَكُم مِّنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُواْ فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ ? ، قال البغوي : أمروا بقتال الأقرب فالأقرب إليهم في الدار والنسب .(5/402)
قوله عز وجل : ? وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُواْ فَزَادَتْهُمْ إِيمَاناً وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُواْ وَهُمْ كَافِرُونَ (125) أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لاَ يَتُوبُونَ وَلاَ هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون (127) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُم مَّن يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَاناً ? قال : كان إذا نزلت سورة آمنوا بها ، فزادهم الله إيمانًا وتصديقًا ، وكانوا يستبشرون .
وقوله تعالى : ? وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ ? ، أي : شك ونفاق ، ? فَزَادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ ? فعند نزول كل سورة ينكرونها ، ويزداد كفرهم .
وقوله تعالى : ? أَوَلاَ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ ? يختبرون ، ? فِي كُلِّ عَامٍ مَّرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ? . قال مجاهد : بالقحط والشدة ؛ وقال حذيفة : كنا نسمع في كل عام كذبة أو كذبتين ، فيضلّ بها فئام من الناس .
وقوله تعالى : ? وَإِذَا مَا أُنزِلَتْ سُورَةٌ نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللّهُ قُلُوبَهُم بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُون ? .(5/403)
قال ابن كثير : هذا أيضًا إخبار عن المنافقين ، أنهم إذا أنزلت سورة على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : ? نَّظَرَ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ ? ، أي : تلفّتوا ، ? هَلْ يَرَاكُم مِّنْ أَحَدٍ ثُمَّ انصَرَفُواْ ? أي : تولوّا عن الحق وانصرفوا عنه ، وهذا حالهم في الدنيا لا يثبتون عند الحق ، ولا يقبلونه ، ولا يفهمونه .
قوله عز وجل : ? لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (128) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129) ? .
عن جعفر بن محمد [ عن أبيه ] في قوله : ? لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ? ، قال : لم يصبه شيء من ولادة الجاهلية . قال : وقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إني خرجت من نكاح ، ولم أخرج من سفاح » . وقال قتادة : جعله الله من أنفسهم ولا يحسدونه . وعن ابن عباس في قوله :? عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ ? قال : ما ضللتم . وقال القتيبي : ما أعنتكم وضرّكم . وعن قتادة :? حَرِيصٌ عَلَيْكُم ? حريص على ضالّهم أن يهديه الله . وقال أبيّ بن كعب : أحدث القرآن عهدًا بالله الآيتان ، ? لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ ? إلى آخر السورة . وقال أبو الدرداء : ( من قال إذا أصبح وإذا أمسى : حسبي الله لا إله إلا هو عليه توكلت وهو رب العرش العظيم سبع مرات إلا كفاه الله ما أهمّه ) . والله أعلم .
* * *
الدرس الثالث والعشرون بعد المائة
[ سورة يونس عليه السلام ]
مكية ، وهي مائة وتسع آيات
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ(5/404)
? آلر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ (2) إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10)(5/405)
وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (12) وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? آلر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ (1) أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ قَالَ الْكَافِرُونَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ مُّبِينٌ (2) ? .(5/406)
قال ابن كثير : ? تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْحَكِيمِ ? ، أي : هذه آيات القرآن المحكم المبين . وعن ابن عباس قال : لما بعث الله محمدًا رسولاً أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد ، فأنزل الله تعالى : ? أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ ? وقال : ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً ? . ? وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِندَ رَبِّهِمْ ? ، يقول : أجرًا حسنًا بما قدّموا من أعمالهم .
قوله عز وجل : ? إِنَّ رَبَّكُمُ اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللّهِ حَقّاً إِنَّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُواْ لَهُمْ شَرَابٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللّهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلاَفِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللّهُ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6) ? .(5/407)
عن مجاهد : ? يُدَبِّرُ الأَمْرَ ? ، قال : يقضيه وحده . ? يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ? ، قال : يحييه ثم يميته ثم يحييه . ? لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ ? ، قال : بالعدل . ? هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاء وَالْقَمَرَ نُوراً وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ ? .
قال ابن كثير : فبالشمس تعرف الأيام ، وبسير القمر تعرف الشهور والأعوام .
قوله عز وجل : ? إَنَّ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا وَرَضُواْ بِالْحَياةِ الدُّنْيَا وَاطْمَأَنُّواْ بِهَا وَالَّذِينَ هُمْ عَنْ آيَاتِنَا غَافِلُونَ (7) أُوْلَئِكَ مَأْوَاهُمُ النُّارُ بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (8) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ تَجْرِي مِن تَحْتِهِمُ الأَنْهَارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (10) ? .
قال قتادة : بلغنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « إن المؤمن إذا خرج من قبره ، صوّر له عمله في صورة حسنة فيقول له : ما أنت ؟ فوا الله إني لأراك امرأ صدق فيقول : أنا عملك ، فيكون له نورًا وقائدًا إلى الجنة ؛ وأما الكافر إذا خرج من قبره ، صوّر له عمله في صورة سيئة وبشارة سيئة فيقول : ما أنت فو الله لأراك امرأ سوء فيقول : أنا عملك ، فينطلق به حتى يدخله النار ».
وعن مجاهد في قول الله : ? يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمَانِهِمْ ? ، قال : يكون لهم نورًا يمشون به .(5/408)
وقوله تعالى : ? دَعْوَاهُمْ ? ، أي : قولهم وكلامهم . ? فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? افتتحوا كلامهم بالتسبيح وختموه بالتحميد . وعن ابن جريج قال : أخبرت أن دعواهم فيها : سبحانك اللهم ، قال : إذا مرّ بهم الطير فيشتهونه قالوا : سبحانك اللهم ، وذلك : ? دَعْوَاهُمْ ? فيأتيهم الملك بما اشتهوا فيسلّم عليهم فيردّون عليه ، فذلك قوله : ? تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ? ، قال : وإذا أكلوا حمدوا الله ربهم ، فذلك قوله : ? وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ? .
قوله عز وجل : ? وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11) وَإِذَا مَسَّ الإِنسَانَ الضُّرُّ دَعَانَا لِجَنبِهِ أَوْ قَاعِداً أَوْ قَآئِماً فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَن لَّمْ يَدْعُنَا إِلَى ضُرٍّ مَّسَّهُ كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (12) ? .
عن مجاهد في قوله : ? وَلَوْ يُعَجِّلُ اللّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجَالَهُم بِالْخَيْرِ ? قال : قول الإنسان إذا غضب لولده وماله ، لا بارك الله فيه ولعنه . وقال ابن زيد في قوله : ? لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ ? ، قال لأهلكناهم .
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِن قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُواْ وَجَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ وَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ كَذَلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِن بَعْدِهِم لِنَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14) ?.(5/409)
قال قتادة : ذكر لنا أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : ( صدق ربنا ، ما جعلنا خلفاء إلا لينظر كيف أعمالنا ، فأروا الله من أعمالكم خيرًا بالليل والنهار والسر والعلانية ) .
قوله عز وجل : ? وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَرْجُونَ لِقَاءنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُل لَّوْ شَاء اللّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلاَ أَدْرَاكُم بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِّن قَبْلِهِ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17) ? .(5/410)
قال ابن كثير : يخبر تعالى عن تعنت الكفار من مشركي قريش ، الجاحدين الحق ، المعرضين عنه ، أنهم إذا قرأ عليهم الرسول - صلى الله عليه وسلم - كتاب الله وحجته الواضحة قالوا له : ? ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا ? ، أي : ردّ هذا وجئنا بغيره من نمط آخر ? أَوْ بَدِّلْهُ ? إلى وضع آخر . قال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ? قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي ? ، أي : ليس هذا إليّ إنما أنا عبد مأمور ، ورسول مبلّغ عن الله : ? إِنْ أَتَّبِعُ إِلا مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ? . ثم قال محتجًّا عليهم في صحة ما جاءهم به : ? قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلا أَدْرَاكُمْ بِهِ ? ، أي : هذا إنما جئتكم به عن إذن الله لي في ذلك ومشيئته وإرادته ، والدليل على أني لست أتقوّله من عندي ولا افتريته ، أنكم عاجزون عن معارضته ، وأنكم تعلمون صدقي وأمانتي منذ نشأت بينكم إلى حين بعثني الله عز وجل ، لا تنتقدون عليّ شيئًا تغمصونني به ، ولهذا قال : ? فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ أَفَلا تَعْقِلُونَ ? . انتهى .(5/411)
وقوله تعالى : ? فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآيَاتِهِ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ ? ، يقول تعالى : لا أحد أظلم ولا أشدّ جرمًا ممن تقولّ على الله وزعم أن الله أرسله وهو كاذب ، كما قال تعالى : ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أَوْ قَالَ أُوْحِيَ إِلَيَّ وَلَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْءٌ وَمَن قَالَ سَأُنزِلُ مِثْلَ مَا أَنَزلَ اللّهُ ? وكذلك لا أحد أظلم ممن كذب بالحق الذي جاءت به الرسل ، كما قال تعالى : ? فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَكَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الرابع والعشرون بعد المائة(5/412)
? وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (20) وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23) إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً(5/413)
أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25) لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ(5/414)
يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُواْ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيمَا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (19) وَيَقُولُونَ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ فَانْتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (20) ? .
ينكر تعالى على المشركين عبادتهم غيره من الأصنام والأوثان ، ? مَا لاَ يَضُرُّهُمْ ? إن تركوا عبادته ? وَلاَ يَنفَعُهُمْ ? إن عبدوه ، ? وَيَقُولُونَ هَؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ ? أتخبرون ? اللّهَ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلاَ فِي الأَرْضِ ? .
قال البغوي : ومعنى الآية أتخبرون الله أن له شريكًا ، وعنده شفيعًا بغير إذنه ، ولا يعلم الله لنفسه شريكًا في السماوات ولا في الأرض ، سبحانه وتعالى عما يشركون . وقال ابن عباس : كان بين آدم ونوح عشرة قرون ، كلهم على الإسلام ، ثم وقع الاختلاف بين الناس ، فبعث لله الرسل مبشرين ومنذرين .(5/415)
وقوله تعالى : ? وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ ? ، أي : بأن جعل لكل أمة أجلاً معينًا ? لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ? عاجلاً فيما فيه يختلفون ، ? وَيَقُولُونَ ? ، أي : مشركوا أهل مكة ? لَوْلاَ ? ، أي : هلا ? أُنزِلَ عَلَيْهِ ? ، أي : على محمد ? آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ? على ما يقترحونه كقولهم : ? لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً ? ونحو ذلك ، ? فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلّهِ ? ، أي : ما تطلبونه غيب ، وهو القادر عليه ، ? فَانْتَظِرُواْ ? قضاء الله بيني وبينكم ، ? إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ ? .
قوله عز وجل : ? وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِّن بَعْدِ ضَرَّاء مَسَّتْهُمْ إِذَا لَهُم مَّكْرٌ فِي آيَاتِنَا قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنَا يَكْتُبُونَ مَا تَمْكُرُونَ (21) هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ حَتَّى إِذَا كُنتُمْ فِي الْفُلْكِ وَجَرَيْنَ بِهِم بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَفَرِحُواْ بِهَا جَاءتْهَا رِيحٌ عَاصِفٌ وَجَاءهُمُ الْمَوْجُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنجَيْتَنَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنِّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنجَاهُمْ إِذَا هُمْ يَبْغُونَ فِي الأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَينَا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (23) ? .
عن مجاهد : إذا لهم مكر في آياتنا قال : استهزاء وتكذيب .
وقال البغوي : ? قُلِ اللّهُ أَسْرَعُ مَكْراً ? ، أي : أعجل عقوبة ، وأشد أخذًا ، وأقدر على الجزاء .(5/416)
وقال ابن كثير : أي : أشد استدراجًا وإمهالاً ، حتى يظن الظان من المجرمين أنه ليس بمعذب ثم يؤخذ على غرة منه . انتهى . وهذا كقوله تعالى : ? فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ ? .
وعن قتادة في قوله : ? دَعَوُاْ اللّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ ? ، قال إذا مسهم الضر في البحر أخلصوا له الدعاء .
وقوله تعالى : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّمَا بَغْيُكُمْ عَلَى أَنفُسِكُم مَّتَاعَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? .
قال البغوي : ومعناه إنما بغيكم متاع الحياة الدنيا لا يصلح زادًا لمعادكم لأنكم تستوجبون به غضب الله . وقرأ حفص متاع : بالنصب . أي : تتمتعون متاع الحياة الدنيا .(5/417)
قوله عز وجل : ? إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَاراً فَجَعَلْنَاهَا حَصِيداً كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24) وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (25) لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (26) وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَّا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِّنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (27) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ ? ، قال : اختلط فنبت بالماء كل لون ، ? مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ ? : كالحنطة ، والشعير وسائر حبوب الأرض ، والبقول ، والثمار ، وما يأكله الأنعام والبهائم من الحشيش والمراعي .
وعن قتادة : قوله : ? حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا ? الآية ، أي : والله لئن تشبث بالدنيا وحدب عليها لتوشك الدنيا أن تلفظه .
وقوله : ? كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ ? .
قال ابن جرير : يقول : كأن لم تكن تلك الزروع والنبات ثابتة قائمة على الأرض قبل ذلك بالأمس .(5/418)
وعن قتادة في قوله : ? وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ ? ، قال : الله هو السلام ، وداره الجنة . وعن أبي الدرداء قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما من يوم طلعت فيه شمسه إلا بجنتيها ملكان يناديان ، يسمعه خلق الله كلهم إلا الثقلين : يا أيها الناس هلمّوا إلى ربكم ، إنّ ما قلّ وكفى خير مما كثر وألهى » . وأنزل ذلك في القرآن في قوله : ? وَاللّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلاَمِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? . رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم . وعن أبي بكر الصديق : ? لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ? ، قال : ( النظر إلى وجه الله تعالى ) . وعن أبيّ بن كعب : أنه سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن قول الله تعالى : ? لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ? ، قال : « الحسنى : الجنة ، والزيادة النظر إلى وجه الله » . رواه ابن جرير ، وابن أبي حاتم . وعن ابن عباس قوله : ? وَلاَ يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلاَ ذِلَّةٌ ? ، قال : سواد الوجوه .
وقوله تعالى : ? وَالَّذِينَ كَسَبُواْ السَّيِّئَاتِ جَزَاء سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا ? ، كقوله تعالى : ? مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ? . وعن ابن عباس : قوله : ? وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ? ، قال : تغشاهم ذلّة وشدة .(5/419)
قوله عز وجل : ? وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَآؤُهُم مَّا كُنتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ (29) هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (30) قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللّهُ فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ (31) فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (33) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنّاً إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ (36) ? .(5/420)
قال البغوي : ( قوله تعالى : ? وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُواْ مَكَانَكُمْ ? ، أي : الزموا مكانكم ، ? أَنتُمْ وَشُرَكَآؤُكُمْ ? ، يعني : الأوثان ، معناه : ثم نقول للذين أشركوا : الزموا أنتم وشركاؤكم مكانكم ولا تبرحوا . ? فَزَيَّلْنَا ? : ميزنا وفرقنا بينهم . أي : بين المشركين وشركائهم ، وقطعنا ما كان بينهم من التواصل في الدنيا ، وذلك حين يتبرّأ كل معبود من دون الله ممن عبده ) . انتهى .
وقال مجاهد : ?إِن كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ? ، قال : يقول : ذلك كل شيء كان يعبد من دون الله .
قلت : وهذا كقوله تعالى : ? وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّن يَدْعُو مِن دُونِ اللَّهِ مَن لَّا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَومِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَن دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاء وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ? ، وكقوله تعالى : ? وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلَائِكَةِ أَهَؤُلَاء إِيَّاكُمْ كَانُوا يَعْبُدُونَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ أَنتَ وَلِيُّنَا مِن دُونِهِم بَلْ كَانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُم بِهِم مُّؤْمِنُونَ ? .
وعن مجاهد : ? هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَّا أَسْلَفَتْ ? ، قال : تختبر . وقال ابن زيد في قوله : ? وَرُدُّواْ إِلَى اللّهِ مَوْلاَهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ? ، قال : ما كانوا يدعون معه من الأنداد والآلهة .(5/421)
وقال البغوي : ( قوله تعالى : ? قُلْ مَن يَرْزُقُكُم مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ ? ، أي : من السماء بالمطر ، ومن الأرض بالنبات ، ? أَمَّن يَمْلِكُ السَّمْعَ والأَبْصَارَ ? ، أي : من أعطاكم السمع والأبصار ، ? وَمَن يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيَّتَ مِنَ الْحَيِّ ? يخرج الحيّ من النطفة والنطفة من الحيّ ? وَمَن يُدَبِّرُ الأَمْرَ ? ، أي : يقضي الأمر ، ? فَسَيَقُولُونَ اللّهُ ? هو الذي يفعل هذه الأشياء ، ? فَقُلْ أَفَلاَ تَتَّقُونَ ? أفلا تخافون عقابه في شرككم ؟ ? فَذَلِكُمُ اللّهُ رَبُّكُمُ ? الذي يفعل هذه الأشياء هو ? رَبُّكُمُ الْحَقُّ ? ، ? فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلاَلُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ? ، أي : فأين تصرفون عن عبادته وأنتم مقرّون به ? كَذَلِكَ ? ؟ قال الكلبي : هكذا ? حَقَّتْ ? وجبت ، ? كَلِمَتُ رَبِّكَ ? حكمه السابق ? عَلَى الَّذِينَ فَسَقُواْ ? كفروا ، ? أَنَّهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ ? . ? قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم ? أوثانكم ، ? مَّن يَبْدَأُ الْخَلْقَ ? ينشئ الخلق من غير أصل ولا مثال ، ? ثُمَّ يُعِيدُهُ ? ثم يحييه من بعد الموت كهيئته ؟ فإن أجابوك ، وإلا فقل أنت : ? اللّهُ يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ ? ، أي : تصرفون عن قصد السبيل ؟ ? قُلْ هَلْ مِن شُرَكَآئِكُم مَّن يَهْدِي ? يرشد إلى الحق ؟ فإذا قالوا : لا ، ولا بدّ لهم من ذلك ، ? قُلِ اللّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ ? ، أي : إلى الحق ، ? أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لاَّ يَهِدِّيَ إِلاَّ أَن يُهْدَى ? معنى الآية : الله الذي يهدي إلى الحق أحق بالاتباع أم الصنم الذي لا يهدي ? إِلاَّ أَن يُهْدَى ? ، أي : لا ينتقل من مكان إلى مكان إلا أن يحمل ) . انتهى ملخصًا .(5/422)
قال ابن كثير : وقوله : ? فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ ? ، أي : فما بالكم ؟ أين يُذهب بعقولكم ؟ كيف سوّيتم بين الله وبين خلقه ، وعدلتم هذا بهذا ، وعبدتم هذا وهذا ؟ وهلاّ أفردتم الربّ جل جلاله ، المالك الحاكم الهادي من الضلالة ، بالعبادة وحده وأخلصتم له الدعوة والإنابة ؟ ثم بيّن تعالى أنهم لا يتبعون في دينهم هذا دليلاً ولا برهانًا ، وإنما هو ظن منهم ، أي : توّهم وتخيّل ، وذلك لا يغني عنهم شيئًا ، ? إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُونَ ? . تهديد لهم ووعيد شديد لأنه تعالى أخبر أنه سيجازيهم على ذلك أتم الجزاء . والله أعلم .
* * *
الدرس الخامس والعشرون بعد المائة(5/423)
? وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ (42) وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ(5/424)
أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) ? .
* * *(5/425)
قوله عز وجل : ? وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39) وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ (42) وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44) ? .
قال الفراء : قوله تعالى : ? وَمَا كَانَ هَذَا الْقُرْآنُ أَن يُفْتَرَى مِن دُونِ اللّهِ ? معناه : وما ينبغي لمثل هذا القرآن أن يفترى من دون الله ، كقوله تعالى : ? وَمَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَغُلَّ ? .
وقوله تعالى : ? وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ? ، أي : من التوراة والإنجيل ، ? وَتَفْصِيلَ الْكِتَابِ ? تبيين ما في القرآن من الحلال ، والحرام ، والأحكام ? لاَ رَيْبَ فِيهِ مِن رَّبِّ الْعَالَمِينَ ? .(5/426)
? أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ? ، أي : اختلق محمد القرآن من قبل نفسه ? قُلْ فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّثْلِهِ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ ? ليعينوكم على ذلك ? إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ ? أن محمدًا افترأه ? بَلْ كَذَّبُواْ بِمَا لَمْ يُحِيطُواْ بِعِلْمِهِ ? ، يعني : لما رأوا القرآن مشتملاً على أمور ما عرفوا حقيقتها ، سارعوا بجهلهم إلى التكذيب ? وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ ? ، أي : عاقبة ما وعد الله في القرآن ? كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ ? آخر أمرهم بالهلاك .
? وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ ? أي : من قومك من يؤمن بالقرآن ، ? وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ ? لعلم الله السابق فيهم إنهم لا يؤمنون ، ? وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ ? .
? وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي ? وجزاؤه ? وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ ? وجزاؤه ? أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ? .
? وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ? بأسماعهم الظاهرة فلا ينفعهم ، ? أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يَعْقِلُونَ ? ؟ فإن الأصم العاقل ربما يتفرّس . ? وَمِنهُم مَّن يَنظُرُ إِلَيْكَ ? ويعاينون أدلّة صدقك لكن لا يصدّقون ، ? أَفَأَنتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَلَوْ كَانُواْ لاَ يُبْصِرُونَ ? ؟ أي : أفتطمع أنك تقدر على فاقد البصر والبصيرة ؟ فإن العمى مع الحمق جهد البلاء ، ? إِنَّ اللّهَ لاَ يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلَكِنَّ النَّاسَ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ? بالكفر والمعاصي .(5/427)
قوله عز وجل : ? وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِلِقَاء اللّهِ وَمَا كَانُواْ مُهْتَدِينَ (45) وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ (46) وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (47) وَيَقُولُونَ مَتَى هَذَا الْوَعْدُ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (48) قُل لاَّ أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرّاً وَلاَ نَفْعاً إِلاَّ مَا شَاء اللّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذَا جَاء أَجَلُهُمْ فَلاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُهُ بَيَاتاً أَوْ نَهَاراً مَّاذَا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُواْ ذُوقُواْ عَذَابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ (52) وَيَسْتَنبِئُونَكَ أَحَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَرَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَمَا أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) ? .
قوله تعالى : ? وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَن لَّمْ يَلْبَثُواْ ? ، أي : في الدنيا ، ? إِلاَّ سَاعَةً مِّنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ ? كمعرفتهم في الدنيا .(5/428)
وعن مجاهد : ? وَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ? من العذاب في حياتك ? أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللّهُ شَهِيدٌ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ ? ، ? وَلِكُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولٌ فَإِذَا جَاء رَسُولُهُمْ ? قال: يوم القيامة ? قُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ? قال: بالعدل ? وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ? كما قال تعالى : ? وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاء ? .
وقوله تعالى:? أَثُمَّ إِذَا مَا وَقَعَ آمَنْتُم بِهِ آلآنَ وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ?؟.
قال البغوي : فيه إضمار ، أي : يقال لكم : الآن تؤمنون حين وقع العذاب ? وَقَدْ كُنتُم بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ ? تكذيبًا واستهزاء .
قوله عز وجل : ? وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ مَا فِي الأَرْضِ لاَفْتَدَتْ بِهِ وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56) ? .
قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره : ? وَلَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ? كفرت بالله وظلمها في هذا الموضع عبادتها غير من يستحق عبادة ، وتركها طاعة من يجب عليها طاعته ، ? مَا فِي الأَرْضِ ? من قليل أو كثير ، ? لاَفْتَدَتْ بِهِ ? يقول : لافتدت بذلك كله من عذاب الله إذا عاينته .
وقوله : ? وَأَسَرُّواْ النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُاْ الْعَذَابَ ? ، يقول : وأخفت رؤساء هؤلاء المشركين من وضعائهم وسفلتهم الندامة ، حين أبصروا عذاب الله قد أحاط بهم ، وأيقنوا أنه واقع بهم .
وقوله تعالى : ? وَقُضِيَ بَيْنَهُم بِالْقِسْطِ ? ، أي : بالعدل ، ? وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ? .(5/429)
? أَلا إِنَّ لِلّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَلاَ إِنَّ وَعْدَ اللّهِ حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ * هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ ? .
قال ابن كثير : يخبر الله تعالى إنه مالك السماوات والأرض فإنه وعده حق كائن لا محالة ، وأنه يحيي الموتى وإليه مرجعهم ، وأنه تعالى القادر على ذلك ، العليم بما تفرّق من الأجساد ، وتمزق في سائر أقطار الأرض والبحار والقفار . والله أعلم .
* * *
الدرس السادس والعشرون بعد المائة(5/430)
? يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ (60) وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا(5/431)
فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (58) قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ (60) ? .
عن أبي سعيد الخدري في قول الله : ? قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ ? ، قال : ? بِفَضْلِ اللّهِ ? القرآن ، ? وَبِرَحْمَتِهِ ? أن جعلكم من أهله . وعن هلال بن يساف ، ? قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ ? ، قال : بالإسلام والقرآن ، ? فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ? من الذهب والفضة .
وعن ابن عباس في قوله : ? قُلْ أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً ? قال : إن أهل الجاهلية كانوا يحرّمون أشياء أحلّها الله ، وهو قول الله : ? أَرَأَيْتُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ لَكُم مِّن رِّزْقٍ فَجَعَلْتُم مِّنْهُ حَرَاماً وَحَلاَلاً ? ، قال : الحرث ، والأنعام . وقال مجاهد : البحائر والسيّب .(5/432)
? قُلْ آللّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللّهِ تَفْتَرُونَ * وَمَا ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ? .
قال البغوي : أيحسبون أن الله لا يؤاخذهم به ولا يعاقبهم عليه ؟
? إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لاَ يَشْكُرُونَ ? .
قال ابن كثير : بل يحرّمون ما أنعم الله به عليهم ويضيّقون على أنفسهم ، فيجعلون بعضًا حلالاً وبعضًا حرامًا .
وقال ابن جرير يقول : ولكن أكثر الناس لا يشكرونه على تفضله عليهم بذلك وبغيره من سائر نعمه .
قوله عز وجل : ? وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِن قُرْآنٍ وَلاَ تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ مِن مِّثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء وَلاَ أَصْغَرَ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (61) أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64)? .
قال ابن عباس في قوله : ? إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ ? يقول : إذ تفعلون . ? وَمَا يَعْزُبُ عَن رَّبِّكَ ? ، يقول : ما يغيب عنه ، ? مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَلَا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلَا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ ? .(5/433)
قال البغوي : وهو اللوح المحفوظ . وعن ابن عباس : ? أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ? ، قال : ( اللذين يُذْكَر الله لرؤيتهم ) . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن من عباد الله عبادًا يغبطهم الأنبياء والشهداء ، قيل : من هم يا رسول الله فلعلّنا نحبّهم ؟ قال : هم قوم تحابّوا في الله من غير أموال ولا أنساب وجوههم من نور على منابر من نور ، لا يخافون إذا خاف الناس ، ولا يحزنون إذا حزن الناس - وقرأ - : ? أَلا إِنَّ أَوْلِيَاء اللّهِ لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ ? » . رواه ابن جرير .
وقوله تعالى : ? الَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ ? ، أي : يتقون الله بأداء فرائضه واجتناب معاصيه . قال ابن زيد . أبى أن يُتَقَبّل الإيمان إلا بالتقوى . وعن أبي الدرداء قال : ( سألت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن هذه الآية : ? لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَياةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ? ، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « الرؤيا الصالحة يراها المؤمن أو تُرى له » . رواه أحمد وغيره . وفي رواية أخرى : « وبشراه في الآخرة الجنة » . وقوله تعالى : ? لاَ تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللّهِ ? ، أي : لا تغيير لقوله ولا خلف لوعده ، ? ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ? .(5/434)
قوله عز وجل : ? وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65) أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66) هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُواْ فِيهِ وَالنَّهَارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67) قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (69) مَتَاعٌ فِي الدُّنْيَا ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ (70) ? .
قوله تعالى : ? وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ ? ، يعني : قول المشركين ، واستعن بالله عليهم ، ? فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلّهِ جَمِيعاً ? كما قال تعالى : ? وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ ? .
وقوله تعالى : ? أَلا إِنَّ لِلّهِ مَن فِي السَّمَاوَات وَمَن فِي الأَرْضِ وَمَا يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ شُرَكَاء ? ، أي : ما يتبعون شركاء على الحقيقة وإن كانوا يسمونهم شركاء ، ? إِن يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ ? ، أي : يظنّون أنهم يقرّبونهم إلى الله زلفًا ، ? وَإِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ ? يكذبون .(5/435)
وقوله تعالى : ? قَالُواْ اتَّخَذَ اللّهُ وَلَداً سُبْحَانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَات وَمَا فِي الأَرْضِ إِنْ عِندَكُم مِّن سُلْطَانٍ بِهَذَا ? ، أي : ليس عندكم دليل على ما تقولونه من الكذب والبهتان ، ? أَتقُولُونَ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ * مَتَاعٌ ? قليل يتمتعون به في الدنيا إلى انقضاء آجالهم ، ? ثُمَّ إِلَيْنَا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذَابَ الشَّدِيدَ بِمَا كَانُواْ يَكْفُرُونَ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس السابع والعشرون بعد المائة(5/436)
? وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ (71) فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ (74) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ(5/437)
بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84) فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (89) وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) ? .
* * *(5/438)
قوله عز وجل : ? وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ (71) فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَمَا سَأَلْتُكُم مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)? .
يقول تعالى : ? وَاتْلُ ? يا محمد ? عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ ? ، أي : خَبَرَه مع قومه ? إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ ? ، أي : عظم وثقل ، ? عَلَيْكُم مَّقَامِي ? مكثي فيكم وطول عمري ، ? وَتَذْكِيرِي ? ووعظي ، ? بِآيَاتِ اللّهِ ? فعزمتم على قتلي وطردي ? فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ ? ، أي : أحكموا أمركم واعزموا عليه ، ? وَشُرَكَاءكُمْ ? ، أي : وادعوا شركاؤكم . أي : آلهتكم التي تدعون من دون الله فاستعينوا بها معكم ، فإنها لا تضر ولا تنفع ، ? ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ? ، أي : خفيًّا مبهمًا ، ? ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ ? أي : مهمًا قدرتم فافعلوا ، فإني واثق بنصر الله .(5/439)
? فَإِن تَوَلَّيْتُمْ ? أعرضتم عن قولي ولم تقبلوا نصحي ، ? فَمَا سَأَلْتُكُم ? على تبليغ الرسالة والدعوة ، ? مِّنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ? أي :وأنا ممتثل ما أمرت به من الإسلام لله عز وجل .
? فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ فِي الْفُلْكِ وَجَعَلْنَاهُمْ خَلاَئِفَ ? ، أي : جعلنا الذين معه سكان الأرض خلفًا عن الهالكين ? وَأَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ ? . ? ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِ رُسُلاً إِلَى قَوْمِهِمْ فَجَآؤُوهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانُواْ لِيُؤْمِنُواْ بِمَا كَذَّبُواْ بِهِ مِن قَبْلُ ? ، أي : بسبب تكذيبهم إياهم أول ما أرسلوا إليهم ? كَذَلِكَ نَطْبَعُ عَلَى قُلوبِ الْمُعْتَدِينَ ? ، كما قال تعالى : ? وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ ? .(5/440)
قوله عز وجل : ? ثُمَّ بَعَثْنَا مِن بَعْدِهِم مُّوسَى وَهَارُونَ إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ بِآيَاتِنَا فَاسْتَكْبَرُواْ وَكَانُواْ قَوْماً مُّجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِندِنَا قَالُواْ إِنَّ هَذَا لَسِحْرٌ مُّبِينٌ (76) قَالَ مُوسَى أَتقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءكُمْ أَسِحْرٌ هَذَا وَلاَ يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قَالُواْ أَجِئْتَنَا لِتَلْفِتَنَا عَمَّا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءنَا وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ وَمَا نَحْنُ لَكُمَا بِمُؤْمِنِينَ (78) وَقَالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ سَاحِرٍ عَلِيمٍ (79) فَلَمَّا جَاء السَّحَرَةُ قَالَ لَهُم مُّوسَى أَلْقُواْ مَا أَنتُم مُّلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) ? .
وعن مجاهد : ? وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاء فِي الأَرْضِ ? ، قال : السلطان في الأرض .(5/441)
وقوله تعالى : ? قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ ? ، أي : الذي جئتم به السحر ، ? إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ ? وفي بعض الآثار : أن هؤلاء الآيات شفاء من السحر بإذن الله تعالى ، تقرأ في إناء فيه ماء ثم يصبّ على رأس المسحور . ? فَلَمَّا أَلْقَواْ قَالَ مُوسَى مَا جِئْتُم بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللّهَ لاَ يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ * وَيُحِقُّ اللّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ? ، وقوله في السورة الأخرى : ? فَوَقَعَ الْحَقُّ وَبَطَلَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ * فَغُلِبُواْ هُنَالِكَ وَانقَلَبُواْ صَاغِرِينَ * وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ * قَالُواْ آمَنَّا بِرِبِّ الْعَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ ? . وقوله تعالى : ? إِنَّمَا صَنَعُوا كَيْدُ سَاحِرٍ وَلَا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتَى ? .
قوله عز وجل : ? فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ وَإِنَّ فِرْعَوْنَ لَعَالٍ فِي الأَرْضِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَقَالَ مُوسَى يَا قَوْمِ إِن كُنتُمْ آمَنتُم بِاللّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُواْ إِن كُنتُم مُّسْلِمِينَ (84) فَقَالُواْ عَلَى اللّهِ تَوَكَّلْنَا رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَنَجِّنَا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ (86) وَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى وَأَخِيهِ أَن تَبَوَّءَا لِقَوْمِكُمَا بِمِصْرَ بُيُوتاً وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) ? .(5/442)
وَيُحِقُّ اللّهُ عن ابن عباس : ? فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ عَلَى خَوْفٍ مِّن فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِمْ أَن يَفْتِنَهُمْ ? . قال : كان الذرية التي آمنت لموسى من أناس غير بني إسرائيل ، من قوم فرعون يسير ، منهم امرأة فرعون ، ومؤمن آل فرعون ، وخازن فرعون ، وامرأة خازنه .
وعن مجاهد في قوله تعالى : ? فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِّن قَوْمِهِ ? ، قال : أولاد الذين أرسل إليهم موسى من طول الزمان ومات آباؤهم .
وعن أبي مجلز في قوله : ? رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ ? ، قال : لا يظهروا علينا فيروا أنهم خير منا ، وقال مجاهد : لا تسلطهم علينا فيفتنونا .
وعن ابن عباس : ? وَاجْعَلُواْ بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً ? ، قال : مساجد ، وقال : كانوا خائفين فأمروا أن يصلّوا في بيوتهم . وقال مجاهد : كانوا لا يصلّون إلا في البِيَع وكانوا لا يصلّون إلا خائفين ، فأمروا أن يصلّوا في بيوتهم .
قوله عز وجل : ? وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (88) قَالَ قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا فَاسْتَقِيمَا وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ (89) ? .
قال ابن جرير في قوله : ? رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ ? ، يقول موسى لربه : ربنا أعطيتهم ما أعطيتهم من ذلك ، ? لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ ? ! وعن مجاهد : ? رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ ? ، قال : أهلكها . وقال ابن عباس : بلغنا أن الدراهم والدنانير صارت حجارة منقوشة كهيئتها صحاحًا وأنصافًا وأثلاثًا .(5/443)
وعن مجاهد : ? وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ ? بالضلالة ، ? فَلاَ يُؤْمِنُواْ ? بالله فيما يرون من الآيات ، ? حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ ? . قال ابن عباس : واستجاب الله له وحال بين فرعون وبين الإيمان ، حتى أدركه الغرق فلم ينفعه الإيمان .
وعن أبي صالح قال : ? قَدْ أُجِيبَت دَّعْوَتُكُمَا ? ، قال : دعا موسى وأمّن هارون . قال ابن عباس : ? فَاسْتَقِيمَا ? فامضيا لأمري وهي الاستقامة ، ? وَلاَ تَتَّبِعَآنِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ ? ، قال ابن جريج : يقولون : إن فرعون مكث بعد هذه الآية أربعين سنة .
قوله عز وجل : ? وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ (92) ? .(5/444)
قال عبد الله بن شداد : ( اجتمع يعقوب وبنوه إلى يوسف ، وهم اثنان وسبعون ، وخرجوا مع موسى من مصر حين خرجوا وهم ستمائة ألف ، فلما أدركهم فرعون فرأوه قالوا : يا موسى أين المخرج ؟ فقد أدركنا ، قد كنا نلقى من فرعون البلاء ؛ أوحى الله إلى موسى : ? أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ ? ويبس لهم البحر ، وكشف الله عن وجه الأرض ، وخرج فرعون على فرس حصان أدهم ، وكانت تحت جبريل عليه السلام فرس وديق ، وميكائيل يسوقهم ، لا يشذّ رجل منهم إلا ضمه إلى الناس ، فلما خرج آخر بني إسرائيل دنا منه جبريل ولصق به ، فوجد الحصان ريح الأنثى ، فلم يملك فرعون من أمره شيئًا وقال : أقدموا فليس القوم أحق بالبحر منكم ، ثم أتبعهم فرعون حتى إذا همّ أوّلُهم أن يخرجوا ارتطم ونادى فيها : ? آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ? ونودي : ? آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ ? ؟ .
وعن ابن عباس قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لما قال فرعون : آمنت أنه لا إله إلا الذي آمن به بنو إسرائيل ، قال : قال لي جبريل : لو رأيتني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه ، مخافة أن تناله الرحمة » . رواه أحمد وغير ، وعن قيس بن عباد وغيره قال : قالت بنو إسرائيل لموسى : إنه لم يمت فرعون ، قال : فأخرجه الله إليهم ينظرون إليه مثل الثور الأحمر . وقال قتادة : لما أغرق الله فرعون لم تصدق طائفة من الناس بذلك ، فأخرجه الله آية وعظة . والله أعلم .
* * *
الدرس الثامن والعشرون بعد المائة(5/445)
? وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97) فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي(5/446)
يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) ? .
* * *(5/447)
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ بَوَّأْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93) فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ لَقَدْ جَاءكَ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (94) وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِ اللّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخَاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ (96) وَلَوْ جَاءتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ (97) فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُواْ كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الخِزْيِ فِي الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ (98) ? .
عن الضحاك : ? مُبَوَّأَ صِدْقٍ ? قال : منازل صدق : مصر ، والشام . وقال قتادة : بوّأهم الله الشام وبيت المقدس .(5/448)
قال ابن كثير : وقوله : ? فَمَا اخْتَلَفُواْ حَتَّى جَاءهُمُ الْعِلْمُ ? ، أي : ما اختلفوا في شيء من المسائل إلا من بعد ما جاءهم العلم ، أي : ولم يكن لهم أن يختلفوا وقد بيّن الله لهم وأزال عنهم اللبس وقد ورد في الحديث : « أن اليهود اختلفوا على إحدى وسبعين فرقة ، وإن النصارى اختلفوا على اثنتين وسبعين فرقة ، وستفترق هذه الأمة على ثلاثة وسبعين فرقة ، منها واحدة في الجنة وثنتان وسبعون في النار » ، قيل : من هم يا رسول الله ؟ قال : « ما أنا عليه وأصحابي » . رواه الحاكم في مستدركه بهذا اللفظ ، وهو في السنن والمسانيد ؛ ولهذا قال الله تعالى : ? إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ ? .
وقال الضحاك في قوله تعالى : ? فَإِن كُنتَ فِي شَكٍّ مِّمَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ فَاسْأَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُونَ الْكِتَابَ مِن قَبْلِكَ ? ، يعني : أهل التقوى وأهل اليمان من أهل الكتاب ممن أدرك النبي - صلى الله عليه وسلم - . وقال قتادة : بلغنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا أشكّ ولا أسأل » .
قال ابن كثير : وهذا فيه تثبيت للأمة وإعلام لهم أن صفة نبيهم - صلى الله عليه وسلم - موجودة في الكتب المتقدمة .
وعن مجاهد في قوله : ? إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ ? قال : حقّ عليهم سخط الله بما عصوه .(5/449)
وعن ابن عباس : قوله : ? فَلَوْلاَ كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا ? ، يقول : لم تكن قرية آمنت ينفعها الإيمان إذا نزل بها بأس الله إلا قرية يونس . وعن سعيد بن جبير قال : لما أرسل يونس إلى قومه يدعوهم إلى الإسلام وترك ما هم عليه ، قال : فدعاهم فأبوا ، فقيل له : أخبرهم أن العذاب مصبّحهم فقالوا : إنا لم نجرب عليه كذبًا ، فانظروا فإن بات فيكم فليس بشيء ، وإن لم يبت فاعلموا أن العذاب مصبّحكم . فلما كان في جوف الليل أخذ مخلاته فتزوّد فيها شيئًا ثم خرج ، فلما أصبحوا تغشّاهم العذاب كما يتغشّى الإنسان الثوب في القبر ، ففرقوا بين الإنسان وولده ، وبين البهيمة وولدها ، ثم عجّوا إلى الله فقالوا : آمنا بما جاء به يونس وصدّقنا ، فكشف الله عنهم العذاب ، فخرج يونس ينظر العذاب فلم ير شيئًا . قال جربّوا عليّ كذبًا ، فذهب مغاضبًا لربه حتى أتى البحر .
قوله عز وجل : ? وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ (99) وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ (100) قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُواْ كَذَلِكَ حَقّاً عَلَيْنَا نُنجِ الْمُؤْمِنِينَ (103) ? .(5/450)
عن ابن عباس : قوله : ? وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً ? . ? وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ? ونحو هذا في القرآن ، فإن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يحرص أن يؤمن جميع الناس ويتابعوه على الهدى ، فأخبره أنه لا يؤمن من قومه إلا من قد سبق له من الله السعادة في الذكر الأول ، ولا يضل إلا من سبق له من الله الشقاوة في الذكر الأول .
وعن قتادة : قوله : ? فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ ? يقول : وقائع الله في الذين خلو من قبلهم : قوم نوح ، وعاد ، وثمود . وقال الربيع : خوّفهم عذابه ونقمته وعقوبته .
قوله عز وجل : ? قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي شَكٍّ مِّن دِينِي فَلاَ أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ وَلَكِنْ أَعْبُدُ اللّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَأَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَلاَ تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ (106) وَإِن يَمْسَسْكَ اللّهُ بِضُرٍّ فَلاَ كَاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَإِن يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلاَ رَآدَّ لِفَضْلِهِ يُصَيبُ بِهِ مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَهُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107) قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءكُمُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ (108) وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (109) ? .(5/451)
قال ابن جرير في تفسير قوله تعالى : ? وَلاَ تَدْعُ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَنفَعُكَ وَلاَ يَضُرُّكَ فَإِن فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ ? ، يقول تعالى ذكره : ولا تدع يا محمد من دون معبودك وخالقك شيئًا لا ينفعك في الدنيا ولا في الآخرة ، ولا يضرك في دين ولا دنيا ، يعني : الآلهة والأصنام يقول : لا تعبدها راجيًا نفعها وخائفًا ضرها ، فإنها لا تنفع ولا تضر ، فإن فعلت ذلك فدعوتها من دون الله ، ? فَإِنَّكَ إِذاً مِّنَ الظَّالِمِينَ ? ، يقول : من المشركين بالله الظالم لنفسه .
وقال ابن كثير : ? وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ ? ، أي : وما أنا موكل بكم حتى تكونوا مؤمنين به ، وإنما أنا نذير لكم ، والهداية على الله تعالى .
وقوله : ? وَاتَّبِعْ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَاصْبِرْ ? ، أي : تمسك بما أنزل الله عليك وأوحاه إليك ، ? وَاصْبِرْ ? على مخالفة من خالفك من الناس ، ? حَتَّىَ يَحْكُمَ اللّهُ ? ، أي : يفتح بينك وبينهم ? وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ ? أي : خير الفاتحين بعدله وحكمته . والله أعلم .
* * *
الدرس التاسع والعشرون بعد المائة
[ سورة هود ]
مكية ، وهي مائة وثلاث وعشون آية
عن ابن عباس رضي الله عنهما قال : قال أبو بكر : يا رسول الله قد شبت ! قال : « شيّبتني هود ، والواقعة ، والمرسلات ، وعم يتساءلون ، وإذا الشمس كورت » . رواه الترمذي . وفي رواية : « شيبتني هود وأخواتها » .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ(5/452)
? آلَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا(5/453)
يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (14) مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (17) وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ (20) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ(5/454)
أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (21) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (24) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? آلَر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِن لَّدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنَّنِي لَكُم مِّنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ (2) وَأَنِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللّهِ مَرْجِعُكُمْ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (4) أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (5) ? .
عن الحسن في قوله : ? كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ ? قال : أحكمت بالأمر والنّهي ، وفصّلت بالثواب والعقاب . وقال قتادة : أحكمها الله من الباطل ، ثم فصلّها بعلمه فبيّن حلاله وحرامه ، وطاعته ، ومعصيته .
وعن مجاهد : ? يُمَتِّعْكُم مَّتَاعاً حَسَناً إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ? ، قال : الموت ? وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ ? ، قال : ما احتسب به من ماله ، أو عمل بيده ، أو رجله ، أو كَلِمه ، أو ما تطوع به من أمره كله .(5/455)
وقوله تعالى :? أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ ? . قال مجاهد : يثنون صدورهم شكًّا وامتراءً في الحق ? لِيَسْتَخْفُواْ ? من الله إن استطاعوا . وعن ابن عباس : ? أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ ? ، يقول : يكتمون ما في قلوبهم ? أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ يَعْلَمُ ? ما عملوا بالليل والنهار . وعن الحسن في قوله : ? أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُواْ مِنْهُ ? ، قال : من جهالتهم به ؛ قال الله : ? أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيَابَهُمْ ? في ظلمة الليل في أجواف بيوتهم ، يعلم تلك الساعة ، ? مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ ? .
قوله عز وجل : ? وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُّبِينٍ (6) وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَلَئِن قُلْتَ إِنَّكُم مَّبْعُوثُونَ مِن بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ إِنْ هَذَا إِلاَّ سِحْرٌ مُّبِينٌ (7) وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (8) وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ (9) وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ (11) ? .(5/456)
عن ابن عباس : ? وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللّهِ رِزْقُهَا ? قال : كل دابة . قال الضحاك : والناس منهم . وقال ابن عباس : ويعلم مستقرها حيث تأوي ، ? وَمُسْتَوْدَعَهَا ? حيث تموت . وقال مجاهد : ? مُسْتَقَرَّهَا ? : في الرحم ، ? وَمُسْتَوْدَعَهَا ? : في الصلب .
وقوله تعالى : ? وَهُوَ الَّذِي خَلَق السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ? ، قال قتادة : ينبئكم ربكم تبارك وتعالى كيف كان بدأ خلقه قبل أن يخلق السماوات والأرض . وعن أبي رزين العقيلي قال : قلت : يا رسول الله أين كان ربنا قبل أن يخلق السماوات والأرض ؟ قال : « كان في عماء ما فوقه هواء وما تحته هواء ، ثم خلق عرشه على الماء » . رواه ابن جرير وغيره . وعن عمران بن حصين قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « اقبلوا البشرى يا بني تميم » ، قالوا قد بشّرتنا فأعطنا ، قال : « اقبلوا البشرى يا أهل اليمن » قالوا : قد قبلنا فأخبرنا عن أول هذا الأمر كيف كان ؟ قال : « كان الله قبل كل شيء ، وكان عرشه على الماء ، وكتب في اللوح المحفوظ ، ذكر كل شيء » . الحديث متفق عليه . وعن سعيد بن جبير قال : سئل ابن عباس عن قوله تعالى : ? وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاء ? على أي شيء كان الماء ؟ قال : ( على متن الريح ) .(5/457)
وقوله تعالى : ? وَلَئِنْ أَخَّرْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِلَى أُمَّةٍ مَّعْدُودَةٍ ? ، قال ابن عباس : إلى أجل محدود ? لَّيَقُولُنَّ مَا يَحْبِسُهُ ? ؟ قال ابن جريج : للتكذيب به . ? أَلاَ يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ * وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ ? ، قال ابن جريج : يا ابن آدم ، إذا كانت بك من نعمة من الله من السعة والأمن والعافية ، فكفور لما بك منها ، وإذا نزعت منك يبتغي لك فراغك ، فيؤوس من روح الله قنوط من رحمته ؟ ! كذلك المرء المنافق والكافر ، ? وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي ? غره بالله وجرّأه عليه ? إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ ? عند البلاء ? وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ ? عند النعمة ? أُوْلَئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ ? لذنوبهم ? وَأَجْرٌ كَبِيرٌ ? قال : الجنة .(5/458)
قوله عز وجل : ? فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ وَضَآئِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّمَا أَنتَ نَذِيرٌ وَاللّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُواْ مَنِ اسْتَطَعْتُم مِّن دُونِ اللّهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ (13) فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ فَاعْلَمُواْ أَنَّمَا أُنزِلِ بِعِلْمِ اللّهِ وَأَن لاَّ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنتُم مُّسْلِمُونَ (14) مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لاَ يُبْخَسُونَ (15) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُواْ فِيهَا وَبَاطِلٌ مَّا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (16) أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ وَمِن قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إَمَاماً وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (17) ? .
قال مجاهد : قال الله لنبيه : ? فَلَعَلَّكَ تَارِكٌ بَعْضَ مَا يُوحَى إِلَيْكَ ? أن تفعل فيه ما أمرت وتدعوا إليه كما أرسلت ، ? أَن يَقُولُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ كَنزٌ ? لا نرى معه مالاً ، أين المال ? أَوْ جَاء مَعَهُ مَلَكٌ ? ينذر معه ، إنما أنت منذر ، فبلّغ ما أمرت .
وعن سعيد بن جبير : ? مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا ? قال : من عمل للدنيا وُفِّيَهُ في الدنيا . وقال مجاهد : هم أهل الرياء ? لاَ يُبْخَسُونَ ? : لا ينقصون .(5/459)
وقوله تعالى : ? أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ ? ، أي : برهانه . وعن ابن عباس : قوله : ? أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ ? ، يعني : محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ، ? عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ? فهو جبريل شاهد من الله بالذي يتلوا من كتاب الله .
وقال ابن كثير : يخبر الله تعالى عن حال المؤمنين الذين هم على فطرة الله التي فطر الله عليها عباده ، من الاعتراف بأنه لا إله إلا هو ، كما قال تعالى : ? فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا ? الآية ، إلى أن قال : وذلك أن المؤمن عنده من الفطرة ما يشهد للشريعة من حيث الجملة ، والتفاصيل تؤخذ من الشريعة والفطرة تصدّقها وتؤمن بها ، ولهذا قال تعالى : ? أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِّنْهُ ? وهو القرآن بلّغه جبريل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - إلى أمته .
وقال البغوي : قيل : في الآية حذف . ومعناه : أفمن كان على بيّنة من ربه كمن يريد الحياة الدنيا وزينتها ، أو كمن هو في الضلالة والجهالة . وعن سعيد بن جبير قال : كنت لا أسمع بحديث عن النبي - صلى الله عليه وسلم - على وجهه إلا وجدت تصديقه في القرآن فبلغني أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي ولا نصراني فلا يؤمن بي إلا دخل النار » . فجعلت أقول أين مصداقه في كتاب الله ؟ حتى وجدت هذه الآية : ? وَمَن يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ ? ، قال : من الملل كلها ، ? فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ?.(5/460)
قوله عز وجل : ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (19) أُولَئِكَ لَمْ يَكُونُواْ مُعْجِزِينَ فِي الأَرْضِ وَمَا كَانَ لَهُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء يُضَاعَفُ لَهُمُ الْعَذَابُ مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ (20) أُوْلَئِكَ الَّذِينَ خَسِرُواْ أَنفُسَهُمْ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (21) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الأَخْسَرُونَ (22) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (24) ? .(5/461)
عن ابن جريج قوله : ? وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللّهِ كَذِباً ? ، قال : الكافر والمنافق ، ? أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ ? فيسألهم عن أعمالهم ? وَيَقُولُ الأَشْهَادُ ? الذين كانوا يحفظون أعمالهم عليهم في الدنيا : ? هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ ? . وقال الضحاك : ? الأَشْهَادُ ? الأنبياء والرسل . وعن ابن عمر قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : « إن الله عز وجل يدني المؤمن ، فيضع عليه كنفه ويستره من الناس ويقرّره بذنوبه ، ويقول له : أتعرف ذنب كذا ؟ أتعرف ذنب كذا ؟ حتى إذا قرّره بذنوبه ورأى في نفسه أنه قد هلك قال : فإني قد سترتها عليك في الدنيا ، وإني أغفرها لك اليوم ، ثم يعطي كتاب حسناته . وأما الكفار والمنافقون فيقول : ? الأَشْهَادُ هَؤُلاء الَّذِينَ كَذَبُواْ عَلَى رَبِّهِمْ أَلاَ لَعْنَةُ اللّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ? ». متفق عليه .
وعن قتادة : قوله : ? مَا كَانُواْ يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَمَا كَانُواْ يُبْصِرُونَ ? صمّ على الحقّ فما يسمعونه ، بكم فما ينطقون به ، عمي فلا يبصرونه ولا ينتفعون به .
وقوله تعالى : ? لاَ جَرَمَ ? .
قال البغوي : حقًا ، وقيل : بلى . وقال الفراء : لا محالة أنهم في الآخرة هم الأخسرون . وقال في القاموس : ? لاَ جَرَمَ ? ، أي : لا بدّ أو حقًّا لا محالة ، أو هذا أصله ثم كثر حتى تحول إلى معنى القسم .
وقوله تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ وَأَخْبَتُواْ إِلَى رَبِّهِمْ أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ? . قال قتادة : الإخبات التخشّع والتواضع .(5/462)
وقال ابن عباس :? مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالأَعْمَى وَالأَصَمِّ وَالْبَصِيرِ وَالسَّمِيعِ ? قال : الأعمى والأصم والكافر ، والبصير والسميع المؤمن . وقال قتادة : هذا مثل ضربه الله للكافر والمؤمن ، فأما الكافر فصمّ عن الحق فلا يسمعه ، وعمي عنه فلا يبصره ، وأما المؤمن فسمع الحق فانتفع به وأبصره ، فوعاه وعمل به ، يقول تعالى : ? هَلْ يَسْتَوِيَانِ مَثَلاً أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الثلاثون بعد المائة(5/463)
? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (30) وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (33) وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ (35) وَأُوحِيَ إِلَى(5/464)
نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (39) حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ(5/465)
إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) ? .
* * *(5/466)
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُّبِينٌ (25) أَن لاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ اللّهَ إِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قِوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلاَّ بَشَراً مِّثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ (27) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ (28) وَيَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالاً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللّهِ وَمَا أَنَاْ بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّهُم مُّلاَقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّيَ أَرَاكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَيَا قَوْمِ مَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِن طَرَدتُّهُمْ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ (30) وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلاَ أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَن يُؤْتِيَهُمُ اللّهُ خَيْراً اللّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَّمِنَ الظَّالِمِينَ (31) قَالُواْ يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتَنِا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُم بِهِ اللّهُ إِن شَاء وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ (33) وَلاَ يَنفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدتُّ أَنْ أَنصَحَ لَكُمْ إِن كَانَ اللّهُ يُرِيدُ أَن يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ (35) ? .(5/467)
عن ابن عباس : قوله : ? وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ ? ، قال : ما ظهر لنا .
وقال ابن جرير : فيما نرى ويظهر لنا .
وعن ابن جريج : قال نوح :? يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّيَ ? قال : قد عرفتها وعرفت بها أمره ، وأنه لا إله إلا الله هو ? وَآتَانِي رَحْمَةً مِّنْ عِندِهِ ? الإسلام والهدى والإيمان والحكم والنبوة . ? فَعُمِّيَتْ ? .
قال البغوي : أي : شبّهت وألبست عليكم ، ? أَنُلْزِمُكُمُوهَا ? ، أي : البيّنة والرحمة ، ? وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ ? لا تريدونها ؟ قال قتادة : لو قدر الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أن يلزموا قومهم لألزموا ، ولكن لم يقدروا .
وعن ابن جريج : قوله : ? وَلاَ أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَآئِنُ اللّهِ ? التي لا يفنيها شيء فأكون إنما أدعوكم لتتبعوني عليها لأعطيكم منها ، ? وَلاَ أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ ? نزلت من السماء برسالة ، ما أنا إلا بشر مثلكم ، ? وَلاَ أَعْلَمُ الْغَيْبَ ? ولا أقول : اتبعوني على علم الغيب .
وقوله تعالى : ? أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ ? ، أي : يقول المشركون : افترى محمد هذا الخبر ، ? قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرَامِي ? ، أي : إثمي ، ? وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تُجْرَمُونَ ? بتكذيبكم هذا القرآن وليس بمفترى .(5/468)
قوله عز وجل : ? وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَفْعَلُونَ (36) وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُواْ إِنَّهُم مُّغْرَقُونَ (37) وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ (39) ? .
عن قتادة : قوله : ? وَأُوحِيَ إِلَى نُوحٍ أَنَّهُ لَن يُؤْمِنَ مِن قَوْمِكَ إِلاَّ مَن قَدْ آمَنَ ? وذلك حين دعا عليهم ، قال ? رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً ? .
قوله : ? فَلاَ تَبْتَئِسْ ? ، يقول : فلا تأس ولا تحزن . وعن ابن عباس : قوله : ? وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ? وذلك أنه لم يعلم كيف صنعة الفلك ، فأوحى الله إليه أن تصنعها على مثل جؤجؤ الطائر . وعن قتادة في قوله : ? بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا ? قال : بعين الله ووحيه . وعن ابن جريج : ? وَلاَ تُخَاطِبْنِي ? قال : يقول : ولا تراجعني ، قال : تقدم أن لا يشفع لهم عنده .(5/469)
وقوله تعالى : ? وَيَصْنَعُ الْفُلْكَ وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُواْ مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُواْ مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ * فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ? عن عائشة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لو رحم الله أحدًا من قوم نوح لرحم أم الصبي » ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « كان نوح مكث في قومه ألف سنة إلا خمسين عامًا يدعوهم إلى الله ، حتى كان آخر زمانه غرس شجرة فعظمت وذهبت كل مذهب ، ثم قطعها ثم جعل يعمل سفينة ، ويمرّون فيسألونه فيقول : أعملها سفينة ، فيسخرون منه ويقولون : يعمل سفينة في البر ! فكيف تجري؟ فيقول : سوف تعلمون ، فلما فرغ منها ، وفار التنور ، وكثر الماء في السكك ،خشيت أم الصبي عليه، وكانت تحبه حبًا شديدًا ، فخرجت إلى الجبل حتى بلغت ثلثه ، فلما بلغها الماء خرجت حتى بلغت ثلثي الجبل ، فلما بلغها الماء خرجت حتى استوت على الجبل ، فلما بلغ الماء رقبتها رفعته بين يديها حتى يذهب بها الماء ، فلو رحم الله منهم أحدًا لرحم أم الصبي » . رواه ابن جرير .(5/470)
قوله عز وجل : ? حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40) وَقَالَ ارْكَبُواْ فِيهَا بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (41) وَهِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبَالِ وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَب مَّعَنَا وَلاَ تَكُن مَّعَ الْكَافِرِينَ (42) قَالَ سَآوِي إِلَى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْمَاء قَالَ لاَ عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِلاَّ مَن رَّحِمَ وَحَالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكَانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43) وَقِيلَ يَا أَرْضُ ابْلَعِي مَاءكِ وَيَا سَمَاء أَقْلِعِي وَغِيضَ الْمَاء وَقُضِيَ الأَمْرُ وَاسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَقِيلَ بُعْداً لِّلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44) ? .
عن ابن عباس : ? حَتَّى إِذَا جَاء أَمْرُنَا وَفَارَ التَّنُّورُ ? ، قال : إذا رأيت تنور أهلك يخرج منه الماء فإنه هلاك قومك . وعن مجاهد :? وَفَارَ التَّنُّورُ ?، قال : انبجس الماء منه ؛ آية أن يركب بأهله ومن معه في السفينة .
قوله : ? مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ? ، قال : ذكر وأنثى من كل صنف . قال الحسن : لم يحمل نوح في السفينة إلا ما يلد ويبيض ، فأما ما يتولد من الطين فلم يحمل منها شيئًا .
وقوله تعالى : ? وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَن سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ ? .
قال البغوي : أي : واحمل أهلك وعيالك إلا من سبق عليه القول بالهلاك يعني : امرأته وأهله وابنه كنعان . ? وَمَنْ آمَنَ ? ، يعني : واحمل من آمن بك كما قال الله تعالى : ? وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ ? ، قال ابن إسحاق : كانوا عشرة سوى نسائهم . وقال ابن عباس : كان في سفينة نوح ثمانون رجلاً .(5/471)
وعن مجاهد : ? بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا ? ، قال : حين يركبون ويجرون ويرسون ، وقال : الجوديّ : جبل بالجزيرة .
قوله عز وجل : ? وَنَادَى نُوحٌ رَّبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابُنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ (45) قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ (46) قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ (47) قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49) ? .
عن ابن عباس قال : ما بغت امرأة نبي قط . قال : وقوله : ? إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ? الذين وعدتهم أن أنجيهم معك ، وقال : هو ابنه غير أنه خالفه في العمل والنية ؛ وسئل عن قول الله تعالى : ? فَخَانَتَاهُمَا ? ، قال : أما أنه إن لم يكن بالزنا ، ولكن كانت هذه تخبر الناس أنه مجنون ، وكانت هذه تدل على الأضياف .
وقوله تعالى : ? إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ? .
قال البغوي : قرأ الكسائي ويعقوب : عَمِلَ . أي : عمل الشرك والتكذيب ، وقرأ الآخرون : عَمَلٌ . معناه : أن سؤالك إياي أن أنجيه عمل غير صالح .(5/472)
وقال في جامع البيان : ? إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ? ، أي : إنه ذو عمل فاسد ولا ولاية بين المؤمنين والكافر ، قيل : ? إِنَّهُ ? ، أي : سؤالك إياي بنجاته عمل فاسد . وعن الضحاك في قوله : ? إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ ? قال : ليس من أهل دينك ، ولا ممن وعدتك أن أنجيه : ? إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ ? ، يقول : كان عمله في شرك . ? فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَن تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ ? .
قال البغوي : يعني : أن تدعوا بهلاك الكفار ثم تسأل نجاة كافر . ? قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُن مِّنَ الْخَاسِرِينَ * قِيلَ يَا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلاَمٍ مِّنَّا وَبَركَاتٍ عَلَيْكَ وَعَلَى أُمَمٍ مِّمَّن مَّعَكَ وَأُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُم مِّنَّا عَذَابٌ أَلِيمٌ ? . قال محمد بن كعب دخل في ذلك السلام : كل مؤمن ومؤمنة إلى يوم القيامة . وعن قتادة : ودخل في ذلك العذاب والمتاع : كل كافر وكافرة إلى يوم القيامة .
قوله : ? تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلاَ قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا ? القرآن وما كان علم محمد - صلى الله عليه وسلم - وقومه ما صنع نوح وقومه ، لولا ما بين الله له في كتابه .
وقوله تعالى : ? فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ ? .(5/473)
قال ابن كثير : فاصبر على تكذيب من كذّبك من قومك وأذاهم لك ، فإنا سننصرك ونحوطك بعنايتنا ، ونجعل العاقبة لك ولأتباعك في الدنيا والآخرة ، كما فعلنا بالمرسلين حيث نصرناهم على أعدائهم ، ? إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَلَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الواحد والثلاثون بعد المائة(5/474)
? وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ (52) قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم(5/475)
مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61) قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ (68) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَإِلَى عَادٍ أَخَاهُمْ هُوداً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يَا قَوْمِ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (51) وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاء عَلَيْكُم مِّدْرَاراً وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ (52) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? مِّدْرَاراً ? ، قال : يتبع بعضها بعضًا .(5/476)
قال ابن جرير : وقوله : ? وَلاَ تَتَوَلَّوْاْ مُجْرِمِينَ ? ، يقول : ولا تدبروا عما أدعوكم إليه من توحيد الله والبراءة من الأوثان والأصنام ? مُجْرِمِينَ ? يعني : كافرين بالله .
قوله عز وجل : ? قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهِ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ (54) مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (56) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقَدْ أَبْلَغْتُكُم مَّا أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَيَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَلاَ تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلَىَ كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (57) ? .
عن مجاهد : ? إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ ? ، قال : أصابتك الأوثان بجنون . وقال قتادة : ما يحملك على ذمّ آلهتنا إلا أن أصابك منها سوء . وعن مجاهد : ? إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? : الحق .
قال ابن جرير : يجازي المحسن بإحسانه ، والمسيء بإساءته .
قوله عز وجل : ? وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا هُوداً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَنَجَّيْنَاهُم مِّنْ عَذَابٍ غَلِيظٍ (58) وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59) وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَاداً كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ (60) ? .(5/477)
قال البغوي : ? وَتِلْكَ عَادٌ ? ردّه إلى القبيلة ، ? جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ ? ، يعني : هودًا ، ذكره بلفظ الجمع ، لأن من كذب رسولاً واحدًا كان كمن كذّب جميع الرسل .
قوله عز وجل : ? وَإِلَى ثَمُودَ أَخَاهُمْ صَالِحاً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنشَأَكُم مِّنَ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ (61) قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) ? .
عن مجاهد في قول الله : ? وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا ? ، قال : أعمركم فيها .
وقال ابن جرير : يقول : وجعلكم عمارًا فيها .
وقال ابن كثير : أي : جعلكم عمّارًا تعمرونها وتشغلونها ، ? فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُّجِيبٌ ? ، ? قَالُواْ يَا صَالِحُ قَدْ كُنتَ فِينَا مَرْجُوّاً قَبْلَ هَذَا ? .
قال ابن جرير : أي : كنا نرجوا أن تكون فينا سيّدًا قبل هذا القول الذي قلته لنا ، من أنه مالنا من إله غير الله ، ? أَتَنْهَانَا أَن نَّعْبُدَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا ? ، يقول : أتنهانا أن نعبد الآلهة التي كانت آباؤنا تعبدها ؟ ? وَإِنَّنَا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ ? يعنون : أنهم لا يعلمون صحة ما يدعوهم إليه من توحيد الله .(5/478)
قوله عز وجل : ? قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَمَا تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوهَا تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللّهِ وَلاَ تَمَسُّوهَا بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذَابٌ قَرِيبٌ (64) ? .
قال ابن كثير : ? قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَى بَيِّنَةً مِّن رَّبِّي ? فما أرسلني به إليكم على يقين وبرهان ، ? وَآتَانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَن يَنصُرُنِي مِنَ اللّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ ? وتركت دعوتكم إلى الحق وعبادة الله وحده ؟ فلو تركته لما نفعتموني ، ولما زدتموني ، ? غَيْرَ تَخْسِيرٍ ? ، أي : خسارة ، ? وَيَا قَوْمِ هَذِهِ نَاقَةُ اللّهِ لَكُمْ آيَةً ? ، وذلك أن قومًا طلبوا منه أن يخرج ناقة عشراء من هذه الصخرة ، فدعا صالح عليه السلام فخرجت منه ناقة وولدت في الحال ولدًا . فقال لهم : ذروها تأكل في أرض الله ولا تمسوها بسوء فيأخذكم عذاب قريب .
قوله عز وجل : ? فَعَقَرُوهَا فَقَالَ تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ذَلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65) فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا صَالِحاً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِّنَّا وَمِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (67) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ إِنَّ ثَمُودَ كَفرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْداً لِّثَمُودَ (68) ? .(5/479)
عن قتادة : ? تَمَتَّعُواْ فِي دَارِكُمْ ثَلاَثَةَ أَيَّامٍ ? ، قال : بقية آجالهم ، وذكر لنا أن صالحًا حين أخبرهم أن العذاب أتاهم ، لبسوا الأنطاع والأكسية وقيل لهم : إن آية ذلك أن تصفرّ ألوانكم أول يوم ، ثم تحمرّ في اليوم الثاني ، ثم تسودّ في اليوم الثالث .
وقوله تعالى : ? وَأَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ ? ? كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ? ، قال ابن عباس : كأن لم يعيشوا فيها ، وفي حديث عمرو بن خارجة : ( فلما أصبحوا لليوم الرابع ، أتتهم صيحة من السماء فيها صوت كل صاعقة ، وصوت كل شيء له صوت في الأرض فتقطعت قلوبهم في صدورهم ، فأصحبوا في دارهم جاثمين ) , وعن ابن عباس أن النبي - صلى الله عليه وسلم - حين أتى على قرية ثمود قال : « لا تدخلوا على هؤلاء المعذّبين إلا أن تكونوا باكين ، فإن لم تكونوا باكين فلا تدخلوا عليهم ، أن يصيبكم ما أصابهم » . والله أعلم .
* * *
الدرس الثاني والثلاثون بعد المائة(5/480)
? وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73) فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ (78) قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ(5/481)
مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ (82) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَماً قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَاقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَاقَ يَعْقُوبَ (71) قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ (72) قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ (73) ? .
قال البغوي : ? قَالُواْ سَلاَماً ? ، أي : سلّموا سلامًا ، ? قَالَ ? إبراهيم : ? سَلاَمٌ ? أي : عليكم السلام . وعن مجاهد : ? فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ ? ، قال : بعجل حسيل البقر ، والحنيذ : المشويّ النضيج . وعن مجاهد :? فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً ? وكانت العرب إذا نزل بهم ضيف فلم يَطْعَمْ من طعامهم ، ظنوا أنه لم يجيء بخير وأنه يحدّث نفسه بشر ، وقال : لما أوجس إبراهيم خيفة في نفسه ، حدّثوه عند ذلك بما جاءوا فيه ، فضحكت امرأته وعجبت من أن قومًا أتاهم العذاب وهم في غفلة .(5/482)
وقال ابن إسحاق : ? فَضَحِكَتْ ? ، يعني : سارة ، لما عرفت من أمر الله جل ثناؤه ، ولما تعلم من قوم لوط ، فبشّروها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب ، بابن وبابن ابن ، فقالت : - وصكّت وجهها يقال : ضربت على جبينها - ? يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ ? إلى قوله : ? إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ? .
وقال ابن كثير : ? قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ? ، أي : قالت الملائكة لها : لا تعجبي من أمر الله فإنه إذا أراد شيئًا أن يقول له : كن فيكون ، فلا تعجبي من هذا وإن كنت عجوزًا عقيمًا وبعلك شيخًا كبيرًا ، فإن الله على ما يشاء قدير ? رَحْمَتُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ ? ، أي : هو الحميد في جميع أفعاله وأقواله ، محمود ممجّد في صفاته وذاته .
قوله عز وجل : ? فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى يُجَادِلُنَا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ (75) يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76) ? .
عن قتادة : قوله : ? فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْرَاهِيمَ الرَّوْعُ ? ، قال : الفَرَقُ ، ? وَجَاءتْهُ الْبُشْرَى ? بإسحاق ? يُجَادِلُنَا ? يخاصمنا ? فِي قَوْمِ لُوطٍ ? .(5/483)
وقال سعيد بن جبير : لما جاءه جبريل ومن معه قالوا لإِبراهيم : ? إِنَّا مُهْلِكُو أَهْلِ هَذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَهَا كَانُوا ظَالِمِينَ ? قال لهم إبراهيم : أتهلكون قرية فيها أربعمائة مؤمن ؟ قالوا : لا . قال : أفتهلكون قرية فيها ثلاثمائة مؤمن ؟ قالوا : لا . قال : أفتهلكون قرية فيه مائتا مؤمن ؟ قالوا : لا ، قال : أفتهلكون قرية فيها أربعون مؤمنًا ؟ قالوا : لا ، حتى بلغ خمسة ، قالوا : لا ، فقال إبراهيم عليه السلام عند ذلك : ? إِنَّ فِيهَا لُوطاً قَالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ ? فسكت عنهم واطمأنت نفسه .
وقوله تعالى : ? إِنَّ إِبْرَاهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ? ، قال مجاهد : ? أَوَّاهٌ مُّنِيبٌ ? : القانت الرجّاع . وفي حديث ابن إسحاق قال : أرأيتم إن كان رجلاً واحدًا مسلمًا ؟ قالوا : لا ، فلما لم يذكروا لإِبراهيم أنّ فيها مؤمنًا واحدًا قال : ? إِنَّ فِيهَا لُوطاً ? يدفع به عنهم العذاب ، قالوا : ? نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَن فِيهَا لَنُنَجِّيَنَّهُ وَأَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ ? ، قالوا : ? يَا إِبْرَاهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا إِنَّهُ قَدْ جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَإِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذَابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ ? .(5/484)
قوله عز وجل : ? وَلَمَّا جَاءتْ رُسُلُنَا لُوطاً سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَقَالَ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَلَيْسَ مِنكُمْ رَجُلٌ رَّشِيدٌ (78) قَالُواْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ (79) قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81) فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ مَّنضُودٍ (82) مُّسَوَّمَةً عِندَ رَبِّكَ وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83) ? .
قال ابن إسحاق : خرجت الرسل فيما يزعم أهل التوراة من عند إبراهيم إلى لوط بالمؤتفكة ، فلما جاءت الرسل لوطًا : ? سِيءَ بِهِمْ وَضَاقَ بِهِمْ ذَرْعاً ? وذلك من تخوّف قومه عليهم أن يفضحوه في ضيفه فقال : ? هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ? ، قال ابن عباس : شديد .
وعن مجاهد : ? وَجَاءهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ ? ، قال : يهرولون ، وهو الإسراع في المشي . وقال سفيان بن عيينة : يهرعون إليه كأنهم يدفعون . وقال الضحاك يسعون إليه . ? وَمِن قَبْلُ كَانُواْ يَعْمَلُونَ السَّيِّئَاتِ ? ، قال ابن عباس : يقول:من قبل مجيئهم إلى لوط كانوا يأتون الرجال من أدبارهم .
? قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ? .(5/485)
قال في فتح البيان : ? قَالَ يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي ? ، أي : فتزوجوهنّ واتركوا أضيافي ، وكانوا يطلبونهنّ قبل ذلك ولا يجيبهم ، وكان تزويج المسلمة من الكافر جائزًا ، أو المراد من البنات نساؤهم ، وأضاف إلى نفسه لأن كل نبي أبو أمّته .
وقال الشيخ ابن سعدي : ( فجاءه قومه يهرعون إليه ، يريدون فعل الفاحشة بأضياف لوط فقال : ? يَا قَوْمِ هَؤُلاء بَنَاتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ ? لعلمه أنه لا حقّ لهم فيهنّ ، كما عرض سليمان للمرأتين حين اختصمتا في الولد فقال : ائتوني بالسكين أشقّه بينكما ، ومن المعلوم أنه لا يقع ذلك ، وهذا مثله ، ولهذا قال في قومه : ? لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ? ، وأيضًا يريد بعض العذر من أضيافه ، وعلى هذا التأويل لا حاجة إلى العدول إلى قول بعض المفسرين : ? هَؤُلاء بَنَاتِي ? ، يعني : زوجَاتهم ) . انتهى .
وقال ابن إسحاق : ? لَقَدْ عَلِمْتَ مَا لَنَا فِي بَنَاتِكَ مِنْ حَقٍّ ? ، أي : من أزواج ? وَإِنَّكَ لَتَعْلَمُ مَا نُرِيدُ ? ، أي : إن بغيتنا لغير ذلك ، فلما لم يتناهوا ولم يردّهم قوله ، ولم يقبلوا منه شيئًا مما عرض عليهم من أمور بناته .
? قَالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ? ، أي : عشيرة تمنعني أو شيعة تنصرني ، لَحُلْتُ بينكم وبين هذا . وقال ابن جريج : بلغنا أنه لم يُبعث نبي بعد لوط إلا في ثروة قومه ، حتى النبي - صلى الله عليه وسلم - .(5/486)
وقال ابن كثير : ولهذا ورد في الحديث من طريق محمد بن عمرو بن علقمة عن أبي سلمة عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « رحمة الله على لوط ، لقد كان يأوي إلى ركن شديد ، يعني : الله عز وجل ، فما بعث الله بعده من نبي إلا في ثروة من قومه » . فعند ذلك أخبرته الملائكة أنهم رسل الله إليه ، وأنهم لا وصول لهم إليه ? قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ ? . وقال السدي : لما قال لوط : ? لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إِلَى رُكْنٍ شَدِيدٍ ? بسط حينئذٍ جبرائيل عليه السلام جناحيه ففقأ أعينهم ، وخرجوا يدوس بعضهم في أدبار بعض عميانًا يقولون : النجاة النجاة ، فإن في بيت لوط أسحر قوم في الأرض ، فذلك قوله : ? وَلَقَدْ رَاوَدُوهُ عَن ضَيْفِهِ فَطَمَسْنَا أَعْيُنَهُمْ ? .
و ? قَالُواْ يَا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَن يَصِلُواْ إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُهَا مَا أَصَابَهُمْ ? واتبع أدبار أهلك ، يقول : سر بهم وامضوا حيث تؤمرون ، فأخرجهم الله إلى الشام ، وقال لوط : أهلِكوهم الساعة فقالوا : إنا لم نؤمر إلا بالصبح ? أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ ? ؟ فلما أن كان السَحَرُ خرج لوط وأهله معه امرأته فلذلك قوله : ? إِلَّا آلَ لُوطٍ نَّجَّيْنَاهُم بِسَحَرٍ ? وقال قتادة : ذكر لنا أنه كانت مع لوط حين خرج من القرية امرأته ، ثم سمعت الصوت فالتفتت ، وأرسل الله عليها حجرًا فأهلكها .(5/487)
وعن مجاهد في قوله تعالى : ? فَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا ? ، قال : لما أصبحوا غدا جبريل على قريتهم ، ففتقها من أركانها ، ثم أدخل جناحه ثم حملها على حوافي جناحه بما فيها ، ثم صعد بها إلى السماء حتى سمع أهل السماء نباح كلابهم ، ثم قلبها فكان أول ما سقط منها شرافها ، فلذلك قول الله : ? جَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهَا حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ ? . قال مجاهد : لم يصب قومًا ما أصابهم ، إن الله طمس على أعينهم ، ثم قلب قريتهم ، وأمطر عليهم حجارة من سجيل . قال ابن عباس : وهي بالفارسية حجارة من طين . وقال الربيع بن أنس في قوله : ? مَّنضُودٍ ? ، قال : نضد بعضها على بعض . وعن مجاهد : ? مُّسَوَّمَةً ? معلّمة .
وقوله تعالى : ? وَمَا هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ ? .
قال ابن كثير : أي : وما هذه النقمة ممن تشبّه بهم في ظلمهم ببعيد عنه . وقد ورد في الحديث المرويّ في السنن عن ابن عباس مرفوعًا : « من وجدتموه يعمل عمل قوم لوط ، فاقتلوا الفاعلَ والمفعول به » . وذهب الإِمام الشافعي في قول عنه وجماعة من العلماء إلى : أن اللائط يقتل سواء كان محصنًا أو غير محصن ، عملاً بهذا الحديث ، وذهب الإِمام أبو حنيفة إلى أنه يلقى من شاهق ويتبع بالحجارة ، كما فعل الله بقوم لوط . انتهى .(5/488)
وقال الشوكاني : قال ابن الطلاع في أحكامه : لم يثبت عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه رجم في اللواط ، ولا أنه حكم فيه ، وثبت عنه أنه قال : « اقتلوا الفاعل والمفعول به » . رواه عنه ابن عباس ، وأبو هريرة رضي الله عنهما . وأخرج البيهقي عن عليّ عليه السلام أنه رجم لوطيًّا . قال الشافعي : وبهذا نأخذ برجم اللوطيّ محصنًا كان أو غير محصن . وأخرج البيهقي أيضًا عن أبي بكر - رضي الله عنه - : أنه جمع الناس في حق الناس في حق رجل ينكح كما تنكح النساء ، فسأل أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن ذلك ، فكان من أشدهم يومئذٍ قولاً عليّ بن أبي طالب قال : هذا ذنب لم تعص به أمة من الأمم إلا أمة واحدة ، صنع الله بها ما قد علمتم ، نرى أن تحرقه بالنار ، فاجتمع أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على أن يحرقه بالنار ، فكتب أبو بكر إلى خالد بن الوليد يأمره أن يحرقه بالنار . وفي إسناده إرسال . وروي من وجه آخر عن جعفر بن محمد عن أبيه عن عليّ في غير هذه القصة قال : ( يرجم ويحرق بالنار ) . وأخرج البيهقي أيضًا عن ابن عباس أنه سئل عن حد اللوطيّ فقال :( ينظر أعلى بناء في القرية فيرمى به منكّسًا ،ثم يتبع الحجارة). وذهب عمر ، وعثمان إلى أنه يلقى عليه حائط . وقد حكى صاحب الشفاء إجماع الصحابة على القتل ، وما أحقّ مرتكب هذه الجريمة ومقارف هذه الرذيلة الذميمة ، بأن يعاقب عقوبة يصير بها عبرة للمعتبرين ، ويعذّب تعذيًا يكسر شهوة الفسقة المتمردّين ، فحقيق بمن أتى بفاحشة قوم ما سبقهم بها من أحد من العالمين ، أن يَصْلَى من العقوبة بما يكون في الشدة والشناعة مشابهًا لعقوبتهم ، وقد خسف الله تعالى بهم ، واستأصل بذلك العذاب بكرهم وشيبهم ) انتهى ملخصًا . والله أعلم .
* * *
الدرس الثالث والثلاثون بعد المائة(5/489)
? وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (86) قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ(5/490)
عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَإِلَى مَدْيَنَ أَخَاهُمْ شُعَيْباً قَالَ يَا قَوْمِ اعْبُدُواْ اللّهَ مَا لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرُهُ وَلاَ تَنقُصُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ وَإِنِّيَ أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُّحِيطٍ (84) وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ (86) قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) ? .
عن قتادة في قوله : ? إِنِّيَ أَرَاكُم بِخَيْرٍ ? قال : يعني : خير الدنيا وزينتها .
وقوله : ? وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ ? يقول : لا تظلموا الناس أشياءهم .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ ? .(5/491)
قال ابن جرير : يقول : ولا تسيروا في الأرض تعلمون فيها بمعاصي الله . وعن مجاهد : ? بَقِيَّةُ اللّهِ خَيْرٌ لَّكُمْ ? ، قال : طاعة الله خير لكم . وقال ابن عباس : بقية الله رزقًا ، يعني : ما أبقي لكم من الحلال بعد إيفاء الكيل والوزن خير مما تأخذون بالتطفيف . ? قَالُواْ يَا شُعَيْبُ أَصَلاَتُكَ تَأْمُرُكَ أَن نَّتْرُكَ مَا يَعْبُدُ آبَاؤُنَا أَوْ أَن نَّفْعَلَ فِي أَمْوَالِنَا مَا نَشَاء ? ؟ قال ابن عباس : كان شعيب عليه السلام كثير الصلاة ? إِنَّكَ لَأَنتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ ? ، قال : أرادوا : السفيه الغاوي . والعرب تصف الشيء بضده وقال ابن جرير : يستهزئون .
قوله عز وجل : ? قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَىَ بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّي وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (88) وَيَا قَوْمِ لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صَالِحٍ وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ (89) وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) ? .(5/492)
قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره : ? قَالَ ? شعيب لقومه : يا قوم إن كنت على بيان وبرهان من ربي فيما أدعوكم إليه من عبادة الله ، والبراءة من عبادة الأوثان والأصنام ، وفيما أنهاكم عنه من إفساد المال ، ? وَرَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً ? ، يعني : حلالاً طيبًا . وعن قتادة : ? وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ ? لم أكن لأنهاكم من أمر أركبه أو آتيه ، ? إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ ? ، يقول : ما أريد فيما آمركم به وأنهاكم عنه إلا إصلاحكم وإصلاح أمركم ، ? مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ ? ، قال مجاهد : أرجع .
وعن قتادة : قوله : ? لاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شِقَاقِي ? ، يقول : لا يحملنكم فراقي ، ? أَن يُصِيبَكُم مِّثْلُ مَا أَصَابَ قَوْمَ نُوحٍ ? الآية . وقال ابن جريج : عداوتي وبغضائي وفراقي .
وقوله : ? وَمَا قَوْمُ لُوطٍ مِّنكُم بِبَعِيدٍ ? ، أي : في الزمان والمكان .
وقوله : ? وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ? .
قال ابن كثير : ? وَاسْتَغْفِرُواْ رَبَّكُمْ ? من سالف الذنوب ، ? ثُمَّ تُوبُواْ إِلَيْهِ ? فيما تستقبلونه من الأعمال السيئة ، ? إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ ? ، أي : لمن تاب .
قوله عز وجل : ? قَالُواْ يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيراً مِّمَّا تَقُولُ وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ وَمَا أَنتَ عَلَيْنَا بِعَزِيزٍ (91) قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً إِنَّ رَبِّي بِمَا تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَيَا قَوْمِ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنِّي عَامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَمَنْ هُوَ كَاذِبٌ وَارْتَقِبُواْ إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93) ? .(5/493)
عن سعيد بن جبير : ? وَإِنَّا لَنَرَاكَ فِينَا ضَعِيفاً ? ، قال : كان ضرير البصر . قال سفيان : وكان يقال له : خطيب الأنبياء .
وقال ابن زيد في قوله : ? وَلَوْلاَ رَهْطُكَ لَرَجَمْنَاكَ ? لولا أن نتّقي قومك ورهطك لرجمناك .
وعن ابن عباس : قوله : ? قَالَ يَا قَوْمِ أَرَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً ? ؟ قال : قَفَا وذلك أن قوم شعيب ورهطه كانوا أعزّ عليهم من الله ، وصغر شأن الله عندهم ، عزّ ربنا وجلّ ثناؤه . وعن مجاهد : ? وَاتَّخَذْتُمُوهُ وَرَاءكُمْ ظِهْرِيّاً ? ، قال : نبذتم أمره .
قال ابن كثير : لما يئس نبيّ الله شعيب من استجابتهم له قال : يا قوم اعملوا على مكانتكم ، أي : طريقتكم ، وهذا تهديد شديد ، إني عامل على طريقتي سوف تعلمون من يأتيه عذاب يخزيه ومن هو كاذب مني ومنكم ، وارتقبوا ، أي : انتظروا ، إني معكم رقيب .
قوله عز وجل : ? وَلَمَّا جَاء أَمْرُنَا نَجَّيْنَا شُعَيْباً وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مَّنَّا وَأَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُواْ فِي دِيَارِهِمْ جَاثِمِينَ (94) كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ (95) ? .
قال السدي : إن الله بعث شعيبًا إلى مدين ، وإلى أصحاب الأيكة ، وهي الغيضة من الشجر ، وكانوا مع كفرهم يبخسون الكيل والميزان ، فدعاهم فكذّبوه فقال لهم ما ذكر الله في القرآن ، وما ردّوا عليه . فلما عتوا وكذّبوه سألوه العذاب ، ففتح الله عليهم بابًا من أبواب جهنّم فأهلكهم الحر منه ، فلم ينفعهم ظلّ ولا ماء ، ثم إنه بعث سحابة فيها ريح طيّبة ، فوجدوا برد الريح وطيبها ، فتنادوا : الظُّلّة عليكم بها ، فلما اجتمعوا تحت السحابة رجالهم ونساؤهم وصبيانهم انطبقت عليهم فأهلكتهم فهو قوله :? فَأَخَذَهُمْ عَذَابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ ? .(5/494)
قال ابن كثير : وقوله : ? كَأَن لَّمْ يَغْنَوْاْ فِيهَا ? ، أي : يعيشوا في دارهم قبل ذلك ? أَلاَ بُعْداً لِّمَدْيَنَ كَمَا بَعِدَتْ ثَمُودُ ? وكانوا جيرانهم قريبًا منهم في الدار ، وشبيهًا بهم في الكفر وقطع الطريق ، وكانوا عربًا مثلهم .
وقال ابن جرير : يقول تعالى ذكره : ألا أبعد الله مدين من رحمته ، بإحلال نقمته بهم كما بعدت ثمود . والله أعلم .
* * *
الدرس الرابع والثلاثون بعد المائة
? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107)(5/495)
وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَكُلاًّ(5/496)
نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122) وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا وَسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (96) إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَاتَّبَعُواْ أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَمَا أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَأُتْبِعُواْ فِي هَذِهِ لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ (100) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) ? .(5/497)
عن ابن عباس : قوله : ? بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ ? ، قال : لعنة الدنيا والآخرة ? ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ ? ، يعني بالقائم : قرى عامرة والحصيد : قرى خامدة . وقال ابن زيد : اعتذر - يعني ربنا جل ثناؤه - إلى خلقه فقال : ? وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ ? مما ذكرنا لك من عذاب من عذّبنا من الأمم ? وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ ? ، قال مجاهد : تخسير . وفي الصحيحين عن أبي موسى قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الله ليملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته » ، ثم قرأ : ? وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ ? .
قوله عز وجل : ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّمَنْ خَافَ عَذَابَ الآخِرَةِ ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ (103) وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ (104) يَوْمَ يَأْتِ لاَ تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُواْ فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ (106) خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ (107) وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُواْ فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108) ? .
عن الضحاك : قوله :? ذَلِكَ يَوْمٌ مَّجْمُوعٌ لَّهُ النَّاسُ وَذَلِكَ يَوْمٌ مَّشْهُودٌ ? قال : يوم القيامة يجتمع فيه الخلق كلهم ويشهده أهل السماء وأهل الأرض .(5/498)
وعن ابن عباس : قوله : ? لَهُمْ فِيهَا زَفِيرٌ وَشَهِيقٌ ? ، يقول : صوت شديد وصوت ضعيف . وقال قتادة : صوت الكافر في النار صوت الحمار ، أوّله زفير وآخره شهيق . ? خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ ? ، قال : الله أعلم بثنياه ، وذكر لنا أن ناسًا يصيبهم سفع النار بذنوب أصابوها ثم يدخلهم الجنة .
وقال ابن زيد في قوله : ? خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالأَرْضُ إِلاَّ مَا شَاء رَبُّكَ ? ، فقرأ حتى بلغ : ? عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ? ، قال : وأخبرنا بالذي يشاء لأهل الجنة فقال : ? عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ? ولم يخبرنا بالذي يشاء لأهل النار . وعن ابن عباس : ? عَطَاء غَيْرَ مَجْذُوذٍ ? ، يقول : عطاء غير مقطوع . وقال ابن زيد : غير منزوع عنهم . وفي الحديث الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « اعملوا فكلُّ مُيَسَّرٌ لما خلق له أما أهل السعادة فميسَّرون لعمل أهل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فميسَّرون لعمل أهل الشقاوة » .(5/499)
قوله عز وجل : ? فَلاَ تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِّمَّا يَعْبُدُ هَؤُلاء مَا يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَمَا يَعْبُدُ آبَاؤُهُم مِّن قَبْلُ وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ (109) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلاَ كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (110) وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ إِنَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111) فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلاَ تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112) وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللّهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ (113) وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَاصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115) ? .
عن ابن عباس : ? وَإِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنقُوصٍ ? ، قال : ما وعدوا فيه من خير أو شر .
وقوله تعالى : ? وَإِنَّ كُلاًّ لَّمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ? ، أي : أن جميعهم والله ? لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمَالَهُمْ ? .
قال البغوي : الأصل فيه : وإن كلاً لمن فَوُصِلَتْ ( مِنْ ) الجارّة ( بما ) فانقلبت النون ميمًا للإِدغام ، فاجتمعت ثلاث ميمات فحذفت إحداهنّ فبقيت ( لمّا بالتشديد ، و ( ما ) هنا بمعنى : ( من ) وهو اسم لجماعة الناس .
وعن سفيان في قوله : ? فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ ? ، قال : استقم على القرآن .
وقال ابن زيد في قوله : ? وَلاَ تَطْغَوْاْ ? ، قال : الطغيان : خلاف الله وركوب معصيته ذلك الطغيان .(5/500)
وعن ابن عباس في قوله : ? وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ ? يعني : الركون إلى الشرك . وقال أبو العالية : لا ترضوا أعمالهم . وعن ابن عباس : لا تميلوا . وقال ابن زيد : الركون الإِرهاق .
وعن مجاهد : أقم الصلاة طرفي النهار قال : الفجر وصلاتي العشيّ ، يعني: الظهر ، والعصر ، زلفاً من الليل قال : المغرب والعشاء ، ? إِنَّ الْحَسَنَاتِ ? الصلوات ، ? يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ? . وعن ابن مسعود قال : قال جاء رجل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال : يا رسول الله إني وجدت امرأة في بستان ، ففعلت بها كل شيء ، غير أني لم أجامعها قبّلتها ولزمتها ولم أفعل غير ذلك ، فافعل بي ما شئت ، فلم يقل له رسول الله - صلى الله عليه وسلم - شيئًا ، فذهب الرجل فقال عمر : لقد ستر الله عليه ، فلو ستر على نفسه ، فأتْبَعَه رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بصره فقال : « فردّوه - فقرأ عليه : - ? وَأَقِمِ الصَّلاَةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفاً مِّنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ ? » . فقال معاذ بن جبل : أله وحده يا نبيّ الله أم للناس كافة ؟ فقال : « بل للناس كافة » . رواه ابن جرير وغيره .(6/1)
قوله عز وجل : ? فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ وَكَانُواْ مُجْرِمِينَ (116) وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ (117) وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) ? .
قال في جامع البيان : ? فَلَوْلاَ ? فهلا ? كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ ? ، أي : هلا كان منهم من فيه خير ينهى عن الفساد ؟ وهذا تحريض لأمة محمد عليه الصلاة والسلام ، كما قال : ? وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ ? الآية . وقال ابن زيد : اعتذر فقال : ? فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ ? حتى بلغ : ? إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ? فإذا هم الذين نجوا حين نزل عذاب الله وقرأ:? وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مَا أُتْرِفُواْ فِيهِ ?. وعن قتادة : ? فَلَوْلاَ كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِن قَبْلِكُمْ أُوْلُواْ بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّنْ أَنجَيْنَا مِنْهُمْ ? ، أي : لم يكن من قبلكم من ينه عن الفساد في الأرض إلا قليلاً ممن أنجينا منهم . وقال ابن جريج : يستقلّهم الله من كل قوم .
وقوله تعالى : ? وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ ?.
قال البغوي : أي : لا يهلكهم وأهلها مصلحون فيما بينهم ، يتعاطون الإِنصاف ولا يظلم بعضهم بعضًا ، وإنما يهلكهم إذا تظالموا .(6/2)
وعن قتادة : قوله : ? وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً ? يقول : لجعلهم مسلمين كلهم وعن عطاء : ? وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ? ، قال : اليهود والنصارى والمجوس ، ? إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ? ، قال : هم الحنيفية . وعن مجاهد : ? وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ? ، قال : أهل الباطل ، ? إِلاَّ مَن رَّحِمَ رَبُّكَ ? ، قال : أهل الحق : ? وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ ? ، قال الفراء : خلق أهل الرحمة للرحمة وأهل الاختلاف للاختلاف . وقال الحسن : أما أهل رحمة الله فإنهم لا يختلفون اختلافًا يضرّهم .
قوله عز وجل : ? وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَقُل لِّلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ اعْمَلُواْ عَلَى مَكَانَتِكُمْ إِنَّا عَامِلُونَ (121) وَانتَظِرُوا إِنَّا مُنتَظِرُونَ (122) وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123) ? .
عن ابن جريج : قوله : ? وَكُلاًّ نَّقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنبَاء الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ ? ، قال : لتعلم ما لقيت الرسل قبلك من أممهم .
وقوله تعالى : ? وَجَاءكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ?.
قال البغوي : خصّ هذه السورة تشريفًا ، وإن كان قد جاءه الحق في جميع السور . والله أعلم .
* * *
الدرس الخامس والثلاثون بعد المائة
[ سورة يوسف ]
مكية ، وهي مائة وإحدى عشرة آية
بسم الله الرحمن الرحيم(6/3)
? آلر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ (9) قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُواْ(6/4)
بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (15) وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ (16) قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? آلر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ (3) ? .
عن مجاهد في قول الله تعالى : ? آلر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ ? قال : بيّن حلاله وحرامه . وقال الزجاج: مبيّن الحق من الباطل والحلال من الحرام.(6/5)
وقال ابن كثير : أي : الواضح الجليّ الذي يفصح عن الأشياء المبهمة ويفسّرها ويبيّنها . وعن ابن عباس قال : قالوا : يا رسول الله لو قصصت علينا ، فنزلت : ? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ? .
وعن قتادة : ? نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ ? من الكتب الماضية ، وأمور الله السالفة في الأمم ، ? وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ? .
قوله عز وجل : ? إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ (4) قَالَ يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (5) وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِن قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6) ? .
عن ابن عباس في قوله : ? إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ? ، قال : كانت رؤيا الأنبياء وحيًا . وقال قتادة : الكواكب إخوته والشمس والقمر أبواه . وقال السدي : نزل يعقوب الشام فكان همّه يوسف وأخاه فحسده إخوته لما رأوا حبّ أبيه له ، ورأى يوسف في المنام كأن أحد عشر كوكبًا والشمس والقمر له ساجدين ، فحدّث أباه بها فقال : ? يَا بُنَيَّ لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُواْ لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُّبِينٌ ? .
وعن قتادة : ? وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ? فاجتباه واصطفاه وعلّمه من عبر الأحاديث . وقال مجاهد : عبارة الرؤيا . قال ابن زيد : وكان يوسف أعبر الناس .(6/6)
قوله عز وجل : ? لَّقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِّلسَّائِلِينَ (7) إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (8) اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ (9) قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (10) قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا لَكَ لاَ تَأْمَنَّا عَلَى يُوسُفَ وَإِنَّا لَهُ لَنَاصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (12) قَالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَن تَذْهَبُواْ بِهِ وَأَخَافُ أَن يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَأَنتُمْ عَنْهُ غَافِلُونَ (13) قَالُواْ لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَّخَاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (15) وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ (16) قَالُواْ يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِندَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لِّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ (17) وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ (18) ? .
قال ابن إسحاق : إنما قصّ الله تبارك وتعالى على محمد خبر يوسف ، وبغي إخوته عليه وحسدهم إياه حين ذكر رؤياه ، لما رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من بغي قومه وحسده ، حين أكرمه الله عز وجل بنبوّته ليتأسّى به .(6/7)
وعن السدي : ? إِذْ قَالُواْ لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا ? ، قال : يعنون بنيامين ، قال : وكانوا عشرة ، ? إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ ? ، قال : في ضلال من أمرنا . وقال ابن زيد : العصبة الجماعة .
وعن السدي : ? اقْتُلُواْ يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُواْ مِن بَعْدِهِ قَوْماً صَالِحِينَ ? ، قال : تتوبون مما صنعتم . وقال مقاتل يصلح أمركم فيما بينكم وبين أبيكم .
وعن قتادة : ? قَالَ قَآئِلٌ مَّنْهُمْ لاَ تَقْتُلُواْ يُوسُفَ ? ذكر لنا أنه روبيل ، كان أكبر القوم وهو ابن خالة يوسف ، فنهاهم عن قتله ، ? وَأَلْقُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ? ، يقول : في بعض نواحيها . وقال ابن عباس : والجب بئر بالشام . ? يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ ? ، قال : التقطه ناس من الأعراب .
وعن قتادة : قوله : ? أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَداً يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ ? ، قال : ينشط يلهو .(6/8)
قال ابن كثير : فيقال : إن يعقوب عليه السلام لما بعثه معهم ضمّه إليه وقبّله ودعا له . فذكر السدي وغيره أنه لم يكن بين إكرامهم له وبين إظهار الأذى له إلا أن غابوا عن عين أبيه وتواروا عنه ، ثم شرعوا يؤذونه بالقول والفعل ، ثم جاؤوا به إلى ذلك الجبّ الذي اتفقوا على رميه فيه ، فربطوه بحبل ودلّوه فيه ، فجعل إذا لجأ إلى واحد منهم لطمه وشتمه ، وإذا تشبّث بحافات البئر ضربوا على يديه ، ثم قطعوا به الحبل من نصف المسافة فسقط في الماء فغمره ، فصعد إلى صخرة تكون في وسطه يقال لها : الراعوفة فقام فوقها . قال الله تعالى : ? وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ? . قال مجاهد : أوحي إلى يوسف وهو في الجبّ أن سينبئهم بما صنعوا وهم لا يشعرون بذلك الوحي . وقال ابن عباس : لما دخل إخوة يوسف ? فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ? ، قال : جيء بالصواع فوضعه على يده ثم نقره فطنّ فقال : إنه ليخبرني هذا الجام أنه كان لكم أخ من أبيكم يقال له : يوسف يدنيه دونكم ، وأنكم انطلقتم به فألقيتموه في غيابة الجبّ ، قال : ثم نقره فطنّ فأتيتم أباكم فقلتم : إن الذئب أكله ، وجئتم على قميصه بدم كذب قال : فقال بعضهم لبعض : إن هذا الجام ليخبره بخبركم ! قال ابن عباس : فلا نرى هذه الآية نزلت إلا فيهم ? لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ ? قال : ثم إنهم ذبحوا سخلة وجعلوا دمها على قميص يوسف عليه السلام .
? وَجَاؤُواْ أَبَاهُمْ عِشَاء يَبْكُونَ ? .(6/9)
قال البغوي : قال أهل المعاني : جاؤوا في ظلمة العشاء ليكون أجرأ على الاعتذار بالكذب . وروي أن يعقوب عليه السلام سمع صياحهم وعويلهم فخرج وقال : ما لكم يا بنيُّ هل أصابكم في غنمكم شيء ؟ قالوا :لا .قال : فما أصابكم ؟ وأين يوسف ؟ ? قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ? ، أي : وما أنت بمصدّق لنا لسوء ظنّك بنا . وعن ابن عباس : ? وَجَآؤُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ ? ، قال : لو أكله السبع لخرق القميص . وعنه الحسن قال : لما جاء أخوة يوسف بقميصه إلى أبيهم جعل يقلّبه فيقول : ما عهدت الذئب حليمًا ، أكل ابني وأبقى على قميصه .
وعن قتادة قال : ? بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً ? ، يقول : بل زيّنت لكم أنفسكم أمرًا ، ? فَصَبْرٌ جَمِيلٌ ? ، قال مجاهد : ليس فيه جزع ، ? وَاللّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ? ، قال قتادة : أي : على ما تكذبون .
قوله عز وجل : ? وَجَاءتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ فَأَدْلَى دَلْوَهُ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً وَاللّهُ عَلِيمٌ بِمَا يَعْمَلُونَ (19) وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (21) ? .(6/10)
عن قتادة : ? فَأَرْسَلُواْ وَارِدَهُمْ ? ، يقال : أرسلوا رسولهم فلما ? أَدْلَى دَلْوَهُ ? تشبّث بها الغلام ، ? قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلاَمٌ ? تباشروا به حين أخرجوه . وعن مجاهد : ? وَأَسَرُّوهُ بِضَاعَةً ? ، قال صاحب الدلو ومن معه ، قالوا لأصحابهم : إنما استبضعناه ، خيفة أن يشركوهم فيه إن علموا بثمنه ، وتبعهم إخوته يقولون للمدلي وأصحابه : استوثق منه لا يأبق ، حتى وقفوه بمصر .
وقوله تعالى : ? وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَرَاهِمَ مَعْدُودَةٍ ? قال ابن عباس : باعه إخوته بثمن بخس .قال الضحاك : البخس الحرام . وقال الشعبي : قليل. وقال ابن عباس : عشرون درهمًا . وعن الضحاك : ? وَكَانُواْ فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ ? قال: إخوته زهدوا فيه فلم يعلموا منزلته من الله ونبوته ومكانه .
وقوله تعالى : ? وَقَالَ الَّذِي اشْتَرَاهُ مِن مِّصْرَ لاِمْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْوَاهُ ? ، قال قتادة : وهي امرأة العزيز . وقال ابن مسعود : أفرس الناس ثلاثة : العزيز حين تفرّس في يوسف فقال لامرأته : ? أَكْرِمِي مَثْوَاهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً ? ، وأبو بكر حين تفرّس في عمر ، والتي قالت : ? يَا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ ? .
وقوله تعالى : ? وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ ? .
وقال ابن كثير : يقول تعالى : كما أنقذنا يوسف من إخوته كذلك مكنَّا ليوسف في الأرض يعني : بلاد مصر ? وَلِنُعَلِّمَهُ مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ ? قال مجاهد ، والسدي : هو تعبير الرؤيا ، ? وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ? ، أي : إذا أراد شيئًا فلا يردّ ولا يمانع ولا يخالف ، بل هو الغالب لما سواه . قال سعيد بن جبير في قوله : ? وَاللّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ ? ، أي : فعّال لما يشاء .(6/11)
وقوله تعالى : ? وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ? ، يقول : لا يدرون حكمته في خلقه ، وتلطّفه وفعله لما يريد . والله أعلم .
* * *
الدرس السادس والثلاثون بعد المائة
? وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ(6/12)
وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ(6/13)
إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ(6/14)
رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53) وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57) ? .
* * *(6/15)
قوله عز وجل : ? وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22) وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَالْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَاسُتَبَقَا الْبَابَ وَقَدَّتْ قَمِيصَهُ مِن دُبُرٍ وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (25) قَالَ هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِّنْ أَهْلِهَا إِن كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ (26) وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأَى قَمِيصَهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ (29) ? .
عن مجاهد قال : سمعت ابن عباس يقول في قوله : ? وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ ? ، قال : بضعًا وثلاثين سنة . وقال الضحاك : عشرين سنة . وروي عن ابن عباس أنه قال : ما بين ثماني عشرة سنة إلى ثلاثين . وقال الشعبي ومالك : الأشُدّ : الحلمُ .(6/16)
وعن مجاهد : ? آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً ? ، قال : العقل والعلم قبل النبوة . وعن ابن إسحاق : ? ولما بلغ أشده راودته التي هو في بيتها عن نفسه ، امرأة العزيز . ? وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ? ، قال سعيد بن جبير قالت : تعاله . وعن ابن عباس : ? هَيْتَ لَكَ ? ، قال : هلمّ لك . وقال مجاهد : تدعوه بها إلى نفسها .
? قَالَ مَعَاذَ اللّهِ ? ، قال ابن جرير : يقول : أعتصم بالله من الذي تدعوني إليه وأستجير به منه . وعن ابن إسحاق : ? قَالَ مَعَاذَ اللّهِ إِنَّهُ رَبِّي ? ، يقول : إنه سيّدي ، ? أَحْسَنَ مَثْوَايَ ? أمّنني على بيته وأهله ، ? إِنَّهُ لاَ يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ ? ، قال : هذا الذي تدعوني إليه ظلم ولا يفلح من عمل به .(6/17)
وعن السدي : ? وَلَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا ? ، قال : قالت له : يا يوسف ما أحسن شعرك ! قال : هو أول ما ينتثر من جسدي ، قالت : يا يوسف ما أحسن وجهك ! قال : هو للتراب يأكله ، فلم تزل حتى أطعمته ، فهمّت به وهمّ بها ، فدخلا البيت ، ? وَغَلَّقَتِ الأَبْوَابَ ? وذهب ليحلّ سراويله ، فإذا هو بصورة يعقوب قائمًا في البيت ، قد عضّ على إصبعه يقول : يا يوسف تُوَاقعها ؟ فإنما مَثلُك ما لم تواقعها مثل الطير في جو السماء لا يطاق ، ومثلك إذا واقعتها مثله إذا مات ووقع إلى الأرض ، لا يستطع أن يدفع عن نفسه ، ومثلك ما لم تواقعها مثل الثور الصعب الذي لا يعمل عليه، ومثلك إن واقعتها مثل الثور حين يموت ، فيدخل النمل في أصل قرنيه ، لا يستطيع أن يدفع عن نفسه ، فربط سراويله ، وذهب ليخرج يشتدّ فأدركته ، فأخذت بمؤخّر قميصه من خلفه فخرقته ، حتى أخرجته منه وسقط ، وطرحه يوسف واشتدّ نحو الباب ، ? وَأَلْفَيَا سَيِّدَهَا لَدَى الْبَابِ ? ، قال : جالسًا عند الباب وابن عمها معه ، فلما رأته ? قَالَتْ مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? ؟ إنه روادني عن نفسي فدفعته عن نفسي فشققت قميصه ، قال يوسف : بل هي روادتني عن نفسي وفررت منها فأدركتني فشقّت قميصي ، فقال ابن عمها : تبيان هذا في القميص ، فإن كان القميص ? قُدَّ مِن قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَهُوَ مِنَ الكَاذِبِينَ * وَإِنْ كَانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِن دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَهُوَ مِن الصَّادِقِينَ ? فيأتي بالقميص فوجده قدّ من دبر ، ? قَالَ إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ * يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هَذَا وَاسْتَغْفِرِي لِذَنبِكِ إِنَّكِ كُنتِ مِنَ الْخَاطِئِينَ ? . وقال نوف الشيباني : ما كان يوسف يريد أن يذكره حتى قالت : ? مَا جَزَاء مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوَءاً إِلاَّ أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ(6/18)
?؟فغضب فقال :? هِيَ رَاوَدَتْنِي عَن نَّفْسِي ?.
قوله عز وجل : ? وَقَالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ تُرَاوِدُ فَتَاهَا عَن نَّفْسِهِ قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً إِنَّا لَنَرَاهَا فِي ضَلاَلٍ مُّبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً وَقَالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ (32) قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ (33) فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34) ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35) ? .
عن مجاهد : قوله : ? قَدْ شَغَفَهَا حُبّاً ? ، قال : كان حبًا في شغفها . وقال الضحاك : هو الحب اللازق بالقلب .(6/19)
وعن السدي : ? فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ ? ، يقول : بقولهن . وقال ابن إسحاق : لما أظهر النساء ذلك من قولهنّ : تراود عبدها ، مكرًا بها لتريهنّ يوسف ، وكان يوصف لهن بحسنه وجماله ، ? فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ? ، قال سعيد بن جبير : طعامًا وشرابًا ومتّكأ . قال السدي : يتكئن عليه . وعن ابن عباس : ? وَأَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَآتَتْ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِّنْهُنَّ سِكِّيناً ? ، قال : أعطتهن أترجًّا ، وأعطت كل واحدة منهن سكيناً وقالت : اخرج عليهن فلما رأينه أَكبرنه ، قال ابن زيد : فخرج فلما رأينه أعظمنه وبهتن ? وَقَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ? ، قال السدي : جعل النسوة يحززن أيديهنّ يحسبن أنهن يقطعن الأترجّ ، ? وَقُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا هَذَا بَشَراً ? ، قال ابن زيد : ما هكذا تكون البشر .
وقال البغوي : أي : معاذ الله أن يكون هذا بشرًا ، ? إِنْ هَذَا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ ? ، وعند السدي : ? قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ فَاسَتَعْصَمَ ? ، تقول : بعد ما حلّ السراويل استعصى ، لا أدري ما بدا له . وقال ابن عباس : ? فَاسَتَعْصَمَ ? ، يقول : فامتنع .
وعن السدي : ? قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ? من الزنا .
قال البغوي : وإنما صرّحت به لأنها علمت أن لا ملامة عليها منهن ، وقد أصابهن ما أصابها من رؤيته ، فقلن له : أطع مولاتك ، فقالت راعيل : ? وَلَئِن لَّمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُوناً مِّنَ الصَّاغِرِينَ ? .(6/20)
? قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُن مِّنَ الْجَاهِلِينَ ? ، قال ابن زيد : إلا يكن منك أنت العون والمنعة ، لا يكن مني ولا عندي .
وعن ابن إسحاق : ? فَاسْتَجَابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ? ، أي : نجّاه من أن يركب المعصية فيهن ، ? ثُمَّ بَدَا لَهُم مِّن بَعْدِ مَا رَأَوُاْ الآيَاتِ ? ببراءته مما اتهم به من شقّ قميصه من دبر ، ? لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ ? ، قال السدي : إلى الوقت الذي يرون فيه رأيهم ، جعل الله ذلك الحبس ليوسف فيما ذكر عقوبة له من همه بالمرأة وكفارة لخطيئته .
وقال ابن كثير : يقول الله تعالى : ثم ظهر لهم من المصلحة فيما رأوه أنهم يسجنونه إلى حين ، أي : إلى مدة وذلك بعدما عرفوا براءته ، وظهرت ? الآيَاتِ ? وهي الأدلّة على صدقه في عفته ونزاهته ، وكأنهم والله أعلم إنما سجنوه لما شاع الحديث ، إيهامًا أنه راودها عن نفسها وأنهم سجنوه على ذلك .(6/21)
قوله عز وجل : ? وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ (37) وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ (38) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (39) مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (40) يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِن رَّأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ (41) وَقَالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ نَاجٍ مِّنْهُمَا اذْكُرْنِي عِندَ رَبِّكَ فَأَنسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42) ? .(6/22)
قال ابن إسحاق : فطرح في السجن يعني : يوسف ، ? وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانَ ? غلامان كانا للملك الأكبر الريان بن الوليد ، كان أحدهما على شرابه والآخر على بعض أمره ، في سخطة سخطها عليهما . وقال السدي : إن الملك غضب على خبازه ، بلغه أنه يريد أن يسمَّه فحبسه ، وحبس صاحب شرابه ، ظنّ أنه مالأه على ذلك فحبسهما جميعًا .
وقوله تعالى : ? قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ? .
قال ابن كثير : والمشهور عند الأكثرين أنهما رأيا منامًا وطلبا تعبيره .
وعن الضحاك في قوله : ? إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ? ، قال : كان يوسّع للرجل في مجلسه ويتعاهد المرضى .(6/23)
قال البغوي : فلما قصَّا عليه الرؤيا كره يوسف أن يعبّر لهما لمّا سألاه ، لِمَا علم في ذلك من المكروه على أحدهما ، فأعرض عن سؤالهما ، وأخذ في غيره من إظهار المعجزة والدعاء إلى التوحيد و ? قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ ? قيل : أراد به في النوم يقول : ? لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ ? في نومكما ، ? إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ ? في اليقظة ، وقيل : أراد به في اليقظة يقول : ? لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ ? من منازلكما ، ? تُرْزَقَانِهِ ? تطعمانه وتأكلانه ، ? إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ ? بقدره ولونه والوقت الذي يصل فيه إليكما ، ? قَبْلَ أَن يَأْتِيكُمَا ? ، مثل معجزة عيسى عليه السلام . ? ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَهُم بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ * وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبَآئِي إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ مَا كَانَ لَنَا أَن نُّشْرِكَ بِاللّهِ مِن شَيْءٍ ذَلِكَ مِن فَضْلِ اللّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ ? ثم دعاهما إلى الإسلام فقال : ? يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ ? ، أي : آلهة شتى ، ? خَيْرٌ أَمِ اللّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ * مَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِهِ إِلاَّ أَسْمَاء سَمَّيْتُمُوهَا أَنتُمْ وَآبَآؤُكُم مَّا أَنزَلَ اللّهُ بِهَا مِن سُلْطَانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ? ثم فسر رؤياهما فقال : ? يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا ? وهو صاحب الشراب ، ? فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْرًا ? والعناقيد الثلاثة : ثلاثة أيام يبقى في السجن ثم يدعوه الملك بعد الثلاثة ويردّه إلى منزلته التي كان(6/24)
عليها ، ? وَأَمَّا الآخَرُ ? ، يعني : صاحب الطعام فيدعوه الملك بعد ثلاثة أيام ، والسلال الثلاث : ثلاثة أيام يبقى في السجن ثم يخرجه فيأمر به ? فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ ? . قال ابن مسعود : ولما سمعا قول يوسف قالا : ما رأينا شيئًا إنمّا كنّا نلعب ، قال يوسف : ? قُضِيَ الأمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ ? ، أي : فرغ من الأمر الذي عنه تسألان ، ووجب حكم الله عليكما بالتي أخبرتكما به ، رأيتما أو لم تريا . وقال - يعني يوسف - عند ذلك : ? لِلَّذِي ظَنَّ ? علم ? أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُمَا ? وهو الساقي ? اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ ? ، يعني : سيدك الملك وقل له : إن غلامًا محبوسًا ظلمًا طال حبسه ، ? فَأَنْسَاهُ الشَّيْطَانُ ذِكْرَ رَبِّهِ ? قيل : أنسى الشيطان الساقي ذكر يوسف للملك ، تقديره : فأنساه الشيطان ذكره .
وقال ابن عباس - وعليه الأكثرون - : أنسى الشيطان يوسف ذكر ربه حين ابتغى الفَرَج ، من غيره واستعان بمخلوق ، وتلك غفلة عرضت ليوسف من الشيطان ? فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ ? وأكثر المفسرين على أن البضع في هذه الآية سبع سنين . انتهى ملخصًا .(6/25)
قوله عز وجل : ? وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَايَ إِن كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ (43) قَالُواْ أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ (44) وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ لَّعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدتُّمْ فَذَرُوهُ فِي سُنبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تَأْكُلُونَ (47) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِّمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ (49) ? .
قال السدي : إن الله أرى الملك في منامه رؤيا هالته ، فرأى : ? سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ? فجمع السحرة ، والكهنة ، والقافة ، فقصّها عليهم ، فقالوا : أضغاث أحلام وما نحن بتأويل الأحلامِ بعالمين . وعن ابن عباس : قوله : ? أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ ? ، قال : مشتبهة . وقال الضحاك هي الأحلام الكاذبة .(6/26)
وقال ابن كثير : اعتذروا إليه بأنها ? أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ ? ، أي : أخلاط أحلام اقتضته رؤياك هذه ، ? وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ ? ، أي : لو كانت رؤيا صحيحة من أخلاط لما كان لنا معرفة بتأويلها ، وهو تعبيرها، فعند ذلك تذكّر الذي نجا ذينك الفتيّين ، وكان الشيطان قد أنساه ما وصّاه به يوسف من ذكره أمره للملك ، فعند ذلك تذكّر ? بَعْدَ أُمَّةٍ ? ، أي : مدة فقال لهم - أي : للملك والذين جمعهم لذلك- :? أَنَاْ أُنَبِّئُكُم بِتَأْوِيلِهِ ? أي : بتأويل هذا المنامُ ? فَأَرْسِلُونِ ? أي : فابعثون إلى يوسف الصديق إلى السجن ومعنى الكلام فبعثوه فجاء فقال : ? يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنَا ? .(6/27)
وقال البغوي : والصدّيق الكثير الصدق ؛ ? أَفْتِنَا فِي سَبْعِ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَابِسَاتٍ ? فإن الملك رأى هذه الرؤيا ، ? لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ ? فقال له يوسف معبّرًا ومعلّمًا : أمّا البقرات السمان ، والسنبلات الخضر ، فسبع سنين مخاصيب ، والبقرات العجاف ، والسنبلات اليابسات فالسنوات المجدبة ، فذلك قوله تعالى إخبارًا عن يوسف : ? قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَبًا ? هذا خبر بمعنى الأمر ، يعني : ازرعوا سبع سنين على عادتكم في الزراعة والدأب : العادة ، وقيل : بجدّ واجتهاد ? فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلا قَلِيلا مِمَّا تَأْكُلُونَ? أمرهم بحفظ الأكثر ، والأكثر بقدر الحاجة ، ? ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلا قَلِيلا مِمَّا تُحْصِنُونَ ? تحرزون وتدّخرون للبذر ، ? ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ? معناه : يعصرون العنب خمرًا والزيتون زيتًا والسمسم دهنًا . انتهى ملخصًا . وقال ابن عباس : ? ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ ? ، قال : أخبرهم بشيء لم يسألوه عنه ، وكان الله قد علّمه إياه ، ? عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ ? بالمطر ، ? وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ? ، يعني : يحتلبون . وقال قتادة : يعصرون الأعناب ، والزيتون ، والثمار من الخصيب ، هذا علم آتاه الله يوسف لم يسئل عنه .(6/28)
وقال الشيخ عبد الرحمن بن سعدي: فإن قيل : من أين أخذ قوله : ? ثُمَّ يَأْتِي مِن بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ ? ؟ فإن بعض المفسرين قال : هذه زيادة من يوسف في التعبير بوحي أوحي إليه ، فالجواب : ليس الأمر كذلك ، وإنما أخذها من رؤيا الملك فإن السنين المجدبة سبع فقط ، فدلّ على أنه سيأتي بعدها عام عظيم الخصب كثير البركات ، يزيل الجدب العظيم الحاصل من السنين المجدبة ، الذي لا يزيلها عام خصب عادي ، بل لا بد فيه من خلاف العادة وهذا واضح وهو من مفهوم العدد .
قوله عز وجل : ? وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جَاءهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ قُلْنَ حَاشَ لِلّهِ مَا عَلِمْنَا عَلَيْهِ مِن سُوءٍ قَالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ وَإِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51) ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ (52) وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَّحِيمٌ (53) ? .(6/29)
قال السدي : لما أتى الملك رسوله فأخبره قال : ? ائْتُونِي بِهِ ? فلما أتاه الرسول ، ودعاه إلى الملك أبى يوسف من الخروج معه و ? قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ? الآية . قال ابن عباس : لو خرج يوسف يومئذٍ قبل أن يعلم الملك بشأنه ، ما زالت في نفس العزيز منه حاجة ، يقول : هذا الذي راود امرأته . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يرحم الله يوسف إن كان ذا أناة ، فلو كنت أنا المحبوس ثم أرسل إليّ لخرجت سريعًا ، إن كان لحليمًا ذا أناة » . رواه ابن جرير وغيره .
وعن ابن جريج قوله : ? ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ ? ، قال : أراد يوسف العذر قبل أن يخرج من السجن . قال ابن جرير : عن ابن إسحاق : فلما جاء الرسول الملك من عند يوسف بما أرسله إليه ، جمع النسوة و ? قَالَ مَا خَطْبُكُنَّ إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ? ؟ ويعني بقوله : ? مَا خَطْبُكُنَّ ? ما كان أمركنّ وما كان شأنكنّ ? إِذْ رَاوَدتُّنَّ يُوسُفَ عَن نَّفْسِهِ ? ؟ فأجبنه فقلن حاش لله ما علمنا عليه من سوء قالتِ امرأة العزيز الآن حصحص الحق . تقول : الآن تبيّن الحق وانكشف فظهر ? أَنَاْ رَاوَدتُّهُ عَن نَّفْسِهِ ? .
? ذَلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ ? .(6/30)
قال ابن كثير : تقول : إنما اعترفت بهذا على نفسي ليعلم زوجي أني لم أخنه بالغيب في نفس الأمر ، ولا وقع المحذور الأكبر ، وإنما راودت هذا الشاب مراودة فامتنع ، فلهذا اعترفت ليعلم أني بريئة ، ? وَأَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخَائِنِينَ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي ? تقول المرأة : ولست أبّرئ نفسي ، فإن النفس تتحدّث ، وتتمنّى ولهذا راودته لأن النفس أمارة بالسوء ? إِلا مَا رَحِمَ رَبِّي ? ، أي : إلا من عصمه الله تعالى ، ? إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ? ، وهذا القول هو الأشهر والأليق والأنسب بسياق القصة ومعاني الكلام . انتهى .
قوله عز وجل : ? وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ (54) قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ وَكَانُواْ يَتَّقُونَ (57) ? .
قال ابن إسحاق : ? وَقَالَ الْمَلِكُ ? ، يعني : ملك مصر الأكبر ، حين تبيّن عذر يوسف ، وعرف أمانته وعلمه ، قال لأصحابه : ? ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي ? ، يقول : أجعله من خلصائي ? فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ * قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَآئِنِ الأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ?.
قال ابن كثير : مدح نفسه ، ويجوز للرجل ذلك إذا جهل أمره للحاجة .
? وَكَذَلِكَ مَكَّنِّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ ? ، يعني : أرض مصر ، ? يَتَبَوَّأُ مِنْهَا حَيْثُ يَشَاءُ ? .(6/31)
قال ابن جرير : يتّخذ منها منزلاً حيث شاء بعد الضيق والحبس . وقال السدي : يتصرّف فيها كيف يشاء . ? نُصِيبُ بِرَحْمَتِنَا مَن نَّشَاء وَلاَ نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ? .
قال ابن كثير : أي : وما أضعنا صبر يوسف على أذى إخوته ، وصبره على الحبس بسبب امرأة العزيز ، فلهذا أعقبه الله - عز وجل - السلامة والنصر والتأييد ? وَلا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وَلأجْرُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ ? كقوله في حق سليمان عليه السلام : ? هَذَا عَطَاؤُنَا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسَابٍ * وَإِنَّ لَهُ عِندَنَا لَزُلْفَى وَحُسْنَ مَآبٍ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس السابع والثلاثون بعد المائة(6/32)
? وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60) قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن(6/33)
شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68) وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا قِدُونَ (71) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77) قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذاً لَّظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ(6/34)
أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) ? .
* * *(6/35)
قوله عز وجل : ? وَجَاء إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ (58) وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ (59) فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ (60) قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ (61) وَقَالَ لِفِتْيَانِهِ اجْعَلُواْ بِضَاعَتَهُمْ فِي رِحَالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَهَا إِذَا انقَلَبُواْ إِلَى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62) ? .
قال ابن إسحاق : لما اطمأن يوسف في ملكه ، وخرج من البلاء الذي كان فيه ، وخلت السنون المخصبة ، جهد الناس في كل وجه ، وضربوا إلى مصر يلتمسون بها الميرة من كل بلد ، وكان يوسف حين رأى ما أصاب الناس من الجهد قد واسى بينهم ، وكان لا يحمل للرجل إلا بعيرًا واحدًا ، تقسيطًا بين الناس ، وتوسعيًا عليهم ، فقدم إخوته فيمن قدم عليه ، يلتمسون الميرة من مصر ? فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ ? لما أراد الله أن يبلغ يوسف عليه السلام ما أراد .(6/36)
وقال السدي : أصاب الناس الجوع ، حتى أصاب بلادَ يعقوب التي هو بها ، فبعث بنيه إلى مصر ، وأمسك أخا يوسف بنيامين ، فلما دخلوا على يوسف عرفهم وهم له منكرون . فلما نظر إليهم قال : أخبروني ما أمركم ؟ فإني أنكر لسانكم ، قالوا : نحن قوم من أرض الشام . قال : فما جاء بكم ؟ قالوا : جئنا نمتاز طعامًا . قال : كذبتم أنتم عيون كم أنتم ؟ قالوا : عشرة . قال : أنتم عشرة آلاف ، كل رجل منكم أمير ألف ، فأخبروني خبركم . قالوا : إنا إخوة بنو رجل صدّيق ، وإنا كنا اثنى عشر ، وكان أبونا يحب أخانا ، وإنه ذهب معنا للبرية ، فهلك منا فيها ، وكان أحبّنا إلى أبينا ، قال : فإلى من سكن أبوكم بعده ؟ قالوا : إلى أخ لنا أصغر منه ، قال : فكيف تخبروني أن أباكم صدّيق ، وهو يحب الصغير منكم دون الكبير ؟ ائتوني بأخيكم هذا حتى أنظر إليه ? فإن فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ * قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ? . وعن مجاهد : ? وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ? يوسف يقول : أنا خير من يضيف بمصر .
وقال ابن إسحاق : لما جهزهم يوسف فيمن جهز من الناس ، حمل لكل رجل منهم بعيرًا بعدّتهم ، ثم قال لهم : ? ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ ? أحمل لكم بعيرًا آخر ، أو كما قال : ? أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ ? أي : لا أبخس الناس شيئًا ? وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ ? أي : خير لكم من غيري . ? فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ ? لا تقربوا بلدي ، ? قَالُواْ سَنُرَاوِدُ عَنْهُ أَبَاهُ وَإِنَّا لَفَاعِلُونَ ? ثم أمر ببضاعتهم التي أعطاهم بها ما أعطاهم من الطعام ، فجعلت في رحالهم وهم لا يعلمون .(6/37)
قوله عز وجل : ? فَلَمَّا رَجِعُوا إِلَى أَبِيهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنَا أَخَانَا نَكْتَلْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (63) قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي هَذِهِ بِضَاعَتُنَا رُدَّتْ إِلَيْنَا وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ وَمَا أُغْنِي عَنكُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67) وَلَمَّا دَخَلُواْ مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُم مَّا كَانَ يُغْنِي عَنْهُم مِّنَ اللّهِ مِن شَيْءٍ إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (68) ? .(6/38)
قال ابن إسحاق : خرجوا حتى قدموا على أبيهم ، وكان صاحب بادية له شاء ، وإبل فقالوا : يا أبانا قدمنا على خير رجل ، أنزلنا فأكرم منزلنا ، وكَالَ لنا فأوفانا ، ولم يبخسنا ، وقد أمرنا أن نأتيه بأخ لنا من أبينا ، وقال : إن أنتم لم تفعلوا فلا تقربنّي ، ولا تدخلنّ بلدي ، فقال لهم يعقوب : ? هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ? .
قال البغوي : أي : كيف آمنكم عليه وقد فعلتم بيوسف ما فعلتم ؟ ? فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ? .
وقال ابن كثير في قوله : ? هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِن قَبْلُ ? ، أي : هل أنتم صانعون به إلا كما صنعتم بأخيه من قبل ؟ تغيبونه علي وتحولون بيني وبينه ? فَاللّهُ خَيْرٌ حَافِظاً وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ? وسيرحم كبري وضعفي ووجدي بولدي ، وأرجو من الله أن يردّه عليّ ، ويجمع شملي به إنه أرحم الراحمين .(6/39)
وقوله تعالى : ? وَلَمَّا فَتَحُواْ مَتَاعَهُمْ وَجَدُواْ بِضَاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قَالُواْ يَا أَبَانَا مَا نَبْغِي ? ، قال قتادة : ما نبغي من وراء هذا ؟ إن بضاعتنا ردّت إلينا ، وقد أوفى لنا الكيل ، ? وَنَمِيرُ أَهْلَنَا وَنَحْفَظُ أَخَانَا وَنَزْدَادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذَلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ * قَالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِّنَ اللّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَن يُحَاطَ بِكُمْ ? ، قال مجاهد : إلا أن تهلكوا جميعًا ، ? فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ? عهدهم ، ? قَالَ اللّهُ عَلَى مَا نَقُولُ وَكِيلٌ * وَقَالَ يَا بَنِيَّ لاَ تَدْخُلُواْ مِن بَابٍ وَاحِدٍ وَادْخُلُواْ مِنْ أَبْوَابٍ مُّتَفَرِّقَةٍ ? ، قال الضحاك : خاف عليهم العين . وعن قتادة : ? وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِّمَا عَلَّمْنَاهُ ? أي : مما علمناه . وقال أيضًا : إنه لعامل بما علم ، ? وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ? .(6/40)
قوله عز وجل : ? وَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَخَاهُ قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ فَلاَ تَبْتَئِسْ بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ (70) قَالُواْ وَأَقْبَلُواْ عَلَيْهِم مَّاذَا تَفْقِدُونَ (71) قَالُواْ نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ (72) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ (73) قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ (74) قَالُواْ جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76) قَالُواْ إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ قَالَ أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ (77) ? .(6/41)
قال ابن إسحاق : لما دخلوا على يوسف قالوا : هذا أخونا الذي أمرتنا أن نأتيك به قد جئناك به ، فذُكر لي أنه قال لهم : قد أحسنتم وأصبتم ، وستجدون ذلك عندي أو كما قال . ثم قال : إني أراكم رجالاً ، وقد أردت أن أكرمكم ، ودعا ضافته فقال : أنزل كل رجلين على حده ، ثم أكرمهما وأحسن ضيافتهما ثم قال : إني أرى هذا الرجل الذي جئتم به ليس معه ثان ، فسأضمه إلي فيكون منزله معي ، فأنزلهم رجلين رجلين في منازل شتى ، وأنزل أخاه معه ، فأواه إليه فلما خَلاَ به ? قَالَ إِنِّي أَنَاْ أَخُوكَ ? أنا يوسف ? فَلاَ تَبْتَئِسْ ? بشيء فعلوه في ما مضى ، فإن الله قد أحسن إلينا ، ولا تعلمهم شيء مما أعلمتك .
وعن قتادة : قوله : ? فَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ ? ، يقول : لما قضى الله لهم حاجتهم ووفّاهم كيلهم ، ? جَعَلَ السِّقَايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ? ، قال الحسن : الصواع والسقاية سواء ، هم الإناء الذي يشرب فيه . قال ابن إسحاق : ثم جهّزهم بجهازهم ، وأكرمهم ، وأعطاهم ، وأوفاهم ، وحمل لهم بعيرًا بعيرًا ، وحمل لأخيه بعيرًا باسمه كما حمل لهم ، ثم أمر بسقاية الملك وهو الصواع ، وزعموا أنها كانت من فضة ، فجعلت في رحل أخيه بنيامين ، ثم أمهلهم حتى إذا انطلقوا وأمعنوا من القرية ، أمر بهم فأُدركوا فاحتُبسوا ، ثم نادى مناد : ? أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسَارِقُونَ ? قفوا ، وانتهى إليهم رسوله ، فقال لهم - فيما يذكرون - : ألم يكرمكم ضيافتكم ويوفّكم كيلكم ، ويحسن منزلتكم ، ويفعل بكم ما لم يفعل بغيركم ، وأدخلناكم علينا في بيوتنا ومنازلنا ؟ أو كما قال لهم ، قالوا : بلى وما ذاك ؟ قال : سقاية الملك فقدناها ، ولا نتّهم عليها غيركم ، ? قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ عَلِمْتُم مَّا جِئْنَا لِنُفْسِدَ فِي الأَرْضِ وَمَا كُنَّا سَارِقِينَ ? .(6/42)
قال البغوي : فإن قيل : كيف قالوا : لقد علمتم ومن أين علموا ذلك ؟ قيل : قالوا : لقد علمتم ما جئنا لنفسد في الأرض ، فإنا منذ قطعنا هذا الطريق لم نرزأ أحدًا شيئًا فاسئلوا عنا من مررنا به : هل ضررنا أحدًا ؟ وعن ابن عباس في قوله : ? نَفْقِدُ صُوَاعَ الْمَلِكِ وَلِمَن جَاء بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَأَنَاْ بِهِ زَعِيمٌ ? ، يقول : كفيل .
وقال معمر : بلغنا في قوله : ? قَالُواْ فَمَا جَزَآؤُهُ إِن كُنتُمْ كَاذِبِينَ ? ؟ أخبروا يوسف بما يحكم في بلادهم ، أنه من سرق أخذ عبدًا فقالوا : ? جَزَآؤُهُ مَن وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزَاؤُهُ ? ، قال ابن إسحاق : أي : سلّم به ، ? كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ ? ، أي : كذلك نصنع بمن سرق منا .
وعن قتادة : قوله : ? فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ? ذكر لنا أنه كان لا ينظر في وعاء إلا استغفر الله تائبًا مما قذفهم به ، حتى بقي أخوه ، وكان أصغر القوم قال : ما أرى هذا أخذ شيئًا قالوا : بلى فاستبره ، ألا وقد علموا حيث وضعوا سقايتهم ، ? ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ ? ، قال ابن إسحاق : فأخذ برقبته فانصرف به إلى يوسف ، يقول الله : ? كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ ? قال مجاهد : إلا فعلة كادها الله فاعتلّ بها يوسف .
وعن قتادة : قوله : ? مَا كَانَ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ ? ، يقول : ما كان ذلك في قضاء الملك أن يتعبّد رجلاً بسرقة . وقال معمر : كان في حكم الله : أن من سرق ضوعف عليه الغرم .
وعن السدي : ? إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللّهُ ? ولكن صنعنا له بأنهم قالوا : ? فَهُوَ جَزَاؤُهُ ? . وقال ابن جريج قوله : ? نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مِّن نَّشَاء ? يوسف وإخوته أوتوا علمًا فرفعنا يوسف فوقهم في العلم .(6/43)
وعن ابن عباس : ? وَفَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ ? ، قال : يكون هذا أعلم من هذا ، وهذا أعلم من هذا ، والله فوق كل عالم .
قال ابن إسحاق : لما رأى بنو يعقوب ما صنع أخو يوسف ولم يشكّوا أنه سرق ، قالوا أسفًا عليهم لِمَا دخل عليهم في أنفسهم تأنيبًا له ، ? إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ? فلما سمعها يوسف قال : ? أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً ? سرًّا في نفسه ? وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ? ? وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ ? . قال مجاهد : أول ما دخل على يوسف من البلاء أن عمته ابنة إسحاق ، وكانت أكبر ولد إسحاق ، وكانت إليها منطقة إسحاق وكانوا يتوارثونها بالكبر ، وكان من اختبأها ممن وليها كان له سلمًا لا ينازع فيه يصنع فيه ما شاء ، وكان يعقوب حين ولد له يوسف ، كان قد حضنته عمته ، فكان معها وإليها ، فلم يحب أحد شيئًا حبها إياه ، حتى إذا ترعرع وبلغ سنوات ووقعت نفس يعقوب عليه ، فأتاها فقال : يا أخيّة سلّمي إليّ يوسف ، فوالله ما أقدر على أن يغيب عني ساعة ، فقالت : والله ما أنا بتاركته ، والله ما أقدر أن يغيب عني ساعة ، قال : فوالله ما أنا بتاركه ، قالت : فدعه عندي أيامًا أنظر إليه وأسكن عنه لعل ذلك يسلّيني عنه ، أو كما قالت ، فلما خرج من عندها يعقوب عمدت إلى منطقة إسحاق فحزمتها على يوسف من تحت ثيابه ، ثم قالت : لقد فقدت منطقة إسحاق فانظروا من أخذها ومن أصابها ، فالتمست ثم قالت : اكشفوا أهل البيت ، فكشفوهم فوجدوها مع يوسف ، فقالت : والله إنه لي لسلم أصنع فيه ما شئت قال : وأتاها يعقوب ، فأخبرته الخبر ، فقال لها : أنت وذاك ، إن كان فعل ذلك ، فهو سلم لك ، ما أستطيع غير ذلك ، فأمسكته فما قدر عليه يعقوب حتى ماتت . قال : فهو الذي يقول إخوة يوسف : ? إِن يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَّهُ مِن قَبْلُ ? .(6/44)
وعن قتادة : ? فَأَسَرَّهَا يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَلَمْ يُبْدِهَا لَهُمْ ? أما الذي أسرّ في نفسه فقوله : ? أَنتُمْ شَرٌّ مَّكَاناً وَاللّهُ أَعْلَمْ بِمَا تَصِفُونَ ? .
وقال السدي : لما استخرجت السرقة من رحل الغلام انقطعت ظهورهم وقالوا : يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء ، حتى أخذت هذا الصواع ، فقال بنيامين : بل بنو راحيل الذين لا يزالون فيهم منكم بلاء ذهبتم بأخي فأهلكتموه في البرية ، وَضَعَ هذا الصواع في رحلي الذي وضع الدراهم في رحالكم ، فقالوا : لا تذكر الدراهم فنؤخذ بها .(6/45)
قوله عز وجل : ? قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذاً لَّظَالِمُونَ (79) فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ خَلَصُواْ نَجِيّاً قَالَ كَبِيرُهُمْ أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللّهِ وَمِن قَبْلُ مَا فَرَّطتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ (80) ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ (81) وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (82) قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84) قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ (85) قَالَ إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (86) يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87) ? .(6/46)
قال ابن كثير : لما تعيّن أخذ بنيامين ، وتقرّر تركه عند يوسف بمقتضى اعترافهم ، شرعوا يترفّقون له ويعطفونه عليهم فقالوا يا أيها العزيز إن له أباً شيخاً كبيراً يعنون : وهو يحبه حبًا شديدًا ويتسلّى به عن ولده الذي فقده ، ? فَخُذْ أَحَدَنَا مَكَانَهُ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ مَعَاذَ اللّهِ أَن نَّأْخُذَ إِلاَّ مَن وَجَدْنَا مَتَاعَنَا عِندَهُ إِنَّا إِذاً لَّظَالِمُونَ ? .
قال البغوي : ولم يقل : إلا من سرق تحرّزًا من الكذب ، ? إِنَّا إِذاً لَّظَالِمُونَ ? إن أخذنا بريئًا بمجرم . قال ابن إسحاق : ? فَلَمَّا اسْتَيْأَسُواْ مِنْهُ ? يئسوا منه ورأو شدّته في أمره ? خَلَصُواْ نَجِيّاً ? ، أي : خلا بعضهم ببعض ثم قالوا : ما ذا ترون ؟ فقال : روبيل ، كما ذكر لي ، وكان كبير القوم : ألم تعلموا أن أباكم قد أخذ عليكم موثقاً من الله لتأتنني به إلا أن يحاط بكم ومن قبل ما فرطتم في يوسف .
قال ابن كثير : قال لهم : ? أَلَمْ تَعْلَمُواْ أَنَّ أَبَاكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُم مَّوْثِقاً مِّنَ اللّهِ ? لتردّونه إليه ؟ فقد رأيتم كيف تعذّر عليكم ذلك ، مع ما تقدّم لكم من إضاعة يوسف عنه ? فَلَنْ أَبْرَحَ الأَرْضَ ? ، أي : لن أفارق هذه البلدة ? حَتَّىَ يَأْذَنَ لِي أَبِي ? في الرجوع إليه راضيًا عني ، ? أَوْ يَحْكُمَ اللّهُ لِي وَهُوَ خَيْرُ الْحَاكِمِينَ * ارْجِعُواْ إِلَى أَبِيكُمْ فَقُولُواْ يَا أَبَانَا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَمَا شَهِدْنَا إِلاَّ بِمَا عَلِمْنَا ? ، أي : قد وجدت السرقة في رحله ، ونحن ننظر لا علم لنا بالغيب ? وَمَا كُنَّا لِلْغَيْبِ حَافِظِينَ ? .
? وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا ? ، قال ابن عباس : يعنون مصر ، ? وَالْعِيْرَ الَّتِي أَقْبَلْنَا فِيهَا ? ، قال ابن إسحاق : أي : فقد علموا ما علمنا ، وشهدوا ما شهدنا إن كنت لا تصدقنا ، إنَّا لصادقون .(6/47)
? قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللّهُ أَن يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ? ، قال ابن إسحاق : اتّهمهم ، وظنّ أن ذلك كفعلتهم بيوسف ? وَتَوَلَّى عَنْهُمْ ? أعرض عنهم وتتامّ حزنه ، ? وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ ? .
قال البغوي : والأسف : أشد الحزن . ? وَابْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ الْحُزْنِ ? ، يعني : عمي بصره ، ? فَهُوَ كَظِيمٌ ? ، قال الضحاك : كئيب حزين ، وقال قتادة : ساكت لا يشكوا أمره إلى مخلوق . قال الحسن : كان بين خروج يوسف من حجر أبيه إلى يوم التقى معه ثمانون عامًا ، لا تجفّ عينا يعقوب ، وما على وجه الأرض أكرم على الله من يعقوب .
وعن قتادة : قوله : ? قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ ? ، قال : لا تزال ذكر يوسف ? حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً ? هرمًا ، ? أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ? ، قال : أو تموت . قال ابن إسحاق : لما ذكّر يعقوب بيوسف قالوا - يعني ولده الذين حضروه في ذلك الوقت جهلاً وظلمًا - : ? تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً ? ، أي : فاسدًا لا عقل لك ، ? أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ ? ، قال يعقوب عن علم بالله : ? إِنَّمَا أَشْكُو بَثِّي وَحُزْنِي إِلَى اللّهِ وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ? لما رأى من فظاظتهم وغلظتهم ، لم أَشْكُ ذلك إليكم ? وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ? .
قال البغوي : والبث أشد الحزن ، وسميّ بذلك لأن صاحبه لا يصبر عليه حتى يبثّه أي يظهره .(6/48)
وعن ابن عباس في قوله : ? وَأَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ? ، يقول : أعلم أن رؤيا يوسف صادقة وأني ساجدٌ له . وقال قتادة : ذكر لنا أن يعقوب لم ينزل به بلاء قطّ إلا أتى حسن ظنه بالله من ورائه . قال ابن إسحاق : ثم إن يعقوب قال لبنيه وهو على حسن ظنه بربه ، مع الذي هو فيه من الحزن ? يَا بَنِيَّ اذْهَبُواْ ? إلى البلاد التي منها جئتم ، ? فَتَحَسَّسُواْ مِن يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلاَ تَيْأَسُواْ مِن رَّوْحِ اللّهِ ? ، أي : من فرجه ، ? إِنَّهُ لاَ يَيْأَسُ مِن رَّوْحِ اللّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الثامن والثلاثون بعد المائة(6/49)
? فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96) قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ(6/50)
مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ(6/51)
الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88) قَالَ هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ (89) قَالُواْ أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ (91) قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92) اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) ? .
قال ابن إسحاق : وخرجوا إلى مصر راجعين إليها ? بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ ? أي : قليلة لا تبلغ ما كانوا يتبايعون به ، إلاَّ أن يتجاوز لهم فيه ، وقد رأوا ما نزل بأبيهم ، وتتابع البلاء عليه في ولده وبصره ، حتى قدموا على يوسف ? فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَيْهِ قَالُواْ يَا أَيُّهَا الْعَزِيزُ ? رجاء أن يرحمهم في شأن أخيهم ، ? مَسَّنَا وَأَهْلَنَا الضُّرُّ وَجِئْنَا بِبِضَاعَةٍ مُّزْجَاةٍ ? قال ابن عباس :[ رثة المتاع ] : خلق الحبل ، والغرارة ، والشيء وقال الضحاك : كاسدة لا تنفق .(6/52)
? فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ ? ، قال ابن إسحاق : أي : أعطنا ما كنت تعطينا قبل فإن بضاعتنا مزجاة ، ? وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ? ، قال السدي : تفضل علينا . وعن سعيد بن جبير : ? فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَتَصَدَّقْ عَلَيْنَا ? لا تنقصنا من السعر من أجل ردي دراهمنا ، ? إِنَّ اللّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ ? ، قال ابن إسحاق : وذكر لي أنهم لما كلّموه بهذا الكلام غلبته نفسه فارفض دمعه باكيًا ، ثم باح لهم بالذي يكتم منهم ، فقال ? هَلْ عَلِمْتُم مَّا فَعَلْتُم بِيُوسُفَ وَأَخِيهِ إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ? ولم يعن بذكر أخيه ما صنعه فيه حين أخذه ولكن للتفريق بينه وبين أخيه ، إذ صنعوا بيوسف ما صنعوا .
قال البغوي : ? إِذْ أَنتُمْ جَاهِلُونَ ? بما يؤول إليه أمر يوسف .
وقال ابن كثير : أي : إنما حملكم على هذا الجهل بمقدار هذا الذي ارتكبتموه ، كما قال بعض السلف كل من عصى الله فهو جاهل ، وقرأ : ? ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ? الآية .
قال ابن إسحاق : لما قال لهم ذلك كشف الغطاء ، فعرفوه ، فقالوا : ? أَإِنَّكَ لَأَنتَ يُوسُفُ قَالَ أَنَاْ يُوسُفُ وَهَذَا أَخِي قَدْ مَنَّ اللّهُ عَلَيْنَا إِنَّهُ مَن يَتَّقِ وَيِصْبِرْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ ? ، وقال السدي : لما قال لهم ذلك اعتذروا إليه و ? قَالُواْ تَاللّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللّهُ عَلَيْنَا وَإِن كُنَّا لَخَاطِئِينَ ? فيما كنا صنعنا بك .(6/53)
وعن ابن إسحاق : ? قَالَ لاَ تَثْرَيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ? ، أي : لا تأنيب عليكم اليوم عندي فيما صنعتم ، ? يَغْفِرُ اللّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ ? حين اعترفوا بذنوبهم وعن السدي : قال لهم يوسف : ما فعل أبي ؟ قالوا : لما فاته بنيامين عمي من الحزن قال : ? اذْهَبُواْ بِقَمِيصِي هَذَا فَأَلْقُوهُ عَلَى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَأْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ ? .
قوله عز وجل : ? وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ (94) قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (96) قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ (97) قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98) ? .
عن ابن عباس في قوله : ? وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ? ، قال : هاجت ريح فجاءت بريح يوسف من مسيرة ثمان ليال ، فقال : ? إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلاَ أَن تُفَنِّدُونِ ? ، قال تسفّهون ، ? قَالُواْ تَاللّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلاَلِكَ الْقَدِيمِ ? ، يقول : خطئك القديم . قال سفيان : من حبّك ليوسف .
قال ابن إسحاق : ? فَلَمَّا أَن جَاء الْبَشِيرُ ? ألقى القميص عَلَى وَجْهِهِ ? فَارْتَدَّ بَصِيراً قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ * قَالُواْ يَا أَبَانَا اسْتَغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا إِنَّا كُنَّا خَاطِئِينَ * قَالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّيَ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ? ، قال ابن جريج : أخر ذلك إلى السحر .(6/54)
قوله عز وجل : ? فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَقَالَ ادْخُلُواْ مِصْرَ إِن شَاء اللّهُ آمِنِينَ (99) وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً وَقَدْ أَحْسَنَ بَي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَجَاء بِكُم مِّنَ الْبَدْوِ مِن بَعْدِ أَن نَّزغَ الشَّيْطَانُ بَيْنِي وَبَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100) رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101) ? .
قال السدي : فحملوا إليه أهلهم وعيالهم ، فلما بلغوا مصر كلّم يوسف الملك الذي فوقه فخرج هو والملوك يتلّقونهم ، فلما بلغوا مصر قال ادخلوا مصر إن شاء الله آمنين .
? فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ? . قال حجاج : بلغني أن يوسف والملك خرجًا في أربعة آلاف يستقبلون يعقوب وبنيه : وعن ابن إسحاق : ? فَلَمَّا دَخَلُواْ عَلَى يُوسُفَ آوَى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ? ، قال : أباه وأمه . وعن مجاهد : ? وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ ? ، قال : السرير ، ? وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّداً ? ، قال ابن إسحاق : وقعوا له سجودًا وكانت تلك تحية الملوك في ذلك الزمان ، أبوه وأمه وإخوته . وعن سلمان الفارسي قال : كان بين رؤيا يوسف إلى أن رأى تأويلها أربعون سنة . وقال ابن مسعود : دخل بنو إسرائيل مصر وهم ثلاثة وستون إنسانًا ، وخرجوا منها وهم ستمائة ألف .(6/55)
وعن قتادة : قوله : ? إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِّمَا يَشَاءُ ? لطف ليوسف وصنع له ، حتى أخرجه من السجن ، وجاء بأهله من البدو ، ونزع من قلبه نزغ الشيطان ، وتحريشه على إخوته .
وقال قتادة : لما جُمع ليوسف شمله ، وتكاملت عليه النعم سأل لقاء ربه فقال : ? رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ? . وقال ابن إسحاق : قال يوسف حين رأى ما رأى من كرامة الله وفضله عليه وعلى أهل بيته ، حين جمع الله شمله وردّه على والده ، وجمع بينه وبينه فيما هو فيه من الملك والبهجة : ? يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً ? إلى قوله : ? إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ? ، ثم ارعوى يوسف وذكر أن ما هو فيه من الدنيا بائد وذاهب ، فقال : ? رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنُيَا وَالآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ ? .(6/56)
قوله عز وجل : ? ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ (102) وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَمَا تَسْأَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ (104) وَكَأَيِّن مِّن آيَةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْهَا وَهُمْ عَنْهَا مُعْرِضُونَ (105) وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ (106) أَفَأَمِنُواْ أَن تَأْتِيَهُمْ غَاشِيَةٌ مِّنْ عَذَابِ اللّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَهُمْ لاَ يَشْعُرُونَ (107) قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللّهِ وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) ? .
عن قتادة : قوله : ? وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ ? ، يعني : محمدًا - صلى الله عليه وسلم - يقول : ما كنت لديهم وهم يلقونه في غيابة الجب ، ? وَهُمْ يَمْكُرُونَ ? ، أي : بيوسف .
وعن قتادة أيضًا في قوله :? وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللّهِ إِلاَّ وَهُم مُّشْرِكُونَ ? قال : تسألهم : من خلقهم ومن خلق السماوات والأرض ؟ فيقولون : الله ، فذلك إيمانهم بالله ، وهم يعبدون غيره .
وقال ابن زيد في قوله :? قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ ? قال : ? هَذِهِ سَبِيلِي ? هذا أمري ، وسنّتي ، ومنهاجي ? أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ? قال : وحق والله على ما اتّبعه أن يدعو إلى ما دعا إليه ، ويذكر بالقرآن والموعظة ، وينهي عن معاصي الله .(6/57)
قوله عز وجل : ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى أَفَلَمْ يَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَيَنظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ لِّلَّذِينَ اتَّقَواْ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ (109) حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ جَاءهُمْ نَصْرُنَا فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111) ? .
عن قتادة : ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى ? لأنهم كانوا أعلم وأحلم من أهل العمود . وعن ابن عباس : ? حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ ? أيس الرسل من قومهم أن يصدقوهم ، وظن قومهم أن الرسل قد كذبتهم . وعن قتادة : ? حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ ? ، قال : من قومهم ، ? وَظَنُّواْ أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُواْ ? ، قال : وعلموا أنهم قد كذبوا ? جَاءهُمْ نَصْرُنَا ? .
قال ابن كثير : يذكر تعالى أن نصره ينزل على رسله صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين عند ضيق الحال ، وانتظار الفرج من الله ، في أحوج الأوقات إلى ذلك ، كقوله تعالى : ? وَزُلْزِلُواْ حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللّهِ ? الآية .
وقوله تعالى : ? فَنُجِّيَ مَن نَّشَاء ? .(6/58)
قال البغوي : قرأ العامة : بِنُونَيْنِ ، وقرأ ابن عامر وحمزة وعاصم : بِنُونِ واحدة مضمومة . وعن ابن عباس : فَنُنجِّيَ مَن نشَاء : فَنُنجِّيَ الرسل مَن نشَاء ? وَلاَ يُرَدُّ بَأْسُنَا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ ? وذلك أن الله تبارك وتعالى بعث الرسل ، فدعوا قومهم وأخبروهم أنه من أطاع نجا ، ومن عصا عذّب وغوى .
وقوله تعالى : ? لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ ? .
قال ابن كثير : يقول تعالى : لقد كان في خبر المرسلين مع قومهم ، وكيف نجينا المؤمنين وأهلكنا الكافرين ، ? لَعِبْرَةً لَّأُوْلِي الأَلْبَابِ ? وهو العقول .
وقوله تعالى : ? مَا كَانَ حَدِيثاً يُفْتَرَى ? ، قال قتادة : والفرية الكذب ، ? وَلَكِن تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ ? والفرقان تصديق الكتب التي قبله ، ويشهد عليها ? وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ? .
وقال البغوي في قوله تعالى : ? وَتَفْصِيلَ كُلَّ شَيْءٍ ? مما يحتاج العباد إليه من الحلال والحرام ، والأمر والنهي . والله أعلم .
* * *
الدرس التاسع والثلاثون بعد المائة
[ سورة الرعد ]
مدنية ، وآياتها 43 ، نزلت بعد سورة محمد
بسم الله الرحمن الرحيم(6/59)
? آلمر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1) اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ(6/60)
وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11) هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ (14) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ(6/61)
فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? آلمر تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ (1) اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُّسَمًّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُم بِلِقَاء رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4) ? .
قال مجاهد : ? آلمر ? فواتح يفتتح بها كلامه .
وقوله تعالى : ? تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ ? ، أي : هذه آيات الكتاب . قال ابن عباس أراد بالكتاب القرآن ? وَالَّذِيَ أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يُؤْمِنُونَ ? .
وقوله تعالى : ? اللّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ? ، قال قتادة : رفعها بغير عمد .(6/62)
وقال ابن كثير : يخبر تعالى عن كمال قدرته ، وعظيم سلطانه ، أنه الذي بإذنه وأمره رفع السماوات بغير عمد ، بل بإذنه وأمره وتسخير رفعها عن الأرض بعدًا لا تنال ، ولا يدرك مداها .
وقوله تعالى : ? وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَاراً وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ? .
قال ابن كثير : أي : من كل شكل صنفان . وقال في فتح البيان : أي : صنفين أسود وأبيض ، أكبر وأصغر ، حلوًا وحامضًا . وعن مجاهد : ? وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ ? ، قال : السبخة والعذبة ، والمالح والطيّب . وقال ابن عباس : متجاورات جميعًا ، تنبت هذه ، وهذه إلى جنبها لا تنبت .
وعن سعيد بن جبير في قوله : ? وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ ? ، قال : مجتمع وغير مجتمع تُسقى بماء واحد ونفضل بعضها على بعض في الأكل . قال : الأرض الواحدة يكون فيها الخوخ ، والكمثرى ، والعنب الأبيض والأسود ، وبعضها أكثر حملاً من بعض ، وبعضه حلو وبعضه حامض ، وبعضه أفضل من بعض . وقال مجاهد : كمثل صالح بني آدم وخبيثهم ، أبوهم واحد .
قوله عز وجل : ? وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُوْلَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ وَأُوْلَئِكَ الأَغْلاَلُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَأُوْلَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدونَ (5) وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ وَإِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِّلنَّاسِ عَلَى ظُلْمِهِمْ وَإِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقَابِ (6) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ (7) ? .(6/63)
عن قتادة : قوله : ? وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ ? إن عجبت يا محمد ? فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ? عجب الرحمن تبارك وتعالى من تكذيبهم بالبعث بعد الموت . وقال ابن زيد في قوله : ? وَإِن تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ ? ، قال : إن تعجب من تكذيبهم ، وهم قد رأوا من قدرة الله وأمره ، وما ضرب لهم من الأمثال ، فأراهم من حياة الموات في الأرض الميتة ، إن تعجب من هذه فتعجّب من قولهم : ? أَئِذَا كُنَّا تُرَاباً أَئِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ ? ، ولا يرون أنا خلقناهم من نطفة ، فالخلق من نطفة أشد أم الخلق من تراب وعظام ؟
وعن قتادة : ? وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ ? ، قال بالعقوبة قبل العافية ? وَقَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِمُ الْمَثُلاَتُ ? ، قال : العقوبات ، ? وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلا أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ ? هذا قول مشركي العرب ، قال الله : ? إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ ? لكل قوم داع يدعوهم إلى الله .
قوله عز وجل : ? اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ (8) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ (9) سَوَاء مِّنكُم مَّنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَمَن جَهَرَ بِهِ وَمَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَسَارِبٌ بِالنَّهَارِ (10) لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ (11) ? .(6/64)
عن ابن عباس : ? اللّهُ يَعْلَمُ مَا تَحْمِلُ كُلُّ أُنثَى وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ وَمَا تَزْدَادُ ? ، قال : ما رأت المرأة من يوم دمًا على حملها زاد في الحمل يومًا . وقال أيضًا : ? وَمَا تَغِيضُ الأَرْحَامُ ? ، يعني : السقط ، ? وَمَا تَزْدَادُ ? ، يقول : ما زادت الرحم في الحمل على ما غاضت حتى ولدته تمامًا ، وذلك أن من النساء من تحمل عشرة أشهر ، ومنهن من تحمل تسعة أشهر ، ومنهم من تزيد في الحمل ، ومنهن من تنقص ، فذلك الغيض والزيادة التي ذكر الله وكل ذلك بعلمه .
? وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ? ، قال قتادة : أي : والله لقد حفظ عليهم رزقهم وآجالهم ، وجعل لهم أجلاً معلومًا .
وعن الحسن في قوله تعالى : ? لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ ? ، قال الملائكة : ? يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللّهِ ? ، قال ابن عباس : فإذا جاء القدر خلّوا عنه . وقال مجاهد : ما من عبد إلا به ملك موكل يحفظه في نومه ويقظته من الجن والإنس والهوام ، فما منهم شيء يأتيه يريده إلا قال : وراءك ، إلا شيئًا بإذن الله فيصيبه ? إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ ? .
قال البغوي : من العافية والنعمة ? حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ ? من الحال الجميلة فيعصوا ربهم ? وَإِذَا أَرَادَ اللّهُ بِقَوْمٍ سُوءاً فَلاَ مَرَدَّ لَهُ وَمَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَالٍ ? .(6/65)
قوله عز وجل : ? هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ (12) وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ (14) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ (15) قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُمَاتُ وَالنُّورُ أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ (16) ? .(6/66)
قوله تعالى : ? هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ ? ، قال مجاهد : الذي فيه الماء ، ? وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ ? عن الأسود بن يزيد : أنه كان إذا سمع الرعد قال : ( سبحان الذي يسبّح الرعد بحمده والملائكة من خيفته ) . وروي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : أنه كان إذا سمع صوت الرعد الشديد قال : « اللهم لا تقتلنا بغضبك ، ولا تهلكنا بعذابك ، وعافنا قبل ذلك » . وعن ابن عباس مرفوعًا : « إذا سمعتم الرعد فاذكروا الله ، فإنه لا يصيب ذاكرًا » . رواه الطبراني . وعن أبي سعيد مرفوعًا : « تكثر الصواعق عند اقتراب الساعة » . وقال قتادة : ذكر لنا أن رجلاً أنكر القرآن وكذّب النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فأرسل الله صاعقة فأهلكته وأنزل الله : ? وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاءُ وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ ? ، أي : القوة والحيلة .
وعن ابن عباس : ? لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ? ، قال : شهادة أن لا إله إلا الله . وعن عليّ ? لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ ? ، قال : التوحيد ، ? وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ لاَ يَسْتَجِيبُونَ لَهُم بِشَيْءٍ إِلاَّ كَبَاسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْمَاء لِيَبْلُغَ فَاهُ وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ ? ، قال : كالرجل العطشان يمدّ يديه إلى البئر لترفع الماء إليه ، ? وَمَا هُوَ بِبَالِغِهِ وَمَا دُعَاء الْكَافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلاَلٍ ? ، قال قتادة : هذا مثل ضربه الله ، أي : هذا الذي يدعون من دون الله هذا الوثن وهذا الحجر ، لا يستجيب له بشيء أبدًا ، ولا يسوق إليه خيرًا ولا يدفع عنه سوءًا حتى يأتيه الموت ، كمثل هذا الذي بسط ذراعيه إلى الماء ليبلغ فاه ، ولا يبلغ فاه ولا يصل إليه ذلك حتى يموت عطشًا .(6/67)
? وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً ? فأما المؤمن فيسجد طائعًا ، وأما الكافر فيسجد كارهًا . ? وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ? قال ابن عباس : يعني : حين يفيء ظل أحدهم عن يمينه أو شماله .
وقوله تعالى : ? قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ قُلِ اللّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء لاَ يَمْلِكُونَ لِأَنفُسِهِمْ نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً ? .
قال البغوي : قوله تعالى : ? قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ ? ، أي : خالقهما ومدبّرهما ، ? فَسَيَقُولُونَ اللّهُ ? لأنهم يقرّون بأن الله خالقهم وخالق السماوات والأرض ، فإذا أجابوك فقل أنت أيضًا يا محمد : ? اللّهُ ? ثم قال الله لهم لزامًا للحجة ? قُلْ أَفَاتَّخَذْتُم مِّن دُونِهِ أَوْلِيَاء ? معناه أنتم مع إقراركم بأن الله خالق السماوات والأرض اتخذتم من دونه أولياء فعبدتموهم من دون الله ؟ يعني : الأصنام ، وهم لا يملكون لأنفسهم نفعاً ولا ضرّاً قل هل يستوي الأعمى والبصير أم هل تستوي الظلمات والنور ؟ قال مجاهد : أما الأعمى والبصير : فالكافر والمؤمن ، وأما الظلمات والنور : فالهدى والضلالة ، ? أَمْ جَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ? ، قال مجاهد : خلقوا كخلقه فحملهم ذلك على أن شكّوا في الأوثان . وقال البغوي : ? أَمْ جَعَلُواْ ? ، أي : جعلوا لله شركاء ? خَلَقُواْ كَخَلْقِهِ فَتَشَابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ ? ، أي : اشتبه ما خلقوه بما خلقه الله تعالى ، فلا يدرون ما خلق الله وما خلق آلهتهم . ? قُلِ اللّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ? . قال ابن كثير : ( وإنما عبد هؤلاء المشركون معه آلهة ، هم معترفون أنها مخلوقة له عبيد له ، كما كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك تملكه وما ملك ، وكما أخبر تعالى(6/68)
عنهم في قوله : ? مَا نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونَا إِلَى اللَّهِ زُلْفَى ? ، وقال تعالى : ? إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً ? فإذا كان سَمّوا الجميع عبيدًا ، فلم يعبد بعضهم بعضًا ) . انتهى ملخصًا .
قوله عز وجل : ? أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَّابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاء حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِّثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ (18) ? .
عن ابن عباس : ? أَنزَلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا ? فهذا مثل ضربه الله احتملت منه القلوب على قدر يقينها وشكّها ، فأما الشكّ فلا ينفع معه العمل ، وأما اليقين فينفع الله به أهله ، وهو قوله : ? فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاء ? وهو الشكّ ، ? وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأَرْضِ ? وهو اليقين ، كما يجعل الحلي في النار فيؤخذ خالصه ، ويترك خبثه في النار ، فكذلك يقبل الله اليقين ويترك الشكّ . وقال مجاهد : هما مثلان للحق والباطل . وقال عطاء : ضرب الله مثلاً للحق والباطل ، فضرب مثل الحق كمثل السيل الذي يمكث في الأرض ، وضرب مثل الباطل كمثل الزبد الذي لا ينفع الناس .(6/69)
وقوله تعالى : ? لِلَّذِينَ اسْتَجَابُواْ لِرَبِّهِمُ الْحُسْنَى ? ، قال قتادة : هي الجنة ? وَالَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُواْ لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً وَمِثْلَهُ مَعَهُ لاَفْتَدَوْاْ بِهِ أُوْلَئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسَابِ ? . قال النخعي : ? سُوءُ الْحِسَابِ ? أن يحاسب الرجل بذنبه كله لا يغفر له منه شيء ، ? وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمِهَادُ ? .
قال ابن جرير : يقول : وبئس الفراش والوطاء جهنم التي هي مأواهم يوم القيامة . والله أعلم .
* * *
الدرس الأربعون بعد المائة(6/70)
? أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ (26) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ(6/71)
رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ (34) مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ (37) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا(6/72)
رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمَى إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ (20) وَالَّذِينَ يَصِلُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَيَخَافُونَ سُوءَ الحِسَابِ (21) وَالَّذِينَ صَبَرُواْ ابْتِغَاء وَجْهِ رَبِّهِمْ وَأَقَامُواْ الصَّلاَةَ وَأَنفَقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلاَنِيَةً وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُوْلَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالمَلاَئِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِم مِّن كُلِّ بَابٍ (23) سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24) ? .(6/73)
عن قتادة في قوله : ? أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَبِّكَ الْحَقُّ ? قال : هؤلاء قوم انتفعوا بما سمعوا من كتاب الله وعقلوه ووعوه ، قال الله : ? كَمَنْ هُوَ أَعْمَى ? قال : عن الخير فلا يبصره ، ? إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ? فبيّن من هم فقال : ? الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللّهِ وَلاَ يِنقُضُونَ الْمِيثَاقَ ? ، قال : وذكر لنا أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : « لا إيمان لمن لا أمانة له ، ولا دين لمن لا عهد له » . وقال ابن زيد في قوله : ? وَيَدْرَؤُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ ? ، قال : يدفعون الشر بالخير ، لا يكافؤون الشر بالشر ولكن يدفعون . وعن أبي عمران الجوني أنه تلا هذه الآية : ? سَلاَمٌ عَلَيْكُم بِمَا صَبَرْتُمْ ? ثم قال : على دينكم .
قوله عز وجل : ? وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ (26) ? .
عن ابن عباس قال : أكبر الكبائر الإِشراك بالله ، لأن الله يقول : ? وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ ? ونقض العهد ، وقطيعة الرحم ، لأن الله يقول : ? أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ ? .(6/74)
وعن مجاهد في قوله : ? وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ? ، قال : قليل ذاهب . وعن عبد الرحمن بن سابط في قوله : ? وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ ? ، قال : كزاد الراعي يزوّده أهله الكفّ من التمر أو الشيء من الدقيق ، أو الشيء يشرب عليه اللبن .
قوله عز وجل : ? وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْلاَ أُنزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِّن رَّبِّهِ قُلْ إِنَّ اللّهَ يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنَابَ (27) الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ (29) كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ مَتَابِ (30) وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى بَل لِّلّهِ الأَمْرُ جَمِيعاً أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ (31) وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كَانَ عِقَابِ (32) ? .(6/75)
عن قتادة : قوله : ? وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ ? ، يقول : سكنت إلى ذكر الله . وعن عكرمة في قوله : ? طُوبَى لَهُمْ ? ، قال : مآلهم . وقال ابن عباس يقول : فرح وقرّة عين . وقال قتادة : هذه كلمة عربية ، يقول الرجل : طوبى لك أي : أصبت خيرًا . وعن مجاهد : ? طُوبَى لَهُمْ ? قال : الجنة . وعن ابن عباس : لما خلق الله الجنة وفرغ منها ، قال : ? الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَآبٍ ? وذلك حين أعجبته . وعن شهر بن حوشب قال : ? طُوبَى ? شجرة في الجنة ، كل شجر الجنة منها أغصانها ، من وراء سور الجنة . وقال عكرمة : ? طُوبَى ? ، قال : نِعْمَ ما لَهم . وقال قتادة يقول : حسن لهم ، وهي كلمة من كلام العرب . وعن الضحاك : ? طُوبَى لَهُمْ ? غبطة لهم ، ? وَحُسْنُ مَآبٍ ? ، قال : حسن منقلب .
وقوله تعالى : ? كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهَا أُمَمٌ لِّتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِيَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَهُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمَنِ ? ، قال البغوي : سبب نزولها أن أبا جهل سمع النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو في الحجر يدعو : « يا الله يا رحمن » فرجع إلى المشركين فقال : إن محمدًا يدعو إلهين ، يدعو الله ويدعو إلهًا آخر يسمى الرحمن ، ولا نعرف الرحمن إلا رحمن اليمامة ، فنزلت هذه الآية ، ونزل قوله تعالى : ? قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ? .(6/76)
وعن قتادة : قوله : ? وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ? ذكر لنا أن قريشًا قالوا : إن سرّك يا محمد أن نتّبعك فسيّر لنا جبال تهامة ، أو زد لنا في حرمنا حتى نتّخذ قطائع نحترف فيها ، أو أَحْيِ لنا فلانًا وفلانًا ناسًا ماتوا في الجاهلية ، فأنزل الله تعالى : ? وَلَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبَالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتَى ?، يقول : لو فعل هذا بقرآن قبل قرآنكم لفعل بقرآنكم .
وعن ابن عباس : ? أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ ? ، يقول : يعلم .
وقال ابن كثير : وقوله : ? أَفَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُواْ ? ، أي : من إيمان جميع الخلق ويعلموا ويتبيّنوا ? أَن لَّوْ يَشَاءُ اللّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً ? فإنه ليس ثمّ حجّة ولا معجزة أبلغ ولا أنجع في العقول من هذا القرآن وعن قتادة: قوله : ? وَلاَ يَزَالُ الَّذِينَ كَفَرُواْ تُصِيبُهُم بِمَا صَنَعُواْ قَارِعَةٌ ? أي : بأعمالهم أعمال السوء ? أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِّن دَارِهِمْ ? قال الحسن : أو تحل القارعة قريبًا من دارهم ، ? حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللّهِ ? ، قال : يوم القيامة ? إِنَّ اللّهَ لاَ يُخْلِفُ الْمِيعَادَ ? .(6/77)
قوله عز وجل : ? أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ (33) لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ (34) مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ أُكُلُهَا دَآئِمٌ وِظِلُّهَا تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ النَّارُ (35) ? .
عن قتادة : قوله : ? أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ? ذلكم ربكم تبارك وتعالى قائم على بني آدم بأرزاقهم ، وآجالهم ، وحَفِظَ عليهم والله أعمالهم . وقال الضحاك في قوله : ? أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ? فهو الله قائم على كل نفس ، بَرّ وفاجر يرزقهم ويكلؤهم ثم يشرك به منهم من أشرك ? وَجَعَلُواْ لِلّهِ شُرَكَاء قُلْ سَمُّوهُمْ ? ولو سمّوهم آلهة لكذبوا ، وقال في ذلك غير الحق ، لأن الله واحد ليس له شريك . قال الله : ? أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِمَا لاَ يَعْلَمُ فِي الأَرْضِ أَم بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ ? ، يقول : لا يعلم الله في الأرض إلهًا غيره . وعن مجاهد : قوله : ? بِظَاهِرٍ مِّنَ الْقَوْلِ ? بظنّ ? بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ ? ، قال : قولهم .
وقال البغوي : ? أَفَمَنْ هُوَ قَآئِمٌ عَلَى كُلِّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ ? جوابه محذوف تقديره : كمن ليس بقائم ، بل عليم عن نفسه .(6/78)
قلت : وما أحسن قول الأعرابية حين قدمت العيينة ، والمشركون عكوف عند قبر زيد بن الخطاب ، فقال لها السدنة ، قرّبي لزيد ، فقالت : أين زيد ؟ قالوا : في القبر ، قالت : تحت الرضم ؟ قالوا : نعم ، قالت : ما نفع نفسه فينفعني ، ? بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ مَكْرُهُمْ وَصُدُّواْ عَنِ السَّبِيلِ وَمَن يُضْلِلِ اللّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ * لَّهُمْ عَذَابٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَعَذَابُ الآخِرَةِ أَشَقُّ وَمَا لَهُم مِّنَ اللّهِ مِن وَاقٍ ْ? .
وقوله تعالى :? مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ ? أي : صفتها أن الأنهار تجري من تحتها ? أُكُلُهَا دَآئِمٌ ? لا ينقطع ? وِظِلُّهَا ? لا يزول ، ? تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَواْ ? ، أي : الجنة عاقبة المتقين ومنقلبهم ، ? وَّعُقْبَى الْكَافِرِينَ ? ومصيرهم ? النَّارُ ? .
قوله عز وجل : ? وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللّهَ وَلا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُو وَإِلَيْهِ مَآبِ (36) وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ (37)?.
قال ابن زيد في قوله:? وَالَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَفْرَحُونَ بِمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ ? قال : هذا من آمن برسول الله - صلى الله عليه وسلم - من أهل الكتاب ، فيفرحون بذلك ، وقرأ ? وَمِنهُم مَّن يُؤْمِنُ بِهِ وَمِنْهُم مَّن لاَّ يُؤْمِنُ بِهِ ? .
وفي قوله : ? وَمِنَ الأَحْزَابِ مَن يُنكِرُ بَعْضَهُ ? قال : الأحزاب الأمم : اليهود ، والنصارى ، والمجوس ، منهم من آمن به ومنهم من أنكره .
? وَكَذَلِكَ أَنزَلْنَاهُ حُكْماً عَرَبِيّاً ? .(6/79)
قال البغوي : نسب إلى العرب لأنه نزل بلغتهم ? وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ وَاقٍ ? ، يعني : من ناصر ولا حافظ .
قال ابن كثير : وهذا وعيد لأهل العلم أن يتبعوا سبل أهل الضلالة .
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلاً مِّن قَبْلِكَ وَجَعَلْنَا لَهُمْ أَزْوَاجاً وَذُرِّيَّةً وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ (38) يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ (39) وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ (40) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا وَاللّهُ يَحْكُمُ لاَ مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَهُوَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (41) وَقَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلِلّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ مَا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَسَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ (43) ? .(6/80)
قال ابن كثير في قوله : ? لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ ? ، أي : لكل مدة مضروبة كتاب مكتوب بها ، ? وَكُلُّ شَيْءٍ عِندَهُ بِمِقْدَارٍ ? . وعن ابن عباس أنه قال في هذه الآية : ? يَمْحُو اللّهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ? ، قال : الكتاب كتابان : كتاب يمحو الله منه ما يشاء ويثبت وعنده أم الكتاب . وعن عمر بن الخطاب أنه كان يقول : ( اللهم إن كنت كتبت عليّ شقوة أو ذنبًا فامحه ، فإنك تمحوا ما تشاء وتثبت وعندك أم الكتاب ، فاجعله سعادة ومغفرة ) . وعن ثوبان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن الرجل ليحرم الرزق بالذنب يصيبه ، ولا يردّ القدر إلا الدعاء ، ولا يزيد في العمر إلا البِرّ » . رواه أحمد وغيره . وعن ابن عباس : ? وَعِندَهُ أُمُّ الْكِتَابِ ? ، يقول : وجملة ذلك عنده في أم الكتاب ، الناسخ المنسوخ ، وما يبدّل وما يثبت ، كل ذلك في كتاب . وقال كعب : علم الله ما هو خالق وما خَلْقُه عاملون ، فقال بعلمه : كن كتابًا فكان كتابًا .
وقال البغوي : قوله تعالى : ? وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ ? من العذاب قبل وفاتك ? أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ ? قبل ذلك ، ? فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ ? ليس عليك إلا ذلك ? وَعَلَيْنَا الْحِسَابُ ? الجزاء يوم القيامة .
وعن ابن عباس في قوله : ? أَنَّا نَأْتِي الأَرْضَ نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ? ، قال : أو لم يروا إلى القرية تخرب حتى يكون العمران في ناحية . وقال ابن جريج : خرابها وهلاك الناس . وعن ابن عباس : قوله : ? نَنقُصُهَا مِنْ أَطْرَافِهَا ? ، يقول : نقصان أهلها وبركتها .(6/81)
وعن قتادة : قوله : ? وَيَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَسْتَ مُرْسَلاً ? ، قال : قول مشركي قريش ، ? قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ ? أناس من أهل الكتاب كانوا يشهدون بالحق ويقرّون به ويعلمون أن محمدًا رسول الله ، كما يُحدّث أن منهم عبد الله بن سلام . انتهى . والله أعلم .
* * *
الدرس الواحد والأربعون بعد المائة
[ سورة إبراهيم عليه السلام ]
مكية ، وهي إحدى وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم(6/82)
? آلَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ(6/83)
وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (18) أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا(6/84)
كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ (23) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? آلَر كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَوَيْلٌ لِّلْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجاً أُوْلَئِكَ فِي ضَلاَلٍ بَعِيدٍ (3) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) ? .
عن قتادة في قوله : ? لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ? أي : من الضلالة إلى الهدى .
وقوله تعالى : ? إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * اللّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ ? .(6/85)
قال البغوي : قرأ أبو جعفر ، ونافع ، وابن عامر ( اللهَ ) بالرفع على الاستئناف وخبره فيما بعد ، وقرأ الآخرون بالخفض نعتًا للعزيز الحميد ، وكان يعقوب إذا وصل خفض .
وعن قتادة في قوله : ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ ? ، أي : بلغة قومه ما كانت . قال الله عز وجل : ? لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ? الذي أرسل إليهم ليتّخذ بذلك الحجّة قال الله عز وجل : ? فَيُضِلُّ اللّهُ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? .
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنجَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءكُمْ وَفِي ذَلِكُم بَلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ (6) وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ (7) وَقَالَ مُوسَى إِن تَكْفُرُواْ أَنتُمْ وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) ? .
عن مجاهد في قول الله : ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا ? ، قال : التسع البيّنات ? أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللّهِ ? ، قال : بنِعَم الله . وقال ابن زيد : أيامه التي انتقم فيها من أهل معاصيه من الأمم ، خوّفهم بها وحذّرهم إياها ، وذكّرهم أن يصيبهم كما أصاب الذين من قلبهم .
وعن قتادة : في قول الله عز وجل : ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ ? ، قال : نِعْمَ العبد عبد إذا ابتُلي صبر ، وإذا أُعطي شكر .(6/86)
وعن ابن عيينة في قوله : ? وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ ? أيادي الله عندكم وأيامه . وقال ابن زيد في قوله : ? وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ? وإذ قال ربكم ، ذلك التأذّن .
وقال ابن كثير : ? وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ ? ، أي : آذنكم وأعلمكم بوعده لكم ? لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِن كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ ? . وفي الحديث : « إن العبد ليحرم الرزق بالذنب يصيبه » .
قوله عز وجل : ? أَلَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَعَادٍ وَثَمُودَ وَالَّذِينَ مِن بَعْدِهِمْ لاَ يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللّهُ جَاءتْهُمْ رُسُلُهُم بِالْبَيِّنَاتِ فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ وَقَالُواْ إِنَّا كَفَرْنَا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ وَإِنَّا لَفِي شَكٍّ مِّمَّا تَدْعُونَنَا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9) قَالَتْ رُسُلُهُمْ أَفِي اللّهِ شَكٌّ فَاطِرِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُم مِّن ذُنُوبِكُمْ وَيُؤَخِّرَكُمْ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى قَالُواْ إِنْ أَنتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُنَا تُرِيدُونَ أَن تَصُدُّونَا عَمَّا كَانَ يَعْبُدُ آبَآؤُنَا فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (10) قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12) ? .(6/87)
عن ابن عباس أنه قال : بين إبراهيم وبين عدنان ثلاثون قرنًا ، لا يعلمهم إلا الله تعالى . وعن ابن مسعود أنه قال بعد ما قرأ هذه الآيات : كذب النسّابون .
وعن مجاهد في قول الله : ? فَرَدُّواْ أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ ? ، قال : ردوّا عليهم قولهم وكذّبوهم .
وقال ابن كثير في قوله : ? فَأْتُونَا بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ ? ، أي : خارق نتقترحه عليكم ? قَالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِن نَّحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ يَمُنُّ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ ? ، أي : بالرسالة والنبوة ، ? وَمَا كَانَ لَنَا أَن نَّأْتِيَكُم بِسُلْطَانٍ ? على وفق ما سألتم ? إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ ? ، أي : بعد سؤالنا إياه وإذنه لنا في ذلك ، ? وَعلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ ? ، أي : في جميع أمورهم .
قوله عز وجل : ? وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُواْ لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُم مِّنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ذَلِكَ لِمَنْ خَافَ مَقَامِي وَخَافَ وَعِيدِ (14) وَاسْتَفْتَحُواْ وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15) مِّن وَرَآئِهِ جَهَنَّمُ وَيُسْقَى مِن مَّاء صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ (17) مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ لاَّ يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُواْ عَلَى شَيْءٍ ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ (18) ? .(6/88)
وعن قتادة : ? وَلَنُسْكِنَنَّكُمُ الأَرْضَ مِن بَعْدِهِمْ ? ، قال : وعدهم النصر في الدنيا والجنة في الآخرة . وعن مجاهد في قوله : ? وَاسْتَفْتَحُواْ ? ، قال : الرسل كلها استنصروا ، ? وَخَابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ ? ، قال : معاند للحق مجانبه . وقال ابن زيد : كان استفتاحهم بالبلاء ، كما استفتح قوم هود ? فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ? .
وقال ابن كثير : ويحتمل أن يكون هذا مرادًا وهذا مرادًا . وعن مجاهد في قوله : ? مِن مَّاء صَدِيدٍ ? ، قال : قيح ودم . ? يَتَجَرَّعُهُ وَلاَ يَكَادُ يُسِيغُهُ وَيَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِن كُلِّ مَكَانٍ وَمَا هُوَ بِمَيِّتٍ ? ، قال : تعلق نفسه عند حنجرته فلا تخرج .
وقال ابن جرير : وقوله : ? وَمِن وَرَآئِهِ عَذَابٌ غَلِيظٌ ? ، يقول : ومن وراء ما هو فيه من العذاب . يعني : أمامه وقدامه ، ? عَذَابٌ غَلِيظٌ ? .
وعن ابن عباس : قوله : ? مَّثَلُ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِرَبِّهِمْ أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ ? ، يقول : الذين كفروا بربهم وعبدوا غيره فأعمالهم يوم القيامة : كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف لا يقدرون على شيء من أعمالهم ينفعهم ، كما لا يقدر على الرماد إذا أرسل عليه الريح في يوم عاصف ، ? ذَلِكَ هُوَ الضَّلاَلُ الْبَعِيدُ ? .(6/89)
قوله عز وجل : ? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللّهَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحقِّ إِن يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَيَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَمَا ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَبَرَزُواْ لِلّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللّهِ مِن شَيْءٍ قَالُواْ لَوْ هَدَانَا اللّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ (21) وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ إِلاَّ أَن دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلاَ تَلُومُونِي وَلُومُواْ أَنفُسَكُم مَّا أَنَاْ بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (22) وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ (23) ? .
عن ابن جريج قوله : ? فَقَالَ الضُّعَفَاء ? الأتباع ? لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُواْ ? ، قال : للقادة . وقال ابن زيد إن أهل النار قال بعضهم لبعض : تعالوا فإنما أدرك أهل الجنة الجنة ببكائهم وتضرّعهم إلى الله ، فتعالوا نبكي ونتضرّع إلى الله ، قال : فبكوا فلما رأوا ذلك لا ينفعهم قالوا : تعالوا فما أدرك أهل الجنة الجنة إلا بالصبر ، تعالوا نصبر ، فصبروا صبرًا لم ير مثله ، فلم ينفعهم ذلك فعند ذلك قالوا : ? سَوَاء عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِن مَّحِيصٍ ? .(6/90)
وعن الحسن في قوله : ? وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ ? ، قال : إذا كان يوم القيامة قام إبليس خطيبًا على منبر من نار فقال : ? إِنَّ اللّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدتُّكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ? إلى قوله : ? وَمَا أَنتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ? ، قال : بناصريّ ? إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِن قَبْلُ ? ، قال : بطاعتكم إياي في الدنيا . وقال قتادة : يقول ما أنا بمغيثكم وما أنتم بمغيثيّ .
وقوله تعالى : ? وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلاَمٌ ? . قال ابن جريج : الملائكة يسلّمون عليهم في الجنة .
وقال البغوي : يسلّم بعضهم على بعض ، وتسلّم عليهم الملائكة . والله أعلم .
* * *
الدرس الثاني والأربعون بعد المائة(6/91)
? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ (27) أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ (31) اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ(6/92)
فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (38) الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء (43) وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ (44) وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ(6/93)
وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (50) لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (52) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء (24) تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ (26) يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ (27) ? .
عن رجال ابن عباس : قوله : ? كَلِمَةً طَيِّبَةً ? ، قال : شهادة أن لا إله إلا الله ? كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ ? ، قال مجاهد : كنخلة . وعن ابن عمر قال : ( كنا عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فأتى بحمار فقال : « من الشجر شجرة مثلها مثل الرجل المسلم » ، فأردت أن أقول : هي النخلة ، فنظرت فإذا أنا أصغر القوم ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « هي النخلة » . متفق عليه .
وقوله :? وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ ? قال ابن عباس : وهو الشرك ? كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ ? ، قال أنس بن مالك : هي : الحنظلة .(6/94)
وقوله تعالى : ? اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ ? ، أي : ليس لها أصل ثابت في الأرض ، ولا فرع صاعد في السماء ، كذلك الكافر لا خير فيه ، ولا يصعد له قول طيب ، ولا عمل صالح .
وقوله تعالى : ? يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ ? عن البراء بن عازب قال : ( خرجنا مع رسول الله في جنازة رجل من الأنصار ، فانتهينا إلى القبر ولمّا يلحد ، فجلس رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وجلسنا حوله كأنّ على رؤوسنا الطير ، وفي يده عود ينكت به في الأرض ، فرفع رأسه فقال : « استعيذوا بالله من عذاب القبر » . مرتين أو ثلاثًا ، ثم قال : « إن العبد المؤمن إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال إلى الآخرة ، نزلت إليه ملائكة من السماء بيض الوجوه كأن وجوههم الشمس ، معهم كفن من أكفان الجنة وحنوط من حنوط الجنة ، حتى يجلسوا منه مدّ البصر ، ثم يجيء ملك الموت حتى يجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس المؤمنة اخرجي إلى مغفرة من الله ورضوان ، قال : فتخرج تسيل كما تسيل القطرة من في السقاء ، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يأخذوها فيجعلوها في ذلك الكفن وفي ذلك الحنوط ، ويخرج منها كأطيب نفحة مسك وجدت على وجه الأرض فيصعدون بها ، فلا يمرّون بها ، يعني : على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الطيبة ؟ فيقولون : فلان بن فلان ، بأحسن أسمائه التي كانوا يسمّونه بها في الدنيا ، حتى ينتهوا بها إلى السماء الدنيا فيستفتحون له فيفتح له ، فيتبعه من كل سماء مقرّبوها إلى السماء التي تليها ، حتى يُنْتَهَى بها إلى السماء السابعة ، فيقول الله : اكتبوا كتاب عبدي في عِلّيّين وأعيدوه إلى الأرض ، فإني منها خلقتهم وفيها أعيدهم ومنها أخرجهم تارة أخرى . قال : فتعاد روحه في جسده ،(6/95)
فيأتيه ملكان فيجلسانه فيقولان له : من ربك ؟ فيقول : ربي الله ، فيقولان له : ما دينك ، فيقول : ديني الإسلام ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هو رسول الله . فيقولان له : وما علمك ؟ فيقول : قرأت كتاب الله فآمنت به وصدّقت ، فينادي مناد من السماء : أن صدق عبدي ، فأفرشوه من الجنة وألبسوه من الجنة وافتحوا له بابًا إلى الجنة ،قال : فيأتيه من رَوْحها وطيبها ، ويُفسح له في قبره مدّ بصره ، ويأتيه رجل حسن الوجه حسن الثياب طيب الريح فيقول : أبشر بالذي يسرّك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول له : من أنت ؟ فوجهك الوجه الذي يأتي بالخير ، فيقول : أنا عملك الصالح ، فيقول : ربّ أقم الساعة ، ربّ أقم الساعة حتى أرجع إلى أهلي ومالي ، قال : وإن العبد الكافر إذا كان في انقطاع من الدنيا وإقبال من الآخرة نزل إليه ملائكة من السماء سود الوجوه معهم المسوح ، فجلسوا منه مد البصر ، ثم يجيء ملك الموت فيجلس عند رأسه فيقول : أيتها النفس الخبيثة اخرجي إلى سخط من الله وغضب ، قال : فتفرق في جسده فينتزعها كما ينتزع السفود من الصوف المبلول ، فيأخذها فإذا أخذها لم يدعوها في يده طرفة عين حتى يجعلوها في تلك المسوح ، فيخرج منها كأنتن ريح جيفة وجدت على وجه الأرض ، فيصعدون بها فلا يمرّون على ملأ من الملائكة إلا قالوا : ما هذه الروح الخبيثة ؟ فيقولون : فلان بن فلان بأقبح أسمائه التي كان يسمّى بها في الدنيا ، فيستفتح له فلا يفتح له ، - ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - : ? لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاء وَلاَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ ? فيقول الله : اكتبوا كتابه في سجّين في الأرض السفلى ، فتطرح روحه طرحًا ، - ثم قرأ - : ? وَمَن يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنَ السَّمَاء فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ(6/96)
سَحِيقٍ ? فتعاد روحه في جسده : ويأتيه ملكان فيجلسانه ويقولان له : من ربك ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيقولان له : ما دينك ، فيقول : هاه هاه لا أدري ، فيقولان له : ما هذا الرجل الذي بعث فيكم ؟ فيقول : هاه هاه لا أدري ، فينادي مناد من السماء : أن كذب عبدي فأفرشوه من النار وافتحوا له بابًا إلى النار ، فيأتيه من حرّها وسَمومها ويضيق عليه قبره حتى تختلف فيه أضلاعه ، ويأتيه رجل قبيح الوجه قبيح الثياب منتن الريح فيقول : أبشر بالذي يسوءك ، هذا يومك الذي كنت توعد ، فيقول : ومن أنت ؟ فوجهك الوجه الذي يجيء بالشر ، فيقول : أنا عملك الخبيث ، فيقول ربّ لا تقم الساعة » . رواه أحمد وغيره .
وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ? يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ ? ، قال : ذاك إذا قيل في القبر : من ربك ؟ وما دينك ؟ فيقول : ربي الله وديني الإسلام ، ونبيي محمد - صلى الله عليه وسلم - جاء بالبيّنات من عند الله فآمنت به وصدّقت ، فيقال له : صدقت ، على هذا عشت وعليه متّ ، وعليه تبعث » . رواه ابن جرير .(6/97)
قوله عز وجل : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ (29) وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً لِّيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُواْ فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ (31) اللّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَأَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَرَاتِ رِزْقاً لَّكُمْ وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ (32) وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ (33) وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34) ? .
عن علي في قول الله : ? أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُواْ نِعْمَةَ اللّهِ كُفْراً وَأَحَلُّواْ قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ ? ، قال : هم كفار قريش . وقال عمر : هم قريش ، ومحمد - صلى الله عليه وسلم - نعمة الله . وعن قتادة :? وَجَعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً ? والأنداد الشركاء .(6/98)
وقوله تعالى : ? قُل لِّعِبَادِيَ الَّذِينَ آمَنُواْ يُقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَيُنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاهُمْ سِرّاً وَعَلانِيَةً مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خِلاَلٌ ? قال قتادة : إن الله تبارك وتعالى ، قد علم أن في الدنيا بيوعًا وخلالاً يتخالّون بها في الدنيا ، فينظر الرجل من يخالل وعلام يصاحب ، فإن كان لله فليداوم ، وإن كان لغير الله فإنها ستنقطع . وعن ابن عباس في قوله : ? وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ ? ، قال : دؤبهما في طاعة الله .
وقوله تعالى : ? وَآتَاكُم مِّن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ ? . قال ابن كثير : يقول : هيّأ لكم كل ما تحتاجون إليه في جميع أحوالكم مما تسألون بحالكم وقالِكم ? وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ? . قال طلق ابن حبيب : إن حق الله أثقل من أن تقوم به العباد ، وإن نعم الله أكثر من أن تحصيها العباد ، ولكن أصبحوا توابين وأمسوا توابين .(6/99)
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَاجْنُبْنِي وَبَنِيَّ أَن نَّعْبُدَ الأَصْنَامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (36) رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء (38) الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعَاء (39) رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاَةِ وَمِن ذُرِّيَّتِي رَبَّنَا وَتَقَبَّلْ دُعَاء (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ وَلِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسَابُ (41) ? .
قال إبراهيم التيمي : من يأمن البلاء بعد خليل الله إبراهيم حين يقول رب اجنبني وبني أن نعبد الأصنام .(6/100)
وعن قتادة : قوله : ? أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ ? ، يعني : الأوثان . وعن عبد الله بن عمرو بن العاص : ( أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - تلا قول إبراهيم : ? رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ ? ، وقول عيسى : ? إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? فرفع يديه ثم قال : اللهم أمّتي اللهم أمّتي وبكى ، فقال الله تعالى : يا جبرائيل اذهب إلى محمد ، وربك أعلم ، فاسأله ما يبكيه ، فأتاهه جبرائيل فسأله فأخبره رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما قال . قال : فقال الله : يا جبرائيل اذهب إلى محمد وقل : إنا سنرضيك في أمتك ولا نسوءك ) . رواه ابن جرير .
وعن قتادة : قوله :? رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ ? ، قال : مكة لم يكن بها زرع يومئذٍ ، ? عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ ? ، قال : وإنه بيت طهّره الله من السوء وجعله قبلة وجعله حرمة اختاره نبي الله إبراهيم لولده .
وقوله : ? رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ ? ، أي : أسكنتهم كي يقيموا الصلاة عند بيتك ? فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ ? ، قال مجاهد : لو قال : أفئدة الناس تهوي إليهم لازدحمت عليه فارس والروم .
وقوله : ? وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ ? ، أي : ليكون ذلك عونًا لهم على طاعتك ? لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ ? .(6/101)
قوله عز وجل : ? وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء (43) وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُّجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ (44) وَسَكَنتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأَمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ (47) يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُواْ للّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ (49) سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ (50) لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ (51) هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ (52) ? .(6/102)
عن ميمون بن مهران في قوله : ? وَلاَ تَحْسَبَنَّ اللّهَ غَافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ ? قال : هي وعيد للظالم ? إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأَبْصَارُ ? ، قال قتادة : شخصت فيه واللهِ أبصارهم ، فلا تردّ إليهم ، ? مُهْطِعِينَ ? ، قال : مسرعين ? مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ ? ، قال مجاهد : رافعيها ? لاَ يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ ? ، قال ابن عباس : شاخصة أبصارهم . وعن قتادة في قوله : ? وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء ? ، قال : هواء ليس فيها شيء خرجت من صدورهم فنشبت في حلوقهم .
وعن مجاهد : قوله : ? وَأَنذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ ? ، قال : يوم القيامة ? فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُواْ رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ ? ، قال : مدة يعملون فيها من الدنيا ، وعن مجاهد قال : ? أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ? كقوله : ? وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ ? ، ثم قال : ? مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ? ، قال : الانتقال من الدنيا إلى الآخرة .
وقال ابن جرير : ? أَوَلَمْ تَكُونُواْ أَقْسَمْتُم مِّن قَبْلُ مَا لَكُم مِّن زَوَالٍ ? ، يقول : مالك من انتقال من الدنيا إلى الآخرة ، وأنكم إنما تموتون ثم لا تبعثون .
وقوله تعالى : ? وَقَدْ مَكَرُواْ مَكْرَهُمْ وَعِندَ اللّهِ مَكْرُهُمْ وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ? .
قال في فتح البيان : وقد مكروا مكرهم العظيم الذي استفرغوا فيه جهدهم ، وعند الله مكتوب مكرهم فهو مجازيهم ، ? وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ ? في العظم ، ? لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ? مهيّأ لإزالة الجبال ، وقال بعضهم : وما كان مكرهم لتزول منه الجبال .(6/103)
وعن قتادة : ? وَإِن كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ ? ، يقول : شركهم كقوله تعالى : ? تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ ? الآية ، وقرأ بعضهم بفتح اللام .
وعن ابن مسعود في قوله :? يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ ? قال : ( تبدّل أرضًا بيضاء نقية كأنها فضة ، لم يسفك فيها دم حرام ولم يعمل فيها خطيئة ) . وقال كعب : تصير السماوات جنانًا ، ويصير مكان البحر نارًا . قال : وتبدّل الأرض غيرها . وعن مجاهد : ? يَوْمَ تُبَدَّلُ الأَرْضُ غَيْرَ الأَرْضِ ? ، قال : أرضًا فيها فضة ، والسماوات كذلك أيضًا . وفي الصحيحين عن سهل بن سعد قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « يحشر الناس يوم القيامة على أرض بيضاء عفراء كقرصة النقي ، ليس فيها علم لأحد » .
وقوله تعالى : ? وَتَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُّقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ ? ، قال قتادة : ? مُّقَرَّنِينَ ? في القيود والأغلال . قال ابن زيد في قوله : ? سَرَابِيلُهُم مِّن قَطِرَانٍ ? ، قال : السرابيل القمص . وعن الحسن : ? مِّن قَطِرَانٍ ? ، أي : قطران الإبل . ? وَتَغْشَى وُجُوهَهُمْ النَّارُ * لِيَجْزِي اللّهُ كُلَّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ * هَذَا بَلاَغٌ لِّلنَّاسِ ? ، أي : القرآن ? وَلِيُنذَرُواْ بِهِ وَلِيَعْلَمُواْ أَنَّمَا هُوَ إِلَهٌ وَاحِدٌ وَلِيَذَّكَّرَ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ ? أي : العقول والأفهام . والله أعلم .
* * *
الدرس الثالث والأربعون بعد المائة
( سورة الحجر )
مكية ، وهي تسع وتسعون آية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ(6/104)
? آلَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1) رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (4) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15) وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ (18) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً(6/105)
فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (37) إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ (44) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ (46)(6/106)
وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? آلَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ (1) رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُواْ وَيَتَمَتَّعُواْ وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَمَا أَهْلَكْنَا مِن قَرْيَةٍ إِلاَّ وَلَهَا كِتَابٌ مَّعْلُومٌ (4) مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ (5) وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ (9) وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ (10) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن رَّسُولٍ إِلاَّ كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (11) كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ (13) وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقَالُواْ إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ (15) ? .(6/107)
قال في جامع البيان : ? آلَرَ تِلْكَ ? إشارة إلى آيات السورة . ? آيَاتُ الْكِتَابِ ? القرآن ، ? وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ ? ، أي : تلك آيات جامعة لكونها آيات كتاب كامل وقرآن يبيّن الأحكام . وعن أبي موسى قال : ( بلغنا أنه إذا كان يوم القيامة واجتمع أهل النار في النار ، ومعهم من يشاء الله من أهل القبلة ، قال الكفار لمن في النار من أهل القبلة : ألستم مسلمين ؟ قالوا : بلى . قالوا : فما أغنى عنكم إسلامكم وقد صرتم معنا في النار ؟ قالوا : كانت لنا ذنوب فأُخذنا بها ، فسمع الله ما قالوا . فأمر بكل من كان من أهل القبلة في النار فأخرجوا ، فقال من في النار من الكفار : يا ليتنا كنا مسلمين ، ثم قرأ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ? آلَرَ تِلْكَ آيَاتُ الْكِتَابِ وَقُرْآنٍ مُّبِينٍ * رُّبَمَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُواْ لَوْ كَانُواْ مُسْلِمِينَ ? » . رواه ابن جرير .
وعن الزهري في قوله : ? مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتَأْخِرُونَ ? ، قال : نرى أنه إذا حضر أجله فإنه لا يؤخر ساعة ولا يقدّم ، وأما ما لم يحضر أجله فإن الله يؤخّر ما شاء ويقدّم ما شاء .
وقوله تعالى : ? وَقَالُواْ يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ ? ، أي : القرآن ? إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ * لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ? ، أي : هلا تأتينا بالملائكة شاهدة لك ؟ قال الله ? مَا نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالحَقِّ ? قال مجاهد : بالرسالة والعذاب ? وَمَا كَانُواْ إِذاً مُّنظَرِينَ ? .
قال البغوي : ومعناه أنهم لو نزلوا أعيانًا لزال الإمهال عن الكفار وعذّبوا في الحال .(6/108)
وعن قتادة : قوله : ? إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ? وقال في آية أخرى : ? لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ ? فأنزله الله ثم حفظه ، فلا يستطيع إبليس أن يزيد فيه باطلاً ولا ينقص منه حقًا ، حفظه الله من ذلك .
وقال ابن كثير : ( ثم قرّر تعالى أنه هو الذي أنزل عليه الذكر وهو القرآن ، وهو الحافظ له من التغيير والتبديل ) .
قلت : والحكمة في حفظ الله تعالى للقرآن دون سائر كتبه أنه آخرها ، وأن الذي جاء به خاتم الأنبياء ، فأبقاه الله محفوظًا حجة على خلقه .
وعن ابن عباس : ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الأَوَّلِينَ ? ، يقول : أمم الأولين . وعن قتادة : ? كَذَلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ * لاَ يُؤْمِنُونَ بِهِ ? ، قال : إذا كذبوا سلك في قلوبهم أن لا يؤمنوا به ? وَقَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الأَوَّلِينَ ? ، قال : وقائع الله فيمن خلا قبلكم من الأمم .
وعن ابن عباس : قوله : ? وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ ? ، يقول : لو فتحنا عليهم بابًا من السماء فظلّت الملائكة تعرج فيه ، لقال أهل الشرك : إنما أخذت أبصارنا ، وشُبّه علينا ، وإنا سُحِرنا ، فذلك قولهم : ? لَّوْ مَا تَأْتِينَا بِالْمَلائِكَةِ إِن كُنتَ مِنَ الصَّادِقِينَ ? .
وعن قتادة : قوله : ? وَلَوْ فَتَحْنَا عَلَيْهِم بَاباً مِّنَ السَّمَاءِ فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ ? ، قال قتادة : كان الحسن يقول : لو فعل هذا ببني آدم ، ? فَظَلُّواْ فِيهِ يَعْرُجُونَ ? ، أي : يختلفون لقالوا : ? إِنَّمَا سُكِّرَتْ أَبْصَارُنَا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَّسْحُورُونَ ? .(6/109)
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16) وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ (18) وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ (19) وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ (20) وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ (21) وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ (22) وَإنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَنَحْنُ الْوَارِثُونَ (23) وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25) ? .
عن مجاهد في قوله : ? وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاء بُرُوجاً ? ، قال : كواكب .
وقوله : ? وَحَفِظْنَاهَا مِن كُلِّ شَيْطَانٍ رَّجِيمٍ * إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهَابٌ مُّبِينٌ ? ، قال ابن عباس : تصعد الشياطين أفواجًا تسترق السمع قال : فينفرد المارد منها فيعلوا فيُرمى بالشهاب ، فيصيب جبهته أو جنبه ، أو حيث شاء الله منه فيلتهب ، فيأتي أصحابه وهو يلتهب ، فيقول : إنه كان من الأمر كذا وكذا ، قال : فيذهب أولئك إلى إخوانهم من الكهنة ، فيزيدون عليه أضعافه من الكذب ، فيخبرونهم به ، فإذا رأوا شيئًا مما قالوا قد كان صدّقوهم بما جاؤوهم به من الكذب . وقال الضحاك : كان ابن عباس يقول : إن الشهب لا تقتل ، ولكن تحرق ، وتخبل ، وتجرح من غير أن تقتل . وقال ابن جريج : الرجيم الملعون .(6/110)
وقوله تعالى : ? وَالأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ شَيْءٍ مَّوْزُونٍ ? ، قال ابن عباس : معلوم . وقال مجاهد : مقدور بقدر ? وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ وَمَن لَّسْتُمْ لَهُ بِرَازِقِينَ ? ، قال مجاهد : الدواب والأنعام . وعن ابن مسعود قال : ما من عام بأمطر من عام ، ولكن الله يقسمه حيث شاء ، عامًا ها هنا ، وعامًا ها هنا ، ثم قرأ : ? وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ ? .
وقال الضحاك في قوله : ? وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ? الرياح يبعثها الله على السحاب فتلقّحه فتمتلئ ماء . وعن عبيد بن عمير قال : تبعث المبشّرة فَتَقُمُّ الأرض قَمًّا ، ثم يبعث الله المثيرة فتثير السحاب ، ثم يبعث الله المؤلّفة فتؤلّف السحاب ، ثم يبعث الله اللقواقح فتلقّح الشجر ، ثم تلا عبيد : ? وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ ? . وقال قتادة : لواقح السحاب ، وإن من الريح عذابًا وإن منها رحمة . وقال ابن مسعود : يبعث الله الريح فتلقّح السحاب ، ثم تمر به فتدرّ كما تدرّ اللقحة ثم تمطر .
وقال سفيان : ? وَمَا أَنتُمْ لَهُ بِخَازِنِينَ ? بمعانين . وعن عكرمة في قوله : ? وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنكُمْ وَلَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ ? ، قال : هم خلق الله كلهم ، قد علم من خلق منهم إلى اليوم ، وقد علم من هو خالقه بعد اليوم ? وَإِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ ? .(6/111)
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ خَلَقْنَا الإِنسَانَ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (26) وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ (27) وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلاَئِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَراً مِّن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (28) فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ (29) فَسَجَدَ الْمَلآئِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30) إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى أَن يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قَالَ يَا إِبْلِيسُ مَا لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قَالَ لَمْ أَكُن لِّأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ (33) قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ (35) قَالَ رَبِّ فَأَنظِرْنِي إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قَالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنظَرِينَ (37) إِلَى يَومِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40) قَالَ هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ (42) وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ (44) ? .
قال ابن عباس : خلق آدم من صلصال من حمإ و من طين لازب ، وأما اللزب فالجيّد اللازق ، وأما الحمأ فالحمأة ، وأما الصلصال فالتراب المدقّق ، وإنما سمي إنسانًا لأنه عهد إليه فنسي ، وقال قتادة : الصلصال الطين اليابس يسمع له صلصلة . وعن مجاهد : ? مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ ? ، قال : منتن .(6/112)
وعن قتادة : ? وَالْجَآنَّ خَلَقْنَاهُ مِن قَبْلُ مِن نَّارِ السَّمُومِ ? وهو إبليس خلق قبل آدم ، وإنما خلق آدم آخر الخلق ، فحسده عدو الله إبليس على ما أعطاه من الكرامة ، فقال : أنا ناريّ وهذا طينيّ ، فكانت السجدة لآدم والطاعة لله تعالى ذكره فقال : اخرج منها فإنك رجيم . وفي الصحيح عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « خلقت الملائكة من نور ، وخلق الجان من مارج من نار ، وخلق آدم مما وصف لكم » .
وقوله تعالى : ? قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الأَرْضِ وَلأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ ? ، قال الضحاك : يعني : المؤمنين . وعن مجاهد في قوله : ? هَذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ ? ، قال : الحق يرجع إلى الله ، وعليه طريقه ، لا يعرّج على شيء . وفي بعض الآثار : ( أن نبيًا من الأنبياء قال لإبليس : أخبرني بأي شيء تغلب ابن آدم ؟ قال : آخذه عند الغضب والهوى ) .
وعن عكرمة في قوله : ? لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ? ، قال : لها سبعة أطباق . وقال عليّ رضي الله عنه : أبواب جهنم سبعة بعضها فوق بعض ، فيمتلئ الأول ثم الثاني ثم الثالث ثم تمتلئ كلها . وقال ابن جريج : ? سَبْعَةُ أَبْوَابٍ ? أولها جهنم ، ثم لظى ، ثم الحطمة ، ثم السعير ، ثم سقر ، ثم الجحيم ، ثم الهاوية .
قوله عز وجل : ? إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (45) ادْخُلُوهَا بِسَلاَمٍ آمِنِينَ (46) وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ (47) لاَ يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُم مِّنْهَا بِمُخْرَجِينَ (48) ? .(6/113)
عن أبي أمامة قال : ( لا يدخل مؤمن الجنة حتى ينزع الله ما في صدورهم من غلّ ، ثم ينزع منه مثل السبع الضاري ) . وعن إبراهيم قال : جاء ابن جرموز قاتل الزبير استأذن على عليّ فحجبه طويلاً ، ثم أذن له فقال له : أما أهل البلاء فتجفوهم ! قال عليّ : يفيك التراب ! ، إني لأرجوا أن أكون أنا وطلحة والزبير ممن قال الله : ? وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ ? . وفي الصحيح عن أبي سعيد الخدري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « يخلص المؤمنون من النار فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار ، فيقتصّ لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا ، حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة » . والله أعلم .
* * *
الدرس الرابع والأربعون بعد المائة(6/114)
? نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَ أَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (62) قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ (66) وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ (74) إِنَّ(6/115)
فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ (77) وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ (79) وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (84) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) ? .
* * *(6/116)
قوله عز وجل : ? نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ (50) وَنَبِّئْهُمْ عَن ضَيْفِ إِبْراَهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُواْ عَلَيْهِ فَقَالُواْ سَلاماً قَالَ إِنَّا مِنكُمْ وَجِلُونَ (52) قَالُواْ لاَ تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53) قَالَ أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قَالُواْ بَشَّرْنَاكَ بِالْحَقِّ فَلاَ تَكُن مِّنَ الْقَانِطِينَ (55) قَالَ وَمَن يَقْنَطُ مِن رَّحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّآلُّونَ (56) قَالَ فَمَا خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قَالُواْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمٍ مُّجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنَا إِنَّهَا لَمِنَ الْغَابِرِينَ (60) ? .
قوله تعالى : ? نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ * وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمَ ? روي ( أن النبي - صلى الله عليه وسلم - خرج على أصحابه وهم يضحكون فقال : « أتضحكون وبين أيديكم النار » ؟ فنزل جبريل بهذا الآية وقال : يقول لك ربك : يا محمد لِمَ تقنّط عبادي ؟ ) .
وعن مجاهد في قوله : ? أَبَشَّرْتُمُونِي عَلَى أَن مَّسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ ? قال : عجب من كَبره وكبَر امرأته .(6/117)
قوله عز وجل : ? فَلَمَّا جَاء آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُّنكَرُونَ (62) قَالُواْ بَلْ جِئْنَاكَ بِمَا كَانُواْ فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَأَتَيْنَاكَ بَالْحَقِّ وَإِنَّا لَصَادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِّنَ اللَّيْلِ وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ وَامْضُواْ حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65) وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ (66) وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قَالَ إِنَّ هَؤُلاء ضَيْفِي فَلاَ تَفْضَحُونِ (68) وَاتَّقُوا اللّهَ وَلاَ تُخْزُونِ (69) قَالُوا أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ (70) قَالَ هَؤُلاء بَنَاتِي إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ (71) لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنَا عَالِيَهَا سَافِلَهَا وَأَمْطَرْنَا عَلَيْهِمْ حِجَارَةً مِّن سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ (76) إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ (77) وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ (78) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ وَإِنَّهُمَا لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ (79) ? .
عن قتادة : ? وَاتَّبِعْ أَدْبَارَهُمْ ? ، قال : أُمِرَ أن يكون خلف أهله يتبع أدبارهم في آخرهم إذا مشوا . وعن مجاهد : ? وَلاَ يَلْتَفِتْ مِنكُمْ أَحَدٌ ? لا يلتفت وراءه أحد ولا يعرج .(6/118)
وقال ابن عباس : قوله : ? أَنَّ دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ ? ، يعني : استئصال هلاكهم مصبحين . وعن قتادة : قوله : ? وَجَاء أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ ? استبشروا بأضياف نبي الله لوط - صلى الله عليه وسلم - حين نزلوا ، لِمَا أرادوا أن يأتوا إليهم من المنكر ، وقال في قوله : ? أَوَلَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعَالَمِينَ ? ألم ننهك أن تضيف أحدًا ؟ .
وعن ابن عباس في قول الله : ? لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ? ، قال : ما حلف الله تعالى بحياة أحد إلا بحياة محمد - صلى الله عليه وسلم - ، قال : وحياتك يا محمد وعمرك وبقائك في الدنيا : ? إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ? ، أي : في ضلالتهم ? يَعْمَهُونَ ? ، أي : يلعبون . وقال مجاهد : يترددون . وعن ابن عباس أيضًا : يتمادون ؟ وقال بعض المفسرين : ثم قالت الملائكة للوط عليه السلام : ? لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ? فكيف يقبلون قولك ؟ .
وعن ابن جريج : ? فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ ? ، قال : حين أشرقت الشمس .
وعن مجاهد في قوله : ? إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ ? ، قال : للمتفرّسين . وقال قتادة : للمعتبرين .
وعن قتادة : ? وَإِنَّهَا لَبِسَبِيلٍ مُّقيمٍ ? ، يقول : بطريق واضح . وعن ثوبان قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « احذروا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله وبتوفيق الله ». وعن سعيد بن جبير في قوله :? إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّلْمُؤمِنِينَ ? قال : هو كالرجل يقول لأهله : علامة ما بين بيني وبينكم أن أرسل إليكم خاتمي ، أو آية كذا ، وكذا .
وقال ابن جريج : قوله : ? وَإِن كَانَ أَصْحَابُ الأَيْكَةِ لَظَالِمِينَ ? ، قال : قوم شعيب : قال ابن عباس : ? الأَيْكَةِ ? ذات آجام وشجر كانوا فيها .
وقوله تعالى : ? وَإِنَّهُمَا ? .(6/119)
قال البغوي : يعني : مدينتي قوم لوط وأصحاب الأيكة ? لَبِإِمَامٍ مُّبِينٍ ? لبطريق واضح مستبين .
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ كَذَّبَ أَصْحَابُ الحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَآتَيْنَاهُمْ آيَاتِنَا فَكَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ (81) وَكَانُواْ يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82) فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَكْسِبُونَ (84) ? .
عن عبد الله بن عمر قال : ( مررنا مع النبي - صلى الله عليه وسلم - على الحجر فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « لا تدخلوا مساكن الذينن ظلموا أنفسهم إلا أن تكونوا باكين ، حذرًا أن يصيبكم ما أصابهم » . ثم زجر فأسرع حتى خلّفها ) . رواه ابن جرير وغيره .(6/120)
قوله عز وجل : ? وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا إِلاَّ بِالْحَقِّ وَإِنَّ السَّاعَةَ لآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86) وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91) فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ (92) عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ (98) وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99) ? .
عن ابن عباس : أنه قال في قول الله تعالى : ? وَلَقَدْ آتَيْنَاكَ سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي ? ، قال : هي فاتحة الكتاب ، فقرأها ستًا ثم قال : بسم الله الرحمن الرحيم الآية السابعة . وعن قتادة : ? سَبْعاً مِّنَ الْمَثَانِي ? ، قال : فاتحة الكتاب تثنّى في كل ركعة مكتوبة وتَطَوُّع . وعن أبي هريرة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « أم القرآن السبع المثاني التي أُعطيتُها » . رواه ابن جرير وغيره .(6/121)
وعن مجاهد في قوله : ? وَالْقُرْآنَ الْعَظِيمَ ? ، قال : سائره ، يعني : سائر القرآن مع السبع من المثاني . ? لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجاً مِّنْهُمْ ? ، قال : الأغنياء ، الأمثال : الأشباه . وقال ابن عباس : يعني : الرجل أن يتمنى مال صاحبه .
وقال البغوي : قوله تعالى : ? وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ ? أَلِنْ جانبك للمؤمنين وارفق بهم ، والجناحان من ابن آدم جانباه ، ? وَقُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ * كَمَا أَنزَلْنَا عَلَى المُقْتَسِمِينَ ? قال الفراء : مجازه : أنذركم عذابًا كعذاب المقتسمين . حكي عن ابن عباس أنه قال : هم اليهود والنصارى الذين ? جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ? جزّؤوه فجعلوه أعضاء ، فآمنوا ببعضه وكفروا ببعضه . وقال مجاهد : قسّموا كتابهم ففرّقوه وبدّلوه .
وقال ابن كثير : وقوله : ? المُقْتَسِمِينَ ? ، أي : المتحالفين ، أي : تحالفوا على مخالفة الأنبياء وتكذيبهم وأذاهم . وعن عطاء : ? الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ ? ، قال : المشركون من قريش عضوا القرآن فجعلوه أجزاء ، فقال بعضهم : ساحر ، وقال بعضهم : شاعر ، وقال بعضهم : مجنون ، فذلك العضون . وعن أبي العالية : ? فَوَرَبِّكَ لَنَسْأَلَنَّهُمْ أَجْمَعِيْنَ * عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ ? ، قال : يسأل العباد كلهم عن خلّتين يوم القيامة : عما كانوا يعبدون ، وعما أجابوا المرسلين . وعن مجاهد في قوله : ? فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ ? ، قال : بالقرآن . وعن عبد الله بن عبيدة قال : ما زال النبي - صلى الله عليه وسلم - متخفّيًا حتى نزلت : ? فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ ? فخرج هو وأصحابه .(6/122)
وقوله تعالى : ? إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ? ، قال ابن إسحاق : كان عظماء المستهزئين - كما حدثني يزيد بن رومان عن عروة بن الزبير - خمسة نفر من قومه ، وكانوا ذوي أنساب وشرف في قومهم : الأسود بن المطلب ، والأسود بن عبد يغوث ، والوليد بن المغيرة ، والعاص بن وائل ، والحارث ابن الطلاطلة ، فلما تمادوا في الشر ، وأكثروا برسول الله - صلى الله عليه وسلم - الاستهزاء ، أنزل الله تعالى ذكره : ? فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ * إِنَّا كَفَيْنَاكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ ? إلى قوله : ? فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ? .
فحدّثني يزيد بن رومان : أن جبرائيل أتى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وهم يطوفون بالبيت فقام وقام رسول الله إلى جنبه ، فمرّ به الأسود بن المطلب ، فرمى فيةوجهه بورقة خضراء فعمي ، ومرّ به الأسود بن عبد يغوث ، فأشار إلى بطنه فاستسقى بطنه ، فمات منه حَبَنًا ، ومرّ به الوليد بن المغيرة ، فأشار إلى أسفل جرح بأسفل كعب رجله ، كان أصابه قبل ذلك بسنين ، فانتقض به فقتله ، ومرّ به العاص بن وائل ، فأشار إلى أخمص رجله ، فخرج على حمار له يريد الطائف ، فوقص على شبرقة ، فدخل في أخمص رجله منها شوكة فقتله ، ومرّ به الحارث بن الطلاطلة فأشار إلى رأسه ، فامتخط قيحًا فقتله .
وقوله تعالى : ? وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِمَا يَقُولُونَ * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ ? قل : سبحان الله وبحمده ? وَكُن مِّنَ السَّاجِدِينَ ? ، أي : المصلّين ? وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ ? ، أي : الموت ؛ نسأل الله الاستقامة على طاعته وبالله التوفيق .
* * *
الدرس الخامس والأربعون بعد المائة
[ سورة النحل ]
مكية ، وآياتها 128 آية .
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ(6/123)
? أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (4) وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي(6/124)
الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18) وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (22) لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ(6/125)
(29) وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32) هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَن يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ أَنْ أَنذِرُواْ أَنَّهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ أَنَاْ فَاتَّقُونِ (2) خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ (4) ? .
قال ابن كثير : في تفسير قوله تعالى : ? أَتَى أَمْرُ اللّهِ فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ? يخبر تعالى عن اقتراب الساعة ودنوّها ، معبّرًا بصيغة الماضي ، الدالّ على التحقيق والوقوع لا محالة ، كقوله : ? اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ ? .(6/126)
وقوله تعالى : ? فَلاَ تَسْتَعْجِلُوهُ ? كقوله : ? وَيَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَلَوْلَا أَجَلٌ مُّسَمًّى لَجَاءهُمُ الْعَذَابُ وَلَيَأْتِيَنَّهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ ? ، ? يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذَابِ وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ ? .
وعن ابن عباس : قوله : ? يُنَزِّلُ الْمَلآئِكَةَ بِالْرُّوحِ ? ، يقول : بالوحي . وقال قتادة : إنما بعث الله المرسلين أن يوحّد الله وحده ويطاع أمره ويجتنب سخطه .
وقوله تعالى : ? خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ ? نزه نفسه عن مشاركة غيره .
وقوله تعالى : ? خَلَقَ الإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ فَإِذَا هُوَ خَصِيمٌ مُّبِينٌ ? يجادل بالباطل .(6/127)
قوله عز وجل : ? وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ (5) وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَّحِيمٌ (7) وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ (8) وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَآئِرٌ وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ (9) هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنبِتُ لَكُم بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالأَعْنَابَ وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالْنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالْنُّجُومُ مُسَخَّرَاتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13) وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ وَأَنْهَاراً وَسُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16) أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ (17) وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (18) ? .(6/128)
عن ابن عباس : قوله : ? وَالأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ? ، يعني بالدفء : الثياب . والمنافع : ما يتنفعون به من الأطعمة والأشربة . وقال قتادة يقول : لكم فيها لباس ومنفعة وبُلْغَة ، ? وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ ? وذلك أعجب ما يكون إذا راحت عظامًا ضروعها ، طوالاً أسنمتها ، ? وَحِينَ تَسْرَحُونَ ? إذا سرحت لرعيها . وعن عكرمة : ? وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَّمْ تَكُونُواْ بَالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الأَنفُسِ ? ، قال : لو تُكَلَّفونه لم تبلغوه إلا بجهد شديد .
وقوله تعالى : ? وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ ? لكم أيضًا ?، لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ? .
قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره : وخلق الخيل والبغال والحمير لكم أيضًا ? لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً ? ، يقول : وجعلها لكم زينة تتزيّنون بها ، مع المنافع التي فيها لكم للركوب وغير ذلك انتهى .
وفي الصحيحين عن جابر قال : ( نهى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عن لحوم الحمر الأهلية ، وأذن في لحوم الخيل ) .
وقوله تعالى : ? وَيَخْلُقُ مَا لاَ تَعْلَمُونَ ? .
قال في جامع البيان : أي : ويخلق لكم ما لم يحط به عملكم .
وعن ابن عباس : قوله : ? وَعَلَى اللّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ ? ، يقول : على الله البيان أن يبيّن الهدى والضلالة ? وَمِنْهَا جَآئِرٌ ? يعني : الأهواء المختلفة .
وقال ابن زيد في قوله : ? وَلَوْ شَاء لَهَدَاكُمْ أَجْمَعِينَ ? ، قال : لو شاء لهداكم أجمعين لقصد السبيل الذي هو الحق ، وقرأ : ? وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ ? .(6/129)
وقوله تعالى : ? هُوَ الَّذِي أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَّكُم مِّنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ ? ، قال الضحاك : ترعون أنعامكم .
وعن قتادة : قوله : ? وَمَا ذَرَأَ لَكُمْ فِي الأَرْضِ ? ، يقول : وما خلق لكم مختلفًا ألوانه من الدواب ، ومن الشجر ، والثمار ، نِعَمُ من الله متظاهرة فاشكروا الله . قال في القاموس : ذرأ خلق ، والشيء أكثره ومنه الذرية .
وعن قتادة في قوله : ? وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُواْ مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً ? ، قال : منهما جميعًا ? وَتَسْتَخْرِجُواْ مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا ? قال : هذا اللؤلؤ .
وعن عكرمة في قوله : ? وَتَرَى الْفُلْكَ مَوَاخِرَ فِيهِ ? ، قال : هي السفينة تقوى بالماء هكذا يعني : تشقّه . وعن مجاهد : ? وَلِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ? قال : تجارة البر والبحر ? وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ ? .
وقوله تعالى : ? وَأَلْقَى فِي الأَرْضِ رَوَاسِيَ أَن تَمِيدَ بِكُمْ ? قال مجاهد : أن تكفأ بكم . وقال الحسن : لما خلقت الأرض كادت تميد فقالوا : ما هذه بمقرّة على ظهرها أحد ، فأصبحوا وقد خلقت الجبال ، فلم تدر الملائكة مم خلقت الجبال .
وعن ابن عباس : ? وَعَلامَاتٍ وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ? ، يعني : بالعلامات معالم الطرق بالنهار ? وَبِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ ? بالليل .
وعن قتادة : قوله : ? أَفَمَن يَخْلُقُ كَمَن لاَّ يَخْلُقُ أَفَلا تَذَكَّرُونَ ? والله هو الخالق الرزاق ، وهذه الأوثان التي تعبد من دون الله تخلق ولا تخلق شيئًا ولا تملك لأهلها ضرًا ولا نفعًا ، قال الله : ? أَفَلا تَذَكَّرُونَ ? .(6/130)
وقال البغوي : ? أَفَمَن يَخْلُقُ ? يعني الله تعالى : ? كَمَن لاَّ يَخْلُقُ ? ، يعني : الأصنام ? أَفَلا تَذَكَّرُونَ ? . ? وَإِن تَعُدُّواْ نِعْمَةَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا إِنَّ اللّهَ لَغَفُورٌ ? لتقصيركم في شكر نعمه ، ? رَّحِيمٌ ? بكم حيث وسّع عليكم النعم ولم يقطعها عنكم بالتقصير والمعاصي .
قوله عز وجل : ? وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ (19) وَالَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ لاَ يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَهُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21) إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ (22) لاَ جَرَمَ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23) وَإِذَا قِيلَ لَهُم مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلاَ سَاء مَا يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (28) فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ(6/131)
مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29) ? .
عن قتادة : قوله : ? أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْيَاء وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ ? وهي هذه الأوثان التي تعبد من دون الله ، ? أَمْواتٌ ? لا أرواح ، فيها ولا تملك لأهلها ضرًا ولا نفعًا .
وقوله تعالى : ? إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَالَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ قُلُوبُهُم مُّنكِرَةٌ ? ، قال قتادة : لهذا الحديث ? وَهُم مُّسْتَكْبِرُونَ ? عنه .
وقوله تعالى : ? لاَ جَرَمَ ? ، أي : حقًا ، ? أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ ? .
قال في جامع البيان : أي : حق أن الله تعالى يعلم سرّهم وعلانيتهم حقًا .
وعن قتادة : قوله : ? مَّاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ? ، قال : ذلك قوم من مشركي العرب كانوا يقعدون بطريق من أتى نبي الله - صلى الله عليه وسلم - ، فإذا مرّ بهم أحد من المؤمنين يريد نبي الله - صلى الله عليه وسلم - قالوا لهم : ? أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ ? يريدون أحاديث الأولين وباطلهم .
وعن مجاهد : قوله : ? لِيَحْمِلُواْ أَوْزَارَهُمْ كَامِلَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَمِنْ أَوْزَارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُم بِغَيْرِ عِلْمٍ ? ذنوب أنفسهم وذنوب من أطاعهم ، ولا يخفّف ذلك عمن أطاعهم من العذاب شيئًا . وعن ابن عباس : قوله : ? قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ ? ، قال : هو نمرود حين بنى الصرح . وقال قتادة في قوله : ? قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللّهُ بُنْيَانَهُم مِّنَ الْقَوَاعِدِ ? ، أي : والله لأتاهم أمر الله من أصلها ? فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِن فَوْقِهِمْ ? والسقف أعالي البيوت ؛ فانتكست بهم بيوتهم فأهلكهم الله ودمّرهم ، ? وَأَتَاهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ ? .(6/132)
وقوله : ? ثُمَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يُخْزِيهِمْ وَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكَآئِيَ الَّذِينَ كُنتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ ? ، أي : تخالفون المؤمنين ، ما لهم لا يحضرونكم فيدفعون عنكم العذاب ؟ ? قَالَ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَالْسُّوءَ عَلَى الْكَافِرِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظَالِمِي أَنفُسِهِمْ ? ماتوا على الكفر ، ? فَأَلْقَوُاْ السَّلَمَ ? ، أي : استسلموا وقالوا : ? مَا كُنَّا نَعْمَلُ مِن سُوءٍ ? فقيل لهم : ? بَلَى إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ * فَادْخُلُواْ أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ ? .
قوله عز وجل : ? وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (32) ? .
قال البغوي : ? وَقِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْاْ مَاذَا أَنزَلَ رَبُّكُمْ قَالُواْ خَيْراً ? ثم ابتدأ فقال : ? لِّلَّذِينَ أَحْسَنُواْ فِي هَذِهِ الدُّنْيَا ? كرامة من الله ، ? وَلَدَارُ الآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَآؤُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللّهُ الْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ ? .
وعن مجاهد في قوله : ? الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ ? .(6/133)
قال : أحياء وأمواتًا وقدّر الله ذلك لهم . وقال محمد بن كعب القرظي : إذا احتضرت نفس العبد المؤمن جاءه ملك فقال : السلام عليك وليّ الله ، الله يقرأ عليك السلام ، ثم نزع بهذه الآية : ? الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمُ ادْخُلُواْ الْجَنَّةَ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ ? .
قوله عز وجل : ? هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ وَحَاقَ بِهِم مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ (34) ? .
عن مجاهد : ? هَلْ يَنظُرُونَ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ? ، يقول : عند الموت حين تتوفاهم ، ? أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ ? يوم القيامة .
وقوله تعالى : ? كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ ? ، أي : كفروا كما كفروا ? وَمَا ظَلَمَهُمُ اللّهُ ? بتعذيبه إياهم ، ? وَلكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ? . ? فَأَصَابَهُمْ سَيِّئَاتُ مَا عَمِلُواْ ? عقوبات كفرهم ، وأعمالهم الخبيثة ، ? وَحَاقَ بِهِم ? نزل بهم ، ? مَّا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس السادس والأربعون بعد المائة(6/134)
? وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (37) وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (45) أَوْ(6/135)
يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ (47) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ(6/136)
مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ (62) تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَقَالَ الَّذِينَ أَشْرَكُواْ لَوْ شَاء اللّهُ مَا عَبَدْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ نَّحْنُ وَلا آبَاؤُنَا وَلاَ حَرَّمْنَا مِن دُونِهِ مِن شَيْءٍ كَذَلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35) وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانظُرُواْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36) إِن تَحْرِصْ عَلَى هُدَاهُمْ فَإِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي مَن يُضِلُّ وَمَا لَهُم مِّن نَّاصِرِينَ (37) ? .
قال البغوي في قوله : ? فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ ? ، أي : ليس إليهم الهداية إنما إليهم التبليغ .(6/137)
وقوله تعالى : ? وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً ? ، أي : كما بعثنا فيكم ? أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ? وهو كل معبود من دون الله ? فَمِنْهُم مَّنْ هَدَى اللّهُ ? ، أي : هداه الله إلى دينه ، ? وَمِنْهُم مَّنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ ? ، أي : وجبت بالقضاء السابق حتى مات على كفره .
قوله عز وجل : ? وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كَاذِبِينَ (39) إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَن نَّقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ (40) وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42) ? .
عن أبي العالية قال : كان لرجل من المسلمين على رجل من المشركين دين فأتاه يتقاضاه ، فكان فيما تكلّم به : والذي أرجوه بعد الموت أنه لكذا ، فقال المشرك : إنك تزعم أنك تبعث بعد الموت ؟ فأقسم بالله جهد يمينه لا يبعث الله من يموت ، فأنزل الله : ? وَأَقْسَمُواْ بِاللّهِ جَهْدَ أَيْمَانِهِمْ لاَ يَبْعَثُ اللّهُ مَن يَمُوتُ بَلَى وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ ? . وعن قتادة : قوله : ? لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ ? ، قال : للناس عامة .(6/138)
وقوله تعالى : ? وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً ? ، قال قتادة : هؤلاء أصحاب محمد ظلمهم أهل مكة ، فأخرجوهم من ديارهم ، حتى لحق طوائف منهم بالحبشية ، ثم بوّأهم الله المدينة بعد ذلك ، فجعلها لهم دار هجرة ، وجعل لهم أنصارًا من المؤمنين ، قال الله : ? وَلَأَجْرُ الآخِرَةِ أَكْبَرُ ? والله لَمَا يثيبهم الله عليه من حسنة أكبر ? لَوْ كَانُواْ يَعْلَمُونَ ? .
قوله عز وجل : ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ (47) أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ (48) وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (50) ?.(6/139)
قال ابن عباس : لما بعث الله محمدًا رسوله أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم فقالوا: الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد ، فأنزل الله : ? أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ ? ، وقال : ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ * بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ ? . ? فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ ? ، يعني : أهل الكتب الماضية أبشرًا كانت الرسل التي أتتهم أم ملائكة ؟ وقال مجاهد : ? بِالْبَيِّنَاتِ ? : الآيات ? وَالزُّبُرِ ? : الكتب .
وقوله تعالى : ? أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُواْ السَّيِّئَاتِ ? ، أي : عملوها ? أَن يَخْسِفَ اللّهُ بِهِمُ الأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لاَ يَشْعُرُونَ * أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ ? ، أي : في تعرّضهم واشتغالهم ? فَمَا هُم بِمُعْجِزِينَ ? ? أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ ? ، قال ابن عباس : يقول : إن شئت أخذته على أثر موت صاحبه وتخوّفه بذلك ؛ وعن قتادة : أو يأخذهم على تخوّف فيعاقب أو يتجاوز ، ? فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرؤُوفٌ رَّحِيمٌ ? .
وقوله تعالى : ? أَوَ لَمْ يَرَوْاْ إِلَى مَا خَلَقَ اللّهُ مِن شَيْءٍ يَتَفَيَّأُ ظِلاَلُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَالْشَّمَآئِلِ سُجَّداً لِلّهِ وَهُمْ دَاخِرُونَ ? ، قال مجاهد : صاغرون . وقال قتادة : أما اليمين فأول النهار ، وأما الشمائل فآخر النهار .(6/140)
وقوله تعالى : ? وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ * يَخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ ? كقوله تعالى : ? وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً وَظِلالُهُم بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ ? ، وقوله : ? أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ وَكَثِيرٌ مِّنَ النَّاسِ وَكَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذَابُ ? . وعن أبي ذر قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إني أرى ما لا ترون ، وأسمع ما لا تسمعون ، أطّت السماء وحق لها أن تئطّ ، والذي نفسي بيده ما فيها موضع أربع أصابع ، إلا وملك واضع جبهته ساجدًا لله » . الحديث رواه البغوي وغيره .
قوله عز وجل : ? وَقَالَ اللّهُ لاَ تَتَّخِذُواْ إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّمَا هُوَ إِلهٌ وَاحِدٌ فَإيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَلَهُ مَا فِي الْسَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً أَفَغَيْرَ اللّهِ تَتَّقُونَ (52) وَمَا بِكُم مِّن نِّعْمَةٍ فَمِنَ اللّهِ ثُمَّ إِذَا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ (53) ثُمَّ إِذَا كَشَفَ الضُّرَّ عَنكُمْ إِذَا فَرِيقٌ مِّنكُم بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ فَتَمَتَّعُواْ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55) وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ تَاللّهِ لَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَفْتَرُونَ (56) ? .
عن ابن عباس : ? وَلَهُ الدِّينُ وَاصِباً ? ، قال : دائمًا .
قال البغوي : معناه : ليس من أحد يدان له ويطاع إلا انقطع عنه ذلك بزوال أو هلاك غير الله عز وجل .(6/141)
وعن مجاهد في قوله : ? فَإِلَيْهِ تَجْأَرُونَ ? ، قال : تضرعون دعاء . وقوله تعالى : ? لِيَكْفُرُواْ بِمَا آتَيْنَاهُمْ ? .
قال البغوي : وهذه اللام تسمى لام العاقبة ، أي : حاصل أمرهم هو كفرهم بما أعطيناهم من النعماء وكشف الضراء والبلاء .
وعن قتادة : قوله : ? وَيَجْعَلُونَ لِمَا لاَ يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِّمَّا رَزَقْنَاهُمْ ? وهم مشركو العرب جعلوا لأوثانهم نصيبًا من أموالهم .
قوله عز وجل : ? وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ (57) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوَارَى مِنَ الْقَوْمِ مِن سُوءِ مَا بُشِّرَ بِهِ أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60) وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ وَلَكِن يُؤَخِّرُهُمْ إلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى لاَ جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ الْنَّارَ وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ (62) تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (63) وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) ? .(6/142)
عن ابن عباس : ? وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ الْبَنَاتِ سُبْحَانَهُ وَلَهُم مَّا يَشْتَهُونَ ? وقال : ? وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ ? إلى آخر الآية يقول : يجعلون لله البنات ترضونهم لي ولا ترضونهم لأنفسكم ، وذلك أنهم كانوا في الجاهلية إذا ولد للرجل منهم جارية أمسكها على هون أو دسّها في التراب وهي حيّة . قال قتادة : هذا صنيع مشركي العرب . أخبرهم الله تعالى ذكره بخبث صنيعهم فأما المؤمن فهو حقيق أن يرضى بما قسم الله له ، وقضاء الله خير من قضاء المرء لنفسه ، ولَعمري ما يدري أنه خير ، لَرُبّ جارية خير لأهلها من غلام .
وقال ابن كثير في قوله : ? أَيُمْسِكُهُ عَلَى هُونٍ ? ، أي : إن أبقاها مهانة لا يورّثها ولا يعتني بها ، ويفضّل أولاده الذكور عليها ، ? أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرَابِ ? ، أي : يئدها ، ? أَلاَ سَاء مَا يَحْكُمُونَ ? .
قال البغوي : بئس ما يقضون لله البنات ولأنفسهم البنين .
وقوله تعالى : ? لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ? .
قال ابن جرير : وهو القبيح من المثل ، وما يسوء من ضرب له ذلك المثل .
وقال البغوي : يعني : لهؤلاء الذين يصفون لله البنات ولأنفسهم البنين مثل السوء صفة السوء من الاحتياج إلى الولد وكراهية الإِناث وقتلهنّ خوف الفقر ? وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ ? الصفة العليا ، وهي التوحيد وأنه : لا إله إلا هو .
وقال ابن كثير : ? لِلَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ ? ، أي : النقص ، إنما ينسب إليهم ? وَلِلّهِ الْمَثَلُ الأَعْلَىَ ? ، أي : الكمال المطلق من كل وجه وهو منسوب إليه ? وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ ? . وعن أبي الأحوص قال : كاد الجُعْل أن يعذّب بذنب بني آدم ، وقرأ : ? وَلَوْ يُؤَاخِذُ اللّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِم مَّا تَرَكَ عَلَيْهَا مِن دَآبَّةٍ ? .(6/143)
وعن مجاهد : قوله : ? وَيَجْعَلُونَ لِلّهِ مَا يَكْرَهُونَ وَتَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنَى ? قول قريش : لنا البنون وله البنات . وقال يمان : يعني بالحسنى : الجنة في المعاد ، يقولون : نحن في الجنة إن كان محمد صادقًا بالوعد في البعث ، لا جرم حقًا . قال ابن عباس : بلى إن لهم النار في الآخرة ? وَأَنَّهُم مُّفْرَطُونَ ? منسيّون فيها ؛ وقال قتادة : معجّلون إلى النار .
? تَاللّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ ? كما أرسلناك إلى هذه الأمة ? فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ ? الخبيثة ، ? فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * وَمَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُواْ فِيهِ ? من الدين والأحكام ، ? وَهُدًى وَرَحْمَةً لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ? ، أي : ما أنزلناه إلا بيانًا للناس وهدى ورحمة للمؤمنين . والله أعلم .
* * *
الدرس السابع والأربعون بعد المائة(6/144)
? وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن(6/145)
رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (76) وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (80) وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) ? .
* * *(6/146)
قوله عز وجل : ? وَاللّهُ أَنزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65) وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ مِن بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَّبَناً خَالِصاً سَآئِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67) وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69) ? .
قال الفراء في قوله : ? وَإِنَّ لَكُمْ فِي الأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُّسْقِيكُم مِّمَّا فِي بُطُونِهِ ? ردّ الكناية إلى النعم ، والنعم والأنعام واحد ، ولفظ النعم مذكّر .
وقوله تعالى : ? وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَرِزْقاً حَسَناً ? ، قال البغوي : والكناية في ( منه ) عائدة إلى ما محذوف أي : ما تتخذون منه . وقال ابن عباس : السكَر ما حرّم من ثمرتها ، والرزق الحسن ما أحلّ من ثمرتها . وقال مجاهد : السكر الخمر قبل أن تحرّم ، والرزق الحسن الرُطَب والأعناب .
وقوله تعالى : ? وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ? .(6/147)
قال البغوي : أي : ألهمها وقذف في أنفسها ففهمته ، ? أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ ? وقد جرت العادة أن أهلها يبنون لها الأماكن فهي تأوي إليها . وعن مجاهد : ? فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً ? ، قال : لا يتوعرّ عليها مكان سلكته . وقال قتادة : أي : مطيعة . وقال ابن زيد : الذلول الذي يقاد ويذهب به حيث أراد صاحه ، فهم يخرجون بالنحل ينتجعون بها ويذهبون وهي تتبعهم .
وعن قتادة : قوله : ? يَخْرُجُ مِن بُطُونِهَا شَرَابٌ مُّخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاء لِلنَّاسِ ? ففيه شفاء كما قال الله تعالى : من الأدواء ، وقد كان ينهى عن تفريق النحل وعن قتلها . وقال ابن مسعود : العسل شفاء من كل داء ، والقرآن شفاء لما في الصدور .
قوله عز وجل : ? وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70) وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاء أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ (71) وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) ? .(6/148)
قال البغوي : قوله تعالى : ? وَاللّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ? صبيانًا أو شبانًا أو كهولاً ، ? وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ? أردئه ، قال مقاتل : يعني : الهرم ، وقال قتادة : أرذل العمر تسعون سنة ، وروي عن عليّ قال : أرذل العمر خمس وسبعون سنة ، وقيل : ثمانون سنة ، ? لِكَيْ لاَ يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ? لكيلا يعقل بعد عقله الأول شيئًا : ? إِنَّ اللّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ? . وساق بسنده حديث أنس بن مالك أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - كان يدعو : « أعوذ بك من البخل والكسل وأرذل العمر ، وعذاب القبر وفتنة الدجّال ، وفتنة المحيا والممات » . وعن ابن عباس : قوله : ? وَاللّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُواْ بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ? . يقول: لم يكونوا يشركون عبيدهم في أموالهم ونسائهم ، فكيف يشركون عبيدي معي في سلطاني ؟ فلذلك قوله : ? أَفَبِنِعْمَةِ اللّهِ يَجْحَدُونَ ? .
وعن مجاهد في قوله : ? بِرَآدِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ ? قال : مثل آلهة الباطل مع الله تعالى ذكره .
وقوله تعالى : ? وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً ? ، قال ابن عباس : هم : الولد ، وولد الولد . وقال ابن مسعود : الحفدة الأصهار .(6/149)
قوله عز وجل : ? وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِّنَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ شَيْئاً وَلاَ يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ (74) ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنفِقُ مِنْهُ سِرّاً وَجَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (75) وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ وَهُوَ كَلٌّ عَلَى مَوْلاهُ أَيْنَمَا يُوَجِّههُّ لاَ يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (76)?.
قال مجاهد : ? الأَمْثَالَ ? الأشباه . وعن ابن عباس : قوله : ? فَلاَ تَضْرِبُواْ لِلّهِ الأَمْثَالَ ? ، يعني : اتخاذهم الأصنام يقول : لا تجعلوا معي إلهًا غيري فإنه لا إله غيري .
وعن قتادة : قوله :? ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً عَبْداً مَّمْلُوكاً لاَّ يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ ? هذا مثل ضربه الله للكافر ، رزقه الله مالاً فلم يقدّم فيه خيرًا ولم يعمل فيه بطاعة الله ؛ قال الله تعالى ذكره : ? وَمَن رَّزَقْنَاهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً ? فهذا المؤمن أعطاه الله مالاً يعمل فيه بطاعة الله ، وأخذ بالشكر ، ومعرفة الله ، فأثابه الله على ما رزقه الرزق المقيم ، الدائم لأهله في الجنة ، وعن مجاهد : هو مثل مضروب للوثن وللحق تعالى ، فهل يستوي هذا وهذا ؟(6/150)
وقوله تعالى : ? وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً رَّجُلَيْنِ أَحَدُهُمَا أَبْكَمُ لاَ يَقْدِرُ عَلَىَ شَيْءٍ ? ، قال قتادة : هو الوثن ، ? هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَمَن يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ? ، قال : الله ? يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَهُوَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? ، وقال الكلبي : يعني : يدلّكم على صراط مستقيم .
قوله عز وجل : ? وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (77) وَاللّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لاَ تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَجَعَلَ لَكُمُ الْسَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78) أَلَمْ يَرَوْاْ إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّرَاتٍ فِي جَوِّ السَّمَاء مَا يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللّهُ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79) ? .
عن قتادة : ? وَمَا أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ ? هو أن يقول : كن فهو كلمح البصر ، فأمر الساعة كلمح البصر أو ? أَقْرَبُ ? ، يعني يقول : أو هو أقرب من لمح البصر .(6/151)
قوله عز وجل : ? وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَجَعَلَ لَكُم مِّن جُلُودِ الأَنْعَامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَامَتِكُمْ وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَاثاً وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ (80) وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلاَغُ الْمُبِينُ (82) يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ (83) ? .
عن مجاهد في قول الله تعالى : ? مِّن بُيُوتِكُمْ سَكَناً ? تسكنون فيه . وعن ابن عباس : ? أَثَاثاً ? ، قال : يعني بالأثاث : المال ، ? وَمَتَاعاً إِلَى حِينٍ ? ، يعني : زينة ، يقول : ينتفعون به ? إِلَى حِينٍ ? ، قال قتادة : إلى أجل وبُلْغَة . ? وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّمَّا خَلَقَ ظِلاَلاً ? قال : الشجر ? وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً ? ، يقول : غيرانًا . ? وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ ? من القطن والكتان والصوف .
قال البغوي : قال أهل المعاني : أراد الحر والبرد فاكتفى بذكر أحدهما لدلالة الكلام عليه . ? وَسَرَابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ ? ، يعني : الدروع ولباس الحرب . وقال عطاء : إنما أنزل القرآن على قدر معرفتهم فقال : ? وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْجِبَالِ أَكْنَاناً ? وما جعل لهم من السهول أكثر وأعظم ، ولكنهم كانوا أصحاب جبال .(6/152)
وقوله تعالى : ? يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللّهِ ثُمَّ يُنكِرُونَهَا وَأَكْثَرُهُمُ الْكَافِرُونَ ? ، قال ابن جريج : قال عبد الله بن كثير : يعلمون أن الله خلقهم ، وأعطاهم ما أعطاهم ، فهو معرفتهم نعمته ، ثم إنكارهم إياها كفرهم بعد .
وقال ابن كثير : أي : يعرفون أن الله تعالى هو المسدي إليهم ذلك ، وهو المتفضّل به عليهم ، ومع هذا ينكرون ذلك ، ويعبدون معه غيره ، ويسندون النصر والرزق إلى غيره .
* * *
الدرس الثامن والأربعون بعد المائة(6/153)
? وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ(6/154)
تَعْمَلُونَ (93) وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لاَ يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُواْ وَلاَ هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ ظَلَمُواْ الْعَذَابَ فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ (85) وَإِذَا رَأى الَّذِينَ أَشْرَكُواْ شُرَكَاءهُمْ قَالُواْ رَبَّنَا هَؤُلاء شُرَكَآؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوْ مِن دُونِكَ فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكَاذِبُونَ (86) وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يُفْسِدُونَ (88) وَيَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ وَهُدًى وَرَحْمَةً وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (89) ? .(6/155)
عن قتادة : ? وَيَوْمَ نَبْعَثُ مِن كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ? وشاهدها نبيّها على أنه قد بلّغ رسالات ربه . قال الله تعالى : ? وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء ?.
وعن مجاهد : ? فَألْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ ? حدّثوهم . وعن قتادة : ? وَأَلْقَوْاْ إِلَى اللّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ ? ، يقول : ذلّوا واستسلموا يومئذٍ ، ? وَضَلَّ عَنْهُم مَّا كَانُواْ يَفْتَرُونَ ? . وعن ابن مسعود في قوله : ? زِدْنَاهُمْ عَذَاباً فَوْقَ الْعَذَابِ ? ، قال : أفاعي . وعن عبد الله بن عمرو قال : إن لجهنّم سواحل فيها حيات وعقارب ، أعناقها كأعناق البُخت .
وعن ابن جريج في قوله : ? وَنَزَّلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ تِبْيَاناً لِّكُلِّ شَيْءٍ ? ، قال : ما أمروا به ونُهوا عنه . وقال ابن مسعود : أنزل في هذا القرآن كل علم وكل شيء ، قد تبيّن لنا في القرآن ، ثم تلا هذه الآية .(6/156)
قوله عز وجل : ? إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90) وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ اللّهِ إِذَا عَاهَدتُّمْ وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (91) وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّمَا يَبْلُوكُمُ اللّهُ بِهِ وَلَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مَا كُنتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَلَوْ شَاء اللّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلكِن يُضِلُّ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ وَلَتُسْأَلُنَّ عَمَّا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (93) وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ وَلَكُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (94) وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ (95) مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (96) مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ (97) ? .(6/157)
قال ابن مسعود : إن أجمع آية في القرآن في سورة النحل : ? إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى ? إلى آخر الآية . وقال قتادة : إنه ليس من خلق حسن كان أهل الجاهلية يعملون به ويستحسنونه إلا أمر الله به ، وليس من خلق سيِّيء كانوا يتعايرونه بينهم إلا نهى الله عنه وقدّم فيه ، وإنما نهى عن سفاسف الأخلاق ومذامّها . وروي أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قرأ هذه الآية على رجل من الكفار فقال : ( إن له والله لحلاوة ، وإن عليه لطلاوة ، وإن أعلاه لمثمر ، وإن أسفله لمغدق ، وما هو بقول البشر ) .
وقال نافع بن يزيد : سألت يحيى بن سعيد عن قول الله : ? وَلاَ تَنقُضُواْ الأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا ? ، قال : العهود . وعن مجاهد : ? وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً ? ، قال : وكيلاً .
وعن قتادة : قوله : ? وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِن بَعْدِ قُوَّةٍ أَنكَاثاً ? فلو سمعتم بامرأة نقضت غزلها من بعد إبرامه لقلتم : ما أحمق هذه ، وهذا مثل ضربه الله لمن نكث عهده .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَن تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ? .
قال ابن جرير : ? دَخَلاً بَيْنَكُمْ ? ، يقول : خديعة وغرورًا ليطمئنوا إليكم وأنتم مضمرون لهم الغدر ، وترك الوفاء بالعهد . وقال مجاهد : كانوا يحالفون الحلفاء فيجدون أكثر منهم وأعزّ ، فينقضون حلف هؤلاء ، ويحالفون هؤلاء الذين هم أعزّ منهم ، فنُهوا عن ذلك .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَتَّخِذُواْ أَيْمَانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِهَا وَتَذُوقُواْ الْسُّوءَ بِمَا صَدَدتُّمْ عَن سَبِيلِ اللّهِ ? .
قال ابن كثير : لأن الكافر إذا رأى المؤمن قد عاهده ، ثم غدر به لم يبق له وثوق بالدين ، فانصدّ بسببه عن الدخول في الإسلام .(6/158)
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَشْتَرُواْ بِعَهْدِ اللّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّمَا عِندَ اللّهِ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ * مَا عِندَكُمْ يَنفَدُ وَمَا عِندَ اللّهِ بَاقٍ وَلَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ? ينهى تعالى عن نقض العهد ويحثّ على الوفاء به والصبر على ذلك . وعن أبي موسى الأشعري أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « من أحبّ دنياه أضرّ بآخرته ، من أحبّ آخرته أضر بدنياه ، فآثروا ما يبقى على ما ينفى » . رواه البغوي .
وقوله تعالى : ? مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً ? ، قال ابن عباس : الحياة الطيبة الرزق الحلال في الدنيا . وقال الحسن : هي القناعة . وقال الضحاك : ? مَنْ عَمِلَ صَالِحاً ? وهو مؤمن في فاقة أو ميسرة فحياته طيبة ، ومن أعرض عن ذكر الله فلم يؤمن ولم يعمل صالحًا فعيشته ضنكة لا خير فيها . وعن عبد الله بن عمرو أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « قد أفلح من أسلم ورزق كفافًا وقنّعه الله بما آتاه » .
وعن ابن عباس : ? وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ ? ، قال: إذا صاروا إلى الله جزاهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون . والله أعلم.
* * *
الدرس التاسع والأربعون بعد المائة(6/159)
? فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (100) وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ(6/160)
تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (111)?.
قوله عز وجل : ? فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ (100)?.
هذا أمر من الله تعالى لعباده على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم - ، إذا أرادوا قراءة القرآن أن يستعيذوا بالله من الشيطان الرجيم .
قال ابن كثير : والمعنى في الاستعاذة عند ابتداء القراءة ؛ لئلا يلبس على القارئ قراءته ؛ ويخلط عليه ، ويمنعه من التدبر والتفكر .
وقوله تعالى : ? إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُواْ وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ? ، قال الثوري : ليس له عليهم سلطان أن يوقعهم في ذنب لا يتوبون منه ? إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ ? ، قال مجاهد : يطيعونه ، ? وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ? يعدلون بالله وقال الضحاك : عدلوا إبليس بربهم ، فإنهم بالله مشركون ، وقال ابن عباس السلطان على من تولى الشيطان ، وعمل بمعصية الله .(6/161)
قوله عز وجل : ? وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُواْ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ (103) إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ (105) ? .
عن قتادة : قوله : ? وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ ? هو كقوله : ? مَا نَنسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنسِهَا ? . وقال ابن زيد في قوله : ? وَإِذَا بَدَّلْنَا آيَةً مَّكَانَ آيَةٍ وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُنَزِّلُ قَالُواْ إِنَّمَا أَنتَ مُفْتَرٍ ? تأتي بشيء وتنقضه فتأتي بغيره ، قال : وهذا التبديل ناسخ ، ولا تبدّل آية مكان آية إلا بنسخ .
وقوله تعالى : ? قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِن رَّبِّكَ بِالْحَقِّ ? . قال محمد بن كعب القرظي : ? رُوحُ الْقُدُسِ ? جبرائيل . وقال ابن إسحاق : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - - فيما بلغني - كثيرًا ما يجلس عند المروة إلى غلام نصراني ، يقال له : جبر ، عبد لبعض بني الحضرمي ، فأنزل الله : ? وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِّسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُّبِينٌ ? .(6/162)
وقوله تعالى : ? إِنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ لاَ يَهْدِيهِمُ اللّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ * إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللّهِ وَأُوْلئِكَ هُمُ الْكَاذِبُونَ ? .
قال ابن كثير : يخبر تعالى أنه لا يهدي من أعرض عن ذكره ، وتغافل عما أنزله على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، ولم يكن له قصد إلى الإيمان بما جاء من عند الله ، فهذا الجنس من الناس لا يهديهم الله إلى الإيمان بآياته ، وما أرسل به رسله في الدنيا ? وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ? موجع في الآخرة ، ثم أخبر تعالى أن رسوله - صلى الله عليه وسلم - ليس بمفترٍ ولا كذاب ، لأنه إنما يفتري الكذب على الله وعلى رسوله شرار الخلق ، الذين لا يؤمنون بآيات الله من الكفرة والملحدين ، المعروفين بالكذب عند الناس ، والرسول محمد - صلى الله عليه وسلم - كان أصدق الناس ، وأبرّهم ، وأكملهم علمًا وعملاً وإيمانًا وإيقانًا ، معروفًا بالصدق في قومه ، لا يشكّ في ذلك أحد منهم بحيث لا يُدعى بينهم إلا بالأمين محمد ، لهذا لما سأل هرقل ملك الروم أبا سفيان عن تلك المسائل التي سألها من صفة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، كان فيما قال له : ( هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ؟ قال : لا ، فقال هرقل : فما كان ليدع الكذب على الناس ويذهب فيكذب على الله عز وجل ) . انتهى .(6/163)
قوله عز وجل : ? مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ وَلَكِن مَّن شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِّنَ اللّهِ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ (106) ذَلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّواْ الْحَيَاةَ الْدُّنْيَا عَلَى الآخِرَةِ وَأَنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ (107) أُولَئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ (108) لاَ جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الآخِرَةِ هُمُ الْخَاسِرونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ (111) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? مَن كَفَرَ بِاللّهِ مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ? إلى آخر الآية ، ( وذلك أن المشركين أصابوا عمار بن ياسر فعذّبوه ثم تركوه ، فرجع إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فحدّثه بالذي لقي من قريش الذي قال ، فأنزل الله تعالى عذره ) . وعن أبي عبيدة بن محمد بن عمار بن ياسر قال : أخذ المشركون عمار بن ياسر فعذّبوه حتى باراهم في بعض ما أرادوا ، فشكا ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « كيف تجد قلبك » ؟ قال : مطمئنًا بالإيمان . قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : « فإن عادوا فعد » . رواه ابن جرير . وفي رواية البيهقي فقال : يا رسول الله ما تُركت حتى سببتك وذكرت آلهتهم بخير ؛ وفي ذلك أنزل الله : ? إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ ? .(6/164)
قال ابن كثير : اتفق العلماء على أن المكرَه على الكفر يجوز له أن يوالي إبقاءً لمهجته ، ويجوز له أن يأبى كما كان بلال رضي الله عنه يأبى عليهم ذلك ، وهم يفعلون به الأفاعيل ، حتى إنهم ليضعون الصخرة العظيمة على صدره في شدة الحر ويأمرونه بالشرك بالله ، فيأبى عليهم وهو يقول : أحد ، أحد . ويقول : والله لو أعلم كلمة هي أغيظ لكم منها لقلتها ، رضي الله عنه وأرضاه .
وقوله تعالى : ? ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هَاجَرُواْ مِن بَعْدِ مَا فُتِنُواْ ? ، أي : عذّبوا ومنعوا من الإسلام ، ? ثُمَّ جَاهَدُواْ وَصَبَرُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ? .
قال البغوي : نزلت في عياش بن أبي ربيعة ، وأبي جندل بن سهيل ، والوليد بن الوليد ، وسلمة بن هشام ، وعبد الله بن أبي أسيد الثقفي ، فتنتهم المشركون فأعطوهم بعض ما أرادوا ليسلموا من شرّهم ، ثم إنهم هاجروا بعد ذلك وجاهدوا .
قال ابن كثير : فأخبر تعالى أنه : ? مِن بَعْدِهَا ? ، أي : تلك الفعلة ، وهي الإجابة إلى الفتنة ، ? لَغَفُورٌ ? لهم ، ? رَّحِيمٌ ? يوم معادهم ، ? يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الخمسون بعد المائة(6/165)
? وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (119) إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ(6/166)
فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128)?.
* * *
قوله عز وجل : ? وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللّهِ فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ (112) وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ (113) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? وَضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً ? ، يعني : مكة ، ? يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِّن كُلِّ مَكَانٍ ? .
قال البغوي : من البر والبحر ، ? فَأَذَاقَهَا اللّهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ ? .
? وَلَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مِّنْهُمْ ? ، قال قتادة : أي : والله يعرفون نسبه وأمره ، ? فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذَابُ وَهُمْ ظَالِمُونَ ? فأخذهم الله بالجوع والخوف والقتل .(6/167)
قوله عز وجل : ? فَكُلُواْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللّهُ حَلالاً طَيِّباً وَاشْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114) إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ وَلَحْمَ الْخَنزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ وَلاَ عَادٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ (115) وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ (116) مَتَاعٌ قَلِيلٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (117) وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُواْ أَنفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ (119) ? .
عن قتادة : قوله : ? إِنَّمَا حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَالْدَّمَ ? الآية ، وأن الإسلام طهّره الله من كل سوء ، وجعل لك فيه يا ابن آدم سعة إذا اضطررت إلى شيء من ذلك .
قوله : ? فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ بَاغٍ ? في أكله ، ? وَلاَ عَادٍ ? أن يتعدّى حلالاً إلى حرام وهو يجد عنه مندوحة .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ ? .
قال ابن كثير : ( وما ) مصدرية أي : ولا تقولوا الكذب لوصف ألسنتكم ? هَذَا حَلاَلٌ وَهَذَا حَرَامٌ ? قال مجاهد : في البحيرة والسائبة .
قال ابن كثير : ويدخل في هذا كل من ابتدع بدعة ليس له فيها مستند شرعي ، أو حلّل شيئًا مما حرّم الله ، أو حرّم شيئًا مما أباح الله بمجرد رأيه وتشهّيه .(6/168)
وعن قتادة :قوله :? وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا مَا قَصَصْنَا عَلَيْكَ مِن قَبْلُ? قال : ما قص الله تعالى في سورة الأنعام حيث يقول : ? وَعَلَى الَّذِينَ هَادُواْ حَرَّمْنَا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ ? الآية .
وقوله تعالى : ? ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُواْ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُواْ مِن بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُواْ ? ، أي : استقاموا على الطاعة ، ? إِنَّ رَبَّكَ مِن بَعْدِهَا ? ، أي : التوبة ، ? لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ? ، قال بعض السلف : كل من عصى الله فهو جاهل .
قوله عز وجل : ? إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شَاكِراً لِّأَنْعُمِهِ اجْتَبَاهُ وَهَدَاهُ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (121) وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً وَإِنَّهُ فِي الآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123) إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ وَإِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124) ? .
عن قتادة : قوله : ? إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ ? ، قال : كان إمام هدى مطيع تتبع سنته وملّته . وعن مسروق قال : قرأت عند عبد الله هذه الآية : ? إِنَّ إِبْرَاهِيمَ كَانَ أُمَّةً قَانِتاً لِلّهِ ? فقال : كان معاذ أمة قانتًا ، قال : هل تدري ما الأمة ؟ الأمة : الذي يعلّم الناس الخير ، والقانت : الذي يطيع الله ورسوله .(6/169)
وقال ابن جرير في قوله : ? حَنِيفاً ? ، يقول : مستقيمًا على دين الإسلام ? وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ? وقال مجاهد : كان إبراهيم أمة ، أي : مؤمنًا وحده والناس كلهم إذ ذاك كفار . وعن مجاهد : ? وَآتَيْنَاهُ فِي الْدُّنْيَا حَسَنَةً ? ، قال : لسان صدق .
وقوله تعالى : ? ثُمَّ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ? .
قال البغوي : وقال أهل الأصول : كان - صلى الله عليه وسلم - مأمورًا بشريعة إلا ما نسخ في شريعته ، وما لم ينسخ صار شرعًا .
وقال ابن زيد في قوله : ? إِنَّمَا جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُواْ فِيهِ ? ، قال : كانوا يطلبون يوم الجمعة فأخطؤوه وأخذوا يوم السبت فحقّ عليهم . وفي الصحيحين عن أبي هريرة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « نحن الآخرون السابقون يوم القيامة ، بيد أنهم أوتوا الكتاب من قبلنا ، ثم هذا يومهم الذي عرض عليهم فاختلفوا فيه ، فهدانا الله له ، فالناس لنا فيه تبعٌ : اليهود غدًا ، والنصارى بعد غد » .
قوله عز وجل : ? ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125) وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ (126) وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَلاَ تَكُ فِي ضَيْقٍ مِّمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ (128) ? .
عن مجاهد : ? وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? أعرض عن أذاهم إياك .(6/170)
وقال ابن كثير : يقول تعالى آمرًا رسوله محمد - صلى الله عليه وسلم - : أن يدعوا الخلق إلى الله ? بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ? ، أي : بما فيه من الزواجر والوقائع بالناس ، ذكّرهم بها ليحذروا بأس الله تعالى . وقوله : ? وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? ، أي : من احتاج منهم إلى مناظرة وجدال فليكن بالوجه الحسن ، برفق ولين وحسن خطاب ، كقوله تعالى : ? وَلَا تُجَادِلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ ? الآية ، فأمره تعالى بلين الجانب ، كما أمر به موسى وهارون عليهما السلام حين بعثهما إلى فرعون في قوله : ? فَقُولَا لَهُ قَوْلاً لَّيِّناً لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى ? .
وعن مجاهد : وإن عاقبتم فعاقبوا بمثل ما عوقبتم به ولا تعتدوا .
وقال ابن كثير : وهذه الآية الكريمة لها أمثال في القرآن ، فإنها مشتملة على مشروعية العدل والندب إلى الفضل ، كما في قوله : ? وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ? ، ثم قال : ? فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ ? . وقال قتادة : ذكر لنا أن هَرِم بن حيان العبدي لما حضره الموت قيل له : أَوْصِ قال : ما أدري ما أوصي ، ولكن بيعوا درعي فاقضوا عنّي ديني ، فإن لم يف فبيعوا فرسي ، فإن لم تف فبيعوا غلامي ، وأوصيكم بخواتيم سورة النحل : ? ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُواْ بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُم بِهِ وَلَئِن صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِّلصَّابِرينَ ? . ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - لما نزلت هذه الآية قال : « بل نصبر » .(6/171)
وعن الحسن : ? إِنَّ اللّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ ? ، قال : اتقوا الله فيما حرّم عليهم ، وأحسنوا فيما افترض عليهم . والله أعلم .
* * *
الدرس الحادي والخمسون بعد المائة
[ سورة الإسراء ]
مكية ، وآياتها مائة وإحدى عشرة آية
بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
? سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً (3) وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً (8) إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ(6/172)
بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12) وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً (17) مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً (19) كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) ? .
* * *(6/173)
قوله عز وجل : ? سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (1) وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً (3)?.
عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « أُتيت بالبراق - وهو دابة أبيض فوق الحمار ودون البغل ، يضع حافره عند منتهى طرفه - فركبته فسار بي حتى أتيت بيت المقدس ، فربطت الدابة بالحلقة التي يربط فيها الأنبياء ثم دخلت فصلّيت فيه ركعتين ، ثم خرجت فأتاني جبريل بإناء من خمر وإناء من لبن فاخترت اللبن ، فقال جبريل : أصبت الفطرة ، قال : ثم عُرج بي إلى السماء الدنيا فاستفتح جبريل فقيل له : من أنت ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل : وقد أُرسل إليه ؟ قال : قد أُرسل إليه ، ففُتح لنا فإذا أنا بآدم فرحّب بي ودعا لي بخير ، ثم عُرج بنا إلى السماء الثانية فاستفتح جبريل فقيل له : من أنت ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل وقد أُرسل إليه ؟ قال : قد أُرسل إليه ، ففُتح لنا فإذا بابن الخالة يحيى وعيسى فرّحبا بي ودعوا لي بخير ، ثم عُرج بي إلى السماء الثالثة فاستفتح جبريل فقيل له : من أنت ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، قيل وقد أُرسل إليه ؟ قال : قد أُرسل إليه ، ففُتح لنا فإذا أنا بيوسف عليه السلام ، وإذا هو قد أعطي شطر الحسن ، فرحّب بي ودعا لي بخير ، ثم عُرج بنا إلى السماء الرابعة فاستفتح جبريل فقيل له : من أنت ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك؟ قال : محمد . قيل وقد أُرسل إليه ؟ قال : قد أُرسل إليه ، ففُتح لنا فإذا أنا بإدريس فرحّب بي ودعا(6/174)
لي بخير ثم يقول الله تعالى : ? وَرَفَعْنَاهُ مَكَاناً عَلِيّاً ? ثم عُرج بنا إلى السماء الخامسة فاستفتح جبريل فقيل له : من أنت ؟ قال : جبريل . قيل : ومن معك ؟ قال : محمد . فقيل وقد أُرسل إليه ؟ قال : قد بُعث إليه ، ففُتح لنا فإذا أنا بهارون فرحًب بي ودعا لي بخير . ثم عُرج بنا إلى السماء السادسة فاستفتح جبريل فقيل له : من أنت ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، فقيل وقد بُعث إليه ؟ قال : قد بُعث إليه ، ففُتح لنا فإذا أنا بموسىعليه السلام فرحب بي ودعا لي بخير ثم عُرج إلى السماء السابعة فاستفتح جبريل فقيل له : من أنت ؟ قال : جبريل ، قيل : ومن معك ؟ قال : محمد ، فقيل وقد بُعث إليه ؟ قال : قد بُعث إليه ، ففُتح لنا فإذا أنا بإبراهيم عليه السلام ، وإذا هو مستند إلى البيت المعمور ، وإذا هو يدخله كل يوم سبعون ألف ملك ثم لا يعودون إليه ، ثم ذُهب بي إلى سدرة المنتهى ، فإذا أوراقها كآذان الفيلة ، وإذا ثمرها كالقلال ، فلما غشيها من أمر الله ما غشيها تغيّرت فما أحد من خلق الله يستطيع أن يصفها من حسنها ، قال : فأوحى الله إليّ ما أوحى وفرض عليّ في كل يوم وليلة خمسين صلاة ، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى قال : ما فرض ربك على أمتك ؟ قلت : خمسين صلاة في كل يوم وليلة . قال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، فإن أمتك لا تطيق ذلك ، وإني قد بلوت بني إسرائيل وخبرتهم قال : فرجعت إلى ربي فقلت : أي رب خفف عن أمتي ، فحطّ عنيّ خمسًا ، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فقال : ما فعلت ؟ فقلت : قد حطّ عني خمسًا ، فقال : إن أمتك لا تطيق ذلك ، فارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك ، قال : فلم أزل أرجع بين ربي وبين موسى ويحطً عني خمسً خمسًا ، حتى قال : يا محمد هن خمس صلوات في كل يوم وليلة ، بكل صلاة عشر فتلك خمسون صلاة ، ومن همّ بحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة ، فإن عملها كتبت عشرًا ، ومن همّ بسيّئة فلم يعملها لم(6/175)
تكتب ، فإن عملها كتبت سيئة واحدة ، فنزلت حتى انتهيت إلى موسى فأخبرته فقال : ارجع إلى ربك فاسأله التخفيف لأمتك فإن أمتك لا تطيق ذلك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لقد رجعت إلى ربي حتى استحييت » . رواه أحمد ، ومسلم .
وفي رواية البخاري : « فلما خلصت - يعني إلى السماء الدنيا - فإذا فيها آدم عليه السلام ، قال : هذا أبوك آدم ، فسلّم عليه ، فسلّمت عليه فردّ السلام ثم قال : مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح ، وفيها : فلما خلصت - يعني إلى السماء الرابعة - فإذا إدريس عليه السلام قال : هذا إدريس قال : فسلّمت عليه فرد السلام ثم قال : مرحبًا بالأخ الصالح والنبي الصالح ، وفيها : وقال : - يعني إبراهيم - مرحبًا بالابن الصالح والنبي الصالح » .
وفي حديث أبي ذر : « ثم أُدخلت الجنة فإذا فيها حبال اللؤلؤ وإذا تربها المسك » . وفي حديث جابر : « لما كذّبتني قريش حين أسري بي إلى بيت المقدس ، قمت في الحجر فجلّى الله لي بيت المقدس ، فطفقت أخبرهم عن آياته وأنا أنظر إليه » . وعند البيهقي عن سعيد بن المسيب : ثم رجع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى مكة ، فأخبر أنه أسري به ، فافتتن أناس كثير كانوا قد صلّوا معه ، قال أبو سلمة : فقال ناس لأبي بكر : هل لك في صاحبك ؟ يزعم أنه جاء إلى بييت المقدس ثم رجع إلى مكة في ليلة واحدة ! فقال أبو بكر أَوَ قال ذلك ؟ قالوا : نعم . قال : فأنا أشهد لئن كان قال ذلك لقد صدق . قالوا : أفتصدقه في أن يأتي الشام في ليلة واحدة ثم يرجع إلى مكة قبل أن يصبح ؟ قال : نعم أنا أصدّقه بأبعد من ذلك ، أصدّقه بخبر السماء . قال أبو سلمة : فبها سمّي أبو بكر ( الصديق ) .
وقوله تعالى : ? وَآتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ ? ، يعني : التوراة ، ? وَجَعَلْنَاهُ هُدًى لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُواْ مِن دُونِي وَكِيلاً ? ، أي : معبودًا قال مجاهد : شريكًا .(6/176)
وقوله تعالى : ? ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنَا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ? .
قال ابن كثير : فيه تهيج وتنبيه على المنبّه ، أي : يا سلالة من نجّينا فحملنا مع نوح في السفينة ، تشّبهوا بأبيكم ، ? إِنَّهُ كَانَ عَبْداً شَكُوراً ? . وقد ورد في الحديث وفي الأثر من السلف : ( أن نوحًا عليه السلام كان يحمد الله على طعامه وشرابه ولباسه وشأنه كله فلهذا سميّ عبدًا شكورًا ) .
قوله عز وجل : ? وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوّاً كَبِيراً (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَاداً لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْداً مَّفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لِأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً (8) ? .
عن ابن عباس في قوله : ? وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ ? ، يقول : أعلمناهم . وقال قتادة : قضاه الله على القوم كما تسمعون . وقال ابن عباس : بعث الله عليهم جالوت فجاس خلال ديارهم ، وضرب عليهم الخراج والذلّ ، فسألوا الله أن يبعث لهم ملكًا يقاتلون في سبيل الله ، فبعث الله طالوت فقاتلوا جالوت ، فنصر الله بني إسرائيل وقُتل جلوات بيدي داود ، وأرجع الله إلى بني إسرائيل ملكهم .(6/177)
وعن مجاهد : ? فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ ? ، قال : بعث ملك فارس ببابل جيشًا وأمّر عليهم بختنصر ، فأتوا بني إسرائيل فدمّروهم . وعن ابن عباس قال : بعث عيسى ابن مريم يحيى بن زكريا في اثني عشر من الحواريين يعلّمون الناس ، قال : فكان فيما نهاهم عن نكاح ابنة الأخ ، قال : وكانت لملكهم ابنة أخ تعجبه يريد أن يتزوجها ، وكانت لها كل يوم حاجة يقضيها ، فلما بلغ ذلك أمها قالت لها : إذا دخلت على الملك فسألك حاجتك فقولي : حاجتي أن تذبح لي يحيى بن زكريا ، فلما دخلت عليه سألها حاجتها ، فقالت : حاجتي أن تذبح يحيى بن زكريا ، فقال : سلي غير هذا ، فقالت : ما أسألك إلا هذا ، قال : فلما أبت عليه دعا يحيى ودعا بطشت فذبحه ، فبدرت قطرة من دمه على الأرض ، فلم تزل تغلي حتى بعث الله بختنصر عليهم ، فجاءته عجوز من بني إسرائيل فدّلته على ذلك الدم ، قال : فألقى الله في نفسه أن يقتل على ذلك الدم منهم حتى يسكن فقتل سبعين ألفًا منهم من سنٍّ واحد فسكن .
وعن قتادة : ? وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً ? ، قال : يدمّروا ما علوا تدميرًا ، قال : هو بخنتصّر أبغض خلق الله إليه ، فسبى ، وقتل ، وخرب بيت المقدس وسامهم سوء العذاب . وعن ابن عباس قال : قال الله تبارك وتعالى بعد الأولى والآخرة : ? عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا ? ، قال : فعادوا فسلّط الله عليهم المؤمنين .
وعن قتادة : ? وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيراً ? قال : مجلسًا حصورًا . وقال ابن عباس : سجنًا .(6/178)
قوله عز وجل : ? إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وأَنَّ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ أَعْتَدْنَا لَهُمْ عَذَاباً أَلِيماً (10) وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً (11) وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً (12) ? .
قال ابن زيد : ? إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يِهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ ? ، قال : للتي هي أصوب ، هو الصواب ، وهو الحق . وعن قتادة : ? وَيَدْعُ الإِنسَانُ بِالشَّرِّ دُعَاءهُ بِالْخَيْرِ وَكَانَ الإِنسَانُ عَجُولاً ? ، قال : يدعو على نفسه بما لو استجيب له هلك ، أو على خادمه أو على ماله . وعن رفيع بن أبي كثير قال : قال عليّ رضوان الله عليه : سلوا عما شئتم ، فقام ابن الكواء فقال : ما السواد الذي في القمر ؟ فقال : قاتلك الله هلا سألت عن أمر دينك وآخرتك ؟ قال : ذلك محو الليل .
وعن قتادة : قوله : ? وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً ? أي : منيرة ، وخلق الشمس أنور من القمر وأعظم ? لِتَبْتَغُواْ فَضْلاً مِّن رَّبِّكُمْ ? قال : جعل سبحًا طويلاً : ? وَلِتَعْلَمُواْ عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلاً ? ، أي : بيّناه تبيينًا .(6/179)
قوله عز وجل : ? وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً (13) اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَّنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15) وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً (16) وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً (17) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَآئِرَهُ فِي عُنُقِهِ ? ، قال : عمله وما قدّر عليه فهو ملازمه أينما كان ، فزائل معه أينما زال ? وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَاباً يَلْقَاهُ مَنشُوراً ? قال : هو عمله الذي عمل أحصى عليه فأخرج له يوم القيامة ما كتب عليه من العمل .
? يَلْقَاهُ مَنشُوراً * اقْرَأْ كَتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً ? ، قال قتادة : قد عدل والله عليك من جعلك حسيب نفسك ، سيقرأ يومئذٍ من لم يكن قارئًا في الدنيا . وعن أبي هريرة قال : ( إذا كان يوم القيامة جمع الله تبارك وتعالى نسم الذين ماتوا في الفترة ، والمعتوه والأصم والأبكم ، والشيوخ الذين جاء الإسلام وقد خرفوا ، ثم أرسل رسولاً أن : ادخلوا النار. فيقولون : كيف ولم يأتينا رسول ؟ وأيم الله لو دخلوها لكانت عليهم بردًا وسلامًا ، ثم يرسل إليهم فيطيعه من كان يريد أن يطيعه قبل . قال أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم ? وَمَا كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً ? ) .(6/180)
وقوله تعالى : ? وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا ? . قال ابن عباس : ? أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا ? ، قال : بطاعة الله فعصوا . وعن قتادة : قوله : ? وَإِذَا أَرَدْنَا أَن نُّهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُواْ فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ ? يقول : أكثر ناس فيها أي : جبابرتها ، ? فَفَسَقُواْ فِيهَا ? عملوا بمعصية الله ، ? فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيراً ? وكان يقال : إذا أراد الله بقوم صلاحًا بعث عليهم مصلحًا ، وإذا أراد فسادًا بعث عليهم مفسدًا ، وإذا أراد أن يهلكها أكثر مترفيها .
وقوله تعالى : ? وَكَمْ أَهْلَكْنَا مِنَ الْقُرُونِ مِن بَعْدِ نُوحٍ ? ، أي : كعاد وثمود وغيرهم ممن عصى الله وكذّب رسله ، ? وَكَفَى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرَاً بَصِيراً ? .
قوله عز وجل : ? مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً (18) وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً (19) كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) ? .
عن قتادة : قوله : ? مَّن كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاء لِمَن نُّرِيدُ ? ، يقول : من كان الدنيا همّه وطلبه ونيّته ، عجّل الله له فيها ما يشاء ثم اضطره إلى جهنم . قال: ? ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُوماً مَّدْحُوراً ? في نعمة الله ، ? مَّدْحُوراً ? في نقمة الله .(6/181)
? وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُوراً ? شكر الله لهم حسناتهم وتجاوز عن سيئاتهم ، ? كُلاًّ نُّمِدُّ هَؤُلاء وَهَؤُلاء مِنْ عَطَاء رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً ? ، أي : منقوصًا ، وإن الله عز وجل قسم الدنيا بين البر والفاجر ، والآخرة خصوصًا عند ربك للمتقين . وقال ابن جريج : ? وَمَا كَانَ عَطَاء رَبِّكَ مَحْظُوراً ? ، قال : ممنوعًا .
وقوله تعالى : ? انظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ ? ، أي : في الدنيا ? وَلَلآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجَاتٍ وَأَكْبَرُ تَفْضِيلاً ? . والله أعلم .
* * *
الدرس الثاني والخمسون بعد المائة(6/182)
? لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً (28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً (31) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً (32) وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً (33) وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ(6/183)
مَسْؤُولاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36) وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً (39) أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) ? .
* * *(6/184)
قوله عز وجل : ? لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً (22) وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً (23) وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً (24) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً (25) ? .
عن قتادة :قوله :? لاَّ تَجْعَل مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَّخْذُولاً ? يقول : ? مَذْمُوماً ? في نعمة الله ، وهذا الكلام وإن كان خرج على وجه الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - ، فهو معنيّ به جميع من لزمه من عباد الله جل وعزّ .(6/185)
وعن ابن عباس : ? وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ? ، يقول : أمر . وقال مجاهد : وأوصى ربك ? أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ ? ، حين ترى الأذى ، وتميط عنهما الخلاء والبول ، كما كانا يميطان عنك صغيرًا ولا تؤذهما . وعن عطاء بن أبي رباح في قوله : ? فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا ? قال : لا تنفض يدك على والديك ، ? وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً ? . قال ابن جريج : أحسن ما تجد من القول ، ? وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ ? . قال عروة بن الزبير : هو أن تلين لهما حتى لا تمتنع من شيء أحبّاه . وعن قتادة : ? وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيراً ? هكذا عُلّمتم وبهذا أُمرتم ، خذوا تعليم الله وأدبه .
وعن سعيد بن جبير : ? رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ ? . قال : البادرة تكون من الرجل إلى أبويه ، لا يريد بذلك إلا الخير فإنه لا يؤاخذ به ، فقال : ? رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَا فِي نُفُوسِكُمْ إِن تَكُونُواْ صَالِحِينَ فَإِنَّهُ كَانَ لِلأَوَّابِينَ غَفُوراً ? . وقال سعيد بن المسيب : الأوّاب الذي يذنب ثم يتوب ثم يذنب ثم يتوب . وقال سعيد بن جبير وغيره : هم الراجعون إلى الخير .(6/186)
قوله عز وجل : ? وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً (28) وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) ? .
عن ابن عباس : قوله :? وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ وَالْمِسْكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ ? قال : هو أن تصل ذا القربة والمسكين وتحسن إلى ابن السبيل ، ? وَلاَ تُبَذِّرْ تَبْذِيراً ? . قال : المبذّر المنفق في غير حق . وقال ابن زيد في قوله : ? إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ ? إن المنفقين في معاصي الله ، ? كَانُواْ إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً ? .
وعن إبراهيم : ? وَإِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغَاء رَحْمَةٍ مِّن رَّبِّكَ تَرْجُوهَا ? ، قال : انتظار الرزق ، ? فَقُل لَّهُمْ قَوْلاً مَّيْسُوراً ? ، قال : ليّنًا تعدهم .
وعن الحسن في قوله : ? وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ ? ، قال : لا تجعلها مغلولة عن النفقة ، ? وَلاَ تَبْسُطْهَا ? تبذّر بسرف ، ? فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً ? ، قال ابن عباس : ? فَتَقْعُدَ مَلُوماً ? ، يقول : يلوم نفسه على ما فات من ماله ، ? مَّحْسُوراً ? ، يعني : ذهب ماله كله فهو محسور . وقال قتادة : ? فَتَقْعُدَ مَلُوماً ? في عباد الله ، ? مَّحْسُوراً ? ، يقول : نادمًا على ما فرط منك .(6/187)
وقال ابن زيد : ثم أخبرنا تبارك وتعالى كيف يصنع فقال : ? إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ ? ، قال : يقدر : يقلّ ، وكل شيء في القرآن يقدر كذلك ، ثم أخبر عباده أنه لا يرزؤه ولا يؤوده أن لو بسط عليهم ، ولكن نظرًا لهم منه فقال : ? وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ ? .
قوله عز وجل : ? وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً (31) وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً (32) وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً (33) ? .
عن قتادة : قوله : ? وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ ? ، أي : خشية الفاقة ، وقد كان أهل الجاهلية يقتلون أولادهم خشية الفاقة ، فوعظهم الله في ذلك ، وأخبرهم أن رزقهم ورزق أولادهم على الله فقال : ? نَّحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَإِيَّاكُم إنَّ قَتْلَهُمْ كَانَ خِطْءاً كَبِيراً ? ، قال ابن جرير : إي : إثمًا وخطيئة .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَقْرَبُواْ الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً وَسَاء سَبِيلاً ? .
قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره وقضى أيضًا أن : ? لاَ تَقْرَبُواْ ? أيها الناس ? الزِّنَى إِنَّهُ كَانَ فَاحِشَةً ? ، يقول : إن الزنا كان فاحشة ، ? وَسَاء سَبِيلاً ? ، يقول : وساء طريق الزنا طريقًا ، لأنه طريق أهل معصية الله والمخالفين أمره ، فأسوئ به طريقًا يورد صاحبه جهنم .(6/188)
وعن قتادة : قوله : ? وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالحَقِّ ? ، وإنا والله ما نعلم يحلّ دم امرئ مسلم إلا بإحدى ثلاث : إلا رجلاً قَتَلَ متعمّدًا فعليه القود ، أو زنى بعد إحصانه فعليه الرجم ، أو كفر بعد إسلامه فعليه القتل . ? وَمَن قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنَا لِوَلِيِّهِ سُلْطَاناً ? . قال ابن عباس : بيّنة من الله عز وجل أنزلها يطلبها وليّ المقتول : العقل والقود ، وذلك السلطان .
وعن قتادة : ? فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ? ، قال : لا يقتل غير قاتله ، من قتل بحديدة قتل بحديدة ، ومن قتل بخشبة قتل بخشبة ، ومن قتل بحجر قتل بحجر . وعن طلق بن حبيب في قوله : ? فَلاَ يُسْرِف فِّي الْقَتْلِ ? ، قال : لا يقتل غير قاتله ولا يمثّل .
قال ابن كثير : وقوله : ? إِنَّهُ كَانَ مَنْصُوراً ? ، أي : أن الوليّ منصور على القاتل شرعًا وغالبًا وقديرًا .
قوله عز وجل : ? وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً (34) وَأَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35) وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً (36) وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً (37) كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً (39) ? .(6/189)
قال الضحاك في قوله : ? وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? يبتغي له فيه ولا يأخذ من ربحه شيئًا . وعن الحسن : ? وَزِنُواْ بِالقِسْطَاسِ الْمُسْتَقِيمِ ? ، قال : القَبَّان . قال في القاموس : القبان كشدّاد ، القسطاس والأمين ، وقال أيضًا : وقفان كل شيء جماعته واستقصاء عمله ، والقَبَّان والأمين .
وقوله تعالى : ? ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً ? ، قال قتادة : أي : خير ثوابًا وعاقبة . وأخبرنا أن ابن عباس كان يقول : يا معشر الموالي إنكم ولّيتم أمرين بهما هلك الناس قبلكم : هذا المكيال ، وهذا الميزان . قال : وذكرنا لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : « لا يقدر رجل على حرام ثم يدعه ، ليس به إلا مخافة الله ، إلا أبدله في عاجل الدنيا قبل الآخرة ما هو خير له من ذلك ». وعن قتادة : ? وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ? لا تقل : رأيت ولم تر ، وسمعت ولم تسمع ، فإن الله تبارك وتعالى سائلك عن ذلك كله . وقال مجاهد : لا ترم أحدًا بما ليس لك به علم . قال القتيبي : لا تتبعه بالحدس والظن .
وقوله تعالى : ? وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحاً ? ، أي : بطرًا وكبرًا ، فإن ذلك لا يلغ بك الجبال ولا تخرق الأرض بكبرك وفخرك .
وقوله تعالى : ? كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيٍّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ? .
قال البغوي : ومعناه كل الذي ذكرناه في قوله : ? وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ ? ? كَانَ سَيٍّئُهُ ? ، أي : سيّئ ما عددنا عليك ، ? عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً ? لأن فيما عددنا أمورًا حسنة ، كقوله : ? وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ ? ? وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ ? ، وغير ذلك .(6/190)
وقال ابن زيد في قوله : ? ذَلِكَ مِمَّا أَوْحَى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ ? ، قال : القرآن .
قال البغوي : وكل ما أمر الله به أو نهى عنه فهو حكمة . ? وَلاَ تَجْعَلْ مَعَ اللّهِ إِلَهاً آخَرَ فَتُلْقَى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَّدْحُوراً ? . قال ابن عباس : مطرودًا . وقال قتادة : ? مَلُوماً ? في عبادة الله ، ? مَّدْحُوراً ? في النار .
قال البغوي : خاطب النبي - صلى الله عليه وسلم - في هذه الآيات ، والمراد منه الأمة .
قوله عز وجل : ? أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُواْ وَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41) قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً (44) ? .(6/191)
قال البغوي : قوله عز وجل : ? أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم ? ، أي : اختاركم فجعل لكم الصفوة ولنفسه ما ليس بصفوة ، يعني : اختاركم بالبنين ? وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً ? لأنهم كانوا يقولون : الملائكة بنات الله ? إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً ? يخطب مشركي مكة . ? وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ ? ، يعني : العبر والحكم والأمثال ، والأحكام والحجج والأعلام ? لِيَذَّكَّرُواْ ? ، أي : ليتذكّروا ويتّعظوا ? وَمَا يَزِيدُهُمْ ? تصريفًا وتذكيرنا وتكريرنا ، ? إِلاَّ نُفُوراً ? ذهاباً وتباعدًا عن الحق . ? قُل لَّوْ كَانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَمَا يَقُولُونَ إِذاً لاَّبْتَغَوْاْ ? يعني : الآلهة ،? إِلَى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً ? بالمغالبة والقهر ليزيلوا ملكه كفعل ملوك الدنيا بعضهم ببعض .
ثم نزّه نفسه فقال عز من قائل : ? سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوّاً كَبِيراً * تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ ? .
قال ابن كثير : وهذا عام في الحيوانات والجمادات والنباتات . وعن عبد الله بن عمرو قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « إن نوحًا عليه السلام لما حضرته الوفاة دعا ابنته فقال : إني قاصّ عليكما الوصية : آمركما باثنتين وأنهاكما عن اثنتين : أنهاكما عن الشرك بالله والكبر ، وآمركما : ( بلا إله إلا الله ) ، فإن السماوات والأرض وما فيهما لو وضعت في كفة الميزان ووضعت ( لا إله إلا الله ) في الكفة الأخرى ، كانت أرجح ، ولو أن السماوات والأرض كانتا حلقة فوضعت ( لا إله الا الله ) عليهما لقصمتهما أو لفصمتهما ، وآمركما : بسبحان الله وبحمده فإنهما صلاة كل شيء وبها يرزق كل شيء » . رواه أحمد .(6/192)
وقوله تعالى : ? إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً غَفُوراً ? . قال قتادة : ? إِنَّهُ كَانَ حَلِيماً ? عن خلقه فلا يعجل كعجلة بعضهم على بعض ، ? غَفُوراً ? لهم إذا تابوا . وبالله التوفيق .
* * *
الدرس الثالث والخمسون بعد المائة
? وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً (47) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً (48) وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً (53) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ(6/193)
وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57) وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (58) وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً (60) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً (45) وَجَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْراً وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً (46) نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً (47) انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً (48) ? .(6/194)
عن قتادة : قوله : ? وَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرآنَ جَعَلْنَا بَيْنَكَ وَبَيْنَ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ حِجَاباً مَّسْتُوراً ? الحجاب المستور أكنّة على قلوبهم أن يفقهوه ، وأن ينتفعوا به ، أطاعوا الشيطان فاستحوذ عليهم . ? وَإِذَا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْاْ عَلَى أَدْبَارِهِمْ نُفُوراً ? وأن المسلمين لمّا قالوا : لا إله إلا الله أنكر ذلك المشركون وضاق بها إبليس وجنوده ، فأبى الله إلا أن يُمْضِيَها ، وينصرها ، ويفلجها ، ويظهرها على من ناوأها ، إنها كلمةٌ من خاصم بها فلج ، ومن قاتل بها نصر ، إنما يعرفها أهل هذه الجزيرة من المسلمين التي يقطعها الراكب في ليال قلائل ، ويسير الدهر في فئام من الناس لا يعرفونها ولا يقرّون بها .
وقوله تعالى : ? نَّحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَإِذْ هُمْ نَجْوَى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِن تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَّسْحُوراً ? ، قال قتادة : ونجواهم أن زعموا أنه مجنون ، وأنه ساحر ، وقالوا : أساطير الأولين . وعن مجاهد : ? انظُرْ كَيْفَ ضَرَبُواْ لَكَ الأَمْثَالَ فَضَلُّواْ فَلاَ يَسْتَطِيعْونَ سَبِيلاً ? مخرجًا ، الوليد بن المغيرة وأصحابه .
قوله عز وجل : ? وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52) ? .(6/195)
وعن مجاهد : ? قُل كُونُواْ حِجَارَةً أَوْ حَدِيداً * أَوْ خَلْقاً مِّمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ ? ، قال : ما شئتم فكونوا فسيعيدكم الله ما كنتم .
وعن قتادة : ? فَسَيَقُولُونَ مَن يُعِيدُنَا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ? أي : خلقكم ? فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُوسَهُمْ ? ، يقول : فإنك إذا قلت لهم ذلك سيهزّون إليك رؤسهم برفع وخفض . وقال ابن عباس : يحرّكون رؤوسهم يستهزئون ? وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيباً * يَوْمَ يَدْعُوكُمْ ? من قبوركم ? فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ ? ، قال ابن عباس : بأمره .
وقال ابن كثير : أي : وله الحمد على كل حال . وعن قتادة : ? وَتَظُنُّونَ إِن لَّبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً ? أي : في الدنيا في أنفسهم ، وقلت : حين عاينوا يوم القيامة .
قوله عز وجل : ? وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً (53) رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54) وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُوراً (55) ? .(6/196)
عن الحسن في هذه الآية : ? وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? ، قال : ? الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ? لا يقول له مثل قوله ، يقول له : يرحمك الله يغفر الله لك . ? إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوّاً مُّبِيناً ? . في الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا يشيرنّ أحدكم إلى أخيه بالسلاح ، فإنه لا يدري أحدكم لعلّ الشيطان أن ينزع في يده ، فيقع في حفرة من النار » . وعن ابن جريج قوله : ? رَّبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِن يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ ? ، قال : فتؤمنوا ، ? أَوْ إِن يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ ? فتموتوا على الشرك كما أنتم . انتهى . وقد قال تعالى : ? إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاءُ ? . وعن قتادة : قوله : ? وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ ? اتخذ الله إبراهيم خليلاً ، وكلّم الله موسى تكليمًا ، وجعل الله عيسى كمثل آدم ، خلقه من تراب ، ثم قال له : كن فيكون ، وهو عبد الله ورسوله وكلمة الله وروحه ، وآتى سليمان ملكًا لا ينبغي لأحد من بعده ، وآتى داود زبورًا ، كنا نحدّث دعاء عُلّمه داود : تحميد وتمجيد ليس فيه حلال ولا حرام ولا فرائض ولا حدود ، وغفر لمحمد ما تقدّم من ذنبه وما تأخر .
قوله عز وجل : ? قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً (56) أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخَافُونَ عَذَابَهُ إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَ مَحْذُوراً (57) ? .(6/197)
عن ابن عباس : قوله : ? قُلِ ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ فَلاَ يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنكُمْ وَلاَ تَحْوِيلاً ? ، قال : كان أهل الشرك يقولون : نعبد الملائكة وعزيرًا ، وهم ? الَّذِينَ يَدْعُونَ ? يعني : الملائكة والمسيح وعزيرًا ، ? أُولَئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ? ، قال مجاهد : عيسى ابن مريم ، وعزير ، والملائكة . وقال ابن عباس : ? الْوَسِيلَةَ ? القربة . وقال قتادة : القربة ، والزلفى . قال الزجاج : ? أَيُّهُمْ أَقْرَبُ ? يبتغي الوسيلة إلى الله تعالى ويتقرّب إليه بالعمل الصالح . قال ابن مسعود : ( نزلت في نفر من العرب كانوا يعبدون نفرًا من الجن ، فأسلم الجنّيّون ، والإنس الذين كانوا يعبدونهم لا يشعرون بإسلامهم ) .
وقال ابن كثير : يقول تعالى : ? قُلِ ? يا محمد لهؤلاء المشركين الذين عبدوا غير الله ، ? ادْعُواْ الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِهِ ? من الأصنام والأنداد ، فارغبوا إليهم فإنهم لا يملكون كشف الضر عنكم ، أي : بالكلية ، ? وَلاَ تَحْوِيلاً ? بأن يحوّلوه إلى غيركم ، والمعنى : أن الذي يقدر على ذلك هو الله وحده لا شريك له ، الذي له الخلق والأمر .
وقال ابن جرير : يقول تعالى ذكره : هؤلاء الذين يدعوهم هؤلاء المشركون أربابًا ? يَبْتَغُونَ إِلَى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ ? ، يقول : يبتغي المدّعون أربابًا إلى ربهم القربى والزلفى . لأنهم أهل إيمان به ، والمشركون بالله يعبدونهم من دون الله ، أيّهم أقرب إليه بصالح أعماله واجتهاده في عبادته أقرب عنده زلفة ? وَيَرْجُونَ ? بأفعالهم تلك ? رَحْمَتَهُ ? ، ? وَيَخَافُونَ ? بخلافهم أمره ? عَذَابَهُ ? ، ? إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ ? يا محمد ? كَانَ مَحْذُوراً? متّقى .(6/198)
قوله عز وجل : ? وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوهَا عَذَاباً شَدِيداً كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً (58) وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُواْ بِهَا وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59) وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً (60) ? .
عن مجاهد في قول الله عز وجل : ? وَإِن مَّن قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوهَا قَبْلَ يَوْمِ الْقِيَامَةِ ? فمبيدوها ، ? أَوْ مُعَذِّبُوهَا ? بالقتل والبلاء ، قال : كل قرية في الأرض سيصيبها بعض هذا .
وقال ابن زيد في قوله : ? كَانَ ذَلِك فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً ? ، قال : في أم الكتاب .
قال ابن كثير : في اللوح المحفوظ . قال : وإنما يكون ذلك بسبب ذنوبهم وخطاياهم ، كما قال تعالى : عن الأمم الماضين : ? وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ ? . وعن ابن عباس قال : ( سأل أهل مكة النبي - صلى الله عليه وسلم - أن يجعل لهم الصفا ذهبًا ، وأن ينحّي عنهم الجبال فيزرعوا فقيل له : إن شئت أن نستأني بهم لعلنا نجتبي منهم ، وإن شئت أن نؤتيهم الذي سألوه فإن كفروا أهلكوا كما أهلك من قبلهم ، فقال : « بل تستأني بهم » ، فأنزل الله : ? وَمَا مَنَعَنَا أَن نُّرْسِلَ بِالآيَاتِ إِلاَّ أَن كَذَّبَ بِهَا الأَوَّلُونَ وَآتَيْنَا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً ? ، قال قتادة : أي : بيّنة ? فَظَلَمُواْ بِهَا ? .
قال ابن جرير : وذلك أنهم قتلوها وعقروها .(6/199)
وعن قتادة : قوله : ? وَمَا نُرْسِلُ بِالآيَاتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً ? وإن الله تخوف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون أو يذكرون أو يرجعون . ذكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود فقال : يا أيها الناس إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه .
وقوله تعالى : ? وَإِذْ قُلْنَا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحَاطَ بِالنَّاسِ ? ، قال مجاهد : فهم في قبضته . وقال قتادة : أي : منعك من الناس حتى تبلغ رسالة ربك .
وعن ابن عباس : ? وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ ? قال : هي رؤيا أُريها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليلة أُسري به ، ? وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ ? شجرة الزقوم . وعن الحسن في قوله : ? وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِّلنَّاسِ ? ، قال : قال كفار أهل مكة : أليس من كَذِبِ ابن أبي كبشة أنه يزعم أنه سار مسيرة شهرين في ليلة ؟ وعن قتادة : قوله : ? وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي القُرْآنِ وَنُخَوِّفُهُمْ فَمَا يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْيَاناً كَبِيراً ? وهي : شجرة الزقوم خوّف الله بها عباده ، فافتتنوا بذلك حتى قال قائلهم ، أبو جهل بن هشام : زعم صاحبكم هذا أن في النار شجرة ، والنار تأكل الشجرة ، وإنا والله ما نعلم الزقوم إلا التمر والزبد فتزقّموا ، فأنزل الله تبارك وتعالى حين عجبوا أن يكون في النار شجرة : ? إِنَّهَا شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ * طَلْعُهَا كَأَنَّهُ رُؤُوسُ الشَّيَاطِينِ ? ، إني خلقتها من النار ، وعَذّبت بها من شئت من عبادي . وبالله التوفيق .
* * *
الدرس الرابع والخمسون بعد المائة(6/200)
? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي(6/201)
الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75) وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً (79) وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً (80) وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً (82) وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ(6/202)
إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلآئِكَةِ اسْجُدُواْ لآدَمَ فَسَجَدُواْ إَلاَّ إِبْلِيسَ قَالَ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قَالَ أَرَأَيْتَكَ هَذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً (62) قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً (63) وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ وَعِدْهُمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65) ? .
عن مجاهد في قول الله تعالى : ? لأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إَلاَّ قَلِيلاً ? ، قال : لأحتوينّهم ? قَالَ اذْهَبْ فَمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزَآؤُكُمْ جَزَاء مَّوْفُوراً ? ، قال : وافرًا . وقال قتادة : عذاب جهنم جزاؤهم ، ونقمة من الله من أعدائه فلا يعدل عنهم من عذابها شيء .
وعن مجاهد : ? وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ ? ، قال : باللهو والغناء . وقال ابن عباس : صوته كل داع دعا إلى معصية الله . ? وَأَجْلِبْ عَلَيْهِم بِخَيْلِكَ وَرَجِلِكَ? ، قال : خيله : كل راكب في معصية الله ، ورَجِله كل راجل في معصية الله . وقال قتادة : إن له خيلاً ورَجِلاً من الجن والإنس ، وهم الذين يطيعونه .
وقال ابن جرير :? وَاسْتَفْزِزْ ? واستخفّ واستهجل ، والجلبة الصوت .(6/203)
وعن قتادة في قوله : ? وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ وَالأَوْلادِ ? ، قال : قد والله شاركهم في أموالهم ، وأعطاهم الله أموالاً فأنفقوها في طاعة الشيطان ، في غير حق الله تبارك اسمه . وقال الحسن : ? وَشَارِكْهُمْ فِي الأَمْوَالِ ? : أمرهم أن يكسبوها من خبيث وينفقوها في حرام . وقال ابن عباس : مشاركته إياهم في الأولاد : سمّوا عبد الحارث ، وعبد شمس ، وعبد فلان . وقال الحسن : قد والله شاركهم في أموالهم وأولادهم ، فمجّسوا ، وهوّدوا ، ونصّروا وصبغوا ، غير صبغة الإسلام ، وجزّؤوا من أموالهم جزءًا للشيطان .
وقال ابن جرير : كل ولد ولدته أنثى عصى الله في تسميته ما يكرهه الله ، أو بإدخاله في غير الدين الذي ارتضاه الله ، أو بالزنا بأمه ، أو وأده أو غير ذلك من الأمور التي يعصي الله بفعله به أو فيه ، فقد دخل في مشاركة إبليس فيه .
وعن قتادة : قوله : ? إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ وَكَفَى بِرَبِّكَ وَكِيلاً ? وعباده المؤمنون ؛ وقال الله في آية أخرى : ? إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُم بِهِ مُشْرِكُونَ ? وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لو أن أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال : بسم الله ، اللهم جنبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا ، فإنه إن يقدر بينهما ولد في ذلك لم يضره الشيطان أبدًا » .(6/204)
قوله عز وجل : ? رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ إِنَّهُ كَانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً (67) أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً (69) وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً (72) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? رَّبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُواْ مِن فَضْلِهِ ? ، يقول : يُجري الفلك .
وقوله تعالى : ? وَإِذَا مَسَّكُمُ الْضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَن تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ ?.
قال البغوي : أي : بطل وسقط من تدعون من الآلهة ? إِلاَّ إِيَّاهُ ? فلم تجدوا معينًا سواه ، ? فَلَمَّا نَجَّاكُمْ ? ، أجاب دعاءكم وأنجاكم من هول البحر ، وأخرجكم ? إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ ?، عن الإيمان والإخلاص والطاعة ، كفرًا منكم لنعمه ، ? وَكَانَ الإِنْسَانُ كَفُوراً ? .(6/205)
وعن قتادة : قوله : ? أَفَأَمِنتُمْ أَن يَخْسِفَ بِكُمْ جَانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حَاصِباً ? يقول : حجارة من السماء ? ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ وَكِيلاً ? أي : منعة ، ولا ناصرًا . ? أَمْ أَمِنتُمْ أَن يُعِيدَكُمْ فِيهِ تَارَةً أُخْرَى ? أي : في البحر مرة أخرى ، ? فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قَاصِفا مِّنَ الرِّيحِ ? ، وهي التي تقصف ما مرت به فتحطّمه ، ? فَيُغْرِقَكُم بِمَا كَفَرْتُمْ ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً ? ، يقول : لا يتبعنا أحد بشيء من ذلك . وعن مجاهد : ? ثُمَّ لاَ تَجِدُواْ لَكُمْ عَلَيْنَا بِهِ تَبِيعاً ? ، قال : نصيرًا ثائرًا .
وقوله تعالى : ? وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ ? ، أي : بالعقل وحسن الصورة ? وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ ? ، في المآكل والملابس والمشارب ? وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً ? ، قال ابن جريج : وفضلناهم في اليدين ، يأكل بهما ويعمل بهما ، وما سوى الإنس يأكل بغير ذلك .
وقوله تعالى : ? يَوْمَ نَدْعُو كُلَّ أُنَاسٍ بِإِمَامِهِمْ ? ، قال مجاهد : نبيّهم . قال بعض السلف : هذا أكبر شرف لأصحاب الحديث ، لأن إمامهم النبي - صلى الله عليه وسلم - .
وقوله تعالى : ? فَمَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُوْلَئِكَ يَقْرَؤُونَ كِتَابَهُمْ وَلاَ يُظْلَمُونَ فَتِيلاً ? . قال قتادة : الذي في شقّ النواة .(6/206)
وقوله تعالى : ? وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى فَهُوَ فِي الآخِرَةِ أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ? ، قال قتادة : ? وَمَن كَانَ فِي هَذِهِ أَعْمَى ? ، في الدنيا في ما أراه الله من آياته ، من خلق السماوات والأرض والجبال والنجوم ، ? فَهُوَ فِي الآخِرَةِ ? ، الغائبة التي لم يرها ، ? أَعْمَى وَأَضَلُّ سَبِيلاً ? ، وقال بعض السلف : من كان في هذه الدنيا أعمى عن الاعتبار ، فهو في الآخرة أعمى عن الاعتذار .
قوله عز وجل : ? وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاَّتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَلَوْلاَ أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً (75) ? .
قال قتادة : أطافوا به ليلة فقالوا : أنت سيدنا وابن سيدنا ، فأرادوه على بعض ما يريدون ، فَهَمّ أن يقارفهم في بعض ما يريدون ، ثم عصمه الله ، فذلك قوله : ? لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ ? . وقال مجاهد : قالوا له : ائت آلهتنا فامسسها .
وعن ابن عباس : قوله : ? إِذاً لَّأَذَقْنَاكَ ضِعْفَ الْحَيَاةِ وَضِعْفَ الْمَمَاتِ ? يعني : ضعف عذاب الدنيا والآخرة .(6/207)
قوله عز وجل : ? وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَن قَدْ أَرْسَلْنَا قَبْلَكَ مِن رُّسُلِنَا وَلاَ تَجِدُ لِسُنَّتِنَا تَحْوِيلاً (77) أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً (78) وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً (79) وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً (80) وَقُلْ جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً (81) وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً (82) ? .
عن قتادة : قوله : ? وَإِن كَادُواْ لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الأَرْضِ لِيُخْرِجوكَ مِنْهَا وَإِذاً لاَّ يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً ? ، وقد همّ أهل مكة بإخراج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة ، ولو فعلوا ذلك لما توطّنوا ، ولكن الله كفّهم عن إخراجه حتى أمره ، ولقلّما مع ذلك لبثوا بعد خروج النبي - صلى الله عليه وسلم - من مكة حتى بعث الله عليهم القتل يوم البدر .(6/208)
وقوله تعالى : ? أَقِمِ الصَّلاَةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلَى غَسَقِ اللَّيْلِ وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ? ، قال ابن عباس : دلوك الشمس : زيغها بعد نصف النهار ، يعني : الظل ، وغسق الليل : بدو الليل ، ? وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ? ، قال ابن عباس : دلوك الشمس : زيغها بعد نصف النهار ، يعني : الظل ، وغسق الليل : بدو الليل . ? وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ? ، يعني : صلاة الصبح .
قال البغوي : ( فدلوك الشمس يتناول صلاة الظهر والعصر ، و ? غَسَقِ اللَّيْلِ ? ، يتناول المغرب والعشاء ، و ? وَقُرْآنَ الْفَجْرِ ? هو صلاة الصبح ) . انتهى . وعن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : « فضل صلاة الجميع على صلاة الواحد خمس وعشرون درجة ، وتجتمع ملائكة الليل وملائكة النهار في صلاة الفجر » . يقول أبي هريرة : اقرؤوا إن شئتم : ? وَقُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُوداً ? .
وعن ابن عباس : قوله : ? وَمِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نَافِلَةً لَّكَ ? يعني بالنافلة : أنها للنبي - صلى الله عليه وسلم - خاصة ، أمر بقيام الليل ، وكتب عليه : ? عَسَى أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَاماً مَّحْمُوداً ? ، قال : المقام المحمود مقام الشفاعة .
وقال ابن جرير : قال أكثر أهل التأويل : ذلك هو المقام الذي يقوم محمد - صلى الله عليه وسلم - يوم القيامة للشفاعة للناس ، ليريحهم ربهم من عظيم ما هم فيه من شدة ذلك اليوم .(6/209)
وعن ابن عباس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - بمكة ، ثم أمر بالهجرة ، فأنزل الله تبارك وتعالى اسمه : ? وَقُل رَّبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَأَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَاجْعَل لِّي مِن لَّدُنكَ سُلْطَاناً نَّصِيراً ? . قال قتادة : وإن نبي الله علم أن لا طاقة له بهذا الأمر إلا بسلطان ، فسأل سلطانًا نصيرًا ، لكتاب الله عز وجل ، ولحدود ، ولفرائض الله ، ولإقامة دين الله ، وإن السلطان رحمة من الله جعلها بيد عباده ، لولا ذلك لأغار بعضهم على بعض ، فأكل شديدهم ضعيفهم ? وَقُلْ جَاء الْحَقُّ ? ، قال : القرآن ، ? وَزَهَقَ الْبَاطِلُ ? ، قال : الشيطان ? إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ? وعن ابن مسعود قال : ( دخل رسول الله مكة وحول البيت ثلاثمائة وستون صنمًا فجعل يطعنها ويقول : « ? جَاء الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً ? » . متفق عليه .
وعن قتادة : قوله : ? وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاء وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ ? إذا سمعه المؤمن انتفع به وحفظه ووعاه ، ? وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً ? ، إنه لا ينتفع به ولا يحفظه ولا يعيه ، وإن الله جعل هذا القرآن شفاء ورحمة للمؤمنين .(6/210)
قوله عز وجل : ? وَإِذَا أَنْعَمْنَا عَلَى الإِنسَانِ أَعْرَضَ وَنَأَى بِجَانِبِهِ وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً (84) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85) وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87) قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) ? .
عن مجاهد : قوله : ? وَنَأَى بِجَانِبِهِ ? ، قال : تباعد منا ، ? وَإِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ كَانَ يَؤُوساً ? قال قتادة : يقول : إذا مسّه الشر يئس وقنط . ? قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ ? ، يقول : على ناحيته ونيّته . وقال ابن زيد : على دينه .
قال ابن كثير : وكل هذه الأقوال متقاربة في المعنى .
? فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى سَبِيلاً ? منا ومنكم ، وسيجزي كل عامل بعمله . وعن ابن عباس قال : قالت قريش ليهود : أعطونا شيئًا نسأل عنه هذا الرجل فقالوا : سلوه عن الروح ، فنزلت : ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ? ، قالوا : أوتينا علمًا كثيرًا ، أوتينا التوراة ، ومن أوتي التوراة فقد أوتي خيرًا كثيرًا ، قال : وأنزل الله : ? قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَاداً لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَداً ? . رواه أحمد .(6/211)
وفي الصحيحين عن ابن مسعود قال : ( بينا أنا أمشي مع النبي - صلى الله عليه وسلم - في حرث بالمدينة وهو متوكّئ على عسيب ، إذ مرّ اليهود فقال بعضهم لبعض : سلوه عن الروح ، فسألوه فأمسك النبي - صلى الله عليه وسلم - فلم يردّ عليهم شيئًا ، فعلمت أنه يوحى إليه فقمت مقامي ، فلما نزل الوحي قال : ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي ? الآية ) .
قال ابن كثير : وهذا البيان يقتضي فيما يظهر بادي الرأي أن هذه الآية مدنية ، وأنها نزلت حين سأله اليهود عن ذلك بالمدينة مع أن السورة كلها مكية . وقد يجاب عن هذا بأنه : قد تكون نزلت عليه بالمدينة مرة ثانية كما نزلت عليه بمكة قبل ذلك ، أو أنه نزل عليه الوحي بأنه يجيبهم عما سألوه بالآية المتقدم إنزالها عليه ، وهي هذه الآية .
وعن ابن عباس في قوله : ? وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ ? الآية ، وذلك ( أن اليهود قالوا للنبي - صلى الله عليه وسلم - أخبرنا عن الروح ، وكيف تعذّب الروح التي في الجسد ؟ وإنما الروح من الله ؛ ولم يكن نزل عليه شيء فلم يُحِرْ إليهم شيئًا ، فأتاه جبريل فقال له : ? قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً ? ، فأخبرهم النبي - صلى الله عليه وسلم - بذلك فقالوا : من جاءك بهذا ؟ قال : « جاءني به جبريل من عند الله » . فقالوا : والله ما قاله لك إلا عدوّنا ، فأنزل الله : ? قُلْ مَن كَانَ عَدُوّاً لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللّهِ مُصَدِّقاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ? .(6/212)
وقوله تعالى : ? وَلَئِن شِئْنَا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ ثُمَّ لاَ تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنَا وَكِيلاً * إِلاَّ رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً ? ، قال ابن مسعود : ( اقرأوا القرآن قبل أن يرفع ، فإنه لا تقوم الساعة حتى يرفع ، يسري عليه ليلاً فيرفع ما في صدورهم فيصبحون لا يحفظون شيئًا ، ولا يجدون في المصاحف شيئًا ، ثم يفيضون في الشعر ) . وعن عبد الله بن عمرو قال : ( لا تقوم الساعة حتى يرجع القرآن من حيث نزل ، له دويّ حول العرش كدويّ النحل ، فيقول الرب : مالك ؟ وهو أعلم فيقول : يا رب أُتْلَى ولا يُعْمَلُ بي ) .
وعن ابن جريج قوله : ? لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ ? إلى قوله : ? وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً ? ، قال : معينًا . قال يقول : لو برزت الجن وأعانهم الإنس فتظاهروا ، لم يأتوا بمثل هذا القرآن .
قال البغوي : نزلت حين قال الكفار : ? لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا ? فكذّبهم الله تعالى : فالقرآن معجز في النظم والتأليف والإخبار عن الغيوب ، وهو كلام في أعلى طبقات البلاغة لا يشبه كلام الخلق .
قال ابن كثير : وكيف يشبه كلام المخلوقين كلام الخالق الذي لا نظير له ولا مثيل له ولا عديل له . والله أعلم .
* * *
الدرس الخامس والخمسون بعد المائة(6/213)
قوله عز وجل ? وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً (93) وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً (94) قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً (95) قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً (97) ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً (99) قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ(6/214)
رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً (100) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً (102) فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً (104) وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106) قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) ? .
* * *(6/215)
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89) وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِّن نَّخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الأَنْهَارَ خِلالَهَا تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاء كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَى فِي السَّمَاء وَلَن نُّؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَاباً نَّقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً (93) ? .
قال البغوي : قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ ? ، من كل وجه من العبر والأحكام والوعد والوعيد وغيرها .
? فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً ? .
قال ابن كثير : أي : جحودًا للحق وردًا للصواب .
وقوله تعالى : ? وَقَالُواْ ? ، أي : مشركو قريش ، ? لَن نُّؤْمِنَ لَكَ ? لن نصدّقك ، ? حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً ? ، قال قتادة : عيونًا .
وقوله : ? كِسَفاً ? ، قال : قطعًا . ? أَوْ تَأْتِيَ بِاللّهِ وَالْمَلآئِكَةِ قَبِيلاً ? نعاميهم معاينة .(6/216)
وعن ابن عباس : ? أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِّن زُخْرُفٍ ? ، يقول : من ذهب ، وعنه : أن عتبة وشيبة ابني ربيعة ، وأبا سفيان بن حرب ، والنضر بن الحارث ، وأبا البختري بن هشام ، والأسود بن عبد المطلب ، وزمعة بن الأسود ، والوليد بن المغيرة ، وأبا جهل بن هشام ، وعبد الله بن أبي أمية ، وأمية بن خلف ، والعاص بن وائل ، ونبيهًا ومنبّهًا ابني الحجّاج اجتمعوا ، ومن اجتمع معهم بعد غروب الشمس عند ظهر الكعبة ، فقال بعضهم لبعض : ابعثوا إلى محمد فكلّموه وخاصموه حتى تعذروا فيه ، فبعثوا إليه : إن أشراف قومك قد اجتمعوا إليك ليكلموك ، فجاءهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - سريعًا وهو يظنّ أنه بدا لهم في أمره بدء ، وكان عليهم حريصًا يحبّ رشدهم ، حتى جلس إليهم فقالوا : يا محمد إنا بعثنا إليك لنعذر فيك ، وإنا والله لا نعلم رجلاً من العرب أدخل على قومه ما أدخلت على قومك ، لقد شتمت الآباء ، وعبت الدين ، وسفّهت الأحلام ، وشتمت الآلهة ، وفرّقت الجماعة فما بقي أمر قبيح إلا وقد جئته فيما بينك وبيننا ، فإن كنت جئت بهذا الحديث تطلب به مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاً ، وإن كنت تطلب الشرف فينا سوّدناك علينا ، وإن كنت تريد ملكًا ملّكناك علينا ، وإن كان هذا الأمر الذي بك رئي تراه حتى قد غلب عليك لا تستطيع ردّه ، بذلنا لك أموالنا في طلب الطب حتى نبرئك منه أو نعذر فيك ، وكانوا يسمّون التابع من الجن الرئي ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما بي ما تقولون ، ما جئتكم بما جئتكم به أطلب أموالكم ، ولا الشرف عليكم ، ولا الملك عليكم ، ولكن الله بعثني إليكم رسولاً ، وأنزل عليّ كتابًا ، وأمرني أن أكون لكم بشيرًا ونذيرًا ، فبلّغتكم رسالة ربي ، ونصحت لكم ، فإن تقبلوه مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردّوه عليّ أصبر لأمر الله حتى يحكم الله بيني وبينكم » ، فقالوا : يا محمد ، إن كنت غير قابل منا(6/217)
ما عرضنا عليك ، فقد علمت أنه ليس أحد أضيق منا بلادًا ولا أشدّ منا عيشًا ، فسل لنا ربك الذي بعثك فليسيّر عنا هذه الجبال التي قد ضيّقت علينا ويبسط لنا بلادنا ، ويفجر فيها أنهارًا كأنهار الشام والعراق ، وليبعث لنا من مضى من آبائنا ، وليكن منهم قصيّ بن كلاب فإنه كان شيخًا صدوقًا ، فنسألهم عما تقول أحقّ هو أم باطل ؟ فإن صدّقوك صدّقناك ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما بهذا بعثت فقد بلّغتكم ما أرسلت به فإن تقبلوه مني فهو حظكم في الدنيا والآخرة ، وإن تردّوه علي أصبر لأمر الله » . قالوا : فإن لم تفعل هذا ، فسل ربك أن يبعث لنا مَلَكًا يصدّقك ، وسله أن يجعل لك جنانًا وقصورًا وكنوزًا من ذهب وفضة يغنيك بها عما نراك تبتغي ، فإنك تقوم بالأسواق وتلتمس المعاش كما نلتمسه . فقال : « ما بعثت بهذا ، ولكن الله بعثني بشيرًا ونذيرًا » . قالوا : فأسقط السماء كما زعمت أن ربك لو شاء فعل ، فقال : « ذلك إلى الله إن شاء فعل بكم » ، وقال قائل منهم : لن نؤمن لك حتى تأتي بالله والملائكة قبيلاً . فلما قالوا ذلك قام رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ، وقام معه عبد الله بن أبي أمية وهو ابن عمته عاتكة بنت عبد المطلب فقال : يا محمد عرض عليك قومك ما عرضوا فلم تقبله منهم ، ثم سألوك أمورًا ، يعرفون بها منزلتك من الله فلم تفعل ، ثم سألوك أن تجعل لهما ما تخوّفهم به من العذاب فلم تفعل ، فوالله لا أؤمن لك أبدًا حتى تتخذ إلى السماء سلمًا ترقى فيه وأنا أنظر حتى تأتيها وتأتي بنسخة منشورة معك ونفر من الملائكة يشهدون لك بما تقول ، وأيم الله لو فعلت ذلك لظننت أن لا أصدّقك . فانصرف رسول الله - صلى الله عليه وسلم - إلى أهله حزينًا لِمَا رأى فأنزل الله عز وجل : ? وَقَالُواْ لَن نُّؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الأَرْضِ يَنبُوعاً ? الآيات .(6/218)
وقوله تعالى : ? قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنتُ إَلاَّ بَشَراً رَّسُولاً ? ، أي : وليس ما سألتم في طوق البشر .
قوله عز وجل : ? وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَن يُؤْمِنُواْ إِذْ جَاءهُمُ الْهُدَى إِلاَّ أَن قَالُواْ أَبَعَثَ اللّهُ بَشَراً رَّسُولاً (94) قُل لَّوْ كَانَ فِي الأَرْضِ مَلآئِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِم مِّنَ السَّمَاءِ مَلَكاً رَّسُولاً (95) قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ إِنَّهُ كَانَ بِعِبَادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَمَن يَهْدِ اللّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَمَن يُضْلِلْ فَلَن تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِيَاء مِن دُونِهِ وَنَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَبُكْماً وَصُمّاً مَّأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّمَا خَبَتْ زِدْنَاهُمْ سَعِيراً (97) ذَلِكَ جَزَآؤُهُم بِأَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِآيَاتِنَا وَقَالُواْ أَئِذَا كُنَّا عِظَاماً وَرُفَاتاً أَإِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98) أَوَلَمْ يَرَوْاْ أَنَّ اللّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ قَادِرٌ عَلَى أَن يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَجَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لاَّ رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إَلاَّ كُفُوراً (99) قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً (100) ? .
قال البغوي : ? مُطْمَئِنِّينَ ? ، مستوطنين مقيمين ، ? قُلْ كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ ? ، أني رسوله إليكم .
وقوله تعالى : ? كُلَّمَا خَبَتْ ? ، قال ابن عباس : سكنت . أي : سكن لهيبها . وفي الصحيحين عن أنس قال : قيل : يا رسول الله كيف يحشر الناس على وجوههم ؟ قال : « الذي أمشاهم على أرجلهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم » .(6/219)
وقوله تعالى : ? قُل لَّوْ أَنتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَآئِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَّأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الإِنفَاقِ ? قال قتادة : أي : خشية الفاقة ? وَكَانَ الإنسَانُ قَتُوراً ? ، قال : بخيلاً ممسكًا .
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ فَقَالَ لَهُ فِرْعَونُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا مُوسَى مَسْحُوراً (101) قَالَ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً (102) فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم مِّنَ الأَرْضِ فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً (103) وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً (104) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى تِسْعَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ ? ، قل : يد موسى وعصاه ، والطوفان ، والجراد ، والقمل ، والضفادع ، والدم ، والسنين ، ونقص من الثمرات .
وروي عن الحسن : ? فَاسْأَلْ بَنِي إِسْرَائِيلَ ? . قال : سؤالك إياهم نظرك في القرآن .
وقال البغوي : ? فَاسْأَلْ ? يا محمد ، ? بَنِي إِسْرَائِيلَ إِذْ جَاءهُمْ ? موسى ، يجوز أن يكون الخطاب معه والمراد غيره ، ويجوز أن يكون خاطبه عليه السلام وأمره السؤال ، ليتبيّن كذبهم مع قومهم .
وقال في جامع البيان : ? فَاسْأَلْ ? ، يا محمد ، ? بَنِي إِسْرَائِيلَ ? ، عن الآيات ليطمئنّ قلبك ويظهر للمشركين صدقك .
وقال بعض المفسرين : والسؤال سؤال استشهاد لمزيد الطمأنينة والإيقان لأن الأدلّة إذا تظاهرت كان ذلك أقوى وأثبت ، والمسؤلون مؤمنو بني إسرائيل .
وقوله تعالى : ? لَقَدْ عَلِمْتَ مَا أَنزَلَ هَّؤُلاء إِلاَّ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ بَصَآئِرَ ? .(6/220)
قال ابن كثير : أي : حججًا وأدلّة على صدق ما جئتك به ، ? وَإِنِّي لَأَظُنُّكَ يَا فِرْعَونُ مَثْبُوراً ? ، أي : هالكًا .
وقوله تعالى : ? فَأَرَادَ أَن يَسْتَفِزَّهُم ? ، أي : يخرجهم ، ? مِّنَ الأَرْضِ ? يعني : أرض مصر ، ? فَأَغْرَقْنَاهُ وَمَن مَّعَهُ جَمِيعاً * وَقُلْنَا مِن بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُواْ الأَرْضَ فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً ? .قال قتادة : أي : جميعًا أوّلكم وآخركم .
قوله عز وجل : ? وَبِالْحَقِّ أَنزَلْنَاهُ وَبِالْحَقِّ نَزَلَ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَنَذِيراً (105) وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً (106) قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً (107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108) وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109) ? .
عن ابن عباس : قوله : ? وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ ? يقول : فصّلناه . وعن قتادة : قوله : ? وَقُرْآناً فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنزِيلاً ? . قال : لم ينزل في ليلة ولا ليلتين ولا سنة ولا سنتين ، ولكن كان بين أوله وآخره عشرون سنة وما شاء الله .
وقوله تعالى : ? قُلْ آمِنُواْ بِهِ أَوْ لاَ تُؤْمِنُواْ ? .
قال البغوي : هذا على طريق الوعيد والتهديد ، ? إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ ? .(6/221)
قال ابن كثير : أي : من صالحي أهل الكتاب الذين تمسّكوا بكتابهم ولم يبدّلوه ، ? إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً ? ، قال ابن عباس : ? لِلأَذْقَانِ ? ، للوجوه ، ? وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً ? .
قال في جامع البيان : إنه ? كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا ? ، في الكتب السالفة بإرسال رسول خاتم الرسل ، ? لَمَفْعُولاً ? ، واقعًا كائنًا .
قوله عز وجل : ? قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً (110) وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111) ? .
عن ابن عباس قال : كان النبي - صلى الله عليه وسلم - ساجدًا يدعو : « يا رحمن يا رحيم » فقال المشركون : هذا يزعم أنه يدعو واحدًا وهو يدعو مثنى ، فأنزل الله تعالى : ? قُلِ ادْعُواْ اللّهَ أَوِ ادْعُواْ الرَّحْمَنَ أَيّاً مَّا تَدْعُواْ فَلَهُ الأَسْمَاء الْحُسْنَى ? الآية . وعن أبي هريرة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - : « إن لله تسعة وتسعين اسمًا كلهنّ في القرآن ، من أحصاهن دخل الجنة » . رواه ابن جرير .(6/222)
وعن ابن عباس في قول الله تعالى : ? وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ? . قال : ( كانوا يجهرون بالدعاء ، فلما نزلت هذه الآية أمروا أن لا يجهروا ولا يخافتوا ) . وعن عائشة قالت : ( نزلت في الدعاء ) . وفي الصحيحين عن ابن عباس قال : ( نزلت هذه الآية ورسول الله - صلى الله عليه وسلم - متوارٍ بمكة ? وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ? . قال : كان إذا صلى بأصحابه رفع صوته بالقرآن ، فلما سمع ذلك المشركون سبّوا القرآن وسبّوا من أنزله ومن جاء به ، قال : فقال الله تعالى لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ? وَلاَ تَجْهَرْ بِصَلاَتِكَ ? ، أي : بقراءتك فيسمع المشركون فيسبّون القرآن ، ? وَلاَ تُخَافِتْ بِهَا ? ، عن أصحابك فلا تسمعهم القرآن حتى يأخذوه عنك ، ? وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلاً ? ) .
وعن القرظي في هذه الآية : ? الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً ? الآية . قال : إن اليهود والنصارى قالوا : اتخذ الله ولدًا ، وقالت العرب : لبيك لا شريك لك إلا شريكًا هو لك ، وقال الصابئون والمجوس : لولا أولياء الله لذلّ ، فأنزل الله هذه الآية : ? وَقُلِ الْحَمْدُ لِلّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَم يَكُن لَّهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُن لَّهُ وَلِيٌّ مِّنَ الذُّلَّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً ? . والله الموفق .
ــــــــــــ
انتهى الجزء الثاني بحمد الله ،
ويليه الجزء الثالث
ـــــــــــــ
فهرس الموضوعات
الجزء الثاني
الدرس التاسع والستون ... 2
[ سورة النساء ]
الآيات : 148 - 152 ... 4
الآيتان : 153 / 154 ... 5
الآيات : 155 - 159 ... 7
الآيات : 160 - 162 ... 9
الدرس السبعون ... 11
الآيات : 163 - 165 ... 12
الآيات : 166 - 170 ... 14
الدرس الحادي والسبعون ... 16
الآية : 171 ... 17
الآيتان : 172 ، 173 ... 18
الآيتان : 174 ، 175 ... 19
الآية : 176 ... 20(6/223)
الدرس الثاني والسبعون ... 22
[ سورة المائدة ] ... 22
الآيتان : 1 ، 2 ... 24
الآية : 3 ... 26 ، 27
الآية : 4 ... 30
الآية : 5 ... 32
الدرس الثالث والسبعون ... 34
الآية : 6 ... 35
الآيتان : 7 - 11 ... 38 ، 39
الدرس الرابع والسبعون ... 41
الآيات : 12 - 14 ... 43
الآيتان : 15 ، 16 ... 46
الآيتان : 17 - 18 ... 47
الآية : 19 ... 48
الدرس الخامس والسبعون ... 50
الآيات : 20 - 22 ... 51
الآية : 23 ... 52
الآية : 24 ... 53
الآيتان : 25 ، 26 ... 54
الدرس السادس والسبعون ... 56
الآيات : 27 - 31 ... 58
الآيات : 32 - 34 ... 61 ، 62
الآيات : 35 - 37 ... 63
الآيات : 38 - 40 ... 64
الدرس السابع والسبعون ... 66
الآيات : 41 - 43 ... 68
الآيات : 44 - 47 ... 71
الآيات : 48 - 50 ... 73 ، 74
الدرس الثامن والسبعون ... 76
الآيات : 51 - 53 ... 78
الآيات : 54 - 56 ... 80
الآيتان : 57 ، 58 ... 82
الآيات : 59 - 63 ... 83
الدرس التاسع والسبعون ... 89
الآيات : 67 - 69 ... 91
الآيتان : 70 - 71 ... 92
الآيات : 72 - 77 ... 93
الآيات : 78 - 81 ... 94
الآيات : 82 - 86 ... 95 ، 96
الدرس الثمانون ... 97
الآيات : 87 - 89 ... 98
الآيات : 90 - 93 ... 100 ، 101
الدرس الحادي والثمانون ... 104
الآيتان : 94 ، 95 ... 105
الآيات : 96 ... 107
الآيات : 97 - 100 ... 108
الدرس الثاني والثمانون ... 110
الآيتان : 101 ، 102 ... 111
الآيات : 103 - 105 ... 112
الآيات : 106 - 108 ... 114 ، 115
الدرس الثالث والثمانون ... 119
الآيات : 109 - 111 ... 121
الآيات : 112 - 115 ... 122
الآيات : 116 - 118 ... 123
الآيتان : 119 ، 120 ... 125
الدرس الرابع والثمانون ... 126
[ سورة الأنعام ] ... 126
الآيات : 1 - 3 ... 128
الآيات : 4 - 11 ... 129
الآيات : 12 - 16 ... 131
الآيات : 17 - 21 ... 133
الدرس الخامس والثمانون ... 135(6/224)
الآيات : 22 - 26 ... 137
الآيات : 27 - 30 ... 138
الآيات : 31 ، 32 ... 139
الآيات : 33 - 37 ... 140
الآيات : 38 - 41 ... 142
الدرس السادس والثمانون ... 144
الآيات : 42 - 45 ... 146
الآيات : 46 - 49 ... 147
الآيات : 50 - 55 ... 147 ، 148
الدرس السابع والثمانون ... 150
الآيات : 56 - 59 ... 152
الآيات : 60 - 62 ... 152
الآيات : 63 : 65 ... 153
الآيات : 66 – 69 ... 154
الآية : 70 ... 156
الآيات : 71 - 73 ... 156
الدرس الثامن والثمانون ... 158
الآيات : 74 - 79 ... 160
الآيات : 80 - 83 ... 161 ، 162
الآيات : 84 - 90 ... 163
الدرس التاسع والثمانون ... 165
الآيتان : 91 ، 91 ... 166
الآيتان : 93 ، 94 ... 168
الدرس التسعون ... 171
الآيات : 95 - 98 ... 173
الآية : 99 ... 174
الآيات : 100 - 103 ... 174 ، 175
الآيات : 104 - 108 ... 176
الآيات : 109 - 111 ... 177
الدرس الحادي والتسعون ... 179
الآيات : 112 - 115 ... 182
الآيات : 116 - 121 ... 183
الآيات : 122 - 124 ... 184 ، 185
الآيات : 125 - 127 ... 185
الآيتان : 128 ، 129 ... 186
الآيات : 130 - 135 ... 187 ، 188
الدرس الثاني والتسعون ... 189
الآيات : 136 - 138 ... 191
الآية : 139 ... 192
الآيات : 140 ، 142 ... 193
الآيتان : 143 ، 144 ... 195
الآية : 145 ... 196
الدرس الثالث والتسعون ... 199
الآيات : 146 - 147 ... 201
الآيات : 148 - 150 ... 202
الآيتان : 151 ، 152 ... 203 ، 204
الآية : 153 ... 204
الدرس الرابع والتسعون ... 206
الآيات : 154 - 157 ... 208
الآية : 158 ... 209
الآيتان : 159 ، 160 ... 210
الآيات : 161 - 165 ... 211
الدرس الخامس والتسعون ... 213
[ سورة الأعراف ] ... 213
الآيات : 1 - 9 ... 215
الآيات : 10 - 18 ... 216
الآيات : 19 - 21 ... 218
الآيتان : 22 ، 23 ... 219
الآيتان : 24 ، 25 ... 220
الدرس السادس والتسعون ... 221(6/225)
الآيات : 26 - 30 ... 223
الآيات : 31 - 34 ... 224 ، 225
الآيتان : 35 ، 36 ... 226
الآيات : 37 - 43 ... 226 ، 227
الدرس السابع والتسعون ... 230
الآيات : 44 - 47 ... 232
الآيات : 48 ، 49 ... 233
الآيتان : 50 ، 51 ... 234
الآيتان : 52 ، 53 ... 235
الدرس الثامن والتسعون ... 236
الآيات : 54 ... 237
الآيتان : 55 ، 56 ... 243
الآيتان : 57 ، 58 ... 244
الدرس التاسع والتسعون ... 245
الآيات : 59 - 64 ... 247
الآيات : 65 - 72 ... 247 ، 248
الآيات : 73 - 79 ... 249
الآيات : 80 - 84 ... 250
الدرس المائة ... 252
الآيات : 85 - 87 ... 254
الآيتان : 88 ، 89 ... 255
الآيات : 90 - 95 ... 256
الآيات : 96 - 100 ... 257
الآيتان : 101 ، 102 ... 258
الدرس الأول بعد المائة ... 259
الآيات : 103 - 108 ... 261
الآيات : 109 - 126 ... 262 ، 263
الدرس الثاني بعد المائة ... 265
الآيات : 127 - 129 ... 267
الآيتان : 130 ، 131 ... 268
الآيات : 132 - 135 ... 269
الآيتان : 136 ، 137 ... 271
الآيات : 138 - 141 ... 271 ، 272
الدرس الثالث بعد المائة ... 273
الآيات : 142 ، 143 ... 275
الآيتان : 144 ، 145 ... 276
الآيتان : 145 ، 147 ... 277
الآيات : 148 - 151 ... 277
الآيات : 152 - 154 ... 278
الدرس الرابع بعد المائة ... 279
الآيات : 155 - 157 ... 281 ، 282
الآية : 158 ... 283 ، 284
الآيات : 159 - 162 ... 284
الدرس الخامس بعد المائة ... 286
الآية : 163 ... 287
الآيات : 164 - 166 ... 288
الآيات : 167 - 170 ... 289
الآية : 171 ... 290
الدرس السادس بعد المائة ... 292
الآيات : 172 - 174 ... 294
الآيات : 175 - 178 ... 294 ، 295
الآيتان : 179 ، 180 ... 296
الآيات : 181 - 186 ... 298
الدرس السابع بعد المائة ... 299
الآيتان : 187 ... 301
الآيات : 188 - 190 ... 302
الآيات : 191 - 198 ... 304(6/226)
الآيات : 199 - 202 ... 305 ، 306
الآيات : 203 - 206 ... 307
الدرس الثامن بعد المائة ... 309
[ سورة الأنفال ] ... 309
الآيات : 1 ... 311
الآيات : 2 - 4 ... 312
الآيات : 5 - 8 ... 312 ، 313
الآيتان : 9 ، 10 ... 314
الآيات : 11 - 14 ... 315
الآيات : 15 - 16 ... 316
الآية : 17 - 19 ... 317
الدرس التاسع بعد المائة ... 319
الآيات : 20 - 23 ... 321
الآيات : 24 - 26 ... 321 ، 322
الآيات : 27 - 29 ... 323
الآيات : 30 - 35 ... 324
الآيات : 36 - 40 ... 327 ، 328
الدرس العاشر بعد المائة ... 330
الآيات : 41 - 44 ... 332
الآيات : 45 - 49 ... 334
الآيات : 50 - 54 ... 335 ، 336
الدرس الحادي عشر بعد المائة ... 338
الآيات : 55 - 58 ... 339
الآيتان : 59 ، 60 ... 339 ، 340
الآيات : 61 - 63 ... 340 ، 341
الآيات : 64 - 66 ... 341 ، 342
الدرس الثاني عشر بعد المائة ... 343
الآيات : 67 - 69 ... 344
الآيتان : 70 ، 71 ... 345
الآيتان : 72 ، 73 ... 346
الآيتان : 74 ، 75 ... 347
الدرس الثالث عشر بعد المائة ... 349
[ سورة التوبة ] ... 349
الآيات : 1 - 5 ... 352
الآيات : 6 - 11 ... 354
الآيات : 12 - 16 ... 356
الدرس الرابع عشر بعد المائة ... 358
الآيات : 17 - 22 ... 360
الآيتان : 23 ، 24 ... 361
الآيات : 25 - 27 ... 362
الدرس الخامس عشر بعد المائة ... 364
الآيتان : 28 ، 29 ... 366
الآيتان : 30 - 33 ... 367
الآيات : 34 - 37 ... 369 ، 370
الدرس السادس عشر بعد المائة ... 372
الآيات : 38 - 41 ... 374
الآيات : 42 - 49 ... 375 ، 376
الآيات : 50 - 52 ... 378
الآيات : 53 - 57 ... 378 ، 379
الدرس السابع عشر بعد المائة ... 380
الآيات : 58 - 60 ... 382
الآيات : 61 - 66 ... 384
الآيات : 67 - 70 ... 386
الآيتان : 71 ، 72 ... 387
الدرس الثامن عشر بعد المائة ... 389
الآيتان : 73 ، 74 ... 391
الآيات : 75 - 80 ... 392(6/227)
الآيات : 81 - 85 ... 393 ، 394
الآيات : 86 - 89 ... 394 ، 395
الدرس التاسع عشر بعد المائة ... 396
الآيات : 90 - 93 ... 398
الآيات : 94 - 96 ... 399
الآيات : 97 - 100 ... 400
الدرس العشرون بعد المائة ... 402
الآيات : 101 - 106 ... 404
الآيات : 107 - 110 ... 406 ، 407
الدرس الحادي والعشرون بعد المائة ... 409
الآيتان : 111 ، 112 ... 411
الآيات : 113 - 116 ... 412
الآيات : 117 - 119 ... 413
الدرس الثاني والعشرون بعد المائة ... 415
الآيات : 120 - 123 ... 417
الآيات : 124 - 127 ... 418
الآيتان : 128 ، 129 ... 419
الدرس الثالث والعشرون بعد المائة ... 421
[ سورة يونس ] ... 421
الآيات : 1 ، 2 ... 423
الآيات : 3 - 6 ... 423
الايات : 7- 10 ... 424
الآيات : 11 ، 12 ... 425
الآيات : 13 - 17 ... 426
الدرس الرابع والعشرون بعد المائة ... 428
الآيات : 18 - 20 ... 431
الآيات : 21 - 23 ... 432
الآيات : 24 - 27 ... 433 ، 434
الآيات : 28 - 36 ... 435 ، 436
الدرس الخامس والعشرون بعد المائة ... 439
الآيات : 37 - 44 ... 441
الآيات : 45 - 53 ... 443
الآيات : 54 - 56 ... 444
الدرس السادس والعشرون بعد المائة ... 446
الآيات : 57 - 60 ... 448
الآيات : 61 - 64 ... 449
الآيات : 65 - 70 ... 450 ، 451
الدرس السابع والعشرون بعد المائة ... 452
الآيات : 71 - 74 ... 454
الآيات : 75 - 82 ... 455 ، 456
الآيات : 83 - 87 ... 456 ، 457
الآيات : 88 ، 89 ... 457
الآيات : 90 - 92 ... 458
الدرس الثامن والعشرون بعد المائة ... 461
الآيات : 93 - 98 ... 462
الآيات : 99 - 103 ... 465
الآيات : 104 - 109 ... 466
الدرس التاسع والعشرون بعد المائة ... 468
[ سورة هود ] ... 468
الآيات : 1 - 5 ... 471
الآيات : 6 - 11 ... 472
الآيات : 12 - 17 ... 474
الآيات : 18 - 24 ... 476
الدرس الثلاثون بعد المائة ... 479(6/228)
الآيات : 25 - 35 ... 482
الآيات : 36 - 39 ... 483 ، 484
الآيات : 40 - 44 ... 485
الآيات : 45 - 49 ... 486 ، 487
الدرس الواحد والثلاثون بعد المائة ... 489
الآيات : 50 - 57 ... 491
الآيات : 58 - 62 ... 492
الآيتان : 63 ، 64 ... 493
الآيات : 65 - 68 ... 494
الدرس الثاني والثلاثون بعد المائة ... 496
الآيات : 69 - 73 ... 498
الآيات : 74 - 76 ... 499
الآيات : 77 - 83 ... 500 ، 501
الدرس الثالث والثلاثون بعد المائة ... 506
الآيات : 84 - 87 ... 508
الآيات : 88 - 90 ... 509
الآيات : 91 - 93 ... 510
الآيتان : 94 - 95 ... 511
الدرس الرابع والثلاثون بعد المائة ... 513
الآيات : 96 - 102 ... 515
الآيات : 103 - 108 ... 516
الآيات : 109 - 115 ... 517
الآيات : 116 - 119 ... 519
الآيات : 120 - 123 ... 520
الدرس الخامس والثلاثون بعد المائة ... 522
[ سورة يوسف ] ... 522
الآيات : 1 - 6 ... 524
الآيات : 7 - 18 ... 525 ، 526
الآيات : 19 - 21 ... 528 ، 529
الدرس السادس والثلاثون بعد المائة ... 531
الآيات : 22 - 29 ... 535
الآيات : 30 - 35 ... 537 ، 538
الآيات : 36 - 42 ... 540
الآيات : 43 - 49 ... 543
الآيات : 50 - 53 ... 545 ، 546
الآيات : 54 - 57 ... 547
الدرس السابع والثلاثون بعد المائة ... 549
الآيات : 58 - 62 ... 552
الآيات : 63 - 68 ... 553 ، 554
الآيات : 69 - 77 ... 555 ، 556
الآيات : 78 - 87 ... 560 ، 561
الدرس الثامن والثلاثون بعد المائة ... 564
الآيات : 88 - 93 ... 566
الآيات : 94 - 98 ... 568
الآيات : 99 - 101 ... 568 ، 569
الآيات : 102 - 108 ... 570 ، 571
الآيات : 109 - 111 ... 572 ، 573
الدرس التاسع والثلاثون بعد المائة ... 574
[ سورة الرعد ] ... 574
الآيات : 1 - 4 ... 577
الآيات : 5 - 7 ... 578
الآيات : 8 - 11 ... 579
الآيات : 12 - 16 ... 580 ، 581
الآيتان : 17 ، 18 ... 583 ، 584(6/229)
الدرس الأربعون بعد المائة ... 586
الآيات : 19 - 24 ... 589
الآيات : 25 - 26 ... 590
الآيات : 27 - 32 ... 590 ، 591
الآيات : 33 - 35 ... 593
الآيتان : 36 ، 37 ... 594
الآيات : 38 - 43 ... 595
الدرس الواحد والأربعون بعد المائة ... 598
[ سورة إبراهيم ] ... 598
الآيات : 1 - 4 ... 601
الآيات : 5 - 8 ... 602
الآيات : 9 - 12 ... 603
الآيات : 13 - 18 ... 604
الآيات : 19 - 23 ... 605 ، 606
الدرس الثاني والأربعون بعد المائة ... 608
الآيات : 24 - 27 ... 611
الآيات : 28 - 34 ... 614 ، 615
الآيات : 35 - 41 ... 616
الآيات : 42 - 52 ... 617 ، 618
الدرس الثالث والأربعون بعد المائة ... 621
[ سورة الحجر ] ... 621
الآيات : 1 - 15 ... 624
الآيات : 16 - 25 ... 626 ، 627
الآيات : 26 - 44 ... 628
الآيات : 45 - 48 ... 630
الدرس الرابع والأربعون بعد المائة ... 632
الآيات : 49 - 60 ... 634
الآيات : 61 - 79 ... 634 ، 635
الآيات : 80 - 84 ... 637
الآيات : 85 - 99 ... 637 ، 638
الدرس الخامس والأربعون بعد المائة ... 641
[ سورة النحل ] ... 641
الآيات : 1 - 4 ... 644
الآيات : 5 - 18 ... 645
الآيات : 19 - 29 ... 648
الآيات : 30 - 32 ... 650
الآيات : 33 ، 34 ... 651
الدرس السادس والأربعون بعد المائة ... 653
الآيات : 35 - 42 ... 656
الآيات : 43 - 50 ... 656 : 658
الآيات : 51 - 56 ... 659 ، 660
الآيات : 57 - 64 ... 660 ، 661
الدرس السابع والأربعون بعد المائة ... 664
الآيات : 65 - 69 ... 666
الآيات : 70 - 72 ... 667
الآيات : 73 - 76 ... 668 ، 669
الآيات : 77 - 83 ... 669 ، 670
الدرس الثامن والأربعون بعد المائة ... 672
الآيات : 84 - 89 ... 674
الآيات : 90 - 97 ... 675
الدرس التاسع والأربعون بعد المائة ... 678
الآيات : 98 - 100 ... 679
الآيات : 101 - 105 ... 679 ، 680
الآيات : 106 - 111 ... 681 ، 682(6/230)
الدرس الخمسون بعد المائة ... 684
الآيات : 112 - 113 ... 686
الآيات : 114 - 119 ... 686 ، 687
الآيات : 120 - 124 ... 688
الآيات : 125 - 128 ... 689
الدرس الحادي والخمسون بعد المائة ... 692
[ سورة الإسراء ] ... 692
الآيات : 1 - 3 ... 694
الآيات : 4 - 8 ... 698
الآيات : 9 - 12 ... 699 ، 700
الآيات : 13 - 17 ... 700 ، 701
الآيات : 18 - 21 ... 702
الدرس الثاني والخمسون بعد المائة ... 704
الآيات : 22 - 25 ... 706
الآيات : 26 - 30 ... 707
الآيات : 31 - 33 ... 708
الآيات : 34 - 39 ... 710
الآيات : 40 - 44 ... 712
الدرس الثالث والخمسون بعد المائة ... 714
الآيات : 45 - 48 ... 716
الآيات : 49 - 52 ... 717
الآيات : 53 - 55 ... 718
الآيتان : 56 ، 57 ... 719
الآيات : 58 - 60 ... 720
الدرس الرابع والخمسون بعد المائة ... 723
الآيات : 61 - 65 ... 725
الآيات : 66 - 72 ... 726 ، 727
الآيات : 73 - 75 ... 729
الآيات : 76 - 82 ... 729 ، 730
الآيات : 83 - 88 ... 732
الدرس الخامس والخمسون بعد المائة ... 736
الآيات : 89 - 93 ... 738
الآيات : 94 - 100 ... 741
الآيات : 101 - 104 ... 742
الآيات : 105 - 109 ... 743 ، 744
الآيتان : 110 ، 111 ... 745
* * *(6/231)
تَألِيفُ
فَضَيلةِ الشَّيْخِ العَلاَّمةِ
فَيْصَلَ بِنَ عَبدِ العَزِيزِ آل مُبَارَك
ت 1376هـ رَحِمَهُ اللهُ
الجزء الرابع
من سورة الشورى إلى سورة الناس
الدرس الخمسون بعد المائتين
[ سورة الشورى ]
مكية وهي ثلاث وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
? حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ(7/1)
إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ (19) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ(7/2)
مِن نَّصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? حم (1) عسق (2) كَذَلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4) تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) ? .(7/3)
قال البغوي : سئل الحسين بن الفضل : لم قطع ? حم * عسق ? ولم يقطع ? كهيعص ? ؟ فقال : لأنها سور أوائلها ? حم ? فجرت مجرى نظائرها فكان : ? حم ? مبتدأ و ? عسق ? خبره ، لأنهما عُدَّا آيتين ، وأخواتهما مثل : ? كهيعص ? و ? المص ? و ? المر ? ، عدت آية واحدة وعن قتادة : قوله : ? تَكَادُ السَّمَاوَاتُ يَتَفَطَّرْنَ مِن فَوْقِهِنَّ ? أي : من عظمة الله وجلاله .
وعن ابن عباس : ? وَالْمَلَائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ? ، قال : والملائكة يسبحون له من عظمته . وعن السدي في قوله : ? وَيَسْتَغْفِرُونَ لِمَن فِي الْأَرْضِ ? قال : للمؤمنين . يقول عز وجل : ? أَلَا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ ? لذنوب مؤمني عباده ، الرحيم بهم أن يعاقبهم بعد توبتهم منها .(7/4)
قوله عز وجل : ? وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (6) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَالظَّالِمُونَ مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (9) وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فَاطِرُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ (11) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ (12) ? .
قال ابن كثير : وقوله سبحانه وتعالى : ? وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء ? ، يعني : المشركين ? اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ ? أي : شهيد على أعمالهم ، يحصيها ويعدها عدًّا وسيجزيهم بها أوفى الجزاء . ? وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ ? ، أي : إنما أنت نذير ، والله على كل شيء وكيل .(7/5)
? وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً ? قال البغوي : ? وَكَذَلِكَ ? مثل ما ذكرنا ، ? أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً ? ? لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى ? مكة ، يعني : أهلها ، ? وَمَنْ حَوْلَهَا ? يعني : قرى الأرض كلها ? وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ ? أي : تنذرهم بيوم الجمع وهو يوم القيامة ، يجمع الله الأولين والآخرين وأهل السماوات والأرضين ? لا رَيْبَ فِيهِ ? لا شك في الجمع أنه كائن ثم بعد الجمع يتفرقون فريق في الجنة وفريق في السعير . ? وَلَوْ شَاء اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً ? ، قال ابن عباس : على دين واحد ? وَلَكِن يُدْخِلُ مَن يَشَاءُ فِي رَحْمَتِهِ ? في دين الإسلام ? وَالظَّالِمُونَ ? الكافرون ? مَا لَهُم مِّن وَلِيٍّ ? يدفع عنهم العذاب ، ? وَلَا نَصِيرٍ ? يمنعهم من النار .
? أَمِ اتَّخَذُوا ? بل اتخذوا أي : الكافرون ? مِن دُونِهِ ? ، أي : من دون الله ? أَوْلِيَاء فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَهُوَ يُحْيِي المَوْتَى وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ? ، وقال ابن كثير : ينكر تعالى على المشركين في اتخاذهم آلهة من دون الله ، ويخبر أنه هو الولي الحق الذي لا تنبغي العبادة إلا له وحده ، فإنه هو القادر على إحياء الموتى وهو على كل شيء قدير ، ? وَمَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِن شَيْءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ? ، أي : مهما اختلفتم فيه من الأمور ? فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ? ، أي : هو الحاكم فيه .(7/6)
وعن ابن عباس : قوله : ? جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَمِنَ الْأَنْعَامِ أَزْوَاجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ? ، يقول : يجعل لكم فيه معيشة تعيشون بها . وعن مجاهد في قوله : ? يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ ? ، قال : نسل بعد نسل من الناس والأنعام . وقال ابن كثير : أي : يخلقكم فيه ، أي : في ذلك الخلق على هذه الصفة ، لا يزال يذرؤكم فيه ، ذكوًرا وإناثًا ، خلقًا من بعد خلق ، وجيلاً بعد جيل ، ونسلاً بعد نسل ، من الناس والأنعام . ? لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ ? ، أي : كخالق الأزواج كلها شيء ، لأنه الفرد الصمد الذي لا نظير له ، ? وَهُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ ? .
وعن السدي : ? لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ? قال : خزائن السموات والأرض ? يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاءُ وَيَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ? . قال ابن جرير : يقول تعالى ذكره : فإلى من له مقاليد السموات والأرض ، الذي صفته ما وصفت لكم في هذه الآيات أيها الناس فارغبوا ، وإياه فاعبدوا مخلصين له الدين لا الأوثان والآلهة والأصنام التي لا تملك ضرًا ولا نفعًا .(7/7)
قوله عز وجل : ? شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ (13) وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى لَّقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذَلِكَ فَادْعُ وَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15) وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ (18) ? .(7/8)
عن مجاهد قوله : ? شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً ? ، قال : ما أوصاك به وأنبياءه كلهم دين واحد . وعن السدي في قوله : ? أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ ? قال : اعملوا به ? وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ ? قال قتادة : اعلموا أن الفرقة هلكة ، وأن الجماعة ثقة . ? كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ ? ، قال : أنكرها المشركون وكبر عليهم شهادة أن لا إله إلاَّ الله فصادمها إبليس وجنوده ، فأبى الله تبارك وتعالى أن يمضيها وينصرها ويفلجها ويظهرها على من ناوأها . وعن مجاهد قوله : ? اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَن يَشَاءُ ? أي : يصطفي إليه من يشاء من خلقه ? وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَن يُنِيبُ ? ، قال السدي : من يقبل إلى طاعة الله . ? وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِن بَعْدِ مَا جَاءهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ ? ، قال ابن جرير : يقول : بغيًا من بعضكم على بعض ، وحسدًا وعداوة على طلب الدنيا . وعن السدي : ? وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِن رَّبِّكَ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى ? ، قال : يوم القيامة يقضي بينهم ، ? وَإِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتَابَ مِن بَعْدِهِمْ ? ، قال : اليهود والنصارى ، ? لَفِي شَكٍّ مِّنْهُ مُرِيبٍ ? ، ? فَلِذَلِكَ فَادْعُ ? أي : إلى ما وصينا به الأنبياء من التوحيد ? وَاسْتَقِمْ ? على الدين ? كَمَا أُمِرْتَ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءهُمْ وَقُلْ آمَنتُ بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِن كِتَابٍ وَأُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ ? كما أمرني الله .(7/9)
وقوله : ? اللَّهُ رَبُّنَا وَرَبُّكُمْ ? ، أي : هو المعبود لا إله غيره ، ? لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ ? كقوله تعالى : ? وَإِن كَذَّبُوكَ فَقُل لِّي عَمَلِي وَلَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَأَنَاْ بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ ? ؛ ? لَا حُجَّةَ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ ? ، قال مجاهد : لا خصومة ، ? اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنَا وَإِلَيْهِ الْمَصِيرُ ? . قال ابن كثير : اشتملت هذه الآية الكريمة على عشر كلمات مستقلات ، كل منها منفصلة عن التي قبلها حكم برأسها ، قالوا : ولا نظير لها سوى آية الكرسي ، فإنها أيضًا عشرة فصول كهذه . وعن مجاهد : ? وَالَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِن بَعْدِ مَا اسْتُجِيبَ لَهُ ? ، قال : طمع رجال بأن تعود الجاهلية ، ? حُجَّتُهُمْ دَاحِضَةٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ? وقال قتادة : هم : اليهود النصارى قالوا : كتابنا قبل كتابكم ، ونبينا قبل نبيكم ، ونحن خير منكم . وعن مجاهد قوله : ? اللَّهُ الَّذِي أَنزَلَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ وَالْمِيزَانَ ? ، قال : العدل ، ? وَمَا يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ ? . وقال مقاتل : ذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - الساعة ذات يوم وعنده قوم من المشركين ، فقالوا تكذيبًا : متى تكون الساعة ؟ فأنزل الله هذه الآية : ? يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِهَا وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا وَيَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلَا إِنَّ الَّذِينَ يُمَارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ ? .(7/10)
قوله عز وجل : ? اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبَادِهِ يَرْزُقُ مَن يَشَاءُ وَهُوَ الْقَوِيُّ العَزِيزُ (19) مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ (20) أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء شَرَعُوا لَهُم مِّنَ الدِّينِ مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ (22) ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23) أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ (24) وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ (25) وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ (26) ? .(7/11)
عن ابن عباس : قوله : ? مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ? إلى : ? وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ ? ، قال : يقول : من كان إنما يعمل للدنيا نؤته منها . وقال ابن زيد : الحرث : العمل ، من عمل للآخرة أعطاه الله ، ومن عمل للدنيا أعطاه الله . قال في جامع البيان : ? أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء ? بل لهم آلهة وهم الشياطين ، والهمزة للتحقيق والتثبيت . ? شَرَعُوا ? أظهروا لهم ? مِّنَ الدِّينِ ? غير دين الإسلام ، ? مَا لَمْ يَأْذَن بِهِ اللَّهُ ? وهذا إضراب عن قوله : ? شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ ? إلى آخره ، ? وَلَوْلَا كَلِمَةُ الْفَصْلِ ? القضاء السابق بتأجيل العذاب إلى القيامة ، ? لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ ? بين المؤمنين والكافرين في الدنيا . وعن ابن عباس قوله ? قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ? قال : كان لرسول الله - صلى الله عليه وسلم - قرابة في جميع قريش ، فلما كذبوه وأبوا أن يتابعوه قال : « يا قوم إذا أبيتم أن تتابعوني فاحفظوا قرابتي فيكم ، لا يكن غيركم من العرب أولى بحفظي ونصرتي منكم » .
وقال ابن زيد في قوله : ? وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْناً ? قال: من يعمل خيرًا نزد له. الاقتراف : العمل ? إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ ? قال قتادة : غفور للذنوب ، شكور للحسنات ويضاعفها . قال في جامع البيان : ? أَمْ يَقُولُونَ ? بل يقولون ، إضراب آخر أشد من قوله : ? أَمْ لَهُمْ شُرَكَاء ? . ? افْتَرَى ? محمد - صلى الله عليه وسلم - ? كَذِباً ? ؟ ? فَإِن يَشَأِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ ? ، قال قتادة : فينسيك القرآن . قال ابن كثير : لو افتريت عليه كذبًا كما يزعم الجاهلون .(7/12)
وقوله تعالى : ? وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ وَيُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ ? قال ابن جرير : وقوله: ? وَيَمْحُ اللَّهُ الْبَاطِلَ ? في موضع رفع بالابتداء ولكنه حذفت منه الواو في المصحف كما حذفت من قوله : ? سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ ? .
وقوله تعالى : ? وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَيَزِيدُهُم مِّن فَضْلِهِ ? قال البغوي : ? وَيَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا ? أي : ويجيب الذين آمنوا وعملوا الصَّالحات إذا دعوه ? وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ ? سوى ثواب أعمالهم ، تفضلاً منه . ? وَالْكَافِرُونَ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ ? .
* * *
الدرس الحادي والخمسون بعد المائتين(7/13)
? وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (35) فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى(7/14)
الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ(7/15)
وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) صِرَاطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ (53) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَلَكِن يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ مَّا يَشَاءُ إِنَّهُ بِعِبَادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ وَهُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَثَّ فِيهِمَا مِن دَابَّةٍ وَهُوَ عَلَى جَمْعِهِمْ إِذَا يَشَاءُ قَدِيرٌ (29) وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَن كَثِيرٍ (30) وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ (31) وَمِنْ آيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ (32) إِن يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَوَاكِدَ عَلَى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِمَا كَسَبُوا وَيَعْفُ عَن كَثِيرٍ (34) وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ (35) ? .(7/16)
عن قتادة : ? وَلَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبَادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ ? الآية ، قال : كان يقال : خير الرزق ما لا يطغيك ولا يلهيك ؛ وقال : ذكر أن رجلاً أتى عمر بن الخطاب رضي الله عنه فقال : يا أمير المؤمنين قحط المطر ، وقنط الناس ، قال : مطرتم ? وَهُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِن بَعْدِ مَا قَنَطُوا وَيَنشُرُ رَحْمَتَهُ ? . وعن قتادة : ? وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ ? الآية ، ذكر لنا أن نبي الله - صلى الله عليه وسلم - كان يقول : « لا يصيب ابن آدم خدش عود ، ولا عثرة قدم ، ولا اختلاج عرق إلا بذنب وما يعفو عنه أكثر » . وعن مجاهد قوله : ? الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ ? ، قال : السفن ? كَالْأَعْلَامِ ? قال : كالجبال . قال ابن كثير : وقوله تعالى : ? وَيَعْلَمَ الَّذِينَ يُجَادِلُونَ فِي آيَاتِنَا مَا لَهُم مِّن مَّحِيصٍ ? ، أي : لا محيد لهم عن بأسنا ونقمتنا فإنهم مقهورون بقدرتنا .(7/17)
قوله عز وجل : ? فَمَا أُوتِيتُم مِّن شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا عِندَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَالَّذِينَ اسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ (38) وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ (39) وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40) وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُوْلَئِكَ لَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ (42) وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43) ? .
قال البغوي : ? وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ ? يتشاورن فيما يبدو لهم ولا يعجلون . وعن السدي في قوله : ? وَالَّذِينَ إِذَا أَصَابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنتَصِرُونَ ? ، قال : ينتصرون ممن بغى عليهم ، من غير أن يعتدوا . ? وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ? إذا شتمك بشتيمه فاشتمه مثلها من غير أن تعتدي . وقال الحسن : إذا كان يوم القيامة نادى مناد : من كان له على الله أجر فليقم ، فلا يقوم إلا من عفا ، ثم قرأ : ? فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ ? . قال ابن عباس : الذين يبدؤون بالظلم .
وقوله تعالى : ? وَلَمَن صَبَرَ وَغَفَرَ إِنَّ ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ? ، قال ابن كثير : أي : صبر على الأذى وستر السيئة فإن ? ذَلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ? .(7/18)
قال سعيد بن جبير : يعني لمن حق الأمور التي أمر الله تعالى بها .
قوله عز وجل : ? وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن وَلِيٍّ مِّن بَعْدِهِ وَتَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ (44) وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ (45) وَمَا كَانَ لَهُم مِّنْ أَوْلِيَاء يَنصُرُونَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لَّا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلَاغُ وَإِنَّا إِذَا أَذَقْنَا الْإِنسَانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنسَانَ كَفُورٌ (48) لِلَّهِ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَاناً وَإِنَاثاً وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50) ? .(7/19)
عن السدي في قوله : ? هَلْ إِلَى مَرَدٍّ مِّن سَبِيلٍ ? ، يقول : إلى الدنيا ? وَتَرَاهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْهَا ? قال البغوي : أي : على النار ? خَاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنظُرُونَ مِن طَرْفٍ خَفِيٍّ ? قال ابن عباس : يعني بالخفي : الذليل ، ? وَقَالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخَاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنفُسَهُمْ وَأَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ? ، قال السدي : غبنوا أنفسهم وأهليهم في الجنة . وقال ابن كثير : خسروا أنفسهم ، وفرق بينهم وبين أهاليهم فخسروهم ? أَلَا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذَابٍ مُّقِيمٍ ? . وعن السدي : ? مَا لَكُم مِّن مَّلْجَأٍ يَوْمَئِذٍ ? تلجؤون إليه ، ? وَمَا لَكُم مِّن نَّكِيرٍ ? ، يقول : من عز تعتزون . وعن قتادة : قوله : ? يَهَبُ لِمَنْ يَشَاءُ إِنَاثاً وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذُّكُورَ ? قادر والله ربنا على ذلك أن يهب للرجل ذكورًا ليست معهم أنثى وأن يهب للرجل ذكرانًا وإناثًا فيجمعهم له جميعًا ? وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيماً ? لا يولد له ? إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ ? .
قوله عز وجل : ? وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (52) ? .(7/20)
قال ابن كثير : هذه مقامات الوحي بالنسبة إلى جناب الله عز وجل وهو : أنه تبارك وتعالى يقذف في روع النبي - صلى الله عليه وسلم - شيئًا لا يتمارى فيه أنه من الله عز وجل ، كما جاء في صحيح ابن حبان عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : « إن روح القدس نفث في روعي أن نفسًا لن تموت حتى تستكمل رزقها وأجلها فاتقوا الله وأجملوا في الطلب » .
وقوله تعالى : ? أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ ? كما كلم موسى عليه الصلاة والسلام فإنه سأل الرؤية بعد التكليم فحجب عنها ؛ وفي الصحيح أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال لجابر بن عبد الله رضي الله عنهما : « ما كلم الله أحدًا إلا من وراء حجاب ، وإنه كلم أباك كفاحًا » . كذا جاء في الحديث ؛ وكان قد قتل يوم أحد ، ولكن هذا في عالم البرزخ ؛ والاية إنما هي في الدار الدنيا . وقوله عز وجل : ? أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ ? كما ينزل جبريل عليه الصلاة والسلام وغيره من الملائكة على الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ? إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ ? فهو علي عليم خبير حكيم . وقوله عز وجل : ? وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا ? ، يعني : القرآن ? مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ ? ، أي : على التفصيل الذي شرع لك في القرآن ، ? وَلَكِن جَعَلْنَاهُ ? ، أي : القرآن ? نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء مِنْ عِبَادِنَا ? كقوله تعالى : ? قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ ? وقوله تعالى : ? وَإِنَّكَ ? ، أي : يا محمد ? لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ ? وهو الحق القويم ، ثم فسره بقوله تعالى : ? صِرَاطِ اللَّهِ ? ، أي : شرعه الذي أمر به ? اللَّهِ الَّذِي لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا(7/21)
فِي الْأَرْضِ ? أي : ربهما ومالكهما والمتصرف فيهما والحاكم الذي لا معقب لحكمه ? أَلَا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الأمُورُ ? .
* * *
الدرس الثاني والخمسون بعد المائتين
[ سورة الزخرف ]
مكية ، وهي تسع وثمانون آية
بسم الله الرحمن الرحيم
? حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (14) وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي(7/22)
الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآناً عَرَبِيّاً لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4) أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ (5) وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون (7) فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) ? .(7/23)
عن السدي : ? حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ ? هو هذا الكتاب . قال قتادة : مُبِينِ والله بركته وهداه ورشده . وعن عطية بن سعد في قول الله تبارك وتعالى : ? وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ? ، يعني : القرآن ، في أم الكتاب الذي عند الله منه نُسِخَ . وعن قتادة : ? لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ ? يخبر عن منزلته وفضله وشرفه .
وعن مجاهد في قول الله عز وجل ? أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً ? قال : يكذبون بالقرآن لا يعاقبون عليه . وعن ابن عباس قوله ? أَفَنَضْرِبُ عَنكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَن كُنتُمْ قَوْماً مُّسْرِفِينَ ? يقول : أحسبتم أن نصفح عنكم ولما تفعلوا ما أمرتم به ؟ وقال قتادة : والله لو كان هذا القرآن رفع حين رده أوائل هذه الأمة لهلكوا ، فدعاهم إليه عشرين سنة أو ما شاء الله من ذلك . ? وَكَمْ أَرْسَلْنَا مِن نَّبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ * وَمَا يَأْتِيهِم مِّن نَّبِيٍّ إِلَّا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُون ? لاستهزاء قومك ، ? فَأَهْلَكْنَا أَشَدَّ مِنْهُم بَطْشاً ? أي : أقوى من قومك ? وَمَضَى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ ? قال قتادة : عقوبة الأولين .(7/24)
قوله عز وجل : ? وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10) وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ (14) ? .
قال ابن كثير : يقول تعالى : ولئن سألت يا محمد هؤلاء المشركين بالله العابدين معه غيره ، ? مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ ? ليعترفن بأن الخالق لذلك هو الله وحده لا شريك له ، وهم مع هذا يعبدون معه غيره من الأصنام والأنداد ؛ ثم قال تعالى : ? الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً ? أي : فراشًا ، ? وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ ? . وعن قتادة : ? وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ ? كما أحيا الله هذه الأرض الميتة بهذا الماء ، وكذلك تبعثون يوم القيامة .(7/25)
? وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا ? ، قال البغوي : أي : الأصناف كلها ، ? وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ ? في البر والبحر ? لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ? ذكر الكناية لأنه ردها إلى ( ما ) ? ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ? بتسخير المراكب في البر والبحر ? وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ ? مطيقين ، ? وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ? ، قال ابن كثير : أي : لصائرون إليه بعد مماتنا ، وإليه مسيرنا الأكبر ؛ وهذا من باب التنبيه بسير الدنيا على سير الآخرة كما نبه بالزاد الدنيوي على الزاد الأخروي في قوله تعالى : ? وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى ? وباللباس الدنيوي على الأخروي في قوله تعالى : ? وَرِيشاً وَلِبَاسُ التَّقْوَىَ ذَلِكَ خَيْرٌ ? ، وعن قتادة : ? لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ ? يعلّمكم كيف تقولون إذا ركبتم في الفلك ، تقولون ? بِسْمِ اللّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ ? وإذا ركبتم الإبل قلتم : ? سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ * وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ ? ويعلّمكم ما تقولون إذا نزلتم من الفلك والأنعام جميعًا تقولون : ( اللهم أنزلنا منزلاً مباركًا وأنت خير المنزِلين ) .(7/26)
قوله عز وجل : ? وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنسَانَ لَكَفُورٌ مُّبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ وَأَصْفَاكُم بِالْبَنِينَ (16) وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ (17) أَوَمَن يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ وَيُسْأَلُونَ (19) وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ (22) وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ (23) قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ (24) فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25) ? .(7/27)
عن مجاهد في قول الله عز وجل : ? وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً ? ، قال : ولدًا ، وبنات من الملائكة ، وعن قتادة : ? وَجَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبَادِهِ جُزْءاً ? ، أي : عدلاً ؛ وقال البغوي : أي : نصيبًا وبعضًا ، وهو قولهم : الملائكة بنات الله ؛ ومعنى الجعل : ها هنا الحكم بالشيء ، والقول كما تقول : جعلت زيدًا أفضل الناس . ? إِنَّ الْإِنسَانَ ? ، يعني : الكافر ، ? لَكَفُورٌ ? جحود لنعم الله ? مُّبِينٌ ? ظاهر الكفران . ? أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَنَاتٍ ? هذا استفهام توبيخ وإنكار ، يقول : اتخذ ربكم لنفسه البنات وأصفاكم بالبنين ؟ كقوله : ? أَفَأَصْفَاكُمْ رَبُّكُم بِالْبَنِينَ وَاتَّخَذَ مِنَ الْمَلآئِكَةِ إِنَاثاً ? . ? وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُم بِمَا ضَرَبَ لِلرَّحْمَنِ مَثَلاً ? أي : بما جعل لله بشرًا ، وذلك أن ولد كل شيء يشبهه يعني : إذا بشر أحدهم بالبنات - كما ذكر في سورة النحل - : ? وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالأُنثَى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدّاً وَهُوَ كَظِيمٌ ? من الغيظ والحزن . ? أَوَمَن يُنَشَّأُ ? ، أي : يربى ? فِي الْحِلْيَةِ ? في الزينة - ، يعني : النساء - ? وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ ? للحجة من ضعفهن ومتعهن . قال قتادة : قلما تتكلم امرأة تريد أن تتكلم بحجتها ، إلا تكلمت بالحجة عليها ؛ مجازه : أو من ينشؤ في الحلية يجعلونه بنات الله ؟ .(7/28)
? وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَنِ إِنَاثاً أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ ? ، أي : أحضروا خلقهم حين خلقوا ? سَتُكْتَبُ شَهَادَتُهُمْ ? على الملائكة أنهم بنات الله ، ? وَيُسْأَلُونَ ? عنها . ? وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم ? ، يعنى : الملائكة ، ? مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ * أَمْ آتَيْنَاهُمْ كِتَاباً مِّن قَبْلِهِ ? ، أي : من قبل القرآن بأن يعبدوا غير الله ، ? فَهُم بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ ? ، ? بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ ? على دين وملة ، ? وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّهْتَدُونَ ? جعلوا أنفسهم بإتباع آبائهم مهتدون ? وَكَذَلِكَ مَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِّن نَّذِيرٍ إِلَّا قَالَ مُتْرَفُوهَا ? أغنياؤها ورؤساؤها ، ? إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ ? بهم ? قَالَ أَوَلَوْ جِئْتُكُم بِأَهْدَى ? بدين أصوب ? مِمَّا وَجَدتُّمْ عَلَيْهِ آبَاءكُمْ ? قال الزجاج : قال لهم : أتتبعون ما وجدتم عليه آباءكم ، وإن جئتكم بأهدى منه ؟ فأبوا أن يقبلوه ? قَالُوا إِنَّا بِمَا أُرْسِلْتُم بِهِ كَافِرُونَ * فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ? انتهى ملخصًا .
وعن قتادة : ? فَانتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ? ، قال : شر والله أخذهم بخسف وغرق ، ثم أهلكم فأدخلهم النار .
* * *
الدرس الثالث والخمسون بعد المائتين(7/29)
? وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي(7/30)
وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء وَآبَاءهُمْ حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ وَرَسُولٌ مُّبِينٌ (29) وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ (30) ? .
عن قتادة : قوله : ? وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ إِنَّنِي بَرَاء مِّمَّا تَعْبُدُونَ * إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ ? ، قال : كايدهم ، كانوا يقولون : الله ربنا ، ولئن سألتهم من خلق السموات والأرض ليقولن : الله ، فلم يبرأ من ربه ? وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ? قال : التوحيد ، والإخلاص ولا يزال في وريثه من يوحد الله ويعبده ? لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ? أي : يتوبون أو يذكرون . وعن السدي : ? وَجَعَلَهَا كَلِمَةً بَاقِيَةً فِي عَقِبِهِ ? قال : لا إله إلاَّ الله . قال في جامع البيان : ? بَلْ مَتَّعْتُ هَؤُلَاء ? أي : قومك ، فإنهم من عقب إبراهيم ? حَتَّى جَاءهُمُ الْحَقُّ ? القرآن ? وَرَسُولٌ مُّبِينٌ ? ظاهر الرسالة ، ? وَلَمَّا جَاءهُمُ الْحَقُّ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ وَإِنَّا بِهِ كَافِرُونَ ? .(7/31)
قوله عز وجل : ? وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ (33) وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ (34) وَزُخْرُفاً وَإِن كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35) ? .(7/32)
وعن ابن عباس قوله : ? لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ? ، قال : يعني بالعظيم : الوليد بن المغيرة القرشي ، أو حبيب بن عمرو الثقفي ؛ وبالقريتين : مكة ، والطائف . وقال ابن زيد : كان أحد العظيمين عروة بن مسعود الثقفي . وعن ابن عباس قال : لما بعث الله محمدًا رسولاً ، أنكرت العرب ذلك ، أو من أنكر منهم ، فقالوا : الله أعظم من أن يكون رسوله بشرًا مثل محمد ، قال : فأنزل الله عز وجل : ? أَكَانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنَا إِلَى رَجُلٍ مِّنْهُمْ أَنْ أَنذِرِ النَّاسَ ? ، وقال : ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِمْ فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ ? يعني : أهل الكتب الماضية ، أبشر كانت الرسل التي أتتكم أم ملائكة ؟ فإن كانوا ملائكة أتتكم ، وإن كانوا بشرًا فلا ينكروا أن يكون محمد رسولاً . قال : ثم قال : ? وَمَا أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ إِلاَّ رِجَالاً نُّوحِي إِلَيْهِم مِّنْ أَهْلِ الْقُرَى ? أي : ليسوا من أهل السماء كما قلتم . قال : فلما كرر الله عليهم الحجج قالوا : وإذا كان بشرًا فغير محمد كان أحق بالرسالة : فلولا ? نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِّنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ? ، يقولون : أشرف من محمد - صلى الله عليه وسلم - ، يعنون الوليد بن المغيرة المخزومي ، وكان يسمى ريحانة قريش ، هذا من مكة ومسعود بن عمرو الثقفي من أهل الطائف ؛ قال : يقول الله عز وجل ردًا عليهم : ? أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ ? . أنا أفعل ما شئت .(7/33)
وعن قتادة : قال : قال الله تبارك وتعالى : ? أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَةَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ ? فتلقاه ضعيف الحيلة عيي اللسان ، وهو مبسوط له في الرزق ، وتلقاه شديد الحيلة بسيط اللسان . قال جل ثناؤه : ? نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ? كما قسم بينهم صورهم ، ? وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً ? قال : ملكة . وقال السدي : يستخدم بعضهم بعضًا في السخرة . وقال ابن زيد : هم بنو آدم جميعًا وهذا عبد هذا ، ورفع هذا على هذا درجة ، فهو يسخره بالعمل يستعمله به . ? وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ ? ، قال السدي يقول : الجنة خير مما يجمعون في الدنيا . وعن الحسن في قوله : ? وَلَوْلَا أَن يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً ? ، قال : لولا أن يكون الناس كفارًا أجمعون يميلون إلى الدنيا ، لجعل الله تبارك وتعالى الذي قال . ثم قال : والله لقد مالت الدنيا بأكثر أهلها ؛ وما فعل ذلك ، فكيف لو فعله ؟ وعن قتادة : ? لَجَعَلْنَا لِمَن يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِّن فَضَّةٍ ? السقف أعلى البيوت ، ? وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ ? ، أي : درجًا عليها يصعدون . قال ابن زيد : ? مِّن فَضَّةٍ ? . ? وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِؤُونَ ? ، قال : الأبواب من فضة ، والسرر من فضة . وعن ابن عباس : ? وَزُخْرُفاً ? وهو الذهب . وقال ابن زيد في قوله : ? وَزُخْرُفاً ? لجعلنا هذا لأهل الكفر ، يعني : لبيوتهم سقفًا من فضة وما ذكر معها ؛ قال : والزخرف : سمي هذا الذي سمي السقف والمعارج والأبواب والسرر من الأثاث والفرش والمتاع . وعن قتادة : ? وَالْآخِرَةُ عِندَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ? خصوصًا . وفي الصحيحين أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « لا(7/34)
تشربوا في آنية الذهب والفضة ، ولا تأكلوا في صحافها ، فإنها لهم في الدنيا ولنا في الآخرة » .
قوله عز وجل : ? وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَإِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذ ظَّلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ (39) أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ (43) وَإِنَّهُ لَذِكْرٌ لَّكَ وَلِقَوْمِكَ وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ (44) وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45) ? .(7/35)
قال البغوي : قوله عز وجل : ? وَمَن يَعْشُ عَن ذِكْرِ الرَّحْمَنِ ? ، أي : يعرض عن ذكر الرحمن ، فلم يخف عقابه ولم يرج ثوابه . قال القرظي : يول ظهره عن ذكر الرحمن ، وهو : القرآن . قال أبو عبيدة : يُظْلِم بصره عنه ? نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطَاناً ? نسبب له شيطانًا ، ونضمه إليه ونسلطه عليه ، ? فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ ? لا يفارقه يزين له العمى ويخيل إليه أنه على الهدى ? وَإِنَّهُمْ ? يعني : الشياطين ? لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُم مُّهْتَدُونَ ? ويحسب كفار بني آدم أنهم على هدى ، ? حَتَّى إِذَا جَاءنَا قَالَ ? لقرينه ? يَا لَيْتَ بَيْنِي وَبَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ ? أي : بعد ما بين المشرق والمغرب ، فغلب اسم أحدهما على الآخر ، كما يقال : القمران والعمران ? وَلَن يَنفَعَكُمُ الْيَوْمَ ? في الآخرة ? إِذ ظَّلَمْتُمْ ? أشركتم في الدنيا ? أَنَّكُمْ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ ? لا ينفعكم الاشتراك في العذاب ، لأن لكل واحد من الكفار والشياطين الحظ الأوفر من العذاب ? أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ ? ؟ يعني : الكافرين الذين حقت عليهم كلمة العذاب لا يؤمنون ، ? فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ ? بأن نميتك قبل أن نعذبهم ، ? فَإِنَّا مِنْهُم مُّنتَقِمُونَ ? بالقتل بعدك ? أَوْ نُرِيَنَّكَ ? في حياتك ? الَّذِي وَعَدْنَاهُمْ ? من العذاب ? فَإِنَّا عَلَيْهِم مُّقْتَدِرُونَ ? قادرون متى شئنا عذبناهم ، وأراد به مشركي مكة انتقم منهم يوم بدر ? فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ * وَإِنَّهُ ? ، أي : القرآن ، ? لَذِكْرٌ لَّكَ ? لشرف لك ? وَلِقَوْمِكَ ? من قريش ، ? وَسَوْفَ تُسْأَلُونَ ? عن حقه وأداء شكره . وقال مجاهد : القوم هم العرب ، فالقرآن لهم شرف إذ نزل بلغتهم ، ثم يختص بذلك الشرف الأخص(7/36)
فالأخص من العرب ، حتى يكون الأكثر لقريش ولبني هاشم قوله : ? وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ? ، قال أكثر المفسرين : سل مؤمني أهل الكتاب الذين أرسلت إليهم الأنبياء هل جاءتهم الرسل إلا بالتوحيد ؟ ومعنى الأمر بالسؤال : التقرير لمشركي قريش أنه لم يأت رسول ولا كتاب بعبادة غير الله عز وجل . انتهى ملخصًا .
وقال ابن كثير : وقوله سبحانه وتعالى : ? وَاسْأَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا أَجَعَلْنَا مِن دُونِ الرَّحْمَنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ ? ، أي : جميع الرسل دعوا إلى ما دعوت الناس إليه ، من عبادة الله وحده لا شريك له ، ونهوا عن عبادة الأصنام والأنداد ، كقوله جلت عظمته : ? وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَّسُولاً أَنِ اعْبُدُواْ اللّهَ وَاجْتَنِبُواْ الطَّاغُوتَ ? . قال مجاهد في قراءة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه : واسأل الذين أرسلنا إليهم قبلك من رسلنا ، وهذا كأنه تفسير لا تلاوة . والله أعلم .
* * *
الدرس الرابع والخمسون بعد المائتين(7/37)
? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (50) وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ(7/38)
وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى(7/39)
يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ (46) فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ (47) وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَقَالُوا يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ (50) ? .(7/40)
قال البغوي : ? وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا مُوسَى بِآيَاتِنَا إِلَى فِرْعَوْنَ وَمَلَئِهِ فَقَالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * فَلَمَّا جَاءهُم بِآيَاتِنَا إِذَا هُم مِّنْهَا يَضْحَكُونَ ? استهزاء ? وَمَا نُرِيهِم مِّنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِهَا ? قرينتها وصاحبتها التي كانت قبلها ? وَأَخَذْنَاهُم بِالْعَذَابِ ? بالسنين والطوفان والجراد والقمل والضفادع والدم والطمس ، فكانت هذه دلالات لموسى وعذابًا لهم فكانت كل واحدة أكبر من التي قبلها ? لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ? عن كفرهم ? وَقَالُوا ? لموسى لما عاينوا العذاب ? يَا أَيُّهَا السَّاحِرُ ? يا أيها العالم الحاذق - لأن السحر عندهم كان علمًا عظيمًا - : ? ادْعُ لَنَا رَبَّكَ بِمَا عَهِدَ عِندَكَ ? ، أي : بما أخبرتنا من عهده إليك ، إن آمنا كشف عنا العذاب ، فاسأله يكشف عنا العذاب ، ? إِنَّنَا لَمُهْتَدُونَ ? مؤمنون ، فدعا موسى فكشف عنهم فلم يؤمنوا ، فذلك قوله عز وجل : ? فَلَمَّا كَشَفْنَا عَنْهُمُ الْعَذَابَ إِذَا هُمْ يَنكُثُونَ ? ينقضون عهدهم ويصرون على كفرهم .
قوله عز وجل : ? وَنَادَى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قَالَ يَا قَوْمِ أَلَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي أَفَلَا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَلَا يَكَادُ يُبِينُ (52) فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونَا انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ (55) فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56) ? .(7/41)
عن قتادة : ? وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِن تَحْتِي ? ، قال : كانت لهم جنات وأنهار ماء . وعن السدي قوله : ? أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ? ، قال : بل أنا خير من هذا . وعن قتادة : ? أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ? ، قال : ضعيف : ? وَلَا يَكَادُ يُبِينُ ? ، أي : عيي اللسان . ? فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِّن ذَهَبٍ ? ، أي : أقلبة من ذهب ، ? أَوْ جَاء مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ? أي : متتابعين . ? فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ ? قال البغوي : أي : وجدهن جهالاً فأطاعوه ، ? إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ ? . ? فَلَمَّا آسَفُونَا ? أغضبونا ، ? انتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً ? متقدمين يتعظ بهم الآخرون ، ? وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ ? عبرة وعظة لمن بقي بعدهم .وعن معمر:? فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفاً ? قال : سلفًا إلى النار . وقال مجاهد : قوم فرعون سلفًا لكفار أمة محمد - صلى الله عليه وسلم - ? وَمَثَلاً لِلْآخِرِينَ ? ، قال عبرة لمن بعدهم .(7/42)
قوله عز وجل : ? وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَقَالُوا أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ (59) وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ فَلَا تَمْتَرُنَّ بِهَا وَاتَّبِعُونِ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (61) وَلَا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطَانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ (62) وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) ? .(7/43)
عن ابن عباس : ? وَلَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ? قال : يعني : قريشًا لما قيل لهم : ? إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ ? ، فقالت له قريش : فما ابن مريم ؟ قال : « ذاك عبد الله ورسوله » ، فقالوا : والله ما يريد هذا إلا أن نتخذه ربًا كما اتخذت النصارى عيسى ابن مريم ربًا ، فقال الله عز وجل : ? مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ? . وعن مجاهد : ? إِذَا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ ? ، قال : يضجون . وعن السدي في قوله : ? أَآلِهَتُنَا خَيْرٌ أَمْ هُوَ مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ ? ، قال : خاصموه فقالوا : يزعم أن كل من عبد من دون الله في النار ، فنحن نرضى أن تكون آلهتنا مع عيسى وعزير والملائكة ، هؤلاء قد عبدوا من دون الله ؛ قال : فأنزل الله براءة عيسى . وعن أبي أمامة قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : « ما ضل قوم بعد هدى كانوا عليه إلا أوتوا الجدل » . ثُمَّ قرأ : ? مَا ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً ? الآيَةَ رواه ابن جرير وغيره .(7/44)
وعن قتادة : ? إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ ? ، يعني بذلك : عيسى ابن مريم ، ما عدا ذلك عيسى ابن مريم ، إن كان إلا عبدًا أنعم الله عليه ? وَجَعَلْنَاهُ مَثَلاً لِّبَنِي إِسْرَائِيلَ ? أي : آية ، ? وَلَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَا مِنكُم مَّلَائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ ? قال : يخلف بعضهم بعضًا مكان بني آدم : ? وَإِنَّهُ لَعِلْمٌ لِّلسَّاعَةِ ? قال : نزول عيسى ابن مريم : علم للساعة القيامة . ? وَلَمَّا جَاء عِيسَى بِالْبَيِّنَاتِ ? أي : الإنجيل ? قَالَ قَدْ جِئْتُكُم بِالْحِكْمَةِ ? قال السدي : النبوة ، ? وَلِأُبَيِّنَ لَكُم بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ ? قال مجاهد : من تبديل التوراة . وعن السدي في قوله : ? فَاخْتَلَفَ الْأَحْزَابُ مِن بَيْنِهِمْ ? قال : اليهود والنصارى ? فَوَيْلٌ لِّلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذَابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ ? عذاب يوم القيامة .
قوله عز وجل : ? هَلْ يَنظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ أَن تَأْتِيَهُم بَغْتَةً وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ (66) الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ (67) يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيهَا فَاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْهَا تَأْكُلُونَ (73) ? .(7/45)
عن ابن عباس قوله :? الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ? فكل خلة هي عداوة ، إلا خلة المتقين . وعن قتادة قال : حدثنا المعتمر عن أبيه قال : سمعت أن الناس حين يبعثون ليس منهم أحد إلا فزع ، فينادي مناد يا عباد الله : ? لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ ? فيرجوها الناس كلهم قال : فيتبعها ? الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ ? قال : فيئس الناس منها غير المسلمين . وعن قتادة : ? ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ ? أي : تنعمون .
وقوله تعالى : ? يُطَافُ عَلَيْهِم بِصِحَافٍ مِّن ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ ? ، قال السدي : الأكواب التي ليست لها آذان . وقال ابن كثير : ? وَأَكْوَابٍ ? وهي آنية الشراب ، أي : من ذهب لا خراطيم لها ولا عرى . وفي الحديث المتفق عليه أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : « جنتان من فضة آنيتهما وما فيهما ، وجنتان من ذهب آنيتهما وما فيهما ، وما بين القوم وبين أن ينظروا إلى ربهم إلا رداء الكبرياء على وجهه في جنة عدن » . وعن شعبة قال : أدنى أهل الجنة منزلةً من له قصر فيه سبعون ألف خادم ، مع كل خادم صحفة سوى ما في يد صاحبه ، لو فتح بابه فضافه أهل الدنيا لأوسعهم . وعن عبد الرحمن بن سابط قال : قال رجل : يا رسول الله أفي الجنة خيل ؟ فإني أحب الخيل فقال : « إن يدخلك الله الجنة ، فلا تشاء أن تركب فرسًا من ياقوته حمراء تطير بك في أي الجنة شئت إلا فعلت » ، وقال أعرابي : يا رسول الله أفي الجنة إبل ؟ فإني أحب الإبل . فقال : « يا أعرابي ، إن يدخلك الله الجنة أصبت فيها ما اشتهت نفسك ولذت عينك » .(7/46)
قوله عز وجل : ? إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ (74) لَا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَكِن كَانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُم مَّاكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ (78) أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُم بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80) ? .
وعن قتادة : ? وَهُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ ? ، قال : آيسون . وقال السدي : متغير حالهم . وعن ابن عباس : ? وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ ? فأجابهم بعد ألف سنة : ? إِنَّكُم مَّاكِثُونَ ? . وعن السدي : ? لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ ? قال : الذي جاء به محمد - صلى الله عليه وسلم - ? وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ ? . ? أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ ? قال مجاهد : مجمعون إن كادوا شرًا كدنًا مثله . وقال ابن زيد : محكمون لأمرنا . وقال بعض المفسرين : ثم عاد إلى توبيخ قريش وتجهيلهم والتعجيب من حالهم فقال : ? أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً ? والإبرام : الإحكام ، والمعنى : أنهم كلما أحكموا أمرًا بالمكر بمحمد - صلى الله عليه وسلم - فإنا نحكم أمرًا في محاذاتهم . وعن السدي : ? بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ ? قال : الحفظة .(7/47)
قوله عز وجل : ? قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ (81) سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَيَلْعَبُوا حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (83) وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَتَبَارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَعِندَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85) وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَقِيلِهِ يَارَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89) ? .
عن السدي : ? قُلْ إِن كَانَ لِلرَّحْمَنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعَابِدِينَ ? ، قال : لو أن له ولدًا كنت أول من عبده بأن له ولدًا ، ولكن لا ولد له . قال ابن كثير : والشرط لا يلزم منه الوقوع ولا الجواز أيضًا كما قال تعالى : ? لَوْ أَرَادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لَّاصْطَفَى مِمَّا يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ سُبْحَانَهُ هُوَ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ ? ،(7/48)
قال البغوي : ثم نزه نفسه فقال : ? سُبْحَانَ رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ ? عما يقولون من الكذب ? فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا ? في باطلهم ، ? وَيَلْعَبُوا ? في دنياهم ? حَتَّى يُلَاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ ? ، يعني : يوم القيامة . ? وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ ? ، قال قتادة : يعبد في السماء والأرض لا إله إلا هو ? وَهُوَ الْحَكِيمُ ? في تدبير خلقه ، ? الْعَلِيمُ ? بمصالحهم . وعن مجاهد : قوله : ? وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ ? ، قال : عيسى وعزير والملائكة .قوله : ? إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ ? قال : كلمة الإخلاص ? وَهُمْ يَعْلَمُونَ ? أن الله حق وعزير والملائكة يقول : لا يشفع عيسى وعزير والملائكة ، ? إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ ? وهو يعلم الحق . وقال قتادة : الملائكة وعيسى والعزير قد عبدوا من دون الله ، ولهم شفاعة عند الله ومنزله .(7/49)
وقال ابن كثير : ? وَلَا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِهِ الشَّفَاعَةَ ? ، أي : من الأصنام والأوثان : ? الشفاعة ? ، أي : لا يقدرون على الشفاعة لهم ، ? إِلَّا مَن شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ? هذا استثناء منقطع أي : لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم ، فإنه تنفع شفاعته عنده بإذنه له . قال البغوي : وأراد بشهادة الحق قول : لا إله إلا الله كلمة التوحيد ، وهم يعلمون بقلوبهم ما شهدوا به بألسنتهم . ? وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ ? يصرفون عن عبادته : ? وَقِيلِهِ يَا رَبِّ ? ، يعني : قول محمد - صلى الله عليه وسلم - شاكيًا إلى ربه : ? يَا رَبِّ إِنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ لَّا يُؤْمِنُونَ ? قرأ عاصم ، و حمزة : وقيله بجر اللام ، على معنى : وعنده علم الساعة ، وعلم : قيله يا رب إن هؤلاء قوم لا يؤمنون . وعن قتادة : قال الله تبارك وتعالى يعزي نبيه - صلى الله عليه وسلم - ? فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ? ثم أمره بقتالهم .
وقال ابن كثير : ? وَقُلْ سَلَامٌ ? ، أي : لا تجاوبهم بمثل ما يخاطبونك به من الكلام السيء ولكن تألفهم واصفح عنهم فعلاً وقولاً ? فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ ? .
* * *
الدرس الخامس والخمسون بعد المائتين
[ سورة الدخان ]
مكية ، وهي تسع وخمسون آية
بسم الله الرحمن الرحيم(7/50)
? حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16) وَلَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَجَاءهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبَادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَأَنْ لَّا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُم بِسُلْطَانٍ مُّبِينٍ (19) وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَن تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَّمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاء قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلاً إِنَّكُم مُّتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكْ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِن جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْماً آخَرِينَ (28) فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاء وَالْأَرْضُ(7/51)
وَمَا كَانُوا مُنظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِن فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآتَيْنَاهُم مِّنَ الْآيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاء مُّبِينٌ (33) ? .
* * *
قوله عز وجل : ? حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4) أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا إِن كُنتُم مُّوقِنِينَ (7) لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ رَبُّكُمْ وَرَبُّ آبَائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) ? .
عن قتادة : ? إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ ? ليلة القدر ونزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان ، ونزلت التوراة لست ليال مضت من رمضان ، ونزل الإنجيل لثمان عشرة مضت من رمضان ، ونزل القرآن لسبع وعشرين مضت من رمضان . وقال ابن زيد : أنزل الله القرآن في ليلة القدر من أم الكتاب إلى السماء الدنيا ، ثم نزل به جبريل على النبي - صلى الله عليه وسلم - نجومًا في عشرين سنة . وقيل للحسن : ليلة القدر في كل رمضان هي ؟ قال : إي والله ، إنها لفي كل رمضان ، وإنها الليلة التي يفرق فيها كل أمر حكيم ، فيها يقضي الله كل أجل وأمل ورزق إلى مثلها .(7/52)
وقال ابن كثير : وقوله : ? فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ? ، أي : في ليلة القدر ، يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة وما يكون فيها ? أَمْراً مِّنْ عِندِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ * رَحْمَةً مِّن رَّبِّكَ ? قال ابن عباس : رأفة مني بخلقي ونعمة عليهم بما بعثنا إليهم من الرسل . قال ابن جرير : وقوله : ? لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ? ، يقول : لا معبود لكم أيها الناس غير رب السموات والأرض وما بينهما ، فلا تعبدوا غيره ، فإنه لا تصلح العبادة لغيره ، ولا تنبغي لشيء سواه .
قوله عز وجل : ? بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9) فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَقَالُوا مُعَلَّمٌ مَّجْنُونٌ (14) إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ (16) ? .(7/53)
عن قتادة : ? فَارْتَقِبْ ? ، أي : فانتظر . وعن مسروق قال : دخلنا المسجد فإذا رجل يقص على أصحابه ويقول : ? يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ? تدرون ما ذلك الدخان ؟ ذلك دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ أسماع المنافقين وأبصارهم ، ويأخذ المؤمنين منه شبه الزكام ، قال : فأتينا ابن مسعود فذكرنا له ذلك وكان مضطجعًا ففزع فقعد فقال : ( إن الله عز وجل قال لنبيه - صلى الله عليه وسلم - : ? قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ ? إن من العلم أن يقول الرجل لما لا يعلم : الله أعلم ، سأحدثكم عن ذلك : إن قريشًا لما أبطأت عن الإسلام واستعصت على رسول الله - صلى الله عليه وسلم - دعا عليهم بسنين كسني يوسف ، فأصابهم من الجهد والجوع حتى أكلوا العظام والميتة ، وجعلوا يرفعون أبصارهم إلى السماء فلا يرون إلا الدخان ، قال الله تبارك وتعالى : ? يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ * يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ ? ، فقالوا : ? رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذَابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ ? ، قال الله جل ثناؤه : ? إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عَائِدُونَ * يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى إِنَّا مُنتَقِمُونَ ? ، قال : فعادوا يوم بدر فانتقم الله منهم ) .(7/54)
وعن مجاهد : ? يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاء بِدُخَانٍ مُّبِينٍ ? ، قال : الجدب ، وإمساك المطر عن كفار قريش ، إلى قوله : ? إِنَّا مُؤْمِنُونَ ? وروى مسلم من حديث أبى سريحة حذيفة بن أسيد الغفاري رضي الله عنه قال : قال رسول اللَّه - صلى الله عليه وسلم - : « لا تقوم الساعة حتى تروا عشر آيات : طلوع الشمس من مغربها ، والدخان ، والدابة ، وخروج يأجوج ومأجوج ، وخروج عيسى ابن مريم ، والدجال ، وثلاثة خسوف : خسف بالمشرق ، وخسف بالمغرب ، وخسف بجزيرة العرب ، ونار تخرج من قعر عدن تسوق الناس ، تبيت معهم حيث باتوا وتقيل معهم حيث قالوا » . وهذا الحديث لا ينافي وقوع الدخان بكفار قريش ، فذلك قد وقع ، وهذا منتظر .
وقوله تعالى : ? أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرَى ? قال البغوي : من أين لهم التذكير والاتعاظ ؟ يقول : كيف يتذكرون ويتعظون ؟ ? وَقَدْ جَاءهُمْ رَسُولٌ مُّبِينٌ ? طاهر الصدق ، يعني : محمدًا - صلى الله عليه وسلم - ? ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ ? ، أعرضوا عنه ? وَقَالُوا مُعَلَّمٌ ? أي : يعلمه بشر ? مَّجْنُونٌ ? ، قال الله تعالى : ? إِنَّا كَاشِفُو الْعَذَابِ ? أي : عذاب الجوع ? قَلِيلاً ? ، أي : زمانًا يسيرًا ، قال مقاتل : إلى يوم بدر ? إِنَّكُمْ عَائِدُونَ ? إلى كفركم ? يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرَى ? وهو يوم بدر ? إِنَّا مُنتَقِمُونَ ? ، وهذا قول ابن مسعود وأكثر العلماء . وقال الحسن : يوم القيامة . قال ابن كثير : والظاهر أن ذلك يوم القيامة ، وإن كان يوم بدر يوم بطشته أيضًا .(7/55)